علم

العظة الثالثة



العظة الثالثة

العظة
الثالثة

للقديس
يوحنا الذهبي الفم
عن مثل لعازر
والغني

إن
مثل لعازر له فائدة عظيمة لنا لكلاً من الفقير والغني، أنه يعلم الأول أن يتحمل
فقره بتعقل وبرباط جأش، ولا يسمح للثاني أن يتباهى بثرائه. أنه يعلمنا بالمثل أن
أكثر إنسان يُرثى لحاله هو من يعيش في رغد العيش ولا يشترك أحد معه في خيراته.

لذلك
فإننا اليوم سوف نمسك بنفس الموضوع. إن هؤلاء الذين يعملون في المناجم عندما يرون
أن هناك عروق من الذهب فإنهم يواصلون الحفر من نفس المكان ولا يكفون حتى يستخلصوا
كل ما يمكن أن يجدوه، فلنعود إلى حيث توقفنا في حديثنا السابق حتى نستكمله، فقد
كان بإمكاني شرح هذا المثل كله في مرة واحدة، لكن ليس المهم هو قول الكثير ثم
أترككم، ما يهمني هو أن تستطيعوا أن تقبلوا وتتمسكوا بكلماتي بكل دقة،
وتنالوا قدرة الاحتفاظ بها لإدراك ما يجلب لكم الفائدة الروحية. إن الأم المحبة
عندما توشك أن تفطم رضيعها فإنه من الخطأ أن تسكب عصير مركز في فمه دفعة واحدة،
فإنه سوف يلفظه ويبلل ملابسه[1]. ولكنها
تسكب العصير في فمه قليلاً بلطف حتى يستطيع ابتلاع ما أخذه بدون صعوبة، مثلما أعمل
أنا ألا أجعلكم تلفظون ما أعطيه لكم فلم أُتخمكم بالوصايا بل جزأتها لكم على عده
مرات، أعطيكم خلالها عده أيام للراحة من ثقل الاستماع المتواصل، ولكي يكون ما
ألقيه ملتصقًا تمامًا بذهنكم في محبة، وتتقبلوا ما أنا مزمع أن أقوله بنفس مستريحة
نشطه.

لهذا
السبب أيضًا فإنني كثيرًا ما أعلن لكم مقدمًا عدة مرات عن الموضوع الذي سوف أكلمكم
عنه، لكي ما تشغلوا أنفسكم خلال هذه الأيام بالكتاب ودراسة فقراته وتتعلموا ما قيل
وما لم يقال، بهذا تجعلون أذهانكم مستعدة أكثر للتعلم عندما تسمعون ما سوف أقوله
عندئذ. إنني لا أكف عن التوسل إليكم ألا تهتموا فقط بما أقوله لكم هنا، لكن أيضًا
أن تحافظوا باستمرار في بيوتكم على قراءة الكتاب المقدس.

عندما
أكون مع أي منكم في اعتراف فإنني لا أكف عن إعطاء نفس النصيحة. وأرجو ألا يقول لي
أحد هذه الكلمات الغير نافعة والتي تستحق إدانة كبيرة: لا أستطيع أن اترك
(court
house)
، أو أنني أدير
أعمالاً في المدينة، أو أن أتدرب على حرفة، أو أن لي زوجة، أو أنني أربي أطفالاً
ومسئول عن أسرة، أو أنني رجل واسع الخبرة بالحياة وقراءة الكتاب المقدس
، ليست لي
ولكن لهؤلاء الذين يعيشون بعيدًا الذين استقروا في الجبال ويعيشون أسلوب هذه
الحياة باستمرار. المعنى مفهوم لكن بصعوبة لأن الجملة التي في النصف العرضية
طويلة جدًا

ماذا
تقول يا رجل؟ أن يكون لك العديد من الاهتمامًات تجعلك لا تولي عناية كافية بالكتاب
المقدس، فعلى العكس فإن ذلك مهم لك أكثر منهم، إن المنشغلين بأعمالهم هم في أشد
الاحتياج إلى الكتاب المقدس. إن الرهبان الذين تركوا صخب الحياة وسكنوا البراري لا
يمتلكون شيئًا، ولكنهم يمارسون الحكم بلا حذف في سكون حياتهم الهادئة كمن
استراح في الميناء متمتعًا بالأمان. ولكننا نحن في منتصف البحر تتقاذفنا أمواجه
منساقين لعديد من الخطايا، لذا فنحن دائمًا نحتاج لعون مستمر لا يتوقف من الكتاب
المقدس. إن الذين يهربون بعيدًا عن المعركة لا يصابون، لكن الذين يقفون في الصفوف
الأمامية دائمًا يتلقون الهجمات، لذلك يحتاجون إلى الدواء، فعلى سبيل المثال زوجتك
تستفزك، ابنك يحزنك، خادمك يغضبك، عدوك يتآمر عليك، صديقك يحسدك، جارك يشتمك،
زميلك يمسك عليك زلة، حاشية الحاكم تهددك، الفقر يقلقك، فقدان أملاكك يجلب عليك
الحزن، النجاح يغُرك، سوء الحظ يحيطك، أسباب كثيرة وضغوط تثبِّط من عزيمتك وتحزنك،
أوهام ومسببات لليأس تحيط بك من جميع الجهات، الكثير من السهام تسقط عليك من كل
مكان، لذا فنحن في احتياج دائم لدِرع واقي هو الكتاب المقدس ولإدراك ذلك فإنه
مكتوب (سير 9: 13).

على
سبيل المثال إن حرب الجسد تكون أكثر ضراوة على هؤلاء الذين يعيشون في وسط العالم،
وجه جميل، أو جسم رائع يقتحم أعيننا، أو عبارات مخجلة تخترق أسماعنا فتقلق
تفكيرنا، والأغاني الخليعة تضعف من اهتماماتنا الروحية. لماذا أقول ذلك؟ لأنه كثيرًا
ما يبدو أن هناك لا مبالاة بهذه الحروب. إن روائح العطور التي تفوح من المحظيات
والغواني عندما يمرون بجانبنا إنما تأسرنا وتأخذنا بعيدًا كأسرى من مجرد مصادفة
عابرة، وهناك العديد من الأشياء التي تحاصرنا، إننا نحتاج إلى الدواء الإلهي ليشفي
الجروح التي حاقت بنا وليحمينا من التي يمكن أن تحدث لنا. يجب علينا أن نتغلب على
انقضاض الشيطان وضرباته لنا بمداومة قراءة الكتاب المقدس. فمن المستحيل لأحدٍ منا
أن يكون في أمان بدون أن ينتهز الفرص دائمًا لقرائه الكتاب المقدس. وفي الواقع
علينا أن نقتنع بأنه حتى مع استعمالنا هذا الدواء فإننا بالجهد نخلص، لكن إن كنا
لا ننطلق يوميًا في استعمال هذا الدواء الشافي، فأي أمل يكون لنا للخلاص؟ صلوا من
أجل قراءات مستمرة في الكتاب المقدس. إن قراءة الكتاب المقدس هي أعظم وسيلة تتحصن
بها ضد الخطايا، والجهل به هو بمثابة منحدر كبير أو هوّة سحيقة. إن عدم معرفة
النواميس الإلهية هو ضلال وتيهان عن طريق الخلاص وإعطاء فرصة لميلاد البدع
(الهرطقات)، وإدخال الفساد إلى حياتنا وترسيخه. فإنه من المستحيل على الشخص الذي
يقرأ باستمرار وباهتمام أن يخرج فارغًا بدون فائدة. انظروا إلى أي مدى قد ساعدنا
مَثَل واحد وكم أفاد نفوسنا. إنني على ثقة تامة إنكم تخرجون من هنا وأنتم مستفيدين
بما تسمعونه فائدة تبقى معكم. ولكن إن كان البعض لم يجني هذه الثمار فبرغم ذلك
فإنهم في أحد العظات سوف يصبحون أفضل. فإنه من المهم ألا يمر يوم دون الندم على
الخطية والتطلع نحو السمائيات وإراحة نفوسنا من اهتمامات العالم، إن كنا نفعل هذا
بدون تقصير في كل صلاة فإنه مع المداومة على استماعنا للعظات سوف يكمل فينا كل ما
هو عظيم ونبيل.

تعالوا
إذن لأشرح لكم الجزء التالي من المثل: ما هو الجزء التالي؟ عندما قال الغني:
“أرسل لعازر ليبلَّ طرف إصبعهِ بماءٍ ويبرّد لساني” فلنسمع رد إبراهيم:
“يا ابني اُذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا. والآن هو
يتعزَّى وأنت تتعذَّب. وفوق هذا كلّهِ بيننا وبينكم هوَّة عظيمة قد أُثْبِتَتْ حتى
إن الذين يريدون العبور من ههنا إليكم لا يقدرون ولا الذين من هناك يجتازون
إلينا”[2].

هذا
قول يصعب تحمله ويجلب كرب عظيم، أعلم ذلك ولكن كلما تألمت ضمائرنا أكثر كلما
ساعدنا ذلك على الإحساس بالمتألمين. فلو كان إبراهيم قال لنا ما قاله للغني ونحن
في الحياة الآخرة فبصدق كنا سنبكي وننوح ونندب إذ لم يعد هناك وقت متبقي للتوبة.
ولكن بما أننا نستمع لهذه الكلمات بينما نحن لا نزال في هذه الحياة الدنيا، حيث
بالإمكان أن نثوب إلى رشدنا ونغتسل من ذنوبنا وننال الإيمان ونغيّر من أنفسنا خشيه
العواقب الوخيمة التي حدثت لآخرين. فلنشكر الله الذي نبَّهنا من تخاذلنا بعقابه
للآخرين فأيقظنا من غفوتنا، ولهذا السبب قد أخبرنا السيد المسيح بذلك مقدمًا حتى
لا يتركنا لنعاني نفس العقاب، فلو كان يريد عقابنا ما كان أخبرنا بذلك مقدمًا،
ولكن لأنه لا يريد أن يعرضنا لعقوبة الآخرة فلهذا السبب بالذات قد أخبرنا مقدمًا
بعقوبة الآخرة، لكي ما نتعلم مغزى كلماته وننجو من جرائر أفعالنا. ولكن لماذا لم
يقل إبراهيم “لقد أخذتَ خيراتك” ولكن قال “لقد استوفيت
خيراتك”. إنكم تذكرون أنني قلت لكم كيف أن بحر كبير من الأفكار قد انفتح
أمامنا فإن عبارة “استوفيتَ خيراتك” تدل وتوضح نوعًا من المديونية أو
التزام بدين، كمن له ديون ومستحقات يستوفيها، فمع كون الرجل الغني كريه وبغيض وقاس
وعديم الإنسانية، لماذا لم يقل له إبراهيم لقد أخذت خيراتك، وقال له لقد استوفيت
خيراتك كما لو كانت ديون مستحقة له. ما الذي نتعلمه من ذلك؟

أنه
حتى لو كان هناك بعض الناس في غاية الشر فإنهم أحيانًا يفعلون عمل أو اثنين أو
ثلاثة من الأعمال الصالحة، إن كلامي هذا ليس تخمينًا منى فحسب، لكنه واضح في
الكتاب المقدس، لأنه ليس هناك قسوة أكثر من ظلم قاضي الظلم ولا عدم إنسانية وعقوق،
فهذا الرجل لا يخاف الله ولا يهاب إنسان ومع كونه يعيش في هذه الشرور فقد فعل شيء
صالح عندما رحم الأرملة التي كانت تزعجه باستمرار فأنصفها ومنحها طلبها وأدان
خصومها[3]. هكذا، من
الممكن أن يكون هناك شخص فاسق لكنه في أحيانًا كثيرة رحوم، أو عديم الإنسانية لكنه
قادر على كبح جماح نفسه، أو أن يكون هناك من هو فاسق وأيضًا قاسي لكنه لا يزال
قادرًا في بعض الأحيان على عمل شيء صالح في حياته. ويجب أيضًا أن نتوقع نفس الشيء
بالنسبة للأشخاص الصالحين، فكما أن أكثر الناس سوءًا أحيانًا يقومون بعمل شيء
صالح، فأيضًا هؤلاء الصالحون أحيانًا كثيرة يكون لهم نقاط ضعف، لأنه مكتوب:
“من يقول إني زكَّيت قلبي تطهَّرتُ من خطيتي”[4].

إذن
فإن كان الرجل الغني قد وصل إلى أقصى درجات الشر فمن المحتمل أنه قد فعل شيئًا
صالحًا، وأيضًا حتى لعازر وإن كان قد وصل إلى قمة الصلاح فقد اِرتكب بعض الخطايا
الصغيرة، اذكر كيف أشار أبو الآباء إلى كليهما بذلك “يا ابني اُذكر أنك
استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا”، فإنك حتى إن كنت قد فعلت
شيئًا صالحًا فقد استوفيت جزاءه وأخذت هذه الأشياء في العالم، العيش الرغد والغنى
والتمتع بالرفاهية والثروة الطائلة. وإن كان هذا الرجل (لعازر) قد اقترف شيئًا فقد
تلقى جزاءه من معاناة الفقر والجوع والبلايا. فقد وصل كل منكما إلى هنا مجردًا
تمامًا وعاريًا، هو من خطاياه وأنت من الأعمال الصالحة. لهذا السبب هو الآن يتعزى
وأنت تتلقى عذاب غير محتمل.

فعندما
تكون أفعالنا الحسنة بسيطة وضئيلة وحجم خطايانا كبير جدًا ونتمتع في هذه الحياة
بالرخاء والرفاهية ولا نعاني من أي متاعب، فإننا بالتأكيد سوف نغادر هذه الحياة
عارين ومجردين، فقد أخذنا مقابل الأشياء الحسنة واستوفينا مالنا في هذه الحياة.
وبالمثل فعندما تكون أفعالنا الصالحة كثيرة ومتعددة وخطايانا بسيطة وضئيلة ونعاني
البلايا، فإننا بهذا نتخلص من هذه الخطايا الصغيرة في هذه الحياة ونستحق المكافأة
الخالصة المعدّة لنا عن أفعالنا الصالحة في الحياة الآخرة. لهذا فإنك إن رأيت شخص
يعيش في الشرور وفي نفس الوقت لا يعاني من أي متاعب في حياته، لا تعتبره محظوظا بل
أبكي عليه ونوح لأن عليه أن يتحمل كل البلايا (الدينونة) في الحياة الآخرة، تمامًا
مثل هذا الرجل الغني. وأيضًا إن رأيت شخص يكرّس نفسه للفضائل ويمارسها ولكنه يعاني
الكثير من المحن، فاعتبره محظوظًا وأحسده لأن كل خطاياه قد تبددت في هذه الحياة،
وله مكافأة كبيرة أعدت له في الحياة الآخرة لاحتماله، تمامًا مثلما حدث للعازر.

 

بعض
الناس يعاقبون فقط في هذه الحياة، والبعض الآخر لا يعانون أي متاعب هنا ولكنهم
يتلقون ما

عليهم من عقاب في الحياة الآخرة، وهناك أيضًا الذين يعاقبون هنا وفي الآخرة.
أي من هؤلاء الثلاثة تعتبره محظوظًا؟ أنا واثق تمامًا أنه في المرتبة الأولى هؤلاء
الذين يتلقون عقابهم هنا ويتنقُّون من خطاياهم. ومن يليهم في المرتبة الثانية؟
ربما تظنون إنهم هؤلاء الذين لا يعانون من أي شيء هنا ولكنهم يتحملون عقابهم في
الآخرة. لكنني أقول لا ليس هؤلاء ولكنهم الذين يعاقبون هنا وفي الآخرة. لأن من
يدفع جزءًا مما عليه من عقاب، سوف يتلقى عقاب أخف وطأة، ولكن من يكون لزامًا عليه تحمل
كل ما عليه من عقاب في الآخرة فإنه لن يتلقى أي رحمة تمامًا مثل هذا الرجل الغني،
لأنه لم يتنقى من أي خطية من خطاياه هنا، لذلك فإنه قد عوقب بشدة حتى أنه لم يستطع
الحصول ولو على نقطة مياه صغيرة، فأكثر من الجميع هؤلاء الذين يخطئون ولكنهم لا
يعانون أي متاعب هنا. إنني حزين من أجل هؤلاء الذين لا يعاقبون هنا وأيضًا يعيشون
متمتعين بالرفاهية وعدم الاحتياج. فهكذا إن عدم الوفاء بجزء من العقاب على الخطايا
هنا يجعل دينونة الآخرة ثقلاً. وكذلك أيضًا فإن المتع الآثمة ولذة الشهوات الذاتية
والرفاهية والترف تصبح أسبابًا لعقاب أكثر للخطاة.

عندما
يعطينا الله نحن الخطاة تكريمًا هنا، فإن طرحنا في نار متقدة في الآخرة يصبح حقيقة
مؤكدة، إن الذي لا يستفيد من مراحم الله الواسعة سوف يكون عقابه شديد، ومن كان له
أعلى درجات التكريم ويسبغ الله عليه من مراحم وطول أناته، ومع ذلك يستمر في شروره،
فمن الذي ينقذه من العقاب على هذا؟ والدليل على أن هؤلاء الذين ينعمون بمراحم الله
وطول أناته عليهم هنا إنما يجنون على أنفسهم العواقب الوخيمة في الآخرة هذا إن كنا
لا نقدم توبة هنا. فلنسمع ما قاله بولس: “أَفتظنُّ هذا أيها الإنسان الذي
تدين الذين يفعلون مثل هذه وأنت تفعلها أنك تنجو من دينونة الله. أم تستهين بغنى
لطفهِ وإمهالهِ وطول أناتهِ غير عالمٍ أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة. ولكنك
من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تَدَّخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة
الله العادلة”[5].

لذلك
عندما ترى أناس يعيشون في ثراء وترف، تفوح منهم روائح العطور، يمضون يومهم في
الشراب وأيضًا لهم القوة والاحترام والمركز العظيم، ومع ذلك مازالوا يخطئون بالرغم
من أنهم لا يعانون أي متاعب، فلهذا السبب بعينه نبكي عليهم ونحزن لأنهم لم يعاقبون
على خطاياهم، كما أنك إن رأيت شخص مريض بالاستسقاء، أو بمرض الطحال، أو قرحه
مزمنة، أو تقرحات كثيرة تملأ جسده، ولا يزال بالرغم من ذلك يشرب وينغمس في شهواته
ويزيد من مرضه، فلا تتأثر به ولا تظن أنه سعيد لحياته المرفهة، لكن فلتحزن عليه
لهذا السبب نفسه. وهذه النظرة أيضًا بالنسبة للنفس، فعندما ترى شخص شرير يعيش
متمتعًا برخاء كثير وبدون معاناة من أي محنه، فلتبكي عليه لهذا السبب نفسه، فإنه
بالرغم من إصابته بمرض خطير وقروح فإنه بانغماسه في الشهوات والتنعمات يزيد من
مرضه ويصير للأسوأ. إن العقوبة ليست بضارة، لكن الخطية ضارة، فإن الأخيرة تفصلنا
عن الله، لكن الأولى تقربنا إلى الله وتبدد غضبه علينا. كيف نعلم ذلك؟ فلنسمع ما
قاله النبي: “عَزُّوا عَزُّوا شعبي يقول إلهكم. طيِّبوا قلب أورشليم ونادوها
بأن جهادها قد كمُل، إن أثمها قد عُفِي عنهُ، أنها قد قبلت من يد الرب ضعفَين عن
كل خطاياها”[6]. وفي موضع
أخر يقول: “يا رب تجعل لنا سلامًا لأن كل أعمالنا صنعتها لنا”[7].
ولكي نعلم أن هناك من يعاقبون هنا وآخرون في الآخرة والبعض يعاقب هنا وفي الآخرة،
فلنستمع لما قاله بولس الرسول عندما يتهم الذين يشتركون في الأسرار المقدسة بدون
استحقاق عندما قال: “إذًا أي من أكل هذا الخبز أو شرب كأس الرب بدون استحقاق
يكون مجرمًا في جسد الرب ودمهِ”، وأضاف على الفور: “من أجل هذا فيكم
كثيرون ضعفاءُ ومرضى وكثيرون يرقدون. لأننا لو كنا حكمنا على أنفسنا لم حُكِم
علينا. ولكن إذ قد حُكِم علينا نؤَدَّب من الرب لكي لا نُدان مع العالم”[8].

هل
رأيتم أن العقاب هنا سوف يخلصنا من عذاب دينونة الآخرة؟ وأيضًا يتكلم الرسول عن
خطيئة الزنى فيقول: “أن يُسلَّم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح
في يوم الرب يسوع”[9]. ويتضح هذا
أيضًا في مثل لعازر، فلو كان قد ارتكب أي أثم فإنه قد تطهر منه في حياته فيغادر
هذه الحياة إلى الحياة الآخرة طاهرًا تمامًا. وأيضًا يتضح هذا في قصة المشلول فقد
مكث مريضًا لمده ثماني وثلاثون سنة، إن طول مدة مرضه قد خلصته من آثامه. والدليل
على كونه بهذه الحالة بسبب خطاياه ما قاله السيد المسيح: “هنا أنت قد
بَرِئْت. فلا تخطئْ أيضًا لئَلاَّ يكون لك أَشَرُّ”[10].
من هذه العبارة يتضح أن بعض الناس يعاقبون في هذه الحياة فيخلصون من خطاياهم،
والبعض يعاقبون هنا وفي الآخرة إذا كانوا لم يتلقوا العقاب الكافي على قدر كبر حجم
خطاياهم، والدليل على ذلك ما قاله السيد المسيح عن أهل سدوم: “وكلُّ مَنْ لا
يقبلكم فأخرجوا من تلك المدينة وانفضوا الغبار أيضًا عن أرجلكم شهادةً عليهم”[11]،
وواصل كلامه قائلاً: “وأقول لكم أنه يكون لسدوم في ذلك اليوم حاله أكثر
احتمالاً ممَّا لتلك المدينة”[12]، فقوله
أكثر احتمالاً بيّن أنهم سيعاقبون ولكن عقابهم أخف وطأة لأنهم قد أوفوا جزائهم في
هذه الحياة. إن بعض الناس لا يعانون أي متاعب هنا ولكن سيكون عليهم أن يتحملوا
عقابهم كله أثناء دينونتهم في الآخرة. نتعلم من قصة هذا الرجل الغني الذي تحمل
عذاب لا ينتهي في الحياة الآخرة ولم يحظى ولو بالمغفرة لأن عقابه كله قد حُفظ له
للحياة الآخرة.

يوجد
بين الخطاة البعض الذي لا يعاني أي متاعب هنا، فإنهم سوف يسلَّمون لعقوبة كبيرة في
الآخرة. وأيضًا بعض الأبرار الذين يعانون المتاعب هنا، فإنهم سوف يتمتعون بتكريم
ومجد عظيم في الآخرة. مثال ذلك أنه إذا كان هناك اثنان خطاة أحدهما عُوقب هنا
والآخر لم يُعاقب، فإن الذي عُوقب هنا أسعد حالاً من الذي لم يُعاقب، وأيضًا
بالمثل إذا كان هناك اثنان من الأبرار أحدهما تحمل متاعب كثيرة، والآخر أقل منه،
فإن الذي تحمل المتاعب الكثيرة أسعد حالاً، “حينئذٍ يجازي كل واحدٍ حسب
عملهِ”[13]. عندئذ قد
يتساءل أحدكم هل لا يوجد من يتمتع بالراحة هنا وفي الآخرة؟ كلا أيها الإنسان…
هذا مستحيل. فإنه من غير الممكن البتة أن يوجد في هذا العالم من يتمتع بالحياة
المريحة وعدم الاحتياج، وباستمرار يُشبع رغباته بكل طريقة ويحيا حياة مستهترة
بحماقة – من غير الممكن – أن يحظى بتكريم في الحياة الآخرة، فمن لم يضنيه الفقر
فإن الشهوات (الرغبات) تقلقه وتصبح مصدر تعب وألم بالنسبة له. ومن لم يهدده المرض
فإن عصبيته تزداد حدة ويحتاج لجهاد غير عادي ليتغلب على غضبه، ومن لم يُختبر
بالتجارب فإن الأفكار الشريرة تهاجمه. إن كبح جماح الشهوات الحمقاء ليست بمهمة
بسيطة، وأن نبطل المجد الزائف ونكبت التهور ونكف عن البذخ. إن الذي لا يفعل مثل
هذه الأشياء وغيرها لا يمكن أن يخلص. وكما يشهد الكتاب عن أن هؤلاء الذين يعيشون
حياه باذخة لا يمكن أن يخلصوا، فلنسمع ما قاله بولس عن الأرامل: “وأما
المتنعمة فقد ماتت وهي حية”[14]. إن كان
هذا القول قيل عن المرأة الأرملة، فإنه ينطبق بالأكثر على الرجل وقد أوضح السيد
المسيح أن الذي يحيا حياة متنعمة لا يقدر على الوصول إلى السماء عندما قال:
“ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤَدّي إلى الحياة”[15].
قد يتساءل أحدكم كيف إذن قال: “لأن نيري هيّن وحملي خفيف”[16].
لأنه إن كان الباب ضيق والطريق كرب فكيف يقول عنه أيضًا أنه هيّن وخفيف؟ أنه يقول
إن طبيعة التجارب نفسها شيء ولكن إرادة واشتياق المارون بها شيء آخر، فمن الممكن
أنه حتى الأشياء الغير محتملة بطبيعتها تصبح هيِّنة إذا تقبّلناها باشتياق، تمامًا
مثل الرسل الذين كانوا يُجلدون بقسوة ويعودون مبتهجين “وأما هم فذهبوا فرحين
من أمام المجمع لأنهم حُسِبوا مستأهلين أن يُهانوا من أجل اسمهِ”[17].
حقًا إن طبيعة العذاب عادة تجلب الألم والضيق، لكن إرادة هؤلاء الذين جُلدوا
وعُذبوا قد انتصرت حتى على طبيعة ألم المعاناة، ولهذا يقول بولس: “وجميع
الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطَهدون”[18].
لذلك إن كان الناس يضطهدونا وإبليس يعلن حربه علينا، فإننا نحتاج للكثير من الحكمة
والمثابرة والوقار واليقظة في الصلاة. ألا تشتهي بما يملكه الآخرون، بل نوزع ما
عندنا على المحتاجين، أن ننبذ ونرفض البذخ سواء في الملبس أو الأكل، ونتجنب الجشع
والسكر والخبث، ونسيطر على كلامنا، ونبعد عن الحب الخليع الذي لا يليق
“ليُرفَع من بينكم كل مرارةٍ وسخطٍ وغضبٍ وصياحٍ وتجديف مع كل خبث”[19].
فلنمتنع عن الفكاهات والكلام المخزي، وهذا يتطلب جهد ليس بقليل، ولكي نتجنب هذه
الأشياء ونتعلم مدى صعوبة أن تحيا بحكمة واتزان، ومدى سهولة حياة الرخاوة أسمع ما
قاله بولس: “بل أقمع جسدي واستعبدهُ”[20].
فعندما قال ذلك أشار لمدى القوة والجهاد اللذان يجب أن يسلك بهما هؤلاء الذين
يقمعون أجسادهم في كل شيء، وقد قال السيد المسيح أيضًا لتلاميذه: “في العالم
سيكون لكم ضيق. ولكن ثقوا. أنا قد غلبت العالم”[21].
فقد قال إن الضيق سوف يؤدي إلى الراحة.

إن الحياة الحاضرة ما هي إلا حلبة مصارعة، فيها
يتصارع المصارعون، والذي يريد أن يكلل بالنصر لا يستطيع أن يتمتع بالاسترخاء، لذلك
فمن يريد الفوز بالإكليل عليه أن يختار الحياة الصعبة المجاهدة. وهكذا فإنه بعد
جهاد لوقت قصير في هذه الحياة، سوف يتمتع بالمجد الأبدي في الحياة الآخرة. كم من
العقوبات تواجهنا كل يوم؟ وكم تحتاج النفس للكثير كي تكف عن عدم الصبر وعدم
الرضا… ولكي تقدم الشكر والمجد والتسبيح لله الذي سمح بهذه التجارب أن تجوز
علينا؟ وكم من المصاعب الغير متوقعة التي تظهر؟ يجب علينا أن نقاوم الأفكار
الشريرة، وألا نسمح للساننا أن يتفوه بأي كلمة خاطئة، تمامًا مثل أيوب البار،
فبينما كان يعاني الكثير من البلايا كان يواصل باستمرار تقديم الشكر.

بعض
الناس إن تعثروا أو افتُرى عليهم أو مرضوا بمرض مزمن مثل النقرس أو الصداع أو أي
من هذه الأمراض، فإنهم على الفور يبدأون في التذمر مستسلمين لآلام المرض فيحرموا
أنفسهم من فائدة احتمال المرض. ماذا تفعل أيها الإنسان؟ أتتذمر على جابلك الذي
أحسن إليك، مخلصك، حافظك، حارسك؟ ألا ترى أنك بهذا تُسقط نفسك لمنحدر وتطرح نفسك
في هلاك جهنم؟

فهل
تذمرك هذا سيخفف من آلامك؟! في الحقيقة أنك تزيد من آلامك وتجعل محنتك أكثر ثقلاً.
إذ أن إبليس يجلب العديد من البلايا من أجل هذا الهدف ذاته حتى يسقطك في هذه
الحفرة. فإذا ما رآك تتذمر فإنه يسر ويزيد من معاناتك ويكثرها عليك. وكلما وخزك
بالألم كلما يأست مره أخرى، ولكن إذا رآك تتحمل بشجاعة وكلما زادت معاناتك كلما
قدمت الشكر لله، فإنه يرفع حصاره عنك في الحال مدركًا أن حصاره لك أصبح غير
مجديًا.

عندما
يقبع كلب بجانب المائدة إذا ما رأى أن الشخص الذي يأكل يلقي إليه باستمرار بفضلات
الطعام من على المائدة فإنه يظل قابعًا بإصرار، ولكنه إذا جاء عند المائدة مرة أو
مرتين ولم يتلقى شيء فإنه سيظل بعيدًا بعد ذلك ويعرف أنه لا فائدة. ونفس الشيء
بالنسبة لإبليس فإنه باستمرار يحوم حولنا، وإذا ألقيت له (مثلما تلقي للكلب)
بكلمات التذمر فإنه سيتلقفها ويهاجمك ثانية، ولكنك إن تذرعت بالصبر وواظبت على شكر
الله فإنك بذلك تطرده بعيدًا وترده عنك. ولكنك قد تقول إنني لا أستطيع أن أظل
صامتًا إذا ما أصابتني محنة. إنني بالتأكيد لا أمنعك من الصراخ، ولكن أشكر
بدلاً من أن تتذمر، سبح بدلاً من أن تيأس، اعترف للرب، اصرخ إليه في صلاتك، اصرخ
إليه عاليًا ممجدًا الرب، وبهذه الطريقة تهون محنتك، ونتيجة لشكرك فإن إبليس سوف
يرتد
للخلف وتنال معونة من الله، ولكنك إن تذمرت فسوف تُبعَد عن أي
معونة من الله، ويزداد غضبه عليك، وتورط نفسك في مزيد من المعاناة، ولكنك إن شكرته
سوف تطرد عنك كل مؤامرات إبليس الشريرة، وسوف تربح عناية الله وحمايته لك.

ومع
ذلك إن اللسان على سبيل التعود غالبًا ما يبدأ في التفوه بمثل هذه الكلمات
الخاطئة، فإذا ما بدأ وقبل أن ينبس بهذه الكلمات عُضّه بأسنانك بقوة، فإنه من
الأفضل للسانك أن يسيل منه الدم الآن من أن يشتهي قطرة من الماء بعد ذلك لتريحه
ولا يستطيع أن يحصل عليها، ومن الأفضل للسان أن يتحمل ألم وقتي من أن يعاني بعد
ذلك من عذاب عقاب أبدي، كما اِحترق لسان الغني ولم يقدر أن ينال أي شيء يخفف من
آلامه.

أتعصي
الله الذي يحبك؟ إن الله يأمرك أن تحب أعدائك ويأمرك أن تحسن إلى مبغضيك وأن تبارك
لاعنيك[22]. أكنت تلقي
باللوم على جابلك وحافظك لو أنك لا تعاني أي متاعب؟ أنك تقول: ألم يكن قادرًا أن
يجنبني هذه التجربة؟ لكنه سمح بها لكي يُصقِّل شخصيتك وتصبح أفضل، ولكنك تقول: لكن
أنظر فقد سقطت وهلكت، إن هذا ليس بسبب طبيعة التجربة ولكن بسبب تهاونك. قل لي
أيهما أسهل التذمر أم الشكر؟ ألا يجلب عليك التذمر كراهية سامعيك لأنك تطرحهم إلى
اليأس والإحباط، وتسبب لهم الكثير من القلق والحزن، ولكن الشكر يعطيك أكاليل عديدة
من الحكمة، وإعجاب من الجميع، ومكافأة عظيمة من الله. لماذا إذن تُهمل ما هو نافع
وسهل ومبهج، وتتبع بدلاً منه ما هو ضار ومؤلم ومهلك؟ علاوة على ذلك إذا كانت تجربة
الاحتياج والفقر هي السبب في التذمر، فإن كل هؤلاء المحتاجين والفقراء يتذمرون،
ولكن في الحقيقة إن كثيرون من هؤلاء الذين يعيشون في فقر مدقع يقدمون الشكر
باستمرار، بينما آخرون يتمتعون بالغني والرخاء لا يكفون عن التذمر. إذن ليس هذا
بسبب طبيعة ظروفنا الخارجية، ولكنه اختيارنا نحن، إما أن نختار التذمر، وإما أن
نختار الشكر. لهذا السبب أيضًا يجب أن نقرأ هذا المثل لكي نتعلم أن الغنى لا
يفيد الإنسان المتهاون، ولا الفقر يضر
بالإنسان المجاهد. ولكن لماذا
أذكر الفقر فقط؟ فإنه حتى لو تجمعت كل شرور البشر، فإنها أبدًا لن تُهلك نفس
الإنسان الحكيم الذي يحب الله، ولن تقنعه أن يكف عن الفضائل، ولعازر خير مثال على
ذلك.

علاوة
على ذلك فإن الإنسان العابث والفاجر لن يقدر أبدًا أن ينتفع بالثراء أو الصحة أو
الرخاء الدائم أو أي شيء آخر. وعلى هذا فإننا نقول أن الفقر والمرض ودنو الخطر لا
يجبرنا على التذمر. إنه ليس الفقر بل الحماقة، وليس المرض بل الغفلة، وليس دنوّ
الخطر بل التسيُّب هم الذين يؤدوا بهؤلاء الغافلين إلى التذمر، وإلى كل الشرور
الأخرى.

يسأل
أحدكم ولكن لماذا يعاقب البعض هنا، والبعض يعاقب في الآخرة ولا ينال هنا أي عقاب
على الإطلاق؟ لأنه لو كان الجميع يعاقبون هنا. كنا جميعًا نهلك، لأن جميعنا
مستحقين العقاب. ومن ناحية أخرى، إذا لم يعاقب أحد هنا فإن جميع الناس سيصبحون غير
مبالين، والكثيرون سوف يقولون أنه ليس هناك عقاب إلهي. لأنه على الرغم من رؤيتهم
الآن للكثيرين من الآثمة يعاقبون هنا، فإنهم مع ذلك يتكلمون بمثل هذا الكلام من
التذمرات، فإذا لم يكن الحال هكذا فلماذا لا يتكلمون بهذا
(if this were not so,
what would they not say?

وإلى أي مدى من الشرور كانوا سيصِلون؟ من أجل هذا السبب فإن الله يعاقب البعض هنا
ولا يعاقب الآخر. أنه يعاقب ممن كَفُّوا عن طريق الشر، فيجعل من عقابهم في الآخرة
أخف، أو حتى يعفوا عنهم تمامًا. وبعقابه لهؤلاء الناس فإنه أيضًا يُصلح من شأن
هؤلاء الذين يعيشون في الشر. ومن ناحية أخرى فإنه لا يعاقب البعض الآخر لكي ما إذا
رجعوا إلى أنفسهم وندموا تَرفق الله بهم، فإنهم قد يتخلصوا ويُعفُوا من العقاب هنا
وفي الآخرة. ولكنهم إن استمروا في شرورهم معاندين تسامح الله، فإنهم بذلك قد
يتحملون عذاب أعظم بسبب كثره ازدرائهم. وقد يقول أحد مدعي المعرفة أن عقاب هؤلاء
به عدم إنصاف لأنهم قد يتوبوا، ولكننا نقول إن كان الله يعلم بسابق علمه أنهم
سيتوبون ما كان عاقبهم، لأنه إن كان يترك هؤلاء الذين يعلم إنهم سيظلون على خطئهم
ولا يعاقبهم في هذه الحياة، فإن كل الباقون الذين سيتركهم لعقاب الحياة الحالية
وهم يعرف أنهم سيعملون على الإفادة من صبره ورفقه عليهم قد يستغلون ذلك في إرجاء
وتأجيل توبتهم، ولكن واقع الأمر أنه يعاقبهم سلفًا. وذلك يجعل جزائهم في الآخرة
أخف، وأيضًا بعقابه لهم يُصلح من شأن الآخرين.

لكن
لماذا لا يفعل ذلك مع كل الخطاة؟ لأن الانتظار في خشية من شر مرتقب والخوف من
العقاب الذي حلّ بآخرين، قد يجعلهم يصيرون أفضل، ويشكرون الله على صبره عليهم
ويقدروا لطفه بهم فيكفّوا عن آثامهم. قد يقول أحد ولكنهم قد لا يفعلون ذلك أبدًا.
إن هذا ليس معناه أن نلوم الله بل نلوم تهاونهم هم، إذ ليس لديهم الاستعداد
للاستفادة بهذا العلاج القوي من أجل خلاصهم. ولكي نعلم أن هذه هي حكمته اِصغوا:
عندما جاء قوم وأخبروا المسيح عن بيلاطس الذي خلط دماء أهل الجليل الذي قتلهم
بدماء ذبائحهم، فأجاب يسوع وقال لهم: “أَتظنون أن هؤُلاء الجليلين كانوا
خطاةً أكثر من كلّ الجليلين لأنهم كابدوا. كلاَّ أقول لكم. بل إن لم تتوبوا
فجميعكم كذلك تهلكون”. وفي مرة أخرى قال نفس الشيء عن الثماني عشر الذي سقط
بهم البرج في سلوام. إذ قال: “أَتظنُّون أن هؤُلاء كانوا مذنبين أكثر من جميع
الساكنين في أورشليم. كلاَّ أقول لكم. بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون”[23].
وبهذا أوضح أن الأحياء أيضًا يستحقون نفس العقاب. ولكن الله سمح لهؤلاء أن يعانوا
ذلك حتى إذا ما رأى الأحياء ما حدث للآخرين فإنهم يرتعبوا ويتوبوا، وقد يصبحوا
وارثين لملكوت الله.

ماذا؟!
يتساءل أحدكم هل يعاقب شخص لكي يجعلني أصير أفضل؟ لا ليس لهذا السبب لأنه يعاقب
على خطاياه ولكن بالإضافة يصبح وسيلة للخلاص لهؤلاء المتنبهين له، فيجعلهم هذا
يجاهدون أكثر خوفًا مما حدث له.

إن
السادة أيضًا يفعلون نفس الشيء. فعادة عندما يضربون أحد الخدم فيجعلوا الآخرين
يسلكون حسنًا تخوُّفًا من العقاب، إنك قد ترى أناس يعانون من الضياع أو تُحطم
منازلهم أو الاحتراق حتى الموت، أو ينحرفون مع فيضان النهر، أو يفقدون حياتهم بأي
شكل من هذه الأشكال القاسية، ثم ترى آخرون يقترفون نفس الآثام وربما أكثر منهم
ولكنهم لا يعانون أي متاعب.

لا
تدع هذا يُشوّش أفكارك، قائلاً: لماذا وهم يقترفون نفس الآثام لا يعانون نفس
العواقب؟ ولكن فلتأخذ بعين الاعتبار أن الله يسمح لإنسان ما أن يذبل حتى الموت،
فيهيأ له بذلك عقوبة أخف في الآخرة، أو حتى يعفو عنه كلية. ولكنه لا يسمح لإنسان
آخر أن يعاني من أي شيء مثل هذا لكي يُعيد إليه إدراكه برؤيته لما حلّ بهذا الشخص
من عقاب فتتاح له فرصة أن يصير للأفضل. ولكنه إذا ظلّ على نفس آثامه فسوف يجني على
نفسه عقاب لا ينتهي بسبب تهاونه، ولا نستطيع أن نلوم الله على عقابه بهذه العقوبة
الغير محتملة.

أيضًا
قد ترى إنسان بار يُعاني محنة أو حتى كل المتاعب التي ذكرناها فلا ترثي له، لأن
متاعبه هذه تهيأ له أكاليل براقة.

باختصار
إن العقوبة إذا حدثت للخطاة فإنها تقلل من عبء الآثام عليهم، وإذا حدثت للأبرار
فإنها تبهج نفوسهم
. إذن إن احتمال الضيقات له فائدة عظيمة لكل
منهم بشرط أن يتحملوها بشكر وهذا المطلوب. ولهذا السبب فإن التاريخ في الكتاب
المقدس مملوء بالعديد من هذه الأمثلة، فنرى أن كل من الأبرار يعانون الضيقات. لذلك
سواء كان الإنسان بار أم شرير، عليه أن ينتبه لهذه الأمثلة وأن يتحمل ضيقاته
بشجاعة.

إن الكتاب المقدس يرينا أشرار منهم من كان في
عوز شديد، وآخرون في رخاء ولكنك لا تغتر بثرائهم هذا إذ أنك تعلم مما حدث للغني،
أيّ نيران تنتظرهم في الآخرة إذا لم يغيروا طريقهم. قد يتساءل أحدكم أليس بالإمكان
الاستمتاع بالراحة لا هنا ولا في الآخرة؟ لا ليس هذا ممكنًا لأن البار يحيا حياة
الجاهد.

يقول
أحدكم ماذا عن إبراهيم؟ ألم يعاني العديد من البلايا؟ ألم يبعد عن وطنه؟
ألم يفترق عن عشيرته؟ ألم يتحمل الجوع في بلاد غريبة؟ ألم يتجول ويرتحل باستمرار
من بابل إلى ما بين النهرين أو المصيصة
Mesopotamia
ومن هناك إلى فلسطين ومنها إلى مصر؟ ماذا يقول المرء عن فراقه لزوجته؟ وحربه مع
البربر، وقتل وأسر أقاربه وأهله. وكثير من المصاعب الأخرى؟ وعندما استقبل ابنه،
ألم يتحمل أقصى ما يمكن تحمله من كل المحن عندما أمر أن يضحي بيديه بابنه حبيبه
الذي انتظره طويلاً؟

وماذا
عن إسحق نفسه الضحية؟ ألم يُضطهد من جيرانه، ألم يفقد زوجته، وحُرم من
الأبناء – مثل أبيه – لمدة طويلة؟

وماذا
عن يعقوب؟ وهو الذي تربى في بيت أبيه، ولكن ألم يحتمل متاعب أكثر ثقلاً من
جده؟ لن نسرد كل ما يتعلق به حتى لا نطيل الموضوع. اسمع ما قاله عن حياته كلها:
“أيام سنيّ غربتي مائَة وثلثون سنة. قليلة ورديَّةً كانت سنيّ حياتي، ولم
تبلغ إلى أيام سنيّ حياة آبائي في أيام غربتهم” (تك 9: 47). ثم بعد أن رأى
ابنه جالسًا على العرش الملكي متمتعًا بالمجد هل ينسى متاعب الماضي؟ فبرغم أنه
اُبتلى بالكثير من البلايا، فإنه وهو في هذا الرخاء لم ينسى المتاعب التي مرت به.

وماذا
عن داود؟ كم من المحن تحملها؟ ألم يتغنى بمثل ما تغنى به يعقوب: “أيام
سنينا هي سبعون سنة. وإن كانت مع القوة فثمانون سنة وأفخرها تعب وبلية” (مز
10: 90).

وماذا
عن إرميا؟ ألم يلعن يوم مولده بسبب توالي النكبات قائلاً: “ملعون
اليوم الذي وُلِدت فيهِ. اليوم الذي ولدتني فيه أمي لا يكن مباركًا” (إر 14:
20).

وماذا
عن موسى نفسه؟ ألم يقل في استيائه: “فإن كنت تفعل بي هكذا فاقتلني
قتلاً[24].

وماذا
عن إيليا؟ الذي أُصعد إلى السماء وانفتحت له أبواب السماء، ألم يستمر ينوح
ويندب بعد كثير من المعجزات قائلاً: “قد كفى الآن يا ربُّ خذ نفسي لأنني لست
خيرًا من آبائي”[25].

لماذا
أذكر كل قصه من هذه القصص فإن بولس قد جمعهم كلهم متمعِّنًا فيهم وقال:
“رُجموا نُشروا جُرِّبوا ماتوا قتلاً بالسيف طافوا في جلود غنمٍ وجلود ماعز
معتازين مكروبين مُذَلّين. ولم يكن العالم مستحقًّا لهم”[26]0

وفي
كلمة مختصره فإنه من الضروري لمن يرجو مسرة الله وأن يتنقى ليصير مقبولاً، ألا
يحيا حياة الرخاوة والتهاون والتسيُّب والانغماس في الشهوات، لكن يحيا حياة الجهاد
والكد والعرق، لكي ينال الأكاليل كما قال بولس: “وأيضًا إن كان أحد يجاهد لا
يُكلَّل إن لم يجاهد قانونيًا”[27].

في
موضع آخر يقول: “وكلُّ مَن يجاهد يضبط نفسهُ في كلّ شيءٍ”[28].
في الكلام والنظر، الامتناع عن الكلمات المخجلة والسباب والتجديف والفواحش، فإننا
نتعلم من كلمات بولس أنه حتى لو كانت التجارب لا تأتي إلينا من الخارج، فإننا يجب
أن نُدرب أنفسنا كل يوم على الصيام والتقشف والطعام البسيط والاقتصاد، متجنبين
الإسراف وإلا فلن نرضي الله. يا ليت لا يقول لي أحد هذه الكلمات أن فلانًا
وعِلانًا لديهم كل الأشياء جيدة في كل الأحوال”.

هذا
لا يمكن أن يكون لهؤلاء الذين لديهم الغنى والترف مع الإثم. ولكن إذا كان من
الممكن أن نقول هذا عن أحد فإننا نقوله عن هؤلاء المبتلين المكروبين، فإنهم هم
الذين لديهم كل الأشياء الصالحة في كل من هذه الحياة وفي الحياة التالية. إذ سيكون
لديهم كل الأشياء الرائعة في الحياة التالية عندما يستمتعون بمكافأتهم، ويكون
لديهم أشياء رائعة في هذه الحياة، عندما يعيشون بأمل ما سيكون لهم من أشياء رائعة
في الآخرة.

ولا
يلقون بالاً بالمتاعب الحالية مترقبين الأشياء الرائعة الآتية. ولكن دعونا نستمع
لما قاله إبراهيم: “بيننا وبينكم هوَّة عظيمة قد أُثْبِتَتْ”[29].
وحسنا قال داود. “الأخ لن يفدي الإنسان فداءً ولا يعطي الله كفارةً
عنهُ”[30]. فإنه هذا
من المستحيل سواء كنت أخًا أو أبًا أو ابنًا. اُنظر لقد دعى إبراهيم الغني
“ابني” وهو ليس بعد قادرًا على القيام بواجبات الأب، والرجل الغني نادى
إبراهيم “يا أبي” وهو ليس بعد قادرًا على التمتع بالعطف الأبوي الذي
ينتظره الابن.

إن
هذا يعلمنا أنه لا القرابة، ولا الحب، ولا العطف، ولا أي شيء آخر يمكن أن يساعد
إنسان ضلَّلته الحياة. إنني أقول هذا لأننا عندما ننصح كثير من الناس أن ينتبهوا
لأنفسهم ويتجملوا بالرصانة فإنهم لا يبالون بالنصيحة ويسخروا منها قائلين: أنك سوف
تكفلني في هذا اليوم أنا واثق من هذا وغير خائف. وآخرون يقولون أن أبي شهيد،
وآخرون يقولون إن جدي أسقف، وآخرون يستشهدون بكل أفراد عائلتهم، ولكن كل هذه
الدعاوي غير مجدية، إذ أن صلاح البعض لا يمكن أن يعيننا أو ينوب عنا في ذلك اليوم.
تذكر هؤلاء العذارى الخمس اللاتي لم يشركن معهن الخمس الآخريات في زيتهن، فإن
الأوليات دخلن مع العريس ولكن الآخريات ظللن خارجًا[31].

أعظم
شيء أن يكون لك رجاء الخلاص بأعمالك أنت الصالحة، لأنه لن يكون هناك أبدًا صديق
يتحمل عنا في الآخرة
، ولهذا قال الرب لإرميا: “وأنت فلا تُصلِّ
لأجل هذا الشعب”[32]. فحتى هنا
وهم مازال لديهم إمكانية تغيير طرقهم فبالأحرى سيقول نفس الشيء في الآخرة.

ماذا
تقول؟! إن أبوك شهيد. إن هذه الحقيقة سوف تدينك بالأكثر، لأن وإن كان هناك مَثل
للصلاح في بيتك أفلا تعتبر نفسك غير مستأهل لصلاح أبوك؟ هل لديك صديق مخلص وشريف؟
أنه لن يستطيع أن يتحمل أو ينوب عنك في هذا اليوم. ماذا قال الله “اصنعوا لكم
أصدقاءَ بمال الظلم حتى إذا فَنِيتم يقبلونكم في المظالّ الأبدية”[33].
ليست الصداقة هي التي سوف تَضمنك وتشهد لك، لكنها الصدقات.

فلو
كانت الصداقة ذاتها – فقط – تستطيع أن تشهد لك فلم يكن هناك حاجة إلا أن يقول
ببساطة: “اصنعوا لكم أصدقاء”، ولكن هكذا يوضح لنا أن الصداقة فقط لا
تشهد لنا، وأضاف بمال الظلم لربما يقول أحد أنني أستطيع أن أصنع أصدقاء بدون مال،
والصديق الحقيقي فعلاً ليس بالمال. ولكن لكي يعلمك أن إعطاء الصدقات وأعمالك
الصالحة هي التي تشهد لك، أنه يحثك أن تكون لك الثقة ليس في صداقه القديسين ولكن
في الصداقة التي تحصل عليها بالمال.

الآن
– يا أحبائي – وقد علمتم كل هذه الأشياء ليتنا ننتبه لأنفسنا بكل تدقيق. فلو حلّ
بنا عقاب فلنشكر، ولو عشنا في رخاء ورغد فلنحذر متذكرين في نفوسنا ما حلّ بالآخرين
من عقاب، شاكرين دومًا مع التوبة والندم والاعتراف باستمرار، لو كنا قد تعدِّينا
وخالفنا كل شيء في هذه الحياة الحالية، فلنطرح الإثم عنا ولنقهر الشيطان من حياتنا
بكل حماسة، ولنطلب من الله أن يجعلنا مستحقين إذا ما تركنا هذه الحياة أن نذهب ليس
حيث الرجل الغني ولكن حيث لعازر، فنتمتع بحضن أبو الآباء ونسعد بالأمجاد الأبدية.

ليتنا
جميعا نبلغ ذلك، بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح له المجد مع الأب والروح القدس الآن
وإلى دهر الداهرين آمين.



[1] Homer Iliad 9:491.

[2] 
لو24:16-26

[3] لو. 2:18-5

[4]  أم 9:20

[5]  رو3:2-5

[6]  إش 1:40،2

[7]  إش 12:26

[8] 
1كو27:11-32

[9]  1كو5:5

[10]  يو4:5

[11]  لو5:9

[12]  لو12:10

[13]  مت27:16

[14]  1تي6:5

[15]  مت14:7

[16]  مت3:11

[17]  أع41:5

[18]  2تي12:3

[19]  أف31:4

[20] 1كو27:9

[21]  يو33:16

[22]  لو27:6،28

[23]  مز10:89

[24] عد15:11

[25]1مل4:19

[26] عب37:11

[27] 2تي5:2

[28] 1كو25:9

[29] لو26:16

[30] مز7:49

[31] مت1:25-13

[32] إر16:7

[33] لو9:16

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى