علم

الصليب



الصليب

الصليب

يوحنا
ذهبى الفم

إعداد
القمص تادرس يعقوب ملطى

مقدمة
الناشر

مقالات ذات صلة

يحمل
هذا الكتاب عظتين للقديس يوحنا الذهبي الفم من ثلاث عظات ألقاها في يوم الجمعة
العظيمة، تم نشر العظة الثانية من هذه العظات في عام 2001 وهنا نعيد نشرها مع عظة
أخرى من هذه العظات.

 

العظة
الأولى

هذه
العظة، ألقاها القديس يوحنا الذهبي الفم في أحد احتفالات الكنيسة بيوم الجمعة
العظيمة بمدينة إنطاكية في إحدى سنوات خدمته في كنيسة إنطاكية (التي امتدت من سنة
386 إلى سنة 397م)، قبل اختياره بطريركًا للقسطنطينية سنة 397م. وهذه العظة هي
الثانية من ثلاث عظات ألقاها عن الصليب.

 

 ويتحدث
في هذه العظة عن أهمية صليب المسيح ولماذا يُحتفل به وعن آلام المسيح وموته، وعن
توبة اللص واعترافه بالمسيح وأهمية التوبة والاعتراف للمؤمنين، وعن وجوب الصلاة
لأجل الأعداء وطلب الغفران لهم.

 

 وكانت
صلوات الجمعة العظيمة في إنطاكية تتم في المقبرة الكبيرة التي دُفن بها الشهداء
خارج المدينة تذكارًا لصلب المسيح خارج أورشليم كما يشرح الذهبي الفم في عظته.
وكانت الصلوات تستمر طوال النهار ومعظم الليل. وعادة الصلاة هذه في مقبرة الشهداء
كانت أيضًا للتذكير بأن المدفونين في هذه المقبرة ينتظرون القيامة المجيدة مع
المخلص الذي صُلب ودُفن وقام.

 

ترجم
هذه العظة عن اللغة اليونانية القديمة دكتور جوزيف موريس فلتس الباحث بالمركز
الأرثوذكسي للدراسات الآبائية. وذلك عن مجموعة باترولوجيا جريكا (ميني):
P.G. 49: 407-418.

 

مقدمة
العظة الثانية

تشمل
هذه العظة نص موجز يحتوي على مفاهيم لاهوتية سامية. يشرح فيها الذهبي الفم سبب
تسمية المكان الذي يستريح فيه أولئك الذين رحلوا من هذه الحياة ”
بالمرقد”، ثم يؤكد أن الموت الجسدي بعد موت وقيامة ربنا يسوع المسيح هو نوم
(رُقاد)، إذ أن المسيح هو قاهر الموت. لذا تحدث بعد ذلك عن تأثير الصليب الذي به
داس المسيح الموت وأعطانا إمكانية النصرة على الشياطين ثم ختم العظة متحدثًا عن
كيفية الاقتراب بوقار للتناول من الشركة الإلهية.

 

 لا
نعرف على وجه التحديد الزمن الذي ألقى فيه الذهبي الفم هذه العظة. لكن البعض يعتقد
أنه ألقاها في الجمعة العظيمة لعام 386م أو على الأغلب عام 392م. وترجم هذه العظة
دكتور جورج عوض إبراهيم عن النص الأصلي الموجود باللغة اليونانية في باترولوجيا
جريكا (ميني)
P.G. 49: 393-398، تحت عنوان: ” تسمية المرقد وصليب ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع
المسيح”

 فليعطنا
إلهنا ومخلصنا الرب يسوع المسيح أن ننتفع بالتأمل في صليبه وموته وقيامته بصلوات
القديس يوحنا الذهبي الفم ونفحات نظراته الروحية.

 ولإلهنا
المحب الآب والابن والروح القدس الثالوث المساوي كل مجد وسجود وتسبيح الآن وإلى
دهر الدهور. آمين

القمص
تادرس يعقوب ملطى

 

العظة
الأولى

اولا:
مجد الصليب و فخره

1
اليوم يا أحبائي نُعيّد ونحتفل إذ أن السيد على الصليب والشمس متوارية. ولا تتعجب
من أن الأمور التي تسبب التجهم والعبوس هي نفسها التي نحتفل بها، إذ أن كل الأمور
الروحية تختلف عن الأمور الجسدية المعتادة. ولتعلم هذا بالتمام.

 

كان
الصليب في السابق اسمًا للقصاص والعقاب، أما الآن فهو اسم للفخر والاحترام، كان
الصليب في السابق موضع عار وعذاب، أما الآن فأصبح سبب مجد وشرف.

 

وكون
أن الصليب هو مجد يؤكده قول المسيح ” أيها الآب مجدني بالمجد الذي كان لي
عندك قبل تأسيس العالم” (يو5: 17).

 

فالصليب
هو قمة خلاصنا، الصليب هو مصدر عشرات الآلاف من الخيرات، بواسطته صار المنبوذين
والساقطين مقبولين في عداد الأبناء.

 

به
لم نعد بعد مُضللين بل للحق عارفين.

 

بالصليب
أصبح الذين كانوا فيما مضى يعبدون الأخشاب والأحجار، يعرفون خالق الكل.

 

بالصليب
نال عبيد الخطية عتق الحرية بالبر.

به
صارت الأرض سماءً، فهكذا (بالصليب) تحررنا من الضلال، وهكذا نلنا الإرشاد إلى الحق.

هكذا
تمم الله أمرًا يليق به تجاه البشر.

هكذا
أقامنا من عمق الخطية ورفعنا إلى قمة الفضيلة.

هكذا
أباد ضلال الشياطين وهكذا كشف الخداع.

بالصليب
لم يعد هناك دخان، ولا دماء حيوانات مهرقة، بل في كل مكان نجد الاحتفالات الروحية
والتسابيح والصلوات.

بالصليب
هربت قوات الشر وفر الشيطان.

بالصليب
تتسابق الطبيعة البشرية لتنضم إلى محفل الملائكة.

بالصليب
صارت البتولية مستوطنة على الأرض. فحيث أتى المسيح من عذراء فقد فتح طريق هذه الفضيلة
أمام طبيعة البشر.

بالصليب
أنارنا نحن الجلوس في الظلمة.

بالصليب
حرَّرنا من الأسر، وبعد أن كنا بعيدين صرنا منه قريبين.

هكذا
بالصليب خلُصنا، وصار لنا هذا الفداء بالفعل.

هكذا
بالصليب بعد أن كنا غرباء صرنا مواطنين سمائيين.

هكذا
بالصليب بعد أن كنا نُحارب صار لنا السلام والأمن.

وبالصليب
لم نعد نخاف سهام الشيطان، فقد وجدنا نبع الحياة.

بواسطة
الصليب لا نحتاج فيما بعد الزينة الخارجية لأننا نتمتع بالعريس.

وبه
لم نعد نخاف الذئب فقد عرفنا الراعي الصالح ” أنا هو الراعي الصالح ”
(يو11: 10).

وبه
لن نرهب الطاغية إذ صرنا في جانب الملك.

 

ثانيا:
لماذا نحتفل بالصليب؟

أرأيت
كم هي الخيرات التي قدمها الصليب لنا؟ إذن يحق لنا أن نقيم عيدًا له. ولهذا أوصانا
بولس الرسول أن نُعيّد قائلاً ” فلنعيّد لا بالخمير العتيق.. بل بفطير
الاخلاص والحق” (1كو8: 5).

ولماذا
توصينا أيها الرسول المغبوط بولس أن نحتفل بالصليب؟

لقد
أوضح السبب ” إن فصحنا المسيح قد ذُبح لأجلنا” (1كو7: 5).

أرأيت
كيف يكون الصليب عيدًا للمسيح؟ أعرفت أنه يجب أن نعيّد للصليب؟ لقد ذُبح المسيح
على الصليب، وحيث تكون الذبيحة هناك عتق من الخطايا، هناك مصالحة مع الرب، هناك
عيد وفرح.

 

ثالثا:
المسيح: الذبيحة والكاهن

لقد
قيل إن فصحنا المسيح ذُبح من أجلنا. فقل لي أين ذُبح؟ لقد ذُبح مرفوعًا على الصليب.
المذبح جديد ومختلف عن أي مذبح، لأن الذبيحة جديدة ومختلفة عن أي ذبيحة، فهو نفسه
الذبيحة والكاهن. أما كونه ذبيحة فبحسب الجسد، أما كونه كاهن فبحسب الروح، وهو
نفسه المقدِّم والمُقدَّم. فاسمع أيضًا ما يقول بولس ” إن رئيس الكهنة الذي يؤخذ
من بين الناس إنما يُقام من أجل الناس ليقدم عنهم (ذبائح) لله، أما المسيح فلم تكن
له حاجة إلى ذلك إذ قرَّب ذاته” (عب8: 5، 3: 8). ويقول بولس الرسول في موضع
آخر ” إن المسيح قُدِّم مرة واحدة ليحمل خطايا كثيرين” (عب 28: 9). لقد
قُدِّم ههنا، أما هناك فقدَّم ذاته. أرأيت كيف صار ذبيحة وكاهنًا معًا، وكيف كان
الصليب مذبحًا له؟

 

رابعا:
لماذا صُلب المسيح خارج المدينة ومرتفعًا على الصليب؟

ومن
الضروري أن تعلم لأي سبب لم تُقدم الذبيحة داخل الهيكل اليهودي، لكن خارج المدينة،
خارج الأسوار. لقد صُلب خارج المدينة مثل أثيم حتى يتم ما قيل بالنبي ” إنه
أُحصى مع الأثمة” (إش12: 53).

 

ولماذا
صُلب خارج المدينة مرتفعًا على الصليب، وليس تحت سقف ما؟ لكي يطهر طبيعة الهواء.
فهناك وهو مرفوع على الصليب لم يكن يظلله سقف بل سماء، لكي يطهرها مرة بذبح الخروف
هناك عاليًا على الصليب. وكما تطهرت السماء، فإنه طهّر الأرض أيضًا. فعندما سال
الدم من جنبه تطهرت الأرض من كل دنس.

 

ولماذا
لم تقدم ذبيحة الصليب تحت سقف أو في هيكل يهودي؟ أعلم أن هذا أيضًا ليس أمرًا
بسيطًا، فقد حدث ذلك لكي لا يدّعي اليهود أن الذبيحة تخصهم وحدهم، أو يُظن أنها
قُدمت عن هذا الشعب فقط، ولهذا قُدمت خارج المدينة والأسوار لكي تُعلِمهم أن
الذبيحة هي مسكونية، وأيضًا أنها قُدمت عن الكل.

 

وأن
تطهير الطبيعة شامل لكل الأرض، بعكس اليهود الذين أمرهم الله أن يتركوا الأرض كلها
ويُبقوا لأنفسهم مكانًا واحدًا للصلاة وتقديم الذبائح، بسبب أن الأرض كلها كانت
مدنسة بدخان ودماء ذبائح الوثنيين وأدناس اليونانيين.

 

أما
بالنسبة لنا فقد جاء المسيح وتألم خارج المدينة وطهّر كل المسكونة وجعل كل موضع
مكانًا للصلاة. أتريد أن كيف أن الأرض كلها أصبحت هيكلاً وأن كل مكان أصبح مكانًا
للصلاة؟ أسمع أيضًا ما يقوله المُطوب بولس ” فأريد أن يصلي الرجال في كل مكان
رافعين أيادي طاهرة بدون غضب ولا جدال” (1تي8: 2). أرأيت أن المسكونة كلها
تطهرت، إننا نستطيع أن نرفع أيادي طاهرة في كل مكان؟ فلقد صارت إذن الأرض بأسرها
مقدسة، بل بالحري أقدس من قدس أقداس اليهود. وكيف يكون هذا؟ هناك في قدس الأقداس
يُقدم خروف من الحيوانات غير العاقلة أما هنا فالخروف عاقل (ناطق). وبمقدار ما
تفوق الذبيحة العاقلة الذبيحة غير العاقلة، هكذا يفوق تقديس الأرض (بالصليب) على
أقداس اليهود. وبالتالي فالصليب هو عيد حقًا

 

خامسا:
بالصليب فُتح الفردوس

2
أترغب في معرفة إنجاز عظيم آخر للصليب يفوق إدراك العقل البشرى؟ إن الفردوس الذي
كان مغلقًا قد فُتح اليوم. اليوم دخل اللص إليه. هناك إنجازان عظيمان، فتح الفردوس
ودخول اللص إليه، إعادته لوطنه القديم، واسترداده إلى بلده الأم.

 


اليوم تكون معي في الفردوس” (لو43: 23). ماذا تقول (يارب)؟ هل وأنت مصلوب
ومُسمّر على الصليب تَعِدُ بالفردوس؟ كيف بالحقيقية تهبُ ذلك؟

 

 يقول
بولس الرسول ” إنه صُلب عن ضعف ” لكن فلتسمع ما تلاه “لكنه حي بقوة
الله ” وفي موضع آخر يقول ” لأن قوتي في الضعف تكمل” ولهذا يقول: إني
أعد وأنا على الصليب، لكى تعلم من هذا أيضًا قوتي. فهذا الأمر المحزن لم يحدث
ليبعدك عن التفكير في طبيعة الصليب بل لتعلم قوة المصلوب عليه والمعجزة التي تمت
فوقه، تلك المعجزة التي تشير إلى قوة المصلوب، فاللص لم يؤمن به وهو يقيم الموتى
أو ينتهر أمواج البحر ويطرد الشياطين، بل عندما كان مصلوبًا ومسمّرًا وهو مُعرّض
للشتم والبصق والهزء والتعذيب.

 

 أنظر
إذن الوجهين اللامعين لقوة المصلوب: إنه قد هزّ أركان الطبيعة وشقق الصخور، من
ناحية، وإنه جعل نفس اللص التي كانت أقسى وأصعب من الصخر، تصير وديعة.

 

 أتقول
يارب، ” اليوم تكون معي في الفردوس”؟ الشاروبيم يحفظون الفردوس وهناك
يجول سيف ناري وأنت تَعِدُ اللص بأن تُدْخِله هناك؟

 

 نعم
يقول (المسيح): فأنا هو رب الشاروبيم، ولىّ سلطة على اللهيب والجحيم والحياة
والموت. ولهذا يقول “اليوم تكون معي في الفردوس”. فإن كان الرب له هذه
القدرة فقد متع بها الآخرين مباشرة، ومع أن الملك لا يرض لنفسه أن يجالس لصًا أو
أحدًا من عبيده ولا أن يرافقه إلى المدينة، إلاّ أن السيد محب البشر فعل ذلك وأدخل
معه اللص إلى الوطن المقدس. وفي هذا فإن اللص لا يهين الفردوس بأن يطئه بقدمه بل
بالحري يشرّفه. فشرَف الفردوس أن يكون له مثل هذا السيد القوى محب البشر الذي جعل
اللص جديرًا بالتنعم فيه. وهو عندما دعا العشارين والزناة إلى الملكوت فهو لم
يُحقِر من هذا الملكوت بل بالحري كرّمه وأظهر أنه رب ملكوت السموات الذي جعل
العشارين والزناة أهلاً لمجد وعطية الملكوت هناك. وكما أننا نُعجب بالطبيب عندما
نراه يشفي الناس من الأمراض المستعصية ويأتي بهم إلى الصحة التامة، هكذا يا أحبائي،
يجب أن نُعجب بالمسيح ونُدهش إذ هو يشفي أمراض نفوس الناس المستعصية، ويعتقها من
الشرور المسيطرة عليها، جاعلاً أولئك الذين سيطرت عليهم الشرور إلى أبعد الحدود،
أهلاً لملكوت السموات

 

سادسا:
ايمان اللص و اعترافه


اليوم تكون معي في الفردوس”: شرف عظيم، محبة للبشر فائقة، صلاح يعجز اللسان
عن وصف إفراطه، فالدخول إلى الفردوس له شرف عظيم جدًا إذ هو دخول مع السيد.

 

 ماذا
حدث؟ هلاّ تقول لي ما الذي أظهره اللص حتى يكون مستحقًا للفردوس وليس للصليب؟
أتريد في اختصار أن أقول وأُظهر لك فضل اللص؟

 

 فالرب
الذي أنكره بطرس هامة الرسل، مع أنه لم يكن على الصليب، اعترف به اللص وهو معلق
على الصليب. وأنا لا أقول هذا لأتهم بطرس، حاشا، لكن أريد أن أُظهر عظمة نفس اللص
وفلسفته الفائقة. فذاك (التلميذ) لم يحتمل تهديد رخيص من بنت صغيرة، أما اللص وهو
يرى الجمهور كله يهتف ويُجن ويصرخ بالتجديفات والسخريات على المصلوب، فإنه لم
يلتفت إلى إهانات المصلوب، لكنه بعيون الإيمان، لم يبال بكل هذا وترك عنه هذه
العثرات، واعترف بأنه سيد السموات قائلاً تلك الكلمات التي جعلته مستحقًا للفردوس:
” أذكرني في ملكوتك” (لو42: 23).

 

 فلا
تتجاوز هذا اللص ببساطة ولا تخجل أن تتخذه معلمًا فإن سيدنا نفسه قبلنا، لم يستح
منه بل ادخله إلى الفردوس. لا تخجل أن تتخذ الإنسان الذي استحق قبل الناس جميعًا أن
يكون أهلاً لنعيم الحياة في الفردوس، معلمًا لك. ولنفحص كل هذه الأمور بدقة لنتعرف
من الآن فصاعدًا قوة الصليب.

 

 لم
يقل له كما قال لبطرس وأندراوس ” هلم ورائي لأجعلكما صيادي الناس ”
(مت19: 4)، ولم يقل له كما قال للاثني عشر تلميذًا ” تجلسون على اثني عشر
كرسيًا تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر” (مت28: 19). لم يجعله أهلاً لسماع
أقوال كهذه، لم يرَ أية معجزة، أو ميتًا قام، أو شياطين مطرودة ولا بحرًا طائعًا،
لم يذكر له شيئًا عن الملكوت، فمن أين عرف اسم الملكوت؟

 

 كان
اللص الآخر يشتمه، فقد صُلب معه لص آخر ليتم القول ” وأُحصى مع أثمة”
(إش12: 53). لقد حاول اليهود ناكري الجميل تشويه مجد المسيح وبكل طريقة كان لهم
تأثيرًا على مجرى الأحداث. غير أن الحقيقة كانت تسطع من كل ناحية ويزداد بهائها
كلما زادت المقاومة ضدها.

 

 كان
اللص الآخر يشتمه. وقال أحد البشيرين إن اللصين كانا يستهزئان بالمسيح وهذه حقيقة،
زادت من فضل اللص (اليمين)، فمن الطبيعي أن يستهزئ أولاً، غير أن ما قد فعله بعد
ذلك هو صواب، عكس الآخر الذي استمر في استهزائه.

 

 فهل
رأيت الفرق بين لص ولص؟ كل منهما معلق على الصليب، وكل منهما كان شريرًا، وكل
منهما عاش حياة اللصوصية، لكن مصيرهما لم يكن واحدًا. الأول ورث الملكوت، والآخر
أُرسل إلى الجحيم، وما حدث بالأمس مشابه لما يحدث اليوم فهناك فرق بين تلميذ
وتلاميذ. فالأول دبر لتسليمه والآخرون استعدوا لخدمة المائدة. الأول قال للفريسيين
” ماذا تعطوني وأنا أسلمه لكم” (مت15: 27) والآخرون قالوا للمسيح ”
أين تريد أن نعد لك لتأكل الفصح” (مت17: 26).

 

 هكذا
الحال هاهنا فالواحد لص والآخر لص، لكن الأول يشتم والآخر ينطق بشهادة الإيمان،
الأول يجدف والثاني يمدح بينما يرى المسيح مصلوبًا ومسمّرًا والجموع من أسفل تشتم
وتهتف عاليًا، ولم يمنعه كل هذا من أن يعلن ما يليق بهذا المجد، لكنه يهاجم اللص
(اليسار) بشدة قائلاً: ” أما تخاف الله؟” (لو40: 2341).

 

 3
أرأيت جرأة اللص (اليمين) في إبداء رأيه جهرًا؟ أرأيت أنه لم ينسَ مهنته الأولى،
حتى أنه باعترافه (بالمسيح) قد سرق أيضًا الملكوت؟.

 

قال
للص اليسار: ” أما تخاف الله”، أرأيت شجاعته وحكمته وورعه على الصليب؟
وإلاّ يستحق منك التعجب وأنت تراه متمالكًا نفسه رغم آلامه على الصليب؟ وهو لا
يستحق التعجب فقط بل وأيضًا التطويب إذ هو لم يلتفت لآلامه الشخصية بل انصرف عنها
للاهتمام بآلام الآخر، ذلك الذي ضل. فصار معلمًا وهو على الصليب، فانتهر اللص
اليسار قائلاً “أما تخاف الله أنت؟” وليس هذا فقط بل قال له: لا تهتم
بالمحاكمة الأرضية، ولا بما سوف يقرروه، لا تنظر فقط إلى ما يجرى الآن. فهناك قاض
آخر غير منظور، نزيه بدون شك على تلك المحكمة. لا تبال بما يتم الحكم به هنا
(أسفل) فهناك (فوق) الحكم مختلف. ففي المحكمة الأرضية يُدان أبرار كثيرين، ويترك
مدانين أحرارًا، هناك أبرياء يُتهمون، ومتهمين يهربون. بالشدة يعاملون البعض
وباللين البعض الآخر. يجهلون القانون فيُخدعون، أو تُفسد الرشوة ضمائرهم فلا
يتمسكون بالحق ويحكمون ضد الأبرياء. هناك في السماء الأمور ليست هكذا. فالله هو
قاض عادل، وحكمه يسطع كنور، لا عتامة فيه ولا كتمان ولا تضليل. وبماذا تُعزّى هذا
اللص (اليمين) حتى لا يقول إنه قد حُكم عليه طبقًا لقوانين المحكمة الأرضية؟.
وجِّهْ نظره إلى المحكمة السمائية، إلى المنبر المخوف، إلى الحكم العادل، وإلى
القاضي غير المُضلّل، ذّكره بالحكم المخوف، قل له: تطلّع إلى هذه الحقائق السمائية
ولا تبالي بقرار الحكم الأرضي ولا تتبنى موقف الناس الأرضيين، لكن تعجب وتأمل في
الحكم الصادر من فوق.

 

 قال
اللص (اليمين) اللص اليسار: ” ألاّ تخاف الله أنت؟”. أرأيت تعليمه؟ لقد
قفز قفزة واحدة من الصليب إلى السماء. أنظره وقد أتم القانون الرسولي ولم يفكر في
نفسه فقط بل فكر وعمل كل ما في استطاعته من أجل الآخر، حتى إنه أراد إنقاذ اللص
الآخر من الضلال وإرشاده إلى معرفة الحق.

 

 وبعدما
سأله قائلاً: ” أما تخاف الله أنت؟” استتبع سؤاله بقوله: ” إننا
تحت القضاء عينه”، يا له من اعتراف تام. ماذا يعنى أننا تحت القضاء عينه؟!
بالطبع إننا تحت العقاب. وهانحن بالفعل نُعاقب بالصليب. فمن يعيّر غيره يهين نفسه
أولاً. لأن من يكون مخطئًا بالفعل ويدين غيره، هو يدين نفسه أولاً. ومن يكون في
نكبة ويعيّر آخر على محنته، يعيّر نفسه أولاً.

 

 وفي
قوله ” إننا تحت القضاء عينه” كأنما يردد القانون الرسولي والأقوال
الإنجيلية ” لا تدينوا لكى لا تُدانوا” (مت1: 7).

 


إننا تحت القضاء عينه” (ماذا تقول أيها اللص؟) أو ماذا تفعل؟ هل جعلت بقولك
هذا نفسك واللص الآخر شريكين للمسيح؟ كلا يقول اللص إني سأُصلح كلامي على هذا
النحو: نحن بعدل جُزينا (لو41: 23).

 

 أرأيت
اعترافًا أكمل من هذا على الصليب؟ أرأيت كيف أن اعترافاته قد رَفعت خطاياه؟ أرأيت
كيف أنه أكمل القول النبوي ” اعترف بخطاياك أولاً لكى تتبرر” (إش26: 43س)،
لم يُرغمه أحد، ولم يشتك عليه أحد فيما يقول بل كان شاكيًا لنفسه، ولهذا أقر
قائلاً ” أما نحن فعقابنا عدل لأننا نلقى ما تستوجبه أعمالنا، أما هو فلم
يعمل شرًا ” (لو41: 23).

 

 أرأيت
تقوى أعمق من هذه؟ حين أدان نفسه وحين لم يستح أن يكشف أعماقه وحين دافع عن السيد
قائلاً: ” أما نحن فعقابنا بعدل.. أما هو فلم يعمل شرًا”.

 

وحين
فعل هذا، حينئذِ استطاع أن يبتهل قائلاً ” أذكرني يارب متى جئت في
ملكوتك”. إنه لم يجرؤ أن يقول ” أذكرني في ملكوتك” إلاّ بعد أن
اعترف فتطهرت نفسه من الخطايا، وبعد أن أدان نفسه، فرُفعت الأحكام التي أدانته.

 

 أرأيت
قوة الاعتراف؟ فاسمع أيها الحبيب، وتشجع ولا تيأس بل يلزم أن تعي مقدار محبة الله
للبشر والتي لا يمكن التعبير عنها، ولتسرع لإصلاح خطاياك.

 

لأنه
إن كان قد اعتبر اللص وهو على الصليب جديرًا بذلك الشرف، فكم بالحري يعتبرنا نحن إن
كانت لنا الإرادة أن نعترف بخطايانا جديرين بمحبته. فلنعترف بخطايانا ولا نخجل
منها. فعظيمة هي قوة الاعتراف بالخطايا، وكبيرة هي قدرته. فبمجرد أن اعترف اللص،
فُتح له الفردوس، اعترف فنال شجاعة عظيمة ودالة حتى إنه وهو لص قد طلب الملكوت. نعم
في تلك اللحظة فقط استطاع أن يطلب الملكوت.

 

سابعا:
الصليب رمز ملكوت السموات

من
أين لك أن تتذكر ملكوت السموات أيها اللص؟ قل لي هل ترى شبيهًا منه الآن؟ إن ما هو
ظاهر للعين هو المسامير والصليب والاتهامات والهزء والشتائم.

 

 نعم
يقول: فالصليب هو رمز ملكوت السموات. ولهذا فإني أدعو المصلوب عليه ملكًا. ملكًا
إذ هو يموت من أجل رعاياه، فقد قال عن نفسه إنه ” الراعى الصالح يبذل نفسه عن
الخراف” (يو11: 10). حقًا والملك الصالح يضع نفسه من أجل رعاياه. ولأنه وضع
نفسه بالفعل لهذا فأنا أدعوه ملكًا. واهتف ” أذكرني يارب متى جئت في
ملكوتك”.

 

 4
أتريد أن تعرف كيف أن الصليب رمز لملكوت السموات؟ وما هي دلالاته؟ إن المسيح لم
يترك الصليب على الأرض بل أخذه وأصعده معه إلى السماء. من أين استدللت على ذلك؟
لأنه سيُحضره معه في المجيء الثاني.

 

لكن
دعنا نرى كيف سيحضر الصليب معه ولنسمع قول المسيح ” إن قيل لكم هاهو في
البرية فلا تخرجوا، هاهو في المخادع فلا تصدقوا” (مت26: 24)، فإنه يتكلم عن
مجيئه الثاني، مشيرًا إلى المسحاء الكذبة والأنبياء الكذبة، وإلى ضد المسيح، لكى
لا يضل أحد ويسقط في يديه. لأن ضد المسيح سيأتي قبل المسيح (في مجيئه الثاني) وقد
أخبرنا بذلك حتى لا يقع أحد بين أنياب الذئب وهو يبحث عن الراعي (المسيح). وأنا
أقول لك هذا حتى تستطيع أن تميز علامات حضور الراعي. فإن كان حضوره الأول قد تم
بطريقة خفيّة، فلا تظنوا أن مجيئه الثاني سيكون كذلك. كان حضوره الأول خفيّة، لأنه
أتى ليطلب وليفتش عن الضال، أما مجيئه الثاني فلن يكون كذلك. لكن كيف؟ ” كما
أن البرق يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب هكذا يكون مجيء ابن الإنسان”
(مت27: 24) سيظهر للجميع معًا. فلا تعود هناك حاجة إلى التساؤل (عما إذا كان
المسيح هنا أو هناك). فكما أننا لا نحتاج إلى التساؤل عندما يحدث البرق، هكذا عند
مجيئه لن نحتاج عما إذا كان المسيح قد حضر أم لا.

 

والآن
نتكلم عن إنه سيُحضر الصليب معه. فأسمع ما قاله بوضوح: حينئذٍ، عندما آتى تُظلم
الشمس والقمر لا يعطى ضوءه، لأن بهاء النور سيكون عظيمًا جدًا، حتى أن نور الكواكب
الكبيرة المشعة يختفي بإزاء ذلك النور، وعندئذ تسقط النجوم وتظهر علامة ابن
الإنسان في السماء (مت 29: 2430).

 

ثامنا:
علامة الصليب

أرأيت
تَفوّق العلامة (الصليب)، كيف هي مبهجة؟ كيف هي مشرقة؟ فالشمس تُظلم والقمر لا
يظهر، النجوم تسقط، أما تلك العلامة (الصليب) فإنها وحدها تظهر، لكى تعلم أن نورها
أشد قوة من الشمس وأبهج من القمر. وكما يستقبل الجنود الملك عند دخوله إلى المدينة
بالرايات المحمولة على أكتافهم معلنين دخوله، هكذا يحمل الملائكة ورؤساء الملائكة
تلك العلامة عند نزول الرب من السماء معلنين دخوله الملوكى لنا (للبشر).
“وعندئذ تتزعزع قوات السموات”، ويعنى بذلك الملائكة ورؤساء الملائكة وكل
القوات غير المرئية. فهذه سيمتلكها الخوف والرعب، فهلاّ قلت لي لماذا؟ لأن ذلك
الحكم سيكون رهيبًا، فالطبيعة البشرية بأسرها ستُحاكم وتُسأل عن مسئوليتها أمام
المنبر المخوف.

 

 لكن
لماذا تخاف الملائكة حينذاك، ولماذا تَرهب القوات غير المتجسدة؟ طالما أنها لن
تُحاكم. لأنه كما أن القاضي الأرضي عندما يجلس عاليًا على المنبر للحكم، لا يرتعد
منه المذنبون وحدهم بل الحراس أيضًا، لا من تأنيب الضمير بل بسبب خوفهم من القاضي،
هكذا فعندما ستكون طبيعتنا (البشرية) ماثلة للحكم معطيةً حسابًا عن أخطائها، تكون
الملائكة وباقي القوات مرتعبة، لا بسبب تأنيب ضميرها بل لخوفها من القاضي

 

تاسعا:
سيأتي حاملاً الصليب والجراحات

والآن
وقد عرفنا هذا الأمر فلنعرف إذن لماذا سيظهر الصليب؟ لماذا سيحضره المسيح معه؟.
اعرف أن السبب هو أن يعرف صالبوه مقدار جحودهم، إذ أن الصليب يُظهر وقاحتهم. وأسمع
الإنجيلي القائل، واعلم لماذا يحمل صليبه معه ” وحينئذ تظهر علامة ابن
الإنسان في السماء، وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض” (مت30: 24)، إن شعوب الأرض
ستنوح لأنها سترى الذي أُدين (بسببها) وتعي خطيتها.

 

ولماذا
تتعجب من أن المسيح سيأتي حاملاً الصليب؟ إنه سيأتي أيضًا حاملاً جراحاته. وكيف
نستدل على أنه سيأتي حاملاً جراحاته؟ اسمع النبى وهو يقول ” لأنهم سينظرون
إلى الذي طعنوه” (رؤ7: 1). فكما فعل مع توما التلميذ عندما رغب في إصلاح قلة
إيمانه، فأراه أماكن المسامير وهذه الجراحات قائلاً ” هات أصبعك إلى هنا
وأبصر يدي وهات يدك وضعها في جنبي لأن الروح لا لحم له ولا عظم” (يو27: 20،
لو39: 24)، وذلك ليُثبت له أنه قد قام بالحقيقة. وهكذا سيأتي (في حينه) بجراحاته
وصليبه معه ليثبت للجميع أنه هو الذي صُلب. فما أعظم صلاحه وخلاصه بالصليب. إنه
دليل واضح على محبة الله للبشر.

 

عاشرا:
الصلاة من أجل الأعداء: محبة وغفران

5
غير أن محبته غير الموصوفة للبشر لم تُرى في الصليب فقط، بل أيضًا في كلماته التي
تفوه بها على الصليب.

 

فلتسمع
هذه الكلمات. عندما كان على الصليب معرضًا للهزء والسخرية والإهانة قال: “يا
أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو34: 23).

 

 أرأيت
محبة الرب للبشر؟ كان مصلوبًا لكنه صلى من أجل صالبيه، أما هؤلاء فقد كانوا يهزأون
به قائلين ” إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب” (مت40: 27). أما هو فلم
ينزل عن الصليب إذ هو ابن الله، ولأجل هذا جاء لكى يُصلب من أجلنا.

 

قالوا:
” أنزل عن الصليب لنرى ونؤمن بك”.

 

أرأيت
سفاهة الأقوال وحجج عدم الإيمان. فقد عمل ما هو أعظم من نزوله عن الصليب ولم
يؤمنوا، والآن يقولون أنزل عن الصليب لنؤمن بك.

 

 فالقيامة
من الأموات والقبر مغلق بالأختام، كانت أعظم من النزول عن الصليب. وإقامة لعازر من
القبر بعد أربعة أيام وهو ملفوف بالأكفان، كانت أعظم من النزول عن الصليب.

 

 أرأيت
الكلام الهزلي، أرأيت الهَوس المتشامخ. لكن انتبه بشدة أرجوك لكى ترى أن محبة الله
للبشر هي عظيمة. وأن المسيح اتخذ من اهانتهم له سببًا لكى يصفح عنهم، إذ قال
” يا أبتاه، اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون”. ولم يكتفوا بهذا بل
كانوا يقولون ” إن كنت ابن الله فخلص نفسك” أما هو فقد عمل كل شئ لكى
يخلص معيّريه وشاتميه وقال: ” أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون”.

 

فماذا
حدث؟ هل غُفرت لهم خطيتهم، نعم غُفرت خطية كل من أراد أن يتوب. فإنه لو لم يترك
لهم خطيتهم لما صار بولس رسولاً، ولو لم يترك لهم خطيتهم لما آمن به في الحال
الثلاثة آلاف والخمسة آلاف، وعشرات الألوف من اليهود بعد ذلك. فأسمع ما كان يقوله
التلاميذ لبولس (أع20: 21) ” أنت ترى أيها الأخ، كم يوجد ربوة من اليهود
الذين آمنوا..”

 

الحادى
عشر: الاقتداء بالمسيح

أرجو
يا أحبائي أن نقتدي به، نعم نقتدي بالرب، ولنصلِ من أجل الأعداء. وإن كنت قد
نصحتكم بفعل هذا الأمر بالأمس، إلاّ إني أكرر النصح الآن، فطالما أنك عرفت مقدار
عظمة هذه الفضيلة، اقتدِ بسيدك إذن لأنه وهو مصلوب صلى من أجل صالبيه.

 

 قد
تتساءل: كيف يمكنني الاقتداء بالمسيح؟ أعلم أنك تستطيع ذلك إذ أردت، فلو لم يكن
بإمكانك أن تقتدي به لما قال ” تعلموا منى لأني وديع ومتواضع القلب”
(مت29: 11). وإن لم يكن في مقدور الإنسان أن يقتدي به، لما قال بولس الرسول ”
تمثلوا بي كما أنا أيضًا بالمسيح” (1كو 29: 11). وإن لم ترد أن تقتدي بالسيد،
اقتد بخادمه وأعنى استفانوس، الذي كان أول من استشهد، لقد اقتدى بالمسيح. إن الرب
وهو مصلوب بين اللصين، قد تشفع إلى الآب من أجل صالبيه، هكذا أستفانوس خادمه الذي
كان وسط الراجمين والحجارة تنهال عليه من الجميع فإنه احتمل الرجم ولم يبال
بالأوجاع الناجمة عنه وقال “يارب لا تقم لهم هذه الخطية” (أع59: 7).

 

 أرأيت
كيف يتكلم الابن؟ أرأيت كيف يصلى الخادم؟ قال الابن ” يا أبتاه أغفر لهم
لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” وقال خادمه أستفانوس ” يارب لا تقم لهم هذه
الخطية”. وأعلم أيضًا أنه لم يصلِّ وهو واقف، بل ركع على ركبتيه وصلى بحرارة
وخشوع كثير.

 

 أتريد
أن أريك إنسانًا آخر صلى صلاة عظيمة من أجل أعدائه؟ أسمع بولس المُطوب يقول ”
من اليهود خمس مرات قبلت أربعين جلدة إلا واحدة، ثلاث مرات ضربت بالعصي، مرة رجمت،
ثلاث مرات انكسرت بي السفينة، ليلا ونهارًا قضيت في العمق” (2كو24: 1125).
ومع هذا قال ” فإني كنت أود لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل إخوتي
أنسبائي حسب الجسد” (رو3: 9).

 

 أتريد
أن أريك أيضًا آخرين من العهد القديم لا من العهد الجديد، يفعلون نفس الأمر؟ ويستحقون
كل تقدير إذا أن وصية محبة الأعداء لم تكن قد أُعطيت لهم بعد بل كانت عندهم وصية
العين بالعين والسن بالسن، ومجازاة الشر بالشر، ولكنهم بلغوا قامة مسلك الرسل،
فأسمع ما قاله موسى عندما كان اليهود مزمعين أن يرجموه ” والآن إن غفرت
خطيتهم وإلاّ فأمحني من كتابك الذي كتبت” (خر32: 32).

 

 أرأيت
كيف أن كل واحد من هؤلاء الأبرار كان مهتم بخلاص الآخرين قبل خلاصه؟! ولنسأل أي
واحد منهم، إن كنت لم تخطئ، فلماذا تريد أن تشترك معهم في القصاص؟ وسوف تكون
إجابته ” لا أشعر مطلقًا بالسعادة عندما يتألم الآخرون”.

 

وستجد
آخرين فعلوا هكذا؟ وأنا أسوق هذه الأمثلة لكى نُصلح من أنفسنا ولكى نستأصل هذا
المرض الخبيث والذي هو بغضة الأعداء، من داخلنا.

 

 فالسيد
المسيح يقول ” يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون”، ويقول
أستفانوس ” يارب لا تقم لهم هذه الخطية”، ويقول بولس الرسول ” كنت
أود لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل أخوتي أنسبائي حسب الجسد”،
ويقول موسى ” والآن إن غفرت خطيتهم وإلاّ فأمحني من كتابك الذي كتبت”.

 

 فقل
لي، أي غفران سننال نحن إذا كان السيد وخدامه في العهدين القديم والجديد، كلهم
يحثوننا على الصلاة من أجل الأعداء، بينما نحن نفعل العكس ونصلى ضدهم؟ إن ما أرجوه
هو ألاّ تهملوا هذا لأنه بمقدار ما تزداد النماذج التي يجب أن نقتدي بهم، بقدر ذلك
يزداد عذابنا إن نحن لم نتمثل بهم.

 

 الصلاة
من أجل الأعداء مرحلة أسمى من الصلاة من أجل الأحباء. لأن الثانية لا تكلفنا مثل
الأولى: ” فإن أحببتم الذين يحبونكم فأي فضل لكم؟” إذا صلينا من أجل
الأحباء فلن نكون أفضل من الأمم والعشارين. أما إذا أحببنا الأعداء فإننا نصبح
متشبهين بالله بقدر ما تسمح به طبيعتنا البشرية فإن الله ” يشرق شمسه على
الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين” (مت45: 5).

 

 فطالما
لدينا أمثلة مما فعله المسيح وأيضًا خدامه، فلنتشبه بهم، ولنقتنى هذه الفضيلة،
لنكون أهلاً لملكوت السموات، مستعدين دائمًا لنقترب بدالة أكثر وبضمير نقى تمامًا
إلى المائدة المهيبة، ولنتمتع بما وعدنا به الرب من خيرات بنعمة ربنا وإلهنا
ومخلصنا يسوع المسيح ومحبته للبشر، الذي له المجد والعزة مع الآب والروح القدس.
الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور. آمين.

 

العظة
الثانية

اولا:
الموت هو رقاد ”نوم”

1
سُئلت مرات كثيرة عن السبب الذي لأجله ترك أجدادنا الكنائس الموجودة في المدن،
وأوصونا أن نجتمع اليوم[1] هنا في كنائس خارج المدينة. ولا أعتقد أنهم فعلوا هذا
بدون سبب، لذلك اجتهدت في التفتيش عن السبب واكتشفت بنعمة الله أن هذا الترتيب هو
سليم ومُحِق ويتمشى مع هذا العيد[2].

 

 حسنًا،
فما هو السبب؟

إننا
نُعيّد للصليب، فالرب قد صُلب خارج المدينة، لذلك ذهبوا بنا خارج المدينة. لأنه
يقول: الخراف تتبع الراعي، وحيث يوجد الملك هناك القادة والجنود. لأجل هذا السبب
نجتمع الآن خارج المدينة. لكن من الأفضل أن نرى هذا الأمر من الكتب المقدسة. وحتى
لا تظنوا أن هذا الفكر هو خاص بي، أقدم لكم بولس الرسول كشاهد. حسنًا، ماذا يقول
بولس عن الذبائح؟ ” فإن الحيوانات التي يُدخل بدمها عن الخطية إلى الأقداس
بيد رئيس الكهنة تحرق أجسامها خارج المحلة” (عب11: 13)، لذا لكي يطهر المسيح
العالم بدمه، صُلب خارج أبواب المدينة. إذن، ليتنا نأتي إلى المسيح، ونقابله خارج
المدينة، حاملين العار الذي قَبِله. لقد حثنا بولس بأن نخضع له ونأتي إليه خارج
المحلة. لذلك نجتمع في الخارج. لكن لأي سبب نجتمع في هذا المكان “نصب
الشهادة[3]”، وليس في مكان آخر، إذ أن مدينتنا بنعمة الله هي محاطة من كل
ناحية بعظام القديسين؟. وبالتالي لماذا حدد أجدادنا هذا المكان بالذات لنأتي إليه
وليس إلى مكان آخر؟ لأنه يوجد هنا أموات كثيرون يستريحون وأيضًا لأن المسيح نزل
إلى الموت في هذا اليوم، لذا نجتمع في هذا المكان ولأجل هذا السبب أيضًا دُعي هذا
المكان الذي يدفن فيه الأموات مرقدًا، لكي تعلم أن الذين ماتوا ودُفنوا هنا، لم
يموتوا في الحقيقة بل رقدوا واستراحوا. لأن الموت دُعي موتاً قبل مجيء المسيح: ”
لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت” (تك7: 2)، وفي موضع آخر ” النفس التي
تخطئ تموت” (مز20: 18). وأيضًا” الشر الذي يُميت الشرير” (مز34: 21)،
و”عزيز في عيني الرب موت أتقيائه” (مز116: 15). وقيل عنه ليس فقط موتاً
لكن أيضاً هاوية. اسمعوا ماذا قال داود: ” الله سوف يفدي نفسي من قبضة
الهاوية عندما خطفتني” (مز49: 16)، ويعقوب أيضاً قال: ” تنزلون شيبتي
بحزن إلى الهاوية” (تك42: 38).

 

هكذا
كانت توصف نهاية حياتنا بمثل هذه الأوصاف، وذلك قبل مجيء المسيح. لكن عندما أتى
المسيح ومات لكي يحيى العالم توقف الموت عن أن يدعي موتًا، وصار يُدعى نومًا
ورقاداً. وهذا ما قاله المسيح: ” لعازر حبيبنا قد نام” (يو11: 11). ولم
يقل مات، بالرغم من أنه قد مات. ولكي تدرك كيف أن هذه التسمية “رقاد”
كانت تسمية لها مفهوم آخر غير معروف آنذاك، فإن التلاميذ لم يفهموا كلام المسيح
وقالوا: ” أن كان قد نام فهو يشفي” (يو11: 12)، وأيضًا يقول بولس: ”
إذاً الذين رقدوا في المسيح أيضًا هلكوا. إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في
المسيح فإننا أشقى جميع الناس” (1كو15: 1819). وأيضا يقول عن الأموات: ”
نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب لا نسبق الراقدين” (اتس4: 15).

 

وأيضًا:
” استيقظ أيها النائم” (أف5: 14). ولكي نعرف أن ما يقوله عن المائت،
يضيف: ” قم من الأموات”. لاحظ أن الموت يُدعى دائمًا نومًا. لذلك هذا
المكان الذي يُدفن فيه الشهداء يُدعى “مرقد”.

 

إذن،
هذه الكلمة “مرقد”، هي تعليمية وتشير إلى عمق معرفتنا وإيماننا. لذلك
عندما تُشيّع شخصًا مائتًا محبوبًا لك إلى هذا المكان، لا تحزن لأنك لا تُشيعه إلى
الموت بل إلى “المرقد”. هذه الكلمة كافية لتعزيتك في فراق محبوبك.

 

فإلى
أين تشيعه؟!

إلى
المرقد!

ومتى
تشيعه؟

بعد
“موت” المسيح حيث انكسرت أشواك الموت.

هكذا
تستطيعون أن تتعزوا كثيرًا في هذا المكان. وهذه الأقوال هي مناسبة جدًا للنساء إذ
يتأثرن ويشعرن بالحزن أكثر. إذن لديك دواء جيد لحزنك، أقصد تسمية هذا المكان
” المرقد “، لذا نجتمع هنا اليوم.

 

ثانيا:
قاهر الموت

2
اليوم يجتاز الرب في الهاوية. اليوم يحطم الأبواب النحاسية ومتاريسها الحديدية.
لاحظ الدقة، فهو لم يقل فتح الأبواب لكن “سحق الأبواب النحاسية” (مز107:
16)، لم يخلع المتاريس لكن سحقها لكي يُبطل السجن.

 

من
يستطيع أن يفعل شيئا أمام قوة المسيح؟ من يصحح ما قد دمره الله؟

 

فالملوك
عندما يحررون المسجونين لا يفعلون ما فعله المسيح، لكن يعطون أوامرهم بعتق
المسجونين ويبقون الأبواب والحراس، مظهرين هكذا إمكانية أن يستخدم هذا السجن مرة
ثانية ليدخل إليه إذا اقتضى الأمر أولئك الذين تحرروا بأمر الملك أو آخرون بدلاً منهم.
لكن المسيح لا يعمل بهذه الطريقة. إذ سحق الأبواب النحاسية قاصدًا أن يُبطل الموت.
ودعاها “نحاسية” لكي يُظهر مدى صلابتها وعدم سهولة انحلال الموت. ولكي
تعلم أن النحاس والحديد يشيران إلى الصلابة، اسمع ماذا يقول الله لشخص وقح:

 


لمعرفتي أنك قاس وعضل من حديد عنقك وجبهتك نحاس” (إش48: 4). وعبّر هكذا لا
لأنه له عضل من حديد أو جبهة من النحاس، لكن بسبب أنه أراد أن يشير إليه بأنه صارم
ووقح وقاسي.

 

هل
تريد أن تعلم كم أن الموت قاسي ومؤلم وعديم الشفقة؟

 

إنه
لم ينتصر عليه أحد وتحرر منه، حتى أتى رب الملائكة وانتصر عليه. حسنًا، لقد أخذ
الرب أولاً الشيطان وحبسه وانتصر عليه. لذلك مكتوب ” وأعطيك ذخائر الظلمة
وكنوز المخابئ” (إش45: 3). بالرغم من أنه أشار إلى مكان واحد (الظلمة)، إلاّ
أن له أهمية مزدوجة. فتوجد أماكن مظلمة لكنها يمكن أن تصير منيرة إذا وضعنا فيها
مصابيح. وأماكن الهاوية كانت مظلمة جداً ومؤلمة ولم تدخلها أشعة النور مطلقًا،
لذلك توصف بأنها مظلمة وغير منظورة. كانت مظلمة حتى اللحظة التي نزل فيها لبر
وأضاء الهاوية بنوره فجعلها سماء. لأنه حيث يوجد المسيح يتحول المكان إلى سماء.
وحسنا سُمّي ما بهذا المكان ب “ذخائر الظلمة”، لأنه يوجد به غنى وفير.
إذ أن كل الجنس البشري الذي هو غنى الله (ذخائر) كان قد سُرق بواسطة الشيطان الذي
خدع الإنسان الأول واستعبده للموت. وحقيقة كون الجنس البشري هو بمثابة غنى الله،
قد أشار إليه بولس حين قال: ” لأن رباً واحداً للجميع غنياً لجميع الذين
يدعون به” (رو10: 12). ومثل لص سرق المدينة ونهبها واختفي في كهف واضعًا فيه
كل الأشياء الثمينة، فقبض عليه الملك ثم بعد ذلك سلّمه للعقاب ونقل كنوزه إلى
المخازن الملوكية. هكذا فعل المسيح، إذ بموته سجن اللص وقيده أي الشيطان والموت،
ونقل الكنوز، أعني الجنس البشري، إلى الخزائن الملوكية. هذا ما يعلنه بولس الرسول
بقوله: ” الذي أنقذنا من سلطان الظلمة ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته” (كو1:
13). والأهم هو أن ملك الملوك (المسيح) قد انشغل بهذا الحدث، في الوقت الذي فيه لا
يقبل أي ملك آخر فعل هذا الأمر، بل يكتفي بإعطاء أمر إلى عبيده لكي يحرروا
المسجونين. لكن كما قلنا لا يحدث هنا مثل هذا الأمر، بل جاء ملك الملوك نفسه إلى
المسجونين، ولم يخجل سواء من السجن أو المسجونين. لأنه كان من المستحيل أن يخجل من
خليقته. فسحق الأبواب وحلّ المتاريس وفرض سيادته على الهاوية. ونقل الطاغية أسيراً
والقوي مقيداً. الموت نفسه ألقى أسلحته وأسرع مستسلمًا وأعلن طاعته إلى الملك.

هل
رأيت النصرة الجديرة بالإعجاب؟

هل
رأيت مآثر الصليب؟

هل
أقول لك شيئًا آخر جدير بالإعجاب؟

إذا
عرفت بأي طريقة انتصر المسيح، سوف يصير إعجابك أعظم. فبنفس الأسلحة التي غلب
الشيطان بها الإنسان، انتصر المسيح عليه. واسمع كيف؟ عذراء[1] وخشبة وموت هي رموز
هزيمتنا. العذراء كانت حواء، لأنها لم تكن قد عرفت رجلها. الخشبة كانت الشجرة
(التي أوصى الله آدم بألا يأكل منها) والموت كان عقاب آدم. لكن العذراء والخشبة
والموت كانت رموزًا لهزيمتنا، صارت رموزًا للانتصار. لأن لدينا مريم العذراء بدلاً
من حواء، ولدينا خشبة الصليب بدلاً من شجرة معرفة الخير والشر، ولدينا موت المسيح
بدلا من موت آدم. هل رأيت، فالشيطان هُزم بنفس الأسلحة التي انتصر بها قديمًا؟!!

 

لقد
حارب الشيطان آدم وانتصر عليه بالقرب من الشجرة، والمسيح انتصر على الشيطان فوق
خشبة الصليب.

الشجرة
الأولى قادت البشر إلى الجحيم، أما الثانية فقد حملتهم من الهاوية إلى الحياة.

 

أيضا
الشجرة الأولى أخفت الأسير إذ كان عاريا، أما الثانية فأظهرته للجميع جهاراً، أى
المسيح المنتصر الذي كان عارياً معلقاً فوقها.

 

وأيضًا
الموت الأول أدان كل الذين وُلدوا من بعده، بينما الثاني، أي موت المسيح، قد أقام
أولئك الذين عاشوا قبل المسيح: ” من يستطيع أن يصف بالأقوال قوة الرب”
(مز106: 2س). كنا أموات وها قد صرنا أحياء.

 

هذه
هي مآثر الصليب. هل عرفت هذه النصرة؟! عرفت بأي طريقة تحققت؟ انظر الآن كيف تحققت
بدون تعب. لم تتخضب أسلحتنا بالدم، لم نصطف في المعركة، لم نُجرح، ولا شاركنا في
أي معركة ولكن انتصرنا. حارب الرب ونحن أخذنا التيجان. ولأن النُصرة هي مِلك لنا،
فدعونا نرنم جميعا اليوم ترنيمة النصرة: ” أين شوكتك يا موت أين غلبتك يا
هاوية؟” (هوشع14: 13، اكو15: 5455).

 

هذا
ما حققه الصليب لنا.

الصليب
الذي هو رمز النصرة على الشياطين، هو سكين ضد الخطية، وسيف طعن به المسيح الحيّة.

الصليب
هو إرادة الآب، زينة الملائكة،

ضمان
الكنيسة، فخر الرسول بولس،

حامي
القديسين، نور كل المسكونة.

 

لأنه
مثلما يطرد إنسان الظلام من بيته، عندما يضيئ مصباحًا ويرفعه عاليًا، هكذا أضاء
المسيح الصليب كمصباح ورفعة عاليًا، لينقشع كل الظلام الذي كان يغطي الأرض.

 

ارتعبت
الخليقة عندما رأته معلقاً فوق الصليب، والأرض تزلزلت والصخور تشققت. وبالرغم من
أن الصخور تشققت، إلا أن إحساس اليهود لم ينتابه أي تغيير. حجاب الهيكل انشق، إلا
أن اتفاقهم الفاسق لم ينحل.

 

لماذا
انشق حجاب الهيكل؟ لأن الهيكل لم يقوَ على رؤية الرب مصلوبًا. وكأن الهيكل يتحدث
إلينا وينصحنا: مَن يريد أن يدخل إلى قدس الأقداس فليدخل بكل حرية. لأنه ما فائدة
هذا الحاجز، طالما أن الذبيحة قُدمت خارجًا؟ أي فائدة يمكن أن يقدمها الناموس؟ لا
فائدة كما علمتكم مرارًا. هذا ما علّمه النبي داود عندما قال: ” لماذا ارتجت
الأمم وتفكر الشعوب في الباطل” (مز2: 1). وقد سمعوا: ” كشاة تساق إلى
الذبح وكنعجة صامته أمام جازيها لم يفتح فاه” (أش53: 7). وبينما قد درسوا هذه
النبوة أزمنة عديدة إلا أنها بعد أن تحققت لم يؤمنوا بها. رأيت انهم تفكروا
باطلاً؟ لذلك انشق من الوسط حجاب الهيكل، وهكذا أنبأ عن زمن خرابه الذي كان عتيداً
أن يكون بعد هذه الأحداث.

 

ثالثا:
كيف ينبغي أن نأتي إلى سر الشركة الإلهية؟

3
إذن، لأنه علينا أن نرى الرب هذه الليلة معلقاً على الصليب كحمل مذبوح، أرجوكم أن
نقترب إليه بخوف وتقوى. ألم تروا كيف وقفت الملائكة أمام القبر، بينما لم يوجد فيه
جسد المسيح بل كان فارغًا؟ ولكن لأنه قد سبق ووُضع فيه جسد الرب لذلك قدموا له كل
الاحترام والوقار. إن الملائكة التي هي أعظم منا وقفت باحترام ووقار أمام القبر
الفارغ، ونحن الذين نقف أمام المائدة المقدسة التي عليها الحمل نتصرف بضوضاء وضجة؟
كيف ننال إذن الغفران؟!! إنني أرى كثيرين هذه الليلة يسببون ضجه ويصرخون ويزاحمون
بعضهم بعضاً ويتعاركون ويشتمون ويجلبون بالأكثر على أنفسهم عقاباً بدلاً من الخلاص.
لذلك أتحدث عن هذه الأمور من أجل خلاصهم.

 

ماذا
تفعل أيها الإنسان؟ عندما تقف أمام المائدة المقدسة، والكاهن يرفع يديه إلى السماء
داعياً الروح القدس لينزل ويقدس التقدمات الموجودة على المائدة، علينا بالهدوء
والسكون. عندما تحضر نعمة الروح القدس وتنزل وتقدس التقدمات، عندما ترى الحمل
المذبوح والمكسور، هل تفعل ضجة وإزعاج ومشاجرات وشتائم؟ كيف تستطيع أن تستمتع بهذه
الذبيحة وأنت تُقبل على هذه المائدة بطريقة مزعجة؟ ألا يكفي أننا خطاه ونشترك في
هذه الذبيحة ولا نريد أن نتخلص حينئذٍ من خطايانا؟ لأنه كيف نحفظ أنفسنا بعيداً عن
الخطايا حين نتشاجر، ونفقد هدوئنا، ويضايق الواحد الآخر؟

 

اخبرني
لماذا تُسرع وتزاحم الآخرين عندما ترى الحمل المذبوح؟ لماذا إن كنت طول فترة الليل
تحفظ صيامك, هل أتعبك هذا؟ انتظرت بإصرار طول النهار، ومعظم الليل قد مرَّ، وأنت
في هذه اللحظة تجعل تعبك هباءً؟

 

ينبغي
عليك أن تعي ما يحدث أمامك ولأي سبب صار؟

 

فالمسيح
قد ذُبح لأجلك وأنت تتجاهله بينما تراه مذبوحًا، وإن كان قد قيل: ” حيث الجثة
هناك تجتمع النسور” (مت24: 28). فعلينا أن نفهم كنسور ما هذا الذي سال؟

إنه
الدم الذي محا الصك الذي كان مكتوبًا عليه خطايانا، دم يطهّر النفس،

دم
يغسل أوساخ الخطية، دم انتصر على السلاطين ورؤساء الشر.

 

لأنه
يقول: ” إذ جرّد الرياسات والسلاطين وأشهرهم جهاراً ظافراً بهم فيه”
(كو15: 2). فكما أن النُصب التذكاري (للملوك) يزين بأدوات وأسلحة النصرة. الغنائم
عُلقت عالية فوق الصليب. لأنه مثل ملك عظيم انتصر في معركة عظيمة, فإنه يضع فوق
النُصب التذكاري، في مكان عالٍ: الدرع والترس وأسلحة العدو، هكذا المسيح إذ انتصر
على الشيطان علق عاليًا على الصليب كمثل نُصب تذكاري أسلحة الشيطان أي الموت
واللعنة، لكي يرى الجميع هذا النصب: القوات الملائكية التي هي في السموات والبشر
الذين على الأرض، والشياطين الشريرة التي هُزمت، الجميع يرونه.

 

ليتنا
نبرهن بكل قدرتنا أننا جديرون بهذه الخيرات التي قدمها لنا المسيح، حتى نكسب
الملكوت السماوي بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح مع الأب والروح القدوس الذي له
المجد والكرامة من الآن وإلى أبد الآبدين آمين

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى