علم

الغنى ولعازر



الغنى ولعازر

الغنى ولعازر

يوحنا ذهبي الفم

عظات يوحنا ذهبي
الفم
عن الغنى ولعازر

مقدمة

عاش
القديس يوحنا الذهبي الفم وخدم وكرز في مراحل مصيرية من تاريخ الكنيسة المسيحية[1].

وُلد القديس يوحنا حوالي سنة 350م. في
إنطاكية بسوريا، بعد فترة وجيزة من إرساء المسيحية كدين رسمي للإمبراطورية
الرومانية على يد قسطنطين، في مدينة تتلاقى فيها الحضارة اليونانية مع الثقافات
المختلفة للشرق.

وقد
تأسست كنيسة إنطاكية على يد القديس بولس وزارها القديس بطرس، وتألقت بأسقفية
القديس أغناطيوس لها (حامل الإله
God-bearer) – استشهد عام 107م – وكانت إنطاكية تعتبر المدينة الثالثة
للإمبراطورية الرومانية. وذلك حتى بزوغ مدينة القسطنطينية. وتعداد سكانها حوالي
ثلاثمائة ألف نسمة معظمهم يونانيون، وأيضًا سوريون وفينيقيون ورومان ويهود وغيرهم.

وكان
على المسيحية آنذاك أن تتنافس مع عدد من الديانات الأخرى، وأيضًا مع ما للعالم
الدنيوي من جذب المسارح والملاهي وسباقات الخيل.

وشكلت
الزلازل وغزوات الفرس خطر دائم على المدينة. وقد كانت مدينة إنطاكية مدينة مزدهرة
بحكم موقعها بين الطرق التجارية، ويوجد بها عائلات غنية جدًا وعائلات فقيرة جدًا،
ولكن الأغلبية كانت في وضع مالي جيد[2].

وكانا
والدا القديس يوحنا مسيحيون ومن المواطنين البارزين (الأشراف). ولكن والده توفي
وهو بعد طفل صغير؛ فكرست والدته أنثوسا نفسها لتنشئة ابنها وتزويده بكل التعاليم
الدينية والأخلاقية الأساسية وقد تلقى القديس يوحنا تعليمه من الحضارة القديمة.

وكانت
قراءاته تتضمن الكلاسيكيات العظيمة للوثنية اليونانية. ولم يتعلم أي لغة أخرى غير
اللاتينية لغة المعاملات الرسمية للإمبراطورية، والسورية التي يتكلمها الأهالي
المحليون. وكان معلمه ليبانيوس أشهر خطباء عصره. وكانت خطبه تجتذب أعدادًا كبيرة
من حشود المستمعين، وقد أصبحت لعظات يوحنا فيما بعد نفس الاستقبال الجماهيري، وكان
تعليمه الكلاسيكي يظهر أحيانًا كذكره للشعراء القدامى، مثل هوميوس، وكتلميحات عن
الفلاسفة أمثال صولون وسقراط وديوجيه. أما في تعليمه الأخلاقي فإنه يمزج بين
روحانية العهد الجديد وبين تعاليم ونواميس الذين نادوا بأن الفضيلة هي وحدها الخير
الحقيقي والصلاح الوحيد، وأن الحكمة هي المصدر الوحيد للحرية الحقيقية والغنى
الحقيقي.

ولم
يكن العماد في القرن الرابع الميلادي معمولاً به بالضرورة في فترة الطفولة [بالرغم
من الشواهد الكتابية على ضرورته في الطفولة المبكرة]، ففي هذا الوقت كان الآباء
المسيحيون يتركون أطفالهم بين الموعوظين (طالبي العماد) حتى إذا ما بلغوا مرحلة
البلوغ فإنهم يختارون هم بأنفسهم نوال المعمودية، فتُدرج أسمائهم بين المرشحين
للمعمودية في الفصح المسيحي التالي، وتحت رعاية رئيس كنيسة إنطاكية المحبوب القديس
مليتيوس.

نال
يوحنا المعمودية وهو في حوالي العشرين من عمره، وبعد سنوات قليلة سيم قارئًا، وفي
مدرسة إنطاكية التي كان يرأسها ديؤدور (أسقف طرسوس فيما بعد)، وجه القديس يوحنا كل
اهتماماته للدراسات الدينية معطيًا الأولوية للإنجيل. ومن بين زملائه في مدرسة
إنطاكية ثيؤدور (أسقف موبسويست فيما بعد).

هؤلاء
الرجال أخذوا على عاتقهم تفسير الكتاب المقدس بالمنهج الأنطاكي مؤكدين على المعاني
الحرفية والتاريخية للآيات، وفي حدود استخدموا المذهب الرمزي الذي أنشأه أوريجينوس
ومفسري الإسكندرية.

تلميذ
آخر من مدرسة إنطاكية هو نسطور الذي أُدين كهرطوقي في مجمع أفسس سنة 431م. وقد
أَلقت إدانته الشكوك، وربما عدم الاستحقاق على أرثوذكسية ديؤدور وثيؤدور.

ولم
يكن القديس يوحنا يهتم بتفاصيل المجادلات اللآهوتية، ولكنه كا يستخدم المذهب
الأنطاكي (الحرفي – التاريخي) في التفسير ليرتقي بالسلوك المسيحي في الحياة.

ألحت
أنثوسا والدة يوحنا عليه ألا يتركها، ويتجه للرهبنة طالما هي باقية على قيد
الحياة.

اندفع
يوحنا بعد وفاة والدته إلى حياة النسك مع إحدى الجماعات الرهبانية الناسكة بين
التلال بجوار مدينة إنطاكية. وتحت إرشاد راهب سوري شيخ، قضى القديس يوحنا أربع
سنوات في التدريب على حياة النسك. عندئذ اعتزل ليتوحَّد في مغارة منعزلة. ولكن بعد
عامين ألزمته صرامته الشديدة في النسك بالعودة إلى إنطاكية – ربما هذا الوقت الذي
قضاه في التأملات الروحية قد ساعده أن يكتشف موهبته الحقيقية كراعي ومعلم.

ففي
العشرين سنة التالية خدم كنيسة إنطاكية كقارئ وشماس (دياكون) وكاهن.

ففي
السنوات التي قضاها كقارئ وشماس (دياكون) تعرف على أهالي المدينة، وكان يقوم بعمله
بالمشاركة في خدمة الأسرار الإلهية، وفي جمع وتوزيع الصدقات، ومساعدة وإرشاد
الموعوظين (طالبي العماد). وقد تعرف من خلال خبرته على مدى معاناة الفقراء
والمرضى، وكان يهاجم غطرسة الأغنياء.

وسنة
386م رسم فلافيان (الذي خلف مليتيوس كأسقف لأنطاكية) القديس يوحنا للكهنوت وعهد
إليه القيام بالوعظ.

واعتاد
الكاهن يوحنا أن يعظ يوم الأحد في القداس الإلهي، وفي بعض الأحيان في عشيات يوم
السبت، وفي القداسات التي تقام في الأعياد المقدسة. كما اعتاد أن يعظ في الصوم
الكبير كل يوم في العشية.

وقد
كان جليًا وواضحًا حب الشعب له، وكانت لعظاته من الشهرة ما يفوق شهرة المسارح
والملاهي والسباق، وغالبًا ما كانت جموع المستمعين تقاطعه أثناء العظة بالتصفيق.
ولم يكفوا عن ذلك بالرغم من نصحه لهم بعدم ممارسة ذلك. وقد وجه اللوم للناس الذين
يحضرون بداية القداس فقط ويغادرون بعد انتهاء العظة مع الموعوظين، فإنه لم يرد
للمؤمنين أن يستعيضوا بسماع عظاته عن المشاركة في صلوات القداس الإلهي والأسرار
المقدسة.

وكان
الشعب يتوقع منه عظات طويلة وبليغة، فكان يؤدي هذا إلى إطالة وقت القداس ككل حتى
ولو بحسب مقياس الطقس الأرثوذكسي.

وبجانب
الوعظ وخدمة الأسرار المقدسة كان يوحنا يولي كل فرد في الشعب وبصفة شخصية اهتمامًا
وإرشادًا روحيًا. يذكرهم ويحثهم على قراءة الإنجيل بانتظام.

وقد
عرفنا من خلال بعض الأزمات العامة التي مرت كيف قاد مع الأسقف الشعب، وأيضًا في
كثير من الأزمات الخاصة لمسوا مدى اهتمامه الرعوي. انتهت خدمة يوحنا الكهنوتية في
إنطاكية نهاية مفاجئة عندما توفى القديس نكتاريوس بطريرك القسطنطينية سنة 397م.

فمن
هنا كلفت بداية اقتحام يوحنا على غير إرادته في السياسة والأمور الإكليريكية
والدنيوية في عاصمة الإمبراطورية، وأيضًا بداية متاعبه.

فقد
اختطف من إنطاكية، خوفًا من أن تمنع جماهير الناس رحيله.

وسيم
أسقفًا على القسطنيطينة سنة 398م. ولا نعرف بالتحديد مدى معارضته لهذا الأمر، ولكن
يبدو أنه لم تُترك له فرصة الاختيار، وتقبلته جموع الشعب في القسطنطينية كما كان
في إنطاكية. وكان عليه أن يواجه طموح بعض الأساقفة والحاشية والبلاط والإمبراطورة
أفدوكسيا والبابا ثيؤفيلس الذي عأرض اختيار يوحنا لكرسي القسطنطينية، وأضمر له
الضغينة.

وإذ
كانت أفدوكسيا متربصة بيوحنا، فلما هاجمها (بأن) شاجب حياة البذخ والفجور
التي تسلكها، كان هذا كافيًا لإرسال القديس يوحنا إلى النفي. ولكنه استمر في تشجيع
المؤمنين برسائله عندما لم يصبح ممكنًا مخاطبتهم شخصيًا.

توفي
القديس يوحنا في 14 سبتمبر سنة 407م. يمجد الله كل حين.

خلال
فترة كهنوته في إنطاكية ألقى القديس يوحنا سلسلة من العظات عن مَثل لعازر والغني
ربما سنة 388م أو 398م[3].

وقد
بدأها في 2 يناير، مشيرًا إلى الاحتفالات الصاخبة للإله ساتورن في اليوم السابق
لبداية السنة الجديدة. فبينما الاحتفالات والعربدة والسيرك مقامة، فإن جموع
المؤمنين أعضاء الكنيسة كانوا يستمعون ليوحنا حاثًا إيّاهم أن يفعلوا كل الأشياء
لمجد الله[4]، وفي اليوم
التالي عند عودتهم للكنيسة فإنه يقدم لهم هذا المثل، وفي مناسبتين متتاليتين ربما
يوميّ السبت أو الأحد التاليين يستمر في عظته عن المثل. وفي مرة رابعة يقول
لمستمعيه أنه كان سوف ينهي تفسير المثل لولا ضرورة عمل التمجيدات للشهداء القديس
بابيلوس والقديس جوفينتوس والقديس مكسيمنوس[5].

يوم
عيد القديس بابيلوس 24 يناير أي بعد حوالي ثلاثة أسابيع من عظته الأولى عن لعازر،
ويوم تكريم جوفينتوس ومكسيمنوس، بعد ذلك بأيام قليلة. وفي مناسبة تالية بعد ذلك
يختم القديس يوحنا المثل بالعظة الرابعة عنه.

وبعد
ذلك بأسبوع تقريبًا يبدأ عظته الخامسة من سلسلة عظاته بقوله أنه يمكنه أن يقول
المزيد عن هذا المثل. ولكن لكي لا يُتخم المستمعين فإنه سيناقش آية أخرى.

وفي
عظته السادسة والسابعة أيضًا كان المثل مازال في ذهنه وأيضًا في ذهن مستمعيه.

وفيما
بعد ربما في نفس السنة عندما ألقى عظته السادسة بعد حدوث الزلزال، فقد تراءى له أن
هذا هو الوقت المناسب ليكلمهم عن حكم الله وعقابه
وضرورة
اختيار الطريق الصحيح في الحياة قبل فوات الأوان.

و
بدأ عظته السابعة محذرًا هؤلاء الذين يرتادون حفلات السباق بالآية “ادخلوا من
الباب الضيق” فقد جاء إلى ذهن الواعظ بسهولة لعازر
والغني،
الذي مر من الطريق الضيق
والذي مر من الطريق
الواسع على التوالي، فإن مثل لعازر
والغني قد مكن القديس
يوحنا من معالجة العديد من مواضيعه المفضلة
وأولهم
السؤال القديم لماذا نرى الأبرار في معاناة بينما الخطاة في رخاء؟

ويتبعه
السؤال الافتراضي ماذا ينتظر الله منا؟ غني أو فقير،
وبعبارة
أشمل كيف ننال الخلاص؟ العظات الأربعة الأولى قد عالجت نصف آيات المثل جملة جملة

وناقشت
هذه الأسئلة أثناء ذلك.

 

ففي
العظة الأولى: يبحث القديس يوحنا في حياة لعازر
والغني (لو
16: 19-21)، فإن المثل يتغاضى عن نوعية أخلاق كلا من الرجلين،

ولهذا
فإن القديس يوحنا يناقش ما هو الشيء الخطأ في حياة الترف
وما هو
الشيء الصالح في حياة الفقر.

هل
كل الأغنياء يدانون
وكل الفقراء يتبررون؟
كلا… بالرغم من أن الفقير لدية فرصة أفضل، فقد كان الذنب الأساسي للرجل الغني هو
عدم إعطائه صدقات
وإهماله واجبة في
مساعدة جاره، بالإضافة إلى أنه أضر بسلامته هو الروحية، بطريقة حياته المتهاونة.

وعلى
الجانب الآخر فإن لعازر باحتماله بصبر
وعدم تذمر
قد استخدم معاناته وآلامه لحساب بنيانه الروحي.

 ومع أن القديس يوحنا لا
ينكر أن الفقر هو محنة أو بلية فإنه لا يقول شيئًا عن محاولة الخلاص منه، فإن كل
اهتمامه منصبّ على السعادة الروحية
وليست السعادة المادية.
فإننا إذا أردنا أن ندخر لنا كنوزًا في السماء فيجب علينا أن نطيع وصية محبة
جيراننا
وأن نمارس البساطة التي تفي بأغراضنا لمنفعة
نفوسنا.

 

وفي
العظة الثانية: ينتقل القديس يوحنا إلى موت كلا من الرجلين (لو 16: 22-24)،
فالموت يبين من هو الغني الحقيقي
ومن هو الفقير الحقيقي،
فإن الرجل الذي كان يعيش وحيدًا أصبح يتلقى التكريم من الملائكة،

والرجل
الآخر فقد كل خدمة
وأصبح يرقد وحيدًا في
الهاوية.

فالقديس
يوحنا لدية الكثير ليقوله عن الواجبات الإيجابية للأغنياء، فيجب عليهم أن يوقفوا
ممتلكاتهم كمخازن للفقراء مشاركين لهم في غناهم بصرف النظر عن نوعية أخلاقيات
هؤلاء المحتاجين. فإننا إذا أنفقنا أكثر مما ينبغي على أنفسنا نستحق جزاء اللصوص
سارقي الأموال.

لا
يقول القديس يوحنا أننا يجب أن نبيع كل الأشياء
ونعطيها
للفقراء، فهو يخاطب هؤلاء الذين لم يُدعوا للرهبنة
ولكن عليهم
أن يجدوا الأسلوب المسيحي للحياة في هذا العالم.
وكغيره من
الأباء أوضح القديس يوحنا أن الملكية الخاصة ليست فكرة مسيحية
Kولكنها
تشريع قانوني.
ولم تكن له ممتلكات
خاصة بل كانت للجميع.

وفي
عظة أخرى يذهب القديس يوحنا إلى أبعد من ذلك
ويقترح
العودة إلى ما كان مطبق أيام الرسل في أن كل شيء من ممتلكات المسيحيين يكون
مشتركًا. ولكنه أيضًا يدرك أن سامعيه غير مستعدين لهذا التغيير الجذري حتى في داخل
المجتمع المسيحي[6]، وبالطبع
ليس لمستمعيه من وسيلة لتغيير النظام الاقتصادي
والاجتماعي
للإمبراطورية الرومانية، ونحن لا نتوقع من القديس يوحنا أن يقدم برنامجًا سياسيًا
فإنه يركز على ما هو واقعي من انتهاز الفرص لفعل الأعمال الصالحة من إعطاء الصدقات

وضيافة
الغرباء
والتي هي متاحة لكل شخص[7].

 

وفي
العظة الثالثة: يبحث القديس يوحنا موقف الغني
وتوسله
الأول إلى لعازر بأن يرسل إليه قطرة ماء وإجابة إبراهيم له (لو 16: 24-26).

فما
هي العلاقة بين سوء حظنا أو نجاحنا
وازدهارنا في هذه
الحياة، وبين الوضع الذي سنكون علية في الحياة الآخرة؟
وهل نستطيع
أن نكسب طريقنا للسماء بمعاناتنا سواء كانت بإرادتنا أو بغير إرادتنا؟. ليس الأمر
هكذا تبعًا لرأى القديس يوحنا،
ولكن إذا تحملنا
المعاناة والألم على الأرض بصبر فإنها تساعدنا على أن نتخلص من بعض خطايانا،

وما
نستأهله من عقاب بسببها. واستعمل تعبير مجازي أن نغتسل أو نتحلل من
خطايانا، وأيضًا تعبير مالي أو قضائي: أن ندفع جزاء ديوننا.

لكل
واحد منا خطاياه بصرف النظر عن مدى صلاحنا، ولكن إن كان الاتجاه العام لحياتنا هو
الفضيلة والصلاح، وإن كنا قد أنهينا آلامنا اللازمة قبل أن نموت، فإننا نحتاج أن
ندرب أنفسنا على الفضيلة حتى تصبح هذه النوعية من الناس الذي يريدنا الله أن نكون
عليها، فإذا كنا فقراء أو مرضى بأمراض مزمنة فإن المريض الذي يتحمل جاهدًا بشكر
فإن هذا يكون نسك وكافي،
وإذا كنا أغنياء
وأصحاء
فيجب أن نتدرب على الحياة البسيطة بإرادتنا حتى نتغلب على أي ميل أو نزعة للخطية

وأيضًا
حتى نُنمِّي فينا ميزة أو فضيلة.

هل
هذا هو الخلاص بالأعمال؟ إن تعأرض الأعمال
والإيمان لم
يكن نقطة خلاف للآباء اليونانيين، بالطبع إن نعمة الله تخلصنا كما كان القديس
يوحنا ينهي صلاته في نهاية كل عظة، نعمة الله تعين إرادتنا الحرة لتعزيز الصلاح
فينا.

 وكراعي
ومعلم
للأخلاق فإن القديس يوحنا يركز على ما هو متوقع منا أن نفعله وفي ختامه للعظة
الثالثة يتكلم عن الهِوة السحيقة التي تفصل بين السماء
والجحيم،
وهذا
يثير قضية الصلوات الشفاعية عن الموتى. فإن آباء الكنيسة الأرثوذكسية ينادون
(بتدعيم من آيات الإنجيل) أن نحدد اختيارنا في هذي الحياة، أن نكون مع الله أو
ضده، لأنه بمجرد انتقالنا إلى الحياة الأخرى لن نجد أي فرصة للهروب من عذاب
الهاوية،
وهكذا كان القديس يوحنا يخبر سامعيه أن يعملوا
جاهدين لينالوا الفضائل خلال حياتهم، فيجب عليهم ألا ينتظروا الخلاص بصلوات
الآخرين سواء أبيهم الروحي أو من خلال علاقاتهم بالقديسين.

وبالرغم
من ذلك فإن الطقس الكنسي يصلي من أجل الموتى،
وقد ناقش
القديس يوحنا هذا الأمر،
ونسأل ما هو الخير الذي
تفعله صلواتنا للذين ماتوا؟ فإننا من الممكن أن نساعد الذين ما زالوا يتطهرون

وينمون
في معرفة
وحب الله. (الكنيسة الأرثوذكسية لا تدَّعي معرفة
عما يكون علية عذاب المطهر على وجه التحديد). بالنسبة لهؤلاء الذين في الجحيم فإن
صلواتنا عنهم كما يقول معظم آبائنا تقلل من عذابهم؟؟
ولكن لا
تعتقهم منه[8].

وهنا
فالقديس يوحنا مثل سيده يتمنى لو أنه يؤثِّر في سامعيه بضرورة سلوك طريق الصلاح في
هذه الحياة.

 

وفي
العظة الرابعة: يتابع بحث موقف الغني
وتوسله
الثاني بإرسال لعازر لإخوته (لو 16: 7-31).

إننا
إذا لم نتلقى رسل من الآخرة فلماذا نؤمن بوجود دينونة بعد الموت؟

أولاً:
لدينا
موسى
والأنبياء وكل الكتب المقدسة.

ثانيًا:
إن
العقل يقول لنا إن كان الله عادلاً،
وإذا كان الناس لا
يحصلون على ثوابهم في هذه الحياة، إذن فلابد أن هناك وقت لتعويضهم

ومكافأتهم
بعد الموت.

ثالثًا:
إن
الله قد أعطى لنا التزام الضمير،
وهذا الضمير يجب أن
يحثنا لكي نعترف بخطايانا (من الواضح أن القديس يوحنا كان يفكر في الاعتراف إلى
الله في خصوصية فلم يكن سر الاعتراف على يد الكاهن قد أصبح شائعًا بعد)، فإننا إذا
تُبنا
واعترفنا بخطايانا فإن الله يغفر لنا
ويسمعنا
ويساعدنا
لنصبح أبرارًا. ذكر موضوع التزام الضمير القديس يوحنا بيوسف
وإخوته
وكيف
أن ضميرهم قد بكتهم حتى قبل أن يعترفوا على يوسف في مصر،
ويوسف نفسه
مَثله مثل لعازر، قدم مثلاً في الثقة بصبر في العناية الإلهية.

والقديس
يوحنا يختم العظة بتلخيص لما قاله في هذه العظات الأربعة. فإننا إذا أخطأنا (كما
الجميع يخطئون)، فإننا لابد أن نتوب
ونعترف
ولابد
لنا أن نعطي صدقات
ونمارس الصلاح والفضيلة
حتى نتخلص من خطايانا
Kونعد أنفسنا للحياة السمائية.
وفي
وقت لاحق ربما في نفس السنة حدث زلزال
وسبَّب
أضرار
ومصائب في إنطاكية، فبدأ القديس يوحنا يعظ
قائلاً: كيف أنهم قضوا ثلاثة أيام في الصلوات،
والآن انتهى
الزلزال،
وهذه العظة أطول وأقل فصاحة
من عظاته السابقة
؟؟، فيُعتقد أن القديس يوحنا كان يرتجل الحديث مستخدمًا ما
يحضر في ذهنه وقتيًا، ما يوحى إليه من خلال الموقف، وهو مدرك أن هذا الموضوع مألوف
لمستمعيه، ولكن يسألهم أن يستمعوا بصبر
وانتباه
محاولاً مرارًا أن يستدعي أفكاره للموضوع فيقول إن هذا الزلزال يجب أن ينبهنا إلى
عقاب الله وقد نجونا هذه المرة، فالفقير يجب أن يتحلى بالصبر
والغني يجب
أن يعطي الصدقات، كل فرد يجب أن ينشد الصلاح، الغني
والفقير،
الرجال
والنساء، الأحرار والعبيد،
وعند هذه النقطة يستطرد القديس يوحنا عن العبودية، فكل الجنس البشرى خُلق حرًا من
حواء وآدم، فالعبودية قد دخلت بسبب خطية حام الذي نظر عِري نوح وجلب على نفسه
لعنات أبيه.

وجهه
النظر المسيحية أن العبودية الحقيقية هي أن يصبح الإنسان أسيرًا للخطية، وأن
العبودية للفضيلة هي الحرية الحقيقية، وهنا يستعمل القديس يوحنا نوعًا من تضاد
العبارات الذي كان مشهورًا به الفلاسفة الرومانيين. وقد ذكَّره موضوع العبودية
بأنسيموس العبد الذي بتقواه وصلاحه أصبح حرًا.

 ولا
يذهب القديس يوحنا إلى أبعد من ذلك فلا يقول أن المسيحيين عليهم أن يعتقوا عبيدهم
مع أن البيزنطيين الأتقياء كانوا يفعلون ذلك بإرادتهم عندما يدخلون حياة الرهبنة[9]،
ولكن المجتمع لم يكن مهيأ بعد لموضوع العتق العام للعبيد.

وبالنسبة
لنا هل نحن مستعدين لأن نتقبل كل الجنس البشري أحرارًا في الله مهما كان وضعهم
الاجتماعي أو عملهم.

وتعود
العظة إلى الموضوع المعتاد عن الجزاء الذي تلقاه لعازر
والجزاء
الذي تلقاه الرجل الغني، فمكافأة الرجل الغني على أفعاله الصالحة تلقاها في هذه
الحياة، حتى لا تقلل هذه الأعمال من عقابه في الآخرة، فقد كان يستطيع أن يساعد
نفسه إذا ما شاركه غناه. ففي الحقيقة ليس الحق أن يطلب التخفيف من عذابه،

وجزاء
خطايا لعازر “أيًا كانت” قد استوفاها في هذه الحياة لئلا ينتقص من
تعزياته في الآخرة.

وفي
نهاية العظة يضيف القديس يوحنا أن الإنسان الذي يضع نفسه في آلام وأتعاب في هذه
الحياة تفوق خطاياه يصل إلى السماء
ومعه رصيده الذي يبرره،
ويمكن أن يهبه هذا بركات كثيرة ويصبح من بين المباركين في السماء.

 

وفي
العظة الأخيرة عن مَثل لعازر
والرجل الغني، بدأها
القديس يوحنا بتحذير هؤلاء الذين يترددوا على حفلات السباق بالآية “ادخلوا من
الباب الضيق” (مت 7: 13-14)، لماذا كانت حفلات السباق مشكلة خطيرة؟ ففيها
المصارعة
وسباق العجلات والقتال بين
المصارعين
والحيوانات، وأيضًا عروض غير لائقة بين الفقرات.
فيقول القديس يوحنا أن المسيحيون الذين يشاهَدون في حفلات السباق يعطون مثلاً
سيئًا للمأمول لهم أن يعتنقوا المسيحية، فبجانب أنهم يضيعون وقتهم فإنهم فوق ذلك
يلغون عمل الروح الذي يعتني بهم في الكنيسة. ربما هم مثل بعض الناس في هذه الأيام
الذين يجعلوا الرياضة بديلاً للدين بحماسهم لبطل رياضي أو لآخر. على أي حال فهم
يسلكون الطريق السهل
وسينتهون إلى نهايته
السيئة.

الطريق
الرحب
والباب الضيق ذكَّرا الواعظ بمثليْهِ المفضَّلين
عن الرجل الغني في الطريق السهل ولعازر في الطريق الصعب، وبالإضافة لما قاله من
قبل فهو يناقش السؤال هل الغنى هو حقيقة شيء جيد
وهل الفقر
شر؟ مرة أخرى يستعمل تضاد العبارات مثل الطريقة الروائية فالرجل الغني قد تلقى في
حياته ما اعتقد أنه صالح
، ولكن لم يدرك أن هناك أشياء أخرى أكثر
صلاحًا، وعلى الجانب الآخر فإن لعازر تقبل ما اعتقده الرجل الغن
ى شر (الفقر
والمرض)،
نظر إلى ما وراء المظاهر
وجاهد من أجل الأشياء
الصالحة فعلاً
وهي الفضيلة
والمكافأة
السمائية.

العظات
الأربع الأولى ترجمت من قبل إلى الإنجليزية بواسطة [10]
F. Allen وقد قمت بمراجعتها بوجه عام على أي حال هذه الترجمة حديثة نقلاً
عن نص نشر ب
Migne PG 48. 963-1054، وقد أغفلت العظة الخامسة وبعض الفقرات الغير متعلقة بموضوع الغنى
والفقر.

وعن
شواهد الكتاب المقدس استخدمت ترجمة النسخة الأصلية المعدلة إلا إذا كان معنى العظة
يتطلب ترجمة مختلفة.

بالنسبة
للعهد القديم استخدم القديس يوحنا بالطبع الترجمة السبعينية
ولا يوجد
إشارة لهذا في الحاشية.

أود
أن أشكر الأسقف
(of Diodia) Kallistos – والأب جون مايندروف – جانيت بيرو – ويندي ودونيل بام
وكيف – لورانس ستيفن
وعائلتيّ نثنائيل
– مرجريت
وأبي جورجي روث لمعاونتهم وتأييدهم.

 كاترين ب. روث

إنجلترا
Bicester

مايو
1984



[1] تاريخ
القديس يوحنا
D. Attwater

القديس يوحنا الذهبي الفم
راعيًا وواعظًا،
Milwaukee 1939,

القديس يوحنا الذهبي الفم وعصره Dom C. Baur, O.S.B. London 1959

[2] أحصى القديس يوحنا العشر من
الأغنياء والعشر من الفقراء،

  (مقالة عن إنجيل متى 66.3, PG 58. 630  )

  

66.3, PG 58. 630

 

[3] PG 48. 963-1054.

[4] PG 48. 953-961.

[5] PG 50. 527-533, 571-578.

[6] انظر
التعاليم المسيحية الأولية
C. Avila, Ownership: (New York: Mary Knoll 1983.)

[7] عظة عن
أعمال الرسل
1103,
PG 60, 96-98.

For information on Byzantine
alms giving see D. constantelos, Byzantine Philanthropy and Social Welfare (
new Brunswick, New Jersey, 1968).

[8]  أسقف كاليستوس ( Kallistos Ware)   “جسد واحد في المسيح وموت وشركة مع القديسين”    

Sobormos7/ ECR 3:2 (1981) 179-191  

 

[9] See
the Index of Constantelos, Byzantine Philanthropy and Social Welfore “Slares,
freeing of.”

 

[10]  4 محاضرات (مقالات) ليوحنا
الذهبي الفم عن مثل لعازر
والرجل
الغني ترجمة:

B.A – F. Allen

(london 1869)

 

 

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى