علم

الكتاب الثاني: الفصل الثامن



الكتاب الثاني: الفصل الثامن

الكتاب
الثاني: الفصل الثامن

8-
يشرح القديس قول المسيح
” أبى
أعظم مني”

ملخص:

 ملخص:
في هذا الفصل يشرح القديس قول المسيح: ” أبى أعظم مني” بناءً على المبدأ
الذي تقرَّر من قَبْل. والأقوال الأخرى المشابهة تُفسَّر بنفس الطريقة، ولا يمكن
فيما يتعلق بألوهية ربنا أن يُقال عنه إنه أقل من الآب.

 

59
لذلك، فيما يليق ببشرَّيته، فإن ربَّنا قيل عنه إنه شكَّ وإنه اغتم بحزن شديد وإنه
قام من الموت، لأن من يموت هو أيضاً يقوم ثانية. وأيضاً بسبب بشرَّيته فإنه قال
تلك الأقوال: ” أبي أعظم منى” (يو28: 14)، والتي يُحوِّلها مخاصمونا
بخبث ضده.

60
ولكن عندما نقرأ في مقطع آخر: ” خرجتُ مِن عند الآب وقد أتيتُ إلى العالم،
وأيضاً أتركُ العالمَ وأذهب إلى الآب” (يو28: 16)، فكيف يمكنه أن يذهب (إلى
الآب) إلاّ عن طريق الموت، وكيف يمضى إلاّ بقيامته؟ وعلاوة على ذلك، فإنه يضيف
ليوضِّح أنه يتكلم فيما يختص بصعوده: ” وقلت لكم الآن قبل أن يكون حتى متى
كان تؤمنون” (يو29: 14). لقد كان يتكلم عن الآلام والقيامة التي لجسده، وعن
طريق هذه القيامة يؤمن أولئك الذين سبق أن شكُّوا، لأن الله في الحقيقة الموجود في
كل مكان لا يَعبُر مِن مكان إلى مكان، ولكن كما أن الإنسان يذهب، فإنه هو نفسه
الذي يأتي. وأيضاً، فإنه يقول في موضعٍ آخر: ” قوموا ننطلق من ههنا”
(يو31: 14)، إذن، فهو يذهب ويأتي، الذي هو أمر مشترك بينه وبيننا.

61
فكيف يمكن أن يكون إلهاً أصغر بينما هو إله كامل وحقيقي؟ ولكن من جهة إنسانيته فهو
أقلَّ. وأنت لا تزال تتعجَّب أنه عندما يتكلم كشخص إنساني فإنه يدعو الآب أعظم
منه، بينما هو كإنسان دعا نفسه دودة لا إنسان، وهذا في قوله: ” أمّا أنا
فدودة لا إنسان” (مز6: 22)، وأيضاً ” كشاة تُساق إلى الذبح” (إش7:
53).

62
أمَّا إن كنت تعترف أنه أقلّ من الآب من هذه الجهة فأنا لا أستطيع أن أنكر ذلك،
ورغم ذلك فإننا عندما نتكلم بكلمات الكتاب المقدس، فإنه لم يُولد أقلّ، ولكن
” وُضِع أقلّ” (عب9: 2)، أى أنه “جُعِل أدنى”. ولكن كيف
” وُضِع أقلّ” إلاّ لأنه: ” إذ كان في صورة الله، لم يحسب خُلسة أن
يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه” (فى6: 2و7)، وفي الواقع هو لم ينفصل عن ما
كان عليه، ولكنه اتخذ لنفسه ما لم يكن له، لأنه ” أخذ صورة عبد” (فى7:
2).

63
وعلاوة على ذلك، فلكي نعرف أنه ” وُضِع قليلاً” باتخاذه جسداً لنفسه،
فإن داود يُبيِّن لنا أنه كان يتنبأ عن إنسان بقوله: ” مَنْ هو الإنسان حتى
تذكره، أو ابن الإنسان حتى تفتقده؟ وضعته قليلاً عن الملائكة” (مز4: 8و5)،
وفي تفسيره لنفس العبارة، فإن الرسول بولس يقول: ” لأننا نرى يسوع الذي وُضِع
قليلاً عن الملائكة مُكلَّلاً بالمجد والكرامة من أجل ألم الموت” (عب9: 2).

64
ومِن ثمَّ، فإن ابن الله، قد جُعِل أقلّ، ليس من الآب، بل من الملائكة أيضاً. وإن
كنتَ تُحوِّل هذا لتحط من كرامته؛ فأنا أتساءل ما إذا كان الابن من جهة ألوهيته
أقلّ من ملائكته الذين يخدمونه ويعبدونه؟ فهكذا وأنت تقصد أن تُقلِّل من كرامته،
فإنك تنزلق إلى التجديف برفع طبيعة الملائكة فوق ابن الله، ولكن ” العبد ليس
أفضل من سيده” (مت24: 10). وأيضاً، فإن الملائكة خدموه حتى بعد تجسده، وذلك
لكى تعترف به أنه لم يتعرض لفقدان جلاله بسبب (اتخاذ) طبيعته الجسدية، لأن الله لا
يمكن أن يخضع لأي تناقص في ذاته[1]، وما أخذه من العذراء لا يُضيف أو يُنقص من
قوته الإلهية.

65
فإذ له ملء اللاهوت والمجد[2]، فهو إذن من جهة ألوهيته ليس أقلّ (من الآب)،
فالأعظم والأقلّ هما من الصفات التي تليق بالموجودات المادية، حيث الأعظم يكون
هكذا من جهة الرتبة أو الصفات أو العمر، ولكن هذه المصطلحات تفقد معناها عندما
نأتي إلى معالجة أمور الله. فمن الشائع أن من يُسمّى الأعظم هو ذلك الذي يرشد أو
يُعلِّم آخر، ولكن ليست الحالة هكذا مع حكمة الله (يقصد المسيح الابن) كأنها
بُنِيَت بالتعليم الذي يحصل عليه واحد من آخر، إذ أن الحكمة هي نفسها التي وَضَعت
أساس كل تعليم. لذا كتب الرسول: ” لكى يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل
واحد”، وذلك حتى لا نفترض أن اللاهوت وليس الجسد هو الذي كابد الآلام[3]!.

66
فإن كان معارضونا لم يجدوا وسيلة ليبرهنوا على أن الآب أعظم من الابن، فدعهم لا
يقلبون الكلمات إلى أقوال كاذبة. بل فليبحثوا عن معناها. لذلك فأنا أسألهم، من أي
ناحية يعتبرون الآب أنه أعظم؟ فإن كان بسبب أنه هو الآب، فأنا أجيبهم، نحن هنا
لسنا نسأل عن العمر أو الزمن، فالآب لا يتميز بشعر أبيض ولا الابن بالشباب، هذه
الأمور التي على أساسها تقوم الكرامة الأعظم لأي أب. وكلمتا “أب”
و”ابن” هما مجرد اسمين، الواحد للوالد والآخر للولد، أسماء يتضح أنها
تربط ولا تفصل، لأن الطاعة والقيام بالواجب لا توحي بأي فقدان للجدارة الشخصية،
باعتبار أن القرابة تربط الناس ببعض، ولا تُمزقهم.

67
فإن كانوا لا يقدرون أن يجعلوا من نظام الطبيعة سنداً لأي سؤال عندهم، فليؤمنوا
الآن بشهادة الكتب، فالبشير يشهد بأن الابن ليس أقلّ من الآب بسبب أنه ابن، حاشا،
بل هو يُوضِّح أنه بكونه الابن، فهو مساوٍ للآب بقوله: ” فمن أجل هذا كان
اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه، لأنه لم ينقض السبت فقط، بل قال أيضاً إن الله أبوه
معادلاً نفسه بالله” (يو18: 5).

68
ليس هذا ما قاله اليهود، ولكن البشير هو الذي شهد بذلك، أي أن المسيح بقوله عن
نفسه إنه ابن الله، فهو يجعل نفسه مساوياً لله، لأن اليهود لم يُظهروا أنفسهم أنهم
يقولون: ” لهذا السبب نحن نطلب أن نقتله”؛ ولكن البشير هو الذي يشهد
بنفسه ويقول: ” من أجل هذا كان اليهود يطلبون أن يقتلوه”. علاوة على
ذلك، فإن البشير قد اكتشف السبب (بقوله) إن اليهود تحركوا بالرغبة في قتله، لأنه
إن كان كإله قد كَسرَ السبت، وأيضاً قال إن الله أبوه، فإنه يكون قد نسب إلى نفسه
ليس فقط جلال السلطان الإلهي في كسر السبت، بل أيضاً في كلامه عن أبيه نسب إلى
نفسه الحق في المساواة الأزلية معه.

69
وقد كانت الإجابة التي أعطاها ابن الله لهؤلاء اليهود مناسبة جداً، بأن أثبت نفسه
أنه الابن وأنه مساوي لله؛ إذ قال: ” لأن مهما عمل الآب فهذا يعمله الابن
كذلك” (يو19: 5)، لذلك فإن الابن قد عُرِفَ وبُرِهنَ على أنه المساوي للآب
وهى مساواة حقيقية، وهذه المساواة تستبعد أى اختلاف في الألوهية، كما أنها تكشف
ليس الابن فقط بل الآب أيضاً، الذي الابن مساوي له؛ لأنه لن تكون هناك مساواة حيث
يوجد اختلاف، وأيضاً لن تكون هناك مساواة، لو كان يوجد أقنوم واحد فقط، نظراً لأن
الشخص الواحد لا يكون بنفسه مساوياً لنفسه. وهذا ما بيّنه البشير، أنه من اللائق
أن يُسمِّى المسيح نفسه ابن الله، أى أنه مساوي لله.

70
ومن ثمّ فإن بولس الرسول، وهو يتبع هذا الإعلان يقول: ” لم يحسب خُلسة أن
يكون معادلاً لله”، لأن ما لا يمتلكه الإنسان، فإنه يسعى ليتحصل عليه كغنيمة.
لذلك فإن مساواته للآب، كإله ورب، يمتلكها في جوهره الذاتي، وليس كغنيمة استولى
عليها لنفسه بطريقة خاطئة. ومن هنا فإن الرسول أضاف الكلمات: ” آخذاً صورة
عبد”. وبالتأكيد، فإن العبد هو عكس المساوي، ومن ثمَّ، فإن الابن مساوي إذ هو
في صورة الله، ولكنه أقلّ باتخاذه لنفسه جسداً، وأيضاً في آلامه كإنسان. لأنه كيف
يمكن لنفس الطبيعة أن تكون أقل ومتساوية معاً في نفس الوقت؟ وكيف يمكن للابن إن
كان أقل أن يعمل نفس الأعمال، بنفس الطريقة، كما يعمل الآب؟ كيف يمكن في الواقع أن
يكون العمل واحداً مع وجود اختلاف في القوة؟ هل يستطيع الأقل أن يعمل نفس المفاعيل
مثل الأعظم؟ أو هل يمكن أن توجد وحدة في العمل حيث يوجد اختلاف في الجوهر؟

71
لذلك، عليك أن تَقْبَل بأن المسيح فيما يمس ألوهيته لا يمكن أن يُسَّمى أقل من
الآب. يتكلم المسيح مع إبراهيم ويقول: ” أقسمت بذاتي” (تك16: 22)،
والرسول يُبيّن أن من يُقسم بذاته لا يمكن أن يكون أقل من أيٍّ (آخر)، ولذلك يقول:
” فإنه لمَّا وعد الله إبراهيم، إذ لم يكن له أعظم يُقسم به، أقسم بنفسه قائلاً:
إني لأباركنك بركة وأكثرنك تكثيراً” (عب13: 6 و14). فالمسيح إذن لا يوجد له
آخر أعظم منه ليقسم به، ولهذا السبب فإنه أقسم بذاته. وعلاوة على ذلك، فإن الرسول
قد أضاف عن صواب: ” فإن الناس يقسمون بالأعظم منهم” (عب16: 6)، من حيث
إن الناس لهم مَنْ هو أعظم، أمّا الله فليس له أعظم.

72
وإلاّ، فإن كان الذين يعترضون علينا سوف يفهمون الآية السابقة على أنها تُنسب إلى
الآب، فإن باقي المكتوب لا يتفق مع هذا، لأن الآب لم يظهر لإبراهيم، ولا أن
إبراهيم غسل قدمي الله الآب، ولكنه غسل قدمي ذاك الذي فيه سوف تكون صورة
الإنسان[4]. وعلاوة على ذلك، فإن ابن الله قال: ” إبراهيم… رأى يومي
وفَرِح” (انظر يو56: 8)، لذلك فإن الذي أقسم بذاته هو بعينه الذي رآه
إبراهيم.

73
فكيف يكون له مَنْ هو أعظم منه، هذا الذي هو واحد مع الآب في الألوهية[5]. وحيث
توجد وحدة، لا يوجد أى اختلاف، بينما يوجد اختلاف بين الأعظم والأقل. إذاً فإن
التعليم في الاقتباس الموجود أمامنا من البشائر فيما يتعلق بالآب والابن، هو أن
الآب ليس أعظم، وأن الابن ليس له مَنْ هو أعلا منه، نظراً لأنه لا يوجد بين الآب
والابن فرق في الألوهة يفصل بينهما، وإنما جلالٌ واحد.

===

[1]
لأنه إن كان الأمر هكذا، فإن الله يتوقف عن أن يكون إلهاً.

[2]
كو9: 2: فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت.

[3]
يريد القديس أمبروسيوس أن يقول إن المسيح تألم ومات بالجسد وإنه نال معونة كإنسان
وقت آلامه، كما ذكر الإنجيل أن ملاكاً من السماء ظهر له ليقويه وهو في بستان
جسثيمانى (انظر لو43: 22).

[4]
1يو2: 3و3، تك4: 18: ” ليؤخذ قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت
الشجرة”.

[5]
انظر يو30: 10 ” أنا والآب واحد”.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى