علم المسيح

فترة الحداثة في الناصرة



فترة الحداثة في الناصرة

فترة الحداثة في
الناصرة

“أنه
سيدعى ناصرياً ” (متى 2: 23)

.
رجعت الأسرة المقدسة إلى ناصرة الجليل -حسب رواية لوقا ومّتى – بعد مقامها في مصر.
ويضيف القديس متى: لكي يتم ما قيل بالأنبياء، أنه سيدعى ناصرياً ” (متى 2: 23).ومع
أننا لا نجد هذه النبوة حرفياً، في أي موضع من العهد القديم. وأغلب الظن أنها
إشارة إلى ما ورد عن المسيح، ولا سيما في نبوة اشعياء، من أنه سيكون متواضعاً
فقيراً. فانتساب يسوع إلى تلك القرية الضائعة الصيت، رمزاً إلى ذلك. وأما ذكر
الناصرة فلم يرد في أي نص من النصوص اليهودية أو الوثنية، السابقة للمسيح

 

مقالات ذات صلة

. وقد
استند بعض النقاد إلى ذلك للشك في وجود تلك القرية الجليلية. إلا أن إجماع
الأناجيل الأربعة، وتواتر التقاليد القديمة، واكتشاف بعض الآثار الراهنة، منذ بضع
سنوات، كل ذلك يؤلف حزمة من الأدلة المقنعة لا سبيل إلى ردها

 

.
والناصرة اليوم، هي قرية بيضاء، رابضة وسط الخضار عند سفوح تلك المرتفعات
المتموّجة التي تحدّ سهل أزدر يلون من جهة الشمال. وهي، بشوارعها ومنازلها، تضاهي
سائر القرى الشرقية، ولا تمتاز عنها إلاّ بوفرة كنائسها وأديرتها وأبراج أجراسها.
وتحيط بها دائرة من الهضاب المتناسقة، تتخلّلها خصاص من لبن أبيض. وينتصب السرو،
بلونه الأغَين، ما بين كروم الزيتون والعنب وحقول الحنطة. حدائقها تحفل بالزنبق
ورعي الحمام، ومعظم جدرانها وكأنها من الأرجوان لوناً

 

. في
ذاك الإطار يمكن أن نتخيلّ يسوع، عهد حداثته. وإنما يجب ألاّ نخلع على ابن مريم من
الأوصاف الخارجية، ما يوحي به التمثال القديم المنحوت قي الجيل الرابع، والمحفوظ
في متحف ” الحمّامات ” في روما. فهو، -على رونقه-ُ يظهر المسيح، في
قميصه الطويل المثنّى، بمنظر الغلام المسرف في الهدوء والتكلف.. فالأولى أن
نتصوّره واحداً من أولئك الصبية اليهود، النابضين بالحركة والحياة، الذين لا نزال
نصادفهم على دروب فلسطين، وقد ارتسمت على وجوههم مخايل الذكاء الثاقب والعزم
الرزين. لقد قضت الأسرة المقدّسة حياتها في بيت من تلك البيوت البسيطة التي لا
يزال نظيرها قائما -حتى اليوم – فيَ القرية. ويتألف البيت عادة، من غرفة واحدة
يشيع فيها من زيت الزيتون، رائحةُ محلوليه. وغالباً ما لا يكون للدخان، من منفذ،
سوى الباب. فإذا جاء المسَاء. أضيء سراج خزفي موضوع فوق شمعدان من حديد، أو فوق
حجر ناتئ من حجارة الجدران، فانبعث منه، قي الغرفة، نور شحيح

 

.
ويظن – استناداً إلى بعض الاكتشافات الأركيولوجية – أن كنيسة ” العيالة
“، تشمل موقع البيت الذي ” عال ” فيه يوسف الطفل يسوع. ومن المحتمل
أن يكون هذا البيت – مثل ذاك الذي حضر فيه الملاك إلى مريم – قد جهز قسمه الأكبر
تحت الأرض، محفوراً في الصخور الكلسية اللّينة، الشائعة في تلك المنطقة. وتلك
الدرجات الخشنة التي تزينها اليوم صفائح الفسيفساء، من المحتمل أن يكون المسيح قد
وطأهَا، كل يوم، صعوداً وهبوطاً

 

.
وأمّا الثقافة التي تثقف بها المسيح، فما كانت لتختلف عما كان يأخذه جميع الغلمان
الإسرائيليين. ويبدو أنه كان قد وُضع، آنذاك، منهاج تربويّ شامل، يأتي على وصفه التلمود.
وكان رابي سمعان بن شيتح، مائة سنة قبل المسيح، قد انقطع لتنظيم المدارس في
إسرائيل

 

.
وكانت المدرسة ملتحقة بالمجمع، يديرها “الخزان “، وهو شبه واهف وقيّم
على المعبد الذي كان يجتمع فيه المؤمنون. ففي المدرسة الابتدائية كان الغلمان
يتحلقون على الأرض حول مدرج ا الناموس (هو الكتاب الملفوف الذي كانوا يدونون فيه
النصوص المقدسة)، يرددون بصوت واحد آيات الكتاب، إلى أن يتمّ لهم حفظها (وهي نفس
الطريقة التي اتبعها المسلمين، من التحلق حول شيخ عارف بالعلوم والنصوص، يتلقون
منه العلم شفاهاً، م انتقل فيما بعد على شكل كتاتيب في المدن والقرى، والتي يعهد
فيها إلى تحفيظ الغلمان القرآن، والأحاديث، بل حتى كتب مشاهير الفقهاء والعلماء
المسلمين. وفي بعض الأماكن كان نفس الأسلوب يستخدم في تعليم كتب الفلسفة والمنطق
والطب وغيرها). ومن ثم فإن ذات اللفظة، في العبريّة، تشير إلى مدلول ” التلقين
” ومدلول ” التكرار”. وهذه الطريقة في التعليم تعلّل، ولا شك، ما
سوف يظهره المسيح، في سنّ الرجولة من رسوخ في معرفة نصوص العهد القديم

 

. لقد
كان الفتى اليهودي يستقي من التوراة -ومن التوراة وحدها- ثقافته الأولى. ولكن، هل
ذهب المسيح، في مناهج العلم، إلى أبعد من ذلك؟ وهل تردّد إلى أحد تلك المعاهد
الربينية التي كان يمكن أن يوجد مثلها في جوار الناصرة ليس لنا من دليل على ذلك.
لا، بل يحمل على الشك فيه استغرابُ مواطنيه، يوم شرع يعلّم؛ فبدا لهم أحكم وأرسخ
في شؤون الدين من ” علماء إسرائيل ” (مرقس 6: 2)

 

وتعترضنا،
هنا، مسألة أشد إشكالا: هل قضى يسوع عهد الصبا ما بين أخوة له وأخوات، أم كان
ابناً وحيداً؟ فالإنجيل يذكر، غير مرّة، ” أخوة الرب “، ويعدّ د أسماءهم:
يعقوب، ويوسى، ويهوذا، وسمعان؛ ويضيف ذكر أخَواتهِ (مرقس 6: 3)

 

. إن
عقيدة عدد عظيم من المسيحيين، تأبى الأخذ بما يتبادر إلى الذهن، فوراً، من أن
يوسفً ومريم – بعد أن وُلد يسوع، بولادة معجزة- قد أنجبا، حسب الطبيعة، بنين وبنات.
وتستند هذه العقيدة إلى تقليد متواتر منذ عهد بعيد جدّ اً. ثم إن يسوع كان يكنى،
في بيئته، ” بابن مريم “، وقد رأى رينان في ذلك، برهاناً على أن يسوع
كان وحيد أمّه الأرملة. هذا، ولو كان للعذراء سبعة بنين آخرين فكيف استطاع يسوع –
وهو يحتضر على الصليب – أن يعهد بها إلى يوحنا؟. كل ذلك يؤلف، بلا مراء، مجموعة من
الأدلة خليقة بالاعتبار

 

.
يبقى أن نفسّر قول الإنجيل في ” أخوة المسيح “. إن ذاك التفسير قد بات
مقرراً، منذ زمن بعيد، بفضل بحث بسيط جدّا في اللغات السامية. فلفظة ” أخا
” في الآرامية، و” أخ ” فيَ العبرية “، تشير إلى الأخ، وابن
العمّ، وكل ذي قربى. وإننا نجد في العهد القديم أمثلة كثيرة جدا في استعمال لفظة
الأخ بالمعنى التوسّعي. فإبراهيم يقول للوط ابن أخيه، مثلاً: ” إنما نحن اخوة
” (تكوين 13: 8). ولابان يستعمل نفس اللفظة في مخاطبته ليعقوب ابن أخيه. من
الممكن إذن أن تكون تلك اللفظة قد استعملت، في الإنجيل، للإشارة إلى أقارب المسيح،
لا سيّما إذا كان أولئك الأقارب قد عاشوا معه تحت سقف واحد – كما هي العادة في
الشرق حيث تجتمع فروع الأسرة الواحدة في بيت واحد. بالإمكان إذن أن نستنتج، مع
الأب لاجرانج، استنتاجاً حكيما ً، حيث يقول: ” لا نزعم أنه قد ثبت تاريخيا
أنّ اخوة المسيح هم أبناء عمومته، وإنما نقول فقط أن ليس هناك البتة ما يمكن أن
نعترض به على بتولية العذراء مريم. فإن تلك البتولية تومئ إليها نصوص كثيرة من
الكتاب المقدس، ويثبتها التقليد ”

 

.
الصورة المألوفة التي تمثّل يسوع مترعرعا وحده، أقلّه في السنين الأولى، بين أبيه
وأمّه، في بيت متواضع من بيوت الناصرة، تستند إذن إلى احتمال تاريخيّ مدعّم. هذا
وليس ما يمنع من الظن بأنه، بعد وفاة يوسف مُعيِله، ربما نشأ بصحبة عدد من أبناء
عمومته

 

.
وأمّا معلوماتنا عن تلك الحقبة فهي شحيحة: ” وكان الصبي ينمو ويتقوّى، بالروح
ممتلئاً حكمة وكانت نعمة الله عليه ” (لوقا 2: 40) وإنما هناك حادثة وحيدة
وقعت ليسوع، وهو في زهاء الثانية عشرة من عمره. لاحظ مورياك (وهو كاتب فرنسي معاصر،
من كتبه ” سيرة المسيح “، وقد جاءت، على اقتضابها حافلة بالملاحظات
النفسية العميقة): ” أن اليهودي، في الثانية عشرة من عمره، يكون قد تخطئّ عهد
الطفولة “، وذلك صحيح، أو يكاد يكون صحيحاً، أقلّه من الناحية الشرعية،
فالفتى الإسرائيلي في الثالثة عشرة من عمره، كان يُعَدّ ” من أبناء الشريعة
“، فكان لزاما عليه أن يخضع لجميع أحكامها، في جميع تفاصيلها. فإذا تعداها،
أنزلَتْ به العقوبات المقرّرة

 

لقد
كان المسيح إذن، في الثانيةَ عشرة من عمره، على وشك أن يصبح ” ابناً للشريعة
“! ماذا؟ أإبن الشريعة؟ أم هو – أكثر من ذلك – سيّد تلك الشريعة التي جاء
ليتمّمها، على حدّ ما سوف يصرّح به؟.. ذلك ما تكشف عنه حادثة الهيكل. (لوقا 2: 41
– 50)

 

. كان
يوسف ومريم -وهما من تقية اليهود- يحجّان كل سنة إلى أورشليم، في عيد الفصح.
ألعلّها كانت المرّة الأولى، يصطحبان فيها الولد؟.. لقد كانت الأصوات قد ارتفعت،
طوال الطريق، بأناشيد الحجّاج تلك الأناشيد المعروفة بمزامير ” المراقي
“، والتي كان الأسلاف قد وقعها بإيقاع خطى السير: ” أرفع عينيّ إلى
الجبال. من حيث يأتي عوني؟.. معونتي من عند الرب صانع السماوات والأرض ”
(مزمور 21 ا)؛ ” تقف أرجلنا على أبوابك يا أورشليم. أورشليم المبنية كمدينة
متصلة كلها حيث صعدت الأسباط، أسباط الرب شهادة لإسرائيل. ليحمدوا الرب ”
(مزمور 122)

 

.
وبعد أن أكلوا الحمل، ومن حوله المرق المُصلح بأعشاب مرّة، وتناولوا خبز الفطير،
وشربوا الخمرة بحسب المراسيم المبيّنة فيَ الشريعة، وانطلقت من صدورهم ”
التهاليل ” الأخيرة، قفلوا راجعين إلى بيوتهم. ففي مساء المرحلة الأولى،
افتقد يوسف ومريم الصبيّ، ة بين الأقارب والمعارف. وكان قد غاب عن أبصارهم سحابة
النهار كلّه، فظنوا أنه قد انضمّ إلى بعض الرفقة من الحجيج. وإذ لم يجداه ارتدّا
إلى أورشليم يطلبانه متخوّفين. وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل. وكانت عادة
الفقهاء أن يجلسوا للتعليم تحت أروقة الهيكل، في وسط حلقات تلاميذهم. وكان بعض
الفتيان ينضمّون إلى تلك الحلقات، ويرخّص لهم أحياناً بطرح الأسئلة. وقد روى
إفلافيوُس يوسيفوس أنه كان – وهو غلام – ينضم إلى تلك المساجلات الفكرية. ولما لم
يكن التواضع من مناقبه الراسخة، فقد أضاف ” أن رؤساء الكهنة وعلية القوم
كانوا يقصدونه للاستفسار عن شؤون الدين ”

 

. لقد
كان يسوع إذن، في الهيكل، وسط علماء إسرائيل وحكمائهم. ويقول لوقا، من غير تكلف: ”
وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه وأجوبته ” (لوقا 2: 47). فلمّا رأته أمّهُ
بهتت، فسألته على سبيل المؤاخذة اللطيفة: ” يا بني لماذا فعلت بنا هكذا؟ هو
ذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين. فقال لهما: لماذا كنتما تطلبانني ألم تعلما أنه
ينبغي أن أكون فيما لأبي؟ ” (لوقا 2: 48 – 49). جواب قاَس، شديد على الطبيعة،
يسطع فيه، للمرّة الأولى، يقين يسوع برسالته، ويتراءى فيه درس من دروس الإنجيل
الكبرى: فمن أراد أن يتبع المسيح عليه أن يقطع كل علاقة إنسانية، مهما كانت صميمة

 

. بيد
أن هذه الحادثة الوحيدة، على قيمتها وبُعْد دلالتها، لم تكن لترضي فضول الجماهير.
ولذلك فقد استرسلت الأناجيل المنحولة – ولاسيما ” إنجيل الطفولة ”
و” إنجيل توما ” – في ذكر نوادر تلك الحقبة الغامضة من حياة المسيح. ومن
تلك النوادر ما هو ذائع وظريف. فهي تروي عن يسوع – مثلاً – أنه كان يلهو مع أترابه
في صنع طيور من طين، ينفخ فيها فتطير!.. (وهنا، مرة أخرى نجد طل هذه النادرة في
القرآن، راجع سورة آل عمران 3: 49، المائدة 5: 110) وإذ كان يوماً عند مدخل غار مع
رفقة له، برزت له أفعيان هائلتان، فأمرهما أن تذهبا وتطأطئ رأسيهما عند أقدام أمّه!..
جميع تلك الأضغاث ليس لها من جدوى سوى أنها أوحت إلى فنّاني العصور الوسطى، في
جميع الديار المسيحية “، كثيراً من رسومهم ونقوشهم.. ولكنها، من ذاتها: لا
تجدينا أي نفع في معرفة الطفل الإلهي

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى