علم

المناظرة الحادية والعشرون



المناظرة الحادية والعشرون

المناظرة
الحادية
والعشرون

الراحة
أثناء الخماسين [1] للأب ثيوناس

 1-
مقدمة

قبل
أن أبدأ في عرض هذه المناظرة مع هذا الرجل العظيم “الأب ثيوناس”، أعتقد
أنه من الأفضل أن أصف في حديث قصير أصل هدايته، بهذا يقدر القارئ أن يستشف عظمته.
عندما كان هذا الرجل في حداثة سنه أُلزم بالزواج بناء على رغبة والديه وأمرهما،
وكان الباعث على ذلك حرصهما على فضيلته، إذ كانا خائفين لئلا يسقط ابنهما في
الشهوات، حاسبين أن الشهوات الشبابية يمكن ضبطها بالزواج. عاش مع زوجته خمس سنوات،
ثم جاء إلى الأب يوحنا الذي لفرط قداسته اختير للإشراف على إدارة الصدقات، إذ كان
هذا العمل لا يُعطى للإنسان حسب رغبته إنما لمن يراه مجمع الآباء الشيوخ أنه متقدم
في السن ومشهود لسموه وفضيلته وأنه أفضل الجميع. جاء الشاب سابق الذكر إلى يوحنا
المبارك هذا في اشتياق لنسكه المملوء ورعًا، محضرًا معه عطايا تحمل في طياتها تقوى،
وكان معه آخرون جاءوا متحمسين لتقديم العشور وبكور ثمارهم للرجل المسن. وعندما
رآهم الأب المسن يكيلون العطايا الكثيرة، اشتاق أن يرد لهم بعض الجميل مقابل
عطاياهم، فبدأ يزرع فيهم الروحيات نظير الجسديات التي حصدها، وذلك كقول الرسول
(1كو11: 9)، وهكذا بدأ يقدم لهم كلمة نصح.

 

2-
نصيحة الأب يوحنا لثيوناس وغيره

حقًا
إنني مبتهج يا أولادي بسخاء عطاياكم وتقدماتكم الجليلة التي تقدمتم بها. وإنني
أتقبلها شاكرًا إذ تقدمون البكور والعشور لسد احتياجات المعوزين كتقدمة للرب،
رائحة ذكية للمُخَلص، مؤمنين أن الرب يبارك أثماركم وكل ما قدمتم منه تقدمة حسب
وصيته… “اكرم الرب من مالك ومن كل باكورات غلتك، فتمتلئ خزائنك شبعًا،
وتفيض معاصرك (أوانيك) مسطارًا (خمرًا) (أم 9: 3، 10).

إنكم
ستكافأون في هذا العالم بغنى عظيم من الأمور الصالحة… وإذ صنعتم هذا بإيمان
اعلموا أنكم قد أوفيتم بر الناموس القديم الذي تعداه الذين كانوا عائشين تحته
فصاروا تحت المعصية، بينما لو نفذوه لبلغوا إلى الكمال…

 

3-
بخصوص العشور والبكور

حقًا
حسب وصايا الله كانت العشور تكرس لخدمة اللاويين، وأما التقدمات والبكور فللكهنة
(عد26: 18، 9: 5،10)، لكن وصية البكور كانت هكذا أن يؤخذ عُشر الثمار أو الحيوانات
ويقدم لخدمة الهيكل والكهنة. فكان البعض بغير مبالاة يُنقص هذه النسبة، بينما
الورعون كانوا يضيفون عليها. أعطى البعض 60/1 فقط من العشور والآخر أعطى 14/1 من
ثماره. أما بالنسبة للأبرار الذين لا يُعتبر الناموس بالنسبة لهم تشريعًا، إذ هم
ليسوا تحت الناموس، فإنهم لا ينفذون الناموس ويفون به فحسب، بل ويفوقون كماله،
ويكون ولاؤهم لما هو أكثر من المطالب القانونية لأنهم يتجاوزون حدود الناموس
مضيفين إلى ما يطلبه بإرادتهم الحرة.

 

4-
بعض رجال العهد القديم أوفوا أكثر مما يطلب الناموس

 نقرأ
أن إبراهيم فاق مطالب الناموس التي أعطيت فيما بعد، لأنه بعد انتصاره على الأربع
ملوك، لم يلمس شيئًا من غنائم سدوم التي كانت له حقًا كمنتصر، والتي عرضها عليه
ملك سدوم بنفسه الذي أنقذه إبراهيم… لكنه صرخ مقسمًا باسم الله قائلاً: “رفعتُ
يدي إلى الرب الإله العلي مالك السماءِ والأرض لا آخُذَنَّ لا خيطًا ولا شراك نعل
ولا من كل ما هو لك” (تك22: 14،23).

 كذلك
نعلم عن داود أنه زاد عن مطالب الناموس. لأن موسى أمر أن يؤخذ بالثأر من الأعداء
(خر24: 21)، لكن داود لم يفعل ذلك بل شمل مضطهديه بالحب، وتوسل إلى الله من أجلهم،
وبكى من أجلهم بمرارة حينما قُتلوا.

بالتأكيد
نحن نعلم أن إيليا ونحميا لم يكونا تحت الناموس مع أنه لا ملامة عليهما لو كانا قد
تزوجا. ومع هذا فضلاً أن يكونا بتوليّين. كذلك نقرأ أن إليشع وآخرين نهجوا على
منوالهما إذ فاقوا وصايا موسى، هؤلاء الذين يقول عنهم الرسول: “طافوا في جلود
غنمٍ وجلود معزى، معتازين مكروبين مُذَلّين، وهم لم يكن العالم مستحقًّا لهم،
تائهين في براريَّ وجبال ومغاير وشقوق الأرض” (عب37: 11،38).

وماذا
أقول عن أبناء يوناداب بن ركاب، الذين نسمع عنهم أنهم عندما قدم لهم إرميا خمرًا
قالوا له: “لا نشرب خمرًا، لأن يوناداب بن ركاب أبانا أوصانا قائلاً لا
تشربوا خمرًا أنتم ولا بنوكم إلى الأبد، ولا تبنوا بيتًا، ولا تزرعوا زرعًا، ولا
تغرسوا كرمًا، ولا تكن لكم بل أسكنوا في الخيام كل أيامكم” (إر6: 35،7). لهذا
السبب أيضًا سمح لهم أن يسمعوا من نفس النبي: “لذلك هكذا قال رب الجنود إله
إسرائيل[2]. لا ينقطع ليوناداب بن ركاب إنسان يقف أمامي كل الأيام” (إر19: 35).

هؤلاء
جميعًا لم يكتفوا بتقديمهم العشور بل رفضوا الممتلكات وقدموا لله أنفسهم وأرواحهم
التي لا يمكن للإنسان أن يعوض عنها كما يشهد الرب في الإنجيل قائلاً: “ماذا
يُعطي الإنسان فداءَ عن نفسهِ؟!” (مت26: 16)

 

5-
كيف يُلزم على من يعيشون في عهد النعمة أن يفوقوا مطالب الناموس؟

 يجدر
بنا أن نعلم أننا لسنا مطالبون بأوامر الناموس لكن ترنّ في آذاننا كلمات الإنجيل
يوميًا: “إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبِعْ أملاكك وأعطِ الفُقَرَاءَ فيكون
لك كنز في السماءِ وتعال اتبعني” (مت21: 19).

 عندما
نقدم لله العشور نكون لا نزال منحدرين إلى أسفل نحو الأرض تحت عبء الناموس، عاجزين
عن الارتفاع إلى علو الإنجيل الذي من يعمل بموجبه يُكافأ ليس فقط ببركات الحياة
الحاضرة بل بالخيرات العتيدة… إذ يقول الرب لتلاميذه: “طوبى للمساكين
بالروح. لأن لهم ملكوت السموات” (مت3: 5). “وكلُّ مَن ترك بيوتًا أو
أخوةً أو أخوات أو أبًا أو أمًّا أو امرأَةً أو أولادًا أو حقولاً من أجل اسمي
يأخذ مائة ضعفٍ ويرث الحياة الأبدية ” (مت29: 19).

جدير
بالثناء لا أن نقلع عن الأمور المحرمة، بل ونزهد الأمور المحللة، عالمين بأنه قد
سُمح لنا أن نستخدمها بقدر ضئيل من أجل ضعف بشريتنا. لهذا إن كان الذين يقدمون
عشور ثمارهم في طاعة لوصايا الله بإخلاص لا يقدرون أن يرتفعوا إلى علو الإنجيل،
فكيف يكونوا مشتركين في نعمة الإنجيل أولئك الذين يتغافلون عن تنفيذ وصايا الناموس
الهينة؟ والتي يشهد عنها واهب الناموس إن اللعنة تحل بالذين يغفلونها… “ملعون
من لا يقيم كلمات هذا الناموس ليعمل بها” (تث26: 27). لكن في عهد النعمة فإنه
بسبب سمو الوصايا وعلوها يقال “من استطاع أن يقبل فليقبل” (مت12: 19).
في عهد الناموس نجد قوة الإلزام القوي من أجل سهولة الشرائع فيقول: “اُشِهدُ
عليكم اليومَ السماءَ والأرض أنكم تبيدون سريعًا عن الأرض” (تث26: 4). لكن
تظهر سمو الوصايا وعلوها في الحقيقة من أن الله (في العهد الجديد) لا يأمر بل ينصح
قائلاً: “إن أردت أن تكون كاملاً اذهب” اعمل هذا أو ذاك.

 في
العهد القديم يضع موسى ثقلاً لا يحق أن يرفضه غير الراغبين، وهنا بولس ينصح
الراغبين في الكمال والمشتاقين إليه. لأن هذا لا يتمتع به الكل ولا يطلبه الكل
كناموس إلزامي لأنه لا يقدر الكل أن يتممه بسبب طبيعته العجيبة السامية، إنما
بالنصح يحث الكل بالنعمة، فالذين يرتفعون يستحقوا أن يكللوا بسبب كمال فضائلهم.
أما الضعفاء فلا يستطيعوا أن يصلوا إلى “قياس قامة مِلْءِ المسيح” (أف13:
4)، فإنهم وإن لم يدركوا التمتع ببهاء لمعان الكواكب…، لكنهم يقدرون أن يتحرروا من
لعنات الناموس ولا يقاسوا من بلايا حاضرة، ولا يُعاقبوا بعقاب أبدى (ويكون لهم
نصيب أبدى لكن ليس مثل من صاروا كواكب لامعة)[3].

 إذن
لا يُكره المسيح أحدًا أن يرتفع بالإلزام على مرتفعات الصلاح السامية هكذا، إنما
يحثه بنصائح حكيمة، ويشوّقه للكمال ليقبله بإرادته الحرة. لأنه إذا من وُجد أمر
فيكون لزامًا على من يخالفه أن يسقط تحت العقاب. وبالتالي من ينفذه يهدف إلى تجنب
العقاب الذي هدد به الناموس القاسي وليس لنوال مكافأة أو صواب.

 

6-
نعمة الإنجيل تعضد الضعفاء

 كما
أن كلمة الإنجيل ترفع الأقوياء إلى مرتفعات سامية وعالية، كذلك لا تسمح للضعفاء أن
ينحدروا إلى الأعماق، لأنها تضمن للكاملين تمام البركة، وتهب غفرانًا للذين
ينهزمون بسبب الضعف. فالناموس وضع الذين ينفذونه في حالة وسطى، فلا يسقطوا في
دينونة العاصين وفي نفس الوقت لا ينالوا مجد الكاملين. لكن هذا أمر مملوء بؤسًا،
لأننا إن قارناه بما يحدث في الحياة الحاضرة، فإنه يكون أمرًا رديئًا أن يتعب
الإنسان ويبذل العرق لا ليصير غنيًا ومكرمًا ومشهورًا إنما خشية أن يعتبره
الصالحون مجرمًا.

 

7-
سلطاننا أن نختار البقاء تحت نعمة الإنجيل أو تحت خوف الناموس[4]

لهذا
السبب فإننا اليوم لنا سلطان أن نختار الحياة تحت نعمة الإنجيل أو تحت خوف الناموس.
فلكل إنسان أن يميل إلى جانب أو آخر حسب صفة أعماله. أما نعمة المسيح فترحب بالذين
يفوقون مطالب الناموس. أما الناموس فيخضع تحته الضعفاء الذين هم مدينون له وفي
قبضته.

 فالشخص
الخاضع لشرائع الناموس، ولم يُوفِ مطالبها بعد لا يقدر أن يصل إلى كمال الإنجيل،
حتى ولو كان يفخر – في تهاونه – أنه مسيحي ومتحرر بنعمة الرب. لأنه يلزمنا ليس فقط
أن نعتبر الإنسان الرافض تنفيذ ما يطلبه الناموس أنه لازال تحت الناموس، بل والذي
يكتفي بالتوقف عند حدود مطلب الناموس، دون أن تكون له ثمار تليق بدعوة المسيح ونعمته
حيث لا يطلب الرب العشور والبكور بل يقول “اذهب وبِعْ أملاكك وأعطِ
الفُقَرَاءَ… وتعال اتبعني” (مت21: 19). وبسبب عظمة الكمال لم يسمح للتلميذ
حتى بوقت قصير لكي يذهب ويدفن أباه (مت21: 8)، لأن فضيلة الحب الإلهي تفوق مرتبة
الواجب الإنساني.

 

8-
تحريضه زوجته لنبذ العالم[5]

إذ
سمع ثيوناس المبارك هذا الكلام التهب قلبه بشوق لا يحد إلي كمال الإنجيل، واستودع
– على حد التعبير – بذرة الكلمة التي قبلها في ثنايا قلبه المثمرة العميقة
المنكسرة. إذ انسحقت نفسه بسبب فشله في بلوغ كمال الإنجيل متممًا بالجهد أوامر
الناموس إذ اعتاد أن يقدم كل عام عشور ثماره لله. وكان يبكي لأنه لم يكن قد سبق له
أن سمع عن البكور، وإن كان يدفعها فإنه إلى هذا الحد لا يزال – في نظر الشيخ –
بعيدًا جدًا عن كمال الإنجيل.

عاد
إلى بيته حزينًا… وعزم أن يحول كل اهتمام زوجته وشوق عقلها نحو الخلاص. وبدأ يحثها
بنفس مشتاقة متلهفة على ما انشغل به. كان ينصحها حاثًا إيّاها بدموع نهارًا وليلاً
لكي ما يخدما الله سويًا في قداسة وعفة، قائلاً لها إنه يجدر بهما ألا يؤجلا
تحولهما إلى الحياة الأفضل، لأن حداثة سنهما لا يعفيهما من احتمال موت مفاجئ محتوم…

 

9-
ولما كانت زوجته قاسية لم توافق، فثابر بتوسلات من أجل هذا الأمر… وبعدما حاججها
بخصوص ضعف الطبيعة البشرية لمدة طويلة كان يقول لها إنه لا يليق بأي إنسان أن يحرم
نفسه من تلك الفضيلة التي يلزمنا الالتصاق بها، وأن ازدرائنا بالصلاح بعدما نتعرف
عليه هو أشد خطرًا من عدم حبنا له قبل أن نتعرف عليه…

هذا
وسمو الكمال مبسوط لكل سن ولكل جنس، وقد نُصح جميع أعضاء الكنيسة أن يتسلقوا
مرتفعات الصلاح السماوية، إذ يقول الرسول: “هكذا اركضوا لكي تنالوا”
(1كو24: 9). لهذا لو كان ممكنا أن نصغي بتعقل، ونتحول سويًا إلى هذا الاختيار
المشتهي للغاية، أقصد أن نخدم الرب سويًا… فإنني لا أرفض رباط الزواج، لا بل
أسلم به في حب أعظم. لأنني بهذا أشهد معترفًا لزوجتي التي عينها لي الرب وأكرمها،
ولا أرفض الارتباط بها برباط الحب في المسيح، الذي لا ينفك أبدًا.

 

10-
لا يتصور أحد أننا قلنا هذا لأننا ندين الزواج في أي صورة من صوره، إنما نتبع
كلمات الرسول القائل أن الزواج مكرم في كل شيء والفراش غير مدنس…

 

11-
سؤال: لماذا لا نصوم أو نصنع مطانيات في الخماسين؟

لقد
حان الوقت الذي فيه نتابع المناظرة التي وعدنا بها. فإذ جاءنا الأب ثيوناس
ليفتقدنا في قلايتنا أثناء الخماسين بعدما انتهت تسبحة المساء، جلسنا معًا على
الأرض، وبدأنا نتأمل بدقة لماذا كان (الرهبان المصريون) حريصين إلى هذا الحد ألا
يحني أحد منهم ركبته أثناء الصلاة في أيام الخماسين، ولا يجرؤ أن يصوم حتى الساعة
التاسعة، وقد استفسرنا عن ذلك لأننا لم نرَ في أديرة سوريا مراعاة هذا الأمر
بعناية كهذه.

 

12-
ثيوناس

 بدأ
الأب ثيوناس يجيب على هذا قائلاً:

 حقًا
يليق بنا، حتى إن كنا لا نعرف السبب، أن نخضع لسلطان آبائنا وتقليد أسلافنا الذي
داوموا عليه سنين عديدة إلى وقتنا هذا، فنراعيه كأمر مُسلم إلينا من القدم،
باحترام لائق واهتمام دائم. لكن إذ تريدون أن تعرفوا أساس هذا الأمر وأسبابه فإنني
أسلمكم في كلمات قليلة ما قد تسلمناه من آبائنا بخصوص هذا الموضوع…

لقد
عينت الحكمة الإلهية في سفر الجامعة أن لكل شيءٍ وقت مناسب له، سواء كان هذا الأمر
مفرحًا أو مؤلمًا… إذ تقول: “لكل شيءٍ زمان ولكل أمرٍ تحت السموات وقت.
للولادة وقت وللموت وقت. للغرس وقت ولقلع المغروس وقت. للقتل وقت وللشفاءِ وقت.
للهدم وقت وللبناءِ وقت. للبكاءِ وقت وللضحك وقت. للنوح وقت وللرقص وقت. لتفريق
الحجارة وقت ولجمع الحجارة وقت. للمعانقة وقت وللانفصال عن المعانقة وقت. للكسبْ
وقت وللخسارة وقت. للصيانة وقت وللطرح وقت. للتمزيق وقت وللتخييط وقت. للسكوت وقت
وللتكُّلم وقت. للحب وقت وللبغضة وقت. للحرب وقت وللصلح وقت” (جا1: 3-8).
وأيضًا يقول: “لأن لكل أمرٍ ولكل عملٍ وقت” (جا17: 3). وعلى هذا ليس شيء
من هذا يكون صالحًا إلا إذا صنع في الوقت المناسب المضبوط.

 هذه
الأمور التي تُصنع في وقت معين تظهر صالحة إذا صنعت في اللحظة المضبوطة، أما إذا
أقدم الإنسان عليها في غير وقتها تصير بلا نفع أو ضارة. هذا يخالف الأمور التي
بطبيعتها الخاصة صالحة أو شريرة، والتي لا يمكننا أن نحول طبيعتها إلى الجانب
الآخر. وذلك مثل الحكمة والاحتمال والعفة وغير ذلك من الفضائل، أو مثل الخطايا
التي لا يُمكن بأية حال أن نغير من وصفها أو نجعلها تحت عنوان آخر. أما الأمور
التي يمكن أن تظهر صالحة أو شريرة حسب شخصية من يستخدمها، هذه لا نعتبر طبيعتها في
ذاتها مفيدة أو ضارة، إنما حسب عقل صانعها ووقت صنعه لها.

 

13-
نوع صلاح الصوم

لو
اعتقدنا أن الصوم ضمن قائمة الفضائل السابقة الذكر حتى أن مجرد الامتناع عن الطعام
يكون صالحًا في ذاته، فإنه بهذا حتمًا يكون الاشتراك في الطعام أمرًا شريرًا بطبعه،
لكن الكتاب المقدس لا يسمح بهذا. لأننا إن صُمنا بهذا الفكر وذلك المقصد ظانين أن
من يتناول الطعام يسقط في الخطية، فإننا ليس فقط لا ننال نفعًا عن امتناعنا عن
الطعام والشراب، إنما نسقط في بدعة فظيعة وضلال. وكما يقول الرسول: “آمرين أن
يُمتنَع عن أطعمةٍ قد خلقها الله لتُتناول بالشكر من المؤمنين وعارفي الحق، لأن كل
خليقة الله جيدة ولا يُرفَض شيء إذا أُخِذ مع الشكر” (1تي3: 4،4). لأنه
“ليس شيء نجسًا بذاتهِ إلاَّ مَنْ يحسب شيئًا نجسًا فلهُ هو نجس” (رو14:
14).

 لذلك
لا نقرأ قط عن أحد أنه سيُلام من أجل تناوله الطعام، إنما يدان من أجل ارتباطه به أو
الاستعباد له.

 

14-
ليس الصوم صالحًا في ذاته

من
هذا يظهر بوضوح أن الصوم ليس هو بالأمر الشرير ولا الصالح. بمعنى أنه يجلب التبرير
عندما نراعيه كما ينبغي، لكن لا نسقط في الدينونة عندما نمتنع عنه (لِلضرورة)…

فالأمور
التي نستخدمها في ظروف معينة وأوقات مناسبة تقدسنا عندما نراعيها من غير أن تفسدنا
عندما نتركها، هي أمور ليست صالحة ولا شريرة، وذلك مثل الزواج والزراعة والثروة
والاعتزال في الصحراء والسهر وقراءة الكتاب المقدس والتأمل فيه والصوم الذي هو
موضوع نقاشنا… لذلك فإن هذه الأمور أو بعضها أمَرَنا أسلافنا أن ننفذها بتبصر،
وأن نهتم بالدافع لها ومكان التنفيذ والوسيلة والزمن، لأننا متى نفذناها بطريقة
مناسبة تصير صالحة وملائمة وإن صنعناها بانحراف تصير شريرة ومؤذية.

 مثلا
إذا قدم علينا أخ أما يلزمنا أن نخدم السيد المسيح في شخص الأخ فنستقبله بترحاب
ولطف للغاية، ويكون من الوقاحة أن نلتزم بالصوم الحازم أمامه فننال منه مديحًا
ومكافأة من أجل تعبدنا؟!

 وإذا
ألزمنا عجز الجسد أو ضعفه أن نأكل لكي نسترجع قوتنا، أفلا يُعتبر الامتناع عن
الطعام والشراب باستهتارٍ كقتل للجسد أكثر منه حرصًا على خلاص النفس؟

 كذلك
إذ يتناسب مع العيد أن يأكل الإنسان طعامًا دسمًا إلى حد ما، فإن صمم الإنسان على
الصوم أفلا يعتبر كإنسانٍ فظ ومخالفٍ؟!

 كذلك
يعتبر الصوم شرًا بالنسبة للذين يترقبون به مديح الناس. هؤلاء تقول عنهم كلمة
الإنجيل إنهم قد نالوا أجرهم في هذه الحياة. بل ويرفض الله صومهم إذ يقول على لسان
النبي: “يقولون لماذا صمنا ولم تنظر؟! ذلَّلنا أنفسنا ولم تلاحظ؟! ها إنكم في
يوم صومكم تُوجِدون مسرَّةً وبكل أشغالكم تسخرون. ها إنكم للخصومة والنزاع تصومون
ولتضربوا بلكمة الشر. لستم تصومون كما اليوم لتسميع صوتكم في العلاءِ. أمثل هذا
يكون صوم أختارهُ؟! يومًا يذلّل الإنسان فيهِ نفسهُ يحني كالأسلة رأسهُ ويفرش
تحتهُ مسحًا ورمادًا. هل تسمي هذا صومًا ويومًا مقبولاً للرب؟! أَليس هذا صومًا
أختارهُ حَلَّ قيود الشر. فَكَّ عُقَد النير وإطلاق المسحوقين أحرارًا وقطع كل
نيرٍ؟! أليس أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك. إذا رأيت
عريانًا أن تكسوهُ وأن لا تتغاضى عن لحمك؟! حينئذٍ ينفجر مثل الصبح نورك وتنبت
صحتك سريعًا ويسير برك أمامك ومجد الرب يجمع ساقتك. حينئذٍ تدعو فيجيب الرب.
تستغيث فيقول هأنذا” (إش 3: 58-9).

 ها
أنتم ترون كيف لا يعتبر الله الصوم صالحًا في ذاته، إنما يصير صالحًا وسارًا لله
متى اقترن بأعمال أخرى. في ظروف معينة لا يحسب الصوم باطلاً بل ومكروهًا فعلاً، إذ
يقول الرب: “حين يصومون لا أسمع صراخهم” (إر12: 14).

 

15-
الصوم وسيلة لا غاية

 يجدر
بنا ألا نمارس الرحمة والصبر والحب… الأمور الصالحة بطبعها من أجل الصوم، بل
بالأحرى نمارس الصوم من أجلها. فإن همتنا هي أن نبلغ تلك الفضائل الصالحة خلال
الصوم، وليس أن نبلغ الصوم خلال هذه الفضائل كنتيجة لها. فإذ ألم الجسد مفيد، لهذا
استخدم الآباء هذا العلاج، أي الزهد في الطعام والشراب، لكي ننجح في الوصول إلى
الحب، أي لنبلغ الأمر الصالح الذي لا يتغير خلال الزمن.

 لأن
الفنون لا تُستخدم من أجل الأدوات الخاصة للعمل بها، إنما بالأحرى تُستخدم الآلات
لأجل ممارسة الفن… وكما أن هذه الأدوات مفيدة للذين يفهمونها، كذلك فهي غير
نافعة للذين يجهلون استخدامها. وكما أنها تعين الذين يستخدمونها، تكون بلا نفع
للذين لا يعرفون غرضها بل يتوقفون عند مجرد امتلاكها وليس للعمل بها… إذن الشيء
غير الصالح أو طالح في ذاته هو وسيلة لتحقيق ما هو صالح بطبعه، أما الثاني فلا
يستخدم من أجل الأول بل لأجل ذاته.

 

16-
علامات الأمر الصالح بطبعه

ويمكن
تمييز الشيء الصالح بطبعه عما هو ليس بصالح ولا شرير بالعلامات الآتية:

(أ)
إذا كان صالحًا بذاته وليس بسبب شيء آخر.

(ب)
إذا كان نافعًا بذاته وليس بشيء آخر.

(ج)
إذا كان يبقى صالحًا دون تغيير خلال الزمن، فلا ينقلب إلى الضد.

(د)
إذا كان في الامتناع عنه لا يسبب ضررًا.

(ه)
إذا كان ما هو عكسه يكون مضرًا بطبعه ولا يمكن أن يتحول ليصير صالحًا.

بتطبيق
هذه الأوصاف على “الصوم”، نجده ليس صالحًا في ذاته، ولا هو نافع في ذاته
ما لم يُستخدم بحكمة بقصد اقتناء نقاوة القلب والجسد، لأنه عندما تضعف وخزات الجسد
تهدأ النفس وتصطلح مع خالقها. ولا هو صالح صلاحًا بلا تغيير في كل الأوقات، لأنه
كثيرًا ما لا يصيبنا ضرر بسبب الانقطاع عنه، بل أحيانًا يصيبنا ضرر متى استخدمناه
استخدمًا خاطئًا. ولا يبدو ما هو عكسه كأمر شرير، اللهم إلا إذا كان فيه إفراط في
الأكل أو تنعم وترف… لأنه “ليس ما يدخل الفم ينجّس الإنسان. بل ما يخرج من
الفم هذا ينجّس الإنسان” (مت11: 15).

 

18-
كيف لا يكون الصوم مناسبًا في كل الأوقات؟

 إذ
تكلمنا عن شروط الصوم، يبدو أنه من المناسب أن نأتي بشهادة الكتاب المقدس من جهة
أن الصوم لا يجوز أن يكون على الدوام. جاء في الإنجيل أنه إذ كان الفريسيون صائمون
هم وتلاميذ يوحنا، لم يحفظ التلاميذ طقس الصوم بكونهم أصدقاء العريس السماوي.
اشتكى تلاميذ يوحنا للرب، هؤلاء الذين ظنوا أنهم اقتنوا البر الكامل بأصوامهم
لكونهم أتباع الكارز بالتوبة العظيم الذي قدم مثالاً صالحًا لجميع الناس بقدوته،
رافضًا ليس فقط تنوع الأطعمة بل والخبز الذي هو الطعام العام بين الكل، قائلين له:
“لماذا نصوم نحن والفريسيون كثيرًا وأما تلاميذك فلا يصومون؟!” (مت14: 9)
أوضح لهم الرب أن الصوم ليس مناسبًا أو ضروريًا في كل الأوقات كما في يوم العيد،
أو بدافع محبة لإكرام ضيف، قائلاً لهم: “هل يستطيع بنو العرس أن ينوحوا ما
دام العريس معهم. ولكن ستأتي أيام حين يُرفَع العريس عنهم فحينئذٍ يصومون”
(مت15: 9). هذه الكلمات نطق بها قبل قيامته مشيرًا إلى فترة عيد الفصح إذ أكل بعد
قيامته مع تلاميذه خلال الأربعين يومًا، وبسبب فرحهم الدائم بحضوره وسطهم لم يسمح
لهم أن يصوموا.

 

19-
لماذا لا نصوم خلال الخماسين؟

 جرمانيوس:
لماذا نكف عن صرامة الصوم خلال الخمسين يومًا، مع أن المسيح ظل مع تلاميذه أربعين
يومًا فقط بعد قيامته؟

 

20-
الأب ثيوناس

يلزمنا
أن نقدم جوابًا حقيقيًا مضبوطًا لسؤالك السديد هذا. بعد صعود مخلصنا الذي تم في
اليوم الأربعين بعد قيامته، رجع التلاميذ من جبل الزيتون… ودخلوا إلى أورشليم
وانتظروا عشرة أيام من أجل حلول الروح القدس. وإذ تحقق ذلك في اليوم الخمسين قبلوه
بفرح. هكذا تحقق العيد بوضوح بعدما جاء بصورة رمزية في العهد القديم حيث كان يُطلب
عمل عيد بعد سبعة أسابيع (49 يومًا ابتداء من وضع المنجل في الزرع)، فيه يقدمون
للكهنة بكور الثمار، وقد قدم الشعب في يوم الخمسين طعامًا حقيقيًا نتيجة وعظ الرسل
في ذلك اليوم كبكور للتعليم الجديد وبداية للشعب المسيحي للرب… لهذا يلزم أن
تبقى هذه الأيام العشرة بنفس الوقار والفرح اللذين للأربعين السابقة. وقد أخبرنا
التقليد الذي استلمناه من رجال رسوليين أن نحفظ هذا النظام. فلا نحني ركبنا في هذه
الأيام أثناء الصلاة، لأن احناء الركب علامة الندامة والنوح، إنما نراعي هذه
الأيام كاحتفالات مثل يوم الأحد، فلا نحني ركبنا ولا نصوم تكريمًا لقيامة الرب.

 

21-
أما يضر الامتناع عن الصوم طهارة الجسد؟

 جرمانيوس:
أما ينجذب الجسد إلى الإهمال مما يزيد من مثيرات الخطية التي بتُرت، وذلك بتنعمنا
بالمأكولات غير العادية في عيد طويل هكذا؟ أو هل تستطيع النفس المثقلة بسبب الإسراف
في الولائم غير العادية ألا تخفف من سيطرتها على الجسد – العبودية لها – خاصة
بالنسبة لمن هم في سننا حيث يمكن لأعضائنا أن تثور ثورة سريعة متى تجرأنا على
تناول طعامنا العادي بكميات أكبر، أو طعامًا غير عادي بحرية فوق ما اعتدنا؟!

 

22-
ثيوناس

إن
كنا نصنع كل عمل باتزان، غير فاحصين آراء الناس الآخرين من جهة نقاوة قلبنا، بل
نفحص ضمائرنا ذاتها، فإن هذه الفترة التي للراحة لنتقلل من حزمنا وضبطنا لأنفسنا.
ذلك فقط كما قلت لو فكر عقلنا في الحدود المعقولة الخاصة بالسماح لنا بالأكل أو
عدم السماح به، ممتنعين عن كل إفراط في أي الجانبين، مميزين بإفراز حقيقي إن كان
اندفاعنا في التنعم ثقل على أرواحنا أو مغالاتنا الزائدة في الصوم ما يثقلها أيضًا…
فإن ربنا لا يرضى أن نفعل شيئًا من أجل مجده دون أن نمزجه بالإفراز (التمييز) لأن
عز الملك أن يحب التمييز (الحق) (مز4: 99). لهذا نجد سليمان – أحكم الناس – يحثنا
على عدم الانحراف في أي الجانبين قائلاً لنا أن نكرم الرب بالأتعاب المملوءة برًا
ونقدم له ثمار البرّ.

فإذ
يسكن في ضميرنا قاضٍ عادلٍ غير مرتشٍ، فإنه حتى إن أخطأ الكل لكن نقاوتنا الداخلية
لن تنخدع قط. وهكذا يلزمنا أن نحتفظ بهدوء دائم في قلبنا المتيقظ بكل اجتهاد
واهتمام، حتى لا يضل حُكم إفرازنا، فننشغل بمجرد صوم مملوء حماقة (أي مفرط) أو
بتلذذ باسترخاء زائد. وهكذا نثقل قوتنا في ميزان غير سليم. إنما يجب علينا أن نضع
نقاوة نفوسنا في كفة وقوتنا الجسمية في كفة أخرى، ونزنهما بحكم ضميرنا العادل، حتى
لا نميل منحرفين إلى كفة على حساب الأخرى، أي إلى حزم غير لائق أو استرخاء بتفريط…

لأن
تقدمات الصوم التي نندفع فيها بلا تفكير تمزق أمعاءنا بعنف ونحن حاسبون أنها تُقدم
بطريقة سليمة للرب. لكن ذاك الذي “يحبُّ البرَّ والعدل (الإفراز)” (مز5:
33) يكره السلب في تقدمة المحرقة… الذين يسلبون النصيب الأكبر من تقدمتهم (إذ
يصومون للكرامة البشرية)… تاركين النصيب الأصغر جدًا للرب، هؤلاء تدينهم الكلمة
الإلهية كفعلة خادعين قائلة لهم: “ملعون من يعمل عمل الرب بغش (برخاوة)..”
(إر 10: 48).

 إذن
ليس بغير سبب يوبخ الرب من يخدع نفسه باعتبارات غير صحيحة فيقول: “إنما باطل
بنو آدْم. كذب بنو البشر. في الموازين هم إلى فوق” (مز 9: 62). لهذا يوصينا
الرسول المبارك أن نقبض بزمام الإفراز ولا ننحرف إلى المغالاة في أي الطريقين (رو
3: 12). ويمنع واهب الشريعة نفس الأمر قائلاً: “لا ترتكبوا جورًا في القضاءِ
لا في القياس ولا في الوزن ولا في الكيل” (لا 35: 19). إذن يجدر بنا ألا تكون
في قلوبنا موازين ظالمة، ولا موازين مزدوجة في مخزن ضميرنا، بمعنى أنه يجب علينا
ألا نحطم من يلزمنا أن نكرز لهم بكلمة الرب، بشرائع حازمة مغالى فيها أثقل مما نحتملها
نحن، بينما نعطي لأنفسنا الحرية ونخفف منها… لأنه إن كنا نزن لاخوتنا بطريقة
ولأنفسنا بأخرى يلومنا الرب بأن موازيننا غير عادلة ومقاييسنا مزدوجة، وذلك كقول
سليمان بأن الوزن المزدوج هو مكرهة عند الرب والميزان الغاش غير صالح في عينيه
(راجع أم 10: 20).

 

23-
وقت الراحة وقدرها

 بهذا
يجدر بنا مراعاة الأيام المذكورة بطريقة كهذه حتى يمكن أن تكون الراحة مفيدة وغير
مضرة للجسد والنفس. لأن فرحة أي عيد لا تُضعف أشواك الجسد، ولا يمكن لعدونا
المتوحش (الشيطان) أن يهدأ بسبب أيام الراحة هذه. فلكي ما نحفظ تقاليد موسم العيد،
ولكي لا نخضع لقانون الصوم… يكفي لنا في هذا الوقت أن نتناول الطعام الساعة
السادسة[6] (12 ظهرًا) بدلاً من الساعة التاسعة، من غير أن نغيّر من كمية الطعام
ونوعه حتى لا نفقد نقاوة الجسد وصلاح النفس الذين نلناهما أثناء الصوم الكبير…

 يجب
أن نحترس بيقظة إلى المنتهى لئلا تخور نفوسنا بسبب الغوايات فنفقد نقاوة طهارتنا
التي نلناها وذلك بالراحة والإهمال في وقت عيد الفصح بعد جهاد مستمر طوال الصوم
الكبير. لهذا يلزمنا ألا نضيف شيئًا إلى نوع الطعام أو كميته، بل حتى في اسمي
الأعياد يجب أن نمتنع عن هذه الأطعمة حتى لا يثير فينا فرحنا بالعيد صراعًا مميتًا
للغاية بسبب الشهوات الجسدانية، وهكذا نتحول إلى الحزن. فنعود نبكي نقاوة قلبنا
المفقودة بحزن الندم اللانهائي.

 في
نفس الوقت يجدر بنا أن نسعى لئلا نُوبخ بهذا التحذير “عَيِّدي يا يهوذا
أعيادكِ أوفي نذوركِ” (نا 15: 1). لأنه إن كانت أيام العيد لا تتعارض مع
استمرار زهدنا، فإننا نتمتع بأعياد روحية دائمة…

 

24-
بخصوص عدد أيام الصوم الكبير

لم
يعلمنا أسلافنا شيئًا غير معقول. ففي الناموس كانت الوصية لجميع الناس
“تقدمون للرب إلهكم عشوركم وبكوركم”. وإذ نحن نؤمر بتقديم عشور ثروتنا المادية
وكل ثمارنا، نحتاج بالأكثر أن نقدم عشور حياتنا وأعمالنا وأفعالنا العادية، والتي
بلا شك نقدمها خلال الصوم الكبير. لأن عشور السنة 36 يومًا ونصف تقريبًا. لكن في
السبعة أسابيع إذا طُرحت منها الآحاد والسبوت يتبقى 35 يومًا للصوم (الانقطاعي).
وبإضافة عشية عيد الفصح أي طول يوم السبت حتى صياح الديك في فجر العيد لا يصير
العدد 36 يومًا فحسب بل وعليه عشور الخمسة أيام الأخرى وذلك إذ حسبنا الجزء من
الليل الذي أضيف على يوم السبت.

 

26-
بخصوص البكور

ماذا
أقول عن البكور التي يقدمها كل خدام المسيح بإخلاص كل يوم؟ عندما يستيقظون من
النوم وينهضون بنشاط متجدد بعد فترة راحة، قبل أن يدخل إليهم أي فكر، أو يقبلوا
تذكر أي عمل يكرسوا بداية أفكارهم كتقدمة مقدسة للرب. ماذا يفعلون سوى تقديم بكور
محصولهم عن طريق الكاهن الأعظم – يسوع المسيح – لأجل التمتع بهذه الحياة؟…

أيضًا
عندما يستيقظون من النوم، يقدمون أيضًا لله قربان الفرح متضرعين إليه بأول حركة من
حركات ألسنتهم لمدح اسمه ومجده، فاتحين باب شفاهم أول كل شيء في ترتيل الألحان له
لتخدم الله.

بنفس
الطريقة أيضًا يقدمون بكور ذبائح أيديهم وخطواتهم، عندما يقومون من الفراش ويقفون
للصلاة قبل أن يستخدموا أطرافهم في أعمالهم الخاصة… يقدمون بكور كل حركاتهم ببسط
أيديهم واحناء ركبهم وإخضاع الجسد كله… لأننا لا نستطيع بطريق آخر أن نحقق ما
ترنم به المرتل: “سبقت فبلغت في غير وقت وصرخت.. سبقت عيناي وقت السحر لألهج
في جميع أقوالك” (مز 147: 119، 148) إلا إذا كنا بعد فترة راحة النوم نعود
إلى هذا النور كما من الظلام والموت، لا نتجاسر بالبدء في أية خدمة من كل الخدمات
الخاصة بالعقل والجسد لنفعنا الخاص…

 لنحرص
قدر المستطاع أن نتيقظ لكي نقدم أول أفكارنا الصباحية وبكرها قبل أن تتدنس بواسطة
عدونا الحسود الذي يحاول أن يمتلكها بسرعة، فتكون بكور ثمارنا مرفوضة من الرب كشيء
لا قيمة له. فإذا لم ننتبه متيقظين فإنه لا يكف عن أن يشغلنا العدو كعادته ويسبق
فيمتلك أفكارنا بحيله كل يوم. لهذا إن كنا نريد أن نقدم بكور ثمارنا لتكون مقبولة
لدى الله وموضوع رضائه، يلزمنا ألا نضيع أقل اهتمام لكي نحفظ حواس جسدنا للرب،
خاصة في أثناء ساعات الصباح لتكون محرقة نقية بلا دنس في شيء…

 هذا
النوع من العبادة يراعيه كثير من سكان العالم باهتمام بالغ، إذ يستيقظون قبل السحر
باكر جدًا ولا يختلطون بأي عمل عادي أو ضروري، وقبل أن يسرعوا إلى الكنيسة مكرسين
بكور عملهم وفعلهم لله[7]…

 

29-
عدم توقف الكاملين من الرهبان عند حدود الصوم المفروض

الإنسان
البار والكامل لا يتقيد بهذا القانون الخاص بالصوم الكبير ولا يقف عند هذا الحد
البسيط الذي أسسه رؤساء الكنيسة للمنشغلين في أعمالهم وغير صائمين طول العام، وذلك
لكي ما يتقيدوا بهذا الالتزام القانوني، مجبرين أن يخصصوا هذه الأيام (صائمين)
للرب، مكرسين عشور حياتهم له، إذ بغير هذا القانون يمكن أن يتراخوا طوال حياتهم
مستغلين كل وقتهم لنفعهم الخاص الزمني. أما الكاملون فلا يُفرض عليهم قانون، ولا
يخضعون لواجب بسيط، أي العشور، إنما يصومون كل وقتهم، لأنهم أحرار من ثقل العشور
التي حسب الناموس. لكن إذا كانت هناك مناسبة هامة وظرف خاص يمكنهم بغير تردد أن
يحلوا صيامهم، لأنهم لم يقدموا العشر التافه بل قدموا كل مالهم للرب…

 

30-
أصل الصوم الكبير وبدايته

 يجب
أن تعرفوا أنه طالما احتفظت الكنيسة الأصلية بكمالها صحيحًا لا يوجد طقس الصوم
الكبير لأنهم لم يكونوا مقيدين عند حدود هذا الصوم الضيقة جدًا إنما شمل صومهم
العام كله بلا استثناء. لكن رأت الكنيسة خشية أن ينحل البعض من جهة الزهد
والانسحاق أن تفرض قانونًا كنسيًا يُدفع كمثل عشور قانونية. ذلك من أجل نفع الاخوة
الضعفاء، وفي نفس الوقت يصير الكاملون الذين يعيشون تحت نعمة الإنجيل متعبدين
تعبدًا اختياريًا فوق مطالب الناموس (أي صائمين العام كله باختيارهم).

 

31-
شرائع الإنجيل أخف من شرائع الناموس

 كل
من يتسلق مرتفعات الكمال الإنجيلي يرتفع إلى أعالي الفضيلة متخطيًا كل قانون،
ناظرًا إلى ما قد أمر به موسى على أنه أمر بسيط سهل، مدركًا أنه بخضوعه لنعمة
المخلص يصل إلى تلك الحالة التي هي في غاية السمو. على هذا لا يكون للخطية سلطان
عليه “لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا” (رو5:
5). بهذا يُنزع عنه كل اهتمام بأي أمر آخر، ولا يرغب في صنع ما هو ممنوع عنه، أو
يهمل فيما قد أمر به، لكن إذ يكمن كل هدفه وكل اشتياقه في الحب الإلهي على الدوام
لا يقع في التلذذ بالأمور التافهة، بل ولا يطلب حتى الأمور المسموح له بها.

تحت
الناموس يسمح بالزوجات الشرعيات، وهذا فيه قمع للذة والخلاعة، مكتفيًا الإنسان
بامرأة واحدة… لكنه لا يبطل بهذا وخزات الشهوة الجسدانية، ويصعب إطفاء النار
المتقدة والتي تُموَن بوقود دائم، حتى لا تخرج إلى الخارج… فلا يسمح لنار الشهوة
أن تخرج خارج هذه الحدود (أي خارج حدود زوجته). لكن رغم وجود هذه الحدود إلا أنها
تبقى في الداخل مكبوتة والإرادة ذاتها مخطئة (إذ يشتهي في قلبه ولو أنه لا يزني
جسديًا). أما الذين تضرمهم نعمة المخلص بحب الطهارة المقدس، فإنهم يُهلكون كل
أشواك الشهوات الجسدية في نار حب الرب…

 إذن
الخاضعون للناموس مع استعمالهم لما هو مشروع ينحطون بالتدريج نحو الأمور المحرمة،
أما المشتركون في النعمة فإنهم إذ يتجاوزون (بإرادتهم) عما هو محلل لا يعرفون
شيئًا عن الأمور المحرمة…

كذلك
من يقنع عند حد دفع العشور والبكور… بالتأكيد يخطئ في طريقة التوزيع أو كميته…
أما الذين لم يزدروا بنصيحة الرب، بل تركوا كل ممتلكاتهم للفقراء وحملوا صليبهم
وتبعوا مانح النعمة، لا يكون للخطية سلطان عليهم، إذ لا يساورهم القلق من جهة
طعامهم اليومي… ولا يفسد بهجة تقديمهم العطايا بتردد مملوء تبرمًا. لأنه يقوم
بتوزيع كل شيء مرة واحدة كتقدمة للرب… ولا يعود له بعد ملكية خاصة، متأكدًا أن
الذي يطعم طيور السماء يهتم به عندما ينجح في تجريد نفسه من كل شيء…، فالشخص
الذي يدفع العشور والبكور… يستحيل عليه أن يتخلص من سلطان الخطية، أما الذي يتبع
نعمة المخلص، فإنه يتخلص من حب الامتلاك.

كذلك
لا يستطيع أن يتخلص من سلطان الخطية من كان بحسب أمر الناموس يقلع عينًا بعين
وسنًا بسن ويكره عدوه، لأنه فيما هو يريد أن يرد الشر بالشر منتقمًا عن الضرر الذي
أصابه وكارهًا عدوه يشتعل بالغضب والسخط. أما الذي يعيش تحت نور الإنجيل فإنه يغلب
الشر بعدم مقاومته، بل باحتماله، بإرادة حرة أن يحتمل اللطم على خده الآخر، أو يهب
الرداء أيضًا لمن يطلب منه ثوبه، وأن يحب أعداءه، ويصلي للذين يسيئون إليه، بهذا
يكسر نير الخطية ويهشم قيودها. لأن من يهلك بذور الخطية، لا تحت الناموس، بل تحت
النعمة التي لا تبتر أغصان الشر إنما تقتلع جذوره التي للإرادة الشريرة.

 

32-
كيف يظهر الإنسان أنه تحت النعمة؟

 أي
إنسان يسعى إلى الوصول إلى كمال التعليم الإنجيلي، هذا الذي يعيش تحت النعمة، لا
يسقط تحت سلطان الخطية، لأن البقاء تحت النعمة معناه العمل بالأمور التي تأمر بها
النعمة.

 أما
الإنسان الذي لا يُخضع نفسه للمطالب الكاملة الخاصة بكمال الإنجيل، فيلزمه ألا
يجهل أنه وإن كان قد اعتمد وصار راهبًا، لكنه بالرغم من هذا فهو ليس تحت النعمة،
إنما مقيد بقيود الناموس ومثقل بأثقال الخطية. لأن ذاك الذي وهب نعمة التبني ويقبل
الذين يقبلونه، يرغب في أن يضيف إلى البناء لا أن يهدمه، إذ أراد أن يكمل الناموس
لا أن يهدمه.

 إذ
لا يفهم البعض هذا الأمر، مهملين نصائح المسيح الرائعة ومواعظه، يتخذون من الحرية
فرصة للإهمال والتهور الزائد، حتى أنهم يعجزون عن تنفيذ أوامر المسيح كأنها صعبة
جدًا، محتقرين أيضًا وصايا الناموس الموسوي[8] كأمر عتيق، مع أن الناموس قدمها
للمبتدئين والأطفال. بهذا ينادون بالحرية الخطيرة التي يلعنها الرسول قائلين
“أَنخطئُ لأننا لسنا تحت الناموس بل تحت النعمة؟” (رو 15: 6). هؤلاء
ليسوا تحت النعمة، لأنهم لم يتسلقوا قط مرتفعات تعاليم الرب. ولا هم تحت الناموس
لأنهم لم يقبلوا حتى تلك الوصايا البسيطة التي للناموس. هؤلاء إذ هم ساقطون تحت
سلطان الخطية المزدوج يظنون أنهم قد قبلوا نعمة المسيح… ويسقطوا فيما يحذرنا منه
الرسول بطرس قائلاً: “كأحرار وليس كالذين الحرية عندهم سترة للشر.” (1
بط 16: 2). ويقول الرسول بولس الطوباوي: “فإنكم إنما دُعِيتم للحريَّة أيُّها
الاخوة. غير أنهُ لا تُصيّروا الحرَّية فرصةً للجسد” (غل 13: 5)، أي دعيتم
للتحرر من سلطان الخطية، وليس معنى إبعاد أوامر الناموس بمثابة تصريح بعمل الخطية.
ويعلمنا الرسول بولس أن هذه الحرية لا توجد إلا حيث يوجد الرب، إذ يقول: “وأما
الربُّ فهو الروح وحيث روح الرب هناك حرّيَّة” (2 كو 17: 3).

 لهذا
لست أعرف إن كنت قد استطعت أن أُعبر وأشرح قصد الرسول المبارك، لأن الذين لديهم
خبرة هم الذين يعرفون ذلك. إنما شيء واحد أنا متأكد إنني أعرفه، وهو أنه من الواضح
جدًا – دون حاجة إلى شرح – أن أي إنسان ممن اقتنى التدريب العملي يفهم ما جاء
بالمناظرة من قبل تدربه دون حاجة إلى مجرد الفهم[9]…

 

ملخص
المبادئ

·       
من يعيش تحت النعمة يلزمه في تحرره أن يتجاوز
مطالب وصايا الناموس.

·   
من يستخدم الحرية كوسيلة للهروب من وصايا
الناموس، وبالتالي يتهاون في وصايا كمال الإنجيل… مثل هذا يخضع لسلطان الخطية
وتكون حريته في حقيقتها تهاون بنعمة الله.

·       
وصايا الناموس أسهل وهي إلزامية، أما الإنجيل
فوصاياه اختيارية وهي أصعب، ولكن بنعمة الله المجانية أسهل.

·       
الصوم وسيلة لنقاوة القلب وليس غاية في ذاته.

·       
ليكن لنا ميزان عادل، لأن التهاون في الصوم
والمغالاة فيه كلاهما مضران لحياة الإنسان الروحية.

·       
لا تؤخذ فترة الخماسين كمجال لإشباع رغبات الجسد،
ولا ليأكل الإنسان ويستريح بلا تدقيق.

 

_______________________

 [1]
ترجمة: نادية أمين وبيت القديسة دميانة بالجيزة.

 [2]
كلمة “إسرائيل” لا تعني شعب اليهود الحالي الذي فقد إيمانه برفضه للرب
محاولاً أن يدّعي أنه شعب اللًّه المختار.

 [3]
واضح أن هذا الحديث يخص الوصايا الخاصة بالكاملين مثل الرهبنة والبتولية
الاختيارية والفقر الاختياري الخ. الأمور التي لم تكن في الناموس.

 [4]
واضح جدًا أنه لا يقصد العودة إلي الناموس الموسوي وطقوسه وإنما يصير الإنسان في
عبادته بروح الناموس القديم من جهة الخوف، أي عبادة العبيد الذين يخشون سيدهم بغير
أن تكون لهم دالة…

 [5]
جاء في تاريخ الكنيسة أمثلة كثيرة لعائلات التهبت قلوبهم بحياة التأمل الإلهي
فخرجوا إلى الأديرة في محبة واتفاق ورضى.

 [6]
يظهر بوضوح أن هذا يخص الرهبان.

 [7]
تحدث بعد ذلك عن صوم الأربعين وقد رأينا كيف أنه 1/36.2 يومًا انقطاعي كعشور للسنة،
لكنه دعي كذلك:

 (أ)
تمثلاً بالرب نفسه موسى وإيليا…

 (ب)
أو لأن ال40 يومًا تماثل الجزية التي اعتاد الناس أن يقدموها للملك.

 (ج)
تذكارًا لمدة البرية (40 عامًا)، أي أننا في برية هذا العالم.

 [8]
يقصد الوصايا وليس الذبائح اليهودية الرمزية، لأن هذه لا يجوز العودة إليها بعدما
جاء الرمز (السيد المسيح).

[9]
سأل الأب جرمانيوس بعد ذلك عن السبب الذي لأجله يتبع الصوم الزائد عن الحد كثرة
الشهوات الجسدية مما يسبب احتلامًا فيقوم الإنسان من نومه فاترًا في الصلوات. وقد
رأي الأب ثيوناس أن يجيب على هذا السؤال في مناظرة أخرى.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى