اللاهوت العقيدي

الباب الأول



الباب الأول

الباب الأول

الينابيع الأولى للإفخارستيا

مقدِّمة

لكي نستمتع، بصورة
واضحة، بسرِّ الإفخارستيا،

مقالات ذات صلة

ولكي نتذوَّق معاني
الكلمات والصلوات وندرك قيمتها الروحية،

ولكي نشبع ونرتوي من
مواقف التجلِّي في هذا السر الرؤيوي،

ولكي ندخل حقاً في مجال
حلول الروح القدس وحضور الرب،

ولكي ننال شركة فعلية
في الجسد السرِّي والدم الثمين،

ولكي يمتلىء فمنا فرحاً
ولساننا تهليلاً بالحق عند التمام والانصراف([1])،

ينبغي الرجوع إلى
الينابيع الأُولى للإفخارستيا كما كان يباشرها الآباء الرسوليون والكنائس الأُولى،
حيث تظهر الصلوات في صورتها الأُولى البدائية البسيطة التي تعبِّر بكل وضوح عن
مفهوم كل موقف وقصد كل صلاة، وتردُّ بلا لَبْسٍ ولا إبهام على كل سؤال من الأسئلة
التي يتقاذفها اللاهوتيون ويتحيَّر لها البسطاء من المؤمنين:

(أ) يسأل البروتستانت: هل الإفخارستيا ذبيحة حقيقية أم هي
مجرد تذكار لذبيحة أُكملت في الماضي؟

(ب) يسأل الكاثوليك وهم
متحيرون: هل المسيح حاضر بالفعل في مادة الإفخارستيا؟ ويسألون بالأكثر وهم مهمومون:
هل الفعل الفدائي موجود وحاضر في إقامة الإفخارستيا؟

(ج) ثم يسأل الفلاسفة
الروحيون والفاحصون في الأديان المقارنة: كيف يكون الجسد الواحد حاضراً في أماكن
محصورة ومتعددة في نفس الوقت؟

(د) كيف يحصل لحدثٍ
واحدٍ تمَّ في الماضي أن يستمر في الحاضر كل يوم؟

هنا نقول إن الجدل
اللاهوتي لن يفيدنا شيئاً. والواقع أن المطارحات اللاهوتية بين العقائد لم تحل قط
أي نزاع فكري حتى الآن، فكل عقيدة لها ردودها ولها حلولها ولها قناعتها، ولكن
بمجرد الرجوع إلى الينابيع الأُولى لصلوات الإفخارستيا وشرح الآباء وتعليقهم على
خفيات هذا السر العظيم لن يبقى سؤال لسائل ولن يُترك فراغ لمجادل.

لهذا رأينا في مستهل
كتابنا هذا أن نقدِّم الينابيع الأُولى التي انحدرت منها ليتورجيات الإفخارستيا في
صورتها الروحية الأُولى البسيطة غاية البساطة، حينما يلتف جميع المؤمنين في كل
مدينة داخل الكنيسة يوم الأحد حول مائدة الرب، وكأنما الكنيسة صارت عالمهم الجديد
الآخر أو ملكوتهم السرِّي الذي يتبعون وطانته خفياً أو أُورشليم الجديدة النازلة
من السماء متزينة وعريسها في وسطها قائم يملك على قديسيها، يأتون جياعاً عطاشاً
إليه وهو يأتيهم بشبع سرور. ولم تكن الكنيسة إلاَّ هؤلاء المؤمنين الذين يمثلون
الخليقة الجديدة حينما يجتمعون حول خالقهم، وكمولودين ثانيةً سرًّا من فوق من
السماء يأتون إليه يطلبون حقهم من الخبز السمائي السرِّي. وكل ما يفقده المؤمنون
على مدى سبعة أيام من سلام ونور وحق وحياة وسرور، يستردونه من المسيح في اليوم
الثامن، لأن المسيح لا يزال للسائرين في الظلمة نور العالم، وسلاماً وحقاً للذين
أضاعوا الحق، ومنه دائماً تُسترد الحياة المفقودة والسرور الضائع
» ادخل إلى
فرح سيدك.
«(مت 21: 25)

هذا هو مسيح
الإفخارستيا، مسيح النور والحق والحياة والسرور، المسيح المأكول حقاً والمشروب
حقاً في يوم الرب المدعو باليوم الثامن، لأن يوم الأحد أو أي يوم للإفخارستيا هو
حقاً أصبح ليس من هذه الخليقة ولا لهذه الخليقة التي ضيَّعت الحياة الأبدية وعاشت
في فراغ الزمن الميت. فكما أن المسيح هو آدم الثاني، أي رأس الخليقة الجديدة
والحياة الجديدة، هكذا يوم الإفخارستيا أصبح هو الزمن الثاني، أي بدء الخلود
والأبدية.

لذلك، فإن المؤمنين
يحصلون في الإفخارستيا، في هذا اليوم، على ملء قوة حياة المسيح القائم من الأموات
(لأن يوم الأحد معروف أنه هو هو عيد القيامة الأسبوعي، أو بالحري اليوم الخارج عن
الأسبوع والزمن) وهذه القوة أي قوة قيامة المسيح الحي هي التي تملأ
باستمرار الفراغ الميت المتولِّد في حياتهم من الخطيئة ومن عجز الجهاد البشري!

وهكذا نستطيع أن نمثِّل
المؤمنين المزدحمين في الكنيسة حول الإفخارستيا كجماعة راحلة إلى السماء، في رحلة
باهظة الجهد والتكاليف خارج العالم وخارج الزمن. فهذا العالم الذي
يمثِّله بيوتهم وأعمالهم واهتماماتهم ينبغي أن يقف وراء ظهرهم منسياً
ومهملاً تماماً، لأن مرتفع الأبدية وعر، لا
يجيز أيَّ حِملٍ فوق الظهر أو الكتف ولا أية فكرة تعكِّر صفو الرؤيا، رؤيا المسيح
الذي
«ليس من هذا العالم»، فهؤلاء
أيضاً ينبغي لكي يروه ويعرفوه ويأكلوه أن يكونوا «ليسوا من هذا العالم»!

المسيح القائم من
الأموات لم يعرفه تلاميذه أولاً ولا المجدلية لأنه لم يصبح من هذا العالم. ولا
تلميذا عمواس عرفا الرب على مدى مسيرة طويلة، ولكن عند
» كسر الخبز «انكشف السر
فعرفوا المسيح في الحال! وهكذا صارت الإفخارستيا (كسر الخبز) واسطة استعلان مسيح
الدهور.

وهكذا المسيح، أصبح لا
يمكن الدخول إليه الآن على أبعادٍ بشرية. لا يظن أحد أن الفرح بالمسيح والتمتع
بعشرته والإحساس بوجوده يمكن أن يحدث بدون
» سر « لابد أن ندخل إلى » السر «أولاً لكي
نعرف المسيح ونفرح به ونتلذَّذ بحضوره. السر يغيِّرنا نحن أولاً لكي ندرك المسيح،
يغيِّرنا في المعمودية فندرك
» موت الرب « يغيِّرنا في مسحة الميرون فنتنفس روحه القدوس، يغيِّرنا في
الإفخارستيا فندركه كقيامة، يغيِّرنا في الكنيسة حينما تمتليء بالأتقياء ويكمِّل
فيها سر الحضور الإلهي فندرك جسده الذي يملأ الكل في الكل!

رحلة المؤمنين المزدحمة
في الكنيسة حول سر الإفخارستيا هي في الحقيقة رحلة إلى السماء من خلال عمق أعماق
المسيح الميت والمُقام، بقيادة الروح
القدس نفسه
التي تبلغ ذروتها عندما يصرخ الكاهن مستدعياً الروح القدس:
» فليحل روحك
القدوس علينا وعلى هذه القرابين ويطهِّرها، وينقلها ويظهرها قدساً
لقديسيك
«

وليلاحظ القارىء أن
دعوة الروح القدس هي للحلول على المؤمنين أولاً قبل القرابين، لكي عندما يتغيَّرون
ويتقدَّسون هم أولاً يستطيعون أن يستعلنوا بالإيمان المستنير ظهور الجسد والدم
وحضور المسيح.

إذاً، فرحلة المؤمنين
إلى السماء وهم مزدحمون حول الإفخارستيا ليست باستعدادات بشرية، بل باستعداد القلب
والفكر لحلول الروح القدس عند ندائه للتغيير والتقديس حتى يُظهر القُدْس للقديسين
ويُستعلن الجسد بالإيمان ويُرى المسيح حاضراً في الإفخارستيا عندما يصرخ الشعب كله
بعد حلول الروح القدس:
» تي ناهتي آمين «أي » أُؤمن حقاً « هنا تكون الكنيسة كلها في حالة استعلان والشعب في مواجهة المسيح،
والمستحقون للعرس يدخلون، ومائدة الملكوت تكون قد تهيأت بقدساتها للقديسين، وعندها
يقول الكاهن:
» اجعلنا مستحقين كلنا يا سيدنا أن نتناول من قدساتك طهارةً
لأنفسنا وأجسادنا وأرواحنا، لكي نكون (بجسدك الواحد) جسداً واحداً وروحاً واحداً،
ونجد نصيباً وميراثاً مع جميع القديسين الذين أرضوك منذ البدء.
«(القداس الباسيلي)

هنا دخول الشعب للتناول
هو دخول حقيقي إلى السماء
» إلى الأقداس العليا حيث
دخل المسيح كسابق من أجلنا … بدم نفسه، دخل مرَّةً واحدةً إلى الأقداس
فوجد فداءً أبدياً
«(عب
20: 6؛ 12: 9). ليس هنا تشبيه ولا رمز، ولكنه سر مُعلَنٌ بالإيمان، فالمسيح حاضر
على المذبح كما في السماء، بذبيحة نفسه، بجسده، وبدم نفسه، كما هو أمام الآب، يعطي
جسده المكسور لكل مَنْ يتقدَّم ودمه المسفوك يهبه غفراناً للخطايا وحياة أبدية لكل
مَنْ يتناول منه.

الكنيسة وقت
الإفخارستيا هي بالحقيقة سماء، بسبب حضور المسيح كوعده، فحيث يوجد المسيح توجد
السماء:
» ابن الإنسان الذي هو في السماء «(يو 13: 3). والمسيح لا يمكن أن يُرى الآن إلاَّ » كخروف قائم
كأنه مذبوح
«(رؤ 6: 5) كما رآه
يوحنا في رؤياه في السماء، أي كإفخارستيا مهيَّأة للأكل. إذاً، فالذبيحة الإلهية
قائمة دائماً بحضور المسيح كما في السماء؛ كذلك أيضاً في الكنيسة في كل إفخارستيا
حسب طلب الرب:
» اصنعوا هذا لذكري « » لأن كل مرةٍ
تأكلون من هذا الخبز وتشربون من هذه الكأس تُبشِّرون بموتي
«

حضور الملائكة في كل
إفخارستيا علامة تأكيدية على أن الكنيسة اتَّسعت أبعادها الرؤيوية وصارت بالفعل
استعلاناً سماوياً بالحق، والله متراءٍ. الشعب يتهلل ويصرخ مشاركاً الملائكة في
التسبيح أمام الله كأنه في السماء تماماً ويردد مع الشاروبيم والسيرافيم تسبحة
الغلبة والخلاص:
» قدوس قدوس قدوس رب الصباؤوت؛ السماء والأرض
مملوءتان من مجدك الأقدس
« الكنيسة هنا خليقة جديدة بالفعل، والنفوس البسيطة تفرح وتُهلِّل
تهليلاً ملائكياً، أمَّا ذوو العيون المكشوفة فينبهرون إذ يتجاوزون حتى الملائكة
في بهجتهم، لأن الإفخارستيا تتجاوز بهم حدود
» الوقوف
قُدَّام
«الحضرة الإلهية وتدخل بهم إلى داخل الحجاب إلى وليمة
الأخصَّاء، إلى الجسد والدم، إلى أسرار الطبيعة الإلهية غير المنطوق بها؛ فيعودون
من هذه الرحلة السماوية والدَهَشُ يملأ عقولهم، محمَّلين بعطايا ومواهب روحانية
وعلى رؤوسهم ابتهاجٌ وفرحٌ أبدي وعلى لسانهم بُشرَى ورسالة مفرحة للعالم المتألم!؟

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى