علم

رسالة تعزية إلى أرملة شابة



رسالة تعزية إلى أرملة شابة

رسالة
تعزية إلى أرملة شابة

يوحنا
ذهبى الفم

نكبة فادحة..!!

كلنا
يسلم بأنك تعانين نكبة فادحة، وأن السيف قد تسلط من فوق على جزء حيوي (زوجكِ)..
الأمر الذي لا يقدر أحد أن ينكره، حتى ولو كان رجل كلام غليظ القلب.

وإذ
يلزم على الذين قد ضربوا بالحزن ألا يقضوا كل حياتهم في النحيب والعويل، بل عليهم
أن يعالجوا جراحاتهم لئلا بإهمالهم تزيد دموعهم من جراحتهم، وتلتهب نيران حزنهم.
لهذا فإنه من الصواب أن ننصت إلى كلمات التعزية، حاجزين ينبوع دموعنا إلى حين،
ناحيتين للساعين إلى تعزيتنا.

لهذا،
فإنني قد امتنعت عن إزعاجك يوم كان حزنك في أوج شدته، عند حلول الصاعقة بك،
منتظرًا فترة من الزمن سامحًا لك أن تمتليء حزنًا. أما الآن فأنك تستطيعين النظر
خلال الضباب الخفيف، وأن تفتحي أذنيك لمن يحاولون تعزيتك. فإنني أريد أن أعضد
كلمات خادماتك لك مع شيء من المشاركة من جانبي.

فحيثما
تكون الزوبعة عنيفة، ورياح الحزن شديدة، فإن من ينصح غيره (في هذه الظروف) بالكف
عن الحزن، يكون بالحري قد أثاره إلى زيادة الحزن، ويسبب له كراهية (نحو ناصحه)،
وتكون كلمات الناصح بالنسبة له كوقود تشعل نيران الحزن، بجانب نظرته إلى الناصح
كإنسان قاسي وغبي. ولكن إذ تبدأ المياه المضطربة أن تستكين، ويكون الله قد هدأ
الأمواج، عندئد يمكننا أن نبسط قلاع مراكب حديثًا بلا خوف. إذ في العاصف المعتدل
يمكن للخبرة أن يكون لها نفعها. أما إذا كان هجوم الرياح عنيفًا، فالخبرة في هذه
الحالة لا تجدي.

لهذا
السبب، فإنني قبلئذ احتفظت صامتًا، أما الآن فقد تجاسرت لأكسر سكوتي، لأنني قد
سمعت من خالك أنه يمكن للإنسان أن يبدأ في الحديث معك مستعيدًا شجاعته إذ أن بعض
وصيفاتك الموقرات تجاسرن وفتحن الحديث معك في هذا الأمر، وأيضًا النسوة قريباتك
القاطنات خارجًا عن مسكنك كما لو أنهن قد تهيأن للقيام بهذا العمل.

والآن
إذ قد سمحتي لهن أن يتحدثن معك، فإن لي رجاء عظيم وثقة أكيدة أنك لا تحتقرين
كلماتي بل تصغين لي حسنًا.

 

يسوع عريسك!!

في
أي ظرف من الظروف المرأة أكثر حساسية للألم، خاصة وإن كانت صغيرة السن، وترملت قبل
الأوان، وليس لها خبرة في الأعمال الكثيرة، وعليها مسئوليات كثيرة جدًا، خاصة وإن
كانت حياتها الأولى يحفها الترف وتغمرها البهجة والغنى، فإن الشر عندئذ يكون
مضاعفًا جدًا. فأن لم تنل مثل هذه المرأة عونًا من الأعالي، يستطيع أي فكر طارئ أن
يحطمها.

والآن
فإنني أقدم هذه (الرسالة) لتكون الشهادة الأولى والعظمى عن عناية الله بك، حتى لا
يبتلعك الحزن، ولا تهدمك أفكارك الطبيعية، عندما تعمل هذه المضايقات فجأة على غمك.
فإنك لست محتاجة إلى يدٍ بشريةٍ، بل يد القدير التي لا حد لفهمها. وإلى الحكمة
التي اكتشفت “أبو الرأفة وإله كل تعزية” (2 كو 3: 1)، فقد قيل: “هو
افترس فيشفينا” (هو 2: 6)، ” سيضربنا ويعصب جراحاتنا ويشفينا”.

لقد
كنت تتمتعين بالكرامة بوجود زوجك الطوباوي معك، كما كنت موضع عنايته وغيرته. حقًا
لقد تمتعتي بما كنت تتوقعينه من زوج.

أما
الآن وقد أخذ الله زوجك لنفسه، فإنه يحتل مكانه بالنسبة لك. هذا لا أقوله من عندي،
بل يقول النبي الطوباوي “يعضد اليتيم والأرملة” (مز 9: 146). وفي موضع
آخر يقول: “أبو اليتامى وقاضي الأرامل” (مز 5: 68). وهكذا نجد الله يهتم
بهذه الفئة من البشرية بغيرة كما عبر عن ذلك بعبارات كثيرة.

 

هل تخجلين من دعوتك ” أرملة “؟

ربما
كثرة ترديد اسم ” أرملة ” يضعف روحك ويبلبل فكرك، إذ صرت منكوبة وأنت في
زهرة عمرك.

أريد
أولاً وقبل كل شيء أن أناقش هذا وأبرهن لك أن لقب ” أرملة” ليس عنوان
لمصيبة بل لقب للكرامة. نعم أنه لقب لكرامة عظيمة. فلا تأخذي مفاهيم العالم
الخاطئة كشهادة تتمسكين بها، بل تمسكي بنصائح الطوباوي بولس، بل بنصائح المسيح،
لأن الرسول إنما يتكلم بواسطة المسيح، إذ يقول ” المسيح المتكلم فيّ ”
2كو3: 13.

قال
الرسول ” لتكتتب أرملة إن لم يكن عمرها أقل من ستين سنة ” وأيضًا « وأما
الأرامل الحدثات فأرفضهن ” 1تي 9: 5،11. قاصدًا بكلا العبارتين أن يشير إلينا
بخطورة الأمر.

فعندما
نظم موضوع الأساقفة لم يحدد لهم السن، أما هنا فحدد السن، لماذا؟ ليس لأن الترمل
أعظم من الكهنوت، إنما لأن الأرامل لهن أعمال خطيرة.. فهن محاصرن بأعمال متنوعة،
عامة وخاصة. وكما أن المدينة غير الحصينة تكون نهبًا لمن يريد أن يسلبها. هكذا
السيدة الشابة الأرملة، كثيرون حولها يترقبونها, ليس فقط أولئك الذين يرغبون في
نهب أموالها، بل والراغبون في إفساد عفتها أيضًا. هذا بجانب خضوعها لظروف أخرى
تشبه حالة سقوطها، فاستهتار الخدم وأهمالهم في العمل، وفقدانها للكرامة التي كانت
لها قبلاً، وتطلعها إلى نديداتها أنهن مازلن في رخاء، وإشتياقها إلى الترف؛ هذا
كله يغريها إلى الزواج الثاني.

 

والبعض
منهن لا يرغبن في الإرتباط برجل في ناموس الزواج، وهن يفعلن هذا حتى يتمتعن بكرامة
الترمل.

فالترمل
ليس بمخجل بل موضع اعجاب الرجال وتكريمهم، ليس بين الرجال المؤمنين فحسب بل وغير
المؤمنين أيضًا.

فعندما
كنت شابًا عرفت أن الفليسوسوف (لسوفسطائي) ([1]) الذي كان يعلمني، هذا الذي كان
يوقر الآلهة أكثر من كل الرجال. هذا قد أظهر اعجابًا بأمي قبل أن تتكون رابطة قوية.
إذ في استفساره عني كما كانت عادته أن يستفسر عن كل منهم حوله، قيل له أني ابن
أرملة. فسأل عن عمر أمي وفترة ترملها. وإذ عرف أن عمرها أربعين عامًا، حيث قضيت
عشرين عامًا منذ فقدت أبي، تعجب قائلا.. ” يا الله!! أي نسوة هؤلاء اللواتي
بين المسيحيين!! “.

هكذا
عظيمة هي حياة الترمل ومكرمة. ليس في نظرنا نحن فقط بل وفي نظر من هم خارج الكنيسة.


يقول الرسول بولس ” لتكتتب أرملة إن لم يكن عمرها أقل من

ستين
عامًا ” 1تي9: 5. ولا يكتفي بهذا التهيأ العظيم من جهة العمر حتى تحسب المرأة
ضمن هذه الجماعة المقدسة (الأرامل) بل يتطلب صفات أخرى إضافية ” مشهودًا لها
في أعمال صالحة أن تكن ربت الأولاد، أضافت الغرباء، غسلت أرجل القدسين، ساعدت
المتضايقين أتبعت كل عمل صالح ” 1تي10: 5.

يا
الله!! أي إختبار هذا؟! وأي تقصٍ؟! كم من الفضائل العظيمة يتطلبها في الأرملة؟!
واصفا إياها بدقة بالغة!! الأمر الذي ما كان يفعله لو لم يكن يميل أن يعهد إليهن
بعمل عظيم ومركز مشرف.

أنه
يقول ” أما الأرامل الحدثات فأرفضهن “، والسبب في هذا “لأنهن متى
بطرن على المسيح يردن أن يتزوجن ” 1تي 11: 5. بقوله هذا جعلنا نفهم أن
اللواتي فقدن رجالهن هن عروسات للمسيح بدلاً من رجالهن. أنظري كيف يؤكد هذا عن
طريق توضيح طبيعة هذا الاتحاد بهدوء وبساطة. أقصد بذلك قوله ” متى بطرن على
المسيح يردن أن يتزوجن “، كما لو أن المسيح زوجًا نبيلاً لا يريد أن يسيطر
عليهن (جبرَا), بل يريد لهن أن يعشن بحرية.

والرسول
في مناقشته لهذا الموضوع لم يقف عند هذه العبارات، إذ أوضح في موضع آخر… ”
وأما الممتنعة فقد ماتت وهي حية “، ” ولكن التي هي أرملة ووحيدة فقد
ألقت رجاءها على الله وهي تواظب على الطلبات والصلوات ليلاً ونهارًا “1تي 5: 5،
6.

ويكتب
إلى أهل كورونثوس قائلاً ” ولكن أكثر غبطة إن ليثت هكذا” 1كو 40: 7.

أنك
ترين أي كرامة عظيمة تمنح للأرامل، وهذا في العهد الجديد عندما أضاء نور البتولية
أيضًا بوضوح. ورغم شدة بهاء هذه الفئة (البتوليون) إلا أنها لا تطغي على امجاد
الترمل، حيث تضئ للكل، محتفظة بقيمتها.

فعندما
تتحدث عن الترمل من وقت إلى آخر، لا تتضايقي أو تخجلي منه كأمر معيب. لأنه لو كان
الترمل معيبًا لكانت بالأكثر البتولية معيبة ولكن ليست هي الحقيقة. الله لا يسمح!!

فطالما
نحن جميعًا نعجب من النساء اللوتي يعشن بعفة أثناء وجود رجالهن وهم أحياء،
ويحترمهن؛ ألسنا بالأكثر نعجب من أولئك اللوتي يحتفظن بنفس المشاعر لرجالهن حتى
بعد وفاتهم، ونمدحهن على هذا؟!

كما
كنت أقول، أنه بقدر ما تمتعتي بكرامة أثناء وجودك مع الطوباوي
Therasius ومكانة كأمر طبيعي تناله زوجة من زوجها، فأنه الآن لك الله، رب الكل،
الذي هو من قبل حاميك ولازال يحميك، لكن بأكثر غيرة من قبل.

وكما
سبق أن قلت، أعود فأقول أن الله يقوم بدور غير بسيط بخصوص عنايته بك، فيحفظك سالمة،
لا يصيبك ضررًا وسط مثل هذا الآتون من القلق والحزن ولا يحملك أمرًا غير مفيد.

والآن،
إن كان اللهلا يسمح بأي تدمير للسفينة في وسط ماء هادئ، فكم بالأكثر يحمي روحك في
جو هادئ ويخفف حمل ترملك ونتائجه التي تبدو لك أنها مرعبة!!

 

ستلتقين به ممجدًا!!

إن
كان ليس اسم ” أرملة ” هو الذي يضايقك، إنما فقدانك لمثل هذا الزوج.
فإنني أوافقك أن قليلين هم أمثال ذلك الرجل في عالم الرجال، في حبه ونبله وإتضاعه
وإخلاصه وحكمته وورعه.

حقًا،
لو أنه هلك كلية أو أنتهى أمره تمامًا، لكان ذلك كارثة عظمى وكان الأمر محزنًا.
لكن إن كان كل ما في الأمر أنه أبحر إلى ميناء هادئ وقام برحلة إلى الله الذي هو
حقًا ملكه، لهذا يلزمنا ألا نحزن بل نفرح.

فإن
هذا الموت ليس بموت، إنما هو نوع من الهجرة والإنتقال من سئ إلى أحسن، من الأرض
إلى السماء، من وسط البشر إلى الملائكة ورؤساء الملائكة بل ومع الله الذي هو رب
الملائكة ورؤساء الملائكة. لأنه هنا في الأرض عندما كان يخدم الامبراطور كانت تحف
به مخاطر الأشرار ومكائدهم. وبقدر ما كان صيته يتزايد، كانت خطط الأعداء
(الحاسدين) تلتف حوله، والآن قد إنتقل إلى العالم الآخر حيث لا يمكن أن ننتظر فيه
شيئًا من هذا.

فبقدر
ما تحزنين لأن الله قد أخذ إنسانًا هكذا كان صالحًا ومكرمًا كان يجب أن تفرحي أنه
رحل إلى مكان أكثر أمانًا وكرامة، متخلصًا من مضايقات الحياة الحاضرة الخطيرة، إذ
هو الآن في آمان وهدوء عظيم.

إن
كان لا حاجة لنا أن نعرف أن السماء أفضل من الأرض بكثير، فكيف نندب الذين رحلوا من
هذا العالم إلى العالم الآخر؟!

لو
كان زوجك سالكًا مثل أولئك الذين يعيشون في حياة مخجلة لا ترضي الله، كان بالأولى
لكِ أن تنوحي وتبكي، ليس فقط عند إنتقاله، بل حتى أثناء وجوده حيًا هنا، ولكن بقدر
ما هو من أصدقاء الله، يلزمنا أن نسر به، ليس وهو حي هنا، بل وعندما يرقد مستريحًا
أيضًا.

وإذ
يلزمنا أن نفعل هذا، إستمعي ما يقوله الرسول الطوباوي ” لي إشتهاء أن أنطلق
وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدًا ” في 23: 1.

لكن
ربما تشتاقين إلى سماع صوت زوجك، والتمتع بحبه الذي كان يحيط به، والوجود معه،
وتودين المجد الذي تنالينه بوجودك معه، والعظمة والكرامة والضمان وغير ذلك من
الأمور التي بحرمانك منها تظلم حياتك وتتكدر.

حسناً!!
إن الحب الذي كان يمن به عليك يمكنك أن تحتفظي به معك كما كان سابقًا لأن هذا هو
قوة الحب أنه يحتضن ويوحد ويربط لا الحاضرين معًا (جسديًا) فقط والقريبين مكانًا
والمرئيين، بل والذين هم بعيدين عن بعضهما البعض مسافة طويلة فلا يمكن لا لطول
الزمن ولا للبعد المكاني أو شئ من هذا القبيل أن يكسر محبة الروح أو يبددها.

لكنك
إن كنت تودين أن تنظرينه وجهًا لوجه، وهذا كما اعلم أنه بغية شوقك، فأحفظي مخدعك
في كرامة دون أن يلمسك رجل آخر، وابذلي كل جهدك أن تقتدي به، وعندئذ فبالتأكيد
سترحلين يومًا ما لتلتقين معه هناك، لا لكي تعيشي معه خمس سنوات كما حدث هنا، ولا
عشرين عامًا ولا مئة بل آلاف مضاعفة، لا بل أجيالاً مديدة بلا نهاية، لأنه لا
تربطكما بعد علاقة جسدية بل علاقة بطريقة ما تتناسب مع ما تتهيأين به لميراث مكان
الراحة.

فإنه
إن كان… قد جلب لعازر الغريب ليكون مع إبراهيم في السماء عينها في حضنه، ويتهيأ
كثيرون من المشارق والمغارب للجلوس معه، فكم بالأكثر تنالين أنت مكان راحة ثراسيوس
Therasius الصالح، إن سلكتي مثله؟! وعندئذ تتقبلينه مرة أخرى لا في جمال
زائل كان فيه عند الرحيل، بل في مجد من نوع آخر، في بهاء أكثر من أشعة الشمس. لأن
هذا رغم ما فيه من قسط وافر من الجمال، لكنه زائل. أما أجساد أولئك الذين يسرون
الله، فسيكونون ممجدين حتى أن عيوننا هذه لا تقدر على معاينة مجدهم.

وقد
شجعنا الرب بأمثلة معينة وإشارات غامضة في العهد الجديد والقديم. ففي القديم أضاء
وجه موسى بمجد حتى لم يستطيع الإسرائليون أن يتطلعوا إليه، أما في العهد الجديد
فإن وجه يسوع أضاء أكثر جدًا عن وجه موسى.

إخبريني.
لو كان أحدًا وعدك أن يقيم زوجك ملكًا على المسكونة كلها على أن تتركيه لمدة عشرين
عامًا لأجل نفعه، حتى يعيده إليك بالتاج والأرجوان، فتصيري في مرتبته، أما كنت
بوداعة تحتملين الأنفصال عنه ضابطة نفسك؟! أما كنت تفرحين حسنًا بهذه العطية
وتعتبرينها أمرًا يستحق التوسل لنوالها؟!

حسناً
إذن أن تذعني لهذا، لا لأجل ملكوت أرضي بل سماوي، لا لتتقبلينه مكتسيًا حلة ذهبية
بل ثوبًا أبديًا ومجيد يتناسب مع الساكنين في السماء…

 

أتندبين مجد العالم؟!

ربما
يكون حزنك أيضًا على فقدانك الطمأنينة التي كنت تتمتعين بها في وجود زوجك. وربما
لأجل اشتياقك إلى تحقيق الأماني الواسعة في الرفعة التي كنت تنتظرينها. لأنني كنت
قد سمعت أن زوجك سريعًا ما كان سيُعطي له أن يكون واليًا على مقاطعة، وهذا على ما
أظن أنه يتعبك ويضايقك.

أنني
أتوسل اليك أن تتأملي حياة أولئك الذين كانوا في وظائف أعظم من زوجك، وتري كيف
انتهت حياتهم بنهاية يُرثى لها.

دعيني
أذكرك بهؤلاء. وربما تعرفين ثؤدورو الصقلي ([2]) لشهرته، اذ كان أحد العظماء
البارزين، هذا كان يفوق الكل في قامته ووجاهته وثقة الامبراطور به. وكان له سلطان
في القصر الملكي أكثر من الجميع، لكنه لم يقدر أن يتحمل هذا الترف بوداعة انما قام
يدبر مكيدة ضد الامبراطور، فسجنه وصار حاله بؤساً. أما زوجته التي لم تكن تقل عن
زوجها النبيل في التعليم والمولد وكل الأمور الأخري،فقد صودرت أموالها جميعها في
لحظة، بل وفقدت حريتها

 

إذ
صارت جارية، وألتزمت أن تكون في حياة يُرثى لها أكثر من كل العبيد…

وقد
قيل أيضًا عن ارتميسيا
Artmisia التي كانت زوجة لإنسان له شهرة عظيمة، هذا الذي أراد أيضًا أن
يغتصب العرش، فسقطت زوجته كزوجة السابق بل وصارت عمياء بسبب شدة يأسها وغزارة
دموعها. والآن هي تطلب من يمسك بيدها ويقودها حتى تطرق أبواب الآخرين ملتمسة القوت
الضروري.

وإنني
إذ أذكر لك كثير من العائلات الأخرى التي انحدرت في الطريق، لست أعرف عنك أنك غير
تقية أو حكيمة حتى تطلبين تعزيتك في نكبتك بتطلعك إلى مصائب الآخرين. إنما السبب
الوحيد الذي لأجله أشرت لك بهذه الأمثلة… إنما لكي تتعلمي أن الأمور البشرية لا
شيء، إذ بالحق كما يقول النبي ” كل جماله (مجد الإنسان) كزهر الحقل ”
أش6: 40. إذ رفعة البشر وعلوهم سيتحطم.

 

هل تطلبين الغنى؟

(أدرك
ذهبي الفم أن من أهم العوامل التي أحزنت هذه الأرملة أنها كانت تتوقع في القريب
العاجل أن زوجها سينال مركز رئيس مقاطعة أو مدينة
prefect.
وقد وضعت أمامها أماني عظيمة من جهة شهرتها وعظمتها وغناها، بكونها زوجة له…
وهنا رسالة ذهبي الفم أن يكشف لها ما قاله ماراسحق السرياني أن من يطلب الكرامة
هربت منه أما من لم يجري ورائها تجري هي وراءه وتمسك به، فيذكر لها أن أمور العالم
تهرب عمن يتمسك بها ويبحث عنها بقلق وإضطراب. أما من يعمل ويجاهد ولا يهتم بكرامة
الناس ومديحهم، فهذا تلتصق به الكرامة أكثر. كما يكشف لها أيضًا عن مفهوم المجد
الحقيقي والغنى الحقيقي الذي ينتظرنا في الحياة الأخرى… فيقول: )

إن
الغنى يبدو لغالبية البشر كأمر حسن لكن متى زالت شهوة المجد الباطل لا يعود الغنى
كشيء محبوب.

على
أي الأحوال، أؤلئك الذين سمحوا لأنفسهم أن ينالوا في وسط فقرهم مجدًا شعبيًا لم
يفضلوا الغنى بل كانوا يحتقرون الذهب عندما كان يقدم إليهم. وأظنك لستي بمحتاجة أن
تتعلمي مني عن أولئك الرجال الذين تعرفينهم أكثر مني أمثال ابامينونداس
Epminondas وسقراط وأرسطو ودموحين وكراتس Krats
الأولون (غير كراتس) بقدار ما كان يستحيل عليهم نوال الغنى نالوا مجدًا في وسط
فقرهم. أما هذا الرجل
krats فقد ترك ما يملكه. وهكذا قد شغفوا هؤلاء في مطاردة ذلك الوحش
القاسي (شهوة الغنى والمال).

إذن
ليتنا لا نبكي. لأن الله أنقذنا من هذه العبودية المحملة التي هي موضع هزء وتوبيخ
شديد، لأنه لا يوجد في الغنى سموًا إلا فيما يحمله من اسم. وهو يضع صاحبه في مركز
يناقض إسمه (الغني). ولا يوجد أحد لا يضحك مستهزءًا بمن يضع أموره لمجرد شهوة
المجد (الباطل).

فالذي
لا يتطلع مشتهيًا المجد الباطل (أي مديح الناس) هو وحده الذي في استطاعته أن ينال
مجدًا وكرامة. أما الذي يضع كل اهتمامه لنوال مجد باطل من العالم، فيعمل محتملاً
الكثير لنواله. هذا الإنسان لا ينال كرامة، ينال ما هو عكس المجد: إذ يصير موضع
سخرية وإتهامات واذدراء وعداوة وكراهية.

 

هذا
ما يحدث عادة ليس بين الرجال فقط، بل وبالأكثر بينكن أنتن أيتها النسوة.

فالمرأة
التي تترك نفسها على طبيعتها بلا تصنع في شكلها ومشيها وملبسها ولا تطلب كرامة من
أحد، هذه المرأة تكون موضع اعجاب كل النسوة يعجبن بها مادحات إياها، ويلقبنها
بالقداسة، وينظرن فيها كل صلاح.

أما
المرأة المغرورة بالمجد الباطل، فالنساء ينظرن إليها باشمئزاز ونفور ويتجنبن إياها
كحيوان مفترس، ويصببن لها الشتائم والذم اللانهائي.

وبرفضنا
للمجد البشري، لا نتخلص فقط من الشرور، بل وننال منافع غير التي ذكرت، وهي التدرب التدريجي
على حل ارتباطنا بالأرض والتوجه نحو السماء محتقرين الأمور الزمنية. لأن من لا
يشعر بحاجته إلى الكرامة البشرية سيتمم كل ما يرغب في صنعه من صلاح بطمأنينة. فلا
المضايقات والتنعمات تقدر أن تؤثر عليه. فالمضايقات لا تقدر أن تجعله يائسًا فلا
تحطمه، والتنعمات لا تعزيه أو تزهو به، فهو يبقي ثابتًا بلا تغيير من أي جانب حتى
في الظروف المزعزعة والمضطربة.

هذا
ما أتوقعه بالنسبة لنفسك، إذ بسرعة وبمرة واحدة فقط تنزعين ربح العالم من نفسك،
تقدمين لنا مثالاً للسلوك السماوي في الحياة. وبعد قليل تضحكين ساخرة بالمجد الذي
تبكينه الآن، محتقرة خداعه وبريقه المزيف.

 

لماذا تخافين؟

لكنك
إن كنت تتوقين إلى الطمأنينة التي كنت تتمتعين بها قبلاً بوجودك مع زوجك، وحماية
ممتلكاتك وحفظك من مكائد أولئك الذين يرغبون في مصائب الآخرين؛ “ألقِ على
الرب همك فهو يعولك” (مز 22: 55). لقد قيل: “انظروا إلى الأجيال القديمة
وتأملوا. هل توكل أحد على الرب فخزي. أو ثبت على من فته فخذل. أو دعاه فأهمل”
(حكمة يشوع 11: 2، 12).

فالله
الذي هدأ هذه المصيبة غير المحتملة، معطيا إياك الآن هدوء، هو أيضًا الذي يحصنك من
الشرور التي تحدق بك. فلا تعودي تسقطين نفسك تحت ضربة أقسى من التي أنت فيها (بعدم
اتكالك عليه).

 

فباحتمالك
الضيقات الحالية بشجاعة، وأنت بعد ليس لك خبرة، يعطيك إمكانية لاحتمال الأمور التي
تحدث مخالفة لإرادتك. الله لا يسمح!

لذلك
اطلبي السماء وما يخص الحياة الأخرى، فلا يقدر شيء ما أن يضرك..، حتى ولاة عالم الظلمة
(الشياطين) أنفسهم لا يقدرون أن يضروننا ما لم نضر نحن أنفسنا بأنفسنا. لأنه حتى
لو نزع جسدنا أو مزق إربًا إربًا، هذا لا يعنينا طالما روحنا سليمة.

 

إنقلي ممتلكاتك!!

والآن،
إن كنت تريدين أن تحفظي ممتلكاتك في أمان، بل وأن تزداد، فأنني أدبر لك خطة وأعرفك
المكان الذي لا يقدر أحد من مدبري الشر أن يدخل فيه.

ما
هو هذا المكان؟ أنه السماء. إرسلي مقتنياتك إلى زوجك الصالح، فلا يقدر لص أو مدبر
مكائد أو أي مخرب آخر أن ينقض عليها. لأن ما نزرعه في السماء يأتي بمحصول عظيم
وغلة وافرة. وهذا أمر طبيعي نتوقعه في الأشياء التي جذورها مغروسة في السماء.

فإن
فعلت هذا، أنظري بماذا تتمتعين؟!

 

أولاً
ستتمتعين بالحياة الأبدية، والأشياء الموعود بها للذين يحبهم الله ” ما لم
تره عين، ومام تسمع به أذن، وما لم يخطر على قلب بشر”.

ثانياً
الاتصال الدائم مع زوجك الصالح، مع إراحة نفسك من الإهتمامات والمخاوف والمخاطر
والتدابير والعداوة والكراهية، هذه الأمور التي قد تحدق بك هنا. فطالما أنت محوطة
بهذه الممتلكات يوجد إحتمال وجود من يهاجمونك، أما إن أودعتيها في السماء،
فستنالين حياة الطمأنينة والسلام، المملوءة بالأكثر هدوء مع التمتع بالحرية
المرتبطة بالصلاح..

 

حياة متقلبة!!

حيث
أن نفسك مضطربة جدًا ومتكدرة، بسبب توقعك القائم على أن زوجك كان قد أوشك أن يكون
واليًا على مقاطعة وأنه قد أخذ قبل الأوان.. فتأملي أولاً هذه الحقيقة. أنه وإن
كان رجاؤك هذا مبني على أساس سليم جدًا، إنما هو رجاء بشري. الذي غالبًا ما يسقط
على الأرض (أي لا يتحقق). ونحن نرى في هذه الحياة أولئك الذين لم يفكرون في أمر ما
إذ به يحدث لهم…

لذلك
وإن كانت الفرصة لنواله هذه الوظيفة كانت قريبة جدًا، لكنه كما يقول المثل ”
كثيرًا ما يسقط الكوب من فم شاربه([3]) “،ويقول الكتاب المقدس ” بين
الغداء إلى العشى يتغير الزمان ” حكمة يشوع 26: 18.

وهكذا
من هو ملك اليوم قد يموت غدًا. وأيضًا يعلن الحكيم نفسه قائلاً ” كثيرون من
المتسلطين جلسوا على التراب والخامل الذكر لبس التاج ” حكمة يشوع 5: 11.

فلم
يكن هناك تأكيد مطلق، أنه لو عاش لنال هذه الوظيفة، لأن ما

يخص
المستقبل لا يمكن الجزم به، إنما يوقفنا أمام شكوك كثيرة.

 

لأنه
على أي أساس تجزمي بنواله هذه الوظيفة، إذ ربما تأتي الحوادث بغير ما في الحسبان،
بل ويوجد احتمال أنه كان سيفقد الوظيفة التي هو فيها بسبب مرض أو تدبير مكيدة ضده
بواسطة الحاسدين له على غناه، أو بسبب كارثة خطيرة أخرى.

لكن،
لنسلم معك – إن أردتي – أنه بالتأكيد لو كان حيًا لبلغ على أي الأحوال مركزًا
رفيعًا. لكن بقدر ما يزداد المركز رفعة تزداد أيضًا مخاطره وقلاقله ويدس له ما لم
يكن في الحسبان ([4]).

لنترك
هذا كله جانبًا، مفترضين أنه سيجتاز بحر المصاعب بسلام وهدوء كامل. لكن أخبريني
وما هي نهاية هذا؟!

أليست
نهايته هي تلك النهاية التي وصل يها الآن.. لا بل وربما بلغ نهاية مؤلمة ومكروهة.

 

فمن
جانب، ربما مركزه الجديد (أغراء المركز) يلهيه عن نظرته إلى السماء والسماويات.
الأمر الذي ليس بتافه في نظر من وضعوا رجائهم في الحياة الأخرى.

 

ومن
جانب آخر، وإن كانت حياته ستبقى طاهرة كما هي. لكن طول الزمن مع ضروريات المركز
السامي قد يعوقه عن البقاء في حياته التقية كما هو عليه الآن (لم يكن العيب في
المركز في ذاته، لكن ربما يخشى من الملتفين حوله من مرائين أو خادعين، أو يخشى
عليه من السقوط في الكبرياء والزهو مما يفقده نقاوة قلبه، أو لظروف أخرى خاصة
بالدولة الرومانية في ذلك الوقت).

 

في
الحقيقة أنه ليس مؤكد، إن كان لا يعاني من تغيرات كثيرة مستسلمًا للكسل (في
العبادة) قبل أن يسلم أنفاسه الأخيرة.

الآن
نحن واثقون، أنه بنعمة الله قد صعد إلى مكان الراحة، لأنه لم يرتكب ما يحرمه من
دخول ملكوت السموات. لكنه لو بقى.. ربما كان قد سقط في معاصي كثيرة لأنه يندر أن
يعمل إنسان بين شرور عظيمة هكذا ([5]) أن يسلك في طريق مستقيم، بل يضل، بإرادته أو
بغير إرادته كأمر طبيعي…

ومادام
الأمر هكذا، فنحن قد عتقنا من هذا التوقع للشر، مقتنعين تمامًا، أنه سيظهر في
اليوم العظيم في بهاء أعظم، متلألئًا بجوار الله (الملك)، آتيًا مع الملائكة قدام
المسيح، ومكتسيًا بثوب مجده

غير
منطوق به، جالسًا بجوار الملك كمن يحكم، عاملاً كأحد خدامه العظماء.

 

لذلك
فإنه إذ تكفين عن البكاء والنحيب، متمسكة بالحياة التي عاش هو بها، نعم لتكوني
مثله تمامًا، حتى تنالي بسرعة ما وصل إليه من مستوى الفضيلة، عندئذ تسكنين معه في
نفس الموضع وتتحدين معه مرة أخرى طوال الأبدية، لا في اتحاد زيجي بل في اتحاد اسمى
كثيرًا. لأن الأول فيه إتصال من نوع جسدي، أما الثاني فيكون فيه الاتحاد بين الروح
والروح أكثر كمالاً، وأعظم بهجة ومن نوع أنبل.

_______________

(1)
libanius

(2)
ثيؤدورو هذا حسب قول
Ammianus
Marcellinus 33
كان مواطنًا في
الجليل. وربما دعاه ذهبي الفم بالصقلي لأنه حاول أن يجعل من نفسه جبار جزيرة صقلية.
وقد دبر الخيانة عام 371 م.

(3)
المثل يصعب ترجمته حرفيا وهو:

Between the cup and the lip is many a slip

(4)
يلزمنا مراعاة ظروف الدولة الرومانية في ذلك الوقت وكثرة القلاقل وخطورة المراكز
الرئيسية في ذلك الحين.

(5)
هذه العبارة تكشف أن الولاة في ذلك الوقت كان يلتف حولهم جماعة من الأشرار.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى