علم المسيح

وظائف المسيح الثلاث



وظائف المسيح الثلاث

وظائف
المسيح الثلاث

إنّ
الانسجام الكامل في طبيعتي المسيح الإِلهية والبشرية الذي تعرضنا له في الفصل
السابق له موقع مركزي وحيوي خصَّ تحقيق جميع المقاصد الإِلهية المتعلقة بعالم
البشر، وليس فيما خصَّ عملية الخلاص وحدها. لكن تنفيذ عملية الخلاص هو جزء لا
يتجزأ من مجمل تلك المقاصد. صحيح أنّ فداء بني البشر هو المحور الأساسي الذي ترتكز
عليه مجموعة مخططات اللّه. وهذا طبيعي، لأن سقوط البشر بسبب عصيانهم لشريعة اللّه
هو المحك الذي أوجب ليس فقط عملية التجسد والخلاص، بل أيضاً جميع التأثيرات
الفرعية التي لزم أن يخطط اللّه لاستئصالها أو إصلاحها أو إعادة بنائها. أمّا
تحقيق المسيح لجميع هذه المقاصد الأزلية، وعلى رأسها فداء البشر، فقد جرى ضمن نطاق
وظائف أو أدوار رسمية ثلاث، إذ توجّب عليه أن يكون نبياً وكاهناً وملكاً.

 

أولاً:
المسيح النبي

كانت
وظيفة المسيح النبوية ضمن الخواص المميزة للمسيّا الذي تنبأت عنه أسفار العهد
القديم. والواقع أن النبوة الواردة بهذا الشأن كانت إحدى النبوات الواردة في الوحي
الإِلهي عن مجيء المسيح، وقد جاءت على لسان النبي موسى: «يُقِيمُ لَكَ
ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي.
لَهُ تَسْمَعُونَ» (التثنية 18: 15)، أمّا في العهد الجديد فقد أشار الرسول بطرس
ضمن إحدى مواعظه العامة مشيراً إلى هذه النُبوّة، ومطبّقاً إياها على المسيح:
«مُوسَى قَالَ لِلآبَاءِ: إِنَّ نَبِيّاً مِثْلِي سَيُقِيمُ لَكُمُ ٱلرَّبُّ
إِلٰهُكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمْ. لَهُ تَسْمَعُونَ فِي كُلِّ مَا
يُكَلِّمُكُمْ بِهِ» (أعمال الرسل 3: 22).

 

وتختصّ
وظيفة النُبوّة في الكتاب المقدّس بأولئك الذين تكلّموا للبشر بالنيابة عن اللّه.
من الطبيعي أن يكون المسيح ذا مكانة خاصة ضمن دائرة أنبياء اللّه. والواقع أن هذا
أمر حيوي بالنسبة لمهمة المسيح التي جاء إلى عالم البشر لتنفيذها. كان العديد من
الأنبياء الحقيقيين قد سبقوا مجيء المسيح، وجميعهم تكلّموا بكلام اللّه للشعب، لكن
ما أوحى اللّه لهم به كان ذا طبيعة تمهيدية وغير مكتملة. لقد كانوا جميعاً يرمزون
للمسيح النبي الأعظم، الذي كانوا قد أتوا من أجل التمهيد لمجيئه.

 

يعتقد
البعض أن اللّه أرسل مزيداً من الأنبياء الواحد تلو الآخر، لعدم نجاح الأنبياء
السابقين في إتمام مهماتهم، أو لسبب حاجة الناس لمن يذكّرهم بما سبق وأوحى به
للأنبياء الذين أتوا في أجيال سابقة. لكن ذلك ليس مفهوم الكتاب المقدس. إنّ أنبياء
اللّه لم يفشلوا، ولا واحد منهم، في تحقيق ما أراد اللّه تحقيقه عن طريقهم. أمّا
سبب تعدّد الأنبياء، وتوالي قدومهم من عند اللّه في حقبة العهد القديم، فمرجعه أنّ
لكل منهم دوره في التمهيد لمجيء المسيح. من المهم للغاية أن ندرك هذه الحقيقة،
لأنها ترينا أن الوحي الإِلهي بواسطة أنبيائه لا يعتريه تناقض أو نقصان، حتى أن
اللّه يسعى لإصلاح ما تهدّم بإرسال مزيد من الأنبياء، فاللّه لا يسمح بأي فشل في
تأدية أنبيائه لمهمتهم، ولا بأي تشويش يؤثر على ما ينقلونه منه للبشر الآخرين.
لذلك لا يجوز لنا الإعتقاد بأي شيء من هذا القبيل، إلاّ إذا كنا نعتقد أن اللّه
غير جدّي فيما يعمل، أو أنه غير قادر على إنجاز ما يريد عمله، وهو بالطبع تفكير
خاطئ وغير صحيح عنه. فاللّه وهو كلّي السيادة، أعطى عصمة خاصة لأنبيائه حين
دوَّنوا الوحي كاملاً بدون خطأ. وهو في نفس الوقت، بحكمته وسلطانه، عمل على حماية
ما دوَّنوه من التحريف أو الفقدان، عبر الأجيال.

 

لقد
أدّى كل نبي دوره بكل أمانة وجدارة، مدعوماً بقوة اللّه، في التحضير التدريجي
لمجيء المسيح. فلو أنّ اللّه كشف عن كل شيء دفعة واحدة لما كان من الممكن لبني
البشر استيعابه. من هنا كانت ضرورة الطبيعة التدريجية والتقدُّمية للوحي الإِلهي.
كما أن ذلك هو السرّ الحقيقي وراء ذلك الترابط والتكامل بين أدوار الأنبياء الظاهر
في أسفار الكتاب المقدس. إن المرء الذي يتأمّل بالتدقيق في مسرة هؤلاء الأنبياء لا
بد يرى أن الوحي الإلهي قد أخذ شكل هرم متدرّج الأطوار، بنى فيه كل نبي على ما سبق
وبناه أقرانه من قبله. أمّا قمة الهرم فيقف عليها المسيح مكمّل الوحي وخاتمه. ليست
هذه صورة خيالية أو تخميناً بشرياً، بل نجده مدوناً ضمن ما أوحى به اللّه نفسه، إذ
قال عن مؤمنيه على لسان الرسول بولس: «مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ ٱلرُّسُلِ
وَٱلأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ
ٱلّزَاوِيَةِ، ٱلَّذِي فِيهِ كُلُّ ٱلْبِنَاءِ مُرَكَّباً مَعاً
يَنْمُو هَيْكَلاً مُقَدَّساً فِي ٱلرَّبِّ» (أفسس 2: 20، 21).

 

بيد
أنّ هناك اختلافاً جوهرياً آخر بين دور المسيح كنبي وأدوار أنبياء اللّه. لقد تكلم
الأنبياء كبشر مسوقين من عند اللّه وليس من عندياتهم، بينما تكلّم المسيح كاللّه.
كانوا دائماً يصحبون رسالتهم بتعبيرات مثل: «هكذا يقول الرب» ولم تكن لديهم السلطة
ولا القدرة على قول أي شيء بالنيابة عن اللّه، إلاّ ما كان قد أَوحى به اللّه
إليهم. أمّا يسوع فقد كان يؤكد في رسالته على الدوام أنه يقول ما يقوله بسلطته هو.
عندما أشار لأقوال الأنبياء قال: «قيل لكم»، لكن عندما أشار إلى ما يقوله هو قال:
«أمّا أنا فأقول» أو «الحقّ الحقّ أقول لكم». تحدث الأنبياء بالنيابة عن اللّه،
أمّا المسيح فتحدث بالإِصالة عن نفسه وانطلاقاً من سلطته الشخصية، فأدهش معاصريه
الذين لاحظوا أنه يختلف عن الأنبياءورجال الدين، «لأنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ
كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَٱلْكَتَبَةِ» (متى 7: 29 ومرقس 1: 22)،
«لأنَّهُ بِسُلْطَانٍ يَأْمُرُ حَتَّى ٱلأَرْوَاحَ ٱلنَّجِسَةَ فَتُطِيعُهُ»
(مرقس 1: 27 ولوقا 4: 36). وقد صرّح يسوع أكثر من مرة بأن له سلطاناً يفوق ما هو
لأي بشر (متى 9: 6 ومرقس 2: 10 ولوقا 5: 24)، ثم أنه أعطى رسله الذين أوحى لهم
بكتابة الإنجيل بواسطة الروح القدس، أعطاهم السلطان في مهماتهم النبوية. (متى 10:
1 ومرقس 6: 7 ولوقا 9: 1). إذن فهو في مهمته النبوية عبّر عن سلطة لم تكن للأنبياء
البشر، بالإضافة إلى الحق الذي عبّر عنه في إعطاء السلطة للأنبياء البشر.

 

بالرغم
من أن يسوع أشار إلى نفسه كنبي، لديه رسالة خاصة من اللّه الآب (راجع لوقا 13: 33
ويوحنا 8: 26 – 28، 12: 49و 50، 14: 10
و24)، إلاّ أن أعماله
النبوية الخاصة لم تكن في حاجة إلى تأكيد شفوي على مركزه النبوي، فقد تنبّأ عن
المستقبل (متى 24: 3 – 35، لوقا 19: 41 – 44). ثم أنّ تعاليم المسيح كانت ذات
طبيعة نبوية في صبغتها الغالبة. كان من الطبيعي إذن أن يشير إليه الناس كنبي (متى 21:
11

و
46،
لوقا 7: 16، 24: 19، يوحنا 6: 14، 7: 40
و9: 17). وبالرغم من أن
مواصفات النُبوَّة الشائعة في حقبة العهد القديم انطبقت عليه من جهة علاقة
تصريحاته بالماضي والحاضر والمستقبل (راجع خروج 7: 1، تثنية 18: 18، عدد 12: 6 –
8، إشعياء 6، إرميا 1: 4 – 10، حزقيال 3: 1 – 4
و17)، إلاّ
أن المسيرة النبوية الجوهرية التي طغَت على خدمته كمَنَت في مقدرته الدائمة على
تفسير الشريعة الإلهية وتطبيقها على الحياة اليومية المعاصرة. أما تفسيره للشريعة
الإِلهية فقد كان مدعوماً دائماً بحياته الطاهرة، وسلوكه الذي لم تكن به شائبة
أخلاقية. في هذا لم تنطبق عليه مواصفات في مفهوم الوحي الإِلهي ليست مجرّد إدعاء
بالحصول على وحي أو رسالة من اللّه، لكنها مصحوبة بقوة معجزية خارقة تدل على أن
اللّه هو مصدرها، ثم أنها أيضاً مصحوبة بحياة نقية طاهرة يتحلّى بها النبي، دلالة
قاطعة على أن تكريسه للنبوة هو من اللّه. هذا بالطبع مغاير لادِّعاءات الكثيرين من
الأنبياء المزيفين، فهؤلاء اتَّسمت ادِعاءاتهم بخلّوها من القيمة المعجزية
الإِلهية. ومع أنهم ادَّعوا المقدرة على القيام بالمعجزات، فإن سجلاتهم تشهد أن
المعجزات التي ادَّعوها كانت من نسج خيالهم، ولم تكن من مصادر موثوق بها، لأن
المعجزات الحقيقية التي مصدرها قوة اللّه لا تحصل في الخفاء بل في العلن، وإلاّ
لما كان لحصولها أي معنى. بيد أن الحياة الأخلاقية للأنبياء الكذبة عبر التاريخ
تتَّسم بفساد جنسي ورغبة قوية في التسلُّط على الآخرين، بالإضافة إلى الخوف الدائم
من المعارضين والسعي للبطش بهم. أمّا الأنبياء الحقيقيون والذين كان يسوع مثالهم
الأسمى فإن تقواهم الحقيقية لم تكن تخفى على أحد. ثمّ أنهم عبّروا عن ثقة دائمة في
اللّه، وعن رغبة دائمة في طاعة شريعته وأوامره الخاصة، حتى وإن قادهم ذلك إلى
الموت. أما ثقتهم في اللّه فقد دلّت عليها حياة التضحية التي مارسوها كل يوم، لأنه
لم يكن يهمّهم إرضاء البشر على الإطلاق بل إرضاء اللّه في كل ما يقولونه ويعملونه
ويفكرون فيه. أما المعجزات التي صحبت خدمتهم فلم يستعملوها لنيل ربح شخصي، بل على
العكس نراهم يقشعرون عندما يحاول أحد أن يعطيهم سلطة إلهية، أو عندما يعتقد البعض
أن معجزاتهم تلك ناتجة عن مقدرة كامنة فيهم.

 

من
هنا وجب علينا أن نتذكر أن يسوع لم يكن مجرد نبي عادي، فإن تفوّقه المعجزي
والأخلاقي لم يكن الفارق الجوهري الوحيد، لأنه بعكس باقي أنبياء الوحي الإِلهي
تمتع بمركزه وخدمته النبويتين من قبل مجيئه إلى عالم البشر. إن «روح المسيح» هو
الذي دلَّ الأنبياء وقادهم وأوحى إليهم من قَبْل مجيئه (1 بطرس 1: 10 – 12).

 

كما
أن مهمة المسيح النبوية امتدّت إلى المستقبل، حتى بعد عودته إلى يمين العظمة في
السماء، لأنها كانت ذات فعالية قبل وأثناء تجسّده. فهو إذ صعد إلى السماء واصل
خدمته النبوية عبر رسله الأطهار (راجع أعمال الرسل 1: 1). ثم أنه لا يزال يقوم
بمهمته النبوية تلك بواسطة الروح القدس المعزِّي الذي أرسله إلى كنيسته لينعشها
ويقويها ويطبق في حياتها مطالب كلمته الطاهرة (يوحنا 14: 26، 16: 12 – 14).

 

ثانياً:
المسيح الكاهن

كانت
وظيفة المسيح الكهنوتية أيضاً ضمن الخواص المميزة للمسيّا الذي تنبأت عنه أسفار
العهد القديم، فقد قيل عنه: «أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى ٱلأَبَدِ» (مزمور 110:
4). كما قالت النبوة إنه: «يَبْنِي هَيْكَلَ ٱلرَّبِّ، وَهُوَ يَحْمِلُ
ٱلْجَلالَ وَيَجْلِسُ وَيَتَسَلَّطُ عَلَى كُرْسِيِّهِ، وَيَكُونُ كَاهِناً
عَلَى كُرْسِيِّهِ» (نبوة زكريا 6: 13). أما الوصف الكامل لمركزه وخدمته الكهنوتية
فقد ورد قبل مجيئه إلى عالم البشر بنحو سبعمائة سنة، وذلك على لسان النبي إشعياء
في الفصل الثالث والخمسين من نبوّته التي تُعتبر من أجمل سجلات الوحي الإِلهي.

 

وتُعتبر
وظيفة الكهنوت في الكتاب المقدس موازية لوظيفة النبّوة. فبينما يقوم النبي بنقل
رسالة من اللّه إلى البشر، أو بالتكلُّم للبشر بالنيابة عنه، فإن الكاهن هو الشخص
الذي يقوم بتمثيل البشر أمام اللّه، وذلك إما بتقديم ذبائحهم للّه بالنيابة عنهم،
وإما بنقل صلواتهم وطلباتهم إلى اللّه. إن ذلك بالطبع يعود لفقدان البشر المقدرة
على الوقوف أمام اللّه بأنفسهم بسبب فسادهم وخطيتهم. لأجل هذا السبب رتّب اللّه
وجود الكهنة من بين البشر الذين أهّلهم وأعدّهم للقيام بتلك المهمة الكهنوتية. فلم
يكن الشخص العادي يقدر أن يقترب من قدس الأقداس داخل الهيكل حيث تُقدَّم الذبائح
والصلوات الشفاعية الخاصة، لأن الإِنسان في حالته الساقطة مفصول أخلاقياً وروحياً
عن اللّه، وهو ذو طبيعة مغايرة لطبيعة اللّه الطاهرة، لذلك ليس باستطاعة الإنسان
القدوم إلى محضر اللّه بنفسه. أما الكهنة الذين أقامهم اللّه عبر أجيال حقبة العهد
القديم فقد أُعطوا الحق في تمثيل بني البشر أمام المحضر الإِلهي، فكان الكاهن يأخذ
على نفسه مهمة إعادة تلك العلاقة الطبيعية التي كانت بين اللّه وبني البشر إلى ما
كانت عليه قبل السقوط، ولو بشكل جزئي ومؤقّت. وهكذا أُوقعت على الكاهن مسؤولية
الاعتراف العلني بخطية وعصيان من يمثّلهم أمام اللّه، كما أنه يقوم بتقديم الذبائح
الرمزية التي تعبّر عن الرغبة في التوبة عن حالة التمرّد تلك والتكفير عنها.

 

إذن
تقع على عاتق الكاهن مهمتان: تمثيل بني البشر، والتشفُّع فيهم أمام اللّه. في
العهد الجديد نرى أن كهنة العهد القديم لم تكن مهمّتهم رغم عظمتها وفعاليتها
وجدّيتها سوى مهمّة رمزية، ترمز إلى الكاهن الأعظم الذي سعى هؤلاء الكهنة للتشبُّه
به. إن المسيح هو المرموز إليه في الذبائح والصلوات التي قاموا بتقديمها. لعلّ
أوضح ما ورد في الوحي الإِلهي عن هذا الأمر هو في المضمون الكلّي للرسالة إلى
العبرانيين، التي أكدت تفَوُّق مركز المسيح الكهنوتي، وألوهيته، وتفَوُّق مركزه
النبوي على كافة الأنبياء. فبينما أشارت كتب العهد الجديد الأخرى إلى عمل المسيح
الكهنوتي (راجع مرقس 10: 45، يوحنا 1: 29، رومية 3: 24
و25، 1
كورنثوس 5: 7، غلاطية 1: 4، أفسس 5: 2، 1 يوحنا 2: 2، 1 بطرس 2: 24
و3: 18)، فإن
دور الرسالة إلى العبرانيين الخاص هو في شرح ذلك العمل وتوضيح أهميته. كما أنها لا
تدع مجالاً للشك في أحقّية المسيح للقبه الكهنوتي المجيد. في الرسالة إلى
العبرانيين دُعي المسيح «رئيس كهنة اللّه» (3: 1)
و«ورَئِيسُ
كَهَنَةٍ عَظِيمٌ» (4: 14)
و«كَاهِنٌ إِلَى ٱلأَبَدِ» (5: 6) و«رَئِيسَ
كَهَنَةٍ إِلَى ٱلأَبَدِ» (6: 20)
و«رَئِيسُ كَهَنَةٍ…
قُدُّوسٌ بِلا شَرٍّ وَلا دَنَسٍ، قَدِ ٱنْفَصَلَ عَنِ ٱلْخُطَاةِ
وَصَارَ أَعْلَى مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (7: 26)
و«رَئِيسَ
كَهَنَةٍ… قَدْ جَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ ٱلْعَظَمَةِ فِي
ٱلسَّمَاوَاتِ خَادِماً لِلأَقْدَاسِ وَٱلْمَسْكَنِ
ٱلْحَقِيقِيِّ ٱلَّذِي نَصَبَهُ ٱلرَّبُّ لا إِنْسَانٌ» (8: 1،
2).

 

ومثلما
تميّز يسوع كنبي من بين جميع الأنبياء، تميّز أيضاً عن جميع الكهنة. هذا ما نراه
في جانبي خدمته الكهنوتية بوضوح: أي في عمله الكفاري كفادي البشر والبديل الحقيقي
عنهم أمام اللّه، وفي عمل وساطته وخدمته الشفاعية كالممثل الأوحد لكنيسته
المفديَّة، أمام اللّه.

 

ويطرح
الوحي الإِلهي أمامنا حقيقة راسخة لا نزاع عليها بالنسبة إلى عمل المسيح الكفاري،
وهي أنه هو وحده الذي كان مؤهَّلاً لأن يكون فادي البشر، والذي باستطاعته معالجة
معضلة سقوطهم وخطيتهم. وما كانت ذبائح العهد القديم سوى رموز يتذكر بها البشر
خطيتهم، ويتطلعون إلى قدوم ذلك المخلّص الذي يذبح قانونياً بالنيابة عنهم

 

«لأنَّ
أُولٰئِكَ بِدُونِ قَسَمٍ قَدْ صَارُوا كَهَنَةً وَأَمَّا هٰذَا
فَبِقَسَمٍ مِنَ ٱلْقَائِلِ لَهُ: أَقْسَمَ ٱلرَّبُّ وَلَنْ يَنْدَمَ،
أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى ٱلأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ. عَلَى
قَدْرِ ذٰلِكَ قَدْ صَارَ يَسُوعُ ضَامِناً لِعَهْدٍ أَفْضَلَ.
وَأُولٰئِكَ قَدْ صَارُوا كَهَنَةً كَثِيرِينَ لأنَّ ٱلْمَوْتَ
مَنَعَهُمْ مِنَ ٱلْبَقَاءِ، وَأَمَّا هٰذَا فَلأنَّهُ يَبْقَى إِلَى
ٱلأَبَدِ، لَهُ كَهَنُوتٌ لا يَزُولُ. فَمِنْ ثَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ
أَيْضاً إِلَى ٱلتَّمَامِ ٱلَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى
ٱللّٰهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ.
لأنَّهُ كَانَ يَلِيقُ بِنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ مِثْلُ هٰذَا، قُدُّوسٌ بِلا
شَرٍّ وَلا دَنَسٍ، قَدِ ٱنْفَصَلَ عَنِ ٱلْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى
مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ ٱلَّذِي لَيْسَ لَهُ ٱضْطِرَارٌ كُلَّ
يَوْمٍ مِثْلُ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ أَنْ يُقَدِّمَ ذَبَائِحَ أَّوَلاً
عَنْ خَطَايَا نَفْسِهِ ثُمَّ عَنْ خَطَايَا ٱلشَّعْبِ، لأنَّهُ فَعَلَ
هٰذَا مَرَّةً وَاحِدَةً، إِذْ قَدَّمَ نَفْسَهُ فَإِنَّ ٱلنَّامُوسَ
(أي الشريعة) يُقِيمُ أُنَاساً بِهِمْ ضُعْفٌ رُؤَسَاءَ كَهَنَةٍ. وَأَمَّا
كَلِمَةُ ٱلْقَسَمِ ٱلَّتِي بَعْدَ ٱلنَّامُوسِ فَتُقِيمُ
ٱبْناً مُكَمَّلاً إِلَى ٱلأَبَدِ» (عبرانيين 7: 21 – 28). إذن ذبيحة
المسيح تختلف عن ذبائح الآخرين من عدة جوانب:

 

أولاً:
هي ذبيحة حقيقية. فالذبائح السابقة لم تكن لها سوى فائدة واحدة، وهي أنها كانت
ترمز إليه «لأنَّهُ لا يُمْكِنُ أَنَّ دَمَ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ يَرْفَعُ
خَطَايَا… تِلْكَ ٱلذَّبَائِحَ عَيْنَهَا، ٱلَّتِي لا تَسْتَطِيعُ
ٱلْبَتَّةَ أَنْ تَنْزِعَ ٱلْخَطِيَّةَ» (عبرانيين 10: 4 – 11)، أما
يسوع فكان إنساناً طاهراً، ولا يحل محل الإِنسان سوى إنسان، «لِذٰلِكَ
عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ
تُرِدْ، وَلٰكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَد» (عبرانيين 10: 5).

 

ثانياً:
إن ذبيحة المسيح هي ذات مدى غير محدود، فهو كالكاهن الإِلهي غير المحدود قدّم
ذبيحة غير محدودة الفعالية، «لأنَّ ٱلْمَسِيحَ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى
أَقْدَاسٍ مَصْنُوعَةٍ بِيَدٍ أَشْبَاهِ ٱلْحَقِيقِيَّةِ، بَلْ إِلَى
ٱلسَّمَاءِ عَيْنِهَا، لِيَظْهَرَ ٱلآنَ أَمَامَ وَجْهِ ٱللّٰهِ
لأجْلِنَا. وَلا لِيُقَدِّمَ نَفْسَهُ مِرَاراً كَثِيرَةً، كَمَا يَدْخُلُ رَئِيسُ
ٱلْكَهَنَةِ إِلَى ٱلأَقْدَاسِ كُلَّ سَنَةٍ بِدَمِ آخَرَ» (عبرانيين
9: 24 – 25).

 

ثالثاً:
إن ذبيحة المسيح هي أبدية الأثر. «فَبِهٰذِهِ ٱلْمَشِيئَةِ نَحْنُ
مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً…
فَبَعْدَمَا قَدَّمَ عَنِ ٱلْخَطَايَا ذَبِيحَةً وَاحِدَةً، جَلَسَ إِلَى
ٱلأَبَدِ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ،… لأنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ
قَدْ أَكْمَلَ إِلَى ٱلأَبَدِ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (عبرانيين 10: 10، 12،
14).

 

إلى
جانب الذبيحة العظمى التي قدّمها يسوع كفّارة عن خطايا الكثيرين، فإن وظيفته
الكهنوتية لها جانب آخر هو شفاعته بالنيابة عن مفدييه. في هذا الصدد يقول الرسول
يوحنا: «إِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ (أي من المؤمنين) فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ
ٱلآبِ، يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ ٱلْبَارُّ» (1 يوحنا 2: 1). والشفيع
هو الشخص الذي يُعِين المذنبين ويدافع عنهم، وهو محامي الدفاع أمام محكمة العدالة
الإِلهية. بالنسبة للمؤمنين «مَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَدِينُ؟ اَلْمَسِيحُ هُوَ
ٱلَّذِي مَاتَ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ قَامَ أَيْضاً، ٱلَّذِي هُوَ
أَيْضاً عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَيْضاً يَشْفَعُ فِينَ»
(رومية 8: 34). «هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ» (عبرانيين 7:
25). إنه «… يَظْهَرَ ٱلآنَ أَمَامَ وَجْهِ ٱللّٰهِ» لأجل
المؤمنين (عبرانيين 9: 24). أمّا عظمة شفاعة المسيح فقاعدتها هي عظمة ذبيحته الكفارية.
أمّا نتيجة تلك الشفاعة النهائية فهي في مجيئه الثاني، «هٰكَذَا
ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً، بَعْدَمَا قُدِّمَ مَرَّةً لِكَيْ يَحْمِلَ خَطَايَا
كَثِيرِينَ، سَيَظْهَرُ ثَانِيَةً بِلا خَطِيَّةٍ لِلْخَلاصِ لِلَّذِينَ
يَنْتَظِرُونَهُ» (عبرانيين 9: 28).

 

ثالثاً:
المسيح الملك

من
الطبيعي جداً أن يكون للمسيح نصيبه الأزلي في التسلُّط على الكون، وهو الإِلهيّ
الطبيعة. ذلك هو حقّه الإِلهي. لكن المسيح له مكانته الملكية الخاصة بصفته الوسيط
بين اللّه والناس، مخلّص البشر الخطاة. إذن مَلَكية المسيح التي نحن بصددها الآن
تتعلق به كابن اللّه المتجسّد فهو في طبيعته البشرية إنسان أعطي سلطة خاصة لتكميل
ملكوته الروحي في الكنيسة، وذلك بحفظها وحمايتها وقيادتها نحو المجد الأبدي.

 

هذا
من جهة، ومن جهة ثانية فإن المسيح أيضاً بصفته الفادي والوسيط، لديه سلطة خاصة
كملك على كل المخلوقات، بما في ذلك الأبالسة والبشر غير المؤمنين. هذا بالطبع يرجع
إلى مَلَكيته الفريدة في النهاية عندما «يضع جميع أعدائه موطئاً لقدميه» (مزمور
110: 1)، وحين يكون قد أخضع الكل وصار الكل في الكل. (راجع رسالة كورنثوس الأولى
15: 24 – 28).

 

إن
الجانب الأول من ملكية المسيح إذن يرتبط بعلاقته بالمفديين. فهو ملكهم الروحي، وله
سلطة على خلاص وفداء النفس. تلك المسؤولية كانت ضمن مواصفات المسيح المنتظر التي
كان قد سبق للمشورة الإلهية وقضت بها: «أَمَّا أَنَا فَقَدْ مَسَحْتُ مَلِكِي
عَلَى صِهْيَوْنَ جَبَلِ قُدْسِي» (مزمور 2: 6). هذا هو الوعد المُعطَى للملك
داود، الذي كان رمزاً للمسيح الملك الحقيقي. إن الوحي الإلهي يقول في هذا الصدد:
«أَقْسَمَ ٱلرَّبُّ لِدَاوُدَ بِٱلْحَقِّ، لا يَرْجِعُ عَنْهُ: مِنْ
ثَمَرَةِ بَطْنِكَ أَجْعَلُ عَلَى كُرْسِيِّكَ» (مزمور 132: 11). لأجل هذا السبب
دُعي يسوع «ملك اليهود»
و«ابن داود»، ولعل هذا هو السبب الرئيسي
من وراء ما تضمنه الوحي الإلهي لتلك القوائم الطويلة عن أنساب المسيح، بسبب ضرورة
إثبات صلة قرابته بالملك داود. وقد سبق الوحي الإلهي ووصف المسيح بأن «تكون
الرياسة على كتفه…. لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته،
ليثبتها ويعضدها بالحق والبر، من الآن إلى الأبد…» (إشعياء 9: 6 – 7، راجع أيضاً
ميخا 5: 2 وزكريا 6: 13). أمّا بشارة الملاك لمريم فقالت عن المسيح الموعود
بقدومه: «هٰذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ يُدْعَى،
وَيُعْطِيهِ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ،
وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلا يَكُونُ لِمُلْكِهِ
نِهَايَةٌ» (لوقا 1: 32 – 33). هذا ما أقرّت به الجماهير الغفيرة عندما هتفت
قائلة: «مُبَارَكٌ ٱلْمَلِكُ ٱلآتِي بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ»
(لوقا 19: 38)، أمّا يسوع فقد أشار إلى طبيعة مملكته تلك عندما دحض أقوال زعماء
اليهود الذين اتّهموه بالتآمر على نظام الحكم الروماني، فقال: «مَمْلَكَتِي
لَيْسَتْ مِنْ هٰذَا ٱلْعَالَمِ…» (يوحنا 18: 36).

 

هذا
الجانب الروحي لمَلكية المسيح هو في موضعه المَلكي على شعبه المؤمن. وهذه الملكية
تتخذ إطاراً روحياً على قلوب وحياة المؤمنين، ولها بُعد روحي هو خلاص الخطاة. أمّا
وسائط هذا الجانب من مُلكه فهي روحية أيضاً: فهو يحكم بواسطة كلمته وروحه. وهو
يعبّر عن مُلكه هذا بواسطة تجميع وحكم وحماية وتكميل كنيسته. إن مُلك المسيح هذا
يُسمّى في العهد الجديد «ملكوت الله» أو «ملكوت السموات». ومهما تكن التسمية فإن
أعضاء الملكوت الروحي الذي يملك عليه المسيح هم المواطنون أعضاء كنيسته الحقيقية
المفدية التي اقتناها بدمه الطاهر (راجع أعمال الرسل 20: 28).

 

لكن
للتأثير الروحي لمملكة المسيح، الذي هو ملكوت النور، بُعد أوسع من حياة المؤمنين.
فحيثما وُجدت كنيسته وتزايد تأثيرها على المجتمع، يُلاحظ نمو غير عادي للوفاء
والمحبة والعدالة وروح الطهارة والقداسة والجد والتضحية والسلام. هذا ما يعكسه
مَثَلاَ الزارع والشبكة اللذان ضربهما المسيح نفسُه (متى 13: 24 – 30
و47 – 50).
فالمسيح عندما يملك على قلب البشر ينقلهم من ملكوت الظلمة، حيث هم بالطبيعة
مستعبَدين للشرّ، إلى ملكوت النور حيث كل جمال وحُسن وصلاح (متى 12: 28، لوقا 17:
21، رسالة كولوسي 1: 13)، وإذ يرى الناس الحياة متغيرة في هؤلاء والمخلوقة من جديد
بواسطة روح المسيح، يمجدون الله، (متى 5: 16). من هنا كان امتداد تأثير ملكوت
المسيح.

 

لكن
ملكوت المسيح المعطَى له بعد التجسد امتد بشكل أوسع إِثر قيامته، لذلك صرّح
لتلاميذه قائلاً: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى
ٱلأَرْضِ» (متى 28: 18). كان هذا جزءاً لا يتجزأ من مقاصد الله الأزلية
وعمله «ٱلَّذِي عَمِلَهُ فِي ٱلْمَسِيحِ، إِذْ أَقَامَهُ مِنَ
ٱلأَمْوَاتِ، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ،
فَوْقَ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ وَسِيَادَةٍ، وَكُلِّ ٱسْمٍ
يُسَمَّى لَيْسَ فِي هٰذَا ٱلدَّهْرِ فَقَطْ بَلْ فِي
ٱلْمُسْتَقْبَلِ أَيْضاً، وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ،
وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْساً فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، ٱلَّتِي هِيَ
جَسَدُهُ، مِلْءُ ٱلَّذِي يَمْلَأُ ٱلْكُلَّ فِي ٱلْكُلِّ»
(أفسس 1: 20 – 23). ومع أنه قبل تجسده كان يتمتع بمثل هذا السلطان على كل شيء،
إلاّ أنه بعد قيامته رسّخ بشكل جديد مُلكه على الكل، وهو في ذلك يتحكّم في جميع
ظروف مسار التاريخ البشري بأسره، لأجل تكميل عمله الكفّاري، ولأجل حماية كنيسته من
كل خطر من شأنه عرقلة مسيرتها الروحية نحو الكمال الذي أراده لها.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى