علم المسيح

وصايا المسيح فى الموعظة على الجبل



وصايا المسيح فى الموعظة على الجبل

وصايا المسيح فى
الموعظة على الجبل

 

أنتم
ملح.. أنتم نور

 

«أَنْتُمْ
مِلْحُ ٱلأَرْضِ، وَلٰكِنْ إِنْ فَسَدَ ٱلْمِلْحُ فَبِمَاذَا
يُمَلَّحُ؟ لا يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلا لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجاً وَيُدَاسَ
مِنَ ٱلنَّاسِ. أَنْتُمْ نُورُ ٱلْعَالَمِ. لا يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى
مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَلٍ، وَلا يُوقِدُونَ سِرَاجاً وَيَضَعُونَهُ
تَحْتَ ٱلْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى ٱلْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ
ٱلَّذِينَ فِي ٱلْبَيْتِ. فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هٰكَذَا
قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ ٱلْحَسَنَةَ،
وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى 5: 13-16).

 

في
هذه الكلمات يقول المسيح ربنا لنا: أنتم ملح الأرض وأنتم نور العالم. فإذا رفضكم
العالم فإن رفضه لا يفسد ملوحتكم ولا يخفي نوركم. وكما يفعل الملح في الطعام
تفعلون أنتم فعلاً إصلاحياً، وإنْ كان خفيّاً، حتى في القوم الذين يريدون أن
يهلكوكم. وكما أن طبيعة النور هي الانتشار، هكذا لا بد أن تضيء فضائلكم التي هي
ثمر الروح القدس فيكم، فيرى الناس أعمالكم الحسنة ولكن ليس لتمجيدكم أنتم، بل
لتمجيد أبيكم الذي في السماوات. وكما أن السراج لا يوقد لكي ينظر الناس إليه، بل
لكي ينظروا بواسطته شيئاً آخر أهمَّ منه، هكذا تكونون أنتم. لأن لا قيمة للملح في
حدّ ذاته بل في فعله، ولا قيمة للسراج إلا في نوره. ولا قيمة لكم كتلاميذي إلى بأن
تصلحوا وتنيروا. قد أقمتُكم لأجل هذا، ليس بين شعب إسرائيل فقط، بل أنتم ملح الأرض
بأسرها ونور العالم كله. في شخصكم قبل تعليمكم يظهر الملح والنور، لأن الشخص الحي
يفعل ما لا يفعله مجرد التعليم.

 

 يكمل
القديم، لا ينقضه

«لا
تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ ٱلنَّامُوسَ أَوِ ٱلأَنْبِيَاءَ.
مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. فَإِنِّي ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ:
إِلَى أَنْ تَزُولَ ٱلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ لا يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ
أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ ٱلْكُلُّ.
فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هٰذِهِ ٱلْوَصَايَا ٱلصُّغْرَى وَعَلَّمَ
ٱلنَّاسَ هٰكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ
ٱلسَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهٰذَا يُدْعَى
عَظِيماً فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ. فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ
إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى ٱلْكَتَبَةِ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ
لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ ٱلسَّماوَاتِ» (متى 5: 17-20).

 

وهنا
يقول لنا المسيح: لا تتوهَّموا أن تعاليمي الجديدة تستخفُّ بالكتاب الإلهي الذي
بين أيديكم، لأن زوال السماء والأرض أيسر من زوال أدنى نقطة من نقطِهِ، إلا بعد أن
تتم. إني أقصد إثبات الناموس المُنزل على موسى والأنبياء لا إلغاءه. أبدل منه ما
هو وقتيّ بعد أن أكمله. أتيتُ لأنقض أعمال إبليس وليس ناموس الله وأقوال الأنبياء،
فالناموس في يد الكتبة والفريسيين لا يثمر بالصلاح، فهو كبزر الفاكهة الذي لا
يؤكل. وإن مطاليب الناموس، جئت لأبيّن لهم عظمتها فوق ما كانوا يتصوّرون.

 

 شريعة
الصلح

«قَدْ
سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لا تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ
مُسْتَوْجِبَ ٱلْحُكْمِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ
يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ ٱلْحُكْمِ، وَمَنْ
قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ ٱلْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا
أَحْمَقُ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ. فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ
إِلَى ٱلْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئاً عَلَيْكَ،
فَٱتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ ٱلْمَذْبَحِ، وَٱذْهَبْ
أَوَّلاً ٱصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ
قُرْبَانَكَ. كُنْ مُرَاضِياً لِخَصْمِكَ سَرِيعاً مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي
ٱلطَّرِيقِ، لِئَلا يُسَلِّمَكَ ٱلْخَصْمُ إِلَى ٱلْقَاضِي،
وَيُسَلِّمَكَ ٱلْقَاضِي إِلَى ٱلشُّرَطِيِّ، فَتُلْقَى فِي
ٱلسِّجْنِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لا تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى
تُوفِيَ ٱلْفَلْسَ ٱلأَخِيرَ» (متى 5: 21-26).

 

يقول
المسيح هنا: إن الوصية التي تنهَى عن القتل تنهَى أيضاً عن الغضب والنميمة
والبُغض. صلاتكم وقرابينكم لا تُقبل بمجرد امتناعكم عن القتل، إذ يجب أن تمتنعوا
عن البُغض، فهذا روح الوصية قبل حروفها.

 

تعلَّمتم
أن تتركوا ذبيحة الفصح قدام المذبح وتتوقَّفوا عن تقديمها، لكي ترجعوا وتنزعوا من
بيوتكم خميراً غفلتُم عنه. وأنا أعلّمكم أن ترجعوا وتستغفروا الذي أسأتم إليه قبل
تقديمكم الصلاة لله.

 

 

 شريعة
الطهارة

«قَدْ
سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لا تَزْنِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ
لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى ٱمْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ
زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ. فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ
فَٱقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ
أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلا يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. وَإِنْ كَانَتْ
يَدُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَٱقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ،
لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلا يُلْقَى جَسَدُكَ
كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ» (متى 5: 27-30).

 

كم من
أناس يعترفون بخطاياهم الفعلية ولا يحسبون حساباً لخطاياهم الفكرية، ناسين أن
النظرة الشهوانية هي الزنى بعينه، لأنها سببه وأصله – إنني أشدد على استئصال
جرثومة الخطأ من أسسها، ومن كل ما يؤدي إلى ارتكابها.

 

لا
تنسوا أنه خيرٌ لكم أن تخسروا أثمن ما عندكم ولو كان أحد أعضاء جسدكم، حتى العين
أجملها وأعزّها، من أن تخسروا الرضى الإلهي فهو حياتكم وسماؤكم، وأن تجلبوا عليكم
الدينونة الإلهية التي هي موتكم وجحيمكم.

 

 شريعة
الطلاق

«وَقِيلَ:
مَنْ طَلَّقَ ٱمْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاقٍ وَأَمَّا أَنَا
فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ ٱمْرَأَتَهُ إِلا لِعِلَّةِ
ٱلزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي، وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ
يَزْنِي» (متى 5: 31، 32).

 

أجاز
موسى الطلاق بسبب ما كانت حال قومه من البداوة والقساوة، ولم يستحسن الله ذلك،
لأنه يكره الطلاق. ولما كان يكرهه يكون ممنوعاً، ولذلك حُرِّم الطلاق في العصر
المسيحي.

 

كان
اليهودي يطلق زوجته لأتفه الأسباب، بمجرد صدور كلمة من فمه (تثنية 24: 1)، فصعَّب
موسى الطلاق وأوصى أن من أراد تطليق إمرأته فليُعطها رغبته في الطلاق مكتوبة.

 

أما
في العهد المسيحي فإني أطهِّر هذه الرابطة الزوجية لتثبت وتدوم. فالمرأة تبقى
مرتبطة أمام الله بزوجها الأول.

 

 شريعة
الحق

«أَيْضاً
سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لا تَحْنَثْ، بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ
أَقْسَامَكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لا تَحْلِفُوا ٱلْبَتَّةَ،
لا بِٱلسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ ٱللّٰهِ، وَلا
بِٱلأَرْضِ لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ، وَلا بِأُورُشَلِيمَ لأَنَّهَا
مَدِينَةُ ٱلْمَلِكِ ٱلْعَظِيمِ. وَلا تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ، لأَنَّكَ
لا تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ. بَلْ
لِيَكُنْ كَلامُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لا لا. وَمَا زَادَ عَلَى ذٰلِكَ
فَهُوَ مِنَ ٱلشِّرِّيرِ» (متى 5: 23-37).

 

عندكم
الوصية التي توجب عليكم القيام بالقَسَم. أما أنا فأقول لكم: ليس فقط لا تحلفوا
كذباً، بل أيضاً لا تحلفوا صدقاً. انزعوا من حديثكم كل يمين مهما كان بسيطاً
وصادقاً. الحلف في الحديث لا محل له إلا ليبيّن أن بعض هذا الحديث صادق فيؤيد
باليمين، وبعضه غير صادق فيُترك دون يمين. أما الصادق الوقور فيكتفي بقوله: «نعم
نعم ولا لا» عالماً أن «ما زاد على ذلك فهو من الشرير».

 

 شريعة
الحقوق

«سَمِعْتُمْ
أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ
لَكُمْ: لا تُقَاوِمُوا ٱلشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ
ٱلأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ ٱلآخَرَ أَيْضاً. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ
يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَٱتْرُكْ لَهُ ٱلرِّدَاءَ أَيْضاً.
وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَٱذْهَبْ مَعَهُ ٱثْنَيْنِ» (متى
5: 38-42).

 

أيضاً
تعوّدْتم تحليل الانتقام استناداً على النظام الموسوي الذي يقول: «عين بعين وسن
بسن». لكن هذا القول قاعدة العلاقات الرسمية المدنية لا الشخصية.

 

أجعل
لكم تعليماً جديداً، بأن أنزع روح الانتقام ممن يسيء إليكم. تمنع الأحكام المدنيّة
الانتقامات الشخصية، وتوكلُ إلى الحكَّام معاقبة المذنبين لردعهم. فالأحكام
الدينية تمنع الانتقام طاعة لقول الإنجيل: «لا تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ
أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، بَلْ أَعْطُوا مَكَاناً لِلْغَضَبِ، لأَنَّهُ
مَكْتُوبٌ: «لِيَ ٱلنَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ»
(رومية 12: 19) فالتنازل عن حقوقكم الشخصية لمن يقصد أن يسلبها منكم أفضل من
خِصامكم لأجلها.

 

 شريعة
الحب

«سَمِعْتُمْ
أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ
لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى
مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ
وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي
ٱلسَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى ٱلأَشْرَارِ
وَٱلصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى ٱلأَبْرَارِ
وَٱلظَّالِمِينَ. لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ ٱلَّذِينَ
يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ ٱلْعَشَّارُونَ أَيْضاً
يَفْعَلُونَ ذٰلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ
فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ ٱلْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ
هٰكَذَا؟ فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ
ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (متى 5: 43-48).

 

أنتم
تظنون أنه جائز لكم أن تبغضوا الذي يبغضكم، وتعادوا الذي يعاديكم. لكن روح الناموس
الداخلي هو روح واضع الناموس، الذي يشرق شمسه وينزل مطره على أعدائه كما على
أولاده. فإن عاديتُم من عاداكم وأحسنتُم إلى الذين يحسنون إليكم، لا تكونون أفضل
من عبدة الأصنام والكفرة. فلا تقابلوا شراً بشر. إن أحسنتم إلى من يسيء إليكم،
تخمدون جذوة العداوة، وتطفئون لهيب البغض. اتخذوا الكمالات الإلهية قاعدة لحياتكم
فتكونون حقاً (ليس فقط اسماً) أولاد الآب السماوي. ولكن اعلموا أن كل الوصايا
تُحفظ حقاً في القلب حفظاً روحياً قبل حفظها حرفياً في الخارج. وإلا فحفظها
الخارجي لا يُعتبر عند الله.

 

 الصَّدقة
والصوم

«اِحْتَرِزُوا
مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ ٱلنَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ،
وَإِلا فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي
ٱلسَّمَاوَاتِ. فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلا تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ
بِٱلْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ ٱلْمُرَاؤُونَ فِي ٱلْمَجَامِعِ
وَفِي ٱلأَزِقَّةِ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ ٱلنَّاسِ. اَلْحَقَّ
أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ ٱسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! وَأَمَّا أَنْتَ
فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلا تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ،
لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي ٱلْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى
فِي ٱلْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلانِيَةً».

 

«وَمَتَى
صُمْتُمْ فَلا تَكُونُوا عَابِسِينَ كَٱلْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ
يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ
أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ ٱسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. وَأَمَّا أَنْتَ
فَمَتَى صُمْتَ فَٱدْهُنْ رَأْسَكَ وَٱغْسِلْ وَجْهَكَ، لِكَيْ لا
تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِماً، بَلْ لأَبِيكَ ٱلَّذِي فِي ٱلْخَفَاءِ.
فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلانِيَةً» (متى
6: 1-4، 16-18).

 

نظام
الملكوت الجديد الذي أدخلتكم فيه لا يلغي الفروض الدينية الموحى بها من الله،
كالصدقة المتجهة نحو القريب، والصلاة المتجهة نحو الله، والصوم المتجه نحو الذات.
لكن يُشترط في هذه الفرائض أن لا تُحفظ أمام الناس فقط، أو تؤخذ وسيلة لأجل
الافتخار والتعظُّم، وربح مدح الآخرين، وآلة للرياء الكريه. فإن كنتم لا تتصدَّقون
وتصلّون وتصومون في الخفاء، لا تُحسب صدقاتكم وصلواتكم وأصوامكم الجهارية عند
الله، لأنكم إذ ذاك تكونون مرائين. لا تتشبَّهوا بمعلمي الدين ورؤسائه عندكم،
لأنهم مراؤون، واصطلاحاتهم في هذه الأمور مثل نواياهم، ومكروهة عند الله. لا
تنقادوا إلى ضلالة الأمم كما انقاد رؤساؤكم فيتوهمون أن مجرد تكرار الصلاة تسرُّ
الإله الذي يصلُّون إليه.

 

 الصلاة

«وَمَتَى
صَلَّيْتَ فَلا تَكُنْ كَٱلْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ
يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي ٱلْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا ٱلشَّوَارِعِ،
لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ
ٱسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ
فَٱدْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ
ٱلَّذِي فِي ٱلْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي
ٱلْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلانِيَةً. وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لا تُكَرِّرُوا
ٱلْكَلامَ بَاطِلاً كَٱلأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ
كَلامِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ. فَلا تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لأَنَّ أَبَاكُمْ
يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ» «فَصَلُّوا أَنْتُمْ
هٰكَذَا: أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ
ٱسْمُكَ. لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي
ٱلسَّمَاءِ كَذٰلِكَ عَلَى ٱلأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا
أَعْطِنَا ٱلْيَوْمَ. وَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ
نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. وَلا تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ،
لٰكِنْ نَجِّنَا مِنَ ٱلشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ ٱلْمُلْكَ،
وَٱلْقُّوَةَ، وَٱلْمَجْدَ، إِلَى ٱلأَبَدِ. آمِينَ».«فَإِنَّهُ
إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلاتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ ٱلسَّمَاوِيُّ.
وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاتِهِمْ، لا يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ
أَيْضاً زَلاتِكُمْ» (متى 6: 5-15).

 

الصلاة
هي أهم فرائض الدين، فلكي تعرفوا روح الصلاة المقبولة ومضمونها ونسقها، أعطيكم
نموذجاً تقيسون به صلاتكم على الدوام.

 

إن
أمعنتم النظر في هذه الصلاة النموذجية تلاحظون أن روح المصلي يكون روح البنوّة
لله، لأنه يخاطب الله كأب، ويعظم المحبة المتبادلة بين هذا الآب السماوي وأولاده،
ويعظّم أيضاً الطاعة له، والاتكال عليه لأجل احتياجاته كلها. وهو يعظم العلاقة
المتبادلة بين أولاده. حتى أن ما يريده المصلي لنفسه يريده للآخرين أيضاً، لأن روح
البنوة لله يستلزم روح الأخوَّة للناس. فيصلي المسيحي لا «أبي» بل «أبانا». ولا
يطلب غفران الآب لنفسه إلا ويقدم لإخوته غفرانه على سيئاتهم نحوه. فأقصد أن
أعلّمكم جيداً حقيقة أبوية الله للبشر وأخوَّة البشر لبعضهم البعض، لأن معلمي
الدين قد أهملوا هذه الحقيقة الجوهرية ولم يوضحوها في الماضي كما يجب.

 

ترون
في هذه الصلاة روح الدالة البنوية، وروح المحبة الأخوية، كما ترون روح العبادة
التقوية، لأن يوم الله وكتابه وبيته ورجاله (خدام الدين) وكنيسته كلها مقدسة، بسبب
نسبتها إليه. وقد ذكرت لكم في هذه الصلاة طلب النجاة من الشرير. هذا الطلب هو
اعترافٌ بقوة الشيطان العظيمة وسطوته على البشر، وبأن لا نجاة منه لأحد إلا بقوة
إلهية تنقذهم. وأعلنت لكم جلياً في خاتمة هذه الصلاة، كما في فاتحتها، أن على
المصلي أن يقدّم أمور الله على أموره، لأن الله هو الكل وفي الكل، فله وحده الملك
والقوة والمجد.

 

علَّمتكم
في هذه الصلاة اختصار الصلاة وبساطتها، لأن روح النبوَّة والأخوَّة والعبادة فيها
تقضي بذلك. وبما أنني لم أدخل بعد على وظيفتي الشفاعية، فلم اضع اسمي فيها، مع أنه
بعد صعودي تقدّمون صلاتكم إلى الآب باسمي. ولم أذكر فيها الروح القدس، لأنه لم
يُعْطَ بعد للناس على كيفية تستطيعون الآن أن تفهموا ما يُقال فيه.

 

 المؤمن
وحب المال

«لا
تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً عَلَى ٱلأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ ٱلسُّوسُ
وَٱلصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ ٱلسَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. بَلِ
ٱكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً فِي ٱلسَّمَاءِ، حَيْثُ لا يُفْسِدُ سُوسٌ
وَلا صَدَأٌ، وَحَيْثُ لا يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلا يَسْرِقُونَ، لأَنَّهُ حَيْثُ
يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضاً. سِرَاجُ ٱلْجَسَدِ هُوَ
ٱلْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ
نَيِّراً، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ
مُظْلِماً، فَإِنْ كَانَ ٱلنُّورُ ٱلَّذِي فِيكَ ظَلاماً
فَٱلظَّلامُ كَمْ يَكُونُ! لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ،
لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ ٱلْوَاحِدَ وَيُحِبَّ ٱلآخَرَ، أَوْ
يُلازِمَ ٱلْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ ٱلآخَرَ. لا تَقْدِرُونَ أَنْ
تَخْدِمُوا ٱللّٰهَ وَٱلْمَالَ» (متى 6: 19-24).

 

أحذركم
كل التحذير من حب المال، وأذكركّم أن كنوز العالم فانية، ولن تبقى إلا الكنوز
السماوية. وما أسعد من تعلق قلبه بالسماء لا بالأرض، فلذلك يتسهَّل له الصلاح.
وأما إن ساد في قلبه حب المال، فيستحيل عليه أن يحب الله كما يجب. والكنز في
السماء هو ثمر ما يعمله الإنسان ويبذله في سبيل خير الناس، حباً بالله.

 

لأنكم
نور العالم يستنير بكم غيركم من البشر، كما يستنير بواسطة العين الصحيحة. فإن
فقدتم أنتم الصلاح، فكم بالحري يفقده الذين ليس لهم وسائط الصلاح مثلكم؟ ومن
الأمور المطلوبة منكم لتنيروا على الآخرين أن تتكلوا تماماً على الآب السماوي في
أمر حاجاتكم الزمنية. إن عناية الله بمخلوقاته واضحة في طيور السماء التي ترفرف
وتغرد فوق رؤوسكم، وفي الأزهار التي تزهو تحت أقدامكم. فكيف لا يعتني الله بالذين
خلقهم على صورته، وهم أولاده؟ فإن كل ما في الجو من فوق، وكل ما على الأرض من
أسفل، يشهد فعلاً لعنايته بما قد خلق. وما دام يعتني بأدناها، كيف يمكن أن يهمل
أسماها؟ الذي وهب الجسد العجيب لا يبخل بالكساء الزهيد، والذي وهب الحياة الثمينة
لا يتأخر عن تقديم القوت الرخيص لأجل حفظها. صحيح أن الإنسان يجب أن يهتم
بالحاجيات الجسدية، لكنه يجب أن يفعل ذلك وهو متكل على عناية الآب السماوي، وهكذا
لا يكون نهباً للقلق، ويجيء اهتمامه بالماديات بعد اهتمامه بالأمور الروحية – لا
قبلها ولا فوقها – فما هي فائدة الإنسان لو لم تساعده العناية الإلهية؟ فإذاً
ملجأكم في الدرجة الأولى هو هذه العناية لا اهتمامكم أنتم. وكيف تتفوَّقون على غير
المؤمنين إن كنتم تهتمون بالدنيويات كما يهتم الوثنيون؟ أقدِّم لكم أعظم نصيحة
عندي وأحلاها: «أطلبوا أولاً ملكوت الله وبره، وهذه كلها تُزاد لكم».

 

 لا
تدينوا

«لا
تَدِينُوا لِكَيْ لا تُدَانُوا، لأَنَّكُمْ بِٱلدَّيْنُونَةِ ٱلَّتِي
بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ ٱلَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ
يُكَالُ لَكُمْ. وَلِمَاذَا تَنْظُرُ ٱلْقَذَى ٱلَّذِي فِي عَيْنِ
أَخِيكَ، وَأَمَّا ٱلْخَشَبَةُ ٱلَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلا تَفْطَنُ
لَهَا؟ أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْنِي أُخْرِجِ ٱلْقَذَى مِنْ
عَيْنِكَ، وَهَا ٱلْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ. يَا مُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلاً
ٱلْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً أَنْ تُخْرِجَ
ٱلْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ! لا تُعْطُوا ٱلْمُقَدَّسَ لِلْكِلابِ،
وَلا تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ ٱلْخَنَازِيرِ، لِئَلا تَدُوسَهَا
بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ» (متى 7: 1-6).

 

ثم
أوصيكم أن لا تكونوا من الذين يدينون بعضهم بعضاً، فالحكمة تنهَى عن هذا، لأن
الناس يعاملونك كما تعاملهم. فالذي يكشف عيوب الناس تكشف الناس عيوبه وهلم جراً.
الميّال إلى دينونة الآخرين يكون مدفوعاً من الافتخار والانتقام، فيُذمُّ افتخاراً
أو انتقاماً. والأغلب أنه ظالم في الحالتين، لأنه يرى عيوب الآخرين، لا كما هي، بل
مكبّرة. ويرى عيوبه هو لا كما هي، بل مصغَّرة. والمُخطئ لا يقدر أن يصلِح الأقل
عيباً منه، فيصحُّ القول: «يا مرائي، أخرج أولاً الخشبة من عينك، وحينئذ تبصر
جيداً أن تخرج القذى الذي في عين أخيك».

 

 أسألوا
تعطوا

«اِسْأَلُوا
تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ
يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ. أَمْ
أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ إِذَا سَأَلَهُ ٱبْنُهُ خُبْزاً، يُعْطِيهِ
حَجَراً؟ وَإِنْ سَأَلَهُ سَمَكَةً، يُعْطِيهِ حَيَّةً؟ فَإِنْ كُنْتُمْ
وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلادَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً،
فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ أَبُوكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ،
يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ. فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ
ٱلنَّاسُ بِكُمُ ٱفْعَلُوا هٰكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ،
لأَنَّ هٰذَا هُوَ ٱلنَّامُوسُ وَٱلأَنْبِيَاءُ» (متى 7: 7-12).

 

أوصيكم
أن تكونوا حكماء مميَّزين في أحاديثكم الدينية، لئلا تعرِّضوا كلامكم للهزء
والاحتقار بغير فائدة، فتكونون كمن يعطي المقدس للكلاب ويطرح جواهره أمام
الخنازير. لكل مقام مقال، فيجب أن يناسب التعليم المقام الذي يُقدَّم فيه وأحوال
السامعين. أؤكد لكم أن الآب السماوي مستعد لاستماع صلواتكم واستجابتها. إن كان
الأب البشري وهو خاطئ لا يتأخر عن طلب أولاده، إن كان هذا خيراً لهم، ويُخلِص في
ما يمنحه، فكيف يمكن أن يتخلَّى الآب السماوي الكامل عن تضرُّعات طالبيه، أو يهبهم
شيئاً ليس هو الخير الحقيقي؟ وأول ما يريد أن يهبه هو الروح القدس للذين يطلبونه.

 

وأسلمكم
أيضاً القاعدة المسمَّاة الذهبية، التي لا يمكن المبالغة في جمالها ومفعولها، فهي
تحل المشكلات الأخلاقية للذين يمارسونها، وتُغني عن ألوف الوصايا المفضَّلة لأنها
أفضل منها. هذه القاعدة هي: «كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا هكذا أنتم
أيضاً بهم. لأن هذا هو الناموس والأنبياء». نعم قد ورد في أقوال القدماء ما يقارب
هذا القول، ويظن البعض أن هذه القاعدة تكفي لتحيط بالواجب الديني تماماً. لربما
كان زَعْمهم يصحّ لو أنه لا يوجد إله. لكن بما أن اللّه موجود، لا يكون القيام
بالواجب نحو الناس إلا القسم الأصغر في الدين، لأن القسم الأعظم هو القيام بالواجب
من نحوه تعالى.

 

 باب
ضيق وباب واسع

«اُدْخُلُوا
مِنَ ٱلْبَابِ ٱلضَّيِّقِ، لأَنَّهُ وَاسِعٌ ٱلْبَابُ وَرَحْبٌ
ٱلطَّرِيقُ ٱلَّذِي يُؤَدِّي إِلَى ٱلْهَلاكِ، وَكَثِيرُونَ
هُمُ ٱلَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ! مَا أَضْيَقَ ٱلْبَابَ وَأَكْرَبَ
ٱلطَّرِيقَ ٱلَّذِي يُؤَدِّي إِلَى ٱلْحَيَاةِ، وَقَلِيلُونَ
هُمُ ٱلَّذِينَ يَجِدُونَهُ! «اِحْتَرِزُوا مِنَ ٱلأَنْبِيَاءِ
ٱلْكَذَبَةِ ٱلَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ ٱلْحُمْلانِ،
وَلٰكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ! مِنْ ثِمَارِهِمْ
تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ ٱلشَّوْكِ عِنَباً، أَوْ مِنَ
ٱلْحَسَكِ تِيناً؟ هٰكَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ
أَثْمَاراً جَيِّدَةً، وَأَمَّا ٱلشَّجَرَةُ ٱلرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ
أَثْمَاراً رَدِيَّةً، لا تَقْدِرُ شَجَرَةٌ جَيِّدَةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً
رَدِيَّةً وَلا شَجَرَةٌ رَدِيَّةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً جَيِّدَةً. كُلُّ
شَجَرَةٍ لا تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي ٱلنَّارِ.
فَإِذاً مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. «لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا
رَبُّ يَا رَبُّ، يَدْخُلُ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ. بَلِ ٱلَّذِي يَفْعَلُ
إِرَادَةَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ
لِي فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ
بِٱسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِٱسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ،
وَبِٱسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ:
إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! ٱذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي
ٱلإِثْمِ» (متى 7: 13-23).

 

إني
أضع أمامكم طريقين يسير جميع الناس في إحداهما. الأولى ضيقة في بدايتها رحبة في
نهايتها، والثانية بالعكس، رحبة في بدايتها ثم ضيقة جداً في نهايتها، فأنصح لكم أن
تختاروا الطريق الضيقة في هذه الدنيا والعامرة بالمجد في الآخرة. ولا تقتدوا –
بأكثر البشر – لأنهم يفعلون بالعكس، إذ يختارون ما هو راحة حالية غاضين النظر عن
العذاب الأبدي.

 

وأنبّهكم
إلى العلاقة بين الشجر والثمر، والتي تستلزم أن يكون الثمر من جنس الشجر، فأعمال
الإِنسان لا تكون إلا تابعة لحالة قلبه الداخلية. يجوز أن يدَّعي إنسان أنه نبي
مرسَل من اللّه، وأنه يتكلم بكلام الأنبياء، لكن بمرور الأيام لا بد أن تثمر
طبيعته في أعماله. ولا بد أيضاً من القَطْع والإِلقاء في النار لكل من يثمر ثمراً
رديئاً. ولا يوقف هذا القطع احتجاج الذين يتستّرون تحت ثوب الرياء، متظاهرين
بالتديُّن، متكلين على حسناتهم الخارجية، وهم يهملون الوصايا الإِلهية التي لا
تروق لهم، أو التي تخالف أغراضهم. قد يكونون من الذين تنبأوا باسمي، وصنعوا معجزات
كثيرة حتى إخراج الشياطين باسمي، وهم يعترفون بي بأفواههم، وينادونني: «يا رب، يا
رب». لكنهم لم يفعلوا إرادة أبي الذي في السموات. فسأجيب على استنجادهم في يوم
الدين: «إني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم».

 

العاقل
والجاهل

«فَكُلُّ
مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هٰذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا، أُشَبِّهُهُ بِرَجُلٍ
عَاقِلٍ، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى ٱلصَّخْرِ. فَنَزَلَ ٱلْمَطَرُ،
وَجَاءَتِ ٱلأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ ٱلرِّيَاحُ، وَوَقَعَتْ عَلَى
ذٰلِكَ ٱلْبَيْتِ فَلَمْ يَسْقُطْ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّساً عَلَى
ٱلصَّخْرِ. وَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هٰذِهِ وَلا يَعْمَلُ
بِهَا، يُشَبَّهُ بِرَجُلٍ جَاهِلٍ، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى ٱلرَّمْلِ.
فَنَزَلَ ٱلْمَطَرُ، وَجَاءَتِ ٱلأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ
ٱلرِّيَاحُ، وَصَدَمَتْ ذٰلِكَ ٱلْبَيْتَ فَسَقَطَ، وَكَانَ
سُقُوطُهُ عَظِيماً!» (متى 7: 24-27).

 

وفي
الختام أقدم لكم تشبيهاً مفيداً جداً، لأن الذي يعرف مشيئة اللّه ويعملها يشبه
الشخص الذي يضع أساس بيته على الصخرة. والذي يعرف ولا يعمل يشبه الذي يبني بيته
على أساس رملي بجانب مجرى ماء، فما دام الجو صافياً والرياح ساكنة، يظهر أن الذي
بنى على الرمل هو الحكيم، لأنه استراح من متاعب الحفر ونفقاته، فيهنّئ نفسه
ويهنّئه الآخرون. ولكن صفاء الجو وسكون الريح لا يدومان إلى الأبد، فمتى جاء النوء
يظهر جلياً من كان الحكيم الذي سَلِم بناؤه. الذي يعرف ولا يعمل يتلذذ حالياً
بملذات الدنيا، ويجتنب المصاعب في سبيل البر، لكن متى هبّت رياح الدِّين، ونزل مطر
الغضب الإِلهي، وجاءت أنهار عذاب الضمير، وحدث سيل إرسال الخطاة إلى مكانهم في
الهلاك «وصدم» هذا الشخص، يسقط حالاً، ويكون خرابه عظيماً. بينما الأول لا يسقط
ولا يتزعزع لأنه مؤسس على صخر.

 

«فَلَمَّا
أَكْمَلَ يَسُوعُ هٰذِهِ ٱلأَقْوَالَ بُهِتَتِ ٱلْجُمُوعُ مِنْ
تَعْلِيمِهِ، لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ
كَٱلْكَتَبَةِ» (متى 7: 28، 29).

 

كل من
يتأمل بدِقة وإخلاص في نظام الملكوت الروحي هذا، وفي قوة المطاليب الإلهية من
الإنسان، ييأس من استطاعته أن يطيع هذه الوصايا. هذا اليأس هو الخطوة الأولى في
الخلاص، لأنه يُبعد الإِنسان عن الاتكال الباطل على الخلاص بالأعمال، ويقوده إلى
المخلّص الوحيد الذي جعل الإِيمان الحي الحقيقي به شرط الخلاص الكافي والوحيد.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى