علم المسيح

الفصل السادس



الفصل السادس

الفصل السادس

ما
معني اتحاد اللاهوت بالناسوت وكيف تم؟

 

س 1: إذا كان المسيح واحداً هو كلمة الله الذي صار جسدا أو هو الله
الذي ظهر في الجسد ؛ فما معني تعبيرات: “تجسد” و “اتحاد اللاهوت
بالناسوت” و
“طبيعة واحدة متجسدة” و
“طبيعتين” و “في طبيعتين” و “من طبيعتين” و
“أقنوم” و “إله تام وإنسان تام” و
كامل
في لاهوته وكامل في ناسوته”؟

مقالات ذات صلة

& أوضحنا أن الكتاب المقدس لم يتكلم سوي عن مسيح واحد هو كلمة الله
الذي هو الله والذي صار جسدا في ملء الزمان، الله الذي ظهر في الجسد، صورة الله
المساوي لله الذي أتخذ صورة العبد، وهو نفسه يتكلم عن نفسه باعتباره شخص واحد،
مسيح واحد، وان كان قد تكلم عن نفسه تارة كإله وتارة كإنسان. ومن تأملنا في شخصه
الإلهي نري بمنظار الكتاب المقدس انه الإله القدير الذي ظهر في الجسد وصار الإله
المتجسد، أي الذي أتخذ جسدا، والذي أصبح يحوي في ذاته اللاهوت والناسوت.

 فهو
الله الأبدي الأزلي، الذي لا بداية له ولا نهاية، الإله الواحد، الإله العظيم،
الإله الحكيم، الإله القدير، الإله المبارك، وهو أيضا كلمة الله وحكمة وقوة الله
وصوره الله وبهاء مجده ورسم جوهره. هو الله بجوهره وكيانه أي بطبيعته(1). وبعد أن صار جسدا، في ملء الزمان، وحل بيننا،
ظهر في الجسد ورأته الخليقة في صورة العبد وفي شبه الناس وهيئة الإنسان، اصبح
إنساناً وابن إنساناً، فقد ولد من العذراء حقا ومن ثمرة بطنها من لحم ودم وعظام
وروح ونفس، ومن ثم فهو أيضا إنسان بجوهره وكيانه أي بطبيعته، فهو كامل (تام) في
لاهوته وكامل (تام) في ناسوته (إنسانيته).

 ونظرا
لأن جوهر الله غير مدرك ولا محسوس، أو كما قال السيد نفسه ” الله روح ”
والروح بسيط وغير مركب، وجوهر الإنسان مدرك بالحواس ومركب وهو عكس الروح ”
لأن الروح ليس له لحم ولا عظام ” (لو39: 24)، وان الله لما تجسد لم يتحول إلى
جسد إنما اتخذ جسدا وحل فيه وظهر فيه وبه بين الناس ” والكلمة صار جسدا وحل
بيننا ورأينا مجده مجدا ” (يو18: 1)، وكما قلنا انه كامل في لاهوته وكامل في
ناسوته بدون تغيير أو تحول، ومن ثم فقد اضطر آباء الكنيسة وعلماؤها (كما بينّا في
الفصول الأولى) لوضع مصطلحات وصيغ لاهوتية مبنية ومستخرجة ومأخوذة من نصوص الكتاب
المقدس ذاته واستخدموها سواء في المجامع المسكونية المقدسة أو في كتاباتهم سواء
الدفاعية أو التفسيرية وذلك لتحديد الإيمان السليم المبني علي المسيح نفسه وكتابه
المقدس. ومع ذلك نؤكد أن هذه المصطلحات والصيغ لا تعبر عن حقيقة التجسد الذي هو سر
يفوق العقل ولا يعلمه إلا الله وحده، إنما تقربه من عقولنا فقط.


فقد استخدموا كلمة ” أقنوم –
Hypostasis όηποστασις ” بمعنى الكيان، فعندما نقول أقنوم واحد نعني كيان واحد،
فالإنسان المكون من روح وجسد هو أقنوم واحد، كيان واحد، وشخص واحد. والرب يسوع
المسيح بلاهوته وناسوته هو أقنوم واحد، هيبوستاس واحد، وشخص واحد.


وكلمة طبيعة (
φύσις physis – فيزيس) والتي تعبر عن جوهر الكائن ؛ فالطبيعة إذا هي ما يجعل
الكائن علي ما هو عليه(2). لشرح
كيف أن شخص المسيح يضم في ذاته، بعد التجسد، طبيعة اللاهوت (طبيعة الله) وطبيعة
الناسوت (طبيعة الإنسان) في أقنوم واحد هو شخص المسيح أو ” طبيعة واحدة
متجسدة لله الكلمة “، ” واحدة هي طبيعة الكلمة المتجسد “.

:
واستخدموا
كلمة ” اتحاد –
Unity /Unionενοςιν) ” للتعبير عن الوحدة بين اللاهوت والناسوت أو الاتحاد الكائن
بين لاهوت الرب يسوع المسيح وناسوته. وأيضا ” الاتحاد الأقنومي –
Hypostatic Union ” الذي وصفه القديس كيرلس بكونه ” اتحاداً طبيعياً
“، ” اتحاداً شخصياً “، ” وحدة حقة ” اتحد ابن الله
بطبيعتنا وجعلها خاصة به(3)، فتحقق
فيه اتحاد حق بين اللاهوت والناسوت برغم اختلاف الطبيعتين، في طبيعة واحدة متجسدة
” طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة ” و ” أقنوم وحد متجسد لله الكلمة
“. فكيف تم هذا الاتحاد بين اللاهوت والناسوت؟

 

س 2: إذا كيف تم الاتحاد بين اللاهوت والناسوت ومتي تم؟ وهل أوجد الله
الناسوت أولا ثم حل فيه وأتحد به أم ماذا؟

& أولا: لم يستخدم الكتاب تعبير الاتحاد بين اللاهوت والناسوت وإنما
استخدام نصوص اقوي وأبلغ دلاله من الاتحاد وذلك للتعبير عن تجسد كلمة الله:


والكلمة صار جسدا وحل بيننا ورأينا مجده مجدا ” (يو14: 1).


” عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد ” (1تي16: 3).


” الذي فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا ” (كو9: 2).



الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب مساواته لله اختلاسا لكنه أخلى نفسه
أخذا صورة عبد صائراً في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كانسان
وضع نفسه وأطاع
حتى الموت ” (في5: 2-7).


” هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله
معنا
” (اش14: 7؛ مت23: 1).


” لأنه يولد لنا ولد ونعطي ابنا وتكون الرياسة علي كتفه ويدعي اسمه
عجيبا مشيرا إلها قديرا أبا أبديا رئيس السلام ” (اش6: 9).


” وأنت يا بيت لحم ارض يهوذا … سيخرج منك مدبراومخارجه
منذ القديم منذ أيام الأزل
” (مي2: 5).


” إذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضا كذلك فيهما
من ثم كان ينبغي أن يشبه اخوته في كل شئ ” (عب14: 2).

 هذه
الآيات، وغيرها، هي التي استخدمها الكتاب المقدس للتعبير عن تجسد الله الكلمة.

 فقد
قال الكتاب انه، المسيح، قد حبل به من العذراء وولد ولدا من بني إسرائيل بحسب
الجسد ؛ ” ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلها مباركا إلى
الأبد آمين ” (رو5: 9)، انه ولد من العذراء، بالجسد، وفي بيت لحم، بالجسد،
ومن نسل إبراهيم وداود بحسب الجسد وكان تجسده حقيقيا إذ اخذ جسدا حقيقيا من لحم
ودم وعظام كما كان له روح ونفس.

 ولكن
كيف اتخذ هذا الجسد؟ فقد ” صار جسدا “، ” ظهر في الجسد
“، ” حل اللاهوت في الناسوت “، ” أخلى نفسه “،
وضع نفسه وصار جسدا، أخذا صورة العبد وصائرا في هيئة الإنسان بل وشابه الإنسان في
كل شئ ما عد الخطية ” مجرب في كل شيء مثلنا بلا خطية ” (عب15: 4)،
لأنه جاء ” في شبة جسد الخطية ” (رو3: 8).

 وهذه
التعبيرات ؛ ظهر في الجسد، حل اللاهوت في الناسوت، صار الكلمة جسدا، أخلى صورة
الله ذاته ووضع نفسه وأخذ صورة الإنسان، ولد من العذراء من نسل إبراهيم وداود، وفي
بيت لحم، اخذ كل ما للبشرية وشابهنا في كل شئ وهو الله ذاته، بكل ملء لاهوته، صورة
الله المساوي لله، الله معنا، الإله القدير، الأزلي الأبدي، الكائن علي الكل، الله
المبارك ؛ وضع لها الآباء تعبير ؛ الاتحاد، اتحاد اللاهوت والناسوت،
اتحاد اللاهوت بالناسوت للتعبير عن تجسد الكلمة
الذي تم في
ملء الزمان.

 أما
كيف تجسد الكلمة وكيف صار جسدا وكيف اتخذ صورة الله صورة العبد، كيف ظهر الله في
الجسد وكيف حل اللاهوت في الناسوت وكيف حبلت به العذراء وولدته فهذا مالا يدركه
عقل، لا عقل البشر ولا حتى اسمي وأرفع الملائكة رتبه. انه سر يفوق أدراك جميع
المخلوقات ولا يعلمه سوي الله وحده لأنه يختص به وحده، فهو الذي تجسد وهو وحده
الذي يعرف كيف تجسد، وقد أعلن الرب يسوع المسيح أن اليهود وان كانوا قد عرفوه انه
النجار ابن مريم ” (مت55: 13؛ مر6: 3)، لكنهم لم يعرفوا حقيقة
شخصه وحقيقة تجسده، كما أن التلاميذ وإن كانوا قد عرفوا، بالروح، انه ” المسيح
ابن الله الحي
” (مت16: 16) لكنهم، قبل أن يحل الروح القدس عليهم، لم
يعرفوا حقيقة شخصه كما يجب ولا عرفوا سر تجسده. وان كان الملائكة قد عرفوا حقيقة
شخصه إذ بشر الملاك جبرائيل العذراء بالحبل به وولادته وهتفت الملائكة يوم مولده
قائلين:


” انه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب ” (لو11: 2).


” المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة ” (لو14: 2).

 وكانوا
خداما له في أيام تجسده علي الأرض ” وصارت الملائكة تخدمه
(مت11: 4؛ مر13: 1)، إلا انهم لم يعرفوا كيفية تجسده فهذا سر يختص به وحده ولا
يعلمه سوي هو وحده، فهو الغير محدود في الزمان أو المكان أو العلم أو القدرة ولا
تدركه عقول المخلوقات المحدودة، وقد قال عن نفسه:


” ليس أحد يعرف من هو الابن إلا الآب ولا من هو الآب إلا الابن ومن أراد
الابن أن يعلن له
” (مت27: 11؛ لو22: 10)، انه وحده الذي يعرف ذاته
وحقيقة تجسده، ولذا كرر لمستمعيه:


” لستم تعرفونني أنا ولا أبي لو عرفتموني لعرفتم أبى أيضا ” (يو19: 8).

 لماذا؟
يقول ؛ ” انتم من أسفل. أما أنا فمن فوق انتم من هذا العالم أما أنا فلست
من هذا العالم
” (يو23: 8).


” لو كنتم عرفتموني لعرفتم أبى أيضا ” (يو17: 4).


” انهم لم يعرفوا الأب ولا عرفوني ” (يو3: 16).

 وقال
عنه يوحنا المعمدان بالروح:


” في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه ” (يو26: 1).

 وقال
عنه يوحنا الإنجيلي واللاهوتي بالروح:


” كان في العالم وكون العالم به ولم يعرفه العالم ” (يو10: 1).

 وقال
القديس بولس الرسول بالروح:


” لا يقدر أحد أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس ” (1كو3: 12).

 لماذا؟
لأن الروح القدس هو ” روح المسيح ” (رو9: 8)، كما انه روح الآب (يو26: 15)،
وطبعا روح الله الذي هو الله يعرف حقيقة ذات الله ؛ ” الروح يفحص كل شئ
حتى أعماق الله
” (1كو10: 2)، ” لأن من من الناس يعرف أمور الإنسان
إلا روح الإنسان الذي فيه. هكذا أيضا أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله ”
(1كو11: 2،12). انه وحده الذي يعرف حقيقة ذاته وحقيقة تجسده أما نحن، البشر، فلا
نعرف شيئاً عن الله سوي الأشياء الموهوبة لنا من الله (1كو12: 2)، كما يقول القديس
بولس الرسول بالروح.

 وقد
دعا الكتاب المقدس تجسد الكلمة بالسر العظيم:


” عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد ” (1تي16: 3).

 انه
سر لا يعلمه سوي صاحبه وصاحبه هو الله:


السر الذي كان مكتوما في الأزمنة الأزلية ” (رو16: 25).


سر الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا
(1كو7: 2).


السر المكتوم منذ الدهور في الله خالق الجميع بيسوع المسيح
(أف9: 3).


السر المكتوم منذ الدهور ومنذ الأجيال لكنه الآن قد اظهر لقديسيه
” (كو26: 1).

 وإذا
كان آباء الكنيسة وعلماؤها قد عرفوا هذا السر، سر التجسد، انه اتحاد اللاهوت
بالناسوت في شخص السيد المسيح، انه اتحاد الطبيعة الإلهية بالطبيعة
الإنسانية،
وان السيد المسيح بتجسده وبحلول لاهوته في الناسوت وصيرورته بشر قد جمع في ذاته اللاهوت
والناسوت، وانه بطبيعة واحدة متحدة ” طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة ”
من طبيعتين (اللاهوت والناسوت) تجتمع فيها جميع خواص وصفات اللاهوت وجميع خواص
وصفات الناسوت بدون اختلاط وامتزاج أو تغيير أو استحالة، وبأقنوم واحد ”
أقنوم واحد متجسد لله الكلمة “، إلا انهم وقفوا أمام كيفية حدوث هذا الاتحاد،
هذا التجسد، هذا الظهور الإلهي، هذا الحلول الإلهي في الناسوت، هذه الصيرورة إلى
بشر واتخاذ الجسد ومشاركة الإله للبشرية في كل شئ، في اللحم والدم والعظام والروح
والنفس، هذه المشابهة مع البشرية في كل شئ ما عدا الخطية، هذا التنازل والتواضع
والفقر، الاختياري،، الذي اختاره رب المجد ” أفتقر وهو غني ” (2كو2: 8)،
” أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كإنسان
” (في6: 2)، وقفوا مشدوهين ومبهورين أمام عظمته، وعاجزين عن وصفه أو إدراكه
أو فهمه وقالوا عنه انه:


السر الذي لا تدركه افهام.


السر الذي لا ينطق به.


انه سري بصفة مطلقة.


السر الذي يفوق العقل.


انه سري وفائق للعقل.


الاتحاد الذي يفوق العقل ولا يوصف.


قال القديس كيرلس الإسكندري وهو اشهر من درس وعلم في اتحاد اللاهوت بالناسوت:

 ”
عندما نقول أن كلمة الله اتحد بطبيعتنا فان كيفية هذا الاتحاد هي فوق فهم البشر
… فهو اتحاد لا يوصف وغير معروف لأي من الناس سوي الله وحده الذي يعرف كل
شئ. وأي غرابه في أن يفوق (اتحاد اللاهوت بالناسوت) إدراك
العقل؟!! …إذا
طُلب إن نحدد كيفية اتحاد اللاهوت بالناسوت وهو أمر يفوق كل فهم بل صعب جدا “(3).

 وقال
أيضا ؛ ” الكلمة تجسد وصار إنسانا كاملا … بطريقة يعرفها هو وحده
(4). وأيضا ” وأنا لا أنكر أن كل ما ذكرناه يفوق
كل التعبيرات البشرية الممكنة
، لكن لا يجب أن نتوقف عن التأمل والإيمان بسر
المسيح بسبب وجود صعوبة مثل هذه بل ليظل هذا السر باستحقاق موضع إكرامنا، لأنه
كلما كان السر فوق أدراك العقول وبعيدا عن إمكانية التعبير عنه بكلمات، ازداد
إيماننا بعظمته وروعته “(5).

 


وقال القديس اغريغوريوس النيزنزي:

 ”
ولد من العذراء بلا عيب وبطريقة تفوق الوصف(6).

 


وقال القديس ثاؤدوطس أسقف انكوريا في خطبه له علي التجسد تليت في مجمع افسس:


أن الواحد نفسه هو اله أزلي وإنسان له ابتداء من الزمان فأحد هذين الأمرين كان في
الوجود سابقا والأخر صار من بعد. فان قلت كيف صار الوحيد عبدا باقيا ما كان وصائرا
ما لم يكن أجبتك إن كنت تريد أن تعلم هذا فاعلم انه صار ولكن كيف صار فلا يعلم
ذلك إلا صانع العجائب وحده
(7).

 


وقال القديس يعقوب البرادعي اشهر من دافع عن عقيدة الطبيعة الواحدة المتحدة في
القرن السادس:

 ”
وكان اتحاد اللاهوت بالناسوت اتحادا سريا لا تدركه الأفهام ولا تتصوره
(تصوره) الأوهام فلا لاهوته صار لحما ولا ناسوته (ولحمه) صار لاهوتا “(8).

 

س 3: كيف شرح الآباء اتحاد اللاهوت بالناسوت؟ وما هي الأمثلة التي
استخدموها في ذلك؟

& شبه آباء الكنيسة وعلى رأسهم القديس كيرلس عمود الدين اتحاد
اللاهوت بالناسوت بالروح والجسد في الإنسان وبالنار المشتعلة في العليقة والعليقة
لم تحترق وجمرة اشعياء النبي واتحاد الحديد بالنار.

1
– الروح والجسد في الإنسان: فالإنسان مكون أساساً من روح عاقلة وجسد أي من مادتين
مختلفين وجوهرين مختلفتين، وبرغم اختلاف طبيعة الجسد عن الروح إلا أنهما يكونان
الإنسان الواحد، كله كوحدة واحدة، ولذا فنحن لا نتكلم عن الروح على حده ولا نتكلم
عن الجسد على حده، بل نتكلم عن الإنسان الواحد، كوحدة واحدة، لا نفصل بين روحه
وجسده، ونميز بينهما في ذهننا فقط، فلا نقول أن جسد فلان يتألم أو أن روحه سعيدة،
إنما نقول فلان يتألم وأيضا فلان سعيد، ونميز ذهنيُاً فقط بين آلامه بالجسد
وسعادته بالروح. يقول القديس كيرلس ” عندما نقول إن كلمة الله اتحد بطبيعتنا
فإن كيفية هذا الاتحاد هي فوق فهم البشر. وهذا الاتحاد مختلف تماماً … فهو اتحاد
لا يويصف وغير معروف لأي من الناس سوى الله وحده الذي يعرف كل شئ … فما هي كيفية
اتحاد نفس الإنسان بجسده؟ من يمكنه أن يخبرنا؟!! ونحن بصعوبة نفهم وبقليل نتحدث عن
اتحاد النفس بالجسد. ولكن إذا طلب منا أن نحدد كيفية اتحاد اللاهوت بالناسوت وهو
أمر يفوق كل فهم بل صعب جداً، نقول أنه من اللائق أن نعتقد أن اتحاد اللاهوت
بالناسوت في عمانوئيل هو مثل اتحاد نفس الإنسان بجسده – وهذا ليس خطأ لأن الحق
الذي نتحدث عنه هنا تعجز عن وصفه كلماتنا. والنفس تجعل الأشياء التي للجسد هي لها
رغم أنها (النفس) بطبيعتها لا تشارك الجسد آلامه المادية … لكنها لا تشارك الجسد
رغباته، ومع ذلك تعتبر أن تحقيق الرغبة هو تحقيق لرغبتها هي (النفس). فإذا ضرب
الجسد أو جرح بالحديد مثلا فأن النفس تحزن مع جسدها، ولكن بطبيعتها لا تتألم
بالآلام المادية التي تقع على الجسد.

 ومع
هذا يلزم أن نقول أن الاتحاد في عمانوئيل هو أسمى من أن يشبه باتحاد النفس بالجسد،
لأن النفس المتحدة بجسدها تحزن مع جسدها وهذا حتمي حتى أنها عندما تقبل الهوان
تتعلم كيف تخضع لطاعة الله. أما بخصوص الله الكلمة فأنه من الحماقة أن نقول أنه
كان يشعر – بلاهوته – بالإهانات، لأن اللاهوت لا يشعر بما نشعر به نحن البشر.
وعندما اتحد بجسد له نفس عاقلة وتألم لم ينفعل – اللاهوت – بما تألم به، لكنه كان
يعرف ما يحدث له. وأباد كإله كل ضعفات الجسد، رغم أنه جعلها ضعفاته هو فهي تخص
جسده. لذلك (بسبب الاتحاد) قيل عنه أنه عطش وتعب وتألم لأجلنا.

 ولذلك
فأن اتحاد الكلمة بطبيعتنا البشرية يمكن على وجه ما أن يقارن باتحاد النفس بالجسد،
لأنه كما أن الجسد من طبيعة مختلفة عن النفس، لكن الإنسان واحد من أثنين (النفس
والجسد)، هكذا المسيح واحد من الأقنوم الكامل لله الكلمة ومن الناسوت الكامل،
واللاهوت نفسه والناسوت نفسه في الواحد بعينه الأقنوم الواحد. وكما قلت أن الكلمة
يجعل آلام جسده آلامه هو، لأن الجسد هو جسده وليس جسد أحد آخر سواه. هكذا يمنح
الكلمة جسده كل ما يخص لاهوته من قوة، حتى أن جسده قادر على أن يقيم الموتى ويبرئ
المرضى “(9).

2
– العليقة المشتعلة بالنار: كما شبه آباء الكنيسة اتحاد اللاهوت بالناسوت بظهور
الله في هيئة نار في العليقة ومع هذا لم تحترق العليقة بالنار يقول الكتاب ؛
” وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار
والعليقة لم تكن تحترق، فقال موسى أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم لماذا لا
تحترق، فلما رأى الرب انه مال لينظر ناداه الله من وسط العليقة وقال موسى موسى
فقال هانذا ” (خر2: 3-5).

 

يقول
القديس كيرلس
:

 ”
باطل هو إدعاء من يقول أننا باعترافنا بطبيعة واحدة للابن المتجسد والمتأنس نحدث
اختلاط أو امتزاجا ” بين اللاهوت والناسوت ” … فإنهم إذا اعتبروا أن
طبيعة الإنسان لكونها ضئيلة جدا أمام الطبيعة الإلهية الفائقة فلا بد أن تتلاشى
إذا ما اتحدت بها، فإننا نجيبهم ” تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله
” (مت29: 22) فإنه لم يكن مستحيلا على الله محب الصلاح أن يخضع نفسه لحدود البشرية،
وهذا هو ما سبق موسى وأعلنه لنا في سر مبينا لنا في مثال كيفية التجسد. فأن الله
قد نزل في العليقة في البرية بمنظر النار وكان يضيء العوسج (العليقة) ولا يحرقه.
وكان موسى يتعجب من هذا المنظر. لأن الخشب ” بطبعه ” لا يحتمل النار.
فكيف استطاعت هذه المادة القابلة للاحتراق أن تحتمل اشتعال النار فيها ” بدون
أن تحترق “؟ لقد كان هذا كما قلت مثالا للسر الذي به استطاعت طبيعة اللوغوس
الإلهية أن تخضع نفسها لحدود البشرية، لأنه أراد ذلك ولا يستحيل عليه شيء قط …
وكما أن النار كانت تضيء العليقة دون أن تحرقها هكذا أيضا اللوغوس لما تجسد لم
يحرق الجسد الذي اتحد به بل على العكس جعله جسدا محيياً “(10).

 وأيضا:
” إن النار لم تستطع أن تلتهم العليقة، بل كانت تداعبها وتتآنس مع طبيعتها
الخشبية … بهذه الطريقة كان اللاهوت يتلاطف مع الناسوت “(11).

 ”
فكما أن النار كانت تنير العليقة دون أن تلتهمها، هكذا أيضا اللوغوس في تجسده لم
يحرق الجسد الذي اتحد به، بل جعله على العكس جسدا محييا. كان الكلمة نوراً وناراً
في الجسد، في الناسوت ولم يحترق ولم يتلاشى هذا الناسوت بالنار الآكلة، بل أصبح
الجسد مناراً ومنيراً لأته فيه حل ملء اللاهوت جسدياً “(12).

3
– جمرة اشعياء: وشبه اتحاد اللاهوت بالناسوت أيضا باتحاد النار مع الخشب، الفحم،
في جمرة اشعياء، والنار المتحدة مع الفحم تكوّن معه وحدة واحدة لا نستطيع فيها أن
نميز بين النار والفحم، ومع ذلك يظل الفحم فحماً وتظل النار ناراً. ” يقول
اشعياء النبي: ” وجاء الي واحد من السرافيم وبيده جمرة متقدة أخذها بملقط من
على المذبح وقال لي هذه ستلمس شفتيك لكي تنزع إثمك وتطهرك من خطاياك ” (اش6: 6،7).
ونحن نقول أن الجمرة المتقدة هي مثال وصورة الكلمة المتجسدمثالا
لكلمة الله المتحد بالطبيعة البشرية دون أن يفقد خواصه
، بل حول ما أخذه
(الطبيعة البشرية) وجعله متحداً به، بل بمجده وبعمله. لأن النار عندما تتصل
بالخشب (الفحم) تستحوذ عليه، لكن الخشب يظل خشباً 00 فقط يتغير إلى شكل النار
وقوتها، بل يصبح له كل صفات النار وطاقتها ويعتبر واحدا معها. هكذا أيضا يجب أن
يكون اعتقادنا في المسيح، لأن الله الكلمة اتحد بالإنسانية بطريقة لا ينطق بها،
ولكنه أبقى على خواص الناسوت على النحو الذي نعرفه، وهو نفسه لم يفقد خواص اللاهوت
عندما اتحد به (بالناسوت) بل جعله واحدا معه، وجعل خواص (الناسوت) خواصه. بل هو
نفسه قام بكل أعمال اللاهوت فيه (في الناسوت)
(13).

 ويقول
أيضا ” والمسيح يشبه بالجمرة لأنه مثلها يعتبر من شيئين مختلفين ولكنهما
باجتماعهما معا قد أقترنا معا في وحدة واحدة، لأن النار حينما تدخل في الخشب
“الفحم” تحوله بنوع ما إلى مجدها الخاص ومع ذلك فهو يبقى على ما كان
عليه ” أي خشباً ” (14)

4
– اتحاد الحديد بالنار: ويشبه القديس كيرلس، أيضاً، اتحاد اللاهوت بالناسوت، مثل
جمرة النار، بمثل الحديد والنار، فكما يتحد الحديد مع النار ويصيران قطعة ملتهبة،
إلا أن النار تبقى ناراً والحديد يظل كما هو، وعندما نطرق الحديد المتحد بالنار لا
تتأثر النار بذلك ؛ ” كما أن الحديد إذا قربناه من نار شديدة يكتسب للوقت
مظهر النار ويشترك في صفات ذلك العنصر الغالب، هكذا أيضا طبيعة الجسد التي اتخذها
لنفسه اللوغوس غير الفاسد والمحيي لم تبقى على حالها الأول بل قد أنعتقت من الفساد
ومن الفناء وسادت عليهما “.

 ”
إذا وضعتم حديداً في النار، فأنه يمتلئ كذلك بقوة النار … وهكذا الكلمة المحيي
لما وحُد بذاته جسده الخاص – بالكيفية التي هو وحده يعلمها – جعل هذا الجسد محيياً
(15).

 

(1) كتاب ” قانون الإيمان ج 2 التجسد ” للأنبا يوحنا
نوير ص 71.

(2) المرجع السابق ص 71.

(3) كتاب”
الاصطلاحان طبيعة أو أقنوم ” للقمص تادرس يعقوب ملطي ص 15.

(3) شرح تجسد
الابن الوحيد ص 18.

(4) المرجع
السابق ص 50.

(5) السابق

(6)
On The Holy Baptism 45.

(7) الخريدة
النفيسة في تاريخ الكنيسة ج 1: 469.

(8) كتاب ” أمانة القديس يعقوب البرادعي
” مخطوط بدير السريان (لاهوت).

(9) شرح تجسد
الابن الوحيد 18و19.

(10) التجسد
الإلهي للقديس كيرلس الكبير للأب متى المسكين ص 22 و 23. أنظر المسيح واحد ص 52 و
53.

(11) تاريخ
الفكر ج3: 107.

(12) السابق 108.

(13) شرح تجسد ص
20 و21.

(14) التجسد
الإلهي ص 24و25.

(15) التجسد
الإلهي ص 25.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى