علم المسيح

عصمة المسيح



عصمة المسيح

عصمة
المسيح

التعرض
لأمر عصمة المسيح وعدم ارتكابه لأي خطأ أو شرّ، وتوافر كافة مزايا الكمال والطهارة
والقداسة في حياته، هو أمر في غاية الحيوية بالنسبة للعقيدة المسيحية عن المسيح
بمجملها. وعصمة المسيح هي العمود الفقري لصموده النهائي وثبات مؤهلاته لأن يكون
وسيطاً حقيقياً بين اللّه والناس. فلو أنه أخفق ولو في زلّة واحدة خلال حياته على
الأرض لتهدّم كل البناء الذي جاء لإقامته.

 

عصمة
المسيح قبل كل شيء هي المحك الأساسي لكون المسيح ذا طبيعة إلهية. ثم أنها الدليل
على أنه كان الإِنسان الصالح الوحيد الذي بمقدرته، المبنيَّة على الطهارة والكمال،
تمكّن من حمل عقاب الآخرين. إضافة إلى ذلك فإن قيامة المسيح من الموت ما كانت
ممكنة إطلاقاً لو لم يتمتع المسيح بتلك العصمة المطلقة عن الخطأ. لعل تلك الحقائق
هي من أكثر إعلانات الإنجيل نصاعة وجلاء.

 

ومن
المناسب أن نبدأ في عرض موضوعنا هذا بالنظر إلى أوصاف المسيّا التي قدَّمتها
نبوّات أنبياء وأسفار العهد القديم. فقد كان من المفروض فيه أن يكون تقيَّ اللّه
الذي لم ير فساداً (مزمور 16: 10) وأن يكون عمانوئيل وليد العذراء الذي يعرف «عبد
اللّه الذي يعقل الخير» (إشعياء 7: 15، 16)،
و«عبد اللّه
الذي يَعْقِلُ، يَتَعَالَى وَيَرْتَقِي وَيَتَسَامَى جِدّاً… َبِحُبُرِهِ
شُفِينَا… وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا… عَلَى أَنَّهُ
لَمْ يَعْمَلْ ظُلْماً، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ… ٱلْبَارُّ…»
(إشعياء 53). من هنا كان يجب على الملاك الذي بشرّ مريم أن يُعرّفها أن المولود
منها هو « ٱلْقُدُّوسُ… ٱبْنَ ٱللّٰهِ» (لوقا 1: 35).

 

ولم
تكن الشهادة لعصمة المسيح في الوحي الإلهي مجرد تصريحات، بل أنها كانت مدعمة
بحقائق ملموسة وظاهرة للعيان، وموضوعية لدرجة أذهلت من عاصروا المسيح، ولفتت
انتباههم. هذا مهم للغاية، لأن الكثيرين أُخذوا بمعجزات المسيح لدرجة أنهم اعتقدوا
أن ذلك هو السبب الجوهري الوحيد الذي سحر الجموع التي تبعته وآمنت به. صحيح أنّ
الأغلبية الساحقة بين الذين تبعوا المسيح في مطلع خدمته اجتذبتهم القوة الخارقة
التي سيطر فيها على العوامل الطبيعية، لكن الواقع أن ذلك لم يكن العامل الوحيد
لاجتذاب أي من أتباعه ورسله الذين التصقوا به وكرّسوا حياتهم لخدمته. لقد كان
لأخلاقه لمعان وطهارة، وكان لأسلوب ودوافع حياته أعظم الأثر وأعمق الوَقْع على
هؤلاء، بل لعلّ ذلك هو العامل وراء حياة الطهارة والقداسة التي مارسها ملايين من
المسيحيين عبر الأجيال.

 

ولم
تأت الشهادة لعصمة المسيح من ملائكة اللّه والمؤمنين فحسب، بل أيضاً من بعض
أعدائه. مثال ذلك ما ورد على لسان الخائن يهوذا الذي أسلمه للموت مقابل حفنة نقود.
فهو إذ شعر بالندم على عمله المرذول هذا، ألقى بتلك النقود على الأرض أمام الذين
أعطوها له وقال: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئ» (متى 27: 4). ثم
أن زوجة الحاكم بيلاطس التي أزعجها منامها، خبر القبض على يسوع وتسليمه لسلطان
زوجها للمحاكمة، قالت لزوجها: «إِيَّاكَ وَذٰلِكَ ٱلْبَارَّ» (متى 27:
19)، وبيلاطس نفسه، إذ أدرك سمو المسيح وطهارته، وبعد أن منعه جُبْنه وخوفه من
اليهود على مركزه من إطلاق سراح المسيح قال لهم: «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ
هٰذَا ٱلْبَارِّ» (متى 27: 24)، أما ذلك المذنب الذي كان أحد الاثنين
اللذين صُلبا معه، إذ أدرك براءة وطهارة المسيح، قال: «أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ،
لأنَّنَا نَنَالُ ٱسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا، وَأَمَّا هٰذَا فَلَمْ
يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ» (لوقا 23: 41). كما أنّ القائد الروماني
للمجموعة العسكرية التي أشرفت على صلبه، إذ صعقته حقيقة السمو الأخلاقي والأدبي
للمسيح المصلوب، قال: «حَقّاً كَانَ هٰذَا ٱبْنَ ٱللّٰهِ»
(متى 27: 54).

 

لكن
شهادة المؤمنين والرسل لعصمة المسيح لا تقلّ أهمية عن تصريحات هؤلاء، خاصة وهم
مجموعة الناس الذين تقرّبوا إليه وتعرّفوا على ما قد نسميه بحياته الخاصة. وهم
بالطبع أول من تقع عليه مسؤولية الردّ على ادعاءات المعارضين، ولذلك كان لزاماً
عليهم أن يكونوا الأكثر حرصاً على عدم التورُّط في تصريحات أو أقوال يستعملها
أعداؤهم لمحاولة إثبات ضلالهم. ومع ذلك نجد أن التردد لم يطرأ على بالهم وهم
يؤكدون عصمة سيدهم عن الخطأ، فقال الرسول بطرس عنه: «أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ
ٱبْنُ ٱللّٰهِ ٱلْحَي» (يوحنا 6: 69).
و«لَمْ
يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلا وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ» (1بطرس 2: 22)، وقال الرسول
يوحنا عنه: «لَيْسَ فِيهِ خَطِيَّةٌ» (1 يوحنا 3: 5). أما كاتب الرسالة إلى
العبرانيين فقال: «مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا (ولكن) بِلا خَطِيَّةٍ»
(4: 15)، وقال: «بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلا عَيْبٍ»
(9: 14). ثم يأتي دور الرسول بولس، مضطهد أتباع المسيح، الذي اهتدى بعد ذلك وقال
عن المسيح: «لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً» (2كورنثوس 5: 21).

 

ويسجّل
لنا الوحي الإِلهي كيف وضع المسيح نصب عينيه منذ البداية الطاعة الكاملة والمطلقة
لشريعة اللّه، وكيف أنه لم يتزحزح عن إصراره هذا حتى قاده ذلك إلى الموت (فيلبي 2:
8). وتدل تصريحات المسيح نفسها على وعيه الدائم بضرورة القيام دوماً بما يُرضي
اللّه (يوحنا 9: 4). كان يسوع في صراع مستمر ضد مغريات إبليس الهادفة لإسقاطه
وتفشيل مهمته الخلاصية، والواقع أنّ مواجهته المباشرة مع عدو الخير كانت جزءاً لا
يتجزأ من عملية التحضير لخدمته الجهارية، بل إنها كانت مفتاح تلك الخدمة، لأنها
كانت تمثّل الحاجز الرئيسي الذي كان يجب عبوره قبل البدء في تلك الخدمة. عندما
نقرأ ما دوّنه الوحي الإِلهي بهذا الخصوص نرى أن محاولات إغراء إبليس ليسوع في
البرية كانت مبنيَّة على نفس عناصر الإغراء التي تعرّض لها أبوانا آدم وحواء (قارن
تكوين 3: 1 – 7 مع لوقا 4: 1 – 13). تلك العناصر تركزت على شهوة الجسد (الأكل) وشهوة
العيون (المنظر الخارجي المغري للأشياء) وشهوة العظمة الاجتماعية (أي تحسين وضع
الفرد ومركزه الاجتماعي). وبينما الرغبة في أكل ثمرة الشجرة المحرّمة والتمتع
بمظهرها الجميل، والسعي للوصول إلى مركز الإله الخالق (الذي وعدت الحية حواء به)
كانت قد أضعفت صمود حواء وآدم وأسقطتهما في العصيان، فإن المسيح استطاع، ورغم شدة
جوعه بعد أربعين يوماً من الصوم والضعف الجسدي، أن يردّ إبليس ويقهره بعد كل هجوم.
لم يثبت آدم وحواء في كلمة اللّه ومواعيده، وصدّقا تشكيك الشيطان في صدقها. أما
يسوع فكان متسلحاً بكلمة الحق الموحى بها من اللّه، التي بواسطتها صدّ كل تيارات
الهجوم الشيطانية. عندما عاود إبليس الكرَّة الهجومية محاولاً إغراء يسوع عن تكميل
مهمته الخلاصية، كان يسوع واعياً لذلك، ووقف له بالمرصاد. وقد أخبر يسوع تلاميذه
بذلك قائلاً: «… رَئِيسَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ (أي الشيطان) يَأْتِي
وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ» (يوحنا 14: 30).

 

ولعل
أبرز وأعظم ما ورد في الوحي الإِلهي من أدلّة على عصمة يسوع عن الخطأ، ما قاله هو
في مواجهته للقيادات اليهودية الدينية التي بنَتْ حياتها على تقوى خارجية زائفة
مفعمة بالرياء. فبعد أن قال لهم إنهم ينتسبون إلى إبليس الكذَّاب والقتّال، وإنهم
ينفذون شهواته الشريرة، نراه يتحداهم مشيراً لعصمته، وإلى تلك الهُوَّة الأخلاقية
والروحية الساحقة التي تفصله عنهم، فيقول: «مَنْ مِنْكُمْ (يستطيع أن)
يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟» (يوحنا 8: 46). والمسيح هنا لم يكن يقصد التمييز
بين كماله وعصمته، وبين شرّ وفساد ورياء هؤلاء القادة فحسب، بل أنه طرح وبدون تردد
حقيقة تميُّزه عن كافة الجنس البشري، بذلك الكمال وتلك العصمة.

 

صحيح
أن يسوع في تجسُّده خضع لكافة مغريات وتجارب السقوط في العصيان التي يتعرض لها
البشر، لكنه هو وحده لم يسقط، وهو وحده لم يكن من الممكن أن يفشل. لقد كان من
المستحيل أن يرتكب خطية، لأنه وهو في طبيعة بشرية محدودة كان لا يزال يتمتع بطبيعة
إلهية. والله لا يمكن أن يرتكب خطأ. هذا أمر جوهري للغاية بالنسبة لتأهله لأن يأخذ
على عاتقه تلك المهمة الخلاصية الهامة التي حملها. من هنا كان لعصمته وكماله حق
تحمُّل نتيجة خطية عدد لا يُحصى من بني البشر. من هنا أيضاً مثَّل انتصاره على
الموت، الانتصار على الخطية التي تقودهم إلى الموت وبالتالي تأمين الحياة الأدبية
الأكيدة لهم، وليس مجرد الوفاء بمتطلبات العدالة الإلهية بالنيابة عنهم. (راجع 1
كورنثوس 15: 51 – 58).

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى