علم المسيح

بدء الحياة العلنية



بدء الحياة العلنية

بدء الحياة العلنية

. مع
عودة يسوع إلى الجليل، ابتدأت فترة حياته العلنية. فالأناجيل الثلاثة (لوقا ومتى
ومرقس)، قد استأنفت، منذ تلك الساعة، رواية أحداث بعثته العلنية؛ وأما يوحنا فقد
تفرد بنهج مستقل توخى به الدلالة على أن ابن الله الحامل في ذاته قدرة العلي، أراد
أن يبقى، مع ذلك، خاضعا لنواميس طبيعته الأخرى، فيعبر المراحل الإعدادية الغامضة
التي يعبرها كل إنسان تسيره بغية عظيمة (لوقا 4: 14؛ مرقس 1: 14؛ متى 4: 17؛ يوحنا
4: 45). كان، حتى تلك الساعة، قد حمل الرسالة إلى بعض الأتباع، إلى يهودي في
مجالسة سرية، إلى امرأة غريبة في قرية على طريق الصد ف. وأما الآن فقد حان له أن
يتوجه إلى الجماهير، ويسطع بما أكرمه به الآب من مواهب، ويعلم، ويصنع المعجزات،
ويستدعي إليه القلوب

 

ولا
بد، منذ الآن، أن نواجه معضلة، كان بالإمكان تأجيل البحث فيها، طالما كان الإنجيل
الرابع رائدنا الوحيد. تلك المعضلة هي معضلة التوقيت.. فكم دامت رسالة المسيح
العلنية؟ ومهما بدا وجه الغرابة في ذلك، فتلك واحدة من المعضلات التي يجد التاريخ
نفسه، حيالها، على جانب عظيم من الارتباك. ويخف العجب إذا تذكرنا أن الغاية التي
توخاها الإنجيليون لم تكن غاية تاريخية، وأن العناية، المفروضة في المؤرخ، بتوقيت
الأحداث المثبتة وربطها بعضها ببعض، كانت بعيدة عن مراميها. فالقديس مرقس، مثلا،
يجتزئ بالقول: ” وكان يبشر في مجامع الجليل.. “، أو ” وذهب من هناك
إلى مدينة صور.. “. وأما المدة التي كانت تستغرقها تلك التنقلات، فلا يأتي البتة
على ذكرها. والبشير يوحنا نفسه الذي يعتبر،

 

.
إجمالا، أكثر عناية بالدقة، فإنه يظل، في روايته، دون المقتضى التاريخي الذي يكفي
الباحث مؤونة الافتراض؛ لا سيما وأن الإنجيل الذي كتبه لا يخلو من أن يستلهم،
صراحة، أغراضا ما ورائية لاهوتية حتى إن بعض النقاد قد اشتبهوا برغبة صاحبه في
التلميح إلى أحداث العهد القديم، بل في الانقياد لأساليب الرمزية العددية،
المألوفة عند اليهود

 

.
فلكي نتمكن من توقيت سيرة المسيح، لا مفر من أن نلتمس، في الأناجيل الأربعة،
تلميحات نهتدي بها، بطريق الاستنتاج، إلى بعض المعالم.فهناك إشارات واضحة: عندما
يذكر الإنجيليون، مثلا، عيدا من أعياد اليهود السنوية، فإذا جيء ثلاث مرات على
ذكره، فلا بد من التسليم بفترة لا تقل عن سنتين. هناك ملاحظات أخرى تسوغ كل لنا من
النتائج ما يبدو حصيلة استدلالات حاسمة: فنحن نقرأ، مثلا، في إنجيل البشير مرقس
(4: 39)، أن الشعب، يوم تكثير الخبز، كان متكئا على العشب الأخضر، بينما نرى
التلاميذ، من قبل، يقطفون السنابل في حقول الحنطة.فإذا ثبت أن الحنطة، في فلسطين،
تحصد قي أواخر نيسان، وأن العشب، إذ ذاك، يكون قد اصفر في الشمس، فالخلاصة أن بين
هذين الحدثين فترة من الزمن لا تقل عن عشرة أشهر أو أحد عشر شهرا

 

. ومن
الطبيعي أن تفسح طريقة البحث هذه مجالا عريضا للافتراض والتخمين، وأن يلجأ غير
واحد من المفسرين إلى تأويل النص بما ليس فيه من إيضاحات توقيتية. فعندما يصرح
يسوع لتلاميذه، في حادثة السامرية، أن حصاد النفوس، قد اقترب، يعمد إلى هذا
التشبيه: ” أما تقولون: إنه يكون أربعة أشهر، ثم يأتي الحصاد؟.. “.
(يوحنا 4: 35): هناك من؟ أراد أن يستنتج من تلك العبارة -التي تبدو مجرد قول
مأثور- إيضاحا توقيتيا يسوغ تحديد تاريخ تلك الحادثة، أربعة أشهر قبل موسم الحصاد!
وعندما يورد المسيح، في مثل التينة، قول صاحب الكرم، إلى كرامه: ” ها إن لي
ثلاث سنين، آتي وأطلب ثمرا على هذه التينة ولا أجد.. “، فمن المجازفة أن
نستنتج، من ذلك، أن رسالة المسيح العلنية قد استمرت ثلاث سنوات..

 

.
اليوم، بين نظرية القائلين بفترة لا تقل عن أربعين شهرا، ونظرية الذين يزعمون حصر
أحداث السيرة كلها في بضعة أسابيع (بحجة أن الشرطة الرومانية لم تكن لتطيق نشاط
ذاك المشاغب، مدة أطول) تتوسط نظرية الذين يقترحون مدة سنتين وبضعة أشهر؛ وهي
أكثرها شيوعا

 

.
فهذه النظرية المعقولة، إذا أسند ت إلى الملاحظات التي اقترحناها في شأن مطلع
الرسالة العلنية، تسمح للباحث بأن يضع جميع أحداث السيرة في مواضعها، من غير أن
يلجأ إلى حشرها ضمن فتره ضيقة، ولا إلى توزيعها على آماد لا داعي لها: وإليك
خلاصتها: اعتمد يسوع في كانون الثاني سنة 28، وتوجه إلى أورشليم في شهر آذار من
السنة عينها. وفي منتصف آيار غادر المدينة المقدسة، عابراً بالسامرة، ليشرع في
رسالته العلنية. وتقع “عظة الجبل ” حوالي شهر حزيران، وتحتل
معجزة”تسكين العاصفة ” محلها الطبيعي في شهر كانون الأول. وفي السنة
التالية، أي سنة 29، عيد المسيح عيد الفصح، في الجليل، وذلك بضعة أيام قبل معجزة
“تكثير الخبز. ” للمرة الأولى؛ وأما التجلي فقد تم في يوم من أيام آب
المرمضة. وفي خريف هذه السنة الثانية، شخص المسيح إلى اليهودية، ولن يرجع منها
أبدا إلى الجليل، حتى موته. ويكون نيسان سنة 30 هو الشهر الذي تم فيه صلب المسيح
وموته

 

.
هناك أمر يبدو ظهيرا لنظرية القائلين بأن الرسالة العلنية قد استغرقت فترة غير
يسيرة: وهو الأسلوب الذي اعتمده المسيح لإبلاغ رسالته. فهو، بلا مراء، أسلوب
تدريجي، وذلك وجه من أوجه التقارب القائم بين العهدين، القديم والجديد.. فقد أراد
المسيح أن يفهم سامعيه أن ملكوت الله الحقيقي يستأنف في اختلاجة النفس، والرغبة في
الكمال، وأنه لا بد لمريديه من أن يحسبوا حسابا لما سيصادفونه، عند الآخرين، من
تنكر وخبث ومواربة وحقد، وأن يحققوا مصائرهم مواجهين كل يوم عقبات أعظم. وهكذا فقد
سار المسيح قدما.، شأن الرجل الذي يلاحق عزيمة نضجت إلى أبعد ما يكون النضوج. فهو،
مدة خمسة عشر يوما، سوف يعلن للعالم المقومات الأساسية التي يرتكز عليها تعليمه
وأسلوبه، حتى إذا ما جاهره خصومه بالمقاومة، راح يعمد إلى الوسائل الكبرى

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى