علم

تفسير رسالة رومية



تفسير رسالة رومية

تفسير
رسالة رومية

يوحنا
ذهبى الفم

إعداد
سعيد حكيم يعقوب

أ-
مَن أسس كنيسة رومية:

مقالات ذات صلة

غير
معروف على وجه التحديد مَن الذي أسس كنيسة رومية، هناك رأى يقول بأن أكيلا
وبرسكيلا هما اللذان نشرا المسيحية في روما، وكانا قد اكتسبا خبرة كبيرة في طريق
الرب كما جاء بسفر الأعمال أنهما شرحا لأبولس “.. طريق الرب بأكثر
تدقيق” (أع26: 1827). وقد أقاما في روما زمنًا قبل أن يُصدر كلوديوس أمرًا
بطرد اليهود من هناك، فتركا روما وجاءا إلى كورنثوس، وهذا ما يؤكده سفر الأعمال
“وبعد هذا مضى بولس من أثينا وجاء إلى كورنثوس فوجد يهوديًا اسمه أكيلا بنطى
الجنس قد جاء حديثًا من إيطاليا وبريسكلا امرأته لأن كلوديوس كان قد أمر أن يمضى
جميع اليهود من رومية” (أع1: 182). لكن بعد موت الإمبراطور كلوديوس سنة 54م،
عادا مرة أخرى إلى رومية، بعد أن التقيا بالرسول بولس، واستمرا يمارسان معًا
عملهما التبشيرى هناك. وهذا يعنى أنهما قد ساهما معًا في نشر المسيحية في روما.

هذا
الرأى ضعيف ولا يستند إلى معلومات دقيقة، فعلى الأرجح أنهما بقيا في أفسس، عندما
ذهبا إلى هناك مع الرسول بولس، وذلك بعد رحيله من كورنثوس (انظرأع18: 1826، 2تى19:
4).

 

وهناك
رأى آخر يقول بأن الرومانيين الذين كانوا ضمن جنسيات مختلفة مجتمعين في وقت حلول
الروح القدس على التلاميذ يوم الخمسين، واستمعوا إلى عظة الرسول بطرس، هؤلاء هم
الذين نشروا المسيحية في روما (انظر أع10: 2).

كما
أن المؤرخ اللاتينى سوتونيوس (
Soutonios) يخبرنا عن وجود مسيحيين في روما سنة 49م، ويتضح هذا من خلال
الأمر الذي أصدره كلوديوس بطرد اليهود من إيطاليا، حتى يوقف الاضطرابات التي حدثت
فيما بينهم، والتي نشأت بسبب التبشير بالمسيح. هكذا بعد صدور أمر كلوديوس اضطر
كثير من اليهود المسيحيين إلى ترك روما، لكنهم عادوا بعد موته سنة 54م. وهذا يؤكد
الرأى القائل بوجود كثير من المسيحيين في روما في ذلك العصر.

 

الرأى
الثالث ينادى بأن القديس بطرس هو مؤسس كنيسة رومية، وأصحاب هذا الرأى هم بشكل
أساسى من الباحثين المنتمين لكنيسة روما الكاثوليكية، لكن هذا الرأى ما لبث أن
رُفض حتى من الكاثوليك أنفسهم، لأن سفر الأعمال يُخبرنا بأن القديس بطرس بعد خروجه
المعجزى من السجن قد “.. ذهب إلى موضع آخر” (أع7: 12). ومن المستبعد أن
يكون هذا المكان الآخر هو روما. ومن ناحية أخرى لو أن القديس بطرس كان هناك، وقت
أن أرسل الرسول بولس رسالته إلى كنيسة رومية لكان بالطبع قد أرسل له السلام، مثلما
أرسل إلى أشخاص كثيرين وردت أسمائهم في الإصحاح السادس عشر. ولا يمكن أن يقال بأنه
بشّر في روما قبل ذلك الوقت، وهذا يُفهم مما قاله الرسول بولس ” كنت محترصًا
أن أبشر هكذا ليس حيث سُمّى المسيح لئلا أبنى على أساس آخر” (رو20: 15). فقد
اعتاد كما هو واضح أن يذهب إلى أماكن لم يُبشر فيها بالمسيح بعد، حتى يبنى على
أساس جديد. والأرجح أن القديس بطرس قد ذهب إلى روما بعد سنتين من سجن الرسول بولس
(6163م).

 

إذًا
فمن غير المعروف على وجه التحديد، مَن أسّس كنيسة رومية. ومن الأمور الجديرة
بالذكر، إشارة أحد المؤرخين اللاتين في القرن الرابع، والذي يمتدح أهل رومية
المسيحيين لأنهم آمنوا بالمسيح ” بدون أن يروا معجزة واحدة، ولا حتى واحد من
رسل السيد له المجد”.

 

إذًا
فالرسالة إلى رومية موجهة إلى كنيسة لم يؤسسها القديس بولس. هذه الرسالة تُعد أهم
رسائل القديس بولس من حيث المحتوى اللاهوتى، وأكبرها من حيث الحجم، وتوصف عادةً
“بإنجيل القديس بولس”. أكد الرسول بولس في هذه الرسالة على أن البر هو
بإيمان يسوع المسيح، وليس بأعمال الناموس، وهو الموضوع الذي سبق وكتبه إلى كنيسة
غلاطية، قبل ان يكتب رسالته إلى رومية بعامين. لكنه في رسالته إلى غلاطية كانت
نغمة الرسالة حادة في مواجهة اليهود، لكن في رسالته إلى رومية كانت اللهجة هادئة
وكان عرضه للأفكار بطريقة منظمة.

 

لقد
مهّد الرسول بولس بهذه الرسالة الطريق، للقيام بزيارته إلى روما. لأنه عرّف أهل
رومية وشرح لهم الإنجيل الذي بشر به، وتطور الأحداث يشير إلى ذلك، لأن هدفه هذا قد
تحقق بالفعل. فعندما قُبض عليه في أورشليم ذهب إلى روما لكى يُحاكم هناك، بحسب ما
يخبرنا سفر أعمال الرسل، حيث يشير السفر إلى أن هناك اخوة من روما جاءوا لاستقبال
الرسول بولس “ومن هناك لما سمع الاخوة بخبرنا خرجوا لاستقبالنا إلى فورن
ابيوس والثلاثة الحوانيت” (أع15: 28). لقد تحقق اشتياقه لرؤية أهل رومية لأنه
يقول: ” لأنى مشتاق أن أراكم لكى أمنحكم هبة روحية لثباتكم” (رو11: 1)،
وكان مستعدًا لتبشير أهل رومية بكل ماله ” فهكذا كل ما هو لى مستعد لتبشيركم
أنتم الذين في رومية” (رو15: 1).

 

ب-
هدف الرسالة إلى رومية:

لقد
كانت هناك بالفعل رغبة قوية لدى الرسول بولس لأن يذهب إلى روما، لرؤية المسيحيين
هناك، لكى يمنحهم هبة روحية لثباتهم، وأيضًا لكى يحقق امتدادًا لخدمته في كل
إيطاليا وإلى أسبانيا أيضًا ” فمتى أكملت ذلك وختمت لكم هذا الثمر فسأمضى
مارًا بكم إلى أسبانيا” (رو28: 15). وكان قد بشّر بالإنجيل في الجزء الشرقي
من الإمبراطورية الرومانية، لكنه أراد تحقيق تلك الرغبة الملّحة بالتبشير في الجزء
الغربى من الإمبراطورية، حتى يتمم الخدمة التي أُئتمن عليها من الله. والأكثر
احتمالاً أنه أراد أن يجعل من روما مركزًا لخدمته هذه.

 

كتب
الرسول بولس هذه الرسالة كتمهيد لزيارته المزمع القيام بها في أقرب وقت ممكن. وكان
ينتظر الوقت الذي فيه تبدأ الرحلات البحرية حتى يتمكن من إرسالها. ولما كانت
الشماسة فيبى مزمعة أن تسافر إلى هناك في فصل الربيع، فقد طلب منها أن تحمل رسالته
إلى كنيسة رومية.

لقد
أراد بهذه الرسالة أن يؤكد على أن البر الذي يتمتع به الإنسان يأتى من الإيمان
بالمسيح فقط وليس بأعمال الناموس، وأنه لا فرق بين اليهودى واليونانى فيما يختص
بموضوع الخلاص، فالخلاص هو للجميع. وشدّد على روح المحبة التي ينبغى أن تسود بين الجميع
يهودًا وأممًا وعلى الروابط الروحية التي تتجاوز الأمور الشكلية والممارسات التي
تنتمى للعهد قديم.

 

ومع
نجاح خدمته واتساعها كما يؤكد هو على ذلك ” حتى إنى من أورشليم إلى إلليريكون
قد أكملت التبشير بإنجيل المسيح ” (رو19: 15)، شعر بمسئولية مشتركة مع آخرين
مما خدموا معه على التأكيد على موضوع وحدة الكنيسة الجامعة. ففي أورشليم كان هناك
تمسك بوصايا وأحكام الناموس من قِبَل بعض أعضاء الكنيسة، وفي الغرب كانت كنيسة
رومية تلعب دورًا مهمًا في هذه المنطقة، وكان الحضور اليهودى فيها قويًا وأهم ما
كان يميّز هؤلاء اليهود هو حفظهم لأحكام الناموس بكل تدقيق. هذا الضمير الناموسى
كان سببًا في زرع الخوف في نفوسهم، بإعتبار أن عدم التدقيق في ممارسة أحكام
الناموس، قد يُعرّضهم للعقاب الإلهى.

 

هذا
ما جعله يكتب لهم على أنه “بأعمال الناموس كل ذى جسد لا يتبرر أمامه”
(رو20: 3). وأن البار أمام الله هو الذي يحيا بالإيمان، ولا فرق في هذا بين
اليهودى واليونانى ” لأنه لا فرق بين اليهودى واليونانى لأن ربًا واحدًا
للجميع غنيًا لجميع الذين يدعون به لأن كل مَن يدعو باسم الرب يخلص” (رو12: 10).
وأنه لا يوجد أحد خارج نطاق الوعود الإلهية. وأن بطلان الناموس الموسوى، لا يعنى
نقضًا للوعود الإلهية.

 

ومن
أجل هذا يتوجه إلى أبناء أمته الذين يتمسكون بالحرف ويخضعون لأحكام الناموس
ويفتخرون بهذا في مواجهة الجميع قائلاً: ” إن لى حزنًا عظيمًا ووجعًا في قلبى
لا ينقطع… لأجل اخوتى أنسبائى حسب الجسد” (رو3: 9). لأنهم لم يدركوا بعد
حقيقة أن البر غير مرتبط بأعمال الناموس، لكنه هبه أُعطيت للجميع مجانًا ”
متبررين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح” (رو24: 3). إذًا فهو يريد
أن يؤكد على أنه الآن في المسيح ” قد ظهر بر الله بدون الناموس مشهودًا له من
الناموس والأنبياء بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين
يؤمنون” (رو21: 322). فغاية الناموس “هى المسيح للبر لكل مَن يؤمن”
(رو4: 10). فقد كان يهدف إلى تحرير أذهان الكل من هذا الخلط في التعليم، ليجعل من
شخص المسيح له المجد، المركز الذي تتمحور حوله، حياة الجميع في كل العالم، لأن به
” قد صار لنا الدخول بالإيمان (وليس بأعمال الناموس) إلى هذه النعمة التي نحن
فيها مقيمون ونفتخر على رجاء مجد الله” (رو2: 5). ولذلك يطلب من الاخوة هناك
أن يلاحظوا الذين يصنعون الشقاقات والعثرات خلافًا للتعليم الذي تعلموه وأن يعرضوا
عنهم (انظر رو17: 16).

 

من
جهة أخرى نجد أن ارتباط الرسول بولس بكل الكنائس التي أسسها خلال فترة خدمته
الممتدة كل هذه السنين الطويلة، كان ارتباطًا روحيًا قويًا لا ينفك، كما أنه كان
دائم التواصل معهم سواء عن طريق الرسائل أو بتفقده الشخصى لأحوال الرعية التي
ائتمنه الله على خدمتها، أو بتغطية احتياجات الكنائس من جهة الأمور المادية. لكنه
في بعض الأحيان كان لديه احساس داخلى بأن تقدماته إلى أورشليم لن تكون مقبولة من
القديسين، بالطريقة التي كان يتمناها، بل كان لديه شعور بأنه ذاهب نحو “فم
الأسد” واضعًا في إعتباره ما سوف يلاقيه من غير المؤمنين، لذا نجده يطلب من
المؤمنين قائلاً: ” فأطلب إليكم أيها الاخوة بربنا يسوع المسيح وبمحبة الروح
أن تجاهدوا معى في الصلوات من أجلى إلى الله لكى أُنقذ من الذين هم غير مؤمنين في
اليهودية. ولكى تكون خدمتى لأجل أورشليم مقبولة عند القديسين” (رو30: 1531).

 

كما
أنه كان قد شعر باقتراب الشيخوخة، وأنها الأوقات الأخيرة التي يستطيع فيها أن يترك
لكل الكنائس المسيحية تعاليمه اللاهوتية الواضحة، وأن يؤّمن حصاده الروحى من أى
تعاليم أخرى زائفة ومضللة، بعد هذه الرحلة الطويلة المليئة بالمتاعب والمشقات. فقد
بشر الجميع بطرق الله المعلنة وغير المعلنة من أجل الخلاص، هذا الخلاص الذي كان في
قصد الله قبل الأزمنة الأزلية.

 

التعاليم
اللاهوتية للرسالة:

في
تعاليم هذه الرسالة والتي تُعد بمثابة تعاليمًا لاهوتية خاصة بالموضوع المحورى في
الحياة المسيحية، والذي هو المكانة الجديدة للإنسان عند الله، تلك المكانة التي
تأسست بتجسد المسيح، يعلن الرسول بولس رفضه التمسك بأحكام الناموس.

لقد
جمع الرسول بولس حوله أصدقائه المقربين والمخصصين للخدمة، عند كتابة هذه الرسالة،
وهؤلاء كان ينبغى أن يكونوا حاضرين، خاصةً وهو يخرج كل ما في نفسه، من أجل تأصيل
الحقائق الإيمانية لمواجهة أى انحرافات في التعليم من الممكن أن تهدد سلام الكنيسة
ووحدتها فيما بعد. وقد نال ترتيوس أحد تلاميذ الرسول بولس، شرفًا عظيمًا بأن يكون
هو مَن أملاه الرسول بولس رسالته هذه، وقد سجل هو نفسه هذا الأمر بكل افتخار في
نهاية الرسالة ” أنا ترتيوس كاتب هذه الرسالة أسلم عليكم في الرب” (رو22:
16).

 

وبعد
هذه المقدمة، يُعلن الرسول بولس أمرًا له الأهمية القصوى في حياة المسيحيين وهو أن
إنجيل المسيح هو قوة الله للخلاص ” لست أستحى بإنجيل المسيح لأنه قوة الله
للخلاص لكل مَن يؤمن” (رو16: 1). ومثلما كانت حياة القديس بولس مُقسمة إلى
مرحلتين، مرحلة ما قبل معرفة المسيح، ومرحلة ما بعد إيمانه بالمسيح، هكذا فإنه يرى
أن تاريخ الإنسانية مُقسّم إلى قسمين، مرحلة ما قبل التجسد، ومرحلة ما بعد التجسد
الإلهى. ففي مرحلة ما قبل المسيح، كانت البشرية بلا خلاص، ثم تمتعت الإنسانية بهذا
الخلاص بعد تجسد المسيح، الذي رد لها مكانتها الأولى. ” لأنه إن كان بخطية
الواحد قد ملك الموت بالواحد فبالأولى كثيرًا الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر
سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح” (رو17: 5).

 

لقد
كان الجميع، سواء اليهود أو الأمم، تحت غضب الله ” لأن غضب الله مُعلن من
السماء على جميع فجور الناس واثمهم الذين يمزجون الحق بالإثم” (رو18: 1). ولم
تستطع الحضارات المختلفة ولا التيارات الثقافية والفلسفية ولا التقدم الاجتماعى
ولا التقدم الأخلاقى، أن يوقف سقوط الإنسان وانحداره نحو الخطية.

 

فقد
كان لدى الوثنيين، الناموس الطبيعى الذي يمكّنهم من معرفة الله، وكان لديهم أيضًا
تلك الهبة الممنوحة من الله للجميع، أى العقل، والذي به يستطيع الإنسان إدراك
الحقائق، المرئية منها وغير المرئية. هؤلاء عرفوا الله، لكنها كانت معرفة نظرية
وعقيمة. فالعقل والضمير أُعطيا للإنسان كأداة لمعرفة الله، والطبيعة أيضًا تُمثل
مرآه يستطيع الإنسان أن يرى فيها الحضور الإلهى، ويمكنه من خلالها أن يختبر قوة
هذا الحضور. ومع ذلك ” لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في
أفكارهم واظلم قلبهم الغبى. وبينما يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء” (رو21: 1).

 

لقد
كان الرسول بولس يعرف محاولات الفلاسفة الحثيثة للبحث عن ماهية الله والوصول إلى
معرفته. لكن هذه المعرفة النظرية لم تستطع أن تُغيّر شيئًا من طبيعة الإنسان. فلا
ينبغى أن نعرف الله فقط، بل علينا أن نعترف به أيضًا، فمعرفة الله لا تنحصر في
مجرد العلم ببعض الأشياء عنه، بل يجب أن نؤمن به وأن نقدم له الإكرام والسجود
والمحبة. لأن معرفة الله هى معرفة اختبارية، فيها يتذوق الإنسان جمال الحضور
الإلهى داخله. لكن العالم الوثنى اتبع طرقًا خدّاعة وسلوكًا آثمًا، وأقاموا من
عناصر الطبيعة، من نجوم وحيوانات وتماثيل، آلهة لهم. هذا هو السبب الذي من أجله،
رفع الله عنهم نعمته المُرشدة، وأولئك هم الذين ” لم يستحسنوا أن يبقوا الله
في معرفتهم لذلك أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق” (رو28: 1).

 

وقد
أدان القديس بولس بكل قوة هذا الفكر وهذا السلوك الآثم. ويستطيع المرء أن يتفهم
حجم هذه الإدانة، إذا ما نظر إلى الظلام الذي ساد الفكر الإنسانى في تلك الفترة.
حيث انتشرت عبادة إلهة العالم السفلى ذو المائة ثدى في أسيا الصغرى، وتماثيل البعل
ذو الأعضاء التناسلية في سوريا، والمعابد المصرية بحيواناتها المخيفة، وأسرار
معابد ايلفسينا بممارساتها الشاذة، وتأليه الرموز والآثار الخاصة بالمذابح المقدسة
للإله أبيوس. هكذا صارت حكمة العالم حماقة، لأنهم ” أبدلوا مجد الله الذي لا
يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات” (رو23: 1). كل
هذا قد عرفه الرسول بولس، وكان أمام عينيه كل يوم، إذ أنه كان يكرز في كل مكان،
مُبشّرًا بالإله الحى. ولأن العبادة الوثنية هى في الأصل نتاج الخطية، فقد كانت
تلد الخطية باستمرار، بل إنها قادت الناس خطوة خطوة نحو ظلام العقل، ونحو إضعاف
الحس الأخلاقى لديهم. وقد اتضح هذا من خلال سلوكهم الجنسى المنحرف والشاذ سواء بين
النساء أم بين الرجال ” لأن إناثهن استبدلن الاستعمال الطبيعى بالذي على خلاف
الطبيعة وكذلك الذكور… اشتعلوا بشهوتهم بعضهم لبعض فاعلين الفحشاء ذكورًا بذكور
ونائلين في أنفسهم جزاء ضلالهن المحق ” (رو26: 127).

 

يرى
القديس بولس أن هناك ثلاثة خطوط عامة شكلّت وأثرت في تلك العبادات الوثنية كالكذب
والانحدار الاجتماعى وعدم الثبات الداخلى وغياب المحبة. وبالتالى فإنه كان يعرف أن
عبارات مثل ” لطف الله أو محبة الله للبشر” ستكون جديدة وغريبة على
الأسماع.

 

أما
بالنسبة لليهود، فقد وجّه لهم الرسول بولس، إتهامًا آخرًا لأنه بالإضافة إلى العقل
الذي منحه الله للجميع، كان لديهم أشياء أخرى كان من الممكن أن تقودهم إلى معرفة
الله معرفة حقيقية، وهى:

1
الإعلان الإلهى.

2
الناموس.

3
الأنبياء.

4
الكتب المقدسة.

5
الوعود المسيانية.

 

إلاّ
أنهم شعروا بأن كل هذا يعطيهم الحق في التفاخر، باعتبار أن كل هذه الامتيازات، هى
خاصة بجنس اليهود دون غيرهم من باقى الأمم. لكن الرسول بولس لم يعترف لهم بأى
امتياز فيما يختص بموضوع الخلاص لذلك يقول ” فأين الافتخار قد انتفى… إذًا
نحسب أن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس. أم الله لليهود فقط. أليس
للأمم أيضًا. بلى للأمم أيضًا” (رو27: 329).

 

لقد
لجأ اليهود إلى وصايا الناموس، ظانين أن فيها خلاصهم. وتمسكوا بممارسات شكلية بلا
محتوى روحى، لذلك سقطوا في هوة البر الذاتى، ولم يخضعوا للبر الإلهى: ” لأنهم
إذ كانوا يجهلون بر الله ويطلبون أن يثبتوا بر أنفسهم لم يخضعوا لبر الله”
(رو3: 10)، ولم يفهموا أن البر هو بالإيمان فقط.

 

قد
يستطيع الإنسان أن يربح كل شئ جميل وعظيم في هذا العالم بمحاولاته الفردية سواء
كان ذلك في العلوم أو الفنون أو في المناصب الاجتماعية أو في الثقافات المتنوعة، ويستطيع
أن يفتخر بهذه الإنجازات التي يحققها، لكن في الأمور الخاصة بملكوت الله، لا
يستطيع الإنسان أن يحقق أية إنجازات بمعزل عن عطية الله. فالعلاقة الحيّة بالله،
بأن تكون ابنًا لله، يمكن أن تحصل عليها فقط كمنحة محبة من الله. لأن الخلاص ونعمة
الله، أُعطيا للإنسان دون أن يقدم من جانبه أى شئ ” الله بيّن محبته لنا لأنه
ونحن بعد خطاة مات المسيح من أجلنا” (رو8: 5). في شخص المسيح أنقضى كل زهو
وكل افتخار من الإنسان على أخيه الإنسان. لأن كل شئ قد صار جديدًا في شخص المسيح.
والإيمان بهذه الحقيقة هو الذي يبرر الإنسان ويحرره ويقوده نحو هذه الحياة الجديدة.
لكن هذا الإيمان ليس ثمرة نتاج عقلى، بل هو عطية الروح القدس.

 

هذا
التعليم عن التبرير بالإيمان، الذي يوجهه الرسول بولس إلى اليهود، يعتمد فيه على
التاريخ المملوء بنماذج حية للإيمان، فقد أشار إلى إبراهيم ليؤكد من خلال إيمان إبراهيم
على أهمية هذا التعليم: ” فآمن إبراهيم بالله فحسب له برًا” (رو3: 4)،
” وأخذ علامة الختان ختمًا لبر الإيمان الذي كان في الغرلة ليكون أبًا لجميع
الذين يؤمنون وهم في الغرلة كى يُحسب لهم أيضًا البر وأبًا للختان للذين ليسوا من
الختان فقط. بل أيضًا يسلكون في خطوات إيمان أبينا إبراهيم الذي كان وهو في الغرلة.
فإنه ليس بالناموس كان الوعد لإبراهيم أو نسله أن يكون وارثًا للعالم بل ببر
الإيمان” (رو11: 413).

 

ثم
تحدث إلى الأمم عن موت المسيح وقيامته وعن فيض النعمة وعطية البر التي بالمسيح،
وعن الخبرة المسيحية الباطنية، وعن شهادة الروح القدس.

إذًا
التركيز عنده هو على الإيمان بشخص المسيح، والإنسان ينال هذا البر بإيمانه بالمسيح
فقط، وليس بأعمال الناموس كى لا يفتخر أحد. ويُشير الرسول بولس إلى أن عمل المسيح
يشمل كل الخليقة المرئية وغير المرئية، وهو بالأساس عمل تصالحى ” لأنه إن كنا
ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه” (رو10: 5). ويقول في رسالته إلى أهل
كولوسى ” وأن يُصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته سواء كان
ما على الأرض أم ما في السموات” (كو20: 1).

 

إن
رؤية الرسول بولس بشأن سقوط الإنسان تتسع لتشمل الكون كله، فقد حدث شرخ في الكون
كله، ولذلك يكتب أن ” كل الخليقة تئن وتتمخض معًا إلى الآن” وأنها
” ستعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله” (رو21: 8). إذًا
فالإنسان والطبيعة معًا يتوجهان إلى الله بالصلاة. لذلك فهو ينظر للإنسان في خضوعه
لعمل روح الله داخله، ليراه رافعًا يديه متضرعًا إلى الله ومترجيًا إياه أن يحرره
من عبودية الفساد والموت. وهذا لن يتأتى إلاّ بالإيمان بصليب المسيح وموته وقيامته
وبعمل الروح القدس المحيي، هذا هو الذي يعطى للإنسان الدخول إلى الحياة الجديدة في
المسيح ولا يستطيع الناموس أن يصنع ذلك لأننا قد ” مات الذي كنا ممسكين فيه
حتى نعبد بجدة الروح لا بعتق الحرف ” (رو6: 7).

 

ولهذا
فهو يفرق بين حالة الإنسان تحت الناموس، وحالته تحت النعمة. ويشير إلى حالة التشتت
الداخلى التي تصيب الإنسان في صراعه ضد الخطية، وصولاً إلى التمتع بالخلاص الممنوح
مجانًا للجميع ” ويحى أنا الإنسان الشقى مَن ينقذنى من جسد هذا الموت ”
(رو24: 7). هذا تعبير عن خبرة داخلية، والرسول بولس هنا يضع نفسه كنموذج ينوب عن
شعبه الذي يعيش تحت الناموس، ويُعبر عن الفترة التي عاشها قبل أن يعرف المسيح لكنه
يجد الحل في ساحة الحرية الحقيقية، تلك التي يمنحها روح الله للإنسان لأن ”
ناموس روح الحياة للمسيح يسوع قد أعتقنى من ناموس الخطية والموت” (رو2: 8).
وقد أراد الرسول بولس بهذه الرسالة أن يؤكد على أن هناك رباطًا قويًا يجمع الكل
معًا سواء كانوا من اليهود أو من الأمم، وهو رباط الروح القدس، وهو بهذا يدفع عن
نفسه تهمة التعاطف مع المسيحيين من الأمم، وأنه بدافع الرغبة في هذا التعاطف، أراد
أن يحرم اليهود من بركة الوعود الإلهية.

 

إن
ما يحزن نفس الرسول بولس هو أن هؤلاء اليهود والذين هم إسرائيليون ولهم التبنى
والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد ومنهم المسيح بالجسد (رو4: 97)
يفقدون خلاصهم الآن ” لأنه إن كان الذين من الناموس هم ورثة فقد تعطل الإيمان
وبطل الوعد” (رو14: 4). ولا يمكن أن يُساء استخدام اسم الله من أجل أهداف
قومية ضيقة، ولا يستطيع أحد أن يحد نهر محبة الله الذي يتدفق بقوة، في قناة قومية
ضيقة. الوعود الإلهية لا تسرى على إسرائيل بحسب الجسد (
kata s£rka isra»l) بل تسرى على إسرائيل الله (ton isra»l tou qeoÚ). وقد استخدم الله عدم إيمانهم، لكى يُخلّص الأمم، لكن بعد ذلك
سيخلص جميع إسرائيل ” فإنى لست أريد أيها الاخوة أن تجهلوا هذا السر. إن
القساوة قد جعلت جزئيًا لإسرائيل إلى أن يدخل ملؤ الأمم وهكذا سيخلص جميع
إسرائيل” (رو25: 1126). وهذا الخلاص سيتم بالطبع على المستوى الفردى وليس على
مستوى الأمة كلها. وقد تأثر الرسول بولس بهذا القصد الإلهى الفائق الوصف، والذي
كان في فكر الله قبل الدهور، فيقول: ” يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه”
(رو33: 11).

 

ثم
يختم الجزء العقيدى لهذه الرسالة بدعاء قائلاً: ” لأن منه وبه وله كل
الأشياء” (رو36: 11). وهذا الدعاء كان الرسول بولس يستخدمه في رسائله
باستمرار كما جاء في رسالته إلى أهل كورنثوس ” لكن لنا إله واحد الآب الذي
فيه جميع الأشياء ونحن له” (1كو6: 5)، وفي رسالته إلى أهل كولوسى ” الكل
به وله قد خلق” (16: 1)، وإلى أهل أفسس ” إله وأب واحد للكل الذي على
الكل وبالكل وفي كلكم” (6: 4)، وإلى العبرانيين يقول: ” لأنه لاق بذاك
الذي من أجله الكل وبه الكل وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد” (10: 2).

 

ثم
يوجه لهم بعض النصائح الأخلاقية، ويبيّن لهم بأن النتائج المرجوة من هذا السلوك
المستقيم، تنبع من الروح الجديدة للإيمان. ويفسر عبارة القديس يوحنا ”
الساجدون الحقيقيون يسجدون لله بالروح والحق ” (يو 23: 4)، عندما يشير إلى
العبادة العقلية ” فأطلب إليكم أيها الاخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم
ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية” (رو1: 12). هذا المعنى
الفريد الخاص بالعبادة، نجده يتكرر مرة واحدة في الرسالة الأولى للقديس بطرس
“… لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح” (1بط5: 2).
السلوك المستقيم إذًا لا يعتمد على مُسلمات موجودة، بل هو سلوك ينبع من الروح
الجديدة للمحبة ” المحبة فلتكن بلا رياء… وادين بعضكم بعض بالمحبة الأخوية
مقدمين بعضكم بعض في الكرامة” (رو9: 1210).

 

لقد
بدأ عصر جديد، تحدّد فيه موقف المسيحى من الدولة، حيث كان الفكر اليهودى الرؤيوى،
يعتبر أن السلطة الزمنية، محصورة في الشر. ولذلك أخذوا موقف سلبى تجاه الدولة. أما
الرسول بولس فقد كان أول مَن أظهر موقف إيجابى تجاه الدولة الرومانية، على الرغم
من موقفه الواضح من أمور هذا العالم الحاضر. سلطة الدولة هى سلطة خادمة لله، ودور
الحاكم هو أن يُحد من تفشى الفساد وانتشار الشر ” لأنه خادم الله للصلاح.
ولكن إن فعلت الشر فخف. لأنه لا يحمل السيف عبثًا إذ هو خادم الله منتقم للغضب من
الذي يفعل الشر” (رو4: 13).

 

وعندما
كتب الرسول بولس هذه العبارات الودية، كان العالم الرومانى في عامه الرابع تحت حكم
نيرون. وعندما تغيّر موقف الدولة الرومانية تجاه المسيحيين وبدأت فترة اضطهادات،
لم يغير الرسول بولس موقفه تجاه الدولة، لأنه يقول ” لتخضع كل نفس للسلاطين
الفائقة. ليس سلطان إلاّ من الله والسلاطين الكائنة هى مرتبة من الله”. وفي
رسالته الأولى إلى تيموثاوس يقول: ” فاطلب أول كل شئ أن تقام طلبات وصلوات
وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس. لأجل الملوك وجميع الذين هم في منصب لكى نقضى
حياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقار” (1تى1: 2).

 

وفي
رسالته إلى تيطس يقول: ” ذكّرهم أن يخضعوا للرياسات والسلاطين ويطيعوا
ويكونوا مستعدين لكل عمل صالح ” (تى1: 3).

 

وهو
هنا يعكس تعاليم المسيح له المجد الذي قال ” اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله
لله” هكذا قال الرسول بولس ” اعطوا الجميع حقوقهم. الجزية لمَن له
الجزية، الجباية لمَن له الجباية والخوف لمَن له الخوف والإكرام لمَن له
الإكرام” (رو7: 13). لقد تأسست مملكة جديدة، مغايرة لمالك هذا العالم، هى
مملكة الروح فملكوت الله هو ” بر وسلام وفرح في الروح القدس ” (رو17: 14).

 

ثم
يختم رسالته بدعاء وتمجيد قائلاً: ” وللقادر أن يثبتكم حسب إنجيلى والكرازة
بيسوع المسيح حسب اعلان السر الذي كان مكتومًا في الأزمنة الأزلية، ولكن أظهر الآن
واعلم به جميع الأمم بالكتب النبوية حسب أمر الله الأزلى لإطاعة الإيمان. لله
الحكيم وحده بيسوع المسيح له المجد إلى الأبد آمين” (25: 1627).

 

وبنظرة
سريعة على الإصحاحين الأخيرين نجد أن الرسول بولس قد استخدم أربع عبارات كختام
لرسالته، هى كالآتى:

 

1
” إله السلام معكم أجمعين آمين” (33: 15).

2
” نعمة ربنا يسوع المسيح معكم آمين” (20: 16).

3
” نعمة ربنا يسوع المسيح مع جميعكم آمين” (24: 16).

4
” لله الحكيم وحده بيسوع المسيح له المجد إلى الأبد أمين” (27: 16).

 

السلام
الرسولى:

أرسل
الرسول بولس سلامه إلى 26 شخص في نهاية الرسالة، سواء بذكر أسمائهم أو بدون أن
يذكر، وهؤلاء الذين لم يذكر أسمائهم لهم علاقة مباشرة بهذه الأسماء المشار إليها.
مثل (وعلى أمه أمى) (وعلى أخته) (وعلى جميع القديسين الذين معهم). وقد تساءل البعض
من الباحثين في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، من أين للرسول
بولس بكل هذه العلاقات؟ وهل حقًا كان يعرف كل هؤلاء الأشخاص الذين وردت أسمائهم
بالإصحاح السادس عشر من الرسالة؟ خاصةً وهو يكتب لكنيسة لم يقم بزيارتها بعد.
والواضح أن التعبيرات المكتوبة تُشير إلى متانة العلاقة التي تربط بينه وبينهم،
مثل ” سلموا على أمبلياس حبيبى في الرب” (28: 16)، ” سلموا على
هيروديون نسيبى” (11: 16)، ” وعلى أمه أمى” (13: 16). أيضًا فإن
أكيلا وبرسكيلا “اللذين وضعا عنقيهما من أجل حياتى” (13: 16)، لم يكونا
هناك في ذلك الوقت، كما نعرف من خلال مواضع أخرى في العهد الجديد. يُشير سفر
الأعمال إلى أن الرسول بولس “لبث أيضًا أيامًا كثيرة ثم ودع الاخوة وسافر في
البحر إلى سورية ومعه بريسكلا وأكيلا. فأقبل إلى أفسس وتركهما هناك” (أع18: 1828).

 

في
رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس يكتب “تسلم عليكم كنائس أسيا. يُسلم عليكم في
الرب كثيرًا أكيلا وبريسكلا مع الكنيسة التي في بيتهما” (1كو19: 16).

 

ويكتب
إلى تيموثاوس ” سلم على فرسكا وأكيلا وبيت أنيسيفورس” (2تى19: 4). كما
أن الشخصين اللذين يوجه لهما الرسول بولس سلامه: ” اندرونيكوس وبونياس نسيبى
المأسورين معى” (7: 16)، من المرجح أن لهم علاقة بالأسر في أفسس. كما أن ما
جاء بالأعداد من (1720)، يشير إلى أنه يتوجه إلى كنيسة تربطه بها علاقة ود ومعروفة
جدًا لديه: ” الذين يصنعون الشقاقات والعثرات خلافًا للتعليم الذي
تعلمتموه” أى أن هناك تعليم قد تلقوه قبل كتابة هذه الرسالة.

 

مقدمة
الرسالة للقديس يوحنا ذهبى الفم

1
نسمع دائمًا أن رسائل المُطوّب بولس تُقرأ مرتين، وفي مرات كثيرة ثلاث أو أربع
مرات في الأسبوع الواحد، وذلك عند الإحتفال بتذكار الشهداء القديسين.

 

وبكل
تأكيد يمتلكني فرح عظيم وأنا أستمع لهذا الصوت الروحاني صوت القديس بولس وأشعر
بالسمو وبدفء الروح وكثيرًا ما أتخيله حاضرًا أمامي، وأعتقد أنني أراه يتكلم.
ولكنني في الوقت نفسه ينتابني حزن وألم، لأن هذا الرجل لا يعرفه الكثيرون حق
المعرفة. كما أن البعض يجهله بشكل كبير، بل إنهم لا يعرفون ولا حتى كم تكون عدد
رسائله. وهذا يحدث لأنهم لا يرغبون في الإنشغال بهذا القديس.

 

ونحن
إن كنا نعرف بعض الأشياء عنه، فهذا لا يرجع إلى استنارة الفكر ويقظته، بل باستمرار
كان أمامنا هدف، هو التواصل مع هذا الرجل، فقد إنشغلنا به زمانًا طويلاً. والذين
يحبون أشخاصًا يشتاقون دائمًا لمعرفة أمورهم أكثر من الآخرين لأن هذه الأمور
تعنيهم. وهذا بالضبط ما يعلنه لنا الرسول بولس اذ يقول لأهل فيلبي ” كما يحق
لي أن أفتكر من جهة جميعكم، لأني حافظكم في قلبي وفي وثقي وفي المحاماة عن الإنجيل
وتثبيته أنتم الذين جميعكم شركائي في النعمة “.

 

ولهذا
اذا توخيتم الدقة في قراءتكم، فلن يكون لديكم احتياج لأي شيء آخر. صادقة هى كلمة
المسيح الذي قال ” اسألوا تعطوا اطلبوا تجدوا اقرعوا يفتح لكم “. لكن
لأن الكثيرين من المجتمعين هنا معنا، تعهدوا مسئولية تربية الأولاد والاهتمام
بالزوجة والعناية بشئون الأسرة، فإنهم لن يستطيعوا أن يكرسوا كل جهدهم لهذا العمل.

 

ولهذا
إذا أردتم أن تتمتعوا بما يعرفه الآخرون، اعتنوا جيدًا أن تُظهروا اهتمامًا لسماع
الأقوال الالهية، على قدر ما تهتمون بجمع واكتناز الأموال، على الرغم من أنه ليس
من المفترض أن أطلب منكم أن تفعلوا ذلك، لأنه سيكون أمرًا مفرحًا أكثر، لو أنكم
أبديتم من أنفسكم اهتمامًا أوفر. فالواقع أنه بسبب الجهل بالكتب المقدسة، قد نتجت
شرور لا حد لها. ولنفس السبب أيضًا كانت تلك النتائج المدمرة للهرطقات الفاسدة.
وهذا راجع لعدم المبالاة والجهد الضائع في أمور لا فائدة منها.

 

فالذين
حُرموا من نعمة البصر لا يستطيعون السير بشكل طبيعي، هكذا أيضًا أولئك الذين لا
يتطلعون نحو بهاء الكتب المقدسة، فإنهم يسقطون حتمًا في خطايا كثيرة لأنهم يسيرون
في ظلام مخيف. ولكي لا يحدث كل ذلك، علينا أن نفتح عيون أذهاننا نحو شعاع الكلمة
الرسولية. لأنه بالحقيقة قد أشرقت كلمة الرسول بولس أكثر من الشمس، وحُسب أفضل من
الجميع من جهة تعاليمه، ونال نعمة الروح القدس بوفرة إذ أنه قد تعب أكثر من جميعهم.
وهذا يظهر لا من خلال رسائله فقط، بل أيضًا من خلال سفر أعمال الرسل، لأنه عندما
كانت تسنح له الفرصة بالكلام، لم يكن يتردد في إعطاء كلمة، إذ كان لديه دائمًا ما
يقدمه.

ولهذا،
فقد اعتبره أهل لسترة أنه هرمس (
Erm»j) لأنه كان المتقدم في الكلام ” فكانوا يدعون برنابا زفس
وبولس هرمس إذ كان هو المتقدم في الكلام “.

 

2
لكن لأن الأمر هنا يتعلق بالرسالة إلى أهل رومية، فهناك احتياج أن نحدد زمن
كتابتها، لأنها ليست كما يظن البعض مكتوبة قبل الرسائل الأخرى. لكنها كتبت قبل تلك
الرسائل التي كُتبت من روما. لأن الرسالتين إلى أهل كورنثوس، أُرسلتا قبل رسالة
رومية، وهذا واضح مما كتبه في نهاية الرسالة قائلاً: ” ولكن الآن أنا ذاهب
إلى أورشليم لأخدم القديسين. لأن أهل مكدونية وأخائيه استحسنوا أن يصنعوا توزيعًا
لفقراء القديسين الذين من أورشليم “. وفي رسالته إلى أهل كورنثوس يقول ”
وإن كان يستحق أن أذهب أنا أيضًا فسيذهبون معي “. قال ذلك لأولئك الذين
أحضروا المساعدات إلى هناك. إذًا فمن الواضح أنه عندما كتب الرسالة إلى أهل
كورنثوس كان في رحلته هذه. وعليه تكون رسالة رومية قد كتبت بعد رسالتي كورنثوس.
ومن الواضح أيضًا أن الرسالة إلى أهل تسالونيكي قد كتبت قبل الرسالة إلى أهل
كورنثوس، لأنه تكلم عن أعمال الرحمة عندما قال ” وأما المحبة الأخوية فلا
حاجة لكم أن أكتب إليكم عنها لأنكم أنفسكم متعلّمون من الله أن يحب بعضكم
بعضًا”. ووقتها كتب إلى أهل كورنثوس موضحًا هذا الأمر قائلاً: ” لأنى
أعلم نشاطكم الذي افتخر به من جهتكم لدى المكدونيين أن أخائية مستعدة منذ العام
الماضي. وغيرتكم قد حرّضت الأكثرين “.

 

إذًا،
بينما رسالة رومية تعتبر لاحقة على هذه الرسائل، إلاّ أنها سابقة على الرسائل التي
كتبت من روما، لأنه لم يكن قد انتقل بعد إلى روما عندما كتبت هذه الرسالة وهذا
يوضحه قائلاً: ” لأني مشتاق أن أراكم لكي أمنحكم هبة روحية لثباتكم “.
ومن روما كتب إلى أهل فيلبي، ولهذا يقول ” يسلّم عليكم جميع القديسين ولاسيما
الذين من بيت قيصر “، وإلى العبرانيين كتب يقول: ” سلّموا على جميع
مرشديكم وجميع القديسين، يسلّم عليكم الذين من إيطاليا “. والرسالة الثانية
إلى تيموثاوس أرسلها من روما، بينما كان مسجونًا، وهذه الرسالة كما يتضح لي قد
كتبت آخر الرسائل وهذا واضح من نهايتها ” فإني أنا الآن أسكب سكيبًا ووقت
انحلالى قد حضر”. وفيما يتعلق بأمر انتهاء حياته هناك، فهذا أمر واضح وأكيد
للجميع.

 

أيضًا
الرسالة إلى فليمون، تُعد من الرسائل الأخيرة، لأنه كان قد كتبها وهو في سن متقدم
جدًا ولهذا يقول: ” من أجل المحبة أطلب بالحري إذ أنا إنسان، هكذا نظير بولس
الشيخ والآن أسير يسوع المسيح أيضًا”. لكنها كانت سابقة على الرسالة إلى
كولوسي، وهذا واضح من ختام رسالة كولوسي “جميع أحوالي سيعرفكم بها تيخيكيس
الأخ الحبيب والخادم الأمين والعبد معنا في الرب الذي أرسلته اليكم لهذا عينه
ليعرف أحوالكم ويعزي قلوبكم مع أنسيمس الأخ الحبيب الذي هو منكم. هما سيعرفانكم
بكل ما ههنا”. وأنسيمس هو الشخص الذي من أجله كُتبت الرسالة إلى فليمون.
وأنسيمس ليس شخصًا يحمل اسم آخر، وهذا واضح من أرخبس، الذي أخذه الرسول بولس
مساعدًا له. وهو يوجه له النصح عندما يكتب إلى أهل كولوسي قائلاً: ” وقولوا
لأرخبس انظر إلى الخدمة التي قبلتها في الرب لكي تتمها”.

 

ويتضح
لي أيضًا أن رسالة غلاطية سابقة على الرسالة إلى أهل رومية. لكن إن كانت هذه
الرسائل لها ترتيب آخر مختلف، فهذا لا يعتبر أبدًا شيئًا غريبًا. فالأنبياء الاثني
عشر على الرغم من أنهم زمنيًا لا يأتون الواحد بعد الآخر، بل يفصل بينهم مسافات
زمنية بعيدة، نجد أنهم يأتون في الترتيب الواحد بعد الأخر. فحجي وزكريا وآخرون
تنبأوا بعد حزقيال ودانيال وكثيرون بعد يونان وصفنيا والأنبياء الآخرين، ومع هذا
فهم في وحدة واحدة مع أولئك الذين تفصلهم عن بعضهم البعض مسافات زمنية بعيدة.

 

3
ونرجو ألا يعتبر أحدكم أن هذا العرض السابق هو أمر غير مهم، أو هو نوع من
الإسترسال الذي يتجاوز موضوع البحث في هذه الرسالة لأن زمن كتابة الرسائل يساعدنا
كثيرًا في موضوعنا هذا. لأنه عندما يكتب إلى أهل رومية وإلى أهل كولوسي عن نفس
الموضوعات، فإنه لا يكتب بالأسلوب نفسه. فهو عندما يكتب إلى أهل رومية نلاحظ نبرة
الود الشديد في كلامه، فنجده يقول: ” من هو ضعيف في الإيمان فاقبلوه لا
لمحاكمة الأفكار. واحد يؤمن أن يأكل كل شيء، وأما الضعيف فيأكل بقولا “.
بينما نجده وهو يكتب إلى أهل كولوسي عن نفس الموضوعات، أن هناك نبرة متشددة في
كلامه فيقول: ” إذًا إن كنتم قد قمتم مع المسيح عن أركان العالم. فلماذا
كأنكم عائشون في العالم تفرض عليكم فرائض لا تمس ولا تذق ولا تجس التي هى جميعها
للفناء في الاستعمال حسب وصايا وتعاليم الناس التي لها حكاية حكمة بعبادة نافلة،
وتواضع وقهر الجسد ليس بقيمة من جهة إشباع البشرية “.

 

وأنا
لا أجد سببًا آخر لهذا الاختلاف في الكلام، إلاّ زمن كتابة هذه الرسائل ورده على
تساؤلات خاصة، ويمكن للمرء أن يجد أن الرسول بولس يصنع هذا الأمر في مواضع أخرى من
رسائله.

 

هذا
أيضًا ما يفعله كل من الطبيب والمعلم. فالطبيب لا يعامل مرضاه الذين هم في بداية
المرض بنفس الطريقة مع مرضى آخرين، قد اقتربوا من مرحلة الشفاء. ولا المعلّم أيضًا
يتعامل مع الأولاد الراغبين في تعلّم الحروف الأولى، بنفس الطريقة مع أولئك الذين
لهم احتياج لتعاليم أكمل. ولذلك فالمطوّب بولس عندما يكتب نجد أن لديه دافعًا لكى
يكتب. لكن ما هو الدافع لكتابة رسائله؟ هو نفسه يوضح هذا وهو يكتب لأهل كورنثوس
قائلاً: ” وأما من جهة الأمور التي كتبتم لي عنها “، بينما لأهل غلاطية
يكتب عن نفس الأمور من بداية الرسالة إلى نهايتها، أما بالنسبة لأهل رومية، فلأي
سبب ولأي هدف كتب إليهم؟ ولماذا يؤكد لهم أنهم مملوءون من كل صلاح ومن كل معرفة،
وقادرون على تقديم النصح للآخرين؟

 

لأي
سبب إذًا كتب الرسالة؟ بسبب نعمة الله إذ يقول: ” ولكن بأكثر جسارة كتبت
إليكم جزئيًا أيها الأخوة، كمذّكر لكم بسبب النعمة التي وهبت لي من الله حتى أكون
خادمًا ليسوع المسيح “.

 

ولهذا
قال منذ البداية: ” وإني مديون لليونانيين والبرابرة، للحكماء والجهلاء.
فهكذا ما هو لي مستعد لتبشيركم أنتم الذين في رومية أيضًا”

لقد
أراد، أن يقدم النصح للآخرين، لكن في الوقت نفسه كان من الضروري أن يصحح الأوضاع عن
طريق رسائله، لأنه لم يكن قد وصل بعد إلى روما. فهو يقدم النصح لهم على رجاء حضوره
الشخصي فيما بعد.

 

لقد
احتضن الرسول بولس كل المسكونة وحمل الجميع داخله. واعتبر أن الإتحاد بالله هو أهم
وأعظم بكثير من أي قرابة أخرى. لقد كان هدفه هو أن يلدهم جميعًا من أجل أن يتصور
المسيح فيهم. هكذا أحبهم، وبمعنى أفضل، لقد أظهر أحشاء رأفة أكثر جدًا من أي أب
جسدي. هذه هى نعمة الروح القدس التي تنتصر على الآلام الجسدية وتظهر شوقًا روحيًا
ملتهبًا. وهذا ما يراه المرء بشكل خاص جدًا في شخص الرسول بولس الذي من أجل محبته
للجميع، صار مثل طائر ينتقل من مكان إلى آخر دون أن يبقى في مكان واحد. لأنه سمع
المسيح يقول لبطرس ” أتحبني ارع خرافي ” وأخذ على عاتقه هذا الأمر كأعظم
قانون للمحبة، وقدمه بأسلوب فاق الجميع.

 

4
ومادمنا نسير على خطى هذا المحب، دعونا أن يصحح كل واحد منا لا أقول مسيرة الكون
كله أو مدن أو أمم بأكملها لكن على الأقل بيته وزوجته وأولاده وأصدقاءه وجيرانه.
ولا يقل لي أحد أنه عاجز أو أنه إنسان بسيط، فلا يوجد مَن هو عديم العلم أكثر من
بطرس أو مَن هو أبسط من الرسول بولس. هو نفسه اعترف ولم يخجل أن يقول: ” إن
كنت عاميًا في الكلام فلست في العلم “. لكن هذا البسيط والآخر غير المتعلم
انتصرا على فلاسفة كبار وأفحما العديد من الخطباء، وتفوقا في كل شيء بضميرهم النقى
وبعمل نعمة الله داخل نفوسهم.

 

وأي
جواب سنعطي إن كنا لا نقدم عونًا لأحد ولا حتى لعشرين شخصًا، ومادمنا غير نافعين
حتى للمقيمين معنا؟ فالتذرع بالجهل أو بالبساطة هى إذًا أمور لا مبرر لها لأن عدم
التعليم ونقص الثقافة لن يعوق الكلمة، ما يعوقها هو الكسل والخمول وعدم اليقظة،
وطالما قد نفضنا عن أنفسنا هذا الكسل واهتممنا برعاية الآخر، سنتمتع بالهدوء
والسلام الداخلي، وسنصحح مسيرة أحبائنا بمخافة الله، حتى نتمتع في الحياة الأبدية
بخيرات لا تحصى بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي له المجد مع
الآب والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.

 

تعليق
على مقدمة القديس يوحنا ذهبى الفم لرسالة رومية

ليس
من المعتاد في كتابات الآباء التفسيرية وجود مقدمة للنص الذي يفسرونه، إلاّ أن
القديس يوحنا ذهبى الفم قد بدأ تفسيره لرسالة رومية بمقدمة وافية واضعًا دراسة
متميزة لهذا النص الكتابى.

 

ومن
الجدير بالملاحظة أن ما فعله القديس يوحنا ذهبى الفم في القرن الرابع الميلادى، قد
صار منهجًا لعلماء الكتاب المقدس فيما بعد. فلقد بدأ القديس يوحنا ذهبى الفم
مقدمته هذه بوضع أسس ارتكز عليها منهجهه التفسيرى ورؤيته للنص. ومن هذه الأسس:

 

أ-
تحديد زمن كتابة الرسالة:

لقد
حاول القديس يوحنا ذهبى الفم تحديد زمن كتابة الرسالة مستعينًا ليس فقط بما جاء في
هذه الرسالة بل أيضًا ما ورد في نصوص الرسائل الأخرى للقديس بولس. وقد أوضح هو
نفسه الأهمية الشديدة لتحديد زمن كتابة الرسالة وعلاقة ذلك بتفسير النص إذ يقول: [
ونرجو ألا يعتبر أحدكم أن هذا العرض السابق هو أمر غير مهم، أو هو نوع من
الإسترسال الذي يتجاوز موضوع البحث في هذه الرسالة، لأن زمن كتابة الرسالة يساعدنا
كثيرًا في موضوعنا هذا ].

فهو
يرى أن زمن كتابة الرسائل يؤثر في الطريقة التي يكتب بها الرسول بولس عن موضوع
معين، مثلما حدث مثلاً عندما كتب إلى أهل كولوسى وأهل رومية عن موضوعات واحدة، ومع
ذلك كتب لكل منهم بطريقة مختلفة. لهذا يلاحظ القديس يوحنا ذهبى الفم أن هناك نبرة
ود في كلام القديس بولس عندما يكتب لأهل رومية. هذا الود يتحول إلى شدة عندما يكتب
إلى أهل كولوسى عن نفس الموضوعات ويرجع القديس يوحنا ذهبى الفم هذا الإختلاف إلى
زمن كتابة الرسالة، إذ يقول: [وأنا لا أجد سببًا آخر للإختلاف إلاّ زمن كتابة هذه
الرسائل ].

 

ب-
الدافع لكتابة الرسالة:

نقطة
أخرى حاول القديس يوحنا ذهبى الفم أن يجد لها إجابة، وكانت عاملاً مساعدًا له في
تفسيره، ليس فقط لهذه الرسالة، بل ولرسائل الرسول بولس الأخرى، هى محاولة إكتشافه
الدافع لكتابة هذه الرسائل. ولذلك نجده يتساءل: ما هو الدافع لكتابة هذه الرسائل؟.

 

ج-
فهم شخصية الكاتب:

بجانب
العلاقة الروحية الحميمة التي كانت تجمع القديس يوحنا ذهبى الفم بالرسول بولس كما
سبق وأشرنا، إلاّ أنه حاول أيضًا في ختام هذه المقدمة أن يُلخص لنا ملامح وأبعاد
هذه الشخصية والخدمة الكبيرة التي قامت بها. لقد كان ينظر إلى الرسول بولس كمثال
يُحتذى به في الخدمة وفي محبته للجميع بغض النظر عن الحدود والأوطان ودون الإهتمام
بالأتعاب الجسدية أو الأخطار أو الآلام التي من الممكن أن يتعرض لها المرء.

ولهذا
فقد وصفه قائلاً: [لقد احتضن القديس بولس الرسول كل المسكونة وحمل الجميع داخله.
واعتبر أن الإتحاد بالله هو أهم وأعظم بكثير من أى قرابة أخرى. لقد أظهر أحشاء
رأفه أكثر من أى أب جسدى… ومن أجل محبته للجميع، صار مثل طائر يتنقل من مكان
لآخر دون أن يبقى في مكان واحد].

 

لقد
أراد القديس يوحنا ذهبى الفم أن يسلّط الضوء على رغبة الرسول بولس الشديدة في أن
يتصور المسيح في الجميع، وأنه قد أخذ على عاتقه أن يُتمم هذا الهدف في كل مكان ذهب
إليه. وهو كأب للجميع كان يُتابع أحوال المؤمنين ونموهم الروحى، وذلك عن طريق
رسائله، وتصحيح ما قد يستجد من أوضاع قد يُثار حولها سوء فهم معين في أمور تخص
الإيمان. لقد كان إحساسه بالمسئولية نحو مخدوميه ومحبته الكبيرة لهم، أمرًا لا
يمكن إهماله.

وقد
ركز القديس يوحنا ذهبى الفم على هذا البُعد ليكشف عن ملامح شخصية هذا الكارز
العظيم.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى