البنيانموضوعات بحثية للبنيان

الإيمان سر وخبرة وحياة

الإيمان سر وخبرة وحياة

الإيمان سر وخبرة وحياة+ تمهيـــد
أن الحديث عن الإيمان كسر وحياة ، أصبح في هذه الأيام صعباً للغاية، لأن الغالبية العظمى من الناس – اليوم – يعتقدون أنه لهم سر الإيمان وقوته، ويعتقدون أن حياتهم ضعيفة حينما تضعف عندهم فضائل التواضع والصبر والوداعة وغيرها من ثمار الروح، ويعتقدون أن أخلاقهم وأعمالهم الصالحة ناتجة عن جهود مبذولة منهم ليستحقوا بها الحياة مع الله، ولذلك يدخلون دائماً في إطار التواضع الزائف في القول المشهور الذي نسمعه من كثيرين: [ أنا مستحقش– أنا لست بقديس – أنا خاطي مستحقش – ماستهلشي … الخ الخ ] وسلسلة طويلة من الألفاظ التي تدل على الشكل أكثر من الجوهر ( مع ملاحظة أنه ليس شرط أن كل من يقول هذا يكون عن اتضاع كاذب بالطبع لأ، أنا فقط أتكلم عن من لا يرى الله في داخل نفسه، ويبصر ذاته فقط مجرده من حضور الله وكأنه بفضائله يكتسب النعمة ويربح الحياة الأبدية )
وللأسف أيضاً نرى أن البعض، بل والغالبية العظمى – في هذه الأيام على الأخص – حينما يفتشون الكتب أو يبحثون في اللاهوت، يدخلون في مناقشات فكرية جدلية فلسفية وإيضاحات كلامية بحجة الدفاع عن المسيحية وأنهم أصبحوا عارفين الله بدراستهم وعقليتهم التي تتكدس بالمعلومات الإلهية والتي قد تكون صحيحة تماماً، بالرغم من خلو حياتهم من خبرة حضور الله والدخول في حرية مجد أولاد الله !!!

ولكننا في موضوعنا الصغير هذا عن [ الإيمان كسرّ وحياة ]، نحاول أن نضع أرجلنا على الطريق الصحيح الذي قصده الله وعاشه الرسل والقديسين وآباء الكنيسة وشعبها على مرّ التاريخ، لأن إيمانهم ليس الإيمان الجدلي لإثبات من هو الله، بل كان حياة مُعاشة لها ثمر واضح، حتى قال الناس عنهم حقاً كان الله فيهم !!!

يا أحبائي – لنا أن نعرف بل ونتيقن – أن أخلاق الإنسان وكل أعماله الحسنة لا يُمكن أن تنتج عن مجرد جهود مبذولة، أو بكلمة أخرى، مستحيل أن يسلك الإنسان السلوك الطاهر النقي حسب وصية الله المقدسة لأنه يُقرر ذلك استناداً على معرفة كلمة الله فقط وحفظها في عقله أو لأنه إنسان دارس لاهوت ويعرف كيف يجادل ويقنع الآخرين !!!
+ بل يسلك الإنسان سلوكاً طاهراً إذا كان الله يسكن قلبه فعلاً
* وهناك فرق عظيم ما بين أن نعتقد بوجود الله وسلطانة وأن نعرف كل العقيدة وشرحها وكل المعرفة اللاهوتية، وبين أن يكون هذا الإله الحقيقي حلَّ فينا فعلاً وعلى مستوى التذوق والاختبار.
* وهناك فرق عظيم جداً ما بين إعلان اللاهوت بالفكر والحديث والمجادل والفلسفة والمنطق، وبين إعلانه في القلب بحلوله الخاص بالإيمان !!!
يقول القديس أثناسيوس الرسولي : [ لا يُعلن لنا اللاهوت بإيضاحات كلامية، بل بالإيمان ، ولا باستخدامات العقل، إنما بروح التقوى والوقار ]
بل ونستطيع القول بأنه مستحيل على الإطلاق أن تكون هناك أي نوع من الشركة مع الله إلا بالإيمان، وطبعاً ليس كل إيمان هو إيمان، لأن ممكن أن الإنسان يكون مصدق كلمة الله وكل العقيدة، ولكنه لم يحصل على سرّ الإيمان كحياة تسري فيه، ويعيش ويحيا به، ويحل الله في قلبه فعلاً بالإيمان، ويثمر ثمر الروح كعلامة لسر الإيمان الذي في داخل قلبه !!!

فما هو الإيمان الذي نقصده هنا ؟
الإيمان هو فعل نعمة ممنوح من الله بالروح القدس سراً في داخل القلب الذي يصدق الله، والإنسان يستطيع بواسطة نعمة الإيمان الذي في قلبه أن يستجيب لدعوة الله لهُ ويقبل شركة الروح القدس، وبالتالي الشركة مع الله، متطبعاً بطبع الله السماوي فيتغير إليه ويهرب من فساد العالم ولا يكن له سلطاناً على قلبه أو فكره لأنه ليس من هذا العالم، لأنه صار ابناً لله في المسيح يسوع : [ كما أن قدرته الإلهية قد وهبت لنا كل ما هو للحياة والتقوى بمعرفة الذي دعانا بالمجد والفضيلة الذين بهما قد وَهَبَ لنا المواعيد العظمى والثمينة لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة – 2بط 1: 3 – 4 ]
وهذا الإيمان الحي يجعلنا نرى ونبصر مجد الله في داخلنا فنتغير إليه ونصير مثله – حسب عمل النعمة فينا حسب كل قامة (لأننا لن نحصل على مطلقات طبعاً) – فنتطبع بالطبع الإلهي ونصير سماويين على صورة ربنا يسوع لأنه هو من يطبع نفسه في قلوبنا بسرّ الإيمان: [ ونحن جميعا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير الى تلك الصورة عينها من مجد الى مجد كما من الرب الروح (2كو 3: 18) ]
وبهذا الإيمان الحي نصير في الواقع العملي أولاداً لله في المسيح يسوع، يشع منا نوره ونعيش من حياته، فيصبح إيماننا حياة، وحياتنا إيمان !!!

الإيمان ليس نظرية :
أحيانا كثيرة يظن الإنسان أنه يؤمن بمجرد أنه كون فكرة عن الله بسبب وضعه الطبيعي كمسيحي مولود من أبويه واعتمد منذ الصغر، فيكتفي بهذا كشكل ومظهر ويقول انه يؤمن دون أن يتخذ موقف شخصي ظاهر في عمل التوبة بثقة في الله غافر الخطية ومعطي حياة جديدة تظهر في شغفه لحياة التقوى وسلوك حياته في سر المحبة في النور !!!
يقول القديس مقاريوس الكبير: [ فإذا إنسان فقير يرى نفسه غنياً في حلم الليل، وحينما يستيقظ من النوم يجد نفسه فقيراً عُرياناً مرة أخرى . كذلك الذين يتحدثون الحديث الروحاني ويظهرون كأنهم يتحدثون بكفاءة تامة، ولكنهم إن لم يكونوا حاصلين على الشيء الذي يتحدثون عنه، متحققاً في قلوبهم بالتذوق والقوة والاختبار الشخصي فإنه لا يكون لهم سوى مظهر باطل وخيال وهمي ] (عظة17: 9)
ويقول القديس بولس الرسول: [ ملكوت الله ليس بالكلام بل بقوة ] (1كورنثوس4: 20)؛ [ وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع بل ببرهان الروح والقوة، لكي لا يكون إيمانكم بحكمة الناس بل بقوة الله ( أو الترجمة الأصح في قوة الله – In the power of God ) ] (1كورنثوس2: 4 – 5)
ويقول القديس أثناسيوس الرسولي: [ نحن المسيحيين نتمسك بالسرّ، ليس بالحجج الفلسفية بل في قوة الإيمان المعطى لنا من الله بواسطة يسوع المسيح ]

لذلك نرى المؤمنين الحقيقيين الذين عاشوا مع الله في المسيح وسط الكنيسة، يشهدون لإيمانهم الحي ويُدونون إختبارتهم مع الله بشهادة حية فعالة نابعة من إيمانهم بالحق الذي هو يسوع المسيح، كما قال القديس أثناسيوس الرسولي : [ في البداية نحن نؤمن، وبعد ذلك نعرف، وأخيراً نتكلم (نشهد) ]
ونجد هذه الشهادات بنفس التسلسل الذي قال عنه القديس أثناسيوس الرسولي في الكتاب المقدس، فالرب يسوع قال: [ لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقوني لأنه هو كتب عني (شهد لي) ] (يو5: 46)، فموسى استعلن له الله فآمن، فعرفه الله وأعطاه معرفته الخاصة، وعاش معه بالإيمان وشهد له شهادة حسنة …
ونجد في تلك الشهادة الأمينة الصادقة لكل الآباء والقديسين، إعلان إيماني حي وصادق وحقيقي، فقد كشفوا لنا بأن الإيمان بالله الحي ليس موضوع علمي نظري أو فكري فلسفي، أو مجرد جدل عقائدي، أو صورة منعكسة لأفكار نتجت من قدرة الإنسان على التفكير والاكتشاف، بل كشفوا لنا أن الإيمان بالله هو خبرة حياة نتجت عن لقاء حي بالله كشخص قريب من الإنسان يستعلن ذاته له، وهذه الخبرة تنتج ثمر واضح في حياة الشخص المؤمن كما قال الرب نفسه: [ من ثمارهم تعرفونهم ] …

ومن هذا المنطلق نرى الكتاب المقدس ليس كتاب علم أو فلسفة أو فكر أو مجموعة كتابات لنتجادل بها ونثبت أن معنا الحق كله لنهدي الجميع لصورة الحق، إنما الكتاب المقدس هو مجموعة شهادات حية لعمل الله في البشر، وفيه لقاء حي مع الله الناطق بكلمته التي تخلق فينا إنسان جديد روحاني يتجدد حسب صورة خالقه بفعل الروح القدس الذي يسكن سطوره بسر عظيم، مستحيل أن يُكشف إلا للذين يريدون أن يتعرفوا على الله الحي في منتهى الجدية والإصرار كما عرفه آباء الكتاب المقدس وجميع القديسين على مر الأيام !!!

لذلك وجب علينا نحن أن نبحث ونفتش عن ما يقوله الكتاب المقدس [فتشوا الكتب] باسم الله وقوته لنؤمن به، فالإيمان الحقيقي ليس بما تحتويه أفكارنا ومعرفتنا الخاصة عن الله، أو حسب آراءنا وما استنتجناه من دراسة ومعرفة حسب قدرة عقلية كل واحد فينا، وكل واحد يحاور الآخر في موضوع [ إيماني وإيمانك – رأيي ورأيك ] ونحاول أن يثبت كل واحد فينا انه على صواب ونتصارع إلى أن ينجح أحد فينا أن يقنع الآخر عقلياً !!!

ولا ينبغي أن نبحث في الكتاب المقدس والكتابات الروحية عن براهين عقلية وإثباتات فكرية وفلسفية لأننا ينبغي أن نعي سر الكتاب المقدس في روح الإيمان وليصغي كل متفلسف أو محباً للجدل والنقاش لكلمات الرسول الملهم بالروح حينما يقول: [ لكننا نتكلم بحكمة بين الكاملين ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر الذين يُبْطَلُون. بل نتكلم بحكمة الله في سرّ الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا … التي نتكلم بها أيضاً لا بأقوال تُعلمها حكمة إنسانية بل بما يُعلَّمه الروح القدس … ] (1كورنثوس2: 6 – 7و13)
ويقول القديس أثناسيوس الرسولي: [ هكذا تؤمن الكنيسة الجامعة وهكذا اعترف الأساقفة كيف كانوا يؤمنون، مبرهنين على أن إيمانهم ليس هو مجرد شعور شخصي مستحدث وإنما هو إيمان الرسل، وأن ما كتبوه ليس هو اكتشافهم الخاص ولكنه طبقاً لما تعلموه من الرسل ]

وهكذا ينبغي لنا نحن أيضاً، أن ننفتح بكل أبعاد كياننا الداخلي على ما اختبره المؤمنين بالله، ونتعرف على ما دوَّنوه في الأسفار المقدسة وتقليد الكنيسة ببرهان الروح والقوة وببصيرة وذهن مستنير، ثم نعود لننظر لأنفسنا ونفتش في داخلها ونرى إن كانت هذه الخبرات الروحانية تتجاوب مع اختباراتنا الشخصية ومعرفة الله كشخص حي وحضور محيي نؤمن به إيمان حي عامل بالمحبة، يثمر فينا رجاء حي بقيامة يسوع من الأموات …

أن سرّ الإيمان الحقيقي الحي يفتح البصيرة الداخلية لترى وتؤمن بالله الحي الحاضر بملء مجده العظيم، وتجعلنا نتطلع لله النور والطريق والحق والحياة ليصير لنا الألف والياء البداية والنهاية، المبدأ والغاية، ويصير لحياتنا القوة المحيية المتدفقة بالمحبة التي تحصرنا وتشدنا إليها بقوة تفوق الوصف والشرح [ ليس شيئاً من النطق يستطيع أن يحدّ لجة محبتك للبشر ] (القداس الإلهي)
وباختصار وبإيمان حقيقي ننطق في القلب من الداخل ونقول بخبرة العقل الناظر لله والنفس المتشبعة بالنور الإلهي : [ محبـــــة المسيـــــح تحصرنـــــا ]

+ ما هو الإيمان :
الإيمان ليس فكرة تقال وليس هو موضوع نقرأه ونُعجب بحلاوة الكلام فيه، ولا هو بحث لاهوتي نظري نخوض فيه، ولكن الإيمان هو واقع عملي في حياتنا اليومية، لأن الإيمان هو علاقة شخصية واقعية قائمة بين طرفين [ الله والإنسان ]، ويقول القديس مكسيموس المعترف: [ ما من سبيل (طريق) إلى عقد علاقة بين الإنسان والله إلا بالإيمان . فالإيمان قوة خاصة توحَّد الإنسان المؤمن والله الذي به يؤمن توحيداً مباشراً كاملاً يفوق الطبيعة البشرية ]

فالإيمان ليس هو التصديق المُجرد [ أي مجرد عملية عقليه فيها نقبل أعمال الله ]، فليس الإيمان هو أن نصدق فقط أنه يوجد كائن إلهي أعلى يدير الكون ويدبر أمره، أو أن الله أرسل ابنه الوحيد إلى العالم في ملئ الزمان ليُخلَّص الإنسان ويُنجيه، وذلك حسب ما عرفنا وسمعنا فصدقنا : [ فالشياطين تؤمن وتقشعر ] (يعقوب2: 19)

إنما الإيمان عبارة عن ارتباط حياة بحياة، ومصير بمصير، وهذا الارتباط، ارتباط شامل وكلي، أي لا يشمل جزء خاص في الإنسان، بل يشمل الشخص الذي يؤمن بالله بكاملة، أي جسده ونفسه وروحه، أي كيانه كله، وبمعنى ابسط وأدق: [ الإيمان علاقة شركة توَحدّ الإنسان بالله ]، فالإنسان يقترب من الله لا بروحه فقط أو بنفسه وروحه فقط، بل بكل كيانه جسداً ونفساً وروحاً، فينطبع الله على قلبه ويظهر سراً في حياته كلها ويتطهر القلب والفكر والجسد نفسه على المستوى العملي كفعل وليس قول أي مجرد كلام محفوظ ومعروف عن الإيمان كفكرة:
[ الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة، فأن الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونُخبركم بالحياة الأبدية [ التي نتطلع إليها، فهي رغبتنا وهدفنا الحقيقي ] التي كانت عند الآب [ السرّ المخفي ] وأُظهرت [ أُعلَنت ] لنا.
الذي رأيناه وسمعناه نُخبركم به [ وهذه هي خبرة الآباء المدوَّنة لنا في الكتاب المقدس وتقليد الكنيسة ] لكي يكون لكم [ هذا هو الهدف ] أيضاً شركة معنا [ علاقة الشركة والوحدة مع الكنيسة كلها ]. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح [ في الروح القدس ] ] (1يو1: 1 – 3)
ونتيجة هذا الإيمان الذي يجعنا في حياة الشركة هي: [ ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً ] (1يو1: 4)

يا أحبائي إذا كان لنا إيمان حقيقي حي وفعال فينا في واقع حياتنا اليومية، لابد من أن يكون لنا – بالتالي وطبيعياً – حياة شركة مع الله، أما أن كان لا يوجد شركة حقيقية مع الله فأكيد الإيمان غير سليم ويحتاج تصحيح فوري وتعديل، لأن غاية الإيمان هو محبة الله من القلب والفكر والقدرة الذي تؤدي إلى حياة الشركة معه، وبدون إيمان تستحيل الشركة، لأن كيف اشترك مع من لم أؤمن به وأثق في حبه العظيم واحمل صليبه بثقة رجاء حياة القيامة وأتبعه بهدوء المحبين، فالإيمان الحقيقي يجعل الإنسان يثق في الله حبيبه الخاص.
والإيمان كفعل تصديق للحياة التي وهبنا إياها الله له علامة ظاهرة، أي لابد أن يكون له فعل ظاهر في حياتنا الشخصية، وعلامة التصديق والثقة – أي الإيمان – هي حمل الصليب بشكر واحتمال الآلام بصبر المحبين الواثقين في حبيبهم الملتصقين به !!!
يقول القديس مقاريوس الكبير عن هدف الله في خلقة النفس: [ … فأنه خلقها لكي يُصيرها عروساً لهُ، وتدخل في شركة معه، لكي ما يلتصق بها ويصير [روحاً واحداً] معها، كما يقول الرسول: [ وأما من التصق بالرب فهو روح واحد – 1كو6: 17 ] من عظة 46: 5 للقديس مقاريوس

+ ما الذي يجعل هذا الإيمان مُمكناً :
إذا كان الله – موضوع الإيمان – طبعه نار آكله، وقدوس مطلق، ولا يراه أحد ويعيش، فهو يختلف عن طبعنا الضعيف ويفوق كل فكر وتصور ومعرفة وشعور ورغبة، فهذا يعني أنهُ لا يُمكنني أن أكتشفه من تلقاء ذاتي، لأن الله ليس مثله شيء لكي أعرفه أو اقارنه بشيء يقرب لي الصورة أو المفهوم: [ الله لم يره أحدٌ قط … ] (يو1: 18)
[ فقال (موسى) ارني مجدك. فقال أُجيز كل جودتي قدامك وأُنادي باسم الرب قدامك، وأتراءف على مَنْ أتراءف، وارحم من أرحم. وقال لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش ] (خروج33: 18 – 20)
ويقول القديس باسيليوس الكبير: [ اجعلوا غير المنطوق به (الثالوث القدوس) معبوداً في صمت ] (عن الروح القدس 18: 44)

فيستحيل على الإنسان – مهما كان وضعه – أن يكتشف الله من تلقاء ذاته أو بذكائه الخاص أو بمعرفته العقلية المحدودة، بل كل ادّعاء من أي إنسان أنه قادر على أنه يعرف الله من ذاته أو من خلال بحثه بقدرته أو يشرحه حسب فكره وفلسفته ويُخبِّر عن الله، فهو – بكل يقين – كاذب، لأن المسيح الحق المطلق قال: [ الآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي [ قد شهد لي ] لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته ] ( يو5: 37)
إذن فالإنسان عاجز تماماً عن معرفة الله ورؤيته في طبيعته الفائقة، والوحيد – فقط – الذي يُعلن ويُخبِّر عن الله في حقيقة جوهره هو شخص المسيح الكلمة المتجسد، فهو الذي يُعلن ذاته بالإيمان لكل من يُريد ، فهو يقول بفمه الطاهر:
[ وأنا ما سمعته منه فهذا أقوله للعالم ] (يوحنا 8: 26)
[ وأنا إنسان (الله الظاهر في الجسد) قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله (الآب) ] (يوحنا 8: 40)
[ أعمالاً كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي ] (يوحنا 10: 32)
[ لو كنتم عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً، ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه ] (يو14: 7)
[ لأني أعلمتكم ما سمعته من أبي ] (يو 15: 15)
[ لا أكلمكم أيضاً بأمثال بل أخبركم عن الآب علانية ] (يوحنا 16: 25)
ولنُلاحظ الأفعال : أقوله – كلمكم بالحق – أعلمتكم – أخبرتكم
فالابن الوحيد الكائن في حضن الآب فيه اُستُعلِن الله مرئياً ومسموعاً:
[ الذي رآني فقد رأى الآب ] (يوحنا 14: 9)
[ الكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني ] (يوحنا 14: 24)
فموسى وكل الشخصيات العظيمة والمُقربة لله على مدى العهد القديم كله، لم يَحظَ أحد منهما – قط – برؤية الله رؤية حقيقية، إنما كان كله بالشبه أو المثال، وبالتالي تكون كل توصيات ووصايا العهد القديم هي حتماً: شبه السماويات وظلها … وحتى الإنسان نفسه – كل إنسان – فهو مخلوق أصلاً على شبه الله وصورته.

ولكن الآن وفي المسيح – له المجد – ليس الأمر كذلك، لأنه هو الصورة الحقيقية لله، بل هو الحق في ذاته وفي أقواله، وهو في ذاته ملء النعمة والحق: [ (ابن) وحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً. الابن الوحيد (الإله) الذي هو في حضن الآب هو خَبَّر ] (يوحنا 1: 14 و18)

والله يُحبنا بشدة بما يفوق الشرح والوصف: [ هكذا أحب الله العالم … ] (يوحنا 3: 16)، ولذلك أراد أن يكشف ذاته لنا = لي ولك شخصياً، وذلك لأن المحبة تدفع المُحب أن يكشف ذاته للمحبوب، حسب قول الرب: [ أنا أحبه وأُظهر له ذاتي ] (يوحنا 14: 21)

فلو لم يأخذ الله مبادرة كشف ذاته للإنسان ، لِما كان الإيمان ممكنناً، لأن الإيمان عبارة عن: جواب الإنسان على دعوة شخصية، يكشف له فيها كل من الآب والابن والروح القدس عن ذاته: شخصاً حياً وحضوراً مُحيياً.
وفي هذه الحالة فقط يأتي جواب الإنسان على الدعوة:
فأمام هذا الإعلان الحي والحضور المُحيي، الذي فيه تأتي دعوة الله المحب، للاتحاد والالتصاق، يتجاوب الإنسان بإلقاء ذاته في حضن الآب في المسيح بالروح القدس، ليغرق ويرتوي حباً من بحر حضور الله كما كشف هو ذاته في المحبوب يسوع…

فالله في كشف ذاته يُخاطب الإنسان مُظهراً لهُ ذاته، وداعياً إياه لحياة الشركة بالحب معه، في شخص الكلمة الابن الوحيد الذي اتحد بنا اتحاد غير قابل للافتراق بتجسده …
ودعوة الله للإنسان للإيمان به ليحيا معه في سر الحب تأتي بالوسائل الآتية:
– من خلال آثاره في الخليقة وفي قلبه الذي في داخله سرّ صورة الله
– بالوحي الإلهي وتاريخ الخلاص الذي بلغ ذروته بتجسد ابن الله
وتلك هي الطرق – وان أتعددت مظاهرها – ليأتي إليَّ ويقرع باب قلبي، حتى إذا سمعت صوته وفتحت قلبي [ والقلب معناه في لغة الكتاب المقدس هو مركز شخصية الإنسان، يلتقي فيه العقل والشعور والإرادة ] فإذا فتحت له قلبي هذا:
اختبرته وتذوقته بأعماق كياني كحضور شخصي يملأ كياني: [ والكلمة صار جسداً وحل بيننا (فينا في الأصل اليوناني) ] (يوحنا 1: 14)، وهو حضور يفوق كل تصوراتي ورغباتي وإمكانياتي، ولكنه يُنير عقلي ويستقطب شعوري ويشدني بقوة ويجذبني ويدخلني في دائرة محبته، وهذا الحضور الفائق لا أمتلكه، ولكنني به ومنه وله أحيا. وهذا هو فعل الإيمان الحقيقي وقوته …

فالإيمان المسيحي الحقيقي، ليس تحليلاُ فكرياً، أو معرفة عقلانية أو فلسفية، ولا هو تحضير درس أو قراءات للمعرفة والفحص والدراسة للمعرفة والحفظ، أو معرفة للمصطلحات اللاهوتية [ رغم أهميتها للذي يؤمن فعلاً ]، إنما الإيمان المسيحي الأرثوذكسي (المستقيم) الحي، هو دخولنا في دائرة محبة الثالوث القدوس واستعلانه والامتلاء من حياته على قدر قامة كل واحد فينا، وبعد ذلك يُمكننا أن نحفظ ونخدم ونبحث كيفما شئنا …

+ علامة الإيمان وكيف نحصل عليه :
[أ] علامة الإيمان: الثمرة تظهر نوع شجرتها، والشجرة تظهر قوة جذورها وما تنتجه يظهر نوع البذرة، فعلى قدر ما تظهر الثمرة جميلة ناضجة ونضرة تظهر نوع الشجرة الجيدة الذي طرحتها، وعلى قدر ما تظهر الشجرة من زهوٍ وجمالها وورقها يظهر نضر أخضر، على قدر ما تظهر قوة جذورها التي تمتص الغذاء اللازم لها وتظهر نوع الرعاية الجيدة التي تُحيط بها، وهكذا هو الإيمان الحي المثمر، فالبذرة يضعها الله في القلب من خلال الكلمة، وتدفن في الأعماق وتُغرس وتُسقى بالنعمة من خلال الأسرار ورعاية الخدام الأمناء، وبالآلام والضيقات تُسبخ الأرض لتخرج الشجرة بموت البذرة في خبرة مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ، وترتفع الشجرة وتنمو، لتزهو في النهاية وتثمر في ميعادها ثمراً حلواً، ومن الثمار تُعرف الشجرة …

يقول القديس إغناطيوس الرسولي: [ إن كان لكم إيمان كامل ومحبة كاملة فلن يخدعكم أحد… هاتان … هما بدء ومنتهى الحياة . الإيمان هو مبدأ الحياة والمحبة غايتها، والاثنان معاً هما الله، أما باقي الأشياء الهامة تجيء بعد ذلك. من له الإيمان لا يُخطئ ومن عنده المحبة لا يُبغض. ” الشجرة تُعرف من ثمارها ” (مت12: 33)، كما يُعرف من يتكلم عن الإيمان من أعماله. لا يكفي أن نُعلن عن إيماننا بل أن نظهره عملياً حتى النهاية، إذ أن ما يُطلب منا الآن ليس الاعتراف بالإيمان فقط بل والمثابرة ( المداومة والاستمرار ) على عمل الإيمان ] (من رسائل الشهيد إغناطيوس الرسولي)

يا أحبائي أي كلام عن الإيمان سيظل كلام نظري بلا معنى إن لم يظهر ثمر في حياتنا، وأعمالنا إن لم تكن نتيجة الإيمان الحي فينا فلن يبقى لها معنى إلا كبرياء القلب والتغطرس والتعالي على الآخرين، وأيضاً سندين الله بأعمالنا وكأننا سنحظى بخلاصه بسبب ما نعمله وليس على حساب نعمته لأننا لن نقدر أن نُرضي الله بأعمالنا الخاصة، والإيمان ليس هو نتاج أعمال صالحة، بل الأعمال الصالحة التي تُرضي الله هي نتيجة الإيمان الحي والعامل بالمحبة … [ هكذا الإيمان أيضاً إن لم يكن لهُ أعمال (ثمر) ميت في ذاته ] (يعقوب 2: 20)

ويقول القديس مار إسحق : [ تحقيق الإيمان بالله ليس هو في صحة الاعتراف، وإن كان هذا يُعتبر أساس الأمانة بالله. بل إنما يتحقق بالله ويظهر بالفعل كقوة داخل النفس عند تداخل الإنسان في السيرة الروحانية بما يتفق مع وصايا المسيح التي هي نور النفس وضياؤها ]
ويقول أيضاً: [ الأمانة تجعل قلب الإنسان يثق بالله بشجاعة فائقة ]
ويقول: [ الأمانة هي أن يثق الإنسان بتدبير الله وبصفته سيداً على الكل، ويؤمن أنه لا يُمكن أن تحصل أذية لهُ بدون سماح منه ]

وعلامة الإيمان الحقيقي = أكون كلياً للمسيح، جسداً ونفساً وروحاً، بمعنى أن يكون عهد حياتي أني للمسيح الرب وليس لآخر سواه، فاقبله لي سيد ورب وحياة نفسي، حاملاً سر آلامه، قابلاً صليبه لي فخر ومجد خاص بقبولي كل ألم وضيق بصبر، مع تجديد العهد كل يوم أني له مبتعداً عن كل ما يحزن روحه القدوس الساكن في …

[ب] كيف أحصل على هذا الإيمان :
يقول القديس مار اسحق: [ ليس قولي الإيمان يعني أن يؤمن الإنسان بالثالوث القدوس وطبيعته وخواصه أو بتدبير التجسد الإلهي، بل أعني بالإيمان النور الذي من النعمة يُشرق في النفس، وبشهادة الضمير يتقوى القلب ويثق بدون انقسام وبإقناع الرجاء الخالي من كل الظنون والأوهام.
والإيمان بهذا الوصف لا يُمكن الحصول عليه من التقليد أو بسماع الأذن. بل هو قوة الباركليت التي وُهِبَت لتحل على الإنسان في كل وقت وزمان، الذي يُشعل كل أجزاء النفس بالإيمان كمثل النار، حتى أن الإنسان يجسُر على الأشياء الخطرة بثقة مطلقة في الله ]
ويقول أيضاً في كيفية الحصول عليه: [ أسأل الله لكي يجود عليك بالأمانة به، لأنه إن أَهّلَك لهذا الإيمان تحس في الحال بقوته وبنعمته في قلبك، فلا يعود شيء يمنعك عن الدالة والقرب منه.
وأنا أدلك على الطريق: صلِّ كل وقت وبلا ملل ولا كسل وأطلبها بدموع وحرارة وتضرُّع واهتمام كثير، إلى أن تحظى بها فلا تعود تشقى بعد ذلك ]

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى