علم

قيامة المسيح – لا تلمسينى



قيامة المسيح – لا تلمسينى

قيامة
المسيح – لا تلمسينى

كيرلس
الأسكندرى

قيامة
المسيح

من
شرح إنجيل يوحنا للقديس كيرلس الأسكندري

يو1:
20-9


وفي أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية إلى القبر باكرًا والظلام باق فنظرت الحجر
مرفوعًا عن القبر. فركضت وجاءت إلى سمعان بطرس وإلى التلميذ الآخر الذي كان يسوع
يحبه وقالت لهما أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه. فخرج بطرس والتلميذ
الآخر وأتيا إلى القبر. وكان الاثنان يركضان معا فسبق التلميذ الآخر بطرس وجاء
أولاً إلى القبر. وانحنى فنظر الأكفان موضوعة ولكنه لم يدخل. ثم جاء سمعان بطرس
يتبعه ودخل القبر و نظر الأكفان موضوعة. والمنديل الذي كان على رأسه ليس موضوعًا
مع الأكفان بل ملفوفًا في موضع وحده. فحينئذ دخل أيضًا التلميذ الآخر الذي جاء
أولاً إلى القبر ورأى فآمن. لأنهم لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم
من الأموات ”.

 

لم
تكن هذه المرأة الرائعة التقية لتحتمل أن تلزم بيتها وتترك القبر، لولا خوفها من
كسر الوصية بخصوص السبت والعقوبة التي تنزل على الذين يخالفونها، مما خفف من
غيرتها المشتعلة، ولذلك خضعت للوصية بحفظ السبت، ولكنها ظلت منشغلة بالتفكير في
ذاك الذي كان محور اهتمامها وأشواقها. ولكن حينما مضى السبت، وبدأ فجر الأحد،
فإنها أسرعت إلى القبر، وعندما نظرت الحجر مرفوعًا عن باب القبر، سيطرت الشكوك على
عقلها. وإذ تذكرت عداوة اليهود الشديدة، ظنت أن جسد يسوع قد أُخذ من القبر ونسبت
إليهم هذه الجريمة إضافة إلى شرورهم الأخرى.

 

وبينما
كانت منشغلة هكذا وتقلّب كل هذه الاحتمالات في فكرها، فإنها جاءت إلى الرجال الذين
أحبوا الرب، لتحصل على مساعدة أكثر التلاميذ التصاقًا بالرب في بحثها عن يسوع.
وكان إيمانها عميقًا وقويًا ولذلك فلم ينقص المسيح في نظرها بسبب موته على الصليب،
بل حتى وهو ميت فهي تدعوه “الرب” كما كانت تدعوه دائمًا قبل موته، وبهذا
ظهر أن لها محبة حقيقية لله.

 

عندما
سمع الرجلان – أي بطرس ويوحنا (كاتب هذا الإنجيل، الذي يعطي لنفسه اسم التلميذ
الآخر)، هذه الأخبار من فم مريم – ركضا بأقصى سرعة ممكنة وأتيا إلى القبر ونظرا
الأعجوبة بأعينهما، وهكذا صارا مؤهلين للشهادة عن القيامة لأنهما كانا اثنين في
العدد وذلك حسب وصية الناموس (” على فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كل كلمة”
تث15: 15). ورغم أنهما لم يكونا قد التقيا بعد بالمسيح قائمًا من بين الأموات،
إلاّ أنهما استدلا على قيامته من وضع الأكفان، وأنه قد حطم رباطات الموت – كما سبق
أن تنبأت الكتب المقدسة منذ القديم. ولذلك، فيما بعد، حينما نظرا إلى ما حدث في
ضوء النبوات التي تأكد صدقها (بالقيامة)، فإن إيمانهما صار راسخًا ومؤسسًا على
أساس ثابت…..

 

يو10:
20-11


فمضى التلميذان أيضًا إلى بيتهما. أما مريم فكانت واقفة عند القبر خارجًا تبكي ”.

بعد
أن جمع التلميذان الحكيمان الدليل الكافي على قيامة مخلصنا‍ وكانا ينميان في
الإيمان الأكيد وغير المُزعزع، ويقارنان الأحداث كما حدثت فعلاً بأقوال الأنبياء
في الكتب المقدسة، فإنهما رجعا بسرعة إلى البيت ليطلعا شركائهما (أي بقية
التلاميذ) على المعجزة التي حدثت، وبعد ذلك يقرر الجميع ماذا سيفعلون.

 

كانت
مريم المجدلية بسبب محبتها للمسيح، متحررة من كل خوف ولم تفكر في غضب اليهود، لذلك
جلست تراقب القبر، وإذ كانت في حزن كثير كامرأة فإنها صارت تبكي كثيرًا، وتمسح
الدموع التي تفيض باستمرار من عيونها، وتنوح ليس فقط لأن الرب مات، بل ايضًا لأنها
ظنت أن جسده أُخذ من القبر.

 

يو11:
20-13


أما مريم فكانت واقفة عند القبر خارجًا تبكي وفيما هي تبكي وفيما هي تبكي انحنت
ونظرت داخل القبر. فنظرت ملاكين بثياب بيض جالسين واحدًا عند الرأس والآخر عند
الرجلين حيث كان جسد يسوع موضوعًا. فقالا لها يا امرأة لماذا تبكين؟ ”.

 

لنلاحظ
أن الدموع التي تُسكب لأجل المسيح لا تضيع بدون مكافأة، ولا يمضى وقت طويل قبل أن
تثمر محبتنا للمسيح ثمرتها، فإن نعمته ومكافأته الغنية ستحيط بنا تمامًا في طريق
الألم. لأنه، بينما كانت مريم خارجًا تبكي، وتلطم خديها، نائحة على الرب حبيبها
الذي فقدته، منحها المخلص أن تعرف سره بفم الملائكة القديسين. فقد رأت ملاكين
بثياب بيضاء، وهذا يشير إلى الجمال الكامل للنقاوة الملائكية. وهذان الملاكان
قاطعا نوحها وقالا لها: ” يا امرأة لماذا تبكين؟”. وهما لم يكونا يسألان
عن سبب بكائها، لأنهما كانا يعرفان السبب حتى لو لم تخبرهما هي عنه، بل إن الظروف
نفسها كانت كافية لكشف سبب بكائها. ولكنهما يطلبان منها أن تكف عن البكاء لأن
الوقت ليس وقت الدموع، ولأنها جعلت القيامة التي هي سبب الفرح، سببًا للحزن. وحقًا
يقولان لها: لماذا تبكين والموت قد قُهر، والفساد فقد سلطانه، والمسيح مخلصنا قد
قام، وخلق طريقًا جديدًا يعود به الموتى من الفساد إلى الحياة. لماذا، تخطئين في
اختيار الوقت يا امرأة، ولماذا أنت مثقلة هكذا بآلام مريرة بينما الأحداث نفسها
تدعوك إلى الفرح؟، لأنك بالحقيقة ينبغي أن تفرحي وتبتهجي. “لماذا إذن
تبكين؟”، إذ أنك بهذه الدموع تقللين من الكرامة اللائقة بحدث مفرح كهذا.

 

ظهر
الملاكان ” جالسين واحدًا عند الرأس والآخر عند الرجلين، حيث كان جسد يسوع
موضوعًا”، وكأنهما بهذا يوضحان للمرأة التى ظنت أن الرب قد أُخذ بعيدًا، أنه
ليس هناك من يستطيع أن يأخذ الجسد المقدس بينما الملائكة تقوم بالحراسة والقوات
المقدسة تحيط بهيكل الله[1] لأن كل هؤلاء يعرفون ربهم.

 

يو13:
20-14


قالت لهما إنهم أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه. ولما قالت هذا التفتت إلى الوراء
فنظرت يسوع واقفًا ولم تعلم أنه يسوع ”.

 

مريم
لا تكف عن أن تدعو المسيح بالرب مما يدل على محبتها له، ولذلك سمح لها أن تتمتع
برؤية من تبحث عنه. فقد رأت يسوع ولكنها لم تفكر أنه هو الذي يقف بالقرب منها.
ولماذا؟

 

السبب
في عدم معرفتها، إمّا لأن المسيح مخلصنا أخفى – بقوته الإلهية – نفسه عنها، ولم
يسمح لها أن تتعرف عليه بسهولة؛ أو بسبب أن الوقت كان باكرًا جدًا في الصباح، فلم
تستطيع أن تميز بسهولة ما هو أمام عينيها، فالظلام الباقي منعها من ذلك فلم تكتشف
ملامح الشخص الذي كان يقترب منها. ويشير الرب يسوع المسيح نفسه في نشيد الأنشاد[2]
إلى سيره في الظلام في هذه الليلة وإلى رطوبة ندى الصباح بهذه الكلمات: ” لأن
رأسي امتلأ من الطل، وقُصصي من ندى الليل” (نش2: 5).

 

يو15:
20


قال لها يسوع يا امراة لماذا تبكين من تطلبين فظنت تلك أنه البستاني فقالت له يا
سيد إن كنت أنت قد حملته فقل لي أين وضعته وأنا آخذه ”.

 

إذ
كان الظلام لا يزال باقيًا والليل لم يكن قد مضى كلية، فإنها ترى يسوع الذي كان
واقفًا بالقرب منها ولكنها لم تعرف من هو لأنها لم تكن قادرة على أن تميّز شكل
جسده أو ملامحه، ولكنها سمعته يقول: ” يا امرأة لماذا تبكين؟”.

 

كانت
كلمات المخلص رقيقة بحيث كان يمكن أن تبعث فيها هذه الرقة، الشك بأنها صادرة من
بستاني. وأيضًا حينما تكلم معها الرب هكذا، لم يكن في حقيقة الأمر يسألها عن سبب
بكائها ولا كان يريد أن يسألها عمن تبحث عنه، بل كان بالحرى مهتمًا أن يُوقف نوحها
وبكاءها مثلما كان يريد الملاكان تمامًا.

 


لماذا إذن تبكين يا امرأة؟”، هكذا قال لها، من تطلبين؟ فكأنه يقول لها، امسحي
دموعك، لأن الذي تبكين عليه وتبحثين عنه هو أمامك. أنا هو الذي تنوحين عليه. أنا
هو الذي كنت ميتًا وقد مُتَ بهذه الطريقة البشعة، وأنت تبكين علىّ كأنني حُملت
بعيدًا عن القبر. ولكن ها أنا حي، وها أنا هنا، فكفي عن نوحك وبكائك بل بالعكس
افرحي. وهكذا فإنه أراد بهذا السؤال أن يضع نهاية لأحزانها.

 

لأنه
كان من اللائق أن يردنا الرب إلى الفرح بهذه الطريقة. لأنه بمعصية آدم – الذي هو
باكورة الجنس البشري سرى الحكم إلى العالم كله: ” إنك تراب وإلى التراب
تعود” (تك19: 3). وقيل للمرأة بوجه خاص ” بالحزن تلدين أولادًا”
(تك16: 3). فكان نصيب المرأة بواسطة العقوبة هو كثرة الحزن. ولذلك، كان من الضروري
أن ذات الفم الذي أصدر الحكم هو نفسه الذي يرفع ثقل اللعنة القديمة، وهو المسيح
مخلصنا، الذي يمسح الآن الدموع من عيون المرأة بل بالحرى من كل النساء عن طريق
مريم المجدلية التي هي كباكورة لهن. فلأنها، وهي أولى النساء كانت حزينة جدًا على
موت المخلص وكانت تنوح عليه، فقد حُسبت مستحقة أن تسمع الصوت الذي أوقف بكائها.
ولكن قوة الكلمة تمتد في الحقيقة إلى كل جنس النساء اللائي يتألمن من كل عداوة
تثور ضد المسيح، واللائي يكرِّمنَ الإيمان به واللواتي يَصدُق عليهن قول المزامير:
” ألاّ أبغض بغيضك يارب وأتألم من الذين يقاومونك؟ بغضًا تامًا أبغضتهم،
وصاروا لى أعداء” (مز21: 139و22).

 

وفي
حين أن ربنا يسوع المسيح يقول لها هذا لكي يضع حدًا لبكائها، فإنها ظنت أن الذي يكلمها
هو البستاني، وأظهرت كل الاستعداد أن تأخذ الجسد إلى مكان آخر لو أنه دلّها أين
وضعه. لأنها لم تكن قد أدركت بعد سر القيامة العظيم، فكانت مضطربة بالشكوك.

 

يو16:
20


قال لها يسوع يا مريم. فالتفتت تلك وقالت له (بالعبرانية): ربوني، الذي تفسيره يا
معلم ”.

 

إنه
يناديها لكي يجعلها تتعرف عليه، فقد استنار عقلها حينما ناداها، ثم سمح لها أن
تتفرس فيه بدون مانع أو عائق، لأنها بالحقيقة أحبته محبة شديدة. وهو هنا يكاد
يوبخها على بطئها في إدراك أنه المسيح، فشيئ من هذا الوبيخ كامن في معنى ندائه لها
باسمها. وفي الحال فهمت قصده، وبرؤيتها له طرحت جانبًا شكوكها الأولى، وقدمت له
تحية التكريم المعتادة قائلة له: “ربوني” أي يا معلم أو يا سيد. وإذ قد
امتلأ عقلها بفرح سماوي أسرعت بشوق شديد لكي تمسك جسده المقدس، وتنال منه بركة.

 

لا
تلمسيني:

يو17:
20 ” قال لها يسوع، لا تلمسيني لأنني لم أصعد بعد إلى أبي ”.

لا
يفهم العامة معنى هذا القول بسهولة، لأن فيه سر خفى، ولكن يجب أن نبحث فيه
لفائدتنا. وسوف يمنحنا الرب أن نعرف كلماته. فبينما كانت المرأة تجري نحوه، ورغم
أنها اشتاقت أن تحتضن قدميه فإن الرب منعها وأوقفها، وذكر سبب منعه إياها بقوله: ”
لأنني لم أصعد بعد إلى أبي”، ويلزمنا أن نبحث عن معنى هذا القول. فماذا يعنى
أنه لم يصعد بعد إلى أبيه؟ وكيف يمكن أن يكون عدم صعوده سببًا كافيًا لمنع أولئك
الذين أحبوه من لمس جسده المقدس؟.

 

إن
كل من يتصور أن الرب رفض أن تلمسه المرأة لكي لا يتدنس بلمستها، وأنه تكلم بهذه
الكلمات لكي يكون نقيًا حينما يصعد إلى الآب في السماء، كل من يفكر هكذا يكون
مستحقًا لكل لوم ويستحق أن يُوصف بالحماقة والجنون. لأن طبيعة الله لا يمكن أن
تتدنس مطلقًا. وكما أن شعاع الشمس عندما يسقط عل كومة من روث البهائم أو على أي شئ
آخر من الأشياء الأرضية النجسة، فإن الشعاع لا يتدنس – بل يظل كما هو أي غير مُلوث،
ولا يشترك في أي رائحة كريهة من القاذورات التي يسقط عليها، فكم بالحري طبيعة الله
الكلية لقداسة، فإنها لا تسمح لأي عيب أو دنس أن يؤثر فيها.

 

إذن
ما هو السبب في منع مريم من لمسه حينما اقتربت منه واشتاقت أن تلمسه؟ وماذا يمكن
أن يكون قصد الرب حينما يقول: ” لأني لم أصعد بعد إلى أبي”، ينبغي أن
نفتش عن معنى هذه الكلمات بأقصى طاقتنا.

 

لذلك
نقول، إن مجيء المخلص إلينا كان له أهداف متعددة. ولكن الهدف الرئيسي بين كل هذه
الأهداف هو ما عبّر عنه بكلماته هو نفسه عندما قال:

 


لم آت لكي أدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة ” (مت13: 9).

 

فقبل
صلب المخلص وقيامته من الأموات، أي حينما لم تكن خطة تدبيره قد وصلت بعد إلى
غايتها، فإنه كان يخالط كلاً من الأبرار والخطاة، ويأكل مع العشارين والخطاة، وكان
يسمح لكل من يريد، أن يأتي إليه ويلمس جسده المقدس، وذلك لكي يقدس كل البشر
ويدعوهم إلى معرفة الحق، ولكي يعيد إلى الصحة والشفاء أولئك الذين كانوا مرضى
وضعفاء من كثرة ممارسة الخطية. لذلك يقول أيضًا في موضع آخر: ” لا يحتاج
الأصحاء إلى طبيب، بل المرضى” (لو31: 5). ولذلك فقبل قيامته من الأموات كان
يعاشر الأبرار والخطاة بدون تفرقة أو تمييز. ولم يطرد أبدًا أحد من الذين أتوا
إليه. بل إنه حينما كان متكئًا في بيت أحد الفريسيين، جاءت إليه امرأة كانت خاطئة
في المدينة، وكانت تبكي (لو37: 7و38)، وقد حلت ضفائر شعرها وهذا يدل على عدم
تحررها التام من خدمة خطاياها السابقة، ومسحت قدميه بشعرها، أما هو فلم يمنعها.
وكذلك حينما كان ذاهبًا لكي يقيم ابنة رئيس المجمع من الموت، جاءت ” امرأة
بنزف دم ولمست هدب ثوبه” (لو43: 8و44)، ونجد أنه لم يغضب بالمرة، بل أنعم
عليها بالثقة المعزية بقوله: ” ثقي يا ابنة إيمانك قد شفاك. اذهبي
بسلام”.

 

في
ذلك الوقت فإن الناس الذين كانوا لا يزالون نجسين، والذين كانوا متدنسين عقلاً
وجسدًا، هؤلاء حسب تدبيره، كان يسمح لهم أن يلمسوا جسد المسيح مخلصنا نفسه بلا
مانع أو عائق، وبذلك يحصلون منه على كل بركة. ولكنه بعد أن أكمل تدبير فدائنا، بعد
أن احتمل الصليب والموت عليه، وبعد أن قام حيًا وأظهر أن طبيعته أعلى من الموت،
فإنه منذ ذلك الحين بدأ يمنع أولئك الذين يأتون إليه من لمس جسده المقدس، وبذلك
أعطانا مثالاً تسير عليه الكنائس المقدسة فيما يختص بالسر الخاص به[3].

 

فكما
أن الناموس الذي أُعطى بواسطة موسى الحكيم فيما يخص ذبح الحمل – الذي يرمز للمسيح
– يقول: ” لا يأكل منه أي أغلف” (خر48: 12)، أي غير مختون فهو يعنى أن
غير المختون هو غير طاهر. وهو مثال للطبيعة البشرية غير الطاهرة. لأن ما هى طبيعة
الإنسان بالمقارنة بنقاوة الله الطبيعية. لذلك إذ ظللنا غير مختونين، أي غير
طاهرين فعلينا أن نمتنع عن لمس جسده المقدس، ولكن حينما نصير أطهارًا بالختان
الحقيقي للروح فإننا يمكن أن نلمسه، لأن ” ختان القلب هو بالروح” كما
يقول بولس (رو29: 2).

 

إعطاء
الروح القدس يسبق لمس جسد المسيح:

ولا
يمكن أن نُختتن روحيًا إن لم يسكن فينا الروح القدس بالإيمان والمعمودية المقدسة.
لذلك فقد كان لائقًا أن تُمنع مريم مؤقتًا من لمس جسده المقدس، لأنها لم تكن قد
نالت الروح القدس. فرغم أن المسيح قام من الأموات، ولكن الروح لم يكن قد أُعطى
للبشرية من الآب بواسطة المسيح. ولكنه حينما صعد إلى الآب، أرسل الروح إلينا، حسب
قوله: ” خير لكم أن أنطلق، لأني إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي. ولكن إن ذهبت،
سأرسله أليكم” (يو7: 16). فلأن الروح القدس لم يكن قد نزل بعد ألينا، لأن
المسيح لم يكن قد صعد بعد إلى الآب، فهو لهذا السبب منع مريم من لمسه لأنها لم تكن
قد أخذت الروح، قائلاً لها: ” لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي”، أي
لم أرسل لك بعد الروح القدس.

 

التقديس
بالروح القدس يسبق التناول من الجسد والدم:

ومن
هنا فإن هذا المثال ينطبق على الكنائس. فإننا نمنع الذين آمنوا بلاهوت المسيح
واعترفوا بالإيمان – أي الذين أصبحوا موعوظين – نمنعهم من الاقتراب من المائدة
المقدسة لأنهم لم ينالوا غنى الروح القدس بعد، فإن الروح لا يسكن في الذين لم
يقبلوا المعمودية. ولكن حينما يصيرون شركاء الروح القدس، فلا يوجد ما يمنعهم من
لمس المسيح مخلصنا. لذلك أيضًا، فكل الذين يرغبون في الاشتراك في الإفخارستيا
المقدسة يقول لهم خدام الأسرار الإلهية: ” القدسات للقديسين “، وبذلك
يعلمونهم أن الاشتراك في القدسات هو المكافأة التي يحصل عليها الذين تقدسوا بالروح.

يو17:
20 ” ولكن اذهبي إلى اخوتى وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم ”.

 

منع
المسيح مريم من لمسه للأسباب التي قدمناها، رغم أنها في محبتها لله كانت تشتاق
جدًا لهذه الهبة؛ ولكنه يكافئها على عنايتها وسهرها ويضاعف تعويضها على إيمانها
الحار ومحبتها له، موضحًا أن الذين يجتهدون في خدمته ينالون مكافأة. ولكن ما هو
أكثر مجدًا أن مريم حققت خلاص المرأة من الضعفات القديمة؛ لأن فيها هي أولاً – أي
في مريم – كلّل جميع جنس النساء بكرامة مضاعفة. فرغم أنها كانت تبكي في البداية
على المسيح، ولكنها حوّلت نوحها إلى فرح عندما أخبرها الرب أن تمتنع عن البكاء،
وهو الذي حكم على المرأة في القديم أن تُغلب بسهولة من الأحزان، لأن الله قال لها:
” بالحزن تلدين أولادًا” (تك16: 3)؛ ولكن كما جعلها تحت الحزن، في
الفردوس عندما أصغت إلى صوت الحية وخدمت حيل الشيطان، هكذا فإنه الآن في بستان
أيضًا يطلب منها أن تمتنع عن البكاء. ولأنه عتقها من اللعنة التي قيدتها بالحزن،
فإنه يطلب منها أن تكون أول مبشر بأخبار الفرح العظيم، وتخبر التلاميذ بصعوده إلى
السماء.

 

لقد
فاقت محبة مريم المجدلية للمسيح جميع الآخرين، وهذا، ربما ما جعل يوحنا يذكرها هي
وحدها من بين النساء الأخريات، فهي أول من رأى القبر، وكانت في ابستان، وطافت
بجميع المواضع القريبة من القبر باحثة عن الجسد لأنها ظنت أن الرب قد أُخذ من
القبر…

 

فالمخلص
أعطى لمريم كرامة ومجدًا وشهرة دائمة بان منحها القيام بواجب البشارة لاخوته حاملة
لهم الأخبار السارة التي يقول فيها: ” إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي
وإلهكم”…

 

لنتأمل
كيف أن كلمة الله الابن الوحيد جاء بيننا، لكي نصير نحن مثله، بقدر ما تحتمل
طبيعتنا أن تبلغ إلى هذا المستوى من جهة خلقتنا الجديدة بالنعمة. لأنه وضع نفسه
لكي يرفع ما هو وضيع أصلاً إلى مقامه العالي الخاص به. ولبس صورة عبد – رغم أنه
بالطبيعة هو الرب وابن الله – لكي يرفع ذلك الذي كان مُستعبدًا بالطبيعة، إلى
كرامة البنوة، جاعلاً إياه على شبهه الذاتي، وعلى صورته. كيف وبأي معنى؟ إنه عندما
صار واحدًا منا كإنسان، لكي يجعلنا نحن أيضًا نصير مثله، أي آلهة وأبناء، فإنه
يأخذ ضعفاتنا في ذاته، ويعطينا صفاته الخاصة، وربما تكون مهتمًا جدًا بهذا السؤال.
وهذا ما سأشرحه على قدر ما أستطيع:

 

أولاً،
رغم أننا عبيد بالرتبة والطبيعة (لأن المخلوقات تحت سلطان خالقها)، فهو الآن
يدعونا اخوته، وجعل الله الآب هو الأب المشترك له ولنا، ولأنه جعل البشرية خاصة به
باتخاذه شكلنا لنفسه، فإنه يدعو إلهنا إلهًا له بقوله ” إلهي “، رغم أنه
ابنه بالطبيعة؛ وذلك لكي نرتفع نحن إلى كرامته الفائقة العظمة بمشابهتنا له (فنحن
لسنا أبناء لله بالطبيعة بل هو الابن الذي يصرخ في قلوبنا بروحه يا أبا الآب (غل6:
4).

 

لذلك،
لا تعثر عندما تسمعه يدعو الله إلهًا له بقوله “إلهي”، بل بالحرى تأمل
كلماته بروح مستعدة للتعلّم وتأمل معانيها الحقيقية بانتباه. فهو يقول إن الله
أبوه وإنه إلهنا أيضًا وكلا القولين صحيح. لأن إله هذا الكون هو بالحق، أب المسيح،
ولكنه ليس أبانا بالطبيعة؛ بل بالحرى هو إلهنا لأنه خالقنا وربنا الذي له كل
السيادة. ولكن الابن، إذ وحّد نفسه بنا بتجسده فإنه منح لطبيعتنا الكرامة التي له
وحده، ودعا ذاك الذي ولده (أي الله الآب) أبًا مشتركًا له ولنا… ومن الجهة
الأخرى، فهو باتخاذه شكلنا، فإنه يقبل في نفسه ما يختص بطبيعتنا، فهو يدعو أباه
” إلهي “، لأنه بسبب غنى محبته ورحمته على جنس البشر لم يشأ أن يحتقر
صورتنا التي قد اتخذها لنفسه. أما من يريد بجهل أن يعترض على هذا القول ” أبي
وأبيكم وإلهي وإلهكم” ولا يقبل أن يقول المخلص عن الله الآب إنه
“إلهه”، فهو بهذا الانحراف في الفهم يطعن في خطة فدائنا ذاتها. وبدلاً
من أن يقدم الشكر الواجب لله صانع الخيرات لنا فإنه يحتقره، ويعترض بغباوة على
الطريقة التي أظهر بها محبته لنا.

 

ولكن
إن كان الابن قد وضع ذاته ” مستهينًا بالخزى” (عب2: 12)، وصار إنسانًا
لأجلك، فإن رفضت تواضعه فإنك ستُدان على ذلك، أما هو الذي اتضع لأجلك، فإن الكرامة
الواجبة له هي عظيمة بلا حدود…

 

لذلك،
إذ هو كامل ومكتفٍ بذاته كلية كإله، فإنه وضع نفسه لأجلك وصار في شبهك، ورغم أنه
مُمجد مجدًا عاليًا كابن الله ومولود من ذات جوهر الآب، فإنه أنزل نفسه، إذ أخلى
ذاته من صفات مجده الإلهي بقدر ما تسمح طبيعته الإلهية بذلك.

 

والآن،
فهو إله وإنسان معًا، إذ هو فائق المجد بسبب أصله الإلهي (لأنه إله من إله
والمولود الحقيقي من أبيه)، وهو أيضًا وُضِعَ لأجلنا (لأنه صار إنسانًا لأجلنا).

 

إذن،
فلتهدأ نفسك حينما تسمعه يقول: ” أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم”.
فمن اللائق جدًا بل والصواب تمامًأ أنه وهو بالطبيعة الإله وابن الله أن يقول عن
ذاك الذي ولده إنه ” أبوه “، ولأنه إنسان مثلنا فيحق أن يقول عن الله
إنه ” إلهه “…

 

دخل
والأبواب مغلَّقة (يو19: 20-20)

 


ولما كانت عشية ذلك اليوم وهو أول الأسبوع وكانت الأبواب مغلَّقة حيث كان التلاميذ
مجتمعين لسبب الخوف من اليهود جاء يسوع ووقف في الوسط وقال لهم سلام لكم. ولما قال
هذا أراهم يديه وجنبه”.

 

في
نفس اليوم الذي ظهر فيه يسوع لمريم وتحدث معها، أظهر نفسه أيضًا للتلاميذ القديسين،
الذين خافوا من هجمات اليهود الشريرة، ولذلك اجتمعوا في منزل معين، وبسبب خوفهم من
اليهود القتلة اختفوا بحكمة على هذا النحو. ثم ظهر لهم المسيح بصورة معجزية خارقة,
لأنه بينما كانت الأبواب مغلّقة – كما يقول الإنجيلي، وقف يسوع في وسطهم فجأة دون
أن يكونوا متوقعين ذلك. إذ أنه بقوته الإلهية الخارقة ارتفع فوق سلسلة الأسباب
والنتائج. وأظهر أنه قادر أن يستغني عن أي خطة أو وسيلة لتحقيق عمله. لذلك لا يجب
أن يسأل أي إنسان، ” كيف استطاع الرب الذي قام بجسد مادي صُلب أن يدخل بدون
أي فتحة، ولم تعوقه الأبواب المغلّقة؟”. فعلى من يسأل هذا السؤال أن يفهم أن
الإنجيلي لا يتحدث هنا عن واحد مثلنا، بل عن الجالس عن يمين الآب، والذي له القدرة
أن يفعل ما يشاء بسهولة. ومن يكون بالطبيعة هو الإله الحق لا يكون خاضعًا لقانون
السبب والنتيجة مثل الخلائق التي تدين له بوجودها. بل هو بالحرى يمارس ربوبيته فوق
كل الضرورات. ويختار الوسائل المناسبة لعمل ما يريد.

 

وإلاّ
كيف استطاع أن يجعل البحر يهيئ له مكانًا صلبًا لقدميه، ويمشى على المياه كما يمشى
على الأرض اليابسة مع أننا لم نخلق بالصورة[4] التي تجعلنا نسير على البحر؟ وكيف
قام بكل معجزاته الباهرة التي تخص الله وحده؟ فإن كانت كل هذه المعجزات تفوق فهم
الإنسان، هكذا أيضًا ضعوا هذه المعجزة مع سائر المعجزات الأخرى. ولا تتبعوا آراء
بعض الناس الذين بسبب غباوة قلوبهم ضلوا عن الحق وتخيلوا بسبب هذه المعجزة أن
المسيح قام بدون جسده البشري. وإنه انفصل تمامًا عن الهيكل الذي اتخذه لنفسه واتحد
به. فإن كنت لا تستطيع أن تفهم عمل الطبيعة الإلهية الفائقة فلماذا لا تعترف
بالأولى بضعف العقل البشري – فهذا منهج حكيم – وتقبل بهدوء الحدود المعينة لك في
المعرفة من قِبل الله الخالق؟ لأن من يرفض الحكمة فإنه يسيئ إلى سر القيامة العظيم
الذي نعتمد عليه كلية. فتذكروا صيحة بولس: ” إن كان الموتى لا يقومون فلا
يكون المسيح قد قام. وإن لم يكن قد قام فباطل إيمانكم أنتم بعد في خطاياكم”
(1كو16: 15و17)، ويقول أيضًا: ” ونوجد نحن أيضًا شهود زور لله لأننا شهدنا من
جهة الله أنه أقام المسيح وهو لم يقمه إن كان الموتى لا يقومون” (1كو15: 15).
لأن ما هو الذي يقوم سوى ذاك الذي سقط؟ ومن يمكن أن يُعاد إلى الحياة إلاّ الذي
انحنى تحت الموت؟ وكيف نتوقع نحن أن نقوم ثانية لو لم يكن المسيح قد أقام هيكله
وجعل نفسه – من أجلنا – باكورة الراقدين والبكر من بين الأموات؟ أو كيف ”
يلبس هذا المائت عدم موت” (1كو53: 15) إذا صح ما يتصوره البعض أن الجسد سوف
يتلاشى تمامًا؟ لأنه كيف نفلت من هذا المصير (مصير العدم) إذا لم يكن لنا رجاء في
حياة جديدة. إذن فلا تتزعزعوا عن الإيمان الأرثوذكسي بسبب أن هذه المعجزة (معجزة
دخوله والأبواب مغلّقة) قد تمت، بل كونوا حكماء، وأضيفوا هذه المعجزة إلى أعمال
المسيح الخارقة التي عملها.

 

دققوا
النظر في هذا الدخول غير المتوقع، فإن المسيح بدخوله والأبواب مغلّقة يُظهر مرة
أخرى أنه هو الله بالطبيعة، ويؤكد لهم أنه هو نفسه الذي عاش معهم قبل ذلك. فهو
يكشف لهم عن جنبه الجريح ويريهم آثار المسامير، وهكذا أعطانا البرهان الكامل أنه
قد قام بجسده أى هيكله الذي عُلق على الصليب، وأنه أعاد إلى الحياة ذلك الجسد الذي
لبسه. وبذلك سحق الموت الذي كانت له القدرة على كل الأجساد. وقد فعل المسيح هذا
لأنه هو بالطبيعة الحياة وهو الله.

 

ولماذا
احتاج أن يريهم يديه وجنبه؟ لأن البعض تصوروا أنه لم يقم بالجسد. ولو كان يريد
ألاّ يعتنق تلاميذه عقيدة قيامة جسده فلماذا لم يظهر لهم بشكل آخر لا علاقة له
بجسده. ولكننا نرى بوضوح أنه أكد الأهمية القصوى لاقتناعهم وإيمانهم بقيامة جسده.
ورغم أن الوقت كان مناسبًا جدًا أن يغيّر جسده إلى شكل وجمال فائق يناسب القيامة،
إلاّ أنه قرر حسب تدبيره وعنايته أن يُظهر جسده بشكله كما كان منذ البداية لكي لا
يتصور أحد أنه يلبس شكلاً آخر غير ذلك الشكل الذي صُلب به. كما أن عيوننا لم تكن
لتستطيع أن تحتمل مجد الجسد المقدس، لو أن المسيح أراد أن يعلن مجد القيامة
للتلاميذ قبل أن يصعد إلى الآب. ونستطيع أن نكوّن فكرة عن مجد جسده حينما نتأمل ما
حدث في التجلى على الجيل أمام التلاميذ القديسين، لأن متى الإنجيلي كتب أن ”
يسوع أخذ بطرس ويعقوب ويوحنا وصعد بهم إلى جبل عال وتجلى أمامهم وأضاء وجهه كالشمس
وصارت ثيابه بيضاء كالنور” (مت2،1: 17) ولم يستطع التلاميذ أن يحتملوا المنظر
فسقطوا على وجوههم.

 

لذلك
كان مناسبًا جدًا ألاّ يغيّر ربنا يسوع المسيح هيكل جسده إلى الجمال الفائق
المناسب للقيامة، بل يظهر بشكله المعروف لديهم لكي لا يعتقد أحد أن جسده الذي أخذه
من العذراء والذي صُلب ومات حسب الكتب، لم يقم، أو أنه أخذ جسدًا آخر في القيامة.
لأن قوة الموت وسلطانه قد قُهرت وطُردت من الجسد. ولو أن جسده الذي مات لم يقم،
فأي نوع من الموت هو الذي أُبطل وسُحق؟ وبأي طريقة أُبطلت قوة الفساد؟ لأنه بدون
موت جسده وقيامته لا يمكن أن تتلاشى قوة الموت، لا بموت النفس ولا بموت ملاك ولا
حتى بموت كلمة الله نفسه، لأن قوة الموت كامنة في ذلك الجسد الذي هو فاسد بالطبيعة.
كما أن قوة القيامة خاصة بهذا الجسد وبالجسد وحده. الذي بواسطة موته وقيامته انتهى
سلطان رئيس هذا العالم.

 

لذلك
فدخول ربنا يسوع والأبواب مُغلّقة يجب أن يوضع ضمن المعجزات الأخرى التى أجراها.

 

ثم
بعد ذلك حيا تلاميذه القديسين بقوله: ” سلام لكم”، وعندما قال
“سلام” فقد كان يعنى ذاته. لأنه حيثما يحل المسيح بين الناس يحل السلام
والهدوء في عقولهم. إنهم ينالون سلام العقل الذي وصفه بولس بأنه مكافأة اذلين
يؤمنون بالمسيح وذلك عندما قال ” وسلام المسيح الذي يفوق كل عقل يحفظ قلوبكم
وأفكاركم” (في7: 4). وهولا يعنى ” بسلام المسيح ” الذي يفوق كل عقل،
سوى روحه القدوس الذي كل من يشترك فيه فإنه يمتلئ بكل ما هو صالح.

 

يو20:
20 ” ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب ”.

 

إن
الإنجيلي المبارك يشهد هنا لصدق كلمات المخلّص، حينما يقول إن التلاميذ امتلأوا
بالسلام وفرح القلب حينما رأوا يسوع، لأننا نتذكر الأقوال المملوءة سرًا التي
حدثهم بها الرب عن صليبه الثمين وقيامته من بين الأموات قائلاً: ” بعد قليل
لا تبصرونني، ثم بعد قليل أيضًا ترونني.. فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم
منكم” (يو22،16: 16). فقد فرح اليهود الذين امتلأت قلوبهم بالحقد، عندما رأوا
يسوع مُسمّرًا على الصليب. بينما قلوب التلاميذ كانت مثقلة بحزن لا يُحتمل. ولكن
لأنه هو بالطبيعة “الحياة” فقد غلب قوة الموت وقام، وبذلك تلاشى فرح
اليهود بينما تحوّل ثقل حزن التلاميذ القديسين إلى فرح. ولم يستطع شئ أن يمنع
نفوسهم عن الفرح والبهجة. والمسيح إذ قد مات مرة من أجل الجميع لكي يبطل الخطية لا
يموت مرة أخرى، إذ هو حي إلى الأبد. وهو بكل تأكيد سيحفظ أولئك الذين وضعوا رجاءهم
فيه وسوف يحفظهم في فرح لا ينقطع.

 

وها
هو يحييهم ثانية بالسلام الذي أعطاهم من قبل: ” سلام لكم” وقد أسس بذلك
هذه القاعدة لأبناء الكنيسة. لذلك أيضًا فحينما نوجد خاصة في اجتماعات في الأماكن
المقدسة، عندما نحتفل بسر الإفخارستيا المبارك فإننا نقول لبعضنا البعض ”
سلام لكم ” لأن وجودنا في سلام بعضنا مع بعض وفي سلام مع الله هو نبع ومصدر
لكل صلاح وكل خير. ولذلك عندما يصلي بولس من أجل المدعوين لكي يتمتعوا بالبركات
العظمى فإنه يقول: ” نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح”
(رو7: 1). وأيضًا حينما يدعو أولئك الذين لم يؤمنوا بعد لكي يتصالحوا مع الله فإنه
يقول ” نسعى كسفراء عن المسيح كأن الله يعظ بواسطتنا. نطلب إليكم نيابة عن
المسيح تصالحوا مع الله” (2كو20: 5)، ,ايضًا يحثنا إشعياء النبي صارخًا: ”
لنصنع صلحًا معه، لنصنع الصلح الذي يأتي” (إش5: 27س). ومعنى هذا القول يناسب
ذلك الذي يعطي السلام أو بالحرى الذي هو سلام كل البشر، أي المسيح، ” لأنه هو
سلامنا” حسب الكتب (أف14: 2).

 

يو21:
20


فقال لهم يسوع أيضًا سلام لكم، كما أرسلني الآب الحي أرسلكم أنا ”.

بهذا
رسم ربنا يسوع المسيح التلاميذ ليكونوا مرشدي ومعلمي العالم، وخدام الأسرار
الإلهية. وها هو يوصيهم، لأنه قد حان الوقت لأن يكونوا أنوارًا ليس لليهودية فقط –
حسب حدود وصية الناموس (والتي كانت تمتد من دان إلى بئر سبع) حسب الكتب (2مل11: 17)،
بل بالحرى ينيروا كل مكان تحت الشمس حيثما انتشر البشر وسكنوا على وجه الأرض كلها.
وقد قال بولس الحق عندما ذكر: ” لا يأخذ هذه الكرامة لنفسه، بل المدعو من
الله” (عب4: 5). لأن ربنا يسوع المسيح دعا إلى رسوليته المجيدة تلاميذه قبل
غيرهم، وثبّت بهم الأرض كلها التي كانت في طريقها إلى الانحلال والسقوط. وكإله
اختار هؤلاء الرجال لكي يسند بهم الأرض. ولذلك تكلم بفم المرنم قائلاً عن الأرض
والرسل: ” أنا ثبّت أعمدتها” (مز3: 75)، لأن الرسل المباركين هم أعمدة
الحق وقاعدته. وهؤلاء قد أرسلهم الابن كما أرسله الآب مبينًا مقدار الكرامة
الرسولية والشرف الذي لا يدانيه شرف، والقوة التي وُهبت لهم. ويشير أيضًا إلى نهج
الحياة الذي يلتزم الرسل بالسير فيه. وإذا كان الرب قد رأي من اللائق أن يرسل
تلاميذه كما أرسله الآب، فقد أصبح من الضرورى أن الذين يتمثلون بالابن أن يعرفوا
لماذا أرسل الآب الابن؟.

 

وقد
شرح هو لنا بطرق متنوعة طبيعة إرساليته، فقال في موضع ما ” جئت لا لأدعوا
أبرارًا بل خطاة إلى التوبة” (مت13: 9)، وأيضًا ” لا يحتاج الأصحاء إلى
طبيب بل المرضى” (لو31: 5)، وأيضًا لأنني نزلت من السماء لا لأعمل مشيئتي، بل
مشيئة الذي أرسلني. ومرة أخرى: ” لأن الله لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين
العالم، بل ليخلص به العالم” (يو17: 3).

 

وهكذا
لخص في كلمات قليلة طبيعة إرساليته. وبذلك حدد طبيعة إرسالية التلاميذ أيضًا أي
أنهم سوف يدعون الخطاة إلى التوبة ويخدمون الذين يعيشون في الشرور الروحية
والجسدية. وهم في كل ما يفعلونه على الأرض لا يتبعون إرادتهم الخاصة بل إرادة الذي
أرسلهم، وأن يخلّصوا العالم بكرازتهم بأقصى ما يمكنهم. وفي الحقيقة سوف نجد أن التلاميذ
القديسين أظهروا أعظم غيرة للقيام بكل هذه الأشياء. وعلى من يريد أن يتحقق من هذا
الأمر أن يفحص بعناية سفر أعمال الرسل وكلمات القديس بولس.

 

يو22:
20-23


ولما قال هذا نفخ وقال لهم: اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تغفر له ومن
أمسكتم خطاياه أُمسكت.”.

بعد
أن كرّم الرسل القديسين وميّزهم بامتياز الرسولية المجيد وأقامهم خدامًا وكهنة
للمذبح الإلهي، على الفور قدّسهم بإعطاء روحه لهم بعلامة منظورة أي
“نفخته”، وهذا يثبت اعتقادنا بأن الروح القدس ليس غريبًا عن الابن بل هو
واحد معه فى الجوهر، وهو ينبثق من الآب ولكنه يُسكب علينا عن طريق الابن. وما فعله
الرب بعد قيامته يعلن لنا أن نعمة الروح تُعطى لكل الذين شرطنهم ليكونوا رسلاً لله.
لماذا؟ لأنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا يرضي الله أو يقهروا فخاخ الشيطان
والخطية إن لم يكونوا قد أُلبسوا قوة من الأعالي (لو49: 24) لكي يتغيروا إلى حالة
تختلف تمامًا عن الحالة السابقة بالشكل الذي قيل عنه لأحدهم في القديم ” سيحل
عليك روح الرب وسوف تتحول إلى رجل آخر” (1مل6: 10). وكما أعلن إشعياء النبي
أن الذين ينتظرون الرب سوف يجددون قوتهم (إش31: 40). وبولس الحكيم الذي يقول إنه
تفوق على البعض في الأتعاب الرسولية إلاّ أنه على الفور يقول: ” ليس أنا بل
نعمة الله التي معى” (1كو10: 15). وبالإضافة إلى ما قلناه كان الرسل سيعجزون
تمامًا عن فهم سر المسيح، ولما صاروا مرشدين حقيقيين للآخرين في هذه المعرفة لو لم
يكونوا قد سبقونا في الحصول على نور الروح لكي يعلنوا لنا هذه الأسرار التى تفوق
عقل الإنسان وقدرته على الفهم. لأن الروح وحده هو الذي يقدر على أن يعطي لهم إدراك
الإعلانات العالية التي كانوا سيرتفعون إليها، لأنه لا يستطيع أحد أن يقول إن يسوع
رب – كما قال بولس – إلاّ بالروح القدس (1كو3: 12). ولما كانوا قد اختيروا للكرازة
بيسوع أنه إله ورب كان من الضرورى أن ينالوا نعمة الروح القدس في ارتباط مباشر
بالوظيفة الرسولية. ولذلك أعطاهم المسيح الروح القدس ليس لأن المسيح يخدم الروح
القدس بل هو يعطيه من ذاته لأن الروح القدس لا يحلّ علينا ولا ينزل من عند الآب
إلاّ من خلال الابن. وفي الناموس قديمًا وهو ظلال ورموز الحقيقة كُتب إن إقامة
الكهنة يجب أن تتم بطريقة منظورة لأن موسى المُبارك، حسب وصية الله – طلب من هارون
واللاويين أن يغتسلوا بالماء (لا6: 8)، وبعد ذلك ذبح موسى حمل التقديس ودهن بدمه
شحمة أذن هارون اليمنى وإبهام يده اليمنى وإبهام رجله اليمنى (لا33: 8)، وقد أعطى
بهذا ملامح ورمز سر المسيح. لأن الماء والدم هما وسيلتا التقديس وليس لدينا أدنى
شك في أن هذه الصورة في سفر اللاويين هي ملامح جمال الحقيقة. وربنا يسوع المسيح
الذي حوّل ظلال الناموس إلى قوة الحقيقة يقدّس في ذاته خدام المذبح الإلهي، لأنه
هو حمل التقديس الذي يقدّس فعلاً ويجعل البشر يأخذون من طبيعته بالاشتراك في الروح
القدس. وبهذه الصورة قدّس الطبيعة الإنسانية بالقوة والمجد اللذين هما فوق الطبيعة
الإنسانية ولا يوجد أدنى انحراف أو ابتعاد عن الحق في هذا الشرح الذي ذكرته.

نفخة
الروح القدس بعد القيامة:

ولكن
لأن البعض قد يسأل بسبب محبته للمعرفة – وهذا حسن جدًا – أين ومتى أخذ الرسل نعمة
الروح القدس؟ هل عندما ظهر لهم المخلّص بعد قيامته ونفخ وقال لهم اقبلوا الروح
القدس أم في أيام العنصرة عندما كانوا مجتمعين معًا وفجأة جاء من السماء صوت كهبوب
ريح عاصفة. وظهرت لهم ألسنة من نار منقسمة واستقرت على كل واحد منهم. وبدأوا
يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا (أع1: 2-4)؟ أم أننا نفترض أنهم
نالوا نعمة مضاعفة في يوم الخمسين؟ أم أننا يجب أن نبقى جاهلين المناسبة التي فيها
صار الرسل شركاء الروح القدس؟ فإذا كان ما ذكره مخلّصنا هنا وما هو مكتوب في سفر
الأعمال صحيحًا، فإن السؤال يغرينا بالبحث، خصوصًا لأن المسيح نفسه قال: ”
خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعزّى ولكن متى ذهبت سوف أرسله
إليكم” (يو7: 16). ومن يسأل سوف يقول أيضًا: ” إن الحق الذي هو المسيح
لا يكذب وعندما يقول بكلمات واضحة إن المُعزّى لن يأتى للتلاميذ إلاّ إذا ذهب هو
للآب وأنه متى ذهب للآب سوف يرسله أى متى صعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب. فكيف
أعطى الروح القدس فور قيامته وقبل صعوده؟ وبحث هذا الموضوع محيّر وغامض جدًا إذا
لم نتذكر إيماننا في المسيح الذي هو الإله القادر على أن يضبط كل كلماته وأن يعطى
المعانى الدقيقة لكل كلمة يقولها.

 

لقد
أعلن المسيح أنه سيرسل لنا من السماء المُعزّى عندما يصعد إلى الله الآب وبكل يقين
فعل هذا. لأنه بعد صعوده سكب الروح بغزارة على كل الذين كانوا يرغبون قبوله. لأن
كل إنسان يستطيع قبول الروح القدس بالإيمان والمعمودية المقدسة كما قال النبى
” سأسكب من روحى على كل جسد” (يوئيل28: 2). ولكن كان من الضرورى بالنسبة
لنا أن نرى الابن يمنح لنا مع الآب الروح القدس. لأن الذين آمنوا به (أي بالابن)
كان ضروريًا لهم أن يؤمنوا أنه قوة الآب الذي خلق العالم كله وخلق الإنسان من
العدم. لأن الله الآب في البدء بكلمته أخذ من تراب الأرض – كما هو مكتوب – وخلق
الإنسان كائنًا حيًا له نفس عاقلة حسب إرادته وأناره بنصيب من روحه ” ونفخ في
أنفه نسمة الحياة ” (تك7: 2). ولكن عندما سقط الإنسان بعصيانه واستُعبد لقوة
الموت وفقد كرامته القديمة أعاده الله الآب وجدّده إلى الحياة الجديدة بالابن كما
كان في البدء. وكيف جدّده الابن؟ بموته بالجسد ذبح الموت وأعاد الجنس البشرى إلى
عدم الفساد عندما قام من الموت لأجلنا. ولكى نعلم أنه هو هو الذي في البدء خلقنا
وختمنا بالروح القدس، لذلك يمنح مخلّصنا الروح القدس من خلال العلامة المنظورة أى
“نفخته” للرسل القديسين لأنهم باكورة الطبيعة البشرية المجددة. وكما كتب
موسى عن الخلق الأول أن الله نفخ في أنف الإنسان نسمة الحياة، يحدث نفس الشئ الذي حدث
في البدء عندما يجدّد الله الإنسان وهو ما يسجله يوحنا هنا. وكما خلق الإنسان في
البدء على صورة خالقه. كذلك الآن بالاشتراك في الروح القدس يتغير إلى صورة خالقه
ويصبح على مثاله. ولا يوجد لدينا أدنى شك في أن الروح القدس هو الذي يختم صورة
المخلّص علي قلوب الذين يقبلون المخلص. وهذا واضح تمامًا من تحذير بولس للذين
سقطوا في التمسك بالناموس عندما قال: ” يا أولادي الصغار أنتم الذين اتمخض
بهم ثانية إلى أن يتصور المسيح فيكم” (غل10: 4)، وهو يقول إن المسيح لن يتكون
فيهم إلاّ بالاشتراك في الروح القدس وبالحياة حسب شريعة الإنجيل. للذك يؤسس المسيح
من جديد روحه في تلاميذه باعتبارهم باكورة ثمار الخليقة التي وُلدت لعدم الفساد
وللمجد في صورة الله، وكان من الضروري أن نرى هذا الحق واضحًا ليكون إيماننا
بالابن سليمًا لأنه هو الذي يأتي بالروح من فوق وهو الذي منح لنا الروح كما قال
” كل ما هو للآب فهو لي” (يو15: 16) وكما أن الآب له الروح في ذاته هكذا
الابن له الروح في ذاته لأنه جوهر واحد معه.

 

ومن
هذه الحقيقة نستنتج أن كل ما سبق ووعدنا به قد أكمله في الوقت المعيّن ولكنه
دائمًا يعطى بشكل جزئي ما وعد بأن يعطيه في المستقبل لأننا عندما ننال العربون
نعلم بكل يقين أن ما تكلم به سوف يتحقق كاملاً. لقد أعلن أنه سوف يقيم جميع الموتى
وسوف يعيد إلى الحياة كل الذين رقدوا في الأرض أي في القبور. وقال ” تأتي
ساعة حين يسمع الموتى صوت ابن الله والسمعون يحيون. فيخرج الذين فعلوا الصالحات
إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة” (يو28: 5و29).
وأراد أن يؤكد لنا أنه قادر على هذا فقال: ” أنا هو القيامة والحياة”
(يو2: 11). ولكن لأن معجزة إقامة الموتى جميعًا عظيمة جدًا بل توجد صعوبة في تصديق
عودة الموتى إلى الحياة، لذلك أراد المسيح أن يقدم معونة لنا، معلنًا القيامة
مقدمًا ومعطيًا علامة عليها بإقامة لعازر وابن الأرملة وأبنة يايرس. وماذا أيضًا؟
قال إن قيامة القديسين مجيدة جدًا: “سيضئ الأبرار مثل الشمس في ملكوت
أبيهم” (مت43: 13). ولكي نصدّقه ونعرف أنه قال الحق، أعطى قبل الوقت أن نرى
هذا المجد فأخذ بطرس ويعقوب ويوحنا وصعد بهم إلى الجبل وتجلى أمامهم وأضاء وجهه
مثل الشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور (مت2: 17). وهكذا رغم أنه حدّد وقتًا معينًا
لتحقيق كل شئ إلاّ أنه كان يعطي بشكل جزئي وفي نطاق محدود قبل الوقت المحدّد
كعربون وتذوق مُسبق لما هو متوقع أن يحدث بشكل كامل للخليقة كلها. ولقد فعل هذا
لكي لا يتزعزع الإيمان به. وهكذا على نفس المنوال وعد بأن يرسل المعزى إلينا بعد
صعوده للآب، وحدّد لذلك الوقت المعيّن أي بعد صعوده لكي يعطى النعمة للكلّ، إلاّ
أنه قبل الوقت المحدّد أعطى بداية النعمة وكدفعة أولى من النعمة وهب التلاميذ
الروح القدس بعد قيامته وبذلك حقق جزئيًا الوعد الذي نطق به لنفس الأسباب التي
ذكرناها سابقًا.

 

وهكذا
اشتركوا في الروح القدس عندما نفخ قائلاً: ” اقبلوا الروح القدس” ومن
المستحيل أن يكذب المسيح، وكان من المستحيل أن يقول “اقبلوا” دون أن
يعطى، أما في أيام العنصرة المقدسة فقد أعلن الله علانية نعمته وأظهر مجيء الروح
القدس للكل وليس للتلاميذ فقط، ولذلك ظهر مجيء الروح القدس بشكل ألسنة نارية، ولم
يكن هذا بالنسبة للتلاميذ بداية نعمة الروح القدس الذي سكن في قلوبهم ولكن بداية
نعمة التكلم بالألسنة. كما هو مكتوب إنهم بدأوا يتكلمون بألأسنة كما أعطاهم الروح
أن ينطقوا (أع4: 2)، وهذا يعنى بداية التكلم بالألسنة وليس بداية التقديس لأن
العنصرة بداية عمل العطايا المتنوعة لا سيما الألسنة المختلفة أي بداية عمل الروح
القدس الذي فيهم، وكمثال على صحة ما نقول لقد تكلم الآب من السماء وشهد عن ابنه
قائلاً: ” هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت” (مت17: 2)، ولم تكن هذه
بداية الابن، بل بداية الإعلان عنه لكي يكمّل بهذا الإعلان معرفة الذين سمعوا صوته
وكما جعل صوته يصل مثل نغمة إلى الآذان، هكذا أيضًأ يوم العنصرة جعل ظهور وإعلان
النعمة التي وُهبت للتلاميذ القديسين بشكل ألسنة نارية وجعل نزول الروح القدس يشبه
صوت ريح عاصف (أع2: 2). كان كل هذا علامة لليهود وسوف يظهر ذلك بكل وضوح إذا سمعنا
كلمات الله رب الكل قائلاً على لسان النبي: ” بذوى ألسنة أخرى وبشفاة أخرى
سأكلم هذا الشعب” (إش11: 28، 1كو21: 14).

 

ولكي
نؤمن أن التلاميذ القديسين قد اشتركوا فعلاً في الروح القدس وأنهم قد أُكرموا
بنعمة المسيح التي من فوق ووُهبوا أن يشرحوا الحق وأن مجد رسوليتهم يستحق كل
الإعجاب، قُدِّمت لهم الشهادة يوم الخمسين بالعطية التي من فوق أي بمجيء النار في
شكل ألسنة وبنزول الروح على شكل ريح عاصف.

 

أعتقد
أنني فعلاً شرحت بكفاية وبكل دقة معنى النص ولكن لئلا يجد أحد في الأشياء التي
نكتبها حجر عثرة نحتاط تمامًا ونشرح كل شئ لا سيما من أجل الذين يحبون الجدل من
الاخوة، ولذلك نزيد على ما ذكرناه من أجل هدم الأقوال الباطلة التي نتوقعها.

 

اشتراك
توما في الروح القدس:

سوف
نجد في الفقرة التالية لما شرحناه، الكلمات التالية: ” توما الذي يُقال له
التوأم لم يكن مع التلاميذ حينما جاء يسوع” (يو24: 20). كيف – ربما سأل البعض
وهو سؤال معقول – كان بعيدًا واشترك معهم في الروح القدس عندما ظهر المخلص وقال لهم
اقبلوا الروح القدس”؟ والإجابة على هذا السؤال هي: أن قوة الروح تملأ كل
البشر وعندما قصد الرب أن يعطيه للتلاميذ لم يكن يقصد أن يعطيه للبعض دون الآخرين
ومن كان غائبًا منهم فقد قَبِله لأن كفاية الواهب ليست قاصرة على الموجودين بل
تمتد إلى كل جماعة الرسل. وهذا الحق ليس من خيالنا ولا هو من ضلال، ولذلك علينا أن
نقنعهم من الكتب المقدسة نفسها مؤكدين ذلك بفقرة من توراة موسى، لأن الرب الإله
أمر موسى الحكيم أن يختار سبعين شيخًا من جماعة اليهود وصرح علانية: ” سوف
آخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم” (عد17: 11). وأطاع موسى وأحضرهم إلى خيمة
الاجتماع (عد24: 11) إلاّ رجلين تخلفا عن الحضور ومكثا في المحلة وهما ألداد
وميداد، لكن الله وضع عليهم الروح الإلهي كما وعد وأخذ الكل النعمة.. الذين كانوا
في خيمة الاجتماع مع موسى وكذلك الاثنين اللذين تخلفا، الكل تنبأوا. وفي الحقيقة
أن الرجلين اللذين تخلفا تنبأ ونالا النعمة من فوق قبل الباقين. إلاّ أن يشوع بن
نون الذي كان يلازم موسى دائمًا والذي لم يفهم معنى السر ظن أن الرجلين ألداد
وميداد يمهدان لانقسام مماثل لما صنعه “داثان وأبيرام”، ولذلك أسرع إلى
موسى قائلاً: ” يا سيدي موسى أردعهما” (عد28: 11)، ولكن بماذا أجاب
الرجل العظيم والحكيم الذي رأى بحكمته أن النعمة من فوق وأنهما قد نالا معًا قوة
الروح؟ “.. هل تغار أنت لي؟ يا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء إذا جعل الرب
روحه عليهم” (عد29: 11). ولاحظ كيف ينتهر يشوع الذي لم يعرف ماذا حدث. كان
موسى يتمنى أن يعطى الروح للشعب كله ولكن هذا كان سيحدث في الوقت المعين عندما
يمنح الرب المسيح الروح القدس للكل وينفخه على تلاميذه كباكورة البشرية قائلاً: ”
اقبلوا الروح القدس “. ومع أن توما لم يكن موجودًا إلاّ أنه لم يُحرم من قبول
الروح القدس لأن الروح حلّ في الكل أي الذين وُعدوا بأن يأخذوه وهم الذين حُسبوا
ضمن جماعة الرسل المكرمين.

 

من
غفرتم خطاياه:

وعندما
أعطى المسيح الروح القدس قال: ” من غفرتم خطاياه تُغفر له ومن أمسكتم خطاياه
أُمسكت”. والله الحي وحده هو القادر على أن يمنح الخطاة غفران الخطايا. ولا
يستطيع أحد أن يعفو عن ذنوب الذين يخطئون ضد الناموس الإلهي إلاّ واضع الناموس
نفسه. ولكننا نستطيع أن ندرك معنى النص بالمقارنة بالأمور البشرية مع الاحتفاظ
بالفوارق. الذين ينفذون أحكام وقوانين ملوك الأرض أو يلغون قرارتهم هم الذين نالوا
المقام والكرامة الملوكية. وقياسًا على هذا، بأي كيفية وبأي معنى أعطى المخلص
لرسله الكرامة اللائقة بالله وحده؟ الكلمة الذي في الآب لا يمكنه أن يخطئ وما
يفعله إنما يفعله بكل صلاح فهو الذي دبّر أن الذين منحوا الروح القدس وهو الرب
والله، تصبح لهم القوة على أن يغفروا ويمسكوا الخطايا لأن الروح القدس الساكن فيهم
هو الذي يغفر ويمسك، حسب إرادته رغم أن العمل يتم بوسيلة بشرية. والذين لهم روح
الرب يغفرون أو يمسكون الخطايا بطريقتين:

 

أولاً:
إنهم يدعون الناس للمعمودية والذين يستحقون المعمودية بسبب التوبة ونقاوة حياتهم
بعد اختبار التصاقهم بالإيمان ينالون المغفرة ولكن في نفس الوقت يمنعون بل يطردون
الذين لا يستحقون هذه النعمة الإلهية وهكذا يمسكون الخطايا.

 

ثاينًا:
إنهم يغفرون الخطايا أو يمسكونها عندما ينتهرون أبناء الكنيسة الذين يخطئون
ويمنعون الصفح عمن لا يتوب كما فعل بولس عندما سلّم الذي زنى في كورنثوس لهلاك
الجسد لكي تخلص الروح (1كو5: 5)، وبعد ذلك أعاده إلى الشركة لكي لا يُبتلع من فرط
الحزن (2كو7: 2).

 

وعندما
يسكن روح المسيح في قلوبنا فإنه يعمل الأمور التي تخص الله وحده، لأنه الله الحي
الذي له المجد والكرامة الخاصة باللاهوت وله القوة والسلطان على القوانين المقدسة.

————–

[1]
أي جسد المسيح (المعرب).

[2]
بروح النبوة قبل التجسد (المعرب).

[3]
أي سر الإفخارستيا كما يتضح من بقية الشرح (المعرب).

[4]
يقصد القديس كيرلس أن طبيعة أجسادنا البشرية التي لبسها المسيح لا تسطيع المشي على
البحر ولذلك فهذا من قوة لاهوته.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى