كتب

الفصل الأول



الفصل الأول

الفصل الأول

من هو يهوذا الإسخريوطي؟

 

1 – شخصيته وخيانته
للمسيح:

 كان يهوذا الإسخريوطي
أحد تلاميذ المسيح الأثنى عشر، ويعني أسمه ” يهوذا “، أنه يهودي أو من
سبط يهوذا، ولقبه ” الإسخريوطي ” يعني أنه رجل من قريوت المذكورة في (ار48:
24و؛عا2: 2)، والتي يحتمل أنها كانت تقع في جنوبي اليهودية حيث توجد ” خرابة
القريتين “. ويذكره العهد الجديد في أغلب المرات بمسلم الرب يسوع المسيح: ”
ويهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه ” (مت10: 4؛ ومر3: 19).
” ويهوذا
الإسخريوطي الذي صار مسلما أيضا ” (لو6: 16).
وأنه كان
معروفاً منذ اختيار الرب له أنه سيسلمه: ” أجابهم يسوع أليس أني أنا اخترتكم
الاثني عشر وواحد منكم شيطان قال عن يهوذا سمعان الإسخريوطي. لأن هذا كان
مزمعا أن يسلمه ” (يو6: 70و71). وذلك بناء على علم الرب وتدبيره
السابق ” لان الذين سبق فعرفهم سبق فعيّنهم ” (رو8: 29).

 كما يصفه
الكتاب بأنه كان ” مزمعاً أن يسلم الرب “، بل وكان سارقاً للصندوق: ”
فأخذت مريم منا من طيب ناردين خالص كثير الثمن ودهنت قدمي يسوع ومسحت قدميه بشعرها.
فامتلأ البيت من رائحة الطيب. فقال واحد من تلاميذه وهو يهوذا سمعان الإسخريوطي المزمع
أن يسلمه
لماذا لم يبع هذا الطيب بثلاث مئة دينار ويعط للفقراء. قال هذا ليس لأنه
كان يبالي بالفقراء بل لأنه كان سارقا وكان الصندوق عنده وكان يحمل ما يلقى فيه
” (يو12: 4-6).

 وأنه تأمر مع رؤساء
الكهنة وباع لهم المسيح: ” حينئذ ذهب واحد من الاثني عشر الذي يدعى يهوذا الإسخريوطي
إلى رؤساء الكهنة ” (مت26: 14). ” ليسلمه إليهم ” (مر14: 10).
وأثناء العشاء كشف عنه الرب بشكل غير مباشر لكل التلاميذ، وحذره التحذير الأخير
بأنه، المسيح، سيسلم ويصلب سواء قام هو بتسليمه أم لا، فهذا هو ما حتمته المشورة
الإلهية وما هو مكتوب في كتب الأنبياء، كما حذره من المصير الذي ينتظره في حالة
قيامه بتسليم الرب وخيانته له: ” وفيما هم يأكلون قال الحق أقول لكم أن واحداً
منكم يسلمني. فحزنوا جدا وابتدأ كل واحد منهم يقول له هل أنا هو يا رب.
فأجاب وقال. الذي يغمس يده معي في الصحفة هو يسلمني. أن ابن الإنسان ماض
كما هو مكتوب عنه. ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان. كان خيرا لذلك
الرجل لو لم يولد
” (مت26: 22-24).

 ثم يقول الكتاب: ”
فدخل الشيطان في يهوذا الذي يدعى الإسخريوطي وهو من جملة الاثني عشر ”
(لو22: 3). ” فحين كان العشاء وقد ألقى الشيطان في قلب يهوذا سمعان الإسخريوطي
أن يسلمه 000 لما قال يسوع هذا اضطرب بالروح وشهد وقال الحق الحق أقول لكم أن
واحدا منكم سيسلمني. فكان التلاميذ ينظرون بعضهم إلى بعض وهم محتارون في من قال
عنه. وكان متكئا في حضن يسوع واحد من تلاميذه كان يسوع يحبه. فأومأ إليه سمعان
بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذي قال عنه. فاتكأ ذاك على صدر يسوع وقال له يا سيد
من هو. أجاب يسوع هو ذاك الذي اغمس أنا اللقمة وأعطيه. فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا
سمعان الإسخريوطي. فبعد اللقمة دخله الشيطان. فقال له يسوع ما أنت تعمله فاعمله
بأكثر سرعة000
فذاك لما اخذ اللقمة خرج للوقت. وكان ليلا. فلما خرج قال يسوع
الآن تمجد ابن الإنسان وتمجد الله فيه (يو13: 2و22-31).

 هذا ما ذكره الكتاب
عنه. وهنا يتبين لنا شخصيته الشريرة التي كان يعلمها الرب قبل اختياره، بل وبعلمه
السابق، ولكن يبدو أنه انضم للمسيح كيهودي مخلص كان ينتظر المسيح المنتظر ولكن
شخصيته بدأت تتطور بتطور الأحداث ومن خلال علاقته بالمسيح وأفكاره الخاصة كيهودي
غيور على أمته ومستقبلها حتى وصل إلى الدرجة الحرجة الكافية لأن تدفعه أن يقوم بما
عمله. ويبدو أن دوافعه الشخصية كانت تغلب عليه كثيراً فقد ” كان أميناً للصندوق،
إلا أنه تجاهل تحذيرات الرب يسوع المسيح من الطمع والرياء (مت 6: 20،لو 12: 1 – 3)،
واستغل الأموال لحسابه ولتغطية جشعه، وتظاهر بالغيرة على الصندوق.

 وبعد أن قبض على الرب
يسوع المسيح ندم، وبدأ يشعر بالذنب، وفي يأسه المتزايد بسبب طرد رؤساء الكهنة
والشيوخ له، ” طرح الفضة في الهيكل وانصرف، ثم مضى وخنق نفسه
(مت27: 5)، واشترى رؤساء الكهنة بالفضة حقل الفخاري الذي سمي فيما بعد ” حقل
الدم
” فتحققت نبوة زكريا (11: 12 – 14). ويوضح لنا سفر الأعمال كيفية
موته بعد أن شنق نفسه فيقول: ” وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط فانسكبت
أحشاؤه كلها ” (أع1: 16-20). وتم فيه قول الكتاب: ” لأنه
مكتوب في سفر المزامير لتصر داره خرابا ولا يكن فيها ساكن وليأخذ وظيفته آخر

” (أع1: 20).

2 – ما دار حوله من
نظريات عبر التاريخ:

 دارت حول يهوذا العديد
من الأفكار والنظريات عبر التاريخ بين من يقول بهلاكه الأبدي حسب تحذير الرب يسوع
له، ومن يبرئه، ومن يقول بغفران المسيح له كما غفر لصالبيه ولبطرس الذي أنكره،
وبين من قال أنه فعل ذلك خدمة للمسيح 00 الخ ونلخص هذه النظريات بحسب ما وردت في
عدة دوائر معارف وقواميس كتابية، وخاصة دائرة المعارف الكتابية التي لخصت ما جاء
في كل هذه الموسوعات:

(1) انضمامه للرسل
ليسلم المسيح:
دار حوار طويل وجدل كثير، ليس حول روايات الأناجيل عن يهوذا
فحسب، بل وأيضاً، حول شخصيته والمشاكل المتعلقة بها. فكون ” يهوذا ”
مسلم يسوع واحداً من الاثني عشر المختارين، قد أعطي لأعداء المسيحية فرصة
لمهاجمتها منذ العصور الأولى كما ذكر أوريجانوس. كما أن صعوبة الوصول إلى حل حاسم،
قد أدى بالبعض إلى اعتبار يهوذا مجرد تجسيد للروح اليهودية. ولكن هذا الرأي، على
أي حال، يقلل من القيمة التاريخية لكثير من الفصول الكتابية. وهناك نظريات مختلفة
لتفسير الموضوع، مثل أن يهوذا انضم لجماعة الرسل بهدف محدد، هو تسليم يسوع.
ويفسرون هدف هذا الاتجاه على وجهين، هدفهما السمو بشخصية يهوذا وإبرائه من تهمة
دوافع الخيانة.

(أ) فيقول أحد الجانبين
إن يهوذا كان وطنياً غيوراً، ورأى في يسوع عدواً لأمته وعقيدتها الأصيلة، ولذلك
أسلمه من أجل صالح أمته، ولا يتفق هذا الرأي مع طرد رؤساء الكهنة ليهوذا (مت 27: 3
– 10).

(ب) أما الاتجاه الآخر
فقد اعتبر يهوذا نفسه خادماً أميناً للمسيحية إذ أنه توجه إلى التسليم ليتعجل عمل
المسيح ويدفعه إلى إظهار قوته المعجزية بدعوة ملائكة الله من السماء لمعونته (مت
26: 53). أما انتحاره فيرجع إلى يأسه، لفشل يسوع في تحقيق توقعاته. ولقد راقت هذه
النظرية – في العصور القديمة – للغنوسيين القاينيين، كما سنبين في الفصول التالية،
وفي العصر الحديث ” لدى كوينسي والأسقف هويتلي، لكن العبارات التي استخدمها الرب
يسوع المسيح وطريقة رفضه لتصرف يهوذا (يو17: 12) تجعل مثل هذا الرأي بلا قيمة.

(2) سبق تعيين يهوذا
ليكون مسلمه:
هناك رأي آخر يقول أن يهوذا سبق تعيينه ليكون مسلمه، وأن الرب
يسوع كان عالماً منذ البداية بأنه سيموت بالصليب، وقد اختار يهوذا لأنه عرف أنه هو
الذي سيسلمه، وهكذا تتحقق المقاصد الإلهية (مت 26: 54). والذين يتمسكون بهذا الرأي
يبنونه على علم يسوع بكل شيء كما في يوحنا (2: 24) لأن الرب يسوع ” كان
يعرف الجميع
“. وكذلك يوحنا (6: 64) ” لأن يسوع من البدء علم من
هم الذين لا يؤمنون ومن هو الذي يسلمه “، كذلك يوحنا (18: 4) ”
وهو عالم بكل ما يأتي عليه “. ولكننا إذا أخذنا هذه النصوص حرفياً، يكون معنى
هذا تطبيق عقيدة قضاء الله السابق بطريقة متزمتة أكثر مما يجب، وبهذا يكون يهوذا
مجرد آلة أو وسيلة في يد قوة أعلى منه، وهو ما يجعل مناشدة الرب يسوع المسيح وتحذيراته
له بلا معنى، كما أنه ينفي وجود المسئولية الشخصية والإحساس بالذنب، وهو ما كان
يريد الرب أن يثيره وييقظه في قلوب سامعيه. ولقد كتب يوحنا الرسول بعد وقوع
الأحداث، ولكننا كما رأينا، كان في كلمات ربنا وضوح متزايد في التنبؤ بتسليمه. إن
علم ربنا يسوع المسيح بكل شيء كان أعظم من مجرد معرفة متنبيء يدعي استطلاع
المستقبل. لقد كان علمه بكل شيء هو علم من عرف، من ناحية، مقاصد أبيه السرمدي من
نحو الناس، ومن الناحية الأخرى، كان ينفذ إلى أعمق أعماق الشخصية البشرية ويرى
ما فيها من مشاعر ودوافع وميول خفية.

(3) تسليمه للرب يسوع المسيح
كان نتيجة تطور تدريجي:
ونظراً لأن الإنسان حر الإرادة فأننا نرى أن
تسليم يهوذا للرب يسوع، كان نتيجة تطور تدريجي داخل نفسه، يبدو أكثر واقعية. فقد
كان يهوذا الوحيد بين التلاميذ من المناطق الجنوبية، ولذلك فاختلافه في المزاج
والنظرة الاجتماعية، بالإضافة إلى ما يمكن أن تؤدي إليه من اتجاهات دنيئة، قد يفسر
جزئياً عدم وجود التعاطف الصادق بين يهوذا وبقية التلاميذ، وإن كان هذا لا يبرر
مطلقاً خيانته التي حدثت فيما بعد. لقد كانت له كفاءة خاصة في إدارة الأعمال،
ولذلك اختير أميناً للصندوق، ولكن قلبه لم يكن منذ البداية نقياً، فقد كان يقوم
بمسئوليته بدون أمانة، وامتد سرطان الجشع هذا من الأمور المادية إلى الأمور
الروحية، فلم تحدث لأحد من التلاميذ خيبة أمل نتيجة انتهاء الحلم بمملكة أرضية ذات
مجد وبهاء مثلما حدث ليهوذا. ولم تكن ربط المحبة التي جذب بها يسوع قلوب التلاميذ
الآخرين، وكذلك التعاليم التي بها سما بأرواحهم فوق الأمور الأرضية، لم تكن إلا
قيوداً أثارت أنانية يهوذا. ولأنه كان مكبلاً بأطماعه، ولخيبة أماله، ثارت فيه
الغيرة والحقد والكراهية، ولم تكن كراهية إنسان قوي بل كراهية إنسان ضعيف أساساً،
فبدلاً من أن ينفصل صراحة عن سيده، بقى في الظاهر واحداً من أتباعه، كما أن تفكيره
المستمر في توبيخات سيده، جعل الباب مفتوحاً أمام الشيطان ” فدخله الشيطان
“، فهو إذاً كان قد علم الصلاح ولكنه لم يفعله (يو13: 17). كما كان أيضاً
ضعيفاً في تنفيذ خططه الدنيئة، لقد حمله هذا التردد – أكثر من حقده الشيطاني الخبيث
– على أن ينتظر في العليه حتى اللحظة الأخيرة، مما دفع يسوع لأن يقول له: ”
ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة ” (يو13: 27). وبهذا التفكير الضعيف حاول أن
يلقي باللوم على رؤساء الكهنة والشيوخ (مت27: 3و4)، لقد حاول أن يبرئ نفسه ليس
أمام يسوع البار الذي أسلمه، بل أمام شركائه في الجريمة. ولأن العالم الذي –
بأنانيته – اتخذه إلهاً له، تخلى عنه أخيراً، مضى وخنق نفسه. إنها النهاية التعيسة
لإنسان اعتنق بكل طاقاته روح المساومة والأطماع الذاتية، فلم يزن النتائج القاتلة
التي قادته إليها تلك الدوافع الرديئة. ومن ثم يقول القديس أغسطينوس:

 ” أنه لا
يستحق الرحمة، ولذا لم يشرق في قلبه نور ليجعله يسرع ليطلب العفو من الذي خانه

“.

 ومن ثم فقد كان لابد
أن يتحقق فيه ما سبق أن أعلنه له الرب يسوع المسيح: ” أن ابن الإنسان ماض
كما هو مكتوب عنه. ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان. كان خيرا لذلك
الرجل لو لم يولد
” (مت26: 22-24).

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى