علم

تفسير رمزى لسفر نشيد الأنشاد



تفسير رمزى لسفر نشيد الأنشاد

تفسير
رمزى لسفر نشيد الأنشاد

القديس
أمبروسيوس

تعليق
وتبويب ومراجعة

القمص
تادرس يعقوب ملطي

 

مقدمة الناشر

يا
لعظمة نفسك!

“نفسك”أعظم
من أن تقدر، أثمن من العالم كله!، لذا يقول السيد المسيح: “ماذا ينتفع
الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟!” (مت 16: 26).

مقال
القديس أمبروسيوس عن “إسحق أو النفس” سحب أعماقي، خاصة بعد الفصلين
التمهيدين الأول والثاني، إذ يدخل بالقارئ إلى أعماق نفسه، ليدرك قيمتها لا في
عينيه فحسب، وإنما بالحري في عينيّ عريسها السماوي السيد المسيح، الذي يقيمها
مدينته المقدسة والتي يجد فيها موضعًا مقدسًا يسند فيه رأسه، يجد برّه الإلهي
عاملاً في الإنسان الداخلي فيسر به ويمتدحه. يقيمها السيد المسيح جنته الروحية
الحاملة ثمر الروح الشهي!

 

وقد
جاء في فصول المقال الثمانية الآتي:

1.
يقدم لنا القديس أمبروسيوس إسحق كرمز للسيد المسيح ليس فقط من جهة الحبل به وتقديمه
ذبيحة محرقة وإنما أيضًا من جهة اسمه “ضحك”، إذ هو سرّ بهجة كل مؤمن
وسروره. يقدمه لنا أيضًا كرمز للنفس البشرية المؤمنة والتقية. يرى فيه تلك النفس
التي دخلت إلى حجال العريس السماوي لتشاركه حياته وطبيعته، تحمل سماته فيها، تلك
النفس التي هي موضوع سفر نشيد الأناشيد كله!

 

2.
التقت رفقة بإسحق خلال البئر، ينبوع الحكمة الحقيقية، وليس مجرد اتحاد الجسد،
فصارت تمثل الإنسان الروحي لا الجسداني، الذي يطلب فيه أن يكون على صورة الله لا
أن يلتصق بالماديات.

 

3.
تعلن النفس المؤمنة التقية بسلوكها الروحي وهروبها من الالتصاق بالماديات اشتياقها
الشديد إلى قبلات عريسها، قبلات الحب والوحدة، قبلات الاستنارة التي تحوّل ظلمتها
إلى نور فريد، إذ يشرق شمس البر عليها وفي داخلها.

إنها
تحِنّ إلى عريسها فتطلبه، وبحبه هو يجتذبها إليه فتجري ولا تتوانى.

 

4.
ترى النفس عريسها قادمًا إلى عالمها لا لتترك العالم، وإنما تسمو فوق ملذاته
ومتاعبه، يرتفع قلبها في السمويات وهي بعد لا تزال في الجسد على الأرض! تلتقي به
على صعيد القلب فتنعم بالبركات التالية:

أ.
انعكاس بهائه عليها، فتصير في عينيه جميلة جدًا بلا عيب.

ب.
التمتع بالحياة السماوية المفرحة… فتصير حياتها أنشودة مفرحة.

ج.
تنعم بالنور فتكره الظلمة. يشرق عليها فتكتشف ضعفاتها وتتوب… بهذا تتعرف على
نفسها وتقدير عريسها لها!

د.
حرية المجد: لا تَقدر شهوات الجسد ولا رباطات محبة العالم أن تأسرها. تخلع مع موسى
حذاءها المادي، وتتعرَّى من ثوب شهوة الجسد لترتفع في السمويات.

ه.
طاقات عريسها الغالب التي يقدمها لها فتصير كفرس في حرب تغلب وتنتصر، لكن بروح
الوداعة والتواضع.

و.
اتساع القلب بالحب، فترى في كل البشرية إخوة لها.

ز.
آبار حكمته الإلهية إذ ترويها ينابيعه العلوية.

يقدم
لنا السيد المسيح هذه البركات للنفس المؤمنة، إذ يَقْدِم إليها ظافرًا على جبال
الناموس وتلال النبوات، يصعدها معه خلال صليبه إلى ملكوته. إنه يتطلع إليها من
خلال الكُوَّى لتقبل حضرته ومعيَّته. يأتيها مسرعًا، لذا تلتزم هي أيضًا أن تُسرع
إليه ولا تتوانى، حتى يهبها ثمره ويحميها في صليبه!

 

5.
من جانبها تلتزم بالجهاد، تبحث عنه بجدية وفي إيمان في الأماكن التالية:

أ.
الأماكن العامة للمدينة حيث يُنصَب القضاء… هو شفيعها المحامي عنها.

ب.
داخلها حيث يقيم ملكوته هناك.

ج.
في الكنيسة حيث كلمة الحق والتعليم الصادق.

د.
وسط الضيق، إذ هو حال في ضيقات مؤمنيه، يُعلن ذاته!

ه.
خارج القبر، فهو السماوي الذي لا يمسك به الموت!

وإذ
تجده النفس المؤمنة وتتعرف عليه كعريس سماوي لا تقف عند لمسه بل بالإيمان تمسك
بقدميه ولا تتركه، فتخرج منه قوة تنزع عن النفس نزيفها. ترى نفسها أنها حواء
الجديدة الملتصقة بآدم الثاني، تتستّر لا بأوراق التين بل بروح عريسها القدوس
ونعمته الغنية المجيدة. تنال برّه فتصير كحواء الأولى قبل السقوط.

تفوح
منها رائحة أطياب عريسها فتغني بنات أورشليم تسبحة الحب الزوجي.

تنطلق
معهن كما في موكب، إذ تخلع عنها “الأنا”، وتتغرب عن الجسد، وتترك محبة
العالم، فتستوطن مع الرب. تهرب من العالم والجسد والأنا إلى عريسها الذي يمتدح
طهارتها كجنة مغلقة وينبوع مختوم، ويطلب ثمرها الروحي.

 

6.
إذ تثمر كرومًا نقية، تسكر بحب الله وتهيم فيه. عندئذ يتقدم عريسها السماوي:

أ.
يُيقِظها كي تتمتع بقبلاته الروحية.

ب.
يقرع باب قلبها كي تفتح له لتستريح فيه وحده دون خصمه.

ج.
يُنهِضها من فراشها فتتحرر من قيود الجسد وحياة الترف.

د.
يُعلن لها أسراره الإلهية وسط شركة الآلام معه.

ه.
يجتذبها بحبه لها، يُخرجها من بابل لتحيا معه في أورشليمه.

و.
يستر عليها بحبه بعدما تعاني من الحراس الذين يرفعون عنها إزارها.

ز.
يُشبعها بالحنطة السماوية في يوم السبت العظيم حيث تجد فيه راحة أبدية.

 

7.
إذ يعمل العريس السماوي في النفس المؤمنة، تحمل من جانبها السمات التالية:

أ.
تصير مبتهجة وكاملة وجميلة، سرّ بهجتها أنها تحمل كل أسرار المدينة السماوية، تصير
أيقونة السماء، كل من يتطلع إليها يُعجب بها.

ب.
أعمالها مدوِّية، تتحدث بصوت يُدوي، وكأنه بوق إلهي يستخدمه الله ليُعلن عن ضياء
عمله في النفوس.

ج.
تتسم بالوحدة والانسجام الداخلي؛ كل ما فيها من قدرات وطاقات تتناغم معًا بعمل روح
الله القدوس.

ه.
مُخصِبة ومثمرة، إذ ليس فيها من شر يُفسد تربتها ويُحوّلها إلى أرض بور.

د.
تلتصق بالله كمصدر خيرها.

و.
ترفض ظلمة الشر، فتصير مُشرقة كالفجر، جميلة كالقمر الذي يراه كل سكان الأرض.

 

8.
أخيرًا يحدثنا عن دور السيد المسيح في كنيسته المتألمة:

أ.
يسمح لها بالمرارة والتجربة، لأنه في المرارة تعرف النفس ذاتها.

ب.
تدخل النفس المعركة كمركبة يقودها السيد المسيح نفسه، يعرف كيف يضبط الخيل الجامحة
ويُشجع الخيل الصالحة. إنه قائد صالح يعرف كيف يَسوس الكل!

ج.
كقائد للمركبة يصحح مسار النفس ويرشدها.

د.
يُصعِد النفس إلى نخلة النصرة.

ه.
يبلغ بها إلى كمال الحب وسط جهادها، فينطلق بها عبر مراحل الكمال.

و.
يهتم أن يقوت المتعبين وسط آلامهم.

ز.
يدخل أبواب النفس المتألمة بكونها عروسه.

ح.
إذ يدخل أبواب النفس يرتفع بها إلى العلويات.

ط.
في صعودها معه تتكئ عليه حتى يدخل بها إلى حجاله لتستريح.

ى.
يتعهدها تحت شجرة التفاح،وليس فقط ينظر إليها تحت شجرة التين.

ك.
يتصور في داخل النفس.

ل.
يهبها خاتمه، فيكون الكل في الكل بالنسبة لها، هو حبنا كله!

م.
يُسربِل النفس بالحب الأقوى من الموت.

ن.
يهب النفس أجنحة نار حب وغيرة.

س.
يرفع النفس إليه بكونه الخير الأعظم.

ش.
أخيرًا ينطلق بالنفس إلى أورشليم العليا.

الآن
أتركك للقديس أمبروسيوس الذي قدم لنا بالمنهج الرمزي السكندري تفسيرًا حيًا لسفر
نشيد الأناشيد، كسفر حب واتحاد بين السيد المسيح والنفس البشرية، وقد قام الدكتور
جرجس كامل يوسف بترجمته.

أكتوبر
1990م

 

اولا: إسحق رمز المسيح

[يرى
القديس أمبروسيوس في إسحق رمزًا للسيد المسيح، ليس فقط بميلاده بوعد إلهي ولا
بتقديمه ذبيحة طاعة لأبيه، وإنما حتى باسمه كمصدر فرح للغير وبزواجه من رفقة رمز
الكنيسة…]

 

إسحق
مكافأة إبراهيم العظيمة

1.
لقد وصفتُ باستفاضة كُلاً من أصل القديس إسحق، والنعمة التي نالها، وذلك أثناء
حديثي عن أبيه[1]. وهو يزخر بالمجد، حيث وُلد (إسحق) كمكافأة لإبراهيم، أبيه
العظيم الذي لا مثيل له. ولا عجب إذ حمل فيه رمزًا لميلاد الرب وآلامه. ولدته
امرأة مُتقدّمة في الأيام وعاقر، وذلك بوعد إلهي (تك 18: 11-15؛ 21: 1-2)، حتي
نؤمن بأن الله قادر أن يحقق ميلادًا حتى من عذراء.

لقد
قُدّم كذبيحة بطريقة فريدة، كي لا يفقده أبوه، ومع هذا تتم الذبيحة (تك 22: 1-19).

أيضًا
يرمز إلى النعمة باسمه، لأن “إسحق” يعني “ضحكًا” (تك 21: 5)،
والضحك علامة الفرح. الآن يعرف كل أحد أن (المسيح الذي يرمز له إسحق) هو فرح جميع
الذين حطموا رهبة الموت المفزع، فقد نزع رُعبه، وصار لكل الناس غفرانًا لخطاياهم.

إنه
ذلك الوديع المتواضع والرقيق (مت 11: 29)، الذي خرج إلى الحقل ليتأمل، حيث جاءت
رفقة (ترمز للصبر[2])، لأن الإنسان الحكيم ينبغي عليه أن ينأى عن الملذات الجسدية،
ويسمو بنفسه، منسحبًا عن (ملذات) الجسد. هذا بالنسبة لمن يعرف نفسه إنسانًا
Homo باللاتينية و enos بالكلدانية. لقد طلب أخنوخ Enos
الله في رجاء ومن ثمَّ يُظن أنه قد نُقل (تك 5: 24). هكذا يبدو الإنسان
“إنسانًا” فقط حينما يضع رجاءه في الله. أيضًا المفهوم الواضح والحقيقي
للنص (تك 5: 18-24) هو أنَّ مَنْ يضع رجاءه في الله لا يسكن الأرض بل يُنقَل، ومن
ثمَّ يلتصق بالله. هكذا كان إسحق صالحًا وصادقًا، إذ كان مملوءًا نعمة وينبوع فرح.

 

إسحق
ينبوع حكمة لا فيض دم

 إلى
هذا النبع جاءت رفقة لتملأ جرَّتها ماءً، إذ يقول الكتاب المقدس: “فنزلت إلى العين،
وملأت جرَّتها وطلعت” (تك 24: 16). وهكذا أيضًا نزلت الكنيسة أو النفس إلى
نبع الحكمة، لتملأ جرَّتها، وترفع تعاليم الحكمة النقية التي لم يرغب اليهود أن
يرفعوها من الينبوع الفائض. أصغوا إليه، إذ يقول الينبوع نفسه: “تركوني أنا
ينبوع المياه الحية” (إر 2: 13).

تعطش
نفوس الأنبياء إلى هذا الينبوع، فيقول داود: “عطشت نفسي إلى الله الحيّ”
(مز 42: 2-3)، لكي يروي ظمأه بغنى معرفة الله ويغسل دم الحماقة بمياه المجاري
الروحية. لأن هذا هو فيض الدم كما يشير الناموس (لا 20: 18)، والذي يُستبان حينما
يضطجع رجل مع امرأة طامث. فالمرأة (هنا تشير إلى) البهجة وفتنة الجسد. احترس لئلا
يُقوض ثبات فكرك ويلين باللذة الجسدية التي للاضطجاع. فتذوب باحتضانها تمامًا،
وينفتح ينبوعها الذي يجب أن يُغلَق ويوصد بالنية الغيورة والتعقل المتزن. أنت
“جنة مغلقة، عين مختوم”، (نش 4: 12). فإنه إذ ينحل ثبات الفكر تتدفق
أفكار اللذات الجسدية الضارة للغاية، المتهيجة إلى شهوة جامحة نحو خطر مميت. لكن
متى صارت لنا اليقظة الواعية لحراسة الفكر الحيّ، تُضبط (اللذات الجسدانية).

 

ثانيا: الإنسان الروحي والإنسان الجسداني

 [إذ
رأى القديس أمبروسيوس في إسحق ينبوع الحكمة الذي تأتي إليه النفس التقية (رفقة)
لترتوي منه، ولا تقترب إلى ينبوع دم الجهالة المفسد للنفس، يقارن بين الإنسان
الروحاني والإنسان الجسداني. الإنسان مقدَّس نفسًا وجسدًا، لكن مَنْ يحيا بالروح
يعيش كما لو كان كله روحًا، أما من يخضع لشهوات الجسد فيعيش كعبد لها ذليل!]

 

3.
إذن تأمل يا إنسان مَنْ أنت؟ وإلى أية غاية تسير بحياتك وكيانك؟

ما
هو الإنسان إذن؟ نفس؟ أم جسد؟ أم وحدة من الاثنين؟

نحن
شيءٌ واحد، لكن قنيتنا شيءٌ آخر. المتسربل هو شخص واحد، لكن ثيابه أمر آخر.

نقرأ
في العهد القديم: “جميع النفوس التي جاءت إلى مصر” (تك 46: 27)، إشارة
إلى البشر. وفي موضع آخر قيل: “لا يبقى روحي في هؤلاء الناس، إنهم جسد
“بشر” (راجع تك 6: 3). أيضًا تُستخدم كلمة “إنسان” لتُشير إلى
أي مِن الاثنين: النفس أو الجسد. لكن الفرق هو: إذا ما اُستخدم لفظ “نفس”
للإشارة إلى الإنسان يقصد هنا العبراني الملتصق بالله لا (بشهوات) الجسد، كما في
العبارة: “تُبارَك النفس الصادقة بالتمام” (أم 11: 25
LXX).

وحينما
تُستخدم كلمة “جسد” لتشير إلى الإنسان فالمقصود هنا هو الخاطئ، كما في
العبارة: “… وأما أنا فجسداني مبيع تحت الخطية، لأني لست أعرف ما أنا
أفعله، إذ لست أفعل ما أريده بل ما أبغضه فإياه أفعله” (رو 7: 14-15). يظهر
هذا الرأي فيما جاء بعد ذلك فإن الذي يريد غير الذي يكره وغير الذي يفعل. ومن ثمَّ
ينتج: “فإن كنت أفعل ما أُبغِض فإني أُصادِق الناموس أنه حسن؛ فالآن لست بعد
أفعل ذلك أنا بل الخطية الساكنة فيَّ” (رو 7: 16-17). يظهر ذلك بمزيد من
الوضوح في القول: “أرى ناموسًا آخر في جسدي (أعضائي) يحارب ناموس ذهني،
ويَسْبيني إلى ناموس الخطية” (رو 7: 23).

وبالرغم
من قول بولس الرسول بأن كلاً من الإنسانين – الداخلي والخارجي – كانا في حرب، لكنه
يفضل مساندة الجزء الذي يشمل النفس أكثر من ذاك الذي في الجسد، لأنه حينما كانت
نفسه – التي يفضلها – مَسْبيّة تحت الخطية، يؤكد ما فضَّله بقوله: “ويحي أنا
الإنسان الشقي! من ينقذني من جسد هذا الموت؟” (رو 7: 24). أي أنه أراد أن
يُنقَذ من عدو خارجي، هكذا يقال!

 

ما
هي النفس؟

 [يرفض
القديس أمبروسيوس تعاريف بعض الفلاسفة للنفس، إذ قال شيشرون عنها إنها دم، وقال
أمبيدوكليس إن مركزها الدم…]

4.
لهذا ليست النفس دمًا، لأن الدم هو من الجسد.

ولا
هي ذلك الانسجام الذي هو أيضًا من الجسد.

النفس
ليست هواءً، لأن نفخة النَفَس شيءٌ والنفْس شيء آخر.

ليست
النفس نارًا، ولا هي فعلية
actuality، وإنما هي حياة، لأن آدم صار “نفسًا حية” (تك 2: 7).

النفس
هي التي تحكم الجسد وتعطيه حياة الذي (بدونها) يكون بلا حياة ولا شعور. يوجد أيضًا
الإنسان الأكثر سمُوًّا، الذي قيل عنه: “وأما (الإنسان) الروحي فيَحكم في كل
شيء، وهو لا يُحكَم فيه من أحد” (1 كو 2: 15). مثل هذا يكون أكثر سموًا من
الآخرين، وعنه يقول داود أيضًا: “فمن هو الإنسان حتى تذكره أو ابن الإنسان
حتى تفتقده؟ يصير الإنسان كباطل” (مز 8: 5، 144: 3-4) الإنسان كصورة الله ليس
باطلاً، لكن الذي يفقدها ويسقط في الخطية ويتعثر في الماديات، مثل هذا يشبه
الباطل.

 

انهيار
النفس

 5.
لذلك، النفس سامية بطبيعتها، لكنها صارت بوجه عام خاضعة للفساد من خلال لا
عقلانيتها، فمالت إلى الملذات الجسدية وإلى الاعتداد بذاتها. بينما لم تحتفظ
بالاعتدال خدعتها الأوهام، وانحرفت إلى المادة، والتصقت بالجسد، ومن ثَمَّ تعوقت
بصيرتها وامتلأت بالشر. وإذ هي تنوي الشر تملأ ذاتها بالرذائل، ومن ثَمَّ تزداد في
إسرافها وعزوفها عن طلب الصلح.

 

ثالثا: رفقة رمز الكنيسة

 النفس
الكاملة التي تهرب من الشر لا من الأرض

6.
أما النفس الكاملة فتبتعد عن المادة، وتمتنع وترفض كل ما هو مُبالغ فيه أو متقلقل
أو شرير، ولا تتطلع أو تقترب من هذا الدنس والفساد الأرضي. إنها تُصغي إلى
الإلهيات وتتجنب الأرضيات. لكن في انطلاقها لا تغادر الأرض بل وهي باقية على الأرض
تتمسك بالبر (العدل) وضبط النفس، تنبذ الرذائل التي في الأرضيات ولا تنبذ استخدام
الأمور الأرضية.

لقد
هرب داود من وجه شاول (1 مل 19: 18)، لا لكي يهجر الأرض حقًا، وإنما لكي يهرب من
عَدْوَى إنسان قاسٍ عاصٍ وغادر. هرب لكي يلتصق بالله، إذ يقول: “التصقت نفسي
بك” (مز 63: 8). انسحب ونَأَى بنفسه عن رجاسات هذا العالم، سما بنفسه تمامًا،
وذلك كما تأمل إسحق عندما تجوَّل في الحقل (تك 24: 63)… لأن هذه شهادة واضحة تمس
الالتصاق بالفضائل، حيث يتجوَّل الإنسان ببراءة قلبه، فلا يشترك في الشهوات
الأرضية وإنما يشق طريقه بفكر متحرر، أي بلا لوم، ولا يفتح موضعًا للفساد في
داخله.

 

جمال
الكنيسة الروحي

 7.
هكذا كان إسحق حينما انتظر مجيء رفقة وتهيأ لاتحاد روحي (تك 24: 62). جاءت إليه
وقد وُهبت أسرارًا سماوية، تحمل زينة عظيمة في أذنيها وعلى ذراعيها (تك 24: 22).
استعلن جمال الكنيسة في سمعها وأعمال يديها بوضوح. ونلاحظ أنه قيل لها بحق:
“صيري ألوف ربوات، وليرث نسلك مدائن أعدائه” (تك 24: 6
LXX). لهذا الكنيسة جميلة، لأنها ضمّت أبناء من أمم معادية. لكن
يمكننا تفسير هذا النص بخصوص النفس التي تُخضِع الشهوات الجسدية، وتحولها إلى خدمة
الفضائل، وتُطوّع المشاعر المعاندة لها. هكذا كانت نفس الأب (البطريرك) إسحق، الذي
عاين سرّ المسيح، فرأى رفقة قادمة بأوان من ذهب وفضة (تك 24: 53، 63). وكأنها
بالكنيسة مع شعوب الأمم التي تندهش لجمال الكلمة (الإلهي) وأسراره، فتقول
“ليقبلني بقبلات فمه” (نش 1: 2). عندما ترى رفقة إسحق الحقيقي – الفرح
الحق، ينبوع المرح الحقيقي – تشتاق أن تقبِّله.

 

قبلات
الحب والوحدة والاستنارة وسكب النفس

 8.
ما معنى: “ليقبلني بكلمات فمه”؟ فكروا في الكنيسة التي انتظرت مجيء الرب
لقرون طويلة، الذي وعدها بذلك خلال الأنبياء في القديم. فكروا في النفس التي تسمو
فوق الجسد وترفض الانغماس في الملذات والمسرات الجسدية، تاركة أيضًا الاهتمام
بالأباطيل الدنيوية. لقد اشتاقت زمانًا طويلاً أن تلتحم بحضرة الله، واشتهت أيضًا
إلى نعمة كلمة الخلاص، وها هي قد أصابها الهزال لأنه يأتي متأخرًا، ها هي قد
تقوّضت وجُرحت حبًا (نش 5: 8)، فهي لا تقوى على تأجيلاته (في المجيء). وإذ تتجه
نحو الآب تسأله أن يرسل إليها إلهها الكلمة، وتعلل سبب نفاذ صبرها بالقول:
“ليقبلني بقبلات فمه”. إنها لا تسأل عن قبلة واحدة بل تطلب قبلات كثيرة،
لكي تُشبع اشتياقاتها. لأنها كحبيبة لا تقنع بتقدِمة ضئيلة من قبلة واحدة، بل تطلب
الكثير، وتحسب أن لها الحق في التمتع بالكثير، ومن ثَمَّ صارت تألف أن تطلب لنفسها
أكثر وأكثر من محبوبها. لقد نالت استحسانًا في الإنجيل إذ “لم تكف عن تقبيل
قدمَيَّ” (لو 7: 45)، و “غفرت خطاياها الكثيرة، لأنها أحبت كثيرًا”
(لو 7: 47).

مثل
هذه النفس تريد قبلات كثيرة من الكلمة، لكي تستنير بنور معرفة الله، لأنها هذه هي قبلة
الكلمة، أعني نور المعرفة المقدسة. يقبلنا الله الكلمة حينما ينير قلوبنا وينير
القدرة المتحكمة الفعلية بروح معرفة الله. النفس التي تنال تلك الهبة تبتهج وتفرح
بعربون الحب العروسي (الزيجي)، وتقول: “فغَرْت فمي ولهثت” (مز 119:
131). لأنه بالقبلة يلتصق الأحباب ببعضهم البعض، وينالون عذوبة النعمة التي في
الداخل. بهذه القبلة تلتصق النفس بالله الكلمة، وبالقبلة تنسكب روح من يقبَّل داخل
النفس، تمامًا مثل الذين لا يكتفون في قبلاتهم بلمس الشفاه على خفيف إنما يَبْدون
وكأنهم يسكبون أرواحهم الواحد في الآخر.

9.
إذ تبدو أنها لا تحب فقط ظهور الكلمة ووجهه بل كما لو كانت تحب أعماقه الداخلية،
فتضيف إلى نعمة القبلات: “ثدياكِ أطيب من الخمر، ورائحة أدهانك تفوق كل
الأطياب” (نش 1: 2-3
LXX). لقد طلبت القبلة، سكب الله الكلمة نفسه فيها بالتمام وكشف عن
ثدييه، أي تعاليمه ونواميس الحكمة التي في الداخل، ورائحة أدهانه التي تفوق كل
الأطياب. هذا كله يَسْبيها، فتقول النفس إن التمتع بمعرفة الله أغنى من الفرح بأية
لذة جسدانية، إذ تفوح في الكلمة رائحة النعمة وغفران الخطايا. وإذ تنسكب في كل
العالم تملأ تلك المغفرة كل شيء وينسكب الدهن لينزع أوراق الرذيلة الثقيلة عن
الناس.

 

اجتذاب
الكلمة للنفس

 10.
“لذلك أحبتك العذارى، اجذبنا فنجري وراء رائحة أدهانك” (نش 1: 3-4).
حقًا، صالح هو التعقل؛ لكن الرحمة عذبة، وقليلون هم الذين يحظون بالأولى (التعقل)؛
أما الأخيرة (الرحمة) فتَحِلّ بجميع البشر. “بسبب حنو رأفتك تحبك النفوس
المتجددة بالروح”. في هذا الصدد قيل أيضًا للنفس: “يتجدد مثل النسر
شبابك” (أف 4: 23، مز 103: 5). لأن المرتل تحدث مع النفس، قائلاً:
“باركي يا نفسي الرب” (مز 103: 1). لهذا تُسرع النفس إلى الكلمة، وتسأل
أن تُجذَب إليه، لئلا تُتْرك بعيدًا، لأن “كلمة الله لا تُقيِّد” (2 تس
3: 1؛ 2 تي 2: 9)، وحقًا “يبتهج مثل الجبار للسباق في الطريق” ولأن
“خروجه هو من أقصى السماوات ومدارها إلى أقاصيها” (مز 19: 6-7). وإذ ترى
النفس أنها ليست ندًا لمثل هذه السرعة العظيمة تقول: “اجذبنا”، إذ لنا
اشتياق أن نتبعك، وهو ما استنشقناه من عطية نعمة أطيابك. لكننا إذ لا نقوى على
مجاراة سباقك اجذبنا أنت فنتبع خطواتك بمعونتك وتعضيدك. إن جذبتنا نجري ونحظى
بنسائم الركض الروحية. فإنّ مَنْ لهم يدك عونًا يُلقون بأثقالهم جانبًا، وينسكب
فيهم زيتك الذي يشفي مَنْ جرحه اللصوص (لو 10: 34).

لا
تعتبر قولها “اجذبنا” عيبًا إذ تسمعه يقول: “تعالوا إليَّ يا جميع
المُتْعَبين والثَقِيلي الأحمال وأنا أريحكم” (مت 11: 28). أتَرَوْن كيف
يجذبنا بفرح لئلا نُترك في الخلف ونحن نتبعه.

 

هو
يجذبنا ونحن نركض ولا نتوانى

 لكن
مَنْ يريد أن يجتذب يلتزم أن يركض فينال. ليركض ناسيًا الأمور الماضية، طالبًا ما
هو أفضل، بهذا يقدر أن ينال المسيح. في هذا الصدد يقول الرسول أيضًا: “اركضوا
لكي تنالوا” (1 كو 9: 24).

هكذا
تشتاق النفس إلى بلوغ الجعالة التي تريد التمتع بها. لهذا تسأل بحكمة أن تُجْتَذب،
لأنه ليس كثيرون قادرين على أن يتبعوه. حقًا عندما سأله بطرس: “إلى أين أنت
تذهب؟” أجابه كلمة الله: “حيث أذهب لا تقدر الآن أن تتبعني، ولكنك
ستتبعني أخيرًا” (يو 13: 36). لقد ائتمنه الرب على مفاتيح السماء (بالإيمان
المُعطى للتلاميذ) (مت 16: 29)، ومع هذا حكم بطرس على نفسه أنه ليس بكفء أن يتبعه.
مع ذلك لم ينبذ الرب تلك النفس، لأن بطرس لم يكن يتطاول (متجاسرًا) وإنما كان
يتساءل

 

رابعا: تمتع النفس بحِجال الملك “الحياة السماوية”

 جمال
داخلي!

 11.
حقًا “أَدْخَلني الملك إلى حِجاله” (نش 1: 4
LXX).

طوبى
للنفس التي تدخل إلى الحِجال، إذ تسمو فوق الجسد لتصير بعيدة (سامية) عن الكل؛
تبحث وتطلب في داخلها عن طريق ما به تتبع الإلهيات. وإذ تبلغها تتجاوز المُدرَكات
العقلانية، فتتقوى بالإلهيات وتقتات عليها.

هكذا
كان بولس، الذي أدرك أنه أُخْتُطِف إلى الفردوس لكنه لم يكن يعرف إن كان في الجسد
أم خارج الجسد (2 كو 12: 3-4). فقد نهضت نفسه من الجسد، وانسحبت عن ضرورياته
ورباطاته وسمت إلى فوق. صار غريبًا عن نفسه بنفسه، وصان في أعماق نفسه الكلمات
السرية التي سمعها ولم يقدر على إعلانها، لأنه، كما صرح هو، لم يكن مسوغًا لإنسان
أن ينطق بمثل تلك الأفكار (2 كو 12: 4).

لهذا
تحتقر النفس الصالحة الأمور المادية المتقدة، ولا تعود تتعلّق بها أو تتوانى أو
تتوقف عن الاستخفاف بها؛ بل بالحري تنهض إلى الأبديات غير المادية والعجيبة، لأنها
تقوم بفكر طاهر وبذهن نقي. وإذ تعزم على الكمال تجاهد لأجل الخير فقط، الخير
الإلهي، وتحسب ما عداه ليس ضروريًا، إذ تملك ما هو أسمى. مثل هذا الإنسان تحمل
نفسه جمالاً أكثر مما تحتاج إليه، حتى لو كان متروكًا وحده، إذ يجد الشبع في
داخله، ومن ثَمَّ لا يُحسب هذا الإنسان معزولاً وحده لأن الرب معه شفيعًا له.

 

فرح
داخلي!

 12.
حقًا، حينما يُؤْتي(يُؤْتى؟؟) بها إلى اللاهوت الخفي (السري)، تقول النفس:
“فلنفرح ولنبتهج بك، لتكن لنا ثدياك أكثر من الخمر” (نش 1: 4
LXX). فإن البار لا يبتهج بالغِنَى وكنوز الذهب والفضة ولا بالتمتع
بممتلكاته، ولا بالقوة ولا بالولائم إنما بالله وحده.

صراعها
مع الظلمة

13.
وأيضًا إذ أدركت هذه النفس أنها قد أُظْلمت باتحادها (بشهوات) الجسد تقول للأنفس
الأخرى أو لقوات السماء المسئولة عن الخدمة المقدسة: “لا تنظرن إليَّ لكون
بشرتي سوداء، لأن الشمس لم تنظر إليَّ، وبنو أمي غضبوا عليَّ” (نش 1: 6(
LXX، أي هاجمتني شهوات الجسد، وأضْفت مفاتنه على لوني، لهذا لم يشرق
شمس البر عليَّ (ملا 3: 20). إنني محرومة من هذه الحماية، لم أستطع الحفاظ على
تكريسي وطاعتي الكاملة. هذا هو معنى: “كرمي لم أحفظه” (نش 1: 6). لأنني
أنتجت شوكًا لا عنبًا، أي أنتجت خطايا عوض الثمار الروحية (مت 7: 16-20).

 

حاجتها
إلى راحة الظهيرة

 14.
وحينما نتحدث عن الكلمة وضيائه الذي يشرق عليها، فتلتفت إليه قائلة: “أين
ترعى قطيعك؟ أين تستريح عند الظهيرة؟” (نش 1: 7)، كان الوقت
“ظهيرة” عندما احتلَّ يوسف مكانه وسط إخوته في المأدبة، وكشف لهم عن
أسرار الأزمنة المقبلة (تك 43: 15)، ويقول داود أيضًا: “سلِّمْ للرب طريقك
واتكل عليه وهو يُجري، ويخرج مثل النور برّك، وحقك مثل الظهيرة” (مز 37:
5-6). كما أعلن بولس ذاته أن النور أبرق حوله كالظهيرة عندما اهتدى من مضطهد
للكنيسة إلى النعمة (أع 9: 3).

لذلك
تشكو النفس لأنها هُجرت، لأنها تُركت، وقد صارت فقيرة، هذه التي كانت غنية، لأنها
كانت تفيض بعطايا النعمة وقد صارت في عوز، حينما حُرمت من ملء الحضور الإلهي؛ ها
هي تطلب أن تُعالَج كأنها كانت قبلاً أجيرة، هذه التي سبق فتمتعت بغنى الاتحاد.

حاجتها
إلى تقديرها لنفسها بالتوبة

15.
يجيبها كلمة الله: “إن كنتِ لا تعرفين نفسك أيتها الجميلة بين النساء”
(نش 1: 8)، لأنكِ تشتكين بأنك قد هُجرت، “إن كنتِ لا تعرفين نفسك”، أي
إن لم تتوبي، إن لم تُظهري تقوى يقظة، إن لم يزد إيمانك ويَنْمُ اتكالك، لن
تُجْدِي شكواك.

إن
كنتِ لا تعرفين نفسك أنكِ جميلة، وإن لم تحفظي جمال طبيعتك، ولا تسود عليكِ
إغراءات الجسد، ولا تعوقك موانعه، لن يُعينك شرف خليقتك مطلقًا.

 

تمتعي
بجمال الحرية!

 16.
لهذا اعرفي نفسك وجمال طبيعتك، وانطلقي كأن قدميك قد تحررتا من القيود، وقد ظهرتا
مَرْئية في خطواتهما المكشوفة، فلا تشعرين بأغطية جسدانية، ولا تعوق روابط الجسد
خُطى ذهنك؛ فتظهر قدماك جميلتين. لأنه هكذا هو حال من اختارهم الرب للشهادة عن
ملكوت السماوات، إذ قيل عنهم: “ما أجمل أقدام المبشرين بإنجيل السلام”
(رو 10: 15؛ إش 52: 7).

هكذا
كان حال موسى الذي قيل له: “اخلع الحذاء من رجليك” (خر 3: 5)، فإنه إذ
كان مزمعًا أن يدعو الشعب إلى ملكوت الله، وجب عليه أن يخلع ثياب الجسد ويمشي
بروحه وخطى ذهنه عارية. لهذا يقول الرب: “اُخرجي على آثار الغنم واِرعي جداءك
عند خيام الرعاة” (نش 1: 8). نفهم أن الغنم هو الملكوت، لأن ممارسة رعاية
الغنم تتطلب قوة. أيضًا يختبر كل إنسان رعاية نفسه بنوعٍ ما بقوة ملوكية وذلك إذا
ما كبح إفراط الجسد في داخله، وقمَع جسده واستعبده، لذا قيل: “ملكوت الله
داخلكم” (لو 17: 21). في هذا الصدد قال الرب للنفس: “اُخرجي”، أي
“اُخرجي من العبودية”، اُخرجي من سيطرة الجسد وسلطانه. اُخرجي، لا في
الجسد، بل في الروح. اُخرجي إلى سلطان القوة. لذا يُضيف: “وارعي جداءك
(الصغيرة)”، أي اضبطي الأمور التي على يسارك، فإنها إذا لم تُضْبَط سرعان ما
تسقط (مت 25: 33). اكبحي شهواتك. شهوة جسدك، والانغماس في الشهوات الحيوانية.
اضبطي أهواءك المتقلبة، لا ترعيها عند خيام الجسد بل في خيام الرعاة الذين تعلموا
كيف يقودون القطيع.

لأنه
“ما أحسن خيامك يا يعقوب، مساكنك يا إسرائيل… كجنات على نهر” (عد 24:
5-6). فيها ترقد النفس كأنها مستعدة للحرب، تؤدي خدمة طيبة، تبحث عن غزوات الخصم،
وتطلب النصرة بجهاد الفضيلة. فتُقارَن بجواد سليمان المطهَّم، السريع في العَدْو،
والخصيب في الإنجاب، فإن خصوبة النفس مرغوبة ومطلوبة.

 

جاهدي
كفرس في حرب

 17.
إنها جواد ثمين، هي مركبات فرعون السريعة (نش 1: 9).

يعتبر
البعض هذا النص (نش 1: 9). إشارة إلى الكنيسة والشعب، لكنني سبق أن تحدثت عن هذا
السر مرارًا خاصة في تفسير مزمور 118 (119)، بأن الحديث هنا هو عن النفس. فالنفس
تُقاد مثل الفرس، أعني أن لها فضيلة نبوية أو رسولية، لأنها تُحسب ضمن الذين ملأوا
كل أقاصي الأرض بخصوبة كرازتهم؛ وهم لا يزالون بعد في الجسد لا يشعرون بفقدانهم
سعيهم الروحي. من أجل هذا تنال هذه النفس مديحًا، إذ صارت جميلة وبهية بإرشاد
الوصية السماوية واستنارتها. تعكس على وجهها جمال العفة، وحينما تتحلى بقلادتها
حول عنقها تظهر علامات الصبر والتواضع.

لقد
أحب إسحق الحقيقي جمال مثل هذه النفس وتواضعها وصبرها، وترقب باشتياق ذريتها.

 

ذرية
النفس الجميلة

 18.
الآن حبلت رفقة (تك 25: 21)، وبصبرها حلت عقدة العقم. لنتأمل ما أنجبته نفسها
النبوية الرسولية، وكيف مضت تستشير الرب (تك 25: 22)، لأن الطفلين تزاحما في
بطنها، فتلقت الإجابة: “في بطنك أُمتان” (تك 25: 23). لأنها لم تعطِ
نفسها حق الحكم في الأمر بل سلمته لله كمدافع علوي فائق يهبها المشورة، وإذ امتلأت
سلامًا وتقوى جمعت أُمتين معًا بإيمانها خلال النبوة، وأغلقت عليهما في بطنها، إن
جاز التعبير.

 

تُحسب
أختًا للجميع

 19.
ليس بدون سبب دُعيت أختًا أكثر منها زوجة (لواحد). فإن نفسها الرقيقة المسالمة قد
اشتهرت بحبها الشديد للجميع أكثر من الاتحاد بفرد واحد؛ فقد حسبت نفسها مرتبطة
بالكل (في أخوَّة) ولا تقف عند اتحادها بالواحد.

 

تفتح
آبار الإيمان والتكريس

 20.
الآن، أعاد إسحق نبش عدة آبار سبق أبوه أن حفرها لكن الغرباء طمسوها بعد موت أبيه
إبراهيم. بجوار تلك الآبار حفر أيضًا واحدة في وادي جرار حيث وجد هناك بئر مياه
حية، وتنازع رعاة جرار مع رعاة إسحق زاعمين ملكيتهم لماء تلك البئر، فدعا اسمها
ظلمًا (عسق) (تك 26: 20). ثم حفر بئرًا آخرى ثار عليها نزاع أيضًا فدعاها عداوة
(سطنة) (تك 26: 21). ثم حفر بئرًا ثالثة، ولم يحدث عليها خصام بين الرعاة، فدعاها
رحوبوت أي متسعة للكل (تك 26: 22). وحفر أيضًا بئرًا لم يجد فيها ماءً فدعاها بئر
القَسَم (تك 26: 25).

21.
هل عندما يقرأ أحدكم (عن هذه الآبار) يحسبها أعمالاً أرضية لا روحية؟ فقد حفر
إبراهيم آبارًا، وهكذا فعل إسحق أيضًا، ويعقوب، البطاركة العظماء… كأنهم كانوا
ينابيع الجنس البشري، خاصة كآبار للإيمان والتكريس. لأنه ما هو بئر الماء الحيّ
إلاَّ عمق الإرشاد! لهذا رأت هاجر ملاكًا بجوار بئر (تك 21: 14)، ووجد يعقوب زوجته
راحيل بجوار بئر (تك 29: 2، 9-10)، ونال موسى أولى مكافآته لزواجه المستقبل بجوار
بئر (خر 2: 15-22).

 

المعاني
الرمزية للآبار (أخلاقية ثم طبيعية ثم سرية)

 22.
لهذا أخذ إسحق على عاتقه أن يحفر آبارًا برؤيا عميقة وبتدبير حسن، وذلك لكي تغسل
بئره وتُقوِّي قدرة النفس العاقلة وبصيرتها فتصير الرؤيا أوضح.

لقد
حفر آبارًا أخرى عديدة، وكُتب بهذا الخصوص: “اشرب مياهًا من آنيتك ومن نبع
آبارك” (أم 5: 15
LXX). كلما كثرت الآبار ازداد غِنَى فيض النعم.

نبش
بئرًا سبق فحفره أبوه إبراهيم، وقد تنازع عليه رعاة جرار؛ هذا يشير إلى جدران
الفصل، إذ حدث انقسام بين المتنازعين وصار ظلم، وقد دُعِيَ البئر
“ظلمًا”، ثم حفر بئرًا أخرى وحينما قام النزاع دعاها عداوة. يبدو في هذا
تعليم أخلاقي، لأنه ما أن تُزال جدران الفصل تُنزَع العداوة طبيعيًا. التي في جسد
الإنسان ويصير العنصران (الجسد والنفس) واحدًا؛ هذا ما تحقق رمزيًا في إسحق
وبالحقيقة بالمسيح. لهذا وُجِد بعد ذلك ماء نقي في البئر (الثالثة)، صالحة
للشرب… وقد دعيت “رحبوت”، لأن الإنسان الذي يتجاوز الأمور العالمية
المادية يكون هادئًا رابط الجأش يجاهد دون منازعة… ويقول: “الآن قد أَرْحب
لنا الرب وأثمرنا في الأرض” (تك 26: 22)؛ لأنه قد سُمِّي على الأمور الأرضية.
أما البئر الأخيرة فهي بئر القَسَم (العهد)، حيث ظهر له الله، قائلاً: “لا
تخف لأني معك” (تك 26: 24)، وباركه هذا تعليم سرِّي.

23.
لديكم تعليمًا مماثلاً في سليمان. سفر الأمثال الذي هو أخلاقي، وفي سفر الجامعة
يستهين بأباطيل هذا العالم كأمر طبيعي. أما نشيد الأناشيد فسِرِّي.

لديكم
أيضًا في النبي: “ازرعوا لأنفسكم بالبرّ، احصدوا ثمرة الحياة، اَضيئوا
لأنفسكم نور المعرفة” (10: 12
LXX). هذا هو نور المعرفة أن يكون لكم كمال الحب. فقد قيل: “لا
تخافوا، لأن المحبة تطرد الخوف خارجًا” (1 يو 4: 18).

لنعرف
أن سليمان فسَّر تلك الآبار، ونسب إليها معانٍ أخلاقية وطبيعية وسرية بالترتيب.

أ.
الآبار في المفهوم الأخلاقي

24.
لأنه في الأمثال إذ تحدث عن رفضه جمال الفتن العالمية حيث قال: “اشرب مياهًا
من آنيتك، ومن نبع آبارك، ولتُفِضْ مياه ينبوعك لك” (أم 5: 15-16
LXX)، وأيضًا: “ليكن ينبوع مياهك لك وحدك وافرح بزوجتك” (أم
5: 18
LXX)، لأن الحكمة الحقيقية هي علاجنا ضد تجارب العالم والتعليم
الأخلاقي أيضًا. فإنه بسَرَيان مياهها الفائض من نبعها تُغسَل صورة الإنسان وتتطهر
هذه التي تلطخت بمساحيق مباهج العالم التي تستخدمها الزانية، إن جاز التعبير.

ب.
الآبار في المفهوم الطبيعي

25.
بالإشارة إلى المفهوم الطبيعي، تجدونه في سفر الجامعة: “عملت لنفسي بِرَك
مياهٍ لتسقي بها المغرس المنبتة الشجر” (جا 2: 6). لا تهتموا أنه قال
“بِرَك” بدلاً من “الآبار”.

ج.
الآبار في المفهوم السرِّي

26.
تبقى لنا البئر في المفهوم السرِّي، نجدها في نشيد الأناشيد، حيث يقول الكتاب
المقدس: “ينبوع جنات بئر مياه حية وسيول من لبنان” (نش 4: 15). حقًا إن
أردتم سبر؟؟ عمق الأسرار تُظهِر البئر لكم حكمة سرية مؤسسة في الأعماق. لكن إن
أردتم شرب وفرة الحب الأعظم والأغنى من الإيمان والرجاء فلكم نبعكم، لأن المحبة
تفيض بِغنى لكي تقدروا أن تشربوها وتكون بين أيديكم، تروي جنتكم بغزارة، فتأتي
بثمار روحية.

لأن
الحبيب (المحب) هناك وراء بئر رحبوت، يقول الكتاب المقدس حيث يوجد الحب هناك
مَجْرَى قوي يتدفق عبر لبنان.

لنَسْمَح
للإنجيل أن يعلمنا (عن البئر بالمفهوم السِرِّي)، إذ كتب أن “يسوع أتي إلى
مدينة من السامرة يُقال لها سوخار بقرب الضيعة التي وهبها يعقوب ليوسف ابنه، وكانت
هناك بئر يعقوب. فإذ كان يسوع قد تعب من السفر جلس هكذا على البئر” (يو 4:
5-6). بهذا نعرف أيضًا أن هذه البئر تُفْهَم سرّيًا. فالمرأة السامرية، حارسة،
أعني حارسة للوصايا السماوية، تقترب من هذه البئر، لأنها تعلمت الأسرار الإلهية،
تعلمت أن الله روح وأنه لا يُعْبَد في مكان بل في (ب)الروح، وأن المسيح هو المسيّا
الذي انتظره اليهود وقد جاء فعلاً (يو 4: 21-26). إذ سمعت هذه الأمور تعلمت هذه
المرأة التي تُعلِن عن جمال الكنيسة، وآمنت بأسرار الناموس.

 

الحكمة
الثلاثية الأبعاد

 [يضرب
القديس أمبروسيوس أمثلة متعددة للتفاسير الثلاثية للكتاب المقدس: التفسير
الأخلاقي، التفسير الطبيعي، التفسير السرِّي (الرمزي)، ويدعو هذه التفاسير
“الحكمة الثلاثية الأبعاد”. أخذ القديس أمبروسيوس هذا الفكر عن مدرسة
الإسكندرية، خاصة العلامة أوريجينوس الذي يرى أن الكتاب المقدس يُفسَّر بثلاث طرق:

أ.
التفسير الحرفي أو التاريخي، يُقدَّم للبسطاء.

ب.
التفسير السلوكي أو الأخلاقي.

ج.
التفسير الرمزي أو السِرِّي، خاص بالنفس التي تتمتع بالشركة مع السيد المسيح،
كعروس له، تنعم بأسراره وهي في حجاله.

 اكتفي
هنا بتقديم بعض أمثلة مما ورد في مقال القديس أمبروسيوس.

27.
في سفر نشيد الأناشيد أيضًا، يصور سليمان بوضوح تلك الحكمة الثلاثية الأبعاد، وإن
كان في سفر الأمثال أوصى أن الإنسان الذي يريد أن يسمع حكمته ينبغي أن يكتبها
لنفسه ثلاث مرات (أم 22: 20
LXX).

تقول
العروس في نشيد الأناشيد عن العريس: “ها أنتَ جميل يا حبيبي وحلو حقًا!
وسريرنا مُظلَّل، وعوارض بيتنا أَرْز، وروافدنا سِرْو” (نش 1: 16-17). يمكن
تفسير ذلك أخلاقيًا؛ لأنه أين يسكن المسيح وكنيسته إلاَّ في أعمال شعبه (سلوكهم)؟
فإنه حيث توجد النجاسة والكبرياء أو الإثم “ليس لابن الإنسان أين يسند
رأسه” (مت 8: 20) كقول الرب يسوع.

28.
وماذا عن المفهوم الطبيعي؛ “تحت ظله ابتهجتُ للغاية وجلستُ وثمرته حلوة
لحلقي” (نش 2: 3
LXX). الإنسان الذي يسمو فوق الأرضيات ويموت عن العالميات، الذي صُلب
العالم له وهو للعالم، يحتقر وينبذ كل ما هو تحت الشمس.

29.
بخصوص المفهوم السرِّي يقول: “أدخلني إلى بيت الخمر، ومُر لي بما أحب”
(نش 2: 4
LXX). كما أن الكرمة تضم التعريشة هكذا الرب يسوع ككرمة أبدية (يو 15:
1) يحتضن شعبه كما بين ذراعيّ المحبة.

30.
تأملوا كل جزء بالمفهوم الأخلاقي… “أنا زهرة الحقل، سوسنة الأودية” (نش
2: 1)، بالمفهوم الأخلاقي هو زهرة.

وبالمفهوم
الطبيعي هو شمس البرّ (ملا 3: 20) الذي يُعطي نورًا عند إشراقه وقيامته ثانية…
لاحظوا أنه لا يغرب عنكم، كما هو مكتوب: “لا تغرب الشمس عن غيظكم” (أف
4: 26).

وبالمفهوم
السِرِّي، هو المحبة؛ لأن المسيح هو تكميل الناموس (رو 13: 10). هكذا الكنيسة التي
تحب المسيح، مجروحة حبًا (نش 2: 5
LXX).

 

المسيح
الطافر على الجبال

 31.
إنه يوقظها، يوقظها من جديد، لكي تسمع صوته.

إنها
تدعوه ليحضر، فإذا ما دُعِي لا يأتي فقط، إنما يَأتي قافزًا! “طافرًا على
الجبال، قافزًا على التلال” (نش 2: 8). إنه يطفر فوق النفوس التي لها نعمة
أعظم، ويقفز على تلك التي لها نعمة أقل! وربما يعني النص: كيف جاء طافرًا؟ جاء إلى
هذا العالم في شكل طفرة. كان مع الآب، وجاء إلى عذراء، ومن العذراء قفز إلى مزود.
كان في المزود وهو يضيء في السماء. نزل إلى الأردن وصعد إلى الصليب. هبط إلى القبر
وصعد قائمًا من القبر وجلس عن يمين الآب.

كالإيل
الذي يشتاق إلى مجاري المياه (مز 42: 2)، هكذا نزل إلى بولس فأضاء حوله (أع 9: 3)،
وقفز فوق كنيسته التي هي بيت إيل، أي بيت الله (مي 5: 1)، لأن دعوة بولس هي قوة
الكنيسة.

المسيح
يتطلع من الكُوى خلف الحائط

32.
جاء إذن، وكان أولاً خلف الحائط، وذلك لكي يحطم العداوة التي بين النفس والجسد،
بإزالة الحائط الذي بدا كأنه يعوق الانسجام (نش 2: 9؛ أف 2: 14). ثم يتطلع من
الكُوى (نش 2: 9). اسمعوا ما يقوله النبي عن الكُوى: “ميازيب من العلاء
انفتحت” (إش 24: 18). إنه يعني الأنبياء الذين من خلالهم نظر الرب إلى جنس
البشر قبل أن يأتي بنفسه على الأرض.

33.
اليوم أيضًا، إن كانت نفس ما تطلبه كثيرًا، فإنها تستحق رحمة عظيمة، لأن من يطلب
كثيرًا ينال أكثر. إن كانت نفس ما تسعى إليه بغيرة شديدة، فإنها تسمع صوته آتيًا
من بعيد… إنها تراه قافزًا إليها، أي مسرعًا وراكضًا وطافرًا فوق كل الذين لا
يقدرون أن يقبلوا قوته لضعف قلوبهم. وبقراءة الأنبياء وتذكُّر كلماتهم، تراه
متطلعًا إليها من خلال أحجبتهم، ناظرًا كما لو كان من كُوَّة، كما لو كان حاضرًا!

تراه
واقفًا فوق الشُبَّاك (نش 2: 9
LXX). فما معنى هذا، ما لم تكن (في الأول المعنى شُبَّاك وبعد ذلك
المعنى شِباك؟؟؟) الشباك ليست شباكه بل شباكنا نحن؟ لأن النفس التي لا تزال وسط
الأمور الزمنية المادية، هذه التي بصفة عامة تأسر فكر الإنسان وتطويه. لهذا يُظهِر
نفسه خلال الشباك لمن يسعى إليه وهو وسط الأمور الزائلة. (المعنى ف الإنجيل
شُبَّاك؟؟ الشبابيك)

 

يجتذب
النفس الساعية إليه

 34.
يقول لمثل هذه النفس (الساعية إليه): “قومي، اِنهضِي يا حبيبتي” (نش 2:
10)، أي انهضي من ملذات العالم، قومي من الأمور الأرضية وتعالي إليَّ، يا من
مازلتِ تعملين وأنتِ مثقلة (مت 11: 28). لأنك منشغلة بالأمور الزمنية، تعالي
عَبْرَ العالم، تعالي إليَّ فإني قد غلبت العالم. اقتربي فإنكِ جميلة، مُزيّنة
بالحياة الأبدية، أنتِ الآن حمامة (نش 2: 10)، لأنك وديعة ولطيفة. الآن أنتِ
مملوءة بالكامل بالنعمة الروحية، فيليق بكِ ألاَّ تخشي الشباك. هذا حق للغاية، فإن
مَنْ لا تسبيه تجارب العالم وشباكه (سيراخ 9: 13) تسمو نفسه. فإننا نحن البشر نسير
وسط فخاخ، مُعرَّضون للشباك باشتياقنا للقوت، أما هو فإذ سكن في الجسد لم يخش
الشباك بل وقف فوقها، أي فوق تجارب العالم وأهواء الجسد، وبالأكثر جعل آخرين يقفون
فوق الشباك.

 

يهب
للنفس ثمرًا

 35.
ومِن ثَمَّ، فإنه إذ يرغب في تثبيت تلك النفس يقول: “قومي، يا حبيبتي، لا
تخشي الفخاخ لأن الشتاء قد مضى” (نش 2: 11)؛ أي قد جاء الفصح (عيد القيامة في
الربيع)، جاء الفصح وغفران الخطايا، وبطلت التجربة، وانقضى المطر (نش 2: 11)، ومضت
العاصفة والضيقة. قبل مجيء المسيح كان شتاء، وبعد مجيئه كانت الزهور. في هذا الصدد
يقول: “الزهور ظهرت في الأرض” (نش 2: 11)، قبلاً كانت أشواكًا والآن
توجد زهور. “بلغ أوان القضب” (نش 2: 11). قبلاً كانت قفرًا والآن حصاد.
“وصوت الحمامة سُمِع في أرضنا” (نش 2: 11). أحْسَنَ النبي بإضافته
“أرضنا”، إذ يتعجب أنه إذ وُجد قبلاً نجاسة صارت الآن طهارة.

36.
“التينة أخرجت فجَّها” (نش 2: 13). سبق فأمر بقطعها لأنها لم تُعطِ
ثمرًا (لو 13: 7)، لكنها بدأت الآن تُخرج ثمرًا.

لماذا
تتردَّدون عندما قال “فجَّها”؟ لقد عَصَف بالذين جاءوا قبلاً لكي يأتي
بالأفضل فيما بعد، وذلك كما رفض ثمر المجمع اليهودي أما ثمر الكنيسة فيتجدد.

 

يحمي
النفس في صليبه

 37.
بالرغم مِنْ تَوفُّر الهدوء الكامل وبلوغ خطة الخلاص منتهاها، يقول: “قومي
آمنة في محاجئ الصخر” (نش 2: 13-14
LXX)، أي آمنة في حماية آلامي
وخلف حصن الإيمان، لأنهم “رضعوا عسلاً من حجر، وزيتًا من صوان الصخر”
(تث 32: 13
LXX). إذ تتسربل نفس البار بستر الإيمان هذا، لا تتعرَّى الآن بل تكون
لها كحصن، لهذا يقول لمثل هذه النفس: “تعالي أيضًا يا حمامتي في ستر الصخرة
بقرب الجدار (الحصن)، أريني وجهك، أَسْمعِيني صوتك” (نش 2: 14
LXX). إنه يحثها على الاتكال عليه فلا تخزى من صليب المسيح وخيمته (2
تي 1: 8؛ نش 8: 6). إنه يحثها على الاعتراف؛ يريد لكل الحيل أن تتنَحَّى جانبًا
حتى تنتشر رائحة الإيمان الذكية (2 كو 2: 15-16)، حتى يُشرِق النهار ببهاء، ولا
يؤذي ظل الليل البهائم. فإن من يقترب من المسيح يقول: “قد تناهى الليل وتقارب
النهار” (رو 13: 12). يمضي ظل الأمور العالمية، ويُشرِق نور الأمور السماوية
– المسيح – على قديسيه. مثل هذه النفس تنال تأكيدات الحب الذكي

 

خامسا: جهاد النفس المؤمنة

 التزام
النفس باليقظة

 38.
يلزمنا أن نكون دومًا يقظين ساهرين، لأن كلمة الله يقفز كغزال أو كالإيل (نش 2: 9)
يليق بالنفس التي تطلبه وتتوق إلى امتلاكه أن تكون في يقظة دائمة، وتحافظ على
وسائل دفاعها. “في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي” (نش 3: 1)، كأنه
يتسلل إليها.

يلزم
أن من يطلب باهتمام، يطلب وهو في فراشه، يطلب في المساء، فلا تكون له ليالٍ ولا
أجازات، لا يخلو وقته من خدمة صالحة. وإن لم يجده في بادئ الأمر فليثابر في البحث
عنه. لهذا تقوم النفس: “إني أقوم وأطوف في المدينة، في الأسواق، وفي
الشوارع” (نش 3: 2). ربما لا تجده الآن، لأنها بحثت عنه في الأماكن العامة
حيث دعاوي الحكم والقضاء وفي الشوارع والأسواق، حيث بضائع للبيع، فالمسيح لا يمكن
أن يُقتنى بأي قدر من المال.

أين
تجد النفس عريسها؟

 

يرى
القديس أمبروسيوس أن النفس المؤمنة تجد عريسها السيد المسيح في الأماكن التالية:

 أ.
في الأماكن العامة للمدينة: حيث يُقدم زيت النعمة المجانية للجميع، وحيث يشرب
المؤمنون من الينابيع الحية في الشوارع.

ب.
داخل النفس، بكونها المدينة المسوَّرة بالسيد المسيح والساكن فيها في نفس الوقت.

ج.
في الكنيسة، أورشليم السمائية، حيث كلمة التعليم الصادقة وروح العبادة.

39.
يمكننا أيضًا أن نفسر العبارة على النحو الآتي: النفس التي تطلب المسيح على
فراشها، أي تطلبه وهي في هدوء وسلام، تبحث عنه ليلاً، لأنه تحدث بأمثال (كما في
غموض الليل) (مت 13: 13؛ حز 21: 5). “جعل الظلمة ستره” (مز 18: 11)، و
“الليل إلى ليل يُبْدي علمًا” (مز 18: 11). وأيضًا “لأن ما نقوله
في قلوبنا نندم عليه في مضاجعنا” (مز 4: 4). لكنها لا تجده بهذه الوسيلة،
لهذا تقول: “سأقوم”، أي أقوم وأضاعف جهدي، لأبحث عنه بلا هوادة، سأبحث
عنه بدقة، سأدخل المدينة (أي تدخل أعماقها بكونها مدينة الله). تقول النفس:
“أنا مدينة قوية، مدينة مسوّرة” (إش 27: 3
LXX).
وهي المدينة المسوَّرة بالمسيح؛ المدينة هي أورشليم السمائية (عب 12: 22) التي
يوجد فيها مُفَسِّرُو ناموس الله ورجال حاذقون في التعليم بوفرة عظيمة، خلالهم
يطلب الإنسان كلمة الله.

“أطوف
في الأماكن العامة للمدينة”، أي في الساحات التي يمارس فيها المحامون
القانون، وحيث يُباع الزيت الذي تشتريه عذارى الإنجيل الحكيمات (مت 25: 8-9) لكي
تستضيء مصابيحهن على الدوام، ولا يُطفئها دخان الإثم.

أطوف
في الشوارع حيث تفيض المياه المتدفقة من تلك الينابيع، التي يقول سليمان بأنه
ينبغي على الإنسان أن يشرب منها.

 

لنتطلع
إلى ما وراء الملائكة

 40.
وبينما تطلب (النفس) المسيح، تجد الحراس الذين في خدمته (نش 3: 3)؛ لكن النفس التي
تطلب الله تتجاوز أيضًا الحراس، فإنها تطلب الأسرار التي تشتاق حتى الملائكة أن
تطَّلع عليها. في هذا الصدد يقول بطرس: “التي أُخبِرْتم بها أنتم الآن بواسطة
الذين بشروكم بالإنجيل في الروح القدس المرسل من السماء التي تشتهي الملائكة أن
تَطَّلع عليها” (1 بط 1: 12) الإنسان الذي يتجاوز إلى ما وراء الحراس يجد
الكلمة. لقد تجاوز يوحنا فوجد الكلمة مع الآب (يو 1: 1).

 

المسيح
حاضر في ضيقات مؤمنيه

 41.
يوجد كثيرون يطلبون المسيح في تَرَفِهِم فلا يجدونه، إنما يجدونه في الاضطهادات،
يجدونه سريعًا… لأنه حاضر في ضيقات مؤمنيه. تقول النفس: “فما جاوزتهم إلاَّ
قليلاً حتى وجدت من تحبه نفسي فأمسكته ولم أُرخِه (لم أَدَعه يذهب)” (نش 3: 4
LXX)، لأن من يطلب يجد (مت 7: 8)، ومن يجد يليق به أن يظل قريبًا منه
حتى لا يفقده.

 

المسيح
ليس في القبر!

 42.
إذ نرى الأسرار السماوية تُمثَّل رمزيًا على الأرض من خلال الإنجيل فلنأْتِ إلى
مريم المجدلية ومريم الأخرى (مت 28: 1؛ لو 24: 3، 10). فلنتأمل كيف طلبَتا المسيح
ليلاً في سرير (فراش) جسده، الذي رقد عليه ميتًا، حين قال لهما الملاك:
“إنكما تطلبان يسوع المصلوب؛ ليس هو ههنا، لأنه قام… لماذا تطلبن الحي بين
الأموات؟” (مت 28: 5-6؛ لو 24: 5). لماذا تطلبْن في القبر ذاك الذي هو الآن
في السماء؟ لماذا تطلبْن في قيود القبر من يحرر الجميع من رباطاتهم؟ ليس القبر
سكناه إنما السماء! لهذا تقول إحداهن: “طلبته فما وجدته” (نش 3: 1).

 

اِمسكيه
أيتها النفس بالإيمان!

 43.
إذ ذهبتا تخبران الرسل أشفق يسوع على طالبيه، إذ قابلهم وقال لهم:
“سلام!”. نهضوا وأمسكوا بقدميه بقوة وسجدوا له (مت 28: 9). يُمْسِك يسوع
بقوة، وهو يُسَرُّ بذلك، أن يُمسك بقوة بالإيمان. أيضًا المرأة التي لمسته قد
أَبْهجته، وقد شفيت من نزيف الدم؛ إذ قال عنها: “قد لمسني واحد، لأني علمت أن
قوة قد خرجت مني” (لو 8: 46).

 

المسوه
وامسكوه بقوة الإيمان.

 امسكوه
بالإيمان جيدًا بقدميه، فتخرج منه قوة وتشفى نفوسكم.

مع
أنه يقول “لا تلمسيني، لأني لم أصعد بعد إلى أبي” (يو 20: 17). امسكوه
بقوة! إنما قال مرة واحدة فقط: “لا تلمسيني!”

في
وقت قيامته… قالها لمن ظنت أنه سُرِق ولم يقم بقدرته الذاتية! لكنكم تقرأون في
إنجيلٍ آخر أنه قال للنسوة اللواتي كن يمسكْن قدميه بقوة ويسجدْن له: “لا
تخفْن” (مت 28: 10).

لتمسكيه
أيتها النفس بقوة كما فعلت مريم (المجدلية)، وقولي: “أمسكته ولم أرخه”،
وكما قالت المرأتان أيضًا: “نحن نمسكك بقوة”.

اذهب
إلى الآب، لكن لا تترك حواء خلفك لئلا تسقط مرة أخرى! خذها معك، لأنها الآن لا
تجول شاردة بل تتمسك بقوة بشجرة الحياة. أمسك بها فتلتصق هي بقدميك وتصعد معك. لا
تَدعْني أذهب (بعيدًا عنك) لئلا تنفث الحية سمَّها مرة أخرى، وتحاول لدغ قدم
المرأة فتُسْقِط آدم (تك 3: 5).

لتقل
نفسك: “فأمسكته ولم أرخه حتى أدخلته بيت أمي وحجرة مَنْ حبلت بي” (نش 3:
4، 8: 2).

 

لأعرف
أسرارك وأنهل من تعاليمك.

 خذ
حواء، ولكن ليست وهي مغطاة بأوراق التين (تك 3: 7). وإنما وهي مكسوَّة بالروح
القدس ومجيدة بنعمة جديدة. لذلك فهي لا تختبئ كمن هي عريانة (تك 3: 8-13)، إنما
تأتي لمقابلتك متسربلة بثوب بهي ساطع، إذ تصير النعمة ثوبها. وذلك كما كان آدم في
البداية حيث لم يكن عاريًا لأنه كان مرتديًا البراءة

 

التصقي
به واصعدي معه بالصلوات الورعة والإماتة

 44.
تراها بنات أورشليم (نش 3: 5) وهي ملتصقة بالمسيح ولا تزال تصعد معه، إذ يَقْبل أن
يلتقي مع مَنْ يطلبونه ويستجيب لهم ليرفعهم؛ فيقلْنَ: “من هذه الطالعة من
البرية؟” (نش 3: 6)، إذ تبدو هذه الأرض برية قاحلة. فهي مملوءة بحسك خطايانا
وأشواكها. إنهن يتعجَّبْن كيف أن نفسًا قد هُجِرت قبلاً في الجحيم تلتصق بكلمة
الله وترتفع كغصن الكرمة الذي يعلو في المناطق المرتفعة أو كدخانٍ صادر من النار
يطلب المرتفعات، وهي معبَّقة بأطياب زكية. ها رائحة صلاة ورعة ذكية تنبعث كبخور
قدام الله. نقرأ في الرؤيا أنه قد “صعد دخان البخور مع صلوات القديسين”
(رؤ 8: 4، مز 141: 2). ويُقدَّم البخور – أي صلوات القديسين – بواسطة ملاك
“على مذبح الذهب الذي أمام العرش” (رؤ 8: 3).

إنها
بحق معبقة بالدهن الحلو للصلاة الورعة، فقد أُعِدَّ الدهن بالصلوات لأجل الأبديات
غير المنظورة، وليس لأجل الأمور الجسدانية.

أكثر
من هذا، فإن النفس معطَّرة بالبخور والمرّ (نش 3: 6)، لأنها ميتة عن الخطية وحيّة
لله (رو 6: 2، 11).

45.
تراها (بنات أورشليم) تصعد دون عائق، فتفرحْنَ لشذى(لشذا) استحقاقاتها الطيب، إذ
يعرفْن أيضًا أنها عروس سليمان صانع السلام، لهذا تتبَعْها في موكب موالٍ حتى تخت
سليمان (نش 3: 7)، لأن الراحة الحقيقية اللائقة بها هي في المسيح الذي هو تخت
القديسين، الذي فيه تستريح قلوب جميع المثقلين بحروب العالم. على هذا التخت استراح
إسحق، وبارك ابنه الصغير (تك 27: 27)، قائلاً: “الكبير يُستعبد للصغير”
(تك 25: 23). وإذ اتكأ يعقوب على هذا التخت بارك الاثني عشر بطريركًا (تك 48: 2،
49). وبالاستلقاء على هذا التخت قامت ابنة رئيس المجمع من الموت (مز 5: 35-43).
وبالرقاد على ذلك التخت حطم ابن الأرملة الميت قيود الموت حينما دعاه صوت المسيح
(لو 7: 11-17).

 

تمتعي
بأغنية الحب الزيجي

 46.
وحينما اُقْتِيدتْ العروس إلى موضع الراحة في عرسها غنت بنات أورشليم لها أغنية
الزواج وعبَّرْن عن الحب: “اُخرجْن وانظُرْن الملك سليمان بالتاج الذي
توَّجْته به أمه في يوم عرسه” (نش 3: 10-11). إنهن يُرنّمْنَ أغنية الزفاف
ويدعون القوات السمائية الأخرى أو النفوس لترى حب المسيح نحو بنات أورشليم (نش 3:
11). بهذا استحق أن تُتوِّجه أمه، كابن مُحبّ، وكما يوضح بولس قائلاً:
“أَنقذَنا من سلطان الظلمة، ونقلنا إلى ملكوت ابنه المحب (ابن محبته)”
(كو 1: 13). فهو إذن ابن المحبة وهو محبة. إنه لا يقتني الحب عرضًا لكنه يملكه في
جوهره…

يُقال:
“اُخرجْنَ” أي “اُخرجْنَ من حدود الجسد”، اُخرجْنَ من أباطيل
العالم، وانظرْنَ كيف يحمل ملك السلام الحب في يوم عرسه، كيف هو مملوء بالمجد، إذ
يَهَب قيامة للجسد ويوحّد النفس به (بالمسيح). هذا هو إكليل الجهاد العظيم. هذه هي
الهبة الرائعة لزواج المسيح: دمه وآلامه! ماذا يمكن أن يُعطى أكثر من هذا؟ إنه لم
يبخل بنفسه بل بذل ذاته بالموت لأجلنا (رو 8: 32).

 

استوطني
مع العريس السماوي

 47.
إذ يفرح الرب يسوع نفسه بإيمان هذه النفس واعترافها ونعمتها، يمتدح استحقاقها،
ويدعوها إلى الاقتراب منه، قائلاً: “هلمي معي من لبنان يا عروسي. تعالي معي
من لبنان، ستأتين. أجل، تعالي آمنة من المنبع الذي هو الإيمان، من رأس شير وحرمون،
من خُدور الأسود، من جبال النمور” (نش 4: 8
LXX).
أي اخرجي من الجسد، وتجردي منه تمامًا، فإنه لا يمكنك أن تكوني معي ما لم تخرجي عن
الجسد، لأن الذين هم في الجسد متغربون عن ملكوت الله (2 كو 5: 8).

“تعالي…
تعالي”. التكرار هنا حسن، لأنكم سواء كنتم حاضرين (في الجسد) أم غائبين (عنه)
يلزمكم أن تستوطنوا عند الرب إلهكم وأن تسرّوه. تعالوا عندما تكونون حاضرين،
وتعالوا عندما تكونون غائبين، وأنتم لا تزالون في الجسد، لأنه بالنسبة لي فجميعكم
حاضرون يا مَنْ إيمانهم معي.

إنه
معي، ذاك الذي يخرج من العالم.

إنه
حاضر معي مَنْ غاب عن ذاته.

إنه
مستوطن عندي مَنْ ينكر نفسه (مز 8: 34).

هو
معي مَنْ ليس داخل نفسه، لأنه مَنْ كان في الجسد لا يكون في الروح.

إنه
معي مَنْ يخرج عن ذاته.

إنه
يقترب مني مَنْ كان خارجًا عن ذاته.

إنه
بكلّيته لي مَنْ فقد حياته لأجلي (مت 10: 39).

تعالي،
تعالي، يا عروسي. إنك ستأتين أمان تعالي آمنة من المنبع الذي هو الإيمان. إنها
تأتي، أجل تأتي في أمان من الأرض، تأتي في أمان إذ تجيء إلى المسيح. تأتي باستحقاق
الإيمان، ومجد الأعمال التي تُشرق مثل شير وحربون، أي تأتي في طريق نور وقد غَلبت
تجارب العالم، وقهرت أرواح الشر (أف 6: 12). تطلب إكليل الجهاد القانوني وتستحق أن
تُمدح من المسيح الديّان.

 

عريسك
يمتدح طهارتك

 48.
“أنتِ جنة مغلقة يا أختي العروس، جنة مغلقة، ينبوع مختوم، أغراسك فردوس رمان
مع أثمار أشجار ونباتات عطرة” (نش 4: 12-13
LXX).

تُمدح
العروس لأنها جنة، لها في داخلها أريج حقل مثمر، يقول عنه إسحق: “رائحة ابني
كرائحة حقل مبارك (مثمر)” (تك 27: 27). النفس الصالحة تكسب شذى البرّ…

الجنة
مغلقة حتى لا تغزو الحيوانات الضارة النفس، والينبوع مختوم لتغْسِل آثامها بكمال
الختم (ختم المعمودية) وبثباتها في الإيمان.

الينبوع
الذي ينبع من الكنيسة يحمل ما يُنسَب إلى نعمة البتولية. دُعِيَ بحق ينبوعًا
مختومًا، لأن صورة الله غير المنظور (كو 1: 15) متمثلة فيه.

يوجد
أيضًا مديح للنفس التي يرسلها العريس فتأتي متشحة بها. عطايا النفس الورعة هي
الأطياب الذكية التي للمرّ والزعفران التي تفوح في الجنات الجميلة والتي تنزع
نتانة الخطايا.

 

عريسك
يطلب ثمرك

 49.
إذ لا تنزعج بهذا الإعلان العظيم تسأل ريح الشمال العاتية أن تسكن حتى لا تحطم
الزهور، وأن تهبّ ريح الجنوب، أي أنها تريد أن ينتهي الشتاء وتحل نسمات فصل ألطف
هو الربيع (نش 4: 16، 2: 11). لماذا لم يكتب الاصحاح الأصغر الأول؟؟؟

إنها
تدعو عريسها إلى جنتها (نش 4: 16)، لينزل ويبتهج بتنوّع ثمارها، يفرح إذ يجد
طعامًا أقوى وأحلى. يوجد نوع من خبز الكلمة والعسل، يوجد حديث أكثر غيرة وإقناعًا.
يوجد إيمان يُعطي دفئًا أكثر من الخمر، وأكثر نقاوة يشبه مذاق اللبن. يقتات المسيح
فينا من هذا الطعام ويشرب من هذا الشراب.

يطالبنا
بالخمر المسكر الذي به نرحل عن الأمور الدنيا إلى ما هو أفضل

 

سادسا: يقظة النفس الهائمة حباً

 يجد
مسيحنا في النفس المقدسة جنة روحية تحمل ثمارًا متنوعة، للأكل والشرب. خمرها
المسكر يَهب للإنسان هيامًا في الحب، تنسى كل الأمور الزمنية لترتفع نحو السماويات
باتحادها مع عريسها. تسكر بالحب فتنام فيتقدم إليها عريسها هل يوضع نقطة أم نقطتين
فوق بعض؟؟

أ.
لكي يُيْقظها؛

ب.
يقرع على بابها؛

ج.
يُنهضها من سريرها؛

د.
يكشف أسراره لها؛

ه.
يجتذبها إليه بحبه؛

و.
يستر عليها بالحب؛

ز.
يشبعها بالحنطة السماوية

 

المسيح
يُيْقظ النفس الهائمة حبًا

 50.
عند سماعها ذلك، تسكر النفس بالأسرار السماوية، وكأنها تنام بالخمر، كأنها راقدة
في نشوة أو في سبات، فتقول: “أنا نائمة وقلبي مستيقظ” (نش 5: 2). وإذ
يغشاها النور الذي يسببه حضور الكلمة ما أن ترقد وعيناها مفتوحتان حتى يوقظها
الكلمة. هنا يتحقق التقدم الرابع للنفس:

 

أولاً:
إذ يَنْفذ صبر حبها ولا تحتمل تأخير الكلمة عنها تسأله أن تتأهل لقبلاته (نش 1:
2)، وأن ترى حبيبها، وتُقتاد إلى حجال الملك.

 

ثانيًا:
إذ كانا يتحدثان إلى بعضهما البعض استراحت في ظله (نش 2: 3)، وفجأة رحل عنها
الكلمة وسط حديثهما، لكن لم يغب طويلاً. لأنه ما أن طلبته حتى جاء طافرًا على
الجبال، قافزًا على التلال (نش 2: 8). وبعد برهة قصيرة وكغزال أو وعل (نش 2: 9)
وبينما يخاطب محبوبته طفر وتركها.

 

ثالثًا:
على الرغم من أنها لم تجده وهي تطلبه ليلاً وهي في الفراش (نش 3: 1)، في المدينة
والساحات والشوارع (نش 3: 2)، فإنها أخيرًا استعادته بصلواتها وبالنعمة، لهذا
دعاها العريس إلى الاقتراب منه.

 

رابعًا:
الآن يوقظها من النوم مع أنها كانت متيقظة بقلبها لتسمع صوته في الحال حين يطرق
الباب (نش 5: 2)، لكنها بينما تنهض تأخرت قليلاً إذ لم تقدر أن تجاري ركض الكلمة.
إذ فتحت الباب مَرّ الكلمة وعبر (نش 5: 5-6). خرجت على كلمته وبحثت عنه وهي مجروحة
بجراحات الحب. وأخيرًا بصعوبة وجدته وعانقته حتى لا تفقده. لقد تعرضت لهذه الأمور
التي ذكرناها في إيجاز واقتضاب؛ لنتأملها الآن واحدة فواحدة.

 

المسيح
يقرع باب النفس ليستريح فيها

 51.
حتى إن كنت نائمًا وجاء المسيح فقط ليعرف تكريس نفسك، إنما يأتي ويطرق الباب،
قائلاً “افتحي لي يا أختي” (نش 5: 2). حسنًا تُستَخدم كلمة
“أخت”، لأن زواج الكلمة والنفس روحي. النفوس لا تعرف عهود الزواج أو
أساليب الاتحاد الجسداني، لكنها كملائكة في السماء (مت 22: 30).

“افتحي
لي”، واغلقي أمام الغرباء. اغلقي أمام الأزمنة وأمام العالم. لا تخرجي خارج
الأبواب إلى الماديات. لا تهجري نورك لتبحثي عن نور الآخرين. لأن النور المادي
يسبب عتمة داكنة فلا تري نور المجد الحقيقي، لهذا “افتحي لي”.

لا
تفتحي للخصم، ولا تعطي مكانًا لإبليس.

افتحي
لي ذاتك، لا تكوني ضيِّقة بل اتسعي وأنا أملأك.

أثناء
عبوري في العالم صادفت متاعب جمة ومضايقات، ولم أجد موضعًا أستريح فيه، أفلا تفتحي
إذن حتى يسند ابن الإنسان رأسه عليكِ، إذ لا يجد راحة (لو 9: 58) إلاَّ في الوديع
والمتضع.

 

المسيح
يُنهض النفس المُحبة

 52.
إذ تسمع النفس “افتحي لي”، “رأسي امتلأ من الطلّ” (نش 5: 2)،
النفس التي باغتتها التجارب وأزعجتها في العالم، وقد أُمرت أن تنهض، وها هي على
وشك القيام، تتحدث وقد تعطرت بالصبر والمرّ (نش 5: 5) علامة الدفن، وتقول:
“قد خلعت ثوبي، فكيف ألبسه؟ قد غسلت رجليّ، فكيف أوسخهما؟” (نش 5: 3).
لأنها تخشى أن تستيقظ ثانية فتحل بها التجارب وتعود مرة أخرى إلى الإثم والخطية،
فتبدأ في تلويث بدئها وتقدُّمها في الفضائل بخطوات عالمية. بهذا تؤكد كمالها في
الفضيلة، هذه التي استحقت حب المسيح العظيم، فيأتيها ويطرق بابها ويأتي والآب
ليتعشى مع النفس وهي معه تمامًا كما قال في سفر الرؤيا (رؤ 3: 20؛ يو 14: 23).
ولأنها سمعت في نص سابق: “تعالي من لبنان يا عروسي، تعالي من لبنان” (نش
4: 8)، ولأنها أدركت أنه لا يمكنها أن توجد في المسيح في الجسد لكنها تكون معه
فيما بعد، وإن كانت حاضرة في الروح، فقد سلّمت ذاتها لمشيئته حتى تُشبِه صورة
المسيح (رو 8: 29). الآن لا تعي آثار الجسد وإنما كروح قد جردت نفسها من رباطات
الجسد. كأنها قد نسيت اتحادهما ولم تعد تتذكر ذلك حتى إن أرادت، لذا تقول:
“قد خلعت ثوبي فكيف ألبسه؟”

لقد
خلعت ثوب الجلد الذي استلمه آدم وحواء بعد خطيتهما (تك 3: 21)، ثوب الفساد، ثوب
الشهوات.

“كيف
ألبسه؟” إنها تطلب ألاَّ ترتديه مرة أخرى، لأنها تعني بقولها هذا أنه قد طُرح
بعيدًا ولم يعد الآن غطاءً.

“قد
غسلت رجليَّ فكيف أوسِّخهما؟”، غسلت رجليَّ لأذهب وأَنْأَى بنفسي عن الارتباط
بالجسد (شهواته).

“كيف
أوسِّخهما” بأن أعود إلى قيد الجسد وسجن شهواته المظلم.

 

المسيح
يكشف أسراره للنفس المحبة

 53.
إذ كانت تقول هذا أَرسَل الكلمة عمله الصالح خلال فتح الباب، وإن لم يكن ذلك وجهًا
لوجه لكنه جعله بين يديها، إن جاز التعبير (نش 5: 4، 1 كو 13: 12).

“أَنَّ
عليه قلبي، قمت لأفتح لأخي ويداي تقطران مرًا وأصابعي مرّ قاطر على مِقْبض
القفل” (نش 5: 4-5). فلنتأمل في معنى ذلك. أولاً، يُرى الله الكلمة في أعماله
– كما قلت – كما من فتحة في الباب ولا يُرى كاملاً بالتمام. عندئذ يزداد حبها الذي
ما أن يُزرع حتى ينضج… فتتوق أن ترى ملء كمال لاهوته الحال فيه جسديًا كما قرأنا
(كو 2: 9).

قامت
لترى كلمة الله العجيب عن قرب، هنا يُعبّر عن تقدمها، إذ تنهض بقوة الفضيلة. بحضور
الكلمة تتهلل النفس في الفضيلة كما حدث عند حضور مريم التي حملت بالطفل (يسوع)،
أرشد يوحنا الذي كان في الرحم فركض متهللاً لمعرفته بحضرة الرب (لو 1: 44).

قامت
النفس لتفتح وقد ماتت أعمالها عن العالم، فإن النفس التي تقترب من قبول الكلمة يجب
أن تموت عن العالم (غل 6: 14)، وأن تُدفَن مع المسيح (رو 6: 4؛ كو 2: 12)، هكذا
نجد المسيح، وهكذا يكون الاستقبال الذي يطلبه لنفسه. تُمات نفس أعضاء (أدوات)
الأعمال الصالحة، أعني بذلك اليدين والأصابع التي بها تُمسَك المسيح… لكي تُمسِك
الكلمة بيديها الروحيتين تقول النفس التقية إنه ذهب، لكن ليس إنه لا يزال يعبر (نش
5: 6). هذه علامة على التقدم لأن كلمة الله يمضي ويعبر خلال النفس. وكما هو مكتوب:
“وأنت أيضًا يجوز في نفسك سيف، لتُعلَن أفكار من قلوب كثيرة” (لو 2:
25). في هذه الحالة يكون هناك فعل الذهاب لا العبور، ربما كما جازت نفس مريم فيما
بعد حينما جُعِل الرب يسوع خاتمًا في وسطها (نش 8: 6).

 

المسيح
يجتذب النفس المُحبة

 54.
يوجد تقدم آخر في ذهاب الكلمة، لأن النفس تخرج على كلمته، أي تتبع كلمته. تخرج من
الجسد وتسمو فوق مسكنها، مُتغرّبة عنه، لكي تستوطن عند الله، وتصير رعية مع
القديسين (أف 2: 19). لأنه لا يمكننا أن نكون عبيدًا للجسد ولله في وقتٍ واحد.
بهذا يكون المعنى – كما قلت – إن النفس تنطلق بانسحابها من اللذات الجسدية.

مكتوب
أيضًا: “اخرجوا من بابل؛ اهربوا من أرض الكلدانيين” (إش 48: 20). يُنذِر
العبراني بكلمات النبي، لا لكي يهرب حقًا من أرض البابليين، وإنما من سيرتها
الأخلاقية، إذ كان العبرانيون في أرض بابل، وظهروا بسلوكهم الأخلاقي أنهم قد رحلوا
عنها. عن هؤلاء يقول المرتل إنهم جلسوا على أنهار بابل (مز 137: 1). هم مكثوا
فعلاً في أرض بابل لكنهم لم يكونوا في رذائلها المخزية. وفي خضم تلك النقائض
المشينة بكوا وتابوا لأنهم سقطوا عن تابوت الإيمان والعبادة التقية وعن الفضيلة
واستحقاقات آبائهم.

النفس
التي تخرج تسير بكلمته (أي في طاعة لها)، إذ تطلب الكلمة.

 

المسيح
يستر على النفس المحبة

 55.
حين كانت (النفس) تطلب (الكلمة) مَرَّت بالحراس الذين كانوا يطوفون بالمدينة.
“ضربوني، جرحوني، حفظة الأسوار رفعوا إزاري عني” (نش 5: 7). حسنًا كان
هذا الوصف، فإنها كعروس جاءت وقد غطت رأسها بإزارها لكي تقابل العريس. هكذا صنعت
رفقة حين علمت أن إسحق قادم لملاقاتها، نزلت عن الجمل وغطت نفسها بإزار (برقع) (تك
24: 65). هكذا النفس التي تحمل علامة ثوب العروس لئلا تُطرَد خارجًا في حالة عدم
ارتدائها ثوب العرس (تك 24: 65)، وترتديه لتغطي رأسها من أجل الملائكة (مت: 22:
12-13).

ضربها
الحراس إمعانًا في امتحانها، إذ تُمتَحن النفوس بالتجارب. نزعوا عنها الإزار لأنهم
كانوا يبغون معرفة إن كانت تحمل جمالاً حقيقيًا للفضيلة المكشوفة (العارية)، أو
لأن مَنْ يدخل الملكوت السماوي يلزم أن يكون بلا ملابس، غير حامل أي غطاء.

هناك
من يطلب ألاَّ تحمل النفس أي آثار للبهجة الجسدانية وشهوات الجسد. تتعرَّى من
الثوب حين ينكشف ضميرها. هناك أيضًا النفس التي تتعرَّض بنية صالحة حين يُسمح لها
أن تمتثل بالمسيح القائل “رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شيء” (يو
14: 30). لا يجد شيئًا فيمن لا يخطئ (1 بط 2: 22). طوبى للنفس التي لا يوجد فيها
خطايا خطيرة أو كثيرة، إنما يجد فيها ثوب الإيمان وتدبير الحكمة.

 

المسيح
يشبع النفس المحبة

 56.
من ثَمَّ لا تفقد (النفس) شيئًا، لأنه ما من إنسان يضيع ما دامت له الحكمة
الحقيقية، فإنه وإن أثار الخصم فتنة ضده يبقى كمال حياته غير الملومة تشرق على
الدوام. هكذا بدون تحقيق خسارة تجاوزت النفس الحرس ولحقت ببنات المدينة السماوية
تطلب الكلمة، وبسعيها إليه تستثير حبه لها. إنها تعرف أين تبحث عنه، إذ تعرف أنه
يتأخر بين صلوات قديسيه ويظل قريبًا منهم، وتعلم أنه يقوت كنيسته وأنفس أبراره وسط
السوسن (نش 2: 16).

يُعلن
لكم الرب هذا السر في الإنجيل، إذ قاد تلاميذه وسط سنابل القمح يوم السبت (مت 12:
1؛ مر 2: 23؛ لو 6: 1)، أما موسى فقاد شعب اليهود عبر البرية. قادهم المسيح عَبْر
سنابل القمح، وسط السوسن، لأنه بآلامه أينعت البرية كسوسنة! فلنتبعه إذن، ولنقطف
الثمار في السبت العظيم، الذي فيه نجد راحة عظيمة (لا 23: 25؛ يو 19: 31). لا تخشوا
اتهام الفريسيين ضدكم إنكم تجمعون الحنطة. فإنهم وإن اتهموكم فإن المسيح يغفر لكم
ويصفح عنكم (لو 6: 3-5)، ويجعل الأنفس التي يريدها أن تتبعه أن تصير مثل داود الذي
أكل خبز الوجود متعديًا الناموس، إذ سبق فأدرك في فكره الأسرار النبوية الخاصة
بالنعمة الجديدة.

 

سابعا: سمات النفس العروس

 مُبهجة
وكاملة وجميلة

 57.
يمتدحها العريس لأنها طَلَبته حسنًا وبإصرار، وهي الآن تُدعى فقط أختًا، بل أيضًا
مبهجة، إذ هي سرور ذاك الذي هو موضع سرور الآب (مت 17: 5)، وجميلة كأورشليم وموضع
إعجاب في تنظيمها (أو هندامها) (نش 6: 3). لأنها تحمل كل أسرار المدينة السماوية،
تُثير إعجاب كل من يتطلع إليها. لأنها مثل البرّ الكامل التام تكتسب بهاءها من نور
الكلمة، وتسعى جاهدة نحوه على الدوام. تصير أيضًا مُرهِبة كلما تقدمت في تدبيرها
إلى مرتفعات الفضيلة.

لهذا
يقول لها كما إلى شخص كامل: “حوِّلي عني عينيكِ” (نش 6: 5)… فمن فيض
الإيمان والتقوى قد تجاوزت قدرتها الطبيعة؛ لكنه أَمْر صعب أن تنظر مباشرة إلى
النور الذي لا يُدْنى منه (1 تي 6: 16). “حوِّلي عني عينيكِ”، لأنهما لا
يستطيعان احتمال ملء اللاهوت وبهاء النور الحقيقي.

يمكننا
أيضًا تفسير “حوّلي عني عينيكِ” هكذا: وإن أصبحْتِ كاملة، فإنني ملتزم
أن أُخلِّص نفوسًا أخرى وأقويها، فإنكِ إذ تتطلّعين إليَّ تمجدينني (تنشغلي بمجدي
دون اهتمام بخلاص إخوتك) لكنني نزلت لكي أمجد كل البشر (يو 6: 38-40). إن كنت قد
قمت وها أنا في عرش الآب (عب 8: 1؛ 12: 2) لن أترككم يتامى (يو 14: 18)، محرومين
من عون أب، إنما بحضوري أقويكم. هذا ما تجدونه مكتوبًا في الإنجيل: “أنا معكم
حتى انقضاء الدهر” (مت 28: 20).

 

[يرى
القديس أمبروسيوس أن السيد المسيح، كمعلم كل البشرية، ينبغي ألاَّ ينشغل الإنسان
الكامل بالتطلع إلى أمجاد المخلص كمن يُشغِله عن الاهتمام بخلاص صغيري النفوس. إنه
يتحدث كما بلغة البسطاء لكي يُظهِر لنا مدى انشغاله بالنفوس البعيدة والمحرومة
منه. وبهذا يحثنا أن نجاهد في خلاص إخوتنا، ولا نقول مع القديس بطرس: جيد أن نكون
ههنا].

 

تأملوا
الآن معلمًا يرغب في أن يشرح لسامعيه أمرًا غامضًا. فمع كونه متحدثًا لبقًا يجيد
الكلام، لكن يليق به أن ينزل إلى مستوى جهل غير الفاهمين ليستخدم معهم لغة الحديث
اليومي البسيط والسهل حتى يفهموه. فمن كان حصيفًا سريع البديهة بين سامعيه يقدر أن
يتتبَّعه بسهولة، وعندما يقع نظره عليه يكبحه المعلم لكي يسمح له أن يقضي وقتًا
بالحري مع مَنْ هم أكثر منه تواضعا وأقل منه في المستوى، حتى يستطيع غيره أن يتابع
المعلم.

أعمالها
مُشرقة ومدوية

 

58.
كما جاء في أكيلا
Acylas ]ربما يقصد ترجمة Aquila]
“مدوية كمن هي مُعلنة” (نش 6: 9).

إنها
مدوية، إذ عجيبة هي أعمالها في قدرتها وغِنَى فاعليتها.

إنها
مُعلَنة، وذلك لضياء أعمالها، إذ تُشرق أعمال النفس في حضرة الآب السماوي (مت 5:
16). لهذا تفهمون أن إزارها لم يُخلع بلا سبب، لكنها وإن كانت عارية لكنها متألقة
في استحقاقاتها.

 

تتسم
بوحدة الروح

 59.
تُمتدَح بالأكثر لأنها أمينة وقوية في حديثها، وفيرة هي ثمارها العديدة المتنوعة.
إنها كحمامة واحدة (نش 6: 9)، لها وحدانية الروح الذي فيه سلام يجعل الاثنين
واحدًا (أف 2: 14). تتألف من عناصر مغايرة ذات طبيعة مختلفة متقابلة. أي شيء غير
متجانس مثل النار والماء، الهواء والأرض، الذي منه يتألف المخلوق جسمنا؟ هكذا
أيضًا “مباركة هي النفس الصادقة بالتمام” (أم 11: 25
LXX) التي تتشبَّه بالقائل: “ليكون الجميع واحدًا، كما أنك أنت
أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا” (يو 17: 21). هذا هو
تحقيق الكمال والتمام. بهذا النحو أضاف أيضًا: “ليكونوا واحدًا كما أننا نحن
واحد. أنا فيهم وأنت فيَّ ليكونوا مكملين إلى واحد (وحدة)” (يو 17: 22-23).
لهذا مثل هذه النفس هي حمامة واحدة، صادقة وروحية، لا تضطرب بشهوات الجسد مع وجود
صراعات من الخارج ومخاوف من الداخل (2 كو 7: 5).

يعلمنا
الكتاب المقدس أن لفظة “وحدة” تعني التوافق والسلام، إذ قيل: “وكان
لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة ولم يكن انقسام بينهم” (أع 4: 32).

 

مُخصبة
ومثمرة

 60.
تُمدَح النفس لخصوبتها، وذلك ليس بدون سبب، من جهة لأنها ولود في الفضائل، ومن جهة
أخرى أنها بلا شر في ذاتها. إنه لأمر جميل ألاَّ يوجد شر، إنه جميل ما هو صالح،
أما الشر فليس بجميل. الخصوبة في الأعمال الصالحة جميلة؛ أما العقم فمضاد للجمال،
إذ يوجد شر فيما هو محروم من الجمال واللياقة. ما هو شر فهو عقيم وغير مخصب. وما
أدل على ذلك ما تقدمه الطبيعة. الأرض الجيدة خصبة ومثمرة، أما الرديئة فمجدبة وبور.

كان
مناسبًا ما قيل بالنسبة للرب نفسه بعد أن جعل الكنيسة تزداد خصوبة: “الرب قد
ملك، لبس الجلال” (مز 93: 1). وفي نص آخر: “مجدًا وجلالاً لبست”
(مز 104: 1). واضح إذن إن ما هو ولود وخصيب جميل، وما هو عقيم قبيح.

حال
النفس كحال التربة، فالنفس تكون جميلة إن كانت وفيرة في استحقاقاتها وفي المشورة،
وأما النفس العقيمة (والمشغولة بالماديات) فهي قبيحة، لأن العقم هو ضعف في النفس،
يجردها من ثمرها ويخدعها. يجعلها في عوز ويثير مخاوف، يضاعف الشهوات الشرهة
والأفكار الخاملة فتسقط!

وما
الشر إلاَّ غياب للخير؟ تنخدع بمالها فتحتاج إلى ما يخص الغير؛ تكون فارغة ليس من
حد أو قياس يملأها. أيضًا تظلم المادة نعمة النفس. والجهل والشهوة الدنسة هما مرضا
النفس.

[يرى
القديس أمبروسيوس أن الشباب دون الأطفال والشيوخ يتمتعون بصحة قوية، وهذا خير، لكن
جهل الشاب للخير أو تجرده منه يثير فيه الشهوة الجسدية، فيتحول ما هو خير إلى
شر… بهذا يرى أن الشر هو غياب للخير].

 

تدرك
النفس الله كمصدر لخيرها

 61.
هذا هو اهتمام النفس الطاهرة، هذا ما تدركه داخليًا: تدرك الله وتبقى في كل الأمور
الصالحة. على هذا الأساس تقول: “حلقُهُ حلاوة وكله مشتهيات” (نش 5: 16).
لأن الله صانع كل خير، وكل الموجودات هي منه. ليس من شر في أي موضع (بل هو منا)،
إن سكن ذهننا في الله لا يعرف الشر. أما النفس التي لا تستوطن عند الله فهي صانعة
شرور بذاتها، ومن ثَمَّ تخطئ، والنفس التي تخطئ تموت (حز 18: 4، 20). إذ تتخلى عن
رباطات الفضيلة الذهبية تُحمَل رأسًا إلى شفا كارثة وتسقط في مواضع دنيا.

طوبى
للنفس التي لا يغلبها أي صراع مضاد في الجسد، فإن مثل هذه النفس تطير كعصفور من فخ
مكسور (مز 124: 7)، لأن ملذات الجسد هي غذاء الشرور. من يلتفت إليها يسقط في فخ.

 

ترفض
النفس ظلمة الشر فتشرق كالفجر

 62.
أما بالنسبة لمن يمتنع عن هذا الغذاء (الشر) وعن الظلمة فتُشرق نفسه كالفجر. وعنها
قيل: “من هذه المشرقة مثل الصباح، جميلة كالقمر؟” (نش 6: 9
LXX). فإنها تشرق كما من بيت حرّ، ولا تقول: “الظلمة حولي
والحيطان تُخيفني، ومن يدري إن كان العليُّ يرى؟” (سيراخ 28: 18). بالحري
تطلب النور، وتجلس فوق العالم كأنها في عُليَّة بيتها – أي جسدها – تحدق في
الإلهيات، وترتفع إلى الأبديات، لتكون مع الله، تكشف نور أعمالها، كما يكشف القمر
عن سطحه للعالم كله.

63.
أما بالنسبة لعبارة أكيلا: “مدوية كالشمس”، فيبدو أن دوران محور السماء:
حركة الشمس والقمر والنجوم وتناسق المدارات، كل هذا يُعرض هنا فيستحسنه بعض
المسيحيين، بينما لا يُقابل هذا التناغم بالتصديق (ربما عَنِيَ أن الإيمان أعظم من
التناسق في حركات الكواكب).

 

ثامنا: دور المسيح في كنيسته المتألمة

 نزول
الكنيسة إلى مرارة التجارب

 64.
بينما تتلقى المديح من العريس إذ بها في تواضع تأبَى أن تتقبَّله في حضرته.

دُعِيتْ
من بواعث حب العريس لتقول: “نزلت إلى جنة الجَوْز لأعاين مولد السيل”
(نش 6: 11). الآن، أين هي الكنيسة إلاَّ حيث توجد عصا الأسقف التي تفرخ (عد 17:
8)، وحيث توجد مواهبه الروحية؟ توجد هناك لتُمتَحن بالمرارة والتجربة؛ فالجَوْز
يعني المرارة، والسيل يعني التجربة، لكن التجربة التي يمكن احتمالها، كما هو
مكتوب: “عَبَرتْ أنفسنا سيلاً” (مز 124: 5). لهذا نزلت إلى موضع المرارة
حيث تزدهر الكرمة والعديد من الأثمار كالرمان (نش 6: 11)، في المرارة تعرف النفس
ذاتها، لأن الجسد الفاسد يثقل عليها، وسرعان ما ينحط مسكنها الأرضي، لكن عليها أن
تعرف ذاتها.

بطرس
جُرِّب ولم يعرف ذاته، لأنه لو عرف نفسه لما أنكر خالقه (لو 22: 54-62)، لكن
المسيح عرفه. حقًا عرفه، لأنه ينظر إليه (لو 22: 61). “يعلم الرب الذين هم
له” (2 تي 2: 19) كسيد صالح اجتذبه من سقطته بزمام رحمته، إن جاز التعبير.

 

المسيح
يقود كلمته بمركبة

 65.
تقول النفس: “لقد جَعَلَتْني كمركبات عميناداب” (نش 6: 12
LXX). (عميناداب = عمي كريم، أو قوم شريف، أو أمير شعبي، أو مركب
أميري).

النفس
هي مركبة تحمل سيدها الصالح، لها جياد صالحة أو رديئة. الجياد الصالحة هي فضائل
النفس، والرديئة هي الشهوات الجسدية، لهذا يكبح السيد الصالح الجياد الرديئة
ويسحبها إلى خلف بينما يحث الصالحة (للتقدُّم إلى الأمام).

الجياد
الصالحة أربعة: التعقل والاعتدال والثبات والعدل. والجياد الرديئة فهي الغضب
والشهوة والخوف والظلم. أحيانًا تكون هذه الجياد في تعارض مع بعضها البعض، كأن
يتهيّج الغضب أو الخوف فيعوق أحدهما الآخر ويبطئ الاثنان في تقدمهما. أما الجياد
الصالحة فتنطلق طائرة، ترتفع عن الأرض إلى أماكن علوية؛ فترتفع النفس خصوصًا إن
كان لها النِير الحلو والحمل الخفيف للقائل: “احملوا نيري عليكم، لأن نيري
حلو وحملي خفيف” (مت 11: 29-30).

إنه
السيد الذي يعرف كيف يسوس جياده، فيحافظ الكل على نفس الخطوة (ليسير الكل في
انسجام). فإن كان التعقل سريعًا جدًا والعدل بطيئًا جدًا يحث الأكثر تكاسلا
بسوْطه. وإن كان الاعتدال لطيفًا جدًا والثبات حادًا جدًا، يعرف كيف يوحّد غير
المنسجمين حتى لا يفقدا تقدمهما.

حسنًا
قيل: “قد جَعَلَتْنِي كمركبات عميناداب”، وهو اسم معناه “أب
شعب”، وأب الشعب هو أيضًا أبو نحشون (عد 1: 7؛ 2: 3)، معناه “من الحية
أو الثعبان”. تذكروا الآن من عُلق على الصليب كحية لخلاص كل البشر (يو 3: 14،
عد 21: 9)، فستدكرون التي لها الله حاميها والمسيح قائدها هي في سلام؛ لأن تلك
اللفظة “قائد” وردت في كتابنا المقدس: “يا أبي يا أبي قائد (مركبة)
إسرائيل” (2 مل 2: 12).

 

المسيح
يصحح مسار الكنيسة (مركبته)

 66.
يقول ذلك القائد: “ارجِعي. ارجِعي يا شولميث” (نش 6: 12)، ومعناها
“في سلام”، لأن النفس التي ترجع في سلام ترجع بسرعة وتصحح ذاتها. إذ سبق
فأخطأت يركبها المسيح وبالحري يحسب ذلك لائقًا لكي يرشدها. له قيل: “اركب
خيلك، مركباتك مركبات خلاص” (حب 3: 8
LXX). وفي نص آخر قيل: “أرسلت
خيلك إلى البحر” (حب 3: 15
LXX). هذه هي جياد المسيح. يركب جياده، أي يركب كلمة الله النفوس
التقية.

المسيح
يُصعدها نخلة النصرة

67.
على هذا الأساس، اعلموا أنه أيضًا قد ركب نفس العروس (الكنيسة) وقادها إلى موضع
النخلة رمز النصرة، حينما قال لها: “ما أجملك وما أحلاك أيتها الحبيبة، في
مباهجك، قامتك هذه شبيهة بالنخلة” (نش 7: 6-7). أما هي فتقول: “قلتُ إني
أصعد النخلة” (نش 7: 8). المحبة ذاتها هي النخلة، لأنها هي نفسها ملء النصرة.
“المحبة هي تكميل الناموس” (رو 13: 10)، فلنركض إذن لننالها.

من
يغلب يصعد لينال النخلة وينعم بثمارها. من يغلب لا يبقى في السباق كما هو مكتوب:
“من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي، كما غلبت أنا أيضًا وجلست مع أبي في
عرشه” (رؤ 3: 21). من هذا المصدر رسم الفلاسفة سباقات المركبات للنفوس في
كتبهم، لكنهم لم يستطيعوا بلوغ نخلة النصرة، لأن نفوسهم لم تعرف قامة الكلمة
وارتفاعه. أما النفس التي يسكن فيها الكلمة فتعرف ذلك.

 

المسيح
يبلغ بها إلى كمال الحب وسط جهادها

 68.
تتحدث هكذا: “أنا لأخي الحبيب، وإليَّ اشتياقه” (نش 7: 10
LXX). إنها تكرر هذا الفكر ثلاث مرات بطرق مختلفة في نشيد الأناشيد.

في
البداية تقول: “أخي لي وأنا له، الراعي بين السوسن، إلى أن يفيح النهار
وتنهزم الظلال” (نش 2: 16-17
LXX).

ثم
تقول: “أنا لأخي الحبيب وأخي الحبيب لي، الراعي بين السوسن” (نش 6: 3
LXX).

وقرب
النهاية تقول: أنا لأخي الحبيب وإليَّ اشتياقه” (نش 7: 10
LXX).

تقترن
الحالة الأولى بتكوين النفس، لذا تقول أولاً: “أخي لي”، فإنه ما أن
يَسْتعلِن ذاته تدخل النفس التي لم تكن قد التصقت بالله في طريق الحب.

ما
يلي ذلك يشير إلى تقدم النفس.

أما
الحديث الثالث فيشير إلى كمالها.

في
المرحلة الأولى، أي مرحلة التكوين، ترى النفس ظلالاً لم تكتمل بعد باستعلان قدوم
الكلمة (نش 2: 17)، ومن ثم لم يكن قد سطع بعد عليها نور الإنحيل. وفي الثانية تنعم
بروائح ذكية دون اختلاط بالظلال، وفي الثالثة تكتمل إذ توفر للكلمة موضع راحة
فيها، فيلتفت إليها ويسند رأسه عليها وهي تبحث من قبل وتدعوه قائلة:

 

المسيح
يقوت المُتعبين

 69.
“تعال يا أخي فلنخرج إلى الحقل، لنسترح في القرى” (نش 7: 12). سبق أن
دعته إلى جنتها، وهنا تدعوه إلى حقل ليس فيه أزهار جميلة فحسب، بل فيه أيضًا قمح
وشعير، أي إلى أساسات أقوى للفضائل، لكي ترى ثمارها.

“لنسترح
في القرى” التي إليها نُفِيَ آدم حينما طُرِد من الفردوس. فيها يجد راحة،
لكنه يعمل في الأرض.

إدراكنا
لسبب رغبتها في أن يخرج إلى الحقل واضح: أن يُطعم قطيعه كراعٍ صالح (يو 10: 11؛ إش
40: 11؛ حز 34: 23)، يسند المتعبين، ويسترد الضالين. فبالرغم من أن تلك النفس قد
إنحزت له الجديد والعتيق (الثمار الطازجة والعتيقة) (نش 7: 13) لكنها لا تزال مثل
حمل يجب تغذيتها بشراب اللبن (1 كو 3: 2).

 

يبدو
أنها صارت كاملة، لا لنفسها بل للغير، لهذا تتشفع أن يخرج من حضن الآب، يخرج من
الأبواب كالعريس الخارج من خدره المجري سباقه (مز 19: 5). تتشفع أيضًا أن يربح
الضعفاء وألاَّ يتوانى في عرش الآب البعيد وفي ذلك النور، لأن لمن لا قوة لهم لا
يستطيعون البلوغ إلى هناك، إنما يأتي إلى مسكن العروس وحجالها (نش 8: 2
LXX)، وأن يخرج من الأبواب لكن في الداخل لأجلنا، وأن يكون في وسطنا
حتى وإن كنا لا نراه (يو 1: 26).

 

المسيح
يدخل أبواب العروس

70.
على هذا الأساس تقول: “من يعطيك لي كأخ، يا أخي، الراضع ثَدْيَيْ أمي؟ إذا ما
وجدتك خارج الأبواب أقبِّلك” (نش 8: 1).

صالحة
هي النفس التي هي خارج الأبواب ليدخل الكلمة داخلها، هي خارج الجسد كي يسكن الكلمة
فينا (كو 3: 16).

 

المسيح
يرتفع معها إلى العلويات

71.
“سآخذك إلى أعلى وأقودك في الداخل” (نش 8: 2). حسن أن نأخذ كلمة الله
إلى أعلى ونقوده للداخل، لأنه يقرع على النفس. ليُفتح له الباب، فإنه ما لم يجده
مفتوحًا لا يدخل. لكن إن فتح أحد يدخل ويتعشى معه (رؤ 3: 20). تأخذ العروس الكلمة
إلى أعلى بطريقة هكذا قد تعلمتها. لهذا ليس بدون سبب تبقى النفس ترتفع إلى المنازل
العلوية متقدمة على الدوام.

على
المسيح تستند العروس صاعدة

72.
هذا ما تعنيه الفضائل (ربما يقصد طغمة سماوية) إذ يقولون: “مَنْ هذه الطالعة
المتسربلة بثوبٍ أبيض، مستندة على أخيها؟” (نش 8: 5
LXX).
منذ برهة قالوا: “مَنْ هي المشرقة مثل الصباح، جميلة كالقمر، طاهرة
كالشمس” (نش 6: 9
LXX)؟ هنا نجد إضافات، إذ تصعد مستندة على كلمة الله، لأن مَنْ هم
أكثر كمالاً يستندون على المسيح تمامًا كما كان يوحنا متكئًا على صدر يسوع (يو 13:
23). فهي إذًا إما أنها استراحت في المسيح أو استندت عليه أو حتى – مادمت أتحدث عن
الزواج – قد نالت قوة المسيح، واقتيدت إلى حجال العروس بواسطة العريس.

 

المسيح
يتعهدها تحت شجرة التفاح

 73.
لأن اتحادًا من الحب قام الآن، فالعريس يعانقها قائلاً: “تحت شجرة التفاح
تعهدتك هناك، ولدتك أمك هناك، ولدتك التي حملت بك” (نش 8: 5
LXX).

طوبى
للنفس التي تجلس عند الشجرة المثمرة، خصوصًا الشجرة ذات الأريج الطيب. لأنه إن كان
نثنائيل الصالح الذي لم يكن فيه عيب قد رُئي تحت شجرة تين (يو 1: 47-50)، فمن
المؤكد أن النفس التي يتعهدها العريس تحت شجرة تفاح هي نفس صالحة. إنه لأمر أعظم
أن تُتعهَّد عن أن تُنظر، والأعظم أن يتعهَّدها العريس نفسه (نش 8: 5). فإنه على
الرغم من أن نثنائيل قد شوهد تحت شجرة، لكن نفسه لم تكن عروسًا، إذ جاء إلى المسيح
سرًا، لأنه كان يخشى اليهود. لم تكن نفسه جميلة كالقمر، طاهرة كالشمس (نش 6: 10)،
لأنها كانت في الظل، بينما تزوج العريس نهارًا معلنًا ذلك جهارًا.

إن
كانت (نفس ما) تحت شجرة التفاح والأخرى تحت شجرة التين، فلأن الأولى نشرت عبير عمل
إيمانها على مساحات أوسع، أما الأخرى فاقتنت عذوبة الطهارة وعدم الخزي لكنها لم
تملك عبير الروح.

 

المسيح
يُتصوَّر في النفس

 74.
“هناك ولدتك أمك، هناك ولدتك من حبلت بك”. لأننا وُلدنا هنا ميلادًا
جديدًا. لذلك هم أيضًا يولدون (خلالنا) الذين فيهم يُتصوَّر المسيح، لذا يقول
الرسول: “يا أولادي الذي أتمخض بهم إلى أن يتصور فيكم” (غل 4: 19). الآن
حالة ولادة تلك التي تُقدّم روح الخلاص في رحمها وتسكبه على الآخرين.

 

المسيح
ختم عروسه

 75.
على هذا الأساس إذ يُتصوَّر المسيح فعلاً فيها، تقول العروس: “اجعلني كخاتم
على قلبك، كخاتم على ساعدك” (نش 8: 7). المسيح هو خاتم على الجبهة وختم في
القلب. على الجبهة حيث نعترف به على الدوام، في القلب لأننا نحبه دومًا، علامة على
الذراع حيث نمارس عمله باستمرار. لهذا فلتُشرق صورته في اعتراف إيماننا، ولتُشرق
في حبنا، وفي أعمالنا وأفعالنا حتى إن أمكن ينعكس كل جماله فينا.

ليكن
رأسنا، لأن “رأس الرجل المسيح” (1 كو 11: 3).

ليكن
عيوننا، به نرى الآب.

ليكن
صوتنا، به نحدث الآب.

ليكن
يميننا، به يمكننا أن نأتي بذبيحتنا لله الآب.

هو
أيضًا ختمنا الذي هو علامة الكمال والحب، لأن الآب إذ يحب الابن وضع خاتمه عليه،
كما نقرأ: “لأن هذا الله الآب قد ختمه” (يو 6: 27).

فالمسيح
هو حبنا! صالح هو الحب، إذ قَدَّم ذاته للموت عن تعديات العالم. صالح هو الحب الذي
يغفر الخطايا.

 

المسيح
يسربل عروسه بالحب حتى الموت

 76.
فلتتسربل نفوسنا بالحب (هنا إشارة إلى المعمودية حيث نلبس المسيح الحب)، الحب
القوي كالموت (نش 8: 6). لأنه كما أن الموت هو نهاية الخطايا (به نكف عن ارتكاب
الخطايا)، هكذا أيضًا المحبة، لأنَّ مَنْ يحب الرب يكف عن ارتكاب الخطية. لأن
المحبة “لا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم، بل تحتمل كل شيء” (1 كو 13:
5-7). لأنه إن لم يطلب الإنسان ما لخيره كيف يطلب ما هو لخير الآخرين؟ (1 كو 13:
5).

قويٌّ
أيضًا هو ذلك الموت الذي بالجرن (المعمودية) الذي به تُدفَن كل خطية، ويُغفَر كل
إثم. هكذا كانت المحبة التي جاءت بها المرأة المذكورة في الإنجيل والتي قال عنها
الرب: “غُفِرتْ خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرًا” (لو 7: 47).

قويٌّ
أيضًا هو موت الشهداء القديسين الذي يُبيد الإثم المبكر، الموت المعادل لآلام
الشهداء قويٌّ حتى إنه يمحو عقاب الخطايا.

 

المسيح
يَهَب النفس أجنحة نار الغيرة المقدسة

 77.
“الغيرة كالعالم السفلي (الهاوية) (نش 8: 6)، لأن مَنْ له غيرة لله لأجل
المسيح لا يفقد ما هو عليه. المحبة تحتضن الموت؛ المحبة تحتضن الغيرة، للمحبة
جناحان من نار. إذ أحب المسيح موسى ظهر له في نار. وإذ اقتنى إرميا موهبة الحب
الإلهي يقول: “نار محرقة محصورة في عظامي فضعفتُ من كل جانب ولم أستطع”
(إر 20: 9
LXX).

صالحة
هي المحبة، إذ لها جناحان من نار محرقة، تلتهب في صدور القديسين وقلوبهم، وتُحرِق
كل ما هو مادي وأرضي، لكنها تمتحن كل ما هو طاهر، وبنارها تجعل كل ما تمسه في حالٍ
أفضل. هذه النار أرسلها الرب يسوع على الأرض (لو 12: 49)، ليسطع الإيمان في وضوح
وتتَّقِد تَقْوَى العبادة، ويَستنير الحب ويتألق البرّ. بهذه النار ألهبَ قلب
رسله، كما شهد كليوباس، قائلاً: “ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا عندما كان يوضح لنا
الكتب؟” (لو 24: 32). لهذا فجناحا النار هما لهيب الكتاب المقدس.

حقًا،
لقد فسر الكتاب المقدس: فانطلقت النار واستقرت في قلوب سامعيه. حقًا كانت أجنحة
نار، لأن “كلام الرب كلام نقي كفضة مصفاة بالنار” (مز 12: 6). وحينما
اختار الرب بولس، رأى (بولس) نورًا أبرق حوله وحول الذين كانوا معه، فسقط على
الأرض خوفًا وقام مقبولاً، والذي كان مُضطهِدًا (للكنيسة) صار رسولاً! (أع 9: 3-7؛
1 تي 1: 13). أيضًا نزل الروح القدس “وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت
لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار” (أع 2: 2-3).

صالحة
هي أجنحة الحب، الأجنحة الحقيقية التي ترفرف على أفواه الرسل؛ أجنحة النار التي
تنطق الكلام النقي (مز 12: 6).

على
تلك الأجنحة طار أخنوخ حين اُختطِفَ إلى السماء (تك 5: 24).

وعلى
هذه الأجنحة انطلق إيليا حينما صعد بالمركبة النارية والجياد النارية إلى الأماكن
العلوية (2 مل 2: 11).

على
هذه الأجنحة قاد الرب الإله شعب الآباء البطاركة بعمود من نار (خر 13: 21).

للسيرافيم
هذه الأجنحة، فحينما أخذ ساروف جمرة النار من على المذبح، ولمس بها فم النبي، أزال
آثامه وطهر خطاياه (إش 6: 6-7).

بنار
هذه الأجنحة تطهَّرَ أبناء لاوي (ملا 3: 3) وتعمدت قبائل الأمم كما يشهد يوحنا
حينما قال عن الرب يسوع: “سيعمدكم بالروح القدس ونار” (مت 3: 11؛ يو 1:
33).

حقًا
أراد داود لحقويه وقلبه أن تُحرق (وتُصفَّى بالنار مز 26: 2)، إذ عرف أنه لا ينبغي
أن يخشى أجنحة الحب النارية.

لم
يشعر الفتية العبرانيون في أتون النار المتقدة (بحرارة) النار المستعرة، والسبب
معروف أن لهيب الحب أعطاهم برودة (دا 3: 50).

ولكي
نعرف أكثر أن للحب الكامل أجنحة اسمعوا المسيح يقول: “كم مرة أردت أن أجمع
أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها؟” (مت 23: 37).

 

المسيح
يرفع النفس إليه (الخير الأعظم)

 78.
لنأخذ إذن تلك الأجنحة مادامت كلهيب يتَّجه إلى الأماكن العلوية. ليجرد كل إنسان
نفسه من أغطيتها الدنيئة ويزكيها بأن تتطهر من الحمأة تمامًا كما تصفي النار
الذهب، إذ تتنقَّى كأفضل أنواع الذهب تمامًا. أيضًا جمال النفس وفضيلتها النقية
وحُسنها تكمن في معرفتها الأصدق للأمور العلوية، فتنظر الخير الذي تعتمد عليه كل
الأشياء، والذي لا يعتمد هو على شيء. هناك تعيش وتتمتع بإدراكاتها، لأن هذا الخير
الأسمى (المطلق) هو أصل الحياة. تَتَّقد فينا محبته والاشتياق إليه، فتصير رغبتنا
هي الاقتراب منه والارتباط به.

إنه
مرغوب لمن يره، وحاضر لمن ينظره.

لهذا
يحتقر (الإنسان) كل شيء، ويُسَرّ ويفرح بهذا وحده. فهو الذي يسند الكل بكيانه، وهو
قائم بذاته. يعطي الآخرين ولا يأخذ شيئًا لذاته من الغير. عنه يقول المرتل:
“قلت لربي أنت إلهي، لأنك لا تحتاج إلى شيء من خيراتي” (مز 16: 2
LXX). هذا وحده ما يشتاق (المرتل) أن يراه. كما يقول في موضع آخر:
“واحدة سألت من الرب وإياها ألتمس، أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي، لكي
أنظر إلى جمال الرب وأتفرَّس في هيكله” (مز 27: 4).

إن
استحق إذن أحد أن يرى هذا الخير الفائق اللاجسداني النقي فإلى ماذا سواه يشتاق؟ لقد
رأى بطرس حقًا مجد قيامة المسيح فلم يُرِد أن ينزل، إذ قال: “يا رب جيد أن
نكون ههنا!” (مت 17: 4). ماذا يمكن أن يكون أعظم من مجد اللاهوت الذي لا
يُقارن والنور الذي لا يُدنَى منه؟ (1 تي 6: 16). أي شيء أعظم من هذا يمكن أن يراه
الإنسان أو يرغب فيه؟ فالملكوت لا يُقارَن، لا بالغِنَى ولا بالكرامات ولا بالمجد
ولا بالقوة التي في استخدامها لا تحل البركات؛ لكن الانتفاع بهذا الخير الفائق أمر
مُطوَّب. فلا يتدنَّى الإنسان متطلعًا إلى مثل هذه الأمور (الدنيا) بل يلتفت إلى
ذلك الخير ويبقى فيه. وإذ يرى تلك الصورة البديعة يدخل إلى الداخل ويترك شبه الجسد
الأمور الخارجية. فإن مَنْ يهتم بالأمور الجسدانية لا يهتم بالحري بالداخل، بل
بالأحرى يُشبِه مَنْ يغرق في دوامة ويُبتلَع فيها فلا يظهر في أي مكان بل يغوص في
الأعماق.

لنهرب
إذن إلى موطننا الحقيقي الأصلي؛ هناك وطننا، وهناك أبونا الذي خلقنا، حيث مدينة
أورشليم أم جميع البشر (غل 4: 26؛ عب 12: 22).

 

المسيح
يطلقنا إلى أورشليم العليا

 79.
لكن ما هذا الهروب؟ إنه ليس هروبًا بالأرجل الجسدية، لأنها مهما جرت تبقى على
الأرض وتَعبُر من تربة إلى أخرى.

لنهرب
لا بسفن ولا بمركبات ولا بخيل، لأن هذه تُعوِّق وتُعثِر، إنما لنهرب بالروح
والأعين والأقدام الداخلية. ليت عيوننا تعتاد أن ترى المُشرِق والساطع، تنظر وجه
العفة والاعتدال وكل الفضائل التي ليس فيها ما هو قبيح أو مُبهَم أو مُعقَّد.
ليتطلع كل أحد إلى نفسه وإلى ضميره، وليغسل عينه الداخلية فلا يكن فيها قذارة. لأن
ما يُرى يلزم ألاَّ يخالف مَنْ يُرى، إذ يريد الله أن نتوافق مع صورة ابنه (رو 8:
29).

فالخير
معروف لدينا؛ ليس ببعيد عن أحدٍ منا، إذ به نحيا ونتحرك ونوجَد… لأننا نحن أيضًا
ذريته (أع 17: 28)…

هذا
هو الخير الذي نطلبه، الخير الوحيد، لأنه ليس صالح إلا الله وحده (مر 10: 18؛ لو
18: 9).

هذه
هي العين التي تنظر الجمال الحقيقي العظيم؛ العين القوية السليمة التي وحدها تعاين
الشمس؛ إنها النفس الصالحة التي وحدها ترى الصلاح. لذلك مَنْ يريد أن يرى الرب
وطبيعة الخير يلزمه أن يكون صالحًا.

لنكن
مثل هذا الصالح (الله) ونصنع أعمالاً صالحة تليق به. هذا هو الخير (الله) الذي
يفوق كل عمل وكل فكر وكل فهم. إنه ذاك الذي يبقى دائمًا، ونحوه تتجه كل الأشياء.
“الذي فيه يحل ملء اللاهوت” (كو 2: 9)، وبه تتصالح كل الأشياء.

ولكي
نعرف طبيعة الخير بالأكثر، فالحياة هي الخير، لأنها ثابتة على الدوام، تَهب الجميع
وجودهم وكيانهم. ومصدر حياة الكل هو المسيح، الذي عنه يقول النبي: “في ظله
نعيش” (مرا 4: 20). الآن “حياتنا مستترة في المسيح، ومتى أُظهِر المسيح
حياتنا، فحينئذٍ نحن أيضًا نظهر معه في المجد” (كو 3: 3-4). لهذا يليق بنا
ألاَّ نخشى الموت، فإنه راحة للجسد وحرية للنفس وانفصالها لها. يجب ألاَّ نخاف من
يقتل الجسد ولكن النفس لا يقدر أحد أن يهلكها (مت 10: 28). لأننا لا نخشى من يخلع
ملبسنا، ولا نخاف مِمَّنْ يستطيع أن يسلب ممتلكاتنا لكنه لا يقدر أن يسلبنا
أنفسنا. إننا إذن نفوس، إن كنا نرغب أن نكون عبرانيين مرافقين ليعقوب (47: 26-27)،
مُتشبِّهين به. نحن نفوس، أما أعضاؤنا فهي لباسنا. يلزم أن يُحمى اللباس بحق فلا
يُمزَّق ولا يُبلى (عب 1: 11)، لكن يليق بمن يستخدمه أن يحمي أولاً نفسه ويحرسها

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى