اللاهوت العقيدي

الباب السادس



الباب السادس

الباب السادس

الإفخارستيا وليتورجيتها في القرنين الأول والثاني
في الكنيسة عامة

مقدِّمة

إن كان يتحتم علينا
الآن أن نبحث عن تسجيلات للإفخارستيا الأُولى خارج أسفار العهد الجديد، فعلينا أن
نواجه أولاً السؤال الهام في هذا البحث:

مقالات ذات صلة

هل كانت
توجد ليتورجيا خارج الإنجيل لخدمة الإفخارستيا محدودة ومسجَّلة بألفاظها في
الكنيسة الأُولى أيام الرسل يتبعها كافة الرسل ويلتزم بها كل مَنْ أقاموهم رؤساء
في الكنائس في أيامهم ومن بعدهم؟

للإجابة على هذا السؤال
يلزم أن نضع بعض النصوص أمام القارئ ليستقرئ منها الجواب:

1    من
«الديداخي»
(سنة 100م) (مدوَّن في نهاية القرن الأول
ومادته تشمل عصراً أسبق):

[اسمحوا للأنبياء أن
يقدِّموا صلوات شكر (في الأغابي والإفخارستيا) بقدر ما يشاءون]([1]).

2
من خدمة يوم الأحد للشهيد يوستين
(سنة 150م):

[وبعد أن
نفرغ من صلواتنا، يُقدَّم الخبز والخمر والماء، والمترئِّس يقدِّم صلوات وشكراً
(إفخارستيا)
على قدر ما يستطيع، والشعب
يعبِّر عن موافقته بقوله آمين]
([2]).

3-    من تعاليم الرسل في قدَّاس رسامة الأسقف: (مدوَّن سنة 325م ومادته من القرن الثالث):

[وهكذا
فليصلِّ مقدِّم الكهنة على الذبيحة ويبتهل أن ينزل الروح القدس عليهم وعلى الخبز
ليصير جسد المسيح والكأس ليصيِّره دماً للمسيح.
وإذا كملت
الصلوات التي يجب أن يقولها،
ليتقرَّب الأسقف]([3]).

ويُلاحَظ
هنا أنه لم يحدِّد الصلوات بل تركها للأسقف أن يقول ما يجب أن يقوله في هذه الحالة.

4
من هيبوليتس (تقليد الرسل) سنة 215م:

[والأسقف
يقدِّم صلاة الشكر على حسب النموذج السابق، ولكن
ليس الأمر
إلزاماً عليه أن يتلو نفس الكلمات التي قلناها، كأنه يلزمه أن يحفظها حتى يستطيع
أن يقولها غيباً عن ظهر قلب في تقديمه الإفخارستيا لله، ولكن على كل واحد أن
يصلِّي بقدر استعداده، فإذا كان قادراً أن يصلِّي كما يليق صلاة منطلقة وقوية فهذا
حسنٌ،
ولكن إذا كان يصلِّي مردِّداً صلاة حسب نموذج ثابت، فلا مانع له من
أحد. فقط ينبغي أن تكون صلاته صحيحة، وحسب التقليد]
([4]).

وهكذا
نستطيع الآن أن نقول إنه بالرغم من أن
“أفعال”
الإفخارستيا الأربعة كانت محددة ومستقرة منذ أيام الرسل ومنذ أول يوم أُقيمت فيه
الإفخارستيا حتى اليوم، حيث لا يجرؤ أحد على أن يغيِّر في وضعها أو ترتيبها أو
يزيد أو ينقص منها، وقد سبق أن ذكرناها، وهي “أخذ” و“بارك” و“كسر” و“أعطى” التي هي
تقديم (الحمل)، وصلوات الشكر على الخبز والخمر، والقسمة، والاشتراك؛ إلاَّ أن نفس
الصلوات والكلمات التي
يجب أن تُقال
على كل فعل من هذه الأفعال الأربعة كانت متروكة لإلهام كل مَنْ يترأَس خدمة
الإفخارستيا في الليتورجيا، بل وكانت موضع إظهار مقدار النعمة التي وهبها الله
للرسول
في البداية ثم النبي ثم
الأسقف
أخيراً.

ولكن
بالرغم من تنوُّع الصلوات التي وُجِدَت في النصوص حتى منتصف القرن الثاني وقبل ذلك
أيضاً، إلاَّ أن الحدود العامة التي تكوِّن شكل الليتورجيا (ليس فقط من جهة
الأفعال الأربعة المحددة بل أيضاً ومن جهة الصلوات التي تُقال من حيث مضمونها
الإنشائي) وُجِدَت متشابهة في جميع الليتورجيات في مواطنها الأصلية المتفرِّقة،
بالرغم من الاختلافات المميِّزة لكل ليتورجيا.

وليس ذلك
فقط، بل بالبحث والتدقيق
كما سيرى
القارىء

وُجِدَ أن كل الليتورجيات ليست فقط متفقة في شكلها العام ومتشابهة في مضمونها
العام منذ منتصف القرن الثاني بحسب النصوص التي بين أيدينا، بل وإن هذا الشكل
والمضمون العام هو أصيل ويتبع تقليداً رسولياً بلا أي شك، كما يقول العلاَّمة
هيبوليتس: “أن تكون صلاته صحيحة
وحسب التقليد”.

ولكن هذا
دفع بعض العلماء منذ القديم (منذ القرن السابع عشر)، كما يقول العالِم جريجوري دكس،
للاعتقاد بأنه يوجد نص كتابي لليتورجيا رسولية واحدة أصلية مفقودة، أخذت عنها
الكنائس بدون التزام، فظهرت بعض هذه الاختلافات المميِّزة … ولكن الحقيقة غير
ذلك.

فإن التشابه الحادث في الشكل والمضمون لحدود الإفخارستيا عامة، هو ناتج عن
أن الآباء الرسل عندما صلُّوا وقدَّموا الإفخارستيا، حدَّدوا بالفعل المضمون العام
الذي ينبغي أن تدور حوله كلمات
الصلاة
ويدور حوله الشكر في كل فعل من أفعال الإفخارستيا الأربعة. ومن هنا ظهرت خصائص

الليتورجيات متحدة في المعنى ولكن
مختلفة في التعبير واللفظ اختلافاً كبيراً، ولكنه اختلاف مميَّز على كل حال.

ولكن قد
يُغري البعض أن يجروا وراء نص معيَّن يكون قد جعلوه نموذجاً ثمَّ يظنون أنه غير
موجود أصلاً.
بل
موجود واكتشفناه بإلهام من الله وهو المسجَّل تحت العنوان “تقديم الحمل” والاسم
نفسه يكشف حقيقته!
فالاختلافات المميِّزة بين الليتورجيات الأُولى
في تتبعها في كل فترة ما قبل مجمع نيقية، أي ما قبل سنة 325م، أمر ثابت ومقطوع به.
أمَّا هذا الاختلاف المميَّز للإفخارستيا في كل زمان ما قبل نيقية، فهو راجعٌ
أساساً إلى حرية رؤساء الكنائس والأساقفة في التعبير عن معتقداتهم، لأن الكنيسة لم
تكن قد حدَّدت أو قنَّنت إيمانها ومعتقداتها وأسفارها القانونية، ولم تكن قد دخلت
بعد في الحوار اللاهوتي العميق الذي انجلى بعد المجامع عن نصوص واصطلاحات وتعبيرات
وقوانين غايةً في الدِّقة والحساسية، التزمت بها الصلوات في الإفخارستيا في كل
مكان، فبدت متجانسة ومتحدة أكثر مما كانت أولاً.

ولكن هذا أيضاً لا يُغرينا أن نقول إن الكنيسة قبل نيقية كانت غير متحدة في
الفكر أو الصلاة
بأي نوع، ولكن الاتحاد
الإيماني والوحدانية الروحية والفكرية لم يكونا محدَّدين بقانون أو ألفاظ معينة.

فكل رسول
أول ما كرز بالبشرى والخلاص في الموطن الذي انطلق إليه، خدم الإفخارستيا
» كعشاء سري للرب « فالإفخارستيا في كل قطر هي ختم الرسولية الأول،
على أساس المسيح حجر الزاوية، والبذرة الأُولى التي انطلق منها الإيمان والخلاص
والشركة مع المسيح. وكل كنيسة لمَّا استلمت الإفخارستيا من الرسول الذي بَشَّرها،
استلمتها كما من الرب بكل ألفاظها ومعانيها ولاهوتها كتقليد رسولي، فصار ذخيرتها
التي تعتز وتتمسَّك بها، كما حدث للقديس بولس الرسول:
» لقد
تسلَّمت من الرب ما سلَّمتُكم

« ولكن الرب لم يضع طقساً ولا ليتورجيا مطوَّلة
بل سلَّم جسداً مكسوراً ودماً مسفوكاً، وقال لهم:
» اصنعوا
هذا لذكري
«

لقد تبارت كل كنيسة لكي تبلغ في صلواتها إلى الأعماق التي فهمتها من هذه
الذبيحة، ولكن في حدود ما قاله وما عمله المسيح. وهنا بدأت عوامل كثيرة تتدخَّل
لإعطاء كل ليتورجيا في موطنها لونها الخاص ولاهوتها الخاص بحسب مزاج كل قطر روحياً
ولاهوتياً، مع احتفاظ الليتورجيات بالشكل العام والمضمون والأفعال في مجموعها
الكلي. أمَّا هذه العوامل فنلخِّصها كالآتي:

أولاً: الإفخارستيا
كانت صلواتها مفتوحة لكل أسقف يعبِّر فيها، في حدود التقليد، بقدر إلهام الروح
والتأمل والدراسة الشخصية.

ثانياً: مدى
أو مقدار التحفُّظ، وكذلك مقدار التدقيق في استلام وتسليم التقليد الرسولي الذي
انحدر إلى الرسل من التقليد اليهودي السابق في زمن المسيح وما قبله، من جهة
التعبيرات والترتيبات، وهو واضح جداً في رسالة القديس إكليمندس أسقف روما، بل وفي
قوانين القديس أثناسيوس الرسولي بخصوص خدمة
المذبح التي سيأتي الكلام عنها عند شرح قوانينه.

ثالثاً: الاقتباسات
التي أخذتها الكنائس بعضها من بعض وأضافتها على تقليدها. روما أخذت من مصر، وسوريا
أخذت من مصر، ومصر أخذت من سوريا.

رابعاً: التقدُّم
السريع في الحوار اللاهوتي على مستوى مسكوني، أثَّر في التراكيب المستخدمة في الإفخارستيا. فمثلاً نجد في الإفخارستيا التي
يقدِّمها هيبوليتس اصطلاحات لاهوتية عن الثالوث، لم تأخذ بها الكنائس الأخرى مع
أنها اقتبست من ليتورجية هيبوليتس في مواضع أخرى
([5]).

ولكن بمجيء
القرن الرابع، وبالتحديد سنة 325م
360م، أي
ما بين مجمع نيقية المسكوني ومجمع اللاذقية المكاني،
بدأت
الليتورجيات تلتزم حدوداً ثابتة لا تتعدَّاها،
ولكن بقيت
بعض صلوات (حتى إلى الآن مثل صلوات الصلح والقسمة وغيرها) مفتوحة للتغيير، إنما في
حدود ضيقة.

ومن
الأسباب المباشرة التي جعلت الليتورجيا تلتزم حدوداً لا تتعدَّاها مسألة تحديد
الإيمان والعقيدة بنصوص لاهوتية مَجْمَعية لا يمكن التحوير فيها، وكذلك وعي الشعب
الذي بدأ يزداد ويكون رقيباً على حرية الأسقف أو الإكليروس بوجه عام في الصلوات.
ومعروف أن حساسية الشعب أقوى من القانون على حفظ التقليد!!

كذلك من
الأسباب القوية التي جمَّدت أشكال الصلوات في الليتورجيا شدة تعلُّق الشعب بصلوات
القديسين القدامى الذين كانت حياتهم مضيئة وأثرهم شديداً على تقوى الشعب، فألزموا
القائمين على الصلاة سواء كانوا أساقفة أو كهنة بالاحتفاظ بصلواتهم في الليتورجيا.
هذا بالإضافة إلى ضعف القائمين بالصلاة في الكنائس مما اضطرهم في النهاية إلى حفظ
الصلوات عن ظهر قلب، كما يقول العلاَّمة هيبوليتس، وتسليمها فماً لفم. ولكن هذا
كله حدث بعد أن استقرت كل ليتورجيا في مواطنها، حسب مميزاتها الخاصة تقريباً.

والآن نأتي
إلى النصوص الخاصة بالإفخارستيا التي وصلتنا من بعد الأسفار المقدَّسة في القرنين
الأَول والثاني، والتي تُعتبر النواة الأُولى والأساسية لليتورجيا المسيحية بوجه
عام. مع التنبيه دائماً إلى أن خصائص الإفخارستيا كانت منذ البدء متأثرة إلى حد
كبير بموطن نشوئها.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى