اللاهوت العقيدي

الفصل الثالث



الفصل الثالث

الفصل
الثالث

الجزء
الطقسي

(أ)
طقس المعمودية عند الآباء كل أب بمفرده

(ب) طقس المعمودية عند الآباء حسب خطوات قانون التعميد

مقالات ذات صلة

 

مقدِّمة:

نقدِّم
هنا للقارئ كل ما قاله الآباء على مدى العصور عن المعمودية. والقصد من ذلك أن
يطَّلع القارئ على دقائق المعمودية وتعاليمها من مصادرها مباشرة. فقدَّمناها في
معظمها كنصوص وردت في تعاليمهم.

وهناك
حقيقة هامة ينبغي أن يعرفها القارئ وهي أنه حتى القرن الخامس كانت المعمودية
تُمارس كقانون بواسطة الأسقف أو على الأقل في حضوره، وبعد ذلك صار الكاهن يقوم
بعمل الأسقف في العماد في غياب الأسقف. على أن التثبيت كان يُجرى بيد الأسقف.

وسوف
يرى القارئ أن طقس المعمودية الذي جازه وتعاطاه كل واحد منا، هو من الأسرار
الرهيبة حقا، لأن المُعطَى في سر المعمودية أشياء تفوق العقل وتتعلَّق رسمياً بذات
المسيح وجسده وعمل الله المباشر لاختيار شعبه المبارك.

فإن
كانت الختانة هي علامة العهد القديم، فالمعمودية هي علامة العهد الجديد. وإن كانت
الختانة تُدخل اليهودي في شعب الله المختار بمواريثه، فالمعمودية تُدخل المسيحي
الشعب المختار في المسيح وشركة ميراثه.

وإليك
أقوال وأفكار الآباء وهي ممتعة حقا وثمينة للغاية:

 

(أ)
طقس المعمودية عند الآباء كل أب بمفرده

1-
القديس كليمندس الروماني (سنة 96م):

أسقف
روما، كان يُظن أنه ثالث أسقف بعد القديس بطرس، وبالتحقيق قيل إنه خلف القديس بطرس
مباشرة- ويُعتقد أنه هو الذي أشار إليه ق. بولس في رسالته إلى أهل فيلبي (3: 4)
التي كتبت في روما.

وله
رسالتان إلى كورنثوس، ولكن الأُولى هي الأصيلة وكُتبت سنة 96م.

والقديس
كليمندس في رسالته الأُولى (5: 46) يشير إلى “انسكاب روح النعمة الواحد”
وهذه إشارة إلى إعطاء الروح القدس في المعمودية.

كما
أن في (4: 9) إشارة واضحة إلى نجاة نوح والذين معه من الغرق والهلاك واصفاً هذه
النجاة بأنها “ولادة ثانية
paliggenes…an, Regeneration”.

وله
أيضاً في نفس الرسالة الأُولى (2: 36):

+
[الذي فيه خرج عقلنا الجاهل والمظلم إلى النور].

وكلمة:
“إلى النور” جاءت في (عب 4: 6) باليونانية هكذا: “
fwtisqšntaj استنيروا”: ” لأن
الذين استنيروا مرَّة (إشارة إلى المعمودية)..”
(عب 4: 6). وهذه الصفة
خاصة بالمعمودية، وهكذا نجد في هذه الرسالة إشارة من بعيد إلى التجديد
والاستنارة
وهما من خصائص المعمودية، لأنه يقول خرج إلى النور وليس اصطلاح
الاستنارة.

وللقديس كليمندس رسالة ثانية منسوبة إليه لأهل كورنثوس وهي
عظة لها تاريخ ولا يُعرف
بالتحقيق صاحبها، ولكنها تُسمَّى بالرسالة الثانية لكليمندس. وفي (9:
6) تشير إلى ضرورة حفظ نعمة
المعمودية بلا دنس حتى ندخل بها الملكوت. وفي
(6: 7 و6: 8) يكرِّر نفس التحذير مشيراً للمعمودية بأنها ختم، وهذا يتفق مع
ما جاء في رسائل بولس الرسول أنها ختم الروح (2كو 1: 21و22، أف 13: 1و14، 30: 4).
وتقول الرسالة الثانية إن المعمودية التي تطبع الجسد المائت الذي للمؤمن بختم هي
علامة له أنه من خاصة الرب. وعليه أن يحفظ هذا الختم مصوناً غير منثلم بالسلوك
الصالح!

2-
القديس إغناطيوس الأنطاكي (سنة 107م):

القديس
إغناطيوس أسقف أنطاكية (35107م) وشهيد. كان يصف نفسه في بدء كل
رسائله- وصار ذلك لقباً له- أنه حامل الله
qeofÒroj أو ربما المحمول من
الله
qeÒforoj والفرق هو في موضع النبرة التي فوق حرف (o) الأول أو الثاني، ويُعتقد أنه سرياني الأصل، وبحسب أوريجانوس فهو
الأسقف الثاني على أنطاكية التالي للقديس بطرس، ولكن يوسابيوس يقول إنه الثالث
وخلف الأسقف إيفوديوس
Evodiusسنة 69م.
قاده عشرة جنود للاستشهاد في روما، وحيَّاه في الطريق الأسقف بوليكاربوس أسقف
أزمير (سميرنا).

+
[لقد تعمَّد الرب لكي يصير كل بر مكمَّلاً بواسطته.]
([1])

+
[لقد تعمَّد الرب لكي بآلامه يطهِّر ويقدِّس الماء.]
([2])

ومعنى هذا القول إن معمودية الرب متصلة بآلامه على الصليب
وهذه تُطهِّر وتقدِّس ماء
المعمودية.

وهكذا
يُحسب القديس إغناطيوس أنه أعطى وصفاً لماء المعمودية لم يرد في الكتاب المقدَّس،
بقوله إن معمودية المسيح أعطت ماء المعمودية قداسة سريَّة كقوة أو طاقة. وقد ظهر
هذا التعليم بعد ذلك عند الآباء.

وحيث
إن المعمودية هي الطقس الذي يهيِّئ الدخول إلى الكنيسة، لذلك لا ينبغي أن يُمارس
بدون أسقف:

+ [لا يفعلن أحد شيئاً في الكنيسة بدون الأسقف.. غير مسموح
لأحد أن يُعمِّد بدون
الأسقف ولا أن يقيم مائدة محبة. بل كل ما
يستحسنه الأسقف هذا يكون مرضياً عند الله.]
([3])

3-
الديداخي: وهي تعاليم الرسل الاثني عشر بكور القرن الثاني:

بالرغم
من أن الديداخي تُعرف عادة كعمل من بكور القرن الثاني، ولكن قامت دراسات كثيرة
بخصوص تاريخها وكل عباراتها وقد جمعها العالِم
F.E. Vokes في كتاب أسماه: “لغز الديداخي”([4])
وانتهى إلى أنها تتبع ما قبل نيقية وهي تعطي صورة عن بكور جماعة المسيحيين في
الكنيسة في القرن الأول.

والديداخي تصف ممارسة المعمودية هكذا:

+ [بعدما تتلون كل محفوظات الطقس (أي طريق الحياة والموت):
عمِّد باسم الآب والابن والروح القدس في مياه جارية (مياه حيَّة)، فإذا لم تكن
هناك مياه جارية ففي مياه أخرى. وإذا لم يكن بمياه باردة فبمياه دافئة. فإذا لم
يكن هذا ولا ذاك، فاسكب المياه ثلاثاً على رأس المعمَّد باسم الآب
والابن والروح القدس([5])، وقبل المعمودية ليت المعمَّد والمعمِّد يصومان أولاً، والمعمَّد عليه أن
يصوم يوماً أو اثنين قبل العماد.]
([6])

4-
هرماس الراعي (سنة 140م):

محسوب
أنه واحد من الآباء الرسوليين، وقد امتدح كتاباته القديس أثناسيوس. يحكي عن رؤية
رأى فيها الكنيسة كبرج مبني على الصخر، والذين يلبسون الروح يدخلون إلى البرج لأن
الاسم وحده لا يخلِّص([7])،
وجميع الذين يدخلون إلى البرج يلبسون ثياباً بيضاء كالثلج([8])لأنهم قد لبسوا اسم ابن الله([9]).

اللباس
الذي يلبسه المعمَّدون هو الروح القدس
([10]) الذي
ينعم به على المعمَّد ويتحتَّم حفظه سليماً لا يُمس
([11]).
وجميع الذين يقبلون الختم يصير لهم معرفة واحدة وفكر واحد ويكون لجميعهم إيمان
واحد ومحبة واحدة
([12]).

وبواسطة
المعمودية يُنقلون من الموت إلى الحياة، والذين رقدوا في الرب منهم يدخلون ملكوت
الله. لأنه قبل أن ينال المعمَّد اسم المسيح يكون ميتاً، ولما يقبل الختم يترك
موته ويستلم الحياة ثانية. فالختم هو الماء، والذين ينزلون إلى المعمودية أمواتاً
يصعدون منها أحياء
([13]).

فالمعمودية
تُرى أنها تُعطَى لأناس بلغوا سني المعرفة لأنهم يوعظون عن الختم
([14])، ومفهوم
جيداً أن المؤمنين يُدفنون ويقومون إلى جدة الحياة، والتوبة هي الشرط سابقاً على
المعمودية، وغفران الخطايا والحياة المقدَّسة هي نتائجها.

5-
القديس يوستين الشهيد (سنة 150م):

وهو
عاش من سنة 100165م.

ونقدِّم
هنا مقتطفات من دفاعه الأول عن المسيحية، وقد أرسله للإمبراطور أنطونينوس بيوس،
ولذلك فهو لا يسترسل كثيراً في التعليم السرِّي إذ هو دفاع مقدَّم لإمبراطور وثني:

+
[سأقص عليكم كيف كرَّسنا أنفسنا لله لما وُلدنا ميلاداً جديداً في المسيح: فالذين
يقتنعون ويؤمنون أن التعاليم التي قلناها هي الحق، ويتعهَّدون أن يعيشوا بمقتضاها،
نعلِّمهم أن يطلبوا من الله بالصلاة والصوم لكي يغفر خطاياهم السابقة، ونحن أيضاً
نصلِّي ونصوم معهم. ثمَّ نقودهم إلى موضع به ماء وهناك يولدون من جديد بحسب
الطريقة عينها التي وُلدنا نحن أيضاً بها ميلاداً جديداً، وذلك بأن ينالوا غسل
الماء باسم الله الآب الضابط الكل ومخلِّصنا يسوع المسيح والروح القدس.. وقد
تعلَّمنا من الرسل لماذا نحن نعتمد هكذا، ذلك لأننا في ميلادنا الأول وُلِدنا بغير
اختيارنا من والدينا ثمَّ نشأنا بعادات رديئة وخاطئة، فلكي لا نبقى أبناء الضرورة
والجهل بل نصير أبناءً عن اختيار ومعرفة، ولكي ننال في الماء غفران خطايانا
السابقة، لذلك يُنادى فوق من يريد أن يولد ثانيةً، الذي يكون قد تاب عن خطاياه،
باسم الله الآب الضابط الكل. فالذي يقود المعمَّد إلى جرن المعمودية ينادى عليه
بهذا الاسم.. وهذا الاغتسال يُدعى استنارة لأن الذين يتعلَّمون هذه الأمور
يستنيرون في معرفتهم. وبعد ذلك فالذي استنار يُعمَّد أيضاً باسم يسوع المسيح الذي
صُلب على عهد بيلاطس البنطي، وباسم الروح القدس الناطق في الأنبياء بكل ما يختص
بيسوع.]
([15])

+
[وبعد أن نعمِّد هكذا المؤمن الجديد الراغب في الانضمام إلينا، نحن نقوده إلى
الموضع الذي يجتمع فيه الذين ندعوهم “الإخوة”، حيث نرفع جميعاً معاً الصلوات
الحارة من أجل نفوسنا، ومن أجل ذلك الذي اعتمد، ومن أجل كل الناس في كل مكان، حتى
إننا بعد أن حصلنا على الحق نوجد مستحقين أن نظهر بأعمالنا أننا مواطنون صالحون
مطيعون للشرائع، وننال بالنهاية الخلاص الأبدي.]
([16])

فالقديس
يوستين يدرك بوضوح أن المعمودية المسيحية تُمارس باسم الثالوث وتُمنح للمؤمن فقط.
والذين يقبلون المعمودية هم الذين “قد اقتنعوا وآمنوا” بالتعليم المسيحي
أنه هو الحق ويتعهَّدون بأن يحيوا بمقتضاه، ومن أجل ذلك يصومون ويصلُّون. والتجديد
أو الخليقة الجديدة التي يتقبَّلونها في المعمودية لا تُعطى إلاَّ لمن يكون عنده
الإيمان الواعي، وكنتيجة “لتكريس نفسه لله”. بحيث إن الذين كانوا مولودين
عن ضرورة أو جهل يصيرون “أبناء الاختيار والمعرفة”، والتلميذ الذي يختار
العماد والتجديد وقد أكمل التوبة “ينال في الماء غفران خطاياه السابقة”.

وهذا
الاغتسال يُدعى الاستنارة “لأن الذين يتعلَّمون هذه الأمور يستنيرون في
معرفتهم”.

والقديس
يوستين يقارن بين المعمودية اليهودية التي تغسل الجسد فقط وبين المعمودية المسيحية
التي هي ذات أهمية وخطورة، التي هي “غسل” التوبة ومعرفة الله فهي “ماء
الحياة”
([17])،
“والمعمودية بالروح القدس”
([18])
وهي “حميم الميلاد الجديد”([19]). وختانة من
نوع خاص تُعطَى مغفرة الخطايا برحمة الله
([20]).

6-
القديس كليمندس الإسكندري (سنة 215م):

القديس
كليمندس الإسكندري عاش من سنة 150215م وتتلمذ على يدي بنتينوس مدير
مدرسة الإسكندرية وقد خلفه كمدير لمدرسة الإسكندرية سنة 190م. وهو معاصر لترتليان،
وفي سنة 202م أُجبر على الهرب بسبب الاضطهاد. وقد تنيَّح سنة 215م. وتعيِّد له
الكنيسة في 4 ديسمبر. وأهم مؤلفاته هي خطاب موجَّه إلى الوثنيين
Protrepticus وكتاب المربِّي Paedagogus الذي يجعله لقباً للمسيح الذي يربينا ويعلِّمنا الأداب اللائقة
بالحياة المسيحية، وكتاب المتفرِّقات
Stromata ومقالة عن: “مَنْ هو الغني الذي سيُخلِّص Qui dives salvetur”. وهو يعتبر الاستنارة أنها كمال المسيحية، ويعطي قيمة
أساسية للمعرفة الحقيقية (غنوسيس)، لذلك فمحور تعليمه اللاهوتي هو اللوغس المسيح
الكلمة الذي عرَّفنا كل شيء عن الله. وهو من أكثر الشارحين لعمل اللوغس من نحو
البشرية، فلأن المسيح صار إنساناً أصبح الإنسان فيه يمكن أن يشترك في عدم
الموت. وهو يعتبر أن سر العماد والإفخارستيا هما أداة لهذا الاشتراك. ومن أقوال ق.
كليمندس الإسكندري عن المعمودية
([21]):

 §المعمودية هي الولادة
الثانية:

+
[لأنه هكذا أراد لنا أن نتحوَّل ونصير كالأطفال معلنين إيَّاه حقا كأبينا مولودين
ثانية بالماء. وهذا ميلاد آخر غير الذي كان في الخليقة.]
([22])

+
[اسمعوا المخلِّص يقول: أنا ولدتكم ثانية، بعد أن كنتم مولودين من العالم ولادة تعيسة
للموت، أنا حرَّرتكم وشفيتكم وفديتكم وسأعطيكم حياة بلا نهاية، أبدية، فائقة
للطبيعة. سأريكم وجه الله الآب الصالح، فلا تدعوا لكم أباً على الأرض. من أجلكم
أنا حاربتُ الموت ودفعت دينكم المميت الذي
أُدنتم به بخطاياكم السالفة وعدم إيمانكم
بالله.]
([23])

وإنه
حقا من الصعب أن نجد شرحاً أفضل من هذا عن التبني لله الذي نحصل عليه في المعمودية
التي للخلقة الجديدة.

والقديس
كليمندس يستخدم كلمة الختم
sfrag…j والاستنارة والحميم والكمال للتعبير عن سر المعمودية في كتابه
“المربِّي”، حيث يشرح تأثير المعمودية كالآتي:

+
[وإذ نكون قد اعتمدنا نكون استنرنا، وإذ نكون استنرنا نكون صرنا أولاداً، وإذ صرنا
أولاداً نكون قد تكاملنا. وإذ نكون قد تكاملنا نكون قد صرنا غير مائتين: ”
أنا قلت إنكم آلهة وكلكم أبناء العلي..” (مز 6: 82). هذا العمل يُسمَّى نعمة
ويُسمَّى استنارة وكمالاً وحميماً. فهو حميم لأننا به نغسل خطايانا. وهو نعمة لأنه
به تُرفع عنا العقوبة المتحصِّلة من تعدياتنا. ويُسمَّى استنارة لأننا به نعاين
النور المقدَّس الذي للخلاص، أي نرى الله واضحاً. والآن نُدعى كاملين إذ لا نحتاج
شيئاً. لأنه ماذا يعوز الإنسان إن هو عرف الله؟ لأنه يكون أمراً مشيناً حقا لو أن
شيئاً غير كامل يُدعى هبة نعمة الله.]
([24])

+
[لقد أُبطلت آثامنا بهذا الدواء الفائق: معمودية اللوغس. فإننا قد اغتسلنا من
خطايانا ولم نعد بعد منغمسين في الشر. وهذه هي النعمة الفريدة التي نلناها
بالاستنارة: إن طبائعنا الآن لم تعد مثلما كانت قبل أن نغتسل.]
([25])

كذلك
يرى القديس كليمندس الإسكندري أن الروح القدس الذي يُعطى للمؤمن في المعمودية
يحوِّله من الوضع الترابي إلى الوضع السماوي
([26])
(انظر: 1كو 49: 15)، ويحميه([27]) من الأرواح
الشريرة
([28]).

 §والاستنارة التي ننالها
في المعمودية تلازمها المعرفة والاستعلان ورؤية الله
([29]).

 §وهناك إشارة خفية
لمعمودية الأطفال في وضع رمزي في كتاب “المربي”
([30]).

7-
هيبوليتس (سنة 236م):

عاش
من سنة 170236م. وهو عالِم عقائدي كنسي، وهو أعظم لاهوتي في الكنيسة
الرومانية في القرن الثالث، وقد أُهمل ذكره لأنه كتب باللغة اليونانية. وفوتيوس
يؤكِّد أنه كان تلميذاً لإيرينيئوس. وإغفال اسمه وتعاليمه في روما بسبب كونه كان
ضد الباباوات الذين كانوا في زمانه. لكنه مات شهيداً واحتُسب بعد عراك طويل أنه
كاثوليكي العقيدة وكان قد أُعطي له رتبة كاهن، ثمَّ سيم أسقفاً من مجموعة قليلة من
الذين ناصروه([31]).

والتقارير
التي قدَّمها هيبوليتس عن المعمودية نظراً لتكاملها، بمعنى أنها تحوي كل عناصر
المعمودية، أصبح لها قيمة فريدة وعظيمة، فهي تمثِّل الكنيسة الأرثوذكسية في الشرق
حتى إنها برزت باعتبارها المصدر الأساسي لمعرفتنا للمعمودية وممارستها في القرن
الثاني في الشرق والغرب.

§ وهيبوليتس يقرن المعمودية بمغفرة الخطايا وبالميلاد الجديد والانضمام
للكنيسة، وبعطية الروح القدس التي تُعطى للمعمَّد
([32])، وهو أحياناً يعتبر أن عطية الروح القدس تُعطى في المعمودية([33]) وأحياناً أخرى يقول إنها تُعطى بواسطة مسحة الزيت([34])
بعد المعمودية.

+
[ينزل المعمَّد إلى حميم التجديد بعد أن يقر بإيمانه ويجحد الشيطان ويلتصق بالمسيح
وينكر العدو ويعترف بأن المسيح هو الله، وحينئذ يخلع عنه العبودية ويلبس التبني..
ويخرج من المعمودية مضيئاً كالشمس مشعاً بالبر ويعود ابناً لله ووريثاً مع المسيح
الله.]
([35])

§ وفي كتابه: “التقليد الرسولي” يشرح بتفصيل جميع خطوات
المعمودية: فالموعوظ يستمر تعليمه ثلاث سنوات([36])ثمَّ تُقال عليه صلاة إخراج الشياطين([37])ويُختم بواسطة الأسقف بعلامة الصليب على جبهته ومنخاره وأذنيه([38]).
وبعد ذلك يجحد الشيطان وكل أعماله ويُدهن بزيت إخراج الشياطين
([39])،
ويجيب على أسئلة الإيمان قبل تغطيسه في الماء ثلاث مرَّات. وبعده يُعطى مسحة زيت
البهجة أو الشكر بواسطة الكاهن، ويلتحق بالجماعة حيث يضع الأسقف عليه يده بصلاة
ويدهنه بالزيت المقدَّس باسم الله الآب القادر على كل شيء والمسيح يسوع والروح
القدس
([40])،
وأخيراً يختمه على جبهته ويعطيه قبلة السلام.

هذا
هو ترتيب المعمودية بحسب كتاب هيبوليتس الأصلي المدعو “التقليد الرسولي”، وقد نشره
وحقَّقه العالِم جريجوري دكس([41]).
وفي عصر لاحق صيغت محتويات هذا الكتاب صياغة جديدة عُرفت باسم “قوانين هيبوليتس”.

قوانين
هيبوليتس:

أول
مَنْ نشر هذه القوانين هو العالِم
Achelis([42]) سنة 1891،
ثمَّ حقَّقها وأعاد نشرها العالِم
Coquin([43]) وتاريخ هذه
الوثيقة هو سنة 500م (ولكن أصلها يرجع إلى سنة 215م قبل وفاة هيبوليتس وهو كتاب
“التقليد الرسولي”). والنص الأصلي لهذه القوانين مكتوب باللغة اليونانية ولكنه
مفقود ولم تبقَ نسخة منه. والنص الوحيد الذي يعتمد عليه العلماء الذين نشروا هذه
القوانين (مثل:
Achelis ثمَّ Coquin) هو النسخة العربية. ويعتقدون
أنها لم تُترجم عن اليوناني رأساً بل عن نسخة قبطية متوسطة مفقودة. وسوف نرى هنا
أن طقس العماد في هذه القوانين يقوم على أساس التقليد الرسولي الذي كتبه هيبوليتس
ولكن بتغييرات طفيفة ليوافق احتياجات المكان والعصر الذي كُتبت فيه.

ونقدِّم
هنا القوانين الخاصة بالموعوظين والمعمودية بحسب ترقيم العالِم
Achelis:

النص:

+
[60- هؤلاء الذين يتردَّدون على الكنيسة بكثرة لكي يُقبلوا بين المسيحيين، يلزم أن
يُمتحنوا بكل عناية لمعرفة لماذا تركوا دينهم،
لئلاَّ يكونوا قد جاءوا لكي يستهزئوا
بنا.

61-
وإن أي إنسان أتى بإيمان صادق، ينبغي أن يُقبل بفرح ويُسأل عن وظيفته (عمله) ويُعلَّم بواسطة شماس، ويتعلَّم كيف يصنع جحداً في
الكنيسة للشيطان وكل
أعوانه.

62-
ويجب أن يُلاحَظ هذا كل وقت تعليمه قبل أن يدخل في عداد بقية الشعب.

68-
بعد أربعين يوماً يُسمح لهم أن يسمعوا المواعظ وإن كانوا مستحقين يُسمح لهم
بالعماد، ولكن يلزم أن معلِّمهم يرجع للكنيسة من أجل هذه الأمور.

69-90- قائمة بأنواع التجارات والمهن التي تتعارض مع قبول طلب المتقدِّم
(المرشَّح) لأن يُقبل كموعوظ.

91-
والموعوظ المستحق النور لا ينبغي أن نؤخِّره حتى يكمِّل الوقت المحدَّد. ومعلِّم
الكنيسة هو الذي يتصرَّف في هذه الأمور.

92-
وعندما يكمِّل المعلِّم دروسه اليومية ليتهم يصلُّون ولكن ليس مع المسيحيين.

93-
98- التعليمات الخاصة بالحوامل ومعاملة الإناث الموعوظات.

99-
ينبغي أن يضع المعلِّم يده على الموعوظين قبل أن يصرفهم.

101-
الموعوظ الذي قُبل واقتيد لكي يعطي شهادته ويكون قد قُتل قبل أن يعتمد ليته يُدفن
مع بقية الشهداء- لأنه يكون قد تعمَّد في دمه.

102-
يكون الموعوظ مؤهَّلاً لأن يتقدَّم للمعمودية إذا كان قد امتُدح بواسطة هؤلاء
الذين قدَّموه بشهادة حسنة، قائلين إنه في مدة تعليمه زار المرضى وساعد الضعيف
وحفظ نفسه من الكلام الملتوي، ويكون قد سبَّح الله بمدايح وقد كره المجد الباطل
واحتقر الكبرياء واختار التواضع لنفسه.

103-
وعليه أن يعترف للأسقف- لأن الأسقف وحده هو الذي يقوم بهذه المهمة- حتى أن الأسقف
يقبله ويعتبره مؤهَّلاً لأن يتقدَّم لينال الأسرار، إذ يكون قد صار طاهراً
بالحقيقة.

104-
وبعد ذلك يُقرأ عليه إنجيل الموسم ويُسأل عدة مرَّات: هل لك قلب منقسم؟ هل لازلت
مثقَّلاً بشيء من العار؟

105-
لأنه غير مسموح لأحد أن يستهزئ بملكوت السموات، لأنه حينما يأتي الملكوت ستُفرز
هذه الأمور من قلوب الناس.

106-
في اليوم الخامس من الأسبوع ليغتسل بالماء الذين سيُعمَّدون، وليأكلوا في هذا
اليوم. وفي اليوم السادس (الجميع) يصومون.

108-
وفي يوم السبت ليت الأسقف يجمع كل الذين سيعمَّدون ويقول لهم أن يتجهوا إلى الشرق
ويحنوا الركب، ثمَّ يفرد يديه ويُصلِّي حتى يطرد الأرواح الشريرة من كل أعضائهم.

109-
وليحذروا إن كان في شغلهم وأعمالهم أن تعود إليهم (تلك الأرواح).

110-
وبعد أن ينهي استحلافهم ليته ينفخ في وجوههم ويعطي علامة (يختم) على صدورهم
(القلب) وأحجبتهم (العين) وآذانهم وأفواههم.

111-
وليقضوا الليل كله ساهرين منهمكين في الصلوات المقدَّسة.

112-
وعند صياح الديك ليقفوا معاً بجوار الماء الجاري لنهر: النقي والمُعد والمقدَّس.

113-
وليت الذين يجيبون عن الأطفال الصغار يُخلِعونَهم ملابسهم، وأمَّا الأطفال
القادرين أن يفعلوا ذلك بأنفسهم فليفعلوا.

114-
وليت النساء يكون لهن نساء أخريات كمرافقات لهن ليخلعن ملابسهن.

115-
ليت النساء يخلعن كل الحلي والذهب ويفكُّون رباطات شعورهن حتى لا ينزلن بها في ماء
الولادة الثانية، ولا بأي شيء غريب تملك عليه الأرواح الغريبة.

116-
وليت الأسقف يصلِّي على زيت إخراج الأرواح الشريرة ويسلِّمه للكاهن.

117-
وبعد ذلك يصلِّي على دهن المسحة الذي هو زيت البهجة ويسلِّمه لكاهن آخر.

118-
والذي يحمل زيت إخراج الأرواح الشريرة في يده يقف على شمال الأسقف، والذي يحمل زيت
المسحة على يمينه.

119-
والذي سيعتمد يوجِّه وجهه نحو الغرب ويقول:
أجحدك أيها الشيطان وكل قواتك.

120-
وعندما يقول هذا يمسحه الكاهن بزيت إخراج الشياطين الذي سبق أن صلُّوا عليه حتى أن
كل روح شرير يغادره.

121-
وبعدها يُرسله بيد شماس إلى الكاهن والواقف بجوار الماء، وهذا الكاهن يمسك يده
اليمنى ويحوِّل وجهه نحو الشرق في الماء.

122-
وقبل أن ينزل الماء بوجهه الملتفت نحو الشرق يقف بجوار الماء ويقول، بعد أن يكون
قد مُسح بزيت إخراج الأرواح الشريرة: أومن
وأنحني لك ولكل قواتك أيها الآب والابن والروح
القدس.

123-
ثمَّ ينزل بعد ذلك إلى الماء ويضع الكاهن يده فوق رأسه ويسأله.

124-
هل تؤمن بالله الآب القادر على كل شيء؟

125-
يجيب الطالب المرشَّح نعم أومن، وبعدها يغطِّسه في الماء. ثمَّ يسحب الكاهن يده من
على رأسه ويسأله مرَّة أخرى:

126-
هل تؤمن بيسوع المسيح ابن الله الذي ولدته
مريم العذراء وحملت به بالروح القدس،

127-
الذي جاء ليخلِّص البشرية،

128-
الذي صُلب من أجلنا في عهد بيلاطس البنطي، الذي مات وقام من بين الأموات في اليوم الثالث وصعد إلى السموات وجلس عن يمين الله الآب،
والذي سيأتي ليدين الأحياء والأموات؟

129-
يجيب أومن، فيغطس ثانياً في الماء، ثمَّ يسأله الكاهن مرَّة ثالثة:

130-
هل تؤمن بالروح القدس،

131-
المعزِّي المنسكب علينا من عند الآب والابن؟

132-
يجيب: أومن. ثمَّ يُغطَّس في الماء للمرَّة الثالثة.

133-
وكل مرَّة يقول المعمِّد: أعمِّدك باسم الآب والابن والروح القدس (المساوي).

134-
عندما يخرج من الماء (يصعد) يأخذ الكاهن مسحة البهجة ويرشم جبهته (المخ) وفمه
(الكلام) وصدره (القلب) بعلامة الصليب، ويدهن كل جسمه ورأسه ووجهه قائلاً: أمسحك
باسم الآب والابن والروح القدس.

135-
حينئذ يُنشِّفه بفوطة وعندما يلبس يقوده إلى داخل الكنيسة.

136-
وهنا يضع الأسقف يده على كل مَنْ اعتمدوا ويقول هذه الصلاة:

137-
نحن نباركك أيها الرب الإله القادر على كل شيء لأنك جدَّدت هؤلاء وحسبتهم مستحقين
أن يولدوا ثانية، وسكبت عليهم روحك القدوس حتى أنهم الآن صاروا متحدين بجسد
الكنيسة ولن يفترقوا عنها بأي أعمال غريبة.

138-
أعط هؤلاء الذين أعطيتهم مغفرة الخطايا عربون الملكوت بسخاء بربنا يسوع المسيح،
الذي به لك معه ومع الروح القدس المجد إلى كل الدهور آمين.

139-
وبعد ذلك يرشم أجفنتهم بعلامة المحبة ويقبِّلهم قائلاً: “الرب معكم”.

140-
فيجيب المعمَّد: “ومع روحك أيضاً”. وإنه يفعل ذلك مع كل واحد من الذين اعتمدوا.]
([44])

8-
ترتليان:
Quintus Septimius
Forens Tertullianus

(155225م):

أبو
كنيسة شمال إفريقيا، ويقول عنه جيروم أنه أب كل الكتَّاب اللاتين. وُلِدَ وعاش في
قرطاج
Carthage وهو ابن قائد مائة في قنصلية في شمال أفريقيا. تعلَّم تعليماً
أكاديمياً كمحامٍ واعتنق المسيحية سنة 193م. وبحسب ق. جيروم فإنه صار كاهناً، وكان
ترتليان عضواً في الكنيسة بشمال أفريقيا، والتحق بالمونتانية (انحراف عقائدي) سنة
213م. وله مؤلَّفات ضخمة دفاعية ولاهوتية ونسكية يظهر منها اتساع درايته بالآداب
اللاتينية واليونانية. وهو أول من كتب عن الأسرار في ما قبل نيقية. وقد خصَّص
للمعمودية كتاباً كاملاً. ومعظم أقواله التي نقدِّمها هنا مأخوذة من الكتب التالية
التي كتبها عندما كان في الإيمان الكنسي العام (كاثوليكي):

1- De Baptismo, sources Chrétiennes, vol. 35.

2- De Spectaculis,
C.S.E.L., vol. 20
.

3- De Praescriptione
Haeraticorum, PL 2
.

4- De Resurrectione
Carnis, PL 2
.

+
[إن البصخة (الأسبوع قبل عيد القيامة) تقدِّم أعظم الفرص المهيبة للمعمودية.]
([45])

+
[الذين يتقدَّمون للمعمودية عليهم أن يصلُّوا بصلوات متواترة وأصوام وإحناء الركب
والسهر كل الليل والاعتراف بكل الخطايا السابقة.]
([46])

+
[والآن أضع أمام فكركم الإجراءات الخاصة بإعطاء وقبول المعمودية. أمَّا إعطاؤها
فهذا بالأساس من حق رئيس الكهنة، أي الأسقف إن كان موجوداً، وإلاَّ فالكهنة ثمَّ
الشمامسة، ولكن ليس بدون سلطان الأسقف ذلك لأجل كرامة الكنيسة، لأنه حيثما حفظ هذا
النظام وُجِدَ السلام. وبالإضافة لذلك فإن العلمانيين أيضاً لهم الحق أن يعمّدوا
(في حالة الضرورة) لأن الذي استُلم بالتساوي يمكن أيضاً أن يُعطى بالتساوي.]
([47])

+
[ومع أخذ في الاعتبار ظروف كل شخص واستعداداته بل وعمره أيضاً، يكون التأخير في
المعمودية مفضّلاً. وبالدرجة الأُولى من حيث الأطفال الصغار، لأنه ما الحاجة أن
نعرض الأشبين للخطر إلاَّ إذا كانت هناك حاجة عاجلة تحتِّم ذلك.]
([48])

+
[إذن فبعد أن يكون الماء قد تقبَّل القوة الشافية بتدخُّل الملاك، فإن الروح تغتسل
بالماء والجسد يتطهَّر روحياً أيضاً في الماء.]
([49])

+
[وعندما نكون قد دخلنا الماء نعترف بالإيمان المسيحي بالكلمات الخاصة بالقانون
(قانون الإيمان). فنحن نقدِّم الشهادة العامة أننا قد جحدنا الشيطان وخدَّامه
وأعماله.]
([50])

+
[وعندما نخرج من جرن المعمودية ندهن كليًّا بالمسحة المقدَّسة بحسب القديم، إذ منذ
أن مُسح هارون بواسطة موسى، صار الكهنة يُمسحون للكهنوت بقرن الدهن. وبمقتضى
المسحة فإنكم تُدعون “مسحاء” أي مسيحيين.]
([51])

+
[وفي الخطوة الثانية توضع اليد للتقديس واستدعاء الروح القدس]
([52]). وهكذا فإن
اليد التي تدعو الروح القدس تكوِّن مع الماء- بحسب تصوُّر ترتليان- شبه آلة
موسيقية تستدعي الروح القدس.

+
[وعندما نكون ذاهبين لندخل الماء أو قبلها قليلاً في محضر الجماعة وتحت يد الأسقف،
نحن نعترف علانيةً أننا نجحد الشيطان وكل قواته وملائكته. عندئذ نُغطّس ثلاث
مرَّات مجاوبين الأشياء التي أمر بها الرب في الإنجيل “الاعتراف بالمسيح (مت 32:
10)”، وبعد ذلك عندما نقوم كأولاد مولودين جديداً نذوق جزءاً من اللبن الممزوج
بالعسل، ومن ذلك اليوم نمتنع عن الحمام اليومي إلى أسبوع كامل.]
([53])

+
[الآن الجسد يغتسل حتى تتطهَّر الروح. ويُمسح الجسد حتى تتكرَّس الروح، ويُعطى ختم
على الجسد حتى تتقوَّى الروح. والجسد قَبِلَ وضع اليد حتى تستنير النفس بالروح،
والجسد يُطعم بجسد ودم المسيح حتى تدسم النفس بالله.]
([54])

+
[هذا الكتاب يشرح سر العماد بالماء الذي يغسل خطايانا التي عملناها في عمي جهلنا
المبكِّر، وها المعمودية أطلقتنا أحراراً وقبلنا الدخول إلى الحياة الأبدية..

نحن
السمكات الصغيرة التي تولد في الماء على شبه ربنا يسوع المسيح السمكة الفائقة (
Icquj)، لا يكون لنا خلاص إلاَّ بالتمسُّك بالماء- وأمَّا التنين عدونا،
فلم يجد وسيلة ناجحة لقتل هذه السمكات الصغيرة إلاَّ بإخراجهم خارج الماء.]
([55])

+
[إن روح الله الذي كان يرف على وجه المياه فهو لا يزال يرف على ماء المعمودية،
ولكن لا يرف المقدِّس إلاَّ على المقدَّس أو الذي يقدِّسه. وهكذا يصير ماء
المعمودية مقدَّساً.. فبعدما يُستدعى الله بالصلاة تصير المياه ذات قوة سرائرية
للتقديس، لأن الروح ينحدر في الحال من السماء ويستقر على الماء ويقدِّسها من ذاته
فتصير مقدَّسة وحاملة لقوة التقديس، فلأننا تنجَّسنا بخطايانا كالوسخ فإنها تغتسل
بالماء المقدَّس. ولكن الخطايا لا تظهر على الجسد بل تدنِّس النفس، لأن النفس هي
صانعة الخطية والنفس للجسد كالسيد للعبد ولكنهما مشتركان معاً في الذنب، النفس
لأنها هي التي تآمرت والجسد لأنه خضع وخدم الخطية. لذلك فبعدما تتزوَّد مياه
المعمودية بقوة الموهبة الشافية (الطبية) يتوسَّط الملاك فتغسل النفس جسدياً
ويغتسل الجسد نفسياً.]
([56])

+
[ونحن تحت الماء نتطهَّر بحضور الملاك وهكذا نتهيَّأ للروح القدس. هذا أيضاً له
مثال سابق، فيوحنا المعمدان كان هو الملاك السابق للرب يعد له الطريق، هكذا أيضاً
الملاك الشاهد للمعمودية يجعل الطريق مستقيماً أمام الروح القدس المزمع أن يحل
علينا عند تطهير خطايانا ويختمنا بالإيمان باسم الآب والابن والروح القدس. لأن من
فم ثلاثة شهود تقوم كل كلمة
(مت 16: 18). حيث في بركة سر المعمودية يكون
هؤلاء الثلاثة شهوداً لإيماننا ويكونون مثل موثّقين لخلاصنا. وهذا كاف جداً
لرجائنا وبالأكثر بعد ضمان إثبات إيماننا وإعطاء وعد خلاصنا أمام هؤلاء الشهود
الثلاثة: الآب والابن والروح القدس. ويلزم أيضاً ذكر الكنيسة لأنه حيث يكون هؤلاء
الثلاثة تكون الكنيسة.]
([57])

+
[وبعد أن نصعد من جرن المعمودية ندهن دهناً كاملاً بالمسحة المقدَّسة، وهذا
الترتيب الطقسي قديم حينما كان يُمسح طالب الكهنوت بدهن القرن كما مُسح هارون
أيضاً بواسطة موسى. ولذلك دُعي يسوع مسيح الرب لأنه مُسح بالروح بواسطة الله الآب،
كما كُتب في سفر الأعمال: ” لأنه بالحقيقة اجتمع على فتاك القدوس يسوع الذي
مسحته”
(أع 27: 4). هكذا أيضاً في ما يختص بنا، فإن المسحة تتم
جسدياً ولكنها تثمر روحياً كالمعمودية نفسها، لأنها تُجرى جسدياً عندما نُغطَّى في
الماء بالجسد ولكن ثمرها روحي إذ نخلص من خطايانا.]
([58])

+
[وبعد المسحة توضع اليد على المعمَّد بصلاة ودعاء الروح القدس.. لأنه ليس عسيراً
على الله أن يستخدم يد الإنسان وهو أصلاً صنعة يديه..

لأنه
فوق أجسادنا التي اغتسلت من الخطية وتقدَّست يُرسل الأب روحه القدوس.. وقد نزل على
الرب يسوع بشبه حمامة. وكذلك في الفلك.. وهكذا على أجسادنا حينما نخرج من جرن المعمودية بعد ترك خطايانا
القديمة تنحدر حمامة الروح
القدس.]
([59])

تحذير
عام:

يقول
ترتليان في مطلع كتابه عن “المشاهد العامة”، وفيه يخاطب الموعوظين
المتقدِّمين للمعمودية، ولكنه يقصد من ورائهم أن يحذِّر كافة المسيحيين:

+
[يا عبيد الله المزمعين أن يتقرَّبوا إلى الله ويعلنوا انضمامهم له، اهتموا جدًّا
وتفهَّموا شروط الإيمان ومطالب الحق وقواعد السلوك المسيحي القويم التي تحرِّم
الخطايا ومعها الملاهي العامة، وأنتم الذين تقرون أنكم أكملتم اعترافكم بالإيمان
في ما سبق، أعيدوا النظر في الموضوع لئلاَّ تخطئوا سواء عن جهل مقصود أو غير
مقصود، لأن سلطان المسرَّات الأرضية خطرها أنها تحتفظ لنفسها بفرصة الحث على مداومة
الاشتراك فيها، وتتحايل على الإرادة في الاستمرار في الجهل وترشي المعرفة لتلعب
دور الخائن.]
([60])

9-
تعاليم الرسل “الدسقولية” (القرن الثالث):

وثيقة
مجهولة الهوية، أصلها اليوناني مفقود وتاريخ تدوينها سنة 250م في شمال سوريا،
ووصلتنا في ترجمة سريانية والنسخة العربية مترجمة عن السريانية، والدسقولية عموماً
مرتَّبة على الديداخي وتُعتبر المصدر الأساسي الذي أخذت منه الكتب الستة
الأُولى من المراسيم الرسولية
([61]).

والنص
الذي نقدِّمه هنا مأخوذ من النسخة العربية([62]):

+
[نحن الاثني عشر رسولاً الذين لهذا الوحيد الواحد الابن الذي لله الآب ضابط الكل
ربنا ومخلِّصنا يسوع المسيح. لمَّا اجتمعنا
معاً في أُورشليم مدينة الملك العظيم ومعنا أخونا بولس
الإناء المختار ورسول الأُمم ويعقوب أخ الرب أسقف
هذه المدينة أُورشليم قرَّرنا هذه التعاليم
الجامعة:

الفصل
الثالث عشر:

1-
لا يجوز للنساء أن يُعمِّدن.

2-
إن كان” رأس المرأة هو الرجل” وهو الذي دُعي للكهنوت، فلا يليق أن يُرفض
نظام الخليقة.

الفصل
السادس والثلاثون:

10-
ولأجل المعمودية أيها الأسقف أو القسيس فقد أمرناكم من البدء ونقول لكم أيضاً هكذا
تُعمِّد مثل وصية الرب لكم أن” اذهبوا وعلِّموا جميع الأُمم وعمِّدوهم باسم
الآب والابن والروح القدس وعلِّموهم حفظ كل شيء أوصيتكم به”- أعني الآب الذي
أرسل المسيح الذي جاء والبارقليط الذي شهد.

11-
فأمَّا الذي يعتمد فتدهنه أولاً بدهن مقدَّس وبعده بماء وفي الآخر تختمه بالميرون
لكي تكون بالمسحة مشاركة للروح القدس- والماء علامة الموت- والميرون ختم الترتيبات
التي قُرِّرت.

12-
فإن لم يوجد دهن أو ميرون فالماء يكفي للمسحة والختم والاعتراف للذي مات أو بالحري
صار شريكاً لموت الرب.

13-
وقبل المعمودية فليصم الذي يعتمد لأن الرب لمَّا اعتمد من يوحنا في البرية وصام
أربعين يوماً وأربعين ليلة، أي اعتمد وصام- ليس أنه هو محتاج إلى الغسل ولا الصوم
ولا التطهير فهو الطاهر والقدوس في طبيعته،
ولكن (عمَّده يوحنا) لكي يشهد يوحنا للحق وليعطينا أن نتبع
سبله.

15-
لأجل هذا فإنه بعد المعمودية صام بسلطانه لأنه رب يوحنا.

16-
فأمَّا الذي يعتمد لموت الرب فإنه يجب عليه أن يصوم أولاً وحينئذ يعتمد، فليس يحق للذي صار شريكاً لدفن المسيح وصار مصاحباً لقيامته
معه أن يُعبِّس لوقته بمجرَّد
قيامته].

10-
أوريجانوس: سنة 185254م:

رئيس
مدرسة الإسكندرية بعد كليمندس. وحينما طرد من مصر أقام في قيصرية عشرين سنة.

يؤكِّد
أن المعمودية هي ختم الإيمان والتوبة وجحد الشيطان([63]).
وهو يهتم بالأثر الداخلي للمعمودية من جهة الأخلاق وبالمعاني التي يشير إليها
الطقس. وهو يركِّز على التوبة الصادقة مع الإيمان والاتضاع في المبتدئين الموعوظين
كضرورة لقبول مغفرة خطاياهم وعطية الروح القدس الذي
ينالونه بالمعمودية([64]).
وأوريجانوس يستشهد بما جاء في
(1كو 10: 14) ليؤكِّد أن
المعمودية بالغمر أو الغطس ليصعد منها المعمَّد إنساناً جديداً باستعداد أن ينشد
أنشودة جديدة
([65]).
“وهؤلاء الذين يولدون ثانية من المعمودية الإلهية يوضعون في الفردوس أي الكنيسة
ليعملوا أعمالاً روحانية ويأخذون وصية أن يحبوا إخوتهم.”
([66])

وأوريجانوس
يشبِّه المعمودية بعبور يشوع نهر الأُردن
(يش 3 كله)، ويكرِّر
عقيدة المعمودية في العهد الجديد أن المؤمن يتحد بواسطة المعمودية بالمسيح في
موته ودفنه وقيامته
([67])،
ويولد ثانية ويصير عضواً في الكنيسة.

وأوريجانوس
يربط عطية الروح القدس بالمعمودية بالماء،
ويقول شارحاً قول بولس
الرسول عن الروح القدس إنه عربون، أنه يؤخذ بالإيمان بقبول الإنجيل عن الخلاص([68]).
ويصف أوريجانوس معمودية الأطفال بأنها عادة رسولية([69])،
ويؤكِّد أن معمودية الأطفال هي لمغفرة الخطية الأصلية الموروثة من آدم ويستشهد في
ذلك بالمزمور
(5: 51): ” بالخطايا ولدتني أُمي.”([70])

11-
القديس كبريانوس (سنة 258م):

أسقف
قرطاجنة. وهو معاصر لأوريجانوس.

يُعلِّم
بوجوب عماد الأطفال بسرعة على قدر الإمكان لأن هذا يوفِّر لهم مغفرة الخطية
الأصلية الوصمة الموروثة بالتناسل من آدم
([71]). ويرى أن
المعمودية هي التي تصوّرها الختانة عند اليهود
([72]). كما
يُعلِّم أن المعمودية تُعطي التجديد لأنها الواسطة التي بها يُعطَى الروح القدس
([73]) حتى على الأطفال
بقدر طاقتهم
([74]).
والمعمودية عند كبريانوس هي بالتغطيس ويجيز الرش عند المرض، حيث يحل الروح القدس
مثل العماد بالتغطيس وليس هناك فرق
([75]).

ويؤكِّد
أنه لا معمودية بدون الروح القدس، وأن الماء وحده غير قادر أن يغسل الخطايا أو
يقدِّس الإنسان
([76]). ويؤكِّد
أن وضع اليد له القوة لإعطاء الروح القدس
([77]). بل ويعتقد
أن المعمودية وسر التثبيت هما طقس واحد وصلاة واحدة لإعطاء موهبة الروح القدس
([78]).

12-
القديس سيرابيون
Serapion (سنة 356م):

أسقف
تمي الأمديد رُسم سنة 339م. كان صديقاً للقديس أثناسيوس، وكان قبل الأسقفية راهباً
ورفيق القديس أنطونيوس الذي أورثه واحدة من فَرْوَتَي الخروف اللتين كان يدَّثر
بهما وكان عنده اثنان، والأخرى وهبها القديس أنطونيوس للقديس أثناسيوس. وقد أرسل
ق. سيرابيون رسالة إلى تلاميذ أنطونيوس سنة 356م (بمناسبة وفاة أنبا أنطونيوس) وقد
خلّف كتاباً ضمن صلوات الكنيسة في مختلف المناسبات عُرف باسم
Sacramentary أو Euchologion سيرابيون وهو من تأليفه. وعيد نياحته يوم 21 مارس.

والوثيقة
التي بين أيدينا أي “خولاجي
Euchologion
سيرابيون” تحوي ضمن صلوات أخرى كثيرة صلوات سر المعمودية. وتاريخها سنة 350م
وهي مترجمة
للإنجليزية عن النص اليوناني([79]):

(صلاة
7) صلاة من أجل تقديس المياه:

+
[يا ملك ورب كل شيء صانع المسكونة، الذي أعطى الخلاص مجَّاناً لكل الطبيعة
المخلوقة بواسطة نزول ابنك الوحيد يسوع المسيح. أنت الذي فديت الخليقة التي خُلقت
بمجيء الكلمة. الآن من السماء انظر إلى هذه المياه واملأها بالروح القدس. ليت
كلمتك الفائق يأتي فيها ويحوِّل طاقتها ويجعلها ولودة بملئها بنعمتك، لكي لا يكون
السر الذي نقيمه باطلاً في هؤلاء الذين سيولدون منه ثانية- ولكن ليتك تملأ كل
هؤلاء الذين ينزلون ويعتمدون بالنعمة الإلهية. أيها المحسن المحبوب أبق على صنعة
يديك وخلِّص المخلوق الذي صنعته يمينك. وكل هؤلاء الذين يولدون ثانية غيِّر شكلهم
إلى شكلك الإلهي غير المنطوق، حتى أنهم بعد أن يتشكَّلوا بك ويولدوا ثانية يقبلوا
الخلاص ويُحسبوا أهلاً لملكوتك. وكما أن ابنك الوحيد الكلمة لمَّا نزل في مياه
الأُردن جعلها مياهاً مقدَّسة، هكذا أيضاً الآن ليته ينزل على هؤلاء ويقدِّسهم
ويجعلهم روحانيين إلى النهاية. حتى أن الذين يعتمدون لا يكونوا بعد لحماً ودماً
ولكن روحانيين قادرين أن يعبدوك أيها الآب غير المخلوق بابنك يسوع المسيح وفي
الروح القدس، الذي به لك المجد والقوة الآن وإلى دهر الدهور. آمين.]

(صلاة
8) صلاة من أجل الذين اعتمدوا:

+
[نحن نتوسَّل إليك يا إله الحق، من أجل عبدك هذا ونصلِّي حتى تحسبه مستحقاً للسر
الإلهي من أجل الولادة الثانية الفائقة الوصف. لأن لك يا محب البشر نقدِّم هذا لك
إذ نحن نكرِّسه لك. امنحه أن يكون شريكاً لهذا الميلاد الجديد السماوي إلى
النهاية، حتى لا يساق في ما بعد بأي أمر شرير أو رديء. ولكن ليخدمك باستمرار ويحفظ
وصاياك. وأيضاً ليت ابنك الوحيد الكلمة يقوده. لأنه به لك المجد والقوة في الروح
القدس الآن وكل أوان وإلى كل الدهور. آمين.]

(صلاة
10) صلاة بعد الاستقبال:

+
[يا محب البشر مخلِّص كل الذين لجأوا إليك للإغاثة، كن منعماً على عبدك هذا،
قُدْهُ إلى الميلاد الثاني بيمينك. وليت ابنك الوحيد الكلمة يقوده إلى الغسل.
واجعل ميلاده الثاني مكرَّماً بموافقتك ولا تجعله فارغاً من نعمتك. وليت كلمتك
المقدَّسة ترافقه. وليت روحك القدوس يكون معه طارداً بعيداً عنه كل تجربة. لأنه
بابنك الوحيد يسوع المسيح لك المجد والقوة الآن وإلى كل الدهور. آمين.]

(صلاة
11) صلاة بعد أن اعتمد وخرج:

+
[يا الله إله الحق صانع كل شيء رب كل خليقة. بارك عبدك هذا ببركتك، واجعله طاهراً
في الميلاد الجديد. واجعل له أُلفة مع قواتك الملائكية حتى لا يُدعى في ما بعد
جسدانياً بل روحانياً باشتراكه في عطيتك الإلهية النافعة. ليته يُحفظ إلى النهاية
لك، لك أنت يا صانع المسكونة بابنك الوحيد يسوع المسيح الذي به لك المجد والقوة
الآن وإلى كل الدهور. آمين.]

(صلاة
15) صلاة سيرابيون أسقف تميّ من أجل مسحة الزيت للذين يعتمدون:

+
[يا سيدي محب البشر ومحب النفوس
(حكمة 26: 11) العطوف والمشفق. يا
إله الحق نحن ندعوك تبعاً وطاعة لوصاياك التي لابنك الوحيد القائل مَنْ غفرتم
خطاياه تُغفر له
(يو 23: 20)، ونحن نمسح بمسحة الزيت هذه أُولئك
المتقدِّمين لهذا الميلاد الجديد الإلهي، متوسِّلين إليك أن يعمل فيهم ربنا يسوع
المسيح للشفاء ولقوة تمنحهم العافية، ولكي يستعلن لهم نفسه بمسحة هذا الزيت ليعافي
نفوسهم وأجسادهم وأرواحهم من كل أثر للخطية والأخطاء الشيطانية المنحطة، وبنعمته
يوفِّر لهم الغفران حتى يموتوا عن الخطية فيعيشوا للبر
(1بط 24: 2)،
ويُخلقوا من جديد بهذه المسحة. ويتطهَّروا بهذا الغسل ويتجدَّدوا بالروح
(أف
23: 4) ليكونوا قادرين من الآن فصاعداً أن ينالوا النصرة ضد كل القوى المضادة
والغش الذي لهذا العالم، الذي يطغي عليهم حتى يرتبطوا ويتحدوا مع الرعية التي
لربنا ومخلِّصنا يسوع المسيح، لأن به لك المجد والقوة في الروح القدس الآن وإلى كل
الدهور. آمين.]

(صلاة
16) صلاة من أجل المسحة التي بها يمسح الذين اعتمدوا:

+
[يا إله القوات معين كل نفس تلتجيء إليك وتأتي تحت يد ابنك الوحيد القوية، ندعوك
أن تعمل في هذه المسحة بطاقة إلهية سماوية بالقوة الإلهية غير المنظورة التي لربنا
ومخلِّصنا يسوع المسيح، من أجل أن الذين اعتمدوا يمسحون بها بعلامة الختم التي
للصليب المقدَّس الذي لابنك الوحيد، ذلك الصليب الذي يهرب وينهزم أمامه الشيطان
وكل قوة مضادة. حتى أن هؤلاء الذين ولدوا ثانيةً وتجدَّدوا بغسل الميلاد الثاني
(تي 5: 3)
يصيروا شركاء عطية الروح القدس مصونين بهذا الختم، ويستمروا راسخين غير متزعزعين
(1كو
58: 15)، غير مصابين ولا مطغي عليهم، خالين من كل معاملة بالعنف أو المكيدة، في
صدق الإيمان وملء معرفة الحق، منتظرين حتى النهاية الرجاء السماوي لوعود الحياة
الأبدية التي لربنا ومخلِّصنا يسوع المسيح، الذي به لك المجد والقوة الآن وإلى كل
الدهور. آمين.]

13-
المراسيم الرسولية
The
Apostolic Constitutions

(سنة 375م):

النص:
النص اليوناني الأصلي نشره العالِم
Funk:

F.X. Funk, Didascalia
et Constitutiones Apostolorum,
Paderborn, 1905.

وقد
نُشرت ترجمته الإنجليزية في مجموعة
A.N.F. آباء ما قبل نيقية.

وتاريخ
هذا النص المجهول الهوية هو حوالي سنة 375م وهو منسوب لفئة المكتوبات المعروفة
باسم الأنظمة الكنسية
Church
Orders
. ويُلاحَظ أن طقس
المعمودية في الكتاب الثالث ابتداءً من الفصل السادس عشر هو قائم على أساس
الدسقولية
Didascalia، والكتاب السابع فصل (22) على
الديداخي، في حين أن الكتاب
السابع فصل
(39) وما بعده ليس له علاقة بالمكتوبات
الأخرى.

الكتاب
الثالث
([80]):

الفصل
السادس عشر:

+
[2- نحن نحتاج إلى امرأة شماسة لأمور هامة كثيرة وأولها في معمودية النساء، فالشمَّاس
الرجل يمسح فقط جباههن بالزيت المقدَّس، وبعد ذلك فعلى الشمَّاسة أن تمسحهنَّ لأنه
ليس هناك حاجة أن تظهر المرأة وتُنظر عند الرجال.

3-
ولكن في وضع يد الأسقف، عليه أن يمسح رأسها فقط كما كان يُمسح الكهنة والملوك
سابقاً. ليس لأن هؤلاء الذين يعتمدون يُرسمون كهنة ولكنهم كمسيحيين يُمسحون من
المسيح الممسوح: فهم” كهنوت ملوكي وأُمَّة مقدَّسة”
(1بط 9: 2)
ولكنهم الآن محبوبون ومختارون.

4-
وأنت يا أسقف بحسب هذا المثال تمسح رأس الذين سيعتمدون، سواء رجال أو نساء بالزيت
المقدَّس لأجل مثال المعمودية الروحية. بعد ذلك سواء أنت يا أسقف أو الكاهن الذي
تحت تدبيرك تدعو باسم الآب والابن والروح القدس وتُعمِّدهم في الماء، واجعل
شمَّاساً يستقبل الرجال وشمَّاسة تستقبل النسوة، وهكذا يتم إعطاء الختم بالحشمة
اللائقة به. وبعد ذلك على الأسقف أن يمسح بالميرون أُولئك الذين اعتمدوا].

الفصل
السابع عشر:

+
[1- هذا العماد يُعطى لموت يسوع
(رو 8: 6)، فالماء بدل الدفن، والزيت
يشير إلى الروح القدس، والختم عوض الصليب، والمسحة هي لتثبيت الاعتراف.

2-
ويُذكر الآب بصفته معطي المعمودية، ويُذكر الروح القدس بصفته الشاهد عليها.

3-
والنزول في الماء هو الموت مع المسيح، والخروج من الماء هو القيامة مرَّة أخرى
معه.

4- الآب هو الله فوق الجميع، والمسيح هو الله الابن الوحيد
الابن المحبوب رب المجد، والروح القدس هو المعزِّي الذي
أرسله المسيح ويعلِّمنا بواسطته، وهو الذي يشهد للمسيح].

الفصل
الثامن عشر:

+
[يجب على الذي تعمَّد أن يكون خالياً حرًّا من كل شر، وأن يكون إنساناً قد كفَّ عن
أن يعمل خطية وصار صديقاً لله وعدواً لإبليس، وارثاً لله الآب، ووريثاً شريكاً مع
ابنه
(رو
17: 8)، إنساناً قد جحد الشيطان وكل أعوانه وغشّه- طاهراً، نقياً، قدِّيساً،
محبوباً من الله بل وابناً لله، ويصلِّي كابن نحو أبيه قائلاً كبقية جماعة
المؤمنين: أبانا الذي.. إلخ].

الكتاب
السابع:

الفصل
الثاني والعشرون:

+
[1- في ما يختص بالمعمودية يا أسقف أو الكاهن قد سبق أن أعطينا توجيهاً، ونحن نقول
الآن عليك أن تعمِّد كما أمر الرب قائلاً:
” اذهبوا وتلمذوا جميع الأُمم وعمِّدوهم باسم
الآب والابن والروح القدس،
وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به”
(مت 19: 28و20)،
وذلك عن الآب الذي أرسل وعن المسيح الذي جاء وعن المعزِّي الذي يشهد.

2-
ولكن عليك أن تمسح أولاً الشخص بالزيت المقدَّس، وبعده تُعمِّده بالماء، وأخيراً
تختمه بالميرون، حتى أن المسحة بالزيت تصير له مشاركة في الروح القدس، والماء
رمزاً للموت والميرون ختماً للعهد.

3-
ولكن إذا لم يكن لا زيت ولا ميرون فالماء يكون كافياً للمسحة والختم، وأخذ اعتراف
الذي يشرف على الموت وهو في الحقيقة يموت مع المسيح.

4-
ولكن قبل المعمودية اجعل الذي يعتمد يصوم].

الفصل
التاسع والثلاثون:

+
[2- واجعل الذي يتعلَّم معرفة التقوى أن يتثقَّف قبل معموديته، ذلك في معرفة الله
غير المولود وإدراك ابنه الوحيد ويقين الروح القدس، واجعله يتعلَّم نظام كل أجزاء
الخليقة.

4-
ليت الذي يقدِّم نفسه ليعتمد، يتعلَّم هذه الأمور وما يشابهها أثناء تدريسه ليعبد
الله رب كل العالم ويشكره من أجل خليقته، وإرساله ابنه الوحيد المسيح ليخلِّص
الإنسان وليمحو تعدياته.

5-
وبعد تقديم الشكر ليته يتعلَّم العقائد في ما يخص تجسُّد الرب وبخصوص آلامه
وقيامته من الأموات وصعوده].

الفصل
الأربعون:

+
[وعندما لا يتبقَّى أمام الموعوظ شيء يمنعه من أن يعتمد، اجعله يتعلَّم ما يخص جحد
الشيطان والالتصاق بالمسيح، لأنه لائق أن
يمتنع أولاً عن الأشياء المخالفة ثمَّ بعد ذلك يُسمح له
بالأسرار].

الفصل
الواحد والأربعون:

+
[1- واجعل المتقدِّم للمعمودية يُعلن ما يلي في جحده للشيطان:

2-
“أنا أجحد الشيطان وكل أعماله وكل قواته وخدمته، وملائكته واختراعاته وكل ما هو
تحت سلطانه”.

3-
وبعد الجحد اجعله يقرِّر التصاقه بالرب بقوله هكذا: “وأنا ألتصق بالمسيح”،

4-
وأومن أني أعتمد في الواحد الوحيد فقط الله الحقيقي والقادر على كل شيء، أبي يسوع
المسيح خالق وصانع كل شيء والذي منه كل شيء
(1كو 6: 8).

5-
وفي الرب يسوع ابنه الوحيد بكر كل خليقة
(كو 15: 1)،
المولود قبل الدهور بمسرَّة أبيه الصالح، غير المخلوق، الذي به كل شيء
(1كو 6:
8) صُنع سواء في السموات أو على الأرض، ما يُرى وما لا يُرى.

6-
الذي في الأيام الأخيرة نزل من السماء وتجسَّد ووُلِدَ من العذراء القديسة مريم،
وسلك سلوكاً مقدَّساً بحسب قوانين الله الآب، وصُلب على عهد بيلاطس البنطي ومات من
أجلنا وقام من بين الأموات في اليوم الثالث بعد أن تألَّم، وصعد إلى السموات وجلس
عن يمين الآب وسيأتي أيضاً في نهاية العالم بمجده ليدين الأحياء والأموات
(2تي 1: 4)
الذي ليس لملكه انقضاء
(لو 33: 1).

7-
وأنا أعتمد في الروح القدس الذي هو المعزِّي الذي عمل في كل القديسين منذ بدء
العالم. ولكنه بعد ذلك أُرسل للرسل من الآب حسب وعد مخلِّصنا وربنا يسوع المسيح-
وبعد الرسل يعمل في كل الذين يؤمنون بالكنيسة الجامعة المقدَّسة،

8-
وبقيامة الأجساد ومغفرة الخطايا وملكوت السموات وحياة الدهر الآتي].

الفصل
الثاني والأربعون:

+
[1- وبعد هذا النذر يأتي ليُمسح بالزيت.

2-
هذا الزيت يُبارَك بواسطة الكاهن من أجل مغفرة الخطايا وأول إعداد للمعمودية

3-
لأنه يدعو عليه باسم الله غير المولود أبي يسوع المسيح ملك كافة الطبيعة ذات
الإحساس وذات الفهم، لكي يقدِّس الزيت باسم الرب يسوع المسيح
(أع 16: 8)
ويمنحه النعمة الروحانية والقوة العاملة ومغفرة الخطايا والاستعداد للاعتراف
بالمعمودية، حتى أن المرشَّح (أو التلميذ) عندما يُمسح يُحرَّر من كل عدم تقوى
ويصبح مستحقاً للانضمام حسب أمر الابن الوحيد].

الفصل
الثالث والأربعون:

+
[1- بعد ذلك يأتي إلى الماء

2-
يُبارك ويُعظم الرب الإله الضابط الكل أبا الابن الوحيد الإله. ويعود الكاهن
ويُقدِّم التشكّرات لأنه أرسل ابنه ليصير إنساناً، ذلك من أجلنا حتى يخلِّصنا،
لأنه سمح أن يصير طائعاً في كل شيء لكل قوانين التجسُّد، ويعظ عن ملكوت السموات،
ومغفرة الخطايا، وقيامة الأموات.

3-
وأيضاً يعبد الابن الوحيد الذي هو نفسه الله كما الآب أيضاً، ويقدِّم له التشكرات
لأنه تعهَّد أن يموت من أجل البشر على الصليب الذي على مثاله رسم أن تكون معمودية
الميلاد الثاني.

4-
ويعظِّمه أيضاً لأنه الله الذي هو سيد العالم كله في اسم المسيح وبالروح القدس لم
يرذل البشر، ولكنه وفق عنايته لتناسب كل الحقبات، فأولاً أعطى لآدم الفردوس للسكنى بمسرَّة، وبعدها أعطى أمراً من أجل عنايته،
وطرد بالعدل الإنسان العاصي
(..)

5-
ويدعوه الكاهن في المعمودية ويقول: “انظر من السماء وقدِّس هذا الماء واجعل فيه
نعمة وقوة حتى أن الذي يعتمد بحسب أمر مسيحك، يُصلب معه ويموت معه ويُدفن معه
ويقوم معه للتبني الذي فيه، حتى يكون ميتاً للخطية وحيًّا للبر”].

الفصل
الرابع والأربعون:

+
[1- وبعد ذلك بعد أن يكون قد عمَّده في اسم الآب والابن والروح القدس يمسحه بمسحة
(الميرون) ويقول:

2-
أيها الرب الإله الذي بلا ميلاد، وبلا من هو أعلى منك، رب كل العالم، الذي نثر
الرائحة العطرة التي لمعرفة الإنجيل بين كل الأُمم، امنح الآن أن تكون هذه المسحة
ذات فاعلية على الذي تعمَّد، حتى تكون الرائحة الزكية التي لمسيحك تدوم عليه ثابتة
وملتحمة ويكون الآن قد مات معه حتى يقوم ويحيا معه.

3-
ويقول هذا وما هو مثله لأن هذا هو تأثير وضع اليد على كل واحد، لأنه إن لم تكن
تُصنع هذه التلاوة بواسطة قسيس تقي على كل واحد من هؤلاء المرشَّحين للمعمودية،
فإنهم ينزلون فقط في الماء كما كان يصنع اليهود، وهم يطرحون فقط نجاسة الجسد وليس
نجاسة النفس].

الفصل
الخامس والأربعون:

+ [1- بعد هذا يقف ويصلِّي الصلاة التي علَّمها الرب لنا..
وليته الذي كان ميتاً مع المسيح وأُقيم معه يقف.

2-
وليته يُصلِّي نحو الشرق..

3-
وليته يصلِّي هكذا بعد تتميم الصلوات السابقة ويقول: يا الله الآب الضابط الكل أبا
مسيحك ابنك الوحيد، أعطني جسداً غير نجس وقلباً نقياً وعقلاً صاحياً ومعرفة بلا
خطأ، وأعطني حلول الروح القدس من أجل الحصول على الحق ويقينه في مسيحك، الذي به لك
المجد في الروح القدس إلى الأبد. آمين.

4-
ونحن رأينا أنه من اللائق والمناسب أن نقرِّر هذه المراسيم
Constitutions التي تخص الموعوظين].

14-
القديس باسيليوس أسقف قيصرية (سنة 379م):

ويُدعى
باسيليوس الكبير وعاش من سنة 330379 وهو أحد الكبادوكيين الثلاثة
الكبار، ويُؤكِّد أن تعليم الموعوظ يلزم أن يسبق المعمودية، وأن الموعوظ يلزم
أن يصمِّم على السلوك في حياة صالحة
([81])،
والمسيحيُّون يخلصون بالإيمان بالنعمة التي قبلوها في المعمودية باسم الثالوث
([82])،
والإيمان والمعمودية هما الطريقان للخلاص، هما متصلان بعضهما ببعض ولا يمكن فصلهما
عن بعض
([83]).
ويشدِّد على العماد بالتغطيس لأنه المثيل لموت المسيح ودفنه وقيامته، وهو ينتقد
بشدَّة عادة الشرق في تأخير العماد إلى سن متقدِّمة
([84]).
وهو يقرن المعمودية بإعطاء موهبة الروح القدس وفعله
([85]).
فوجود الروح القدس وإقامته داخل النفس تبدأ حينما يقبل المعمَّد التجديد في
المعمودية
([86]).

15-
تيموثاوس أسقف الإسكندرية (سنة 381م):

يوجد
كتابان فيهما أسئلة وأجوبة بخصوص الرعاية والليتورجية منسوبان إلى تيموثاوس أسقف
الإسكندرية. وقد قام بنشرهما باللغة اليونانية العالِم
Pitra:

Pitra, Iuris
Ecclesiastici Graecorum Historia et Monumenta,
Rome,
1864
.

ويُحتمل
أن الكتاب الثاني نُسب خطأ لتيموثاوس وأنه كُتب في القرن الخامس.

الكتاب
الأول:

سؤال 6:

إن كانت امرأة موعوظة أعطت اسمها للعماد وفي يوم العماد
حدث لها ما للنساء هل تعتمد في نفس اليوم؟ أو أن تؤجَّل، وإلى كم يوم؟

الإجابة:

يلزم أن تؤجَّل حتى تتطهَّر.

سؤال 38:

إن كان طفل قد تعمَّد وصار شك في معموديته لأي سبب وصار
عدم تأكُّد. هل يلزم أن يعتمد مرَّة أخرى أم لا؟

الإجابة:

إن كان هناك أي أمر مثل هذا يوحي بأنه ينبغي أن يُعمَّد،
فإن الذي يُعمِّده يلزم أن يقول: “إن لم تكن قد تعمَّدت أنا أُعمِّدك في اسم
الآب والابن والروح القدس”.

 

الكتاب
الثاني:

سؤال 4:

في حالة احتمال موت قادم هل يُقبل
طفل حديث الولادة كموعوظ ويُعمَّد قبل سبعة أيام؟

الإجابة:

يلزم ذلك.

سؤال 8:

إن كان هناك كاهن سيُمارس وحده التعميد كيف يتبع النظام
المعتاد؟ أينبغي عليه أن يتمِّم جحد الشيطان الذي للموعوظ بعد تقديس ماء
المعمودية الذي للميلاد الثاني وبعدها يعطيه مسحة الزيت؟ أو أنه يلزم أن يتمِّم
الجحد أولاً وبعدها يقدِّس الأُردن أي ماء الجرن؟ أو يمكن أن يُعمِّد في الحال
بعد مباركة المياه ولا يخرج خارجاً للجحد؟

الإجابة:

عليه أولاً أن يتمِّم الجحد وبعدها يدخل ليقدِّس الماء
ويُعمِّد.

سؤال 9:

في المعمودية هل يلزم الكاهن أن يتمِّم الجحد بنفسه في
حالة وجود كهنة آخرين موجودين- أو ينبغي أن يقوم به هؤلاء؟

الإجابة:

إن كان هناك شمَّاس موجود فعليه أن يتمِّم الجحد. وإن كان
هناك كاهنان فواحد منهما يكلِّف نفسه بالجحد والآخر يُعمِّد، كل واحد منهما
يكلِّف نفسه، وذلك ليكرم الآخر.

سؤال
10:

هل يلزم الشمَّاس أن يعد الموعوظين للجحد أم لا؟

الإجابة:

بكل تأكيد لأن هذا في العادة هو عمل الشمَّاس الخاص.

سؤال 11:

هل مسموح للقارئ أو مساعد الشمَّاس
أن يُقدِّم موعوظاً للمعمودية وينادي اسمه أم لا؟

الإجابة:

إنه مسموح لمساعد الشمَّاس أن ينادي الأسماء في غياب
الشمَّاس. وفوق ذلك إذا لم يوجد شمَّاس، حتى القارئ يمكن أن يصنع هذا بسبب
الحاجة.

 

16-
القديس كيرلس الأُورشليمي (سنة 386م):

عاش
من سنة 315386م ورُسم أسقفاً سنة 349م.

وملخَّص
تعاليمه عن المعمودية هي أن الموعوظين يتلقُّون أولاً التعاليم، ثمَّ يُعمَّدون
بالغطس. ويشدِّد أن الآتين إلى المعمودية يلزم أن يكون غرضهم مستقيماً
([87])ولهم أمانة ورغبة لترك الخطايا وجحد الشيطان([88])لأن هؤلاء فقط هم الذين يستضيئون بواسطة هذا السر([89]).
وعمل المعمودية هو على شقَّين: غفران وتقديس: غسل النفس من الخطية وعطية الروح
القدس.
ويكرِّر قول بولس الرسول أن المعمودية دفن مع المسيح للموت([90])
(رو 3: 6) وهي فدية للفكاك من العبودية، وغفران الخطايا، وموت الخطية وتجديد
الروح، وثوب النور والبهاء والختم المقدَّس غير المنثلم
([91]).
وأن الروح القدس يُعطى على قدر إيمان المعتمد
([92]).

وأحياناً
يقول ق. كيرلس إن الروح القدس يُعطى في المعمودية([93])،
وأحياناً يقول إن الروح القدس يُعطى مع المسحة. ومسحة الروح القدس هي التي تجعل
المعمَّدين المؤمنين مسحاءَ حقا
([94])
cristo…,
christs وهو الذي يخلع علينا السلاح الكامل بواسطة
الروح
([95]). وهو يفرِّق بين عطية الروح القدس في المعمودية وموهبة الروح الكاملة
في المسحة.

والقديس
كيرلس يلقي ضوءًا كبيراً على المعمودية كطقس جارٍ في الكنيسة في القرن الرابع وهو
يصف طريقة التعميد كالآتي، من الألف إلى الياء: فالموعوظون يجتمعون في الغرفة أو
الدهليز المؤدِّي إلى المعمودية
Ð proaÚlioj toà
baptisthr…ou o‡koj
ويلتفتون
إلى الغرب بأيادي مرفوعة ويجحدون الشيطان وكل أعماله وخدمته وكبريائه- ثمَّ
يلتفتون إلى الشرق ويقولون: أومن بالآب والابن والروح القدس، وبمعمودية واحدة
للتوبة
([96]). ثمَّ
يدخلون إلى غرفة داخلية = بيت خلع الملابس، فيخلعون ملابسهم ويُدهنون بزيت إخراج
الشياطين وبعدها ينزلون واحداً فواحداً إلى “البركة المقدَّسة التي للمعمودية
الإلهية”

t¾n ¡g…an
toà qe…ou bapt…smatoj kolumb”qran
حيث بعد الاعتراف مرَّة أخرى بإيمانهم يغطسون ثلاث مرَّات في
الماء المبارك في المعمودية رمزاً لثلاثة أيام دفن المسيح
([97]). بعدها
يأخذون المسحة التي بعد المعمودية، وبعد أن يلبسوا ملابس بيضاء يُقاد المولودون
جديداً حاملين شموعاً مضاءة من المعمودية إلى الكنيسة حيث تتم زفَّتهم بنشيد
المزامير
([98])، ويتناولون
لأول مرَّة سر الشركة([99])
(جسد المسيح ودمه).

وفي
سنة 350م قدَّم ق. كيرلس الأُورشليمي عظات في موسم الصوم الكبير للموعوظين، ثمَّ
في موسم القيامة (الخمسين المقدَّسة) للذين قد اعتمدوا في يوم السبت المقدَّس،
وهذه العظات لا تزال موجودة إلى اليوم([100]).

تعاليم
للذين اعتمدوا حديثاً:

+
[نقدِّم تعاليم في الأسرار يوماً بيوم، وهذه التعاليم الجديدة التي هي إعلانات
لحقائق جديدة هي نافعة لنا وبالأكثر لكم أنتم الذين تجدَّدتم من العتق إلى الجدة.
لهذا فمن الضروري أن أضع أمامكم ملخَّص محاضرة أمس لكي تتعلَّموا ما هذه الأمور
التي عُملت لكم في الغرفة الداخلية وما الحقائق التي ترمز لها].

+
[لأنه بمجرَّد أن دخلتم داخلاً وخلعتم ملابسكم، كان ذلك صورة لخلع الإنسان العتيق
بأعماله

(كو 9: 3). وإذ نزعتم ملابسكم صرتم عرايا، وفي هذا أيضاً تتمثَّلون بالمسيح
الذي عُلِّق على الصليب عرياناً، وبعريه قهر الرئاسات والقوات وانتصر علناً عليهم
(كو 15: 2)..].

+
[وبعد أن نزعتم أو خلعتم (ملابسكم) مُسحتم بزيت إخراج الأرواح النجسة من هامة شعور
رأسكم حتى أقدامكم، وصرتم شركاء الزيتونة الجديدة يسوع المسيح..].

+
[بعد ذلك قادوكم إلى البركة المقدَّسة التي للمعمودية الإلهية كما حُمل المسيح من
الصليب حتى القبر الذي هو أمامكم (نحن في أُورشليم)، وسُئل كل واحد منكم إن كان
يؤمن باسم الآب والابن والروح القدس. وأنتم قدَّمتم اعترافكم المقدَّس للخلاص،
وغطستم في الماء ثلاث مرَّات وصعدتم منه، وهذا يمثِّل ثلاثة أيام المسيح في القبر.
وكما أمضى المسيح ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ في بطن الأرض هكذا أنتم تمثِّلون بخروجكم
الأول من الماء اليوم الأول للمسيح في القبر وبنزولكم في الماء الليلة الأُولى-
فكما أن الذي في الليل لا يرى، هكذا أنتم في نزولكم في الماء وأمَّا الخروج منه
فيمثِّل النهار].

+
[وأنتم في هذه اللحظة كنتم تموتون وتولدون جديداً وماء الخلاص صار لكم قبراً
وأُمًّا. وكما قال سليمان: ” يوجد وقت للولادة ووقت للموت”
(جا 2: 3)، ولكن الأمر معكم بالعكس فكان لكم وقت الموت هو
وقت الميلاد، وفي وقت واحد تحقَّق لكم هذان الحدثان. فميلادكم (الجديد) كان
ملازماً لموتكم.]
([101])

ويؤكِّد
القديس كيرلس أن الموت في المعمودية هو شركة في موت المسيح وقيامته بالمثل، فهنا
أكثر من مغفرة خطايا وتبنِّي:

+
[مدهش وغير مصدَّق! فنحن لم نمت واقعياً ولا نحن دفنا واقعياً ولا نحن صُلبنا
وقمنا، ولكن اقتداءنا بموت المسيح كان فقط بالشكل في حين أن خلاصنا صار حقيقة
واقعة. لأن المسيح صُلب حقا ودُفن حقا وحقًّا قام ثانية. وهذه كلها وهبها لنا
مجَّاناً حتى بالشكل والمثل نشترك في آلامه فنحصل على الخلاص في الحقيقة. يا
للمحبة الفائقة الحانية! فالمسيح قبل المسامير في يديه وقدميه المقدَّستين واحتمل
الآلام المميتة بينما أنا وبدون الآلام أو أي مشقة أحصل على شركة آلامه، فينعم
عليَّ مجَّاناً بالخلاص!].

+
[فلا يظن أحد بعد ذلك أن المعمودية هي مجرَّد نعمة لمغفرة الخطايا أو حتى للتبني
كما كانت معمودية يوحنا المعمدان لمغفرة الخطايا. أبداً، فنحن الآن نعرف جيداً أن
المعمودية كما هي تغسل خطايانا وتهبنا الروح القدس فهي أيضاً المقابل لآلام
المسيح. ولهذا يصرخ ق. بولس عالياً: ” أم تجهلون أننا كل مَنْ اعتمد ليسوع
المسيح اعتمدنا لموته، فدفنّا معه بالمعمودية للموت”
(رو6: 3و4)].

هذه
الكلمات قالها للذين كانوا يظنون أن المعمودية لمغفرة الخطية والتبني فقط وليست
شركة حقيقية في آلام المسيح.

+
[فلكي نعرف أن كل ما احتمله المسيح احتمله “من أجلنا ومن أجل خلاصنا” وفي الحقيقة
وليس في الشكل، وأننا صرنا مشتركين في آلامه، لذلك يصرخ القديس بولس بمنتهى الحق:
” إن كنَّا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته”
(رو 5: 6). حقا قال: “متحدين معه”([102]) لأنه
إذا كانت الكرمة الحقيقية قد زُرعت في هذا المكان فنحن أيضاً بشركتنا في موته نكون
قد زُرعنا معه. ثبِّتوا عقولكم في كلام الرسول لأنه يقول: متنا معه “بشبه موته”
لأن موت المسيح صار حقيقة لأن نفسه فارقت جسده، وصار دفنه حقيقة لأن جسده قد لُفَّ
في كتَّان نقي، ولكن في ما يخص ما عُمل لكم في ماء المعمودية هو مجرَّد شبه الموت
والآلام. ولكن الخلاص ليس شبهاً بل حقيقة.]
([103])

وفي العظة التي ألقاها كمقدِّمة لعظاته عن
المعمودية
Procatechesis: يدعو القديس كيرلس المعمودية “الختم الذي لا يُمحى ولا يزول”.
ويذكر مؤثِّراتها: “فكاك المأسورين”، “غفران كل السيئات”، “إماتة الخطية”،
و“ميلاد جديد للنفس”
([104])وهو مقتنع تماماً أنه لا يمكن أن يخلص أي إنسان إلاَّ بالمعمودية أو الاستشهاد:

+
[إذا لم يستلم الإنسان المعمودية فليس له خلاص، إلاَّ الشهداء فقط الذين يدخلون
الملكوت دون أن يدخلوا جرن المعمودية، لأن المخلِّص عندما فدى العالم بواسطة صليبه
قد خرج من جنبه المطعون دم وماء
(يو 34: 19)، ليوضِّح أن
في أيام السلام تلزم المعمودية للناس بالماء وفي أيام الاضطهاد فبدمهم. لأن
المخلِّص تكلَّم عن الاستشهاد باعتباره معمودية عندما قال: ” أتستطيعان أن
تشربا الكأس التي أشربها أنا وأن تعتمدا بالمعمودية التي أعتمد بها أنا”
(مر 38: 10). وأيضاً فإن الشهداء يقدِّمون اعترافهم بالإيمان
عندما صاروا منظراً للعالم والملائكة والناس

(1كو 9: 4)
.]([105])

وكان القديس كيرلس يدعو الصلاة التي
تُقال على زيت المعمودية بنفس اصطلاح الاستدعاء
™p…klhsij
الذي
يُقال على الخبز والخمر، لكي يوضِّح تأثير وقوة الدعاء بالاسم:

+
[لا تظنوا أن هذا هو مجرَّد دهن عادٍ، فكما أن خبز الإفخارستيا بعد استدعاء الروح
القدس لم يعد بعد خبزاً ساذجاً بل جسداً للمسيح، هكذا أيضاً الدهن المقدَّس لم يعد
مجرَّد دهن ساذج بل صارت فيه عطية المسيح،
وبحلول الروح القدس صار قادراً أن يمنح شركة الطبيعة
الإلهية.]
([106])

كما يذكر القديس كيرلس أن ماء المعمودية هو
“الماء الحامل المسيح.”
([107])

كما يذكر أن المسيح قد وهب المياه عطر
لاهوته لمَّا اعتمد في الأُردن
([108]).

ويبدأ القديس كيرلس عظته الثالثة عن الأسرار
بقراءة (1يو 2: 2028) ليشرح المسحة المقدَّسة ثمَّ يقول:

+
[وإذ اعتمدتم في المسيح ولبستم المسيح

(غل 27: 3)

فقد صرتم مطابقين لابن الله، لأن الله قد سبق فعيَّننا كمختارين وأبناء
(أف 3: 1و4)، لنكون مشابهين جسد مجده (في 21: 3)، وإذ قد صرتم شركاء المسيح (عب 14: 3) تُسمّون مسحاء وعنكم قال الله لا تمسُّوا مسحائي، أي
الممسوحين
(مز 15: 105). والآن وقد صرتم مسحاء عندما استلمتم
علامة الروح القدس وكل الأشياء عُملت عليكم كمثال لأنكم صرتم على صورة المسيح، ذلك
الذي اغتسل في نهر الأُردن (أي تعمَّد)، وأفاض رائحة لاهوته الذكية للمياه التي
صعد منها أيضاً، والروح القدس استقر عليه بهيئة جسمية كما يستقر المثيل على
المثيل. وأنتم أيضاً بعدما صعدتم من المياه المقدَّسة في البركة أُعطيتم مسحة على
مثال مسحة المسيح.]
([109])

+
[ومُسحتم أولاً على الجبهة وبعدها آذانكم وأنوفكم وعلى صدوركم.]
([110])

+
[وعندما حُسبتم أهلاً لهذه المسحة المقدَّسة سُميتم مسيحيين محقّقين الاسم
بميلادكم الجديد. لأنه قبل أن تنالوا هذه النعمة لم يكن من حقكم أن تُدعوا بهذا
الاسم، ولكن كنتم فقط متقدِّمين في طريقكم لأن تكونوا مسيحيين.]
([111])

+
[برغم أن مغفرة الخطايا تُعطى بالتساوي للجميع، إلاَّ أن الاشتراك في الروح القدس
يُمنح على قدر الإيمان لكل واحد. فإذا كان سعيك قليلاً أخذت قليلاً، وإذا كنت تعبت
كثيراً كان جزاؤك عظيماً.]
([112])

+
[فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما
(عب 14: 2)، حتى إذا صرنا شركاء معه في الجسد نصير شركاء
معه أيضاً في نعمة لاهوته. لهذا اعتمد المسيح حتى إذا اشتركنا في معموديته ننال
الخلاص والكرامة.]
([113])

+
[والآن أيها الإخوة الأحباء، كلمة التعليم تدعوكم جميعاً لتعدّوا ذواتكم لاستقبال
المواهب السمائية.. والآن قد قرب يوم الفصح المقدَّس، وأنتم أيها الأحباء في
المسيح مزمعون أن تتقدَّموا للاستنارة بواسطة” غسل الميلاد الثاني”
(تي 5: 3). فما أعظم مشاعر التقوى التي بها ينبغي أن تتقدَّموا حينما
نُنادي عليكم .. ثمَّ بِكَمْ من الخشوع يجب أن تنتقلوا من المعمودية إلى مذبح الله
المقدَّس لتنعموا بالأسرار الروحية السمائية، حتى أن نفوسكم التي سبقت فاستضاءت
بكلمة التعليم تستطيع أن تستعلن في كل من هذه الأسرار عظمة المواهب التي أنعم بها
الله عليكم.]
([114])

+
[وسوف تُعلَّمون بعد ذلك كيف اغتسلتم من خطاياكم بالرب” بغسل الماء
بالكلمة”
(أف 26: 5)، وكيف صرتم
بشبه الكهنة شركاء في اسم المسيح، وكيف مُنحتم ختم شركة الروح القدس.]
([115])

ويعلِّق القديس كيرلس على التعليم السرِّي الذي
يُعطى للذين اعتمدوا بقوله:

+
[أن نسمع الإنجيل فهذا حق للجميع، ولكن مجد الإنجيل محجوز لأولاد المسيح. لهذا كان
الرب يتكلَّم بالأمثال لمن لا قدرة لهم على السماع. أمَّا التلاميذ فكان يعرِّفهم
بتفسير الأمثال لأن بهاء المجد هو للذين استناروا، أمَّا العمى فهو للذين لا
يؤمنون.]
([116])

+
[وإذ كنت أعلم تماماً أن الرؤية مقنعة أكثر من السمع، لذلك انتظرت حتى جاء الميعاد
(اعتمدوا بالفعل) إذ أجدكم الآن أكثر انفتاحاً لقبول كلماتي بسبب خبرتكم الحاضرة..
إذ تأهَّلتم لاستقبال الأسرار المقدَّسة بعد ما حُسبتم أهلاً لقبول المعمودية
الإلهية المحيية، ويبقى الآن أن أُقدِّم لكم مائدة من تعاليم أكثر استكمالاً
فأعرِّفكم عن هذه الأمور بدقة حتى تدركوا أثر كل ما عُمل لكم في الليلة التي اعتمدتم
فيها.]
([117])

+
[وإذ قد صرتم الآن” شركاء المسيح”

(عب 14: 3)

فأنتم تُدعون حقا مسحاء
cristo… أي مسيحيين وذلك بقبولكم شكل المسيح بواسطة
الروح القدس.]
([118])

وكانوا يجعلون في أيدي المعمَّدين شعلات مضيئة
رمز الاستنارة وكانت تسمَّى مصابيح استقبال العريس([119])
lamp£dej numfagwg…aj
باعتبار
أن المعمَّد صارت نفسه عذراء حقيقية للمسيح، وهي الآن مع الخمس عذارى الحكيمات
ومعهن الزيت بانتظار العريس.

ولا
تزال هذه العادة كنوافل تافهة في الكنيسة إذ يخرج المؤمنون وفي أيديهم شموع مضاءة
في ليلة القيامة ولكن ضاع المعنى والقصد.

ويدعو القديس كيرلس الأُورشليمي ختم زيت
الميرون: الختم الملكي الموضوع على جباه جند المسيح
([120]) وختم شركة
الروح القدس
([121]).

17-
القديس غريغوريوس النزينزي (سنة 389م):

لاهوتي.
أحد آباء كبادوكية. عاش من سنة 329389م، درس في أثينا مع القديس
باسيليوس، تعيَّن أسقفاً على القسطنطينية سنة 381م ثمَّ عاد إلى نزينزا ثمَّ إلى
القرية التي نشأ فيها ومات هناك. وقد تتلمذ على يديه القديس جيروم وذلك باعتراف
جيروم نفسه. ومن ضمن كتاباته الفيلوكاليا وهي مقتطفات من أقوال أوريجانوس قد جمعها
مع القديس باسيليوس.

وهو
ينصح بتعميد الأطفال الصغار في وقت الخطر، وفي الأوقات العادية تؤجَّل معموديتهم
إلى أن يعرفوا أن ينطقوا ويردُّون على الأسئلة:

+
[هل نعمِّد الأطفال أيضاً؟ بكل تأكيد إذا كان هناك خطر يُهدِّد، لأن خير لهم أن
يتقدَّسوا وهم لا يريدون من أن ينتقلوا من هذه الحياة بلا ختم ولا تكريس. فإن كان
ختان الطفل يتم بعد ثمانية أيام الذي هو بنوع ما مثال للختم، هكذا المعمودية وقت
الخطر، وإلاَّ فمن رأيي أن تؤجَّل حتى بلوغ الأطفال سن الثالثة أو أكثر أو أقل حتى
يتسنَّى لهم السماع والإجابة عن السرائر. وهم وإن كانوا لا يفهمون فهماً كاملاً
ولكنهم يستوعبون الحقائق البدائية.]
([122])

والمعمودية هي الاستنارة، وتغيير الحياة، والحافظة للإيمان،
وتكميل العقل
([123]). ويقارن المعمودية بدم خروف الفصح، ويقول إن عمل
المعمودية هو المثيل لختم الأبواب بدم خروف الفصح، فهو يختم المعمَّدين كمختارين
لله ووارثين للحياة الأخرى. والطفل المعمَّد يقبل الختم فقط أمَّا اليافع فيُشفى
من خطاياه كأفضل ختم
sfragˆj ¢r…sth([124]) لأنه إعطاء
نعمة واستعادة صورة الله التي فقدها آدم بالخطية، كما أنها تعطي التطهير
k£qarsin من أي خطية([125]).

والقديس
غريغوريوس يضع فاصلاً مميِّزاً بين معمودية الكبار ومعمودية الصغار، حيث الكبار
ينالون التكريس وغفران الخطايا، أمَّا الأطفال فينالون التكريس فقط
([126]).

18-
العلاَّمة ديديموس الضرير (سنة 390م):

وُلِدَ
سنة 313م وهو معاصر للقديس أثناسيوس وهو الذي عيَّنه رئيساً على مدرسة الإسكندرية
Catechetical School وهي أصلاً مدرسة لتعليم الموعوظين وقد قفلت أبوابها بعد نياحته.
ومن تلاميذه القديس جيروم (347419م)، وروفينوس (345410م)،
وغريغوريوس النزينزي (329389م). وقد كتب الشيء الكثير على الإنجيل
وعلى الأمور اللاهوتية التي كانت تخص أيامه. وهو يُعتبر حلقة الوصل بين تعاليم
القديس أثناسيوس وتعاليم الكبادوكيين ثمَّ تعاليم القديس كيرلس الإسكندري.

وهو
أول مَنْ وضع اصطلاح الثالوث [طبيعة واحدة وثلاثة أقانيم].

m…a oÙs…a, tre‹j Øpost£seij

وهو
أيضاً أول مَنْ قال إن [الروح القدس مساوٍ في الجوهر للآب والابن].

وأول
مَنْ أكَّد أن [الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية اتحدتا بغير تغيير ولا
امتزاج.]
([127])

وبينما
هو يحاضر على الروح القدس تكلَّم عن المعمودية. فهو يرى أن جرن المعمودية هو من
ناحية “معمل الثالوث”، حيث يسترجع الثالوث صورة الله في الإنسان.
ومن ناحية
أخرى يعتبره [رحم الكنيسة التي بينما تبقى عذراء تلد أولاداً جدداً لحياة
جديدة.]
([128])

ويُعتبر
أول الناطقين باليونانية يتكلَّم عن جرن المعمودية أنه الأُم العذراء دائمة
البتولية للمعمَّدين. وهذا الجرن يُخصَّب بواسطة الروح القدس.

+
[الروح القدس باعتباره أنه الله، يجدِّدنا في المعمودية ويوحِّدنا بالآب والابن،
ويعيدنا مرَّة أخرى من حالة التشوُّه إلى جمالنا الأصلي، ويملأنا بالنعمة حتى لا
نعطي مكاناً في ما بعد داخل قلبنا لأي شيء غير لائق، ويحرِّرنا من الخطية والموت
وكل أمور الأرض، ويجعلنا أُناساً روحانيين شركاء المجد الإلهي وأولاداً وورثة لله
الآب، ويغيِّرنا لنكون على صورة ابن الله وشركاء ميراث له وإخوة له، ويمجِّدنا
ويجعلنا نملك معه، ويستبدل لنا الأرض بالسماء، ويمنحنا الفردوس بسخاء ويجعلنا
مكرَّمين أكثر من الملائكة، وفي المياه المقدَّسة الإلهية التي لبِركة المعمودية
يطفئ نار جهنم التي لا تُطفأ.]
([129])

+
[لأننا حينما نُغمر في بِركة المعمودية فنحن نُنتزع من خطايانا بصلاح الله الآب
وبنعمة روحه القدوس، كما أننا نخلع الإنسان العتيق، فنُخلق جديداً
regenerated ونُختم sealed بختمه الملكي الخاص. وعندما نخرج من البِركة نلبس المسيح مخلِّصنا
كثوب عديم الفساد، لائق لنفس كرامة الروح القدس الذي أعاد خلقتنا وختمنا بخاتمه:
” لأن كلكم- كما يقول الكتاب المقدَّس- الذين اعتمدتم في المسيح قد لبستم
المسيح”
(غل 27: 3). لأننا في
القديم بالنفخة المقدَّسة الإلهية تقبَّلنا صورة الله ومشابهته التي يتكلَّم عنها
الكتاب، ثمَّ بسبب الخطية فقدناها، ولكن الآن وُجدنا من جديد كما خُلقنا: بلا خطية
وأحراراً في أنفسنا.]
([130])

ويقول
العلاَّمة ديديموس إن المعمودية لازمة لزوماً كلياً لخلاصنا، ولا يستطيع أحد أن
يستغني عنها حتى ولو بلغ إلى سيرة بلا خطية:

+
[لا يستطيع أحد ما لم يتجدَّد بروح الله القدوس ويُختم بخاتم قداسته أن يحصل على
المواهب السمائية، حتى ولو بلغ الكمال في سائر الأمور وإلى حياة بلا خطية.]
([131])


والاستثناء الوحيد من المعمودية هو الشهادة بسفك الدم لأنها هي أيضاً من فعل الروح
القدس:

+
[الذين يعانون الاستشهاد قبل أن يتعمَّدوا يكونون قد اغتسلوا بدمائهم وقبلوا الحياة
بفعل روح الله القدوس.]
([132])

وهو يلخِّص آثار المعمودية المقدَّسة في
الإنسان كالآتي:

+
[إننا نتجدَّد في المعمودية، ونستمتع بالألفة مع الله بقدر ما تسمح به قوانا
الطبيعية. كما قال أحدهم: بقدر ما يمكن للإنسان المائت أن يصير شبيهاً بالله!]
([133])

19-
القديس غريغوريوس النيسي (سنة 395م):

عاش
من سنة 330395م ورُسم أسقفاً على نيسا سنة 371م، وهو أحد الآباء
الكبادوك وهو الصديق اللصيق بالنزينزي، لاهوتي فيلسوف. وهو الأخ الأصغر للقديس
باسيليوس أسقف قيصرية.

وهو
يعتبر أن التقدُّم الروحي كله للمسيحي هو أن يتمِّم الذي قَبِلَهُ في المعمودية
التي قبل فيها الروح القدس، الذي يؤمِّن للمسيحي الاشتراك في حياة لا تخضع بعد
للموت. وهو مثل ق. كيرلس الأُورشليمي ينتقل بين أن الروح القدس يُعطَى في
المعمودية وأن الروح يُعطَى في المسحة. فمرَّة يؤكِّد هذا
([134]) ومرَّة
يؤكِّد ذلك
([135]). كذلك وهو يشدِّد
على الدور الذي يقوم به المؤمن في عملية تجديده، بقبوله ذلك عن حرية واختيار
([136])، وينكر أن
المعمَّد يتجدَّد إلاَّ إذا تبع العماد بالماء تغيير واضح في الأخلاق والسلوك
([137])، وهو لا
يعتبر أن الطفل الصغير الذي يموت بدون معمودية يكون معرَّضاً لغضب الله أو يكون
مثقَّلاً بوزر أي خطية
([138]). ويُعلِّم
أن نفس الطفل التي لم تبلغ عمر نضوج العقل تقبل البَرَكَة على قدر ما تكون قادرة
على قبولها.

20-
القديس أمبروسيوس (سنة 397م):

عاش
من سنة 339397م. أسقف ميلانو وقد كان محامياً وحاكماً لولاية
Aemilia-Liguria وكان موعوظاً وتعمَّد ورُسم أسقفاً على ميلانو في نفس الوقت.

وكان
هو صاحب الفضل في تحويل القديس أوغسطينوس إلى المسيحية وتعميده سنة 386م وكان يحترمه جدًّا. وقد حارب الوثنية والأريوسية،
واحتفظ بحرية الكنيسة ضد القوى المدنية. وتكبَّد في دفاعه عن الإيمان متاعب كثيرة
وقد ألَّف كُتباً عديدة ومن ضمنها كتاباً عن الأسرار
De Sacramentis قد أعطاه الشهرة حتى اليوم.

والقديس
أمبروسيوس مع القديس أوغسطينوس مع القديس جيروم والقديس غريغوريوس الكبير هؤلاء
الأربعة هم دكاترة الكنيسة اللاتينية.

والقديس
أمبروسيوس يعطينا صورة للعماد في ميلانو في النصف الثاني من القرن الرابع
([139]).
فالموعوظون كانوا على درجتين: الدرجة الأُولى: مستمعون. والثانية: مختارون
([140]) وهؤلاء هم
الذين قدَّموا أسماءهم للأسقف كتلاميذ معمودية
([141]) في بداية
موسم الصوم الأربعيني. والعماد العام كان يُجرى في العادة بالليل بين مساء العيد
(عيد القيامة) ويوم العيد
([142]). وكان
الموعوظون يسلِّمون أنفسهم طول الصوم لتدريبات كثيرة استعداداً للطقس المقدَّس
([143]) بصيام
شديد والامتناع عن العلاقات الزوجية
([144]). وكانوا
يقيمون في جميع أيام الأسبوع- ما عدا السبت- في الساعة الثالثة ثمَّ في التاسعة اجتماعات
وخدمات خاصة بالموعوظين عبارة عن دروس، مزامير، عظات، يتلقّون فيها التعليمات
بخصوص الأخلاق المسيحية والعناصر الأساسية للإيمان المسيحي
([145]).

والاحتفال
بالمعمودية كان يقام مساء عيد القيامة، ويبدأ بطقس يُسمَّى (إفثّا) أي سر الانفتاح
الذي فيه يلمس الأسقف أنف وأُذن كل موعوظ رمزاً لانفتاح الحواس لاستقبال السرائر
([146]). وبعدها
يخلع الموعوظ ملابسه عارياً
([147]).
واستجابةً لأسئلة الأسقف يجحد الموعوظ الشيطان وكل أعماله وبعدها العالم وكل
مسرَّاته
([148]).
وبعدها يقدِّس الأسقف الماء ويرشمه بعلامة الصليب
([149]).

بعدها
ينزل المعمَّد في جرن المعمودية ويُسأل هل تؤمن بالله الآب القادر على كل شيء؟ هل
تؤمن بربنا يسوع المسيح والصليب؟ هل تؤمن بالروح القدس
([150])؟ ولكل سؤال
يجيب أومن ووجهه ناحية الشرق
([151]). وبعد كل
إجابة يُغطَّس في الماء. بعدها يُساعد على الخروج من جرن المعمودية ويجفِّف نفسه
بقماش كتان. ويُقاد إلى الأسقف الذي يمسح رأسه بالمسحة. وهكذا يُقدِّسه إلى
الكهنوت الموعود به كل مسيحي
([152]).

بعدها
يأتي غسل الأرجل، فالأسقف يغسل بنفسه أرجل قليل من المعمَّدين الجدد، والباقون
يغسل أرجلهم الكهنة، وفي أثناء ذلك يُقرأ إنجيل غسل الأرجل (يو 13)
([153]).

وبعد
ذلك يلبس المعمَّدون الجدد ملابسهم البيضاء والتي يظلُّون لابسين لها كل أيام
العيد لمدة أسبوع
([154]). ثمَّ
يُقدَّمون للأسقف لقبول الختم الروحي الذي بعلامة الصليب
([155]). الذي يعني
بحسب القديس أمبروسيوس التثبيت على شبه المسيح في موته وقيامته، الأمر الذي يعمل
ويؤثِّر فيهم فعلاً بواسطة الروح القدس
([156])، الذي
يجدِّد ويقدِّس ويختم النفس لاستعادة صورة الله
([157])!

وفعل
المعمودية هو مغفرة الخطايا والآثام والذنوب
([158]) والتجديد
بواسطة الروح القدس([159]).
والقديس أمبروسيوس يحبِّذ عماد الأطفال
([160])
لرفع أثر الخطية الأصلية والذنب
([161])، ويشدِّد
على ضرورة المعمودية معلناً أنه إن لم يُعمَّد الإنسان باسم الآب والابن والروح
القدس فلا يمكن أن يقبل غفران خطاياه ولا يستقي الروح القدس ولا هبة النعمة
الروحية
([162])،
ويشدِّد أنه لا يمكن دخول ملكوت الله إلاَّ من خلال المعمودية، وحتى الأطفال كذلك
([163])!
يُستثنى من ذلك الشهداء الذين يعتمدون بالدم
([164]).

21-
الحاجة إثيريا من أسبانيا (سنة 400م):

كتبت
الحاجة إثيريا تقريراً في حجِّها للديار المقدَّسة سنة 400م. وهذا التقرير يشمل ما
سجَّلته عن إجراءات إعداد الموعوظين للمعمودية في أُورشليم.

وقد
نُشر تقرير الحاجة إيثريا بالإنجليزية سنة 1919م، ونقدِّم منه ههنا الصفحات الخاصة
بالمعمودية([165]).

فقد
شاهدت في رحلتها إلى الديار المقدَّسة كيف يُعمَّد الموعوظون فكتبت تقول:

+
[والآن عليَّ أن أكتب كيف كانوا يعلّمون (الموعوظين) الذين كانوا يُعمَّدون في عيد
القيامة، فالذي كان يعطي اسمه ليُسجَّل وسط المعمَّدين كان عليه أن يقدِّمه قبل
الصوم المقدَّس، والكاهن يكتب الأسماء كلها. بمعنى أن ذلك يكون قبل الثمانية
أسابيع التي قُلتُ عنها إنها تُحفظ هنا.

وفي
اليوم الثاني بعد أحد الرفاع أي في اليوم الذي تبدأ فيه الثمانية أسابيع، كان
يُقام كرسي للأسقف وسط الكنيسة الكبيرة أي في الموضع المدعو بالشهادة
Martyrium والكهنة يجلسون على كراسي على الجانبين بجواره. ثمَّ يُحضرون
المستعدين واحداً واحداً ويأتون مع آبائهم إن كانوا ذكوراً، فإذا كُنَّ إناثاً فمع
أُمهاتهن. فيبدأ الأسقف سؤال الذين مع كل واحد: هل هذا الشخص يعيش عيشة صالحة؟ هل
هو مطيع لأبويه؟ هل هو سكِّير أو يمارس الغش؟ ويسأل أيضاً عن علاقته بالشرور
الكثيرة التي هي خطية بالنسبة للرجل.

فإذا ثبت بشهود أنه بلا لوم في كل هذه الأمور التي سأل
الأسقف عنها، يكتب اسمه بيده. أمَّا إذا
ثبت عكس ذلك فيقول: دعوه يراجع نفسه وبعدها فليأتِ للمعمودية.
وكما يسأل عن الرجال يسأل عن
النساء. أمَّا إذا كان الموعوظ غريباً فلا
يأتي بسهولة إلى المعمودية إلاَّ إذا كان له شهادة من الذين يعرفونه].

 

الإعداد
للمعمودية: تعليم الموعوظين:

+ [وهذا أيضاً ينبغي أن أكتب فيه أيها الأخوات المكرَّمات،
لئلاَّ تفتكرن أن هذه الأشياء تُعمل بلا سبب صالح:

فالعادة
هنا أن الذين يأتون ليستعدوا للمعمودية أثناء هذه الأربعين يوماً التي تخصَّص
للصوم، فهم أولاً يُجرى عليهم إخراج الأرواح الشريرة بواسطة الكهنة مبكِّراً
صباحاً بمجرَّد أن تخرج الكنيسة في كنيسة القيامة. بعدها مباشرة يرتَّب كرسي
الأسقف في مكان الشهادة
Martyrium في الكنيسة الكبرى، وكل الذين سيعتمدون يجلسون حول الأسقف بجواره.
رجالاً ونساءً مع آبائهم وأُمهاتهم يقفون أيضاً هناك. وكل الشعب الذين يريدون أن
يسمعوا يدخلون ويجلسون، المؤمنون فقط، لأنه ممنوع على الموعوظ أن يدخل عندما يكون
الأسقف يعطي الدروس الخاصة بالقانون (الناموس) مبتدئاً بسفر التكوين ويمر على كل
الأسفار كل أيام الأربعين المقدَّسة
([166])!! يشرحها
لهم كلمة كلمة ثمَّ يكشف معانيها روحياً. ويُعلِّمون أيضاً عن القيامة وكل الأمور
المختصة بالإيمان أثناء هذه الأيام. وهذا كان يُسمَّى درس الموعوظين
Catechizing].

تسليم
العقيدة: قانون الإيمان المسيحي:

+
[وبعد خمسة أسابيع من وقت بداية تعليم الموعوظين يبدأون استلام قانون الإيمان
المسيحي. وكما شرح الأسقف معاني كل الأسفار هكذا يشرح معاني قانون الإيمان: كل
معلومة تُشرح أولاً لفظياً وبعدها تُشرح روحياً. وبهذه الطريقة كل المؤمنين في هذه
النواحي يفهمون معنى الأسفار حينما تُقرأ في الكنيسة بقدر ما تعلَّموا أثناء هذه
الأربعين يوماً من بدء النهار حتى الساعة الثالثة، لأن تعليم المبتدئين يستمر ثلاث
ساعات (في كل يوم).

والله
يعلم أيتها الأخوات المحترمات أن أصوات المؤمنين الذين يأتون ويسمعون تعاليم
المبتدئين يعطون استحسانهم بصوتٍ عالٍ في كل ما يُقال ويُشرح بواسطة الأسقف، أكثر
مما يحدث حينما يجلس ليعظ داخل الكنيسة (في غير دروس الموعوظين).

وبعد
تسريح المبتدئين، يزفون الأسقف بتسابيح إلى كنيسة القيامة
Anastasis وكان تسريح الموعوظين في الساعة الثالثة من النهار. ثلاث ساعات
يومياً كانت للتعليم حتى إلى سبعة أسابيع. والأسبوع الثامن للأربعين يسمَّى
الأسبوع الكبير حيث لا وقت للتعليم بالنسبة للمبتدئين..].

 

تلاوة
قانون الإيمان:

+
[بعد مرور السبعة أسابيع ويبدأ أسبوع الفصح (
Paschal) ويسمُّونه الأسبوع الكبير، يأتي الأسقف إلى الكنيسة الكبرى في
موضع الشهادة ليجلس في المكان المعد له في الحنية (
Apse)([167]) خلف
المذبح. ويأتي المبتدئون واحداً واحداً الرجل مع أبيه والمرأة مع أُمها ويُسمِّعون
نص قانون الإيمان (أو دستور الإيمان المسيحي) أمام الأسقف. وبعد تلاوة القانون،
يبدأ في مخاطبتهم قائلاً:

أثناء
هذه السبعة أسابيع تعلَّمتم كل قانون الأسفار، وأيضاً سمعتم ما يختص بالإيمان،
وفيما هو لقيامة الأجساد، وكل قانون الإيمان بمعناه بقدر قدرتكم لأنكم لازلتم
موعوظين. وأمَّا تعليم الأسرار العميقة التي هي مثلاً للمعمودية فأنتم غير قادرين
على سماعها إذ أنكم لازلتم موعوظين. ولئلاَّ تظنوا أن هناك شيئاً يُعمل بدون سبب
لائق، فإن هذه التعاليم بعد أن تعتمدوا في اسم الله سوف تسمعونها في كنيسة القيامة أثناء الثمانية أيام التي لعيد القيامة.
لأنه طالما أنتم موعوظون فلا يصح تعليمكم الأسرار السريَّة
الإلهية].

22-
القديس يوحنا ذهبي الفم (سنة 407م):

عاش
من سنة 347407م. وُلِدَ في أنطاكية ورُسم أسقفاً على القسطنطينية.
عالِم الكنيسة (
Doctor). كان واعظاً مقتدراً، وهذه الهبة هي التي أعطته اللقب “ذهبي
الفم” فكان أعظم شرَّاح المسيحية. اتُهم بالأوريجانية بواسطة عدوّه ثاوفيلس بطريرك
الإسكندرية فنُحِّي عن كرسيه سنة 404م ونُفي في مكان قريب من أنطاكية، ولكن إذ
أرادت الملكة أفدوكسية موته سريعاً رحَّلته إلى بونتس فمات في الطريق.

يشجِّع
ذهبي الفم عماد الأطفال ويستحسنه جدًّا، مع أن هذا لم يكن هو الإجراء العام في
الكنيسة الشرقية. ويشدِّد على أن الختم الذي هو علامة انتماء الإنسان لله لابد أن
يظهر في حياة الإنسان بالسلوك الصالح والأخلاق
([168]). ويربط بين
ختم الروح القدس والمعمودية
([169]) التي
يدعوها الاستنارة
([170])،
والمعمودية هي ذات صلة أساسية بالصليب
([171])، والمسيحي
يصبح نبيًّا وكاهناً وملكاً ويُختم بختم الروح القدس كجندي مختوم للخدمة الحربية.
وبينما اليهود لهم الختان كختم، فالمسيحيون لهم العربون الداخلي بالروح الذي يُعطى
بالمعمودية
([172]). وهناك صلة
أساسية بين المعمودية وبين موت ودفن وقيامة المسيح، وهذا سائد عند الآباء إن كان
بمعمودية الماء أو الشهادة بالدم.

ويقابل
بين المعمودية والختان على أن المعمودية بلا آلام كختان يُصنع بغير يد!!
(كو 11: 2)
ويقول إن المعمودية ليس لها زمن ووقت معيَّن مثل الختان عند اليهود، ولكن يمكن
قبولها للأطفال أو لذوي السن المتوسط أو الكبار في السن. وبها يتطهَّر الإنسان من
خطيته ويقبل العفو والغفران عن كل ما مضى من الآثام
([173])،
أمَّا ختان اليهود فبلا معنى روحي ولا قيمة.

23-
ثيئوذور أسقف مبسوستا (سنة 428م):

كان
صديقاً ملاصقاً للقديس يوحنا ذهبي الفم، ولمَّا زلّ وخرج عن الرهبنة وعظه ذهبي
الفم في رسالة معروفة باسم: (
Ad
Theodorum Lapsum, P.G. 47, 277-316
)
وبعدها عاد إلى الرهبنة ودخل المجال الكنسي- وله عدة عظات للمتقدِّمين للمعمودية،
وقد فُقد أصلها اليوناني ثمَّ عُثر عليها حديثاً في نسخة سريانية وقد حقَّقها
العالِم
A. Mingana ونشرها في مجموعة:

Woodbrooke Studies, Vols 5 and 6 (Cambridge, 1933).

وقد
أعاد نشرها بإتقان مع ترجمة فرنسية العالمان:

R. Tonneau et R.
Devreesse, Les Homélies Catéchétiques dé Théodore de Mopsueste, (Studi e Testi
145),
Vatican city, 1949.

والجزء
الذي يهمنا موجود في الترجمة الإنجليزية في الكتاب السادس الجزء الثاني ويتكوَّن
من ست عظات، أولها عن الصلاة الربَّانية تليها ثلاثة عظات عن طقس المعمودية. وهي
عظات أُعطيت للمرشَّحين للعماد. وقد استُعملت
في الكنيسة اليونانية لبطريركية أنطاكية ككتاب مدرسي
للموعوظين:

تعاليم
للمرشَّحين للعماد:

الجزء
الثاني- العظة الثانية
([174]):

+
[إن كل مَنْ يريد أن يقترب لعطية المعمودية المقدَّسة يأتي إلى كنيسة الله. وهو
يُستقبل في حينه بواسطة شخص معيَّن لهذه المهمة، لأنه توجد عادة لتسجيل الذين
يقتربون للمعمودية. وهذا الشخص يسأله عن أسلوب حياته لكي يكتشف إن كانت حياته تحمل
كل مطالب مواطنة المدينة العظمى وتسجيله فيها.

هذا
الطقس يؤدَّى بواسطة شخص يُدعى عرَّاب أو أشبين..

وبسبب
إنكم غير قادرين بأنفسكم أن تتحاجوا ضد الشيطان وتحاربون ضدَّه، فإن خدمة الأشخاص
الذين يحملون زيت إخراج الشياطين تُعتبر خدمة لا غنى عنها بالنسبة لكم، لأنهم
يعملون متكفّلين بإمدادكم بالمعونة الإلهية. إنهم يسألون بصوت مرتفع وباستمرار أن
عدوّنا يعاقَب ويُؤمر بحكم من القاضي بأن يتقهقر ويبتعد عنَّا. لذلك حينما ينطقون
بكلمات إخراج الأرواح النجسة، تقفون هادئين تماماً وكأن ليس لكم صوت، وكأنكم
لازلتم في خوف ورعبة من ذلك الطاغية. لذلك تقفون بذراعاتكم ممدودة كأنها للصلاة،
وتنظرون إلى أسفل وتدومون على هذا الحال كي تحرِّكوا قلب القاضي للرحمة.

ثمَّ
تخلعون ملابسكم وتقفون حفاة القدمين لكي تُظهروا في أنفسكم حالة العبودية المستبدة
التي فيها خدمتم الشيطان لمدة طويلة..

وبخصوص
كلمات إخراج الأرواح النجسة فإن لها القدرة أن تجعلكم لا تبقون كسالى وبلا عمل لكي
تنالوا مثل هذا الربح الجليل. وبعدها تؤمرون في هذه الأيام أن تتأملوا كلمات
الاعتراف بالإيمان لكي تتعلَّموها، التي يضعونها في أفواهكم حتى بواسطة التأمُّل
المستمر فيها تستطيعون أن تجتهدوا لكي تكونوا قادرين على تلاوتها عن ظهر قلب.

وعندما
يحين وقت قبول السر وتكون إدانة ومحاربة الشياطين التي من أجلها قيلت كلمات
الأكسورسزم (= إخراج الأرواح النجسة) قد بلغت نهايتها، وبأمر الله يخضع الطاغية
ويستسلم لصراخ كلمات الأكسورسزم، ويُدان وتصيرون أحراراً تماماً من أي مشاغبة تأتي
من جهته، وعندما تسعدون بالسماح لكم بالانضمام بلا تعويق، حينئذ تُستدعون بواسطة
الأشخاص المعيَّنين إلى الكاهن. لأنه أمامه عليكم أن تقدِّموا تعهدكم ووعودكم لله.
وهي تختص بالإيمان وحقائق قانون الإيمان التي تعلنون رسمياً تصميمكم على الثبات
عليها بمداومة. وأنكم لن تكونوا كآدم أبي جنسنا ترذلون أصل جميع الخيرات، بل
تدومون حتى النهاية في عقيدة الآب والابن والروح القدس (..).

وعندما
تأتون إلى بيت الله تقابلون الكاهن الذي وُجد مستحقاً أن يترأس على الكنيسة. وبعد
أن نتلو اعترافنا بالإيمان أمامه، نقدِّم لله بواسطة الكاهن ميثاق تعهُّدنا بحفظ
الإيمان (..) فبعد أن نقدِّم تعهُّدنا لله ربنا بتوسُّط الكاهن، نصير مستحقين أن
ندخل بيته ونستمتع برؤياه ونُحسب مواطنين للمدينة السماوية فتكون لنا ثقة كبرى].

العظة
الثالثة
([175]):

+
[قد علمتم بما فيه الكفاية من العظات التي قلناها ما هي الطقوس التي تُعمل في
وقتها قبل الدخول في السر وبمقتضى التقليد القديم بالنسبة للذين يُعمَّدون: فعندما
تذهبون لتسجِّلوا أسماءكم برجاء الحصول على الإقامة والمواطنة السمائية، تجدون في
طقوس إخراج الشياطين نوعاً من الدعوى القضائية السماوية المرفوعة ضد الشيطان،
وبقضاء إلهي تتسلَّمون حريتكم من عبوديته، وهكذا تتلون كلمات الاعتراف بالإيمان
والصلاة، وبهما تقطعون عهداً ووعداً مع الله أنكم ستكونون دائماً ثابتين في محبته
الطبيعية الإلهية. وأنكم ستحيون في هذا العالم بأفضل إمكانياتكم بطريقة مطابقة للحياة ومواطنة السماء. والآن يحق لكم أن تقبلوا
شرح الطقوس
التي ستُجرى في ذات “السر”.
لأنكم إذا تعلَّمتم السبب في كل إجراء ستحصلون على معرفة ليست قليلة.

فبعد
أن أُخذتم من تحت عبودية الطاغية بكلمات إخراج الشياطين وصنعتم تعهُّداً مهيباً مع
الله، مع تلاوة قانون الإيمان، فإنكم تقتربون من السر نفسه. لذلك يلزم أن
تتعلَّموا كيف يُعمل لكم: ستقفون حفاة القدمين وبأيدي مرفوعة نحو الله في وضع مَنْ
يصلِّي. في كل هذا تكونون في وضع يتناسب مع كلمات إخراج الشياطين، لأنكم بذلك
تُظهرون أَسْركم الماضي وعبوديتكم لهذا الطاغية التي وقعتم فيها بعقاب مُحقٍ.

فأولاً
تحنون الرُّكب وجسمكم منتصب وفي وضع مَنْ يُصلِّي ترفعون أيديكم نحو الله، بهذا
الوضع تقدِّمون صلاة لله وتتوسَّلون إليه ليهبكم خلاصاً من السقطة القديمة،
فتكونوا شركاء في البركات السمائية. وبينما أنتم في هذا الوضع، فإن الأشخاص الذين
تعيَّنوا لخدمتكم يقتربون إليكم ويقولون لكم أكثر مما قاله الملاك لكرنيليوس:
صلواتكم سُمعت وطلباتكم استُجيبت
(أع 4: 10).

وما
هي التعهُّدات والوعود التي تصنعونها في ذلك الوقت والتي بها تقبلون خلاصاً من
المحنة القديمة وتشتركون في الخيرات العتيدة؟

“أنا
أجحد الشيطان وكل ملائكته وعبوديته وكل غشه وكل إغرائه الدنيوي- وأتعهَّد وأُومن وأعتمد في اسم الآب والابن والروح القدس”. ويتقدَّم
الشمامسة إليكم ويعدّونكم لكي تتلوا هذه
الكلمات.

فعندما
تقدِّمون كل عهودكم، يتقدَّم الكاهن في ثوب من الكتان الناصع يُعبِّر عن أفراح
العالم المزمع أن تنتقلوا إليه في المستقبل. وبريق ثياب الكاهن يُعبِّر عن بهاء
حياتكم الآتية ونقاء ثيابه يُعبِّر عن السعادة في العالم الآتي. ويرشمكم على
جباهكم بالمسحة المقدَّسة قائلاً: “فلان يوسم باسم الآب والابن والروح القدس”.
مقدِّماً إليكم أول ثمار “السر”، ولا يصنعها أبداً إلاَّ باسم الآب والابن والروح
القدس. وبينما أنتم تترقَّبون أصل جميع الخيرات (أي المعمودية) يبدأ الكاهن بإجراء
السر. وفي الحقيقة أن الكاهن يقرِّبكم من الدعوة التي نحوها ينبغي أن توجِّهوا
نظركم! التي بمقتضاها يلزم أن تعيشوا بمقتضى إرادة الله. والوسم (الرشم) الذي
وُسِمْتُم به يُعبِّر عن أنكم قد خُتمتم كحمل للمسيح وجند للملك السمائي.

وفي
الحال فإن الإشبين أو العرَّاب الواقف خلفكم يفرد لفافة من الكتان على رؤوسكم،
ويقيمكم ويجعلكم تقفون مستقيماً، والكتان الذي يفرده على تاج رؤوسكم يُعبِّر عن
حريتكم التي دُعيتم إليها. لأن الأحرار يتشحون بالكتان فوق رؤوسهم كزينة سواء في
بيوتهم أو في الأسواق.

وبعدما
تكونون قد وُسِمتم وخُتِمتم كجنود المسيح الرب تتقبَّلون باقي السر وتتقلَّدون
باقي سلاح الروح الكامل. وبالسر تقبلون الشركة في البركات السماوية. وينبغي أن
نشرح لكم قليلاً قليلاً كيف تتم كل هذه الأمور. ولكن الذي قلناه يكفي اليوم ونختم
حديثنا كالعادة بتقديم الحمد والشكر لله الآب وابنه الوحيد والروح القدس الآن وكل
أوان وإلى دهر الداهرين. آمين].

34-
القديس أوغسطينوس أسقف هبو (سنة 430م):

في
القرن السادس غزا البربر شمال إفريقيا وخرَّبوا المدنية المسيحية هناك، وتوقَّفت
الكنيسة نهائياً حتى اليوم وضاعت كتبها الطقسية، ولم يتبقَّ لنا لنعرف شيئاً عن
طقوس المعمودية في هذه الكنيسة إلاَّ ما نستدله من كتب آبائها وأهمهم القديس
أوغسطينوس. وقد درس العالِم الراهب
Bush أقوال القديس أوغسطينوس عن المعمودية وجمعها في المقالة التالية:

Dom Benedict Bush, “De
Initiatione Christiana secundum S. Augustinum”, in Ephemerides Liturgicae,
1938, pp. 159 ff, 385ff
.

والقديس
أوغسطينوس هو الذي أعطى معمودية الأطفال الأساس اللاهوتي المنهجي.
ويقول
القديس أوغسطينوس إن المعمودية أبطلت وألغت ذنب خطية آدم، ولكن تركت وأبقت
نشاطها
actus كالشهوة التي لا تزال تؤذي([176]) والنعمة
التي يحصل عليها المعمَّد من المعمودية هي التجديد بالروح القدس، والغفران الإلهي،
وإلغاء الإثم أو الجرم
([177]).
ولكن الخلاص الكامل يمكن الحصول عليه فقط بواسطة تغيير الأخلاق: [سر المعمودية
أمر، وتحوُّل القلب أمر آخر، ولكن خلاص الإنسان يكون كاملاً بواسطة كليهما معاً]
([178]).
فإن غاب أحد هذين العاملين عن غير قصد فإن الله يعوِّض عنه
([179]).
فبالنسبة للصّ التائب على الصليب: تحوُّل القلب أخذ فعله فيه ولكن تحوُّل الإنسان
وتجديده لم يكن ممكناً لأنه يحتاج إلى معمودية، فالله أعطاه قوة المعمودية، لذلك
أكَّد المسيح أنه سيدخل الفردوس. وهنا واضح أن القديس أوغسطينوس يقصد المعمودية
الروحانية بالنسبة للصّ وليس معمودية الماء.

كذلك
فالطفل المعمَّد إذا مات يكون قد نال المعمودية، وأمَّا تحوُّل القلب فالله نفسه
يمنحه إيَّاه، لذلك فهو ينال الخلاص. والقديس أوغسطينوس يربط إعطاء الروح القدس في
طقس المعمودية بوضع اليد الذي يتم بعد المعمودية، وبهذا ينال حتى الأطفال الروح
القدس
([180]). وقد علَّم
القديس أوغسطينوس أن المعمودية تتوازى مع الختان اليهودي الذي يُجرى في اليوم
الثامن الذي يسبق ويصوِّر قيامة المسيح في اليوم الثامن (الأحد) وتجديدنا في
المسيح القائم
([181]). لذلك
نستطيع أن نقول إن الختانة في القديم قُدِّرت
في العهد لتشير إلى المعمودية
([182])، اللازمة للمسيحية كما الختان لإسرائيل.

وبعكس
ما يقول القديس كبريانوس، فهو يعتبر المعمودية باسم الثالوث معمودية صحيحة حتى ولو
مورست بواسطة إنسان غير مستحق
([183]).
فالمعمودية واحدة لا تتكرَّر. وهي الختم الذي ينطبع على المعمَّد بأثر لا يُمحى.

ويقول
القديس أوغسطينوس إن الأطفال بالرغم من أنهم لا يفهمون الحق للموافقة عليه، لكن مع
ذلك يُقال عنهم إنهم يؤمنون إن هم اقتبلوا سر المعمودية الذي هو سر الإيمان
([184]).

وقد
أخذ برأيه مجمع ترنت (القانون 13) إذ يقرِّر أن الأطفال الصغار بالرغم من أنهم لا
يمتلكون الإيمان الحقيقي إلاَّ أنهم بعد حصولهم على العماد يُحسبون مع المؤمنين!

وبعقيدة
القديس أوغسطينوس هذه انتشر عماد الأطفال في الكنيسة.

 

(ب) طقس
المعمودية عند الآباء بأجمعهم

حسب
خطوات قانون التعميد
([185])

1- جحد الشيطان والتعهُّد بالالتصاق بالمسيح والاعتراف
بقانون الإيمان
([186])

يُلاحَظ
أن هذا الترتيب صحيح حيث يأتي في قانون التعميد جحد الشيطان والدهن بالزيت لإخراج
الشياطين قبل النزول في الماء والعماد. فكان الطقس الجاري أن أثناء ما يكون الكاهن
مشغولاً بدهن الموعوظين وجحد الشيطان، أنه يذهب الأسقف ويصلِّي على ماء المعمودية
إعداداً لنزول الموعوظين بعد جحد الشيطان مباشرة للعماد.

ثلاثة أمور مطلوبة من الموعوظ: النطق بصيغة
رسمية لجحد الشيطان، ثمَّ الاعتراف بالإيمان بحسب قانون الإيمان المُسلَّم، والأمر
الثالث التعهُّد بأن يحيا الموعوظ في طاعة المسيح تحت قوانين الكنيسة والديانة
المسيحية. على أن هذه الأمور الثلاثة كان الموعوظون قد أدُّوها علناً في صحن
الكنيسة والأسقف واضع يده عليهم في بداية تسجيل أسمائهم، ولكن كان عليهم أن يعودوا
ويكرِّروها أيضاً أمام الشعب عند مجيئهم للعماد.

وصيغة
هذا الجحد كتبتها تسجيلات: “المراسيم الرسولية
Apostolic Constitutions” وهي هكذا مترجمة عن الأصل اليوناني:

+
[أنا أجحد الشيطان وكل أعماله وكل تعظُّماته وكل خدمته وملائكته واختراعاته وكل ما
يتعلَّق به ويخضع له.]
([187])

والقديس كبريانوس يضيف: [جحد العالم] ويضم
الشيطان والعالم معاً
. وأيضاً عند القديس أمبروسيوس حيث يجعل الجحد هكذا:

+
[أنت جحدت الشيطان وأعماله والعالم وكل عظمته ومسرَّاته.]
([188])

وأيضاً القديس جيروم:

+
[أنا أجحدك أيها الشيطان وكل تعظُّماتك وكل شرورك وعالمك الكائن في الإثم.]
([189])

وبعض الآباء يضيف ألعاب الشيطان البهلوانية
والمشاهد والمسارح.

والعلاَّمة
ترتليان([190])
يذكر أهم أعمال الشيطان وهي عبادة الأوثان.

ولكن الأمر الذي يُحزن قلب الإنسان أن أعمال
الشيطان أيام عبادة الأوثان لم تكن بهذا القدر الهائل كما هي في هذه الأيام التي
نعيشها وفي جميع أنحاء العالم، بل دخلت البيوت عن طريق التلفزيونات بصورة
فاحشة خرَّبت تربية الأجيال.

وفي
أيام القديس كيرلس الأُورشليمي حينما بدأت عبادة الأوثان تتراجع كانت لا تزال
أعمال الشيطان تملأ البلاد.

وعلى
كل حال فإن بقايا جحد الشيطان لا تزال ضرورة في كل أنحاء العالم.

على أننا نقرأ في رسائل بولس الرسول نصحاً يشير
إلى هذا التعهُّد العلني في المعمودية، إذ يقول لتلميذه تيموثاوس: “جاهد جهاد
الإيمان الحسن، وأمسِك بالحياة الأبدية التي إليها دُعيتَ أيضاً، واعترفت
الاعتراف الحسن أمام شهودٍ كثيرين”
(1تي 12: 6)

وظلَّت
هذه الشهادة قائمة في الكنيسة يتكلَّم عنها جميع الآباء. ويعتبرها القديس باسيليوس
من بين الطقوس السريَّة المسلَّمة في الكنيسة من تقليد الرسل. ويذكرها ق. بطرس في
رسائله عند قوله: “سؤال ضمير صالح نحو الله” (1بط 21: 3). هذا السؤال
يسأله الأسقف للذي يتعمَّد ليعترف من جهة ضميره نحو الله.

كما يُلاحَظ بخصوص هذا الجحد أنه عند بناء المعموديات في
الكنائس خصَّصوا غرفة ملاصقة
لبيت المعمودية خاصة لجحد الشيطان وصارت عادة
في جميع الكنائس. وكان يقف الموعوظون ووجوههم متجهة نحو الغرب وحينئذ يجحدون
الشيطان بحركات وأوضاع توضّح كراهية ومقاومة الشيطان.

والقديس كيرلس الأُورشليمي في عظاته عن
المعمودية للمستنيرين يصف ذلك:

+
[تأتون إلى الغرفة المجاورة للمعمودية وتتجهون نحو الغرب وتعطون الأمر لجحد
الشيطان بمد أذرعكم نحوه بصورة من يتحدَّاه كأنه حاضر.]
([191])

ثمَّ يستطرد في نفس العظة القديس كيرلس
الأُورشليمي ويقول:

+
[نحو الغرب لأنه اتجاه الظلمة والشيطان لأنه هو نفسه ظلام فسلطانه أيضاً على
الظلام. لهذا السبب أنتم تتجهون ناحية الغرب عندما تجحدون ملك الظلمة والرعب.]
([192])

أمَّا القديس جيروم فيقول:

+ [في الأسرار الكنسية (أقصد المعمودية) نحن نجحد أولاً
متجهين ناحية الغرب ذلك الذي انفك
عنا كما انفكت عنا خطايانا، ثمَّ ندور ناحية الشرق
ونتعهَّد للرب شمس البر أن ندوم في
خدمته.]
([193])

وأيضاً القديس أمبروسيوس وهو يخاطب المعمَّدين
الجدد:

+
[عندما دخلتم بيت المعمودية وواجهتم عدوّكم الشيطان الذي جحدتموه، اتجهتم مرَّة
أخرى نحو الشرق، لأن الذي يجحد الشيطان يصير له الحق أن يتجَّه ناحية المسيح.]
([194])

وأيضاً القديس غريغوريوس النزينزي يصف ذلك:

+
[وسوف تعلم من الكلام والإجراءات العملية كليهما أنك جحدت كل القوة الأثيمة (التي
للشيطان) والتصقت بكل كيانك باللاهوت.]
([195])

ويصف كتاب منسوب لديونيسيوس الأريوباغي
كيف كان المتقدِّمون للمعمودية يقفون عرايا، وباتجاههم نحو الغرب وبأذرعهم ممتدة
إلى فوق كلها احتجاجات ضد الشيطان، ويصفِّقون بأيديهم بنوع من التحدّي والمقارعة
وحتى البصق احتقاراً وتحدِّياً
([196]).

وعلمنا
أن جحد الشيطان يتكرَّر ثلاث مرَّات، وبعدها يتجهون ناحية الشرق مرفوعي الرأس
والأيدي إلى فوق ليدخلوا في عهد المسيح. والثلاث مرَّات لمقابلة الثالوث الأقدس
الذي أصبحوا له، وأصبح جحدهم للشيطان يقابله تعهُّدهم أمام المسيح.

وبعدها
يقدِّمون عهد الطاعة للمسيح بأن يسلِّمون أنفسهم لقضاء المسيح والسلوك في تدبيره.
وكان هذا هو أهم الأشياء المفروضة عليهم قبل أن يتقدَّموا للتجديد.

والبعض
مثل ق. أوغسطينوس يطالبون بضرورة الأعمال الصالحة على مستوى المطالبة بالإيمان حتى
يصيروا مسيحيين.

والقديس يوستينوس يشرح إجراءات
المعمودية ببساطة قائلاً إن المعمودية لا تعطى إلاَّ للذين يضيفون على اعترافهم
بالإيمان تعهُّداً وقسماً بأنهم سيعيشون بمقضى فرائض المسيح
([197]).

وهذا
يتم بعد جحد الشيطان مباشرة وكخطوة ملازمة له.

فبعد
أن يقول طالب المعمودية [أجحدك أيها الشيطان
‘Apot£ssoma… soi, Satan©] يقول في صيغة مقابلة وهو يتجه نحو الشرق: [وأنضم لك (أو ألتصق
بك وأتعهَّد) أيُّها المسيح
Sust£ssoma… soi, Cristš].

ويشترك في ذكر هذه الكلمات وبنفس الصيغة
كل من ذهبي الفم
([198]) والقديس
باسيليوس
([199])،
والقديس كيرلس الإسكندري
([200])والمراسيم الرسولية([201]).

والقديس
أمبروسيوس يُسمِّي جحد الشيطان والتعهُّد للمسيح وعداً وارتباطاً أو ضمانة بكتابة
خط يد، أو يسمِّيها قيداً وميثاقاً يُعطَى لله ليُسجَّل في سجلات السماء، لأنه عهد
يُبرم في حضرة الكهنة والملائكة كشهود له
([202]).

وفي مكان آخر يكتب القديس أمبروسيوس:

+ [إنه مسجَّل ليس في مخلفات الأموات ولكن
في كتاب الحياة.]
([203])

والقديس أوغسطينوس يسمِّي جحد الشيطان
والتعهُّد للمسيح:

+
[اعترافاً أمام محكمة الملائكة.]
([204])

ويقول أيضاً:

+ [أمَّا أسماء
الذين
علَّموا الموعوظين فتُكتب في كتاب الحياة ليس بإنسان ولكن بالقوات السمائية.]([205])

والقديس جيروم يدعو هذا التعهُّد:

+
[عهداً يُصنع مع شمس البر كوعد طاعة للمسيح.]
([206])

غير
أن في جحد الشيطان تكون وجوههم إلى الغرب، ولكن عند اتجاههم لعمل العهد مع المسيح
يدورون نحو الشرق رمز النور الذي استلموه من شمس البر بالتحاقهم في خدمته.

أمَّا
اتجاههم ناحية الشرق عندما يقدِّمون اعترافهم للطاعة للمسيح، فيذكره كل من
القديسين: أمبروسيوس وغريغوريوس النزينزي وكيرلس الأورشليمي وديونيسيوس، ويقدِّمون
لذلك سببين، الأول يقوله القديس كيرلس:

+
[لأن بمجرَّد جحدك للشيطان، ينفتح في الحال أمامك باب فردوس الله الذي غرسه شرقاً،
الذي طُرد منه آدم أول جنسنا بسبب عصيانه.]
([207])

وأمَّا
السبب الثاني فهو لأن الشرق موضع الشمس والمسيح هو شمس البر (مل 2: 4). ويقول في
ذلك القديس أمبروسيوس:

+
[بعد ذلك اتجهتم نحو الشرق لأن مَنْ يجحد الشيطان يتجه في الحال نحو المسيح
ويعاينه وجهاً لوجه.]
([208])

 

الاعتراف
بالإيمان:

ومع هذا التعهُّد بالطاعة يقدِّم كل واحد من الذين سيتعمَّدون
اعترافه بالإيمان، ويكون دائماً بنفس كلمات قانون الإيمان الذي تسلِّمته كل كنيسة
للمعمَّدين ليحفظوه. وكانوا معتادين أن يردِّدوه خاصة مع أنفسهم كموعوظين حتى
يحفظوه ليقولوه بعد ذلك علناً في الكنيسة بعد أن يكونوا قد أعطوا أسماءهم لتُسجَّل
للمعمودية. وكان عليهم أن يقوموا بتقديم هذا الاعتراف رسمياً عند المعمودية.
ويجاوبون على الأسئلة التي تُطرح عليهم بخصوص أجزاء من قانون الإيمان يختارها
الكهنة. وفي زمن القديس أوغسطينوس كان البعض يختزلون الاعتراف بالإيمان إلى جملة
واحدة: “أنا أومن أن يسوع هو ابن الله” متخذين مَثَل القديس فيلبُّس في تعميد خصي
الملكة كنداكة كما ورد في سفر الأعمال
(37:
8)، والقول الذي قاله بولس الرسول إلى أهل كورنثوس: ” لأني لم أعزم أن
أعرف شيئاً بينكم إلاَّ يسوع المسيح وإياهُ مصلوباً”
(1كو 2: 2). ولكن
الكنيسة لم تكتفِ بذلك قط، بل كانت تباشر شرح بقية مفردات قانون الإيمان مع
الأسئلة والإجابة عليها: بخصوص الروح القدس والكنيسة المقدَّسة، وغفران الخطايا
وقيامة الأموات، وتجسُّد المسيح، وآلامه حتى الموت على الصليب، ودفنه وقيامته في
اليوم الثالث، وصعوده إلى السموات وجلوسه عن يمين الآب. كل هذه كان محتَّماً أن
يتعلَّموها، ولم تحذف الكنيسة أي شيء منها. وحتى في حالات المرضى وهم يعتمدون على
سرير الموت فإذا لم يكونوا قادرين، كان ذووهم يقولون ويردِّدون عنهم حتى يكمِّلوا
كل بنود قانون الإيمان. وسار هذا بكل دقة وحرفية منذ أيام الرسل. وعاد القديس
أوغسطينوس يقول إن عماد فيلبُّس المبشِّر للخصي لم يُسجَّل في الكتاب بأكمله ولكن
باختصار، ولكن معموديته أخذت وضعها الرسمي الكامل
([209]).
وجميع القديسين ردَّدوا نفس الكلام الحادث في ما قبلهم وفي زمانهم بنفس العقيدة.
والقديس يوستين يقول إن الإقناع بحقائق الإيمان وبصحة التعاليم المسيحية كان أول
شرط في قبول الموعوظين: [إن الذين يقتنعون ويؤمنون بأن التعاليم التي قلناها هي
الحق ويتعهَّدون بالحياة بمقتضاها، نعلِّمهم..]
([210])

والقديس كبريانوس يؤكِّد أهمية قانون
الإيمان في المعمودية، ويذكر بوضوح الأسئلة التي كانت تُسأل في ما يخص بعض بنود الإيمان
مثل:

+
[هل يؤمنون بالحياة الأبدية وبغفران الخطايا في الكنيسة المقدَّسة؟]
([211])

التي
كانت باستمرار هي البنود الأخيرة في قانون الإيمان.

وترتليان يوضِّح أركان قانون الإيمان في ما
يخص الآب والابن والروح القدس والكنيسة المقدَّسة كأهم الأسئلة التي يُسأل بها
المعتمد
([212]).
كذلك يوسابيوس يتلو كلمات قانون الإيمان في قيصرية قائلاً إنه نفس القانون الذي
اعتمد هو بمقتضاه([213]).
وقد استُخدم قانون مجمع نيقية في كل كنائس الشرق.

وكان
من السهل أن نسجِّل هنا أقوال الآباء وشهاداتهم: أمبروسيوس، جيروم، كيرلس
الإسكندري، كيرلس الأُورشليمي، يوحنا ذهبي الفم، غريغوريوس النزينزي، باسيليوس،
إبيفانيوس، وكتاب المراسيم الرسولية، ولكن يتحتَّم أن نثق بالحقيقة أن كل
الآباء قديماً كانوا يُعمِّدون بمقتضى قانون الإيمان بالكامل دون أي استثناء.

وكانت
اعترافات الإيمان تعمل جهاراً في الكنيسة وسط الشعب بناءً على التعليمات الرسولية.
تماماً كما يُسجّل عن تيموثاوس بقلم القديس بولس:

+
“جاهد جهاد الإيمان الحسن، وأمسِك بالحياة الأبدية التي إليها دُعيتَ أيضاً، واعترفت
الاعتراف الحسن أمام شهودٍ كثيرين..
أن تحفظ الوصية بلا دنس ولا لوم إلى ظهور
ربنا يسوع المسيح” (1تي 6: 12و14)

وهذا
الاعتراف الحسن هو الاعتراف بالإيمان
الذي قدَّمه تيموثاوس في
المعمودية بشهود كثيرين،
وهو نفس بنود الاعتراف الذي صار سارياً في الكنيسة في
كل العصور. والقديس أفرآم السرياني يعلِّق على هذه الآية (1تي 12: 614)
بأنها تشير إلى الاعتراف العلني بالإيمان الذي يتم في المعمودية أمام شهود
كثيرين
([214]).

ويخبرنا
القديس أوغسطينوس عن طقس اعتراف المعمودية الذي كان سارياً في روما في أيامه:

+
[كان المزمعون أن يتقدَّموا إلى النعمة (المعمودية) في روما يُطالَبُون بأن
يقدِّموا اعترافهم بالإيمان علناً في مكان مرتفع أمام جميع الشعب المؤمن بكلمات
محفوظة، ولكن الكهنة عرضوا على الخطيب فكتورينوس أن يقدِّم اعترافه على انفراد كما
كانت العادة بالنسبة للأشخاص المعرَّضين أن يقشعروا من الخجل، ولكنه صمَّم أن
يقدِّم اعترافه الخلاصي علناً في محضر من الجماعة المقدَّسة كلها.]
([215])

 

أيدي
وعيون مرفوعة نحو السماء:

ومن
ضمن طقوس الاعتراف أن يكون المتقدِّمون للمعمودية ناظرين نحو الشرق وبأيدي وعيون
مرفوعة نحو السماء، وكأنهم على صلة بالمسيح الذي سيدخلون في العهد معه، وربّهم
الجالس على عرش مجده في السماء. فكما جحدوا الشيطان بأذرع ممدودة محتجَّة
ومتوعِّدة، هنا على العكس يخاطبون المسيح بخضوع وتوسُّل وتودُّد بأيدي مبسوطة
للأخذ باستعداد أن تعانقه.

يكرَّر
ثلاث مرَّات:

ويكرَّر
الاعتراف ثلاث مرَّات
كما رأينا ذلك أيضاً في جحد الشيطان.
والقديس كيرلس الإسكندري يقول في شرحه للآيات (يو 21: 1517) حيث
يسأل الرب ق. بطرس ثلاث مرَّات: ” يا سمعان بن يونا أتحبني؟” ويجيب
القديس بطرس ثلاث مرَّات: “
يا رب أنت تعرف أني أحبك” [لذلك صارت
العادة في الكنائس أن تطلب تكرار الاعتراف بالمسيح ثلاث مرَّات من الذين أحبوه
وقرَّروا أن يتقدَّموا إلى المعمودية المقدَّسة.]
([216])

ويقول القديس أمبروسيوس:

+
[هكذا في الأسرار (يعني المعمودية) يتكرَّر السؤال والجواب إلى ثلاث مرَّات، ولا
يتطهَّر أحد (أي لا يُعمَّد) إن لم يكرِّر اعترافه بالإيمان ثلاث مرَّات، وهكذا
أيضاً بطرس سُئل ثلاث مرَّات في الإنجيل هل هو يحب الرب، حتى بمجاوبته ثلاث مرَّات
تنفك عنه قيود الظلمة التي قيَّد نفسه بها بإنكاره الرب.]
([217])

والقديس أمبروسيوس في موضع آخر يقول:

+
[لقد سُئلت: أتؤمن بالله الآب الضابط الكل؟ أجبتَ: أومن، ثمَّ غطست في الماء أي
دُفنتَ. ثُمَّ سُئلت أيضاً: أتؤمن بربنا يسوع المسيح وبصليبه؟ فأجبتَ: أومن، وغطست
أيضاً. وهكذا دُفنت مع المسيح. لكن الذي يُدفن مع المسيح يقوم أيضاً مع المسيح.
ثمَّ سُئلت مرَّة ثالثة: أتؤمن بالروح القدس؟ فأجبتَ أومن وغطست مرَّة ثالثة،
وهكذا بالاعتراف المكرَّر ثلاث مرَّات غُفرت خطايا حياتك السابقة الكثيرة.]
([218])

ويكرِّر بعد ذلك تشبيه ذلك ببطرس الرسول الذي بسؤاله
ومجاوبته ثلاث مرَّات غُفرت خطية إنكاره.

 

ويكتبون
ذلك بخط أيديهم:

وهناك
مصادر تؤكِّد أن بعد إعطاء الاعتراف بالإيمان، يعودون ويسجِّلونه بخط أيديهم إن
كانوا قادرين أن يصنعوا هذا في سجلات الكنيسة. وقد ذُكر هذا في بعض المكتوبات
القديمة. فمثلاً القديس غريغوريوس النزينزي يقول عندما كان يحض المعمَّدين على أن
يظلوا ثابتين على الإيمان الذي اعترفوا به في المعمودية بقوله:

+
[إذا أراد أحدهم أن يستولي على أفكاركم (لكي تكتبوا أسماءكم عنده)، قولوا له إننا
قد سجَّلنا اعترافنا وما كتبناه قد كتبناه.]
([219])

والقديس أمبروسيوس يشير إلى ذلك عندما يقول
للمعمَّدين:

+
[إن كتاب خط يدكم قد تسجَّل ليس في الأرض فقط بل وفي السماء أيضاً (..) لأنه إن
كان جسد المسيح ههنا فالملائكة أيضاً حاضرون.]
([220])

والقديس أوغسطينوس يقول:

+
[إن أسماء الذين قدَّموا اعترافاتهم على المعمودية قد كُتبت في كتاب الحياة ليس
بواسطة بشر فقط بل بقوات سمائية.]
([221])

قيمة
هذه المبادرات في توثيق حاسة المعمَّدين ليكونوا ثابتين في تعهُّدهم:

من
كل ما سجَّلنا يتضح أن تدبير الكنيسة في هذه الخطوات هو لكي تجعل المعمَّدين ذوي
حساسية تلقائية وقوية لطبيعة الديانة المسيحية، التي لا تسمح لأي موعوظ الدخول إلى
الكنيسة والالتصاق بالمؤمنين بدون هذه الإجراءات الرسمية، مع الإحساس بالمسئولية
تجاه الإيمان بالمسيح وطاعته التي اعترف من أجلها بالفم والكتابة، ليس فقط أمام
الناس بل بحضرة الله والملائكة والقديسين. كان هذا هو الإنجاز الأعظم الذي مارسته
الكنيسة لحسابهم ليكونوا ذا فاعلية في حياتهم. الأمر الذي تكلَّم عنه ذهبي الفم
كثيراً موصياً المعمَّدين الجدد أن يكونوا دائماً متذكّرين عهودهم وهي في مخيلتهم،
لكي يستخدموها تلقائياً وتكون دائماً كسلاح لهم ضد كل التجارب والمحاربات. كذلك
يوبِّخ المسيحيين الذين يضعون القلادات والأحجبة في أجسادهم اتقاءً للشرور
والأمراض: [هل بعد الصليب وموت ربنا نعود ونضع ثقتنا في طواطم وثنية؟ أم تجهلون
المعجزات التي صنعها الصليب؟ كيف أنه أبطل الموت وأطفأ الخطية وأفرغ الجحيم ممن
كانوا فيه وحل قوة الشيطان؟ فهل لم يعد الصليب نافعاً ليشفي من مرض جسدي؟]
([222])

 

2-
المسحة بزيت الأكسورسزم (طرد الشياطين)

وعلامة
الصليب قبل المعمودية

وهي
المسحة التي تسبق المعمودية وهي تُعمل إعداداً للمعمودية، وتُجرى بعد الاعتراف
بالإيمان مباشرة بحسب ما جاء في وثيقة المراسيم الرسولية. ولكن القديس كيرلس
الأُورشليمي يضعها بين جحد الشيطان والاعتراف بالمسيح. وأمَّا القديس يوستين
الشهيد فلم يذكرها ولا ترتليان، لأن المسحة التي يذكرها ترتليان في عظاته هي
المسحة الرسمية التي تكون بعد المعمودية، أي المسحة بدهن الميرون المقدَّس للتثبيت
مع وضع اليد لكي يستلموا الروح القدس. وهذا يكشف أن مسحة الزيت التي قبل المعمودية هي إلى حدٍّ ما أحدث في دخولها
طقس المعمودية من مسحة الميرون بعد
المعمودية.

والقديسون
بعد ذلك كانوا واضحين جدًّا في ذكر مسحتين: واحدة قبل المعمودية وهي مسحة
زيت الأكسورسزم، أي لطرد الأرواح النجسة، وهي بدهن أعضاء الجسم كله. وهذه المسحة
الأُولى التي لطرد الشياطين تسمَّى مسحة الزيت المستيكي
cr…sin mustikoà
™la…ou
، والمسحة الثانية بعد
العماد وتسمَّى مسحة الميرون
cr…sin mÚrou أو cr…sma
وهي هبة لأن فيها بوضع اليد يستلم المعمَّد بعد التعميد الروح القدس. وفي البداية
كان الأسقف هو الذي يُجري المسحتين، وكتاب المراسيم الرسولية يعطينا نص التكريس
المستخدم بواسطة الأسقف، فقبل المعمودية يستخدم زيت الزيتون العادي، وينبغي على
الأسقف:

+
[أن يدعو على الزيت باسم الله الآب غير المبتدئ أبي المسيح وملك كل الطبائع
العاقلة، لكي يقدِّس الزيت باسم الرب يسوع ويمنحه نعمة روحية، وقوة مؤثِّرة حتى
يكون نافعاً لمغفرة الخطايا ويعد المعمَّدين لتقديم اعترافهم، حتى أن الذي يُدهن
به يصير خالياً من كل عدم تقوى ويستحق قبول المعمودية حسب أمر الابن الوحيد.]
([223])

والذي
يقوم بتكريس هذا الزيت هم الأساقفة فقط في كل قوانين المجامع المقدَّسة، وسنرى ذلك
بالأكثر حينما نأتي إلى ذكر تكريس زيت مسحة الميرون.

والزيت
الأول يُسمَّى في كتاب المراسيم الرسولية: الزيت السرائري
mystical oil والمسحة الثانية التي بعد العماد وهي للتثبيت تسمَّى المسحة
السرائرية
mystical chrism. وكان مَنْ يدهن بزيت إخراج الشياطين المُصلَّى عليه إمَّا أسقف
موهوب أو كاهن أو حتى شمَّاس مقتدر في إخراج الأرواح الشريرة أو حتى واحد من عامة
الشعب يُرسم خصيصاً لإخراج الشياطين- فكان بمجرَّد الصلاة على الموعوظ فإن كان به
لمسة شيطان يخرج منه الشيطان بصراخ. فكان طقس جحد الشيطان عملاً هاماً وخطيراً
ومخفياً يهابه كافة الناس.

والقديس كيرلس الأُورشليمي يتكلَّم عن المسحة
الأولى فيقول:

+
[بعدما خلعتم ملابسكم دُهنتم ابتداء من شعر رؤوسكم حتى أقدامكم بهذا الزيت الذي
للاكسورسزم أي لإخراج الأرواح النجسة- حتى أنكم بذلك صرتم أهلاً أن تشتركوا في
الزيتونة الطيبة فصرتم شركاء في دسم الزيتونة الحقيقية. لذلك فإن زيت الأكسورسزم
كان رمزاً لاشتراككم في دسم المسيح. وأيضاً كما أن النفخ على من به روح نجس بواسطة
أشخاص قديسين واستدعاء اسم الله عليه يكونان كلهيب نار محرقة تطرد الشياطين لتفرّ
منه، هكذا أيضاً زيت الأكسورسزم هذا باستدعاء الله وبالصلاة قد اكتسب هذه القوة،
ليس فقط ليحرق ويطرد كل آثار الخطية، بل ليطرد أيضاً كل قوات الشر غير المنظورة.]
([224])

والقديس أمبروسيوس يقارن ذلك بدهن جسم المصارعين
قبل أن يدخلوا حلبة الصراع:

+
[أنت أتيت إلى المعمودية.. ومُسحت كبطلٍ للمسيح لتحارب حرب العالم.]
([225])

وهناك نص منسوب إلى يوستين الشهيد يقول
مميِّزاً بين المسحتين:

+
[المعمَّدون يُمسحون أولاً بالزيت القديم حتى يكونوا مسحاء الله. ولكنهم بعد ذلك
يُمسحون بالميرون الكثير الثمن بعد المعمودية، تذكاراً لذلك الذي اعتبر دهنه بطيب
الناردين تكفيناً له!]
([226])

وشهادة ذهبي الفم لهذه المسحة:

+
[إن المتقدِّم للمعمودية يُمسح كما يُمسح المصارعون قبل أن يدخلوا حلبة المصارعة،
فهو لا يُمسح على الرأس فقط مثل كهنة العهد القديم ولكن بفيض أكثر. فإن الكاهن
قديماً كان يُمسح فقط على الرأس والأُذن اليمنى واليد

(لا 8: 23و24)
ليتعلَّم الطاعة والأعمال الصالحة، ولكن هذا (المعمَّد)
يُمسح على كل جسمه لأنه لم يأتِ فقط ليتعلَّم بل ليصارع ويدرِّب نفسه وينتقل إلى
خليقة أخرى!]
([227])

علامة
الصليب (وليس الختم):

الرشم
بعلامة الصليب هنا قبل المعمودية هو غير علامة الصليب الرسمية التي يأخذها
المعمَّد على جبهته بيد الأسقف نفسه في نهاية المعمودية، وتُسمَّى الختم
sfrag…j.

والكتاب المنسوب لديونيسيوس الأريوباغي يقول:

+
[الأسقف يبتدئ بأن يرشم (المعمَّد بعلامة الصليب) ثلاث مرَّات ثمَّ يرسله للكهنة
لكي يدهنوا جسمه كله. بينما يذهب الأسقف إلى المعمودية ليقدِّس الماء.]
([228])

نكتفي
بهذا لأن كثيراً من شهادات الآباء جاءت متداخلة بين المسحة الأُولى والمسحة
الثانية وسوف نفرد مقالة خاصة للمسحة الثانية: مسحة التثبيت أي الختم بعد العماد.

 

3-
تقديس ماء المعمودية للتعميد

بعد
انتهاء الأسقف من مسحة زيت الأكسورسزم واعتراف المعمَّدين وجحدهم للشيطان وتوثيق
العهد مع المسيح، يترك المعمَّدين بيد الكهنة ويذهب هو لبيت المعمودية ليكرِّس
ويقدِّس ماء المعمودية ويجعله جاهزاً للميلاد الثاني، كما قرأنا في الكتاب المنسوب
لديونيسيوس:

+
[بينما يكمِّل الكهنة مسح المعمَّد على جميع أجزاء جسمه يذهب الأسقف ويأتي إلى “أم
التبني ”
™pˆ t¾n mhtšra tÁj
uƒoqes…aj
(هكذا يدعون جرن
المعمودية)، وبواسطة الاستدعاء يُقدِّس الماء وهو يصب من دهن الميرون على هيئة
صليب.]
([229])

والاستدعاء على الماء هو لتكريسه بالصلاة
بالاسم، ويذكره ترتليان:

+
[يُحسب الماء أنه سر التقديس بالدعاء باسم الله عليه، فالروح ينزل مباشرة من
السماء ويستقر على الماء يقدِّسه بنفسه والماء يتقبَّل طبيعة قوة التقديس.]
([230])

والقديس كبريانوس يُعلن:

+
[إن الماء يجب أن يتقدَّس أولاً بواسطة الأسقف لتكون فيه القدرة على أن يغسل
الخطايا بواسطة المعمودية.]
([231])

كذلك مجمع قرطاجنة المعاصر للقديس كبريانوس
يقرِّر:

+
[إن الماء يتقدَّس بصلاة الكاهن ليغسل الخطية.]
([232])

والقديس أوغسطينوس يذكر تقديس الماء بواسطة
الاستدعاء:

+
[إن الاستدعاء يُستخدم سواء لتكريس الماء في جرن المعمودية أو لتقديس الزيت للمسحة
أو في الإفخارستيا أو في وضع اليد. وتصبح الأسرار سارية المفعول بالاستدعاء حتى
وإن كان الذي يباشرها إنساناً خاطئاً.]
([233])

صلاة قديمة يقدِّمها كاتب المراسيم الرسولية
بعنوان: “صلاة شكر تُقال على الماء السرِّي (مستيكي)”:

+
[فالأسقف يبارك ويمجِّد الرب الإله القادر على كل شيء أبا الابن الوحيد، يعطيه
الشكر لأنه أرسل ابنه ليتجسَّد من أجلنا حتى يخلِّصنا، واحتمل التأنُّس صائراً
مطيعاً في كل شيء، كارزاً بالملكوت وغفران الخطايا وقيامة الأموات. ثمَّ يقدِّم
العبادة اللائقة للابن الوحيد الإله معطياً الشكر من أجله للآب لأنه احتمل أن يموت
من أجل الجميع على الصليب تاركاً لنا مثالاً لهذا الموت في معمودية الميلاد
الجديد. ثمَّ إنه يمجِّد الله سيد الكل لأنه في اسم المسيح وبالروح القدس لم يرذل
جنس البشر بل أظهر في الأزمنة المختلفة عنايته المتنوعة من نحوناً. فأولاً أعطى
آدم سكنى الفردوس ليتنعَّم، ثمَّ أعطاه الوصية بسبب عنايته به، ولمَّا أخطأ طرده
كما استحق، ولكن بحسب صلاحه لم يطرحه نهائياً ولكنه أدَّب ذريته بوسائل كثيرة.
وأخيراً في نهاية الدهر أرسل ابنه ليكون إنساناً من أجل البشر وأخذ على نفسه كل
مشاعر الإنسان ما عدا الخطية وحدها. ثمَّ بعد هذا الشكر يطلب الكاهن من الله من
أجل المعمودية فيقول:

انظر
من السماء وقدِّس هذا الماء. أعطه النعمة والقوة حتى أن كل مَنْ يعتمد فيه بحسب
وصية مسيحك يُحسب مصلوباً مع المسيح ومائتاً معه ومدفوناً معه وقائماً معه للتبني
الذي بواسطته حتى إذ يموت للخطية يحيا للبر.]
([234])

استخدام
الزيت ورسم الصليب في تقديس الماء:

ومع
صلاة التكريس للماء هذه كانت تُستخدم إشارة الصليب ليس على الأشخاص الذين
سيُعمَّدون- كما سبق- ولكن من أجل تكريس الماء، وهذا يصفه القديس أوغسطينوس:

+
[إن ماء المعمودية كان يرسم عليه رسم صليب المسيح.]
([235])

الأثر
والتحوُّل في ماء المعمودية بعد تقديسه:

وقد
لاحظت في أقوال الآباء اعتقادهم بأن ما يحدث لماء المعمودية بعد التقديس هو نفسه
الذي يحدث في تقديس الخبز والخمر في الإفخارستيا، لأنهم لا يقولون فقط بحلول الروح
القدس على الماء، ولكنهم يعتقدون بحضور دم المسيح حضوراً مستيكياً في الماء بعد
التقديس.

فالقديسان غريغوريوس النزينزي([236])
وباسيليوس الكبير([237])
يقولان عن ماء المعمودية:

+
[ههنا أعظم من الهيكل وأعظم من سليمان وأعظم من يونان] أي المسيح بحضوره المستيكي
وقوة دمه.

والقديس أوغسطينوس يقول:

+
[البحر الأحمر كان إشارة إلى معمودية المسيح. ولكن كيف تُحسب معمودية المسيح حمراء
إلاَّ لكونها تقدَّست بدم المسيح؟!]
([238])

والقديس جيروم يشرح قول إشعياء النبي: ” اغتسلوا
تنقَّوا..”
(إش 16: 1) بأنه يعني:

+
[اعتمدوا في دمي بمعمودية الميلاد الثاني.]
([239])

والقديس كيرلس الإسكندري يقول في تعليقه على
نجاة بني إسرائيل بدم خروف الفصح:

+
[نحن في المعمودية نصير شركاء للحَمَل الروحاني.]
([240])

كذلك القديس غريغوريوس النزينزي يقول:

+
[إن كنت تتقوَّى بهذا الختم وتتسلَّح بأفضل وأقوى المعونات بمسح جسمك ونفسك كليهما
بهذه المسحة، كما تمَّ لبني إسرائيل في القديم بدم الخروف البكر الذي حفظهم، فأي
شيء يمكن أن يضرك؟]
([241])

والقديس يوحنا ذهبي الفم يقول للذين
سيُعمَّدون:

+ [إنكم ستأخذون الحلة الملوكية! إنكم ستلبسون الثوب
البرفيري الأحمر المغموس في دم السيد!]
([242])

وأيضاً يقول للذي سيقبل العماد:

+
[إنك في الحال ستأخذ الرب داخلك، ستتحد بجسده، ستلتصق بذلك الجسد الكائن في العلا
حيث لا يقرب منك شيطان.]
([243])

والقديس كيرلس الإسكندري يقول:

+
[بقوة الروح القدس فإن الماء الطبيعي المحسوس “يتحوَّل في صميم طبيعته
¢nastoiceioàtai” إلى قوة إلهية غير منطوق بها.]([244])

ويقول أيضاً القديس كيرلس الإسكندري بالتحوُّل Transelementation = metastoice…wsij بالنسبة لخبز وخمر الإفخارستيا. وهذا
الاصطلاح هو الذي أخذته الكنيسة وعلماء اللاهوت بعد ذلك ونطقوه
transubstantiation أي تحوُّل
الطبيعة وهو الحاصل في خبز وخمر الإفخارستيا المتحوِّلان بالتقديس إلى جسد المسيح
ودمه. فهو هنا يقول بتحوُّل طبيعة الماء لتكون طبيعة حيَّة إلهية لها القوة
والقدرة بالروح القدس والاستدعاء بالاسم لتُخرج بنين أي تلد، بمعنى أن يصير ماء
المعمودية له قدرة على الولادة بالروح القدس كما قال المسيح تماماً: ” تولدوا
من الماء والروح”.

والقديس كيرلس الأُورشليمي يقول هذا ولكن
بالنسبة للزيت أنه بعد الاستدعاء والتقديس يتحوَّل بمثل ما يتحوَّل الخبز
والخمر في الإفخارستيا:

+
[احترس من أن تحسب هذا الدهن دهناً عادياً، لأنه كما أن الخبز في الإفخارستيا بعد
استدعاء الروح القدس لم يعد بعد خبزاً ساذجاً بل جسداً للمسيح، هكذا هذا الدهن
(الميرون) المقدَّس بعد الاستدعاء لم يعد دهناً ساذجاً أو عادياً، بل قد صار عطية
المسيح، وقد صار قادراً بحلول الروح القدس عليه أن يمنح شركة في الطبيعة الإلهية.]
([245])

ويشترك معه القديس غريغوريوس النيسي بقول مشابه
لذلك([246]).

 

4-
العماد
([247])

العماد
بالانغمار أي الغطس =
Immersion، وكان هو الطقس الجاري منذ بدء المعمودية في كافة الكنائس، لأن
المعمودية طقسها وروحها وفلسفتها اللاهوتية هي الموت والدفن مع المسيح ثمَّ
القيامة مع المسيح، وذلك تعبيراً عن موتنا للخطية وقيامتنا للبر.

أمَّا
ضرورة خلع الملابس فهو تمَّ بحسب طقس وترتيب دهن زيت مسحة الأكسورسزم، حيث يلزم أن
يتعرَّى الموعوظ كاملاً للمسح بالزيت في كل أعضائه وذلك في غرفة مظلمة، التي فيها
يجحد الشيطان ويصنع عهداً مع المسيح للالتحاق في خدمته وطاعته والعمل بوصاياه.
فبعد مسحة الزيت لإخراج الشيطان وبعد جحد الشيطان والتعهُّد بالالتصاق بالمسيح،
يُقاد إلى جرن المعمودية حيث ينزل إلى الماء. وكان خلع ملابس الموعوظ لجحد الشيطان
ومسحة الزيت تعبيراً عن خلع جسم خطايا البشرية (كو 11: 2).

وإذ ينزل الموعوظ بعد مسحة الأكسورسزم إلى الماء يرشده
الكاهن كيف يغطس تحت الماء
برأسه
وكل جسمه،
وطبعاً تستثنى حالات المرض والعجز،
فكان يُستخدم دفق الماء على الرأس أو
الرش.

والقديس ذهبي الفم يتكلَّم عن العري قبل النزول
إلى المعمودية فيقول:

+
[يصيرون عرايا في حضرة الله مثل آدم، غير أن آدم تعرَّى لأنه أخطأ (أي تعرَّى من
النعمة)، أمَّا هنا (في المعمودية) فالإنسان يتعرَّى ليخلع عنه الخطايا التي
لبسها. فالأول خلع المجد الذي كان له، ولكن الآخر يخلع إنسانه العتيق بسهولة مثلما
يخلع ملابسه.]
([248])

والقديس أمبروسيوس يقول:

+
[يأتون عرايا إلى المعمودية كما جاءوا عرايا إلى العالم- فكيف يكون مُخجلاً أو غير
لائق أن الإنسان كما وُلِد عرياناً يُعمَّد عرياناً ثمَّ يذهب إلى السماء غنياً!]
([249])

والقديس كيرلس الأُورشليمي يقول:

+
[أول ما دخلتم إلى داخل المعمودية (غرفة داخلية) خلعتم ملابسكم، الذي هو رمز خلع
الإنسان العتيق مع أعماله، وهكذا وقفتم عرايا بشبه المسيح على الصليب الذي
بعريه” جرَّد الرياسات والسلاطين وأشهرهم جهاراً ظافراً بهم في الصليب”
(كو 15: 2)..
فأنتم صرتم عرايا في منظر الناس ولكن غير خجلين كالإنسان الأول آدم الذي كان
عرياناً في الفردوس (قبل السقوط) ولم يخجل.]
([250])

ولا
نجد في التقليد أي استثناء من هذا العري قبل العماد: رجالاً أو نساءً أو أطفالاً،
ما عدا المرضى. ولكن بالرغم من ذلك لم يكن في الكنائس عدم لياقة في هذا الأمر قط، لأن
الأعمال الجارية في المعمودية مقسَّمة قسماً للرجال وقسماً للنساء، كما أن معمودية
الرجال كانت في موعد خاص غير موعد النساء.

 

المعمودية
كانت بالغطس:

الأشخاص
الذين يذهبون إلى جرن المعمودية (وكان عادة عميقاً يمكن للرجل البالغ إذا طأطأ
رأسه قليلاً أن يكون مغموراً كله بالماء) كانوا ينزلون إلى جرن المعمودية. فإذا
أُعطوا الأمر بذلك يخفضون رؤوسهم لتكون تحت سطح الماء. وبولس الرسول تكلَّم كثيراً
عن الدفن في الماء لنشترك في دفن المسيح: “فدفنَّا معه بالمعمودية للموت حتى
كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة”
(رو 4: 6)، وأيضاً: “مدفونين معه في المعمودية التي فيها أُقمتم أيضاً معه
بإيمان عمل الله الذي أقامه من الأموات” (كو 12: 2). فكان هذا الإجراء بالدفن
في الماء تحت سطح الماء إلى لحظة، إجراءً رتَّبه الآباء الرسل وصار نظاماً عاماً
للكنيسة. وكاتب المراسيم الرسولية يقول:

+ [إن المعمودية تُعطَى في موت الرب يسوع (رو 3: 6
اعتمدنا لموته) والماء يماثل الدفن
معه.]
([251])

وذهبي الفم يتكلَّم عن الغطس كشركة في الدفن مع
المسيح بل وفي نزوله إلى الجحيم:

+
[حينما نعتمد وننغمر تحت الماء ثمَّ نصعد مرَّة أخرى من الماء فهذا يشير إلى
نزولنا مع المسيح إلى الجحيم ثمَّ صعودنا معه من هناك. ولذلك أيضاً دعا بولس
الرسول المعمودية دفناً قائلاً: ” فدفنا معه بالمعمودية للموت”
(رو 4: 6).]([252])

وفي مكان آخر يقول:

+
[عندما نُغطِّس رأسنا تحت سطح الماء وكأنها في قبر، يكون إنساننا العتيق قد دُفن،
وعندما نقوم ثانية يكون الإنسان الجديد هو الذي قام.]
([253])

القديس كيرلس الأُورشليمي يجعلها رمزاً للروح
القدس المنسكب على الرسل:

+
[وكما أن الذي يغطس في الماء ويعتمد يحوطه الماء من كل جهة، هكذا اعتمد الرسل
كليةً بالروح القدس. وإن كان الماء
يحيط بخارج الإنسان فقط، فالروح القدس يعمِّد النفس أيضاً في الداخل بطريقة
كاملة.]
([254])

ويقول القديس أمبروسيوس:

+ [أنت سُئلت هل تؤمن بالله الآب الضابط الكل؟ فأجبت أنا
أومن وبعدها غطست في الماء أي
دُفنتَ.]([255])

 

ثلاث
غطسات بالضرورة:

الغطس
تحت الماء الذي هو الصورة الأساسية للعماد يتكرَّر ثلاث مرَّات. ويقول ترتليان عن
الجاري في أيامه:

+
[نحن لا نغطس مرَّة واحدة بل ثلاث مرَّات بأسماء الثالوث الأقدس.]
([256])

والقديس أمبروسيوس واضح في هذا الأمر:

+
[قد سئلت: هل تؤمن بالله الآب الضابط الكل؟ فأجبت: أنا أومن، ثمَّ غطست في الماء
أي دُفنت، ثمَّ سُئلت أيضاً: هل تؤمن بيسوع المسيح ربنا وبصليبه؟ فأجبت: أنا أومن،
وغطست أيضاً وهكذا أنت دُفنت مع المسيح، ولكن الذي يُدفن مع المسيح يقوم مع
المسيح، ثمَّ سُئلت مرَّة ثالثة: أتؤمن بالروح القدس؟ فأجبت: أومن، وحينئذ غطست
ثالث مرَّة. وهكذا باعترافك المكرَّر ثلاث مرَّات غُفرت خطايا حياتك السابقة
الكثيرة.]
([257])

هناك
سببان لهذا الإجراء: الأول ليمثِّل دفن المسيح ثلاثة أيام وقيامته في اليوم
الثالث، والأمر الثاني لكي يوضِّح ويمثِّل الاعتراف بالإيمان بالثالوث الأقدس الذي
باسمه يعتمد الموعوظ. أمَّا السبب البديع الذي قاله القديس كيرلس الإسكندري فهو أن
التكرار ثلاث مرَّات هو للتشبُّه بالرب يسوع بعد القيامة حينما سأل ق. بطرس ثلاث
مرَّات: “أتحبني يا بطرس” فأجاب القديس بطرس لثلاث مرَّات: “أنت
تعلم يا رب إني أحبك” فهنا التكرار ثلاث مرَّات تدبير إلهي لتثبيت اعتراف
الشخص أنه يؤمن ويُحب.

والقديس جيروم يقول:

+
[إننا نغطس في الماء ثلاث مرَّات إظهاراً لسر الوحدة في الثالوث.. فمع أننا نغطس
ثلاث مرَّات في الماء إشارة إلى الثالوث لكن تُحسب المعمودية واحدة.]
([258])

 

5-
مسحة دهن الميرون- الختم المقدَّس
sfrag…j

(سر
التثبيت عند اللاتين)

بعد
خروج المعمَّد من مياه المعمودية مباشرة يقدِّمونه للأسقف لينال البركة، وهي عبارة
عن صلاة مهيبة من أجل حلول الروح القدس على المعمَّد، ويتصل بهذه الصلاة عادة
الاحتفال بالمسحة الثانية ووضع اليد ورسم الصليب، وهذه العملية كلها تُدعى:
“المسحة
cr‹sma”.
ووضع
اليد
ceiroqes…a(الشرطونية)، وعلامة الصليب للختم sfrag…j، وهي أسماء هامة
ومتداولة في الكنيسة منذ القدم. أمَّا كلمة:
“تثبيت” فهي كلمة حديثة من اختراع الكنيسة اللاتينية
Confirmation، وهي كلها لا تخرج عن معنى صلاة الأسقف لحلول الروح القدس على
المعمَّد الجديد- وكانت تمارس مع المعمودية وبعدها مباشرة. إلاَّ في حالة
مرض أو لغياب الأسقف، ويقول ق. جيروم: إن العادة المتبعة أن الأساقفة يذهبون
ليصلُّوا من أجل حلول الروح القدس على المعمَّدين الجدد([259]).
وبسبب تهرُّب الأساقفة من هذه المهمة أصدرت
المجامع قوانين مشدَّدة على الأسقف أن يمارس هذه
الخدمة الأساسية التي من اختصاصه فقط، ولكن الإهمال أنهى على كل هذا
التقليد.


ويقول ترتليان بصراحة:

+
[عند خروج المعمَّدين من الماء كانوا يُدهنون بزيت التكريس، ثمَّ ينالون وضع اليد
مع استدعاء الروح القدس ليحل بواسطة هذه البركة.]
([260])

والقديس كيرلس الأُورشليمي يقول:

+
[عندما خرجتم من بركة المياه المقدَّسة أُعطيت لكم المسحة
cr‹sma بمثال مسحة المسيح التي هي بالروح القدس،
والتي تنبَّأ عنها إشعياء المبارك قائلاً بفم الرب: ” روح السيد الرب عليَّ
لأن الرب مسحني” (إش 1: 61).]
([261])

كذلك يذكرها كاتب المراسيم الرسولية وهو يصف
احتفالات المعمودية، ويوصي أن يقوم بها الكاهن:

+
[بعد أن يكون عمَّده باسم الآب والابن والروح القدس فليمسحه بالميرون
cris£tw
mÚrJ
قائلاً
الصلاة التالية.. لأن هذه هي فاعلية وضع اليد.]
([262])

كما نجد في حياة ق. باسيليوس كيف أن مكسيموس
الأسقف الذي عمَّدَ ق. باسيليوس وشخصاً يُدعى
Eubulus
معه ألبسهما في الحال الثياب البيضاء ودهنهما بالمسحة المقدَّسة
Chrism وأعطاهما المناولة([263]).

كذلك القديس أمبروسيوس يذكر ذلك عند وصفه طقوس
المعمودية([264]).

 

هذا
الطقس السرائري يُجرى على الكبار والأطفال الصغار:

لم
يكن هذا الطقس خاصاً بالكبار فقط، بل وكان يسري على الأطفال الصغار الذين كانوا
يقبلون التثبيت بوضع اليد والمسحة المقدَّسة حالاً بعد أن يعتمدوا. ويقول جناديوس
إنهم كانوا بعدها يُعطَون الإفخارستيا.

+ [إذا كان المعمَّدون أطفالاً فليجاوب
عنهم الذين يقدِّمونهم بحسب طقس المعمودية المعتاد، ثمَّ يثبِّتونهم بوضع اليد
والمسحة
Chrism ويسمحون لهم بتناول الإفخارستيا.]([265])

والقديس أوغسطينوس يقول إنه كان يمارس بنفسه
وضع اليد للتثبيت بالنسبة للكبار والأطفال لينالوا الروح القدس([266]).

والدليل
القاطع على تثبيت الأطفال بوضع اليد والمسحة المقدَّسة هو تناول الأطفال من
الإفخارستيا مثل الكبار بطول الزمن في جميع الكنائس.

سر
التثبيت لا يُحسب سرًّا قائماً بذاته منفصلاً عن المعمودية:

حدث أن القدماء أحياناً دعوا عملية مسح الميرون المقدَّس
للمعمَّد “سرًّا” على أنهما هي والمعمودية سرَّان. وهذا راجع إلى أن كل احتفال
لاستدعاء الروح كان يُحسب سرًّا- ولكن الانغماس في الماء بالغطس ومعه المسحة
المقدَّسة بدهن الميرون كانا يُسمَّيان معاً بالمعمودية على اعتبار أن المعمودية
فيها عدَّة أسرار مقدَّسة. وفي مجمع قرطاجنة تحت رئاسة القديس كبريانوس قال أحد
الأساقفة:

+ [لا يكفي للناس أن يتجدَّدوا فقط بوضع
اليد لقبول الروح القدس، ولكن يتحتَّم أن يولدوا ثانية بواسطة السرَّين في الكنيسة
الجامعة.]
([267])

وهكذا
فإن غسل الماء ووضع اليد، الاثنان معاً يكمِّلان السر
Sacrament
أي الطقس المقدَّس الذي للخليقة الثانية. والقديس كبريانوس نفسه يقول:

+
[كلا السرَّين لازمان معاً ليصير الناس بهما أبناء الله ولتكميل تقديس الإنسان.]
([268])

 وهنا
يقصد بكلمة كلا السرَّين الصلاة التي قيلت في كل من المعمودية والتثبيت.

لذلك نجد أن إيسيذوروس أسقف سفيللا (سنة 632م)
يقول:

+ [هناك أربعة أسرار في الكنيسة:
المعمودية ومسحة الميرون وجسد المسيح ودم المسيح.]
([269])

فكما
يُقال عن الإفخارستيا وهي سر واحد أن بها سرَّين سر الجسد وسر الدم، هكذا في
المعمودية سر الغسل وسر المسحة: هما سرَّان في معمودية واحدة.

أول
أخبار المسحة المقدَّسة للتثبيت وصلتنا:

يُعتبر ترتليان (160225م) أول مَنْ
أخبر عن طقس المسحة المقدَّسة:

+ [بمجرَّد أن نخرج نحن من ماء المعمودية
نُمسح بالمسحة المقدَّسة، وبعدها ننال وضع اليد باستدعاء الروح القدس بصلاة بركة
(Benediction).]([270])

أمَّا
أصل هذه المسحة ومتى استُخدمت لأول مرَّة فأمرها مجهول في تاريخ الكنيسة التقليدي-
ولكن عندنا نحن الأقباط يوجد تقليد متوارث يحبِّذه العقل ويتحمَّس له الفكر
والقلب، وهو أن الميرون المقدَّس المستخدم الآن في الكنيسة القبطية في سر التكريس
والتثبيت هو أصلاً حنوط جسد الرب: “مزيج مر وعود نحو مئة مناً” التي أحضرها يوسف
الرامي ونيقوديموس بكثرة ودهنا بها الجسد كله ولفَّاه بكتَّان نقي وأوسدا الجسد
القبر. والحاصل أن المسيح قام وترك اللفائف كما هي وتحتها كل الحنوط التي كانت
ملاصقة للجسد. أين ذهبت، ومَنْ احتفظ بها؟ هنا يتبادر إلى الذهن أنها أُخذت إلى
العلية وكانت أثمن كنز حسِّي ورثته الكنيسة وظلَّ يتقاسمه الرسل ومن بعدهم الآباء
الرسوليين لخدمة الأسرار في الكنيسة.

وقد
استلمت الكنيسة من مصادر سريَّة كيفية عمل هذه الأطياب نفسها، وكانت تضيف القديم
على الجديد. ويقول أحد الآباء القدامى المدعو ثاوفيلس الأنطاكي- وهو مدافع عن
الإيمان من الطراز الأول من القرن الثاني، وهو أول مَنْ استخدم كلمة الثالوث في
الكنيسة عن الله- هذا القديس قال:

+ [نحن نُدعى مسيحيين لأننا نُمسح بزيت
الله.]
([271])

ويعتبر
الآباء أن المسحة هي روحية وسريَّة (مستيكال) وهي أداة سببية لأثار ضخمة. فأصالة
تكريس هذه المسحة يجعلها ذات آثار ضخمة في التأثير المباشر على ماء المعمودية وعلى
المعمَّدين، مما جعل القديس كيرلس الأُورشليمي يعتبر أن مادة الزيت فيها متحوّلة
بشبه ما يتحوَّل الخبز والخمر في الإفخارستيا- كما رأينا
سابقاً (انظر صفحة 202)
– والآباء يعتبرون هذه المسحة تكميلاً للمعمودية، فهي
تعطيها القوة لتجعل كل مسيحي شريكاً في الكهنوت الملوكي. هذا ما قاله القديس
أمبروسيوس([272])
وأيضاً القديس جيروم([273])
وآخرون. ولهذه المسحة يُعزى تثبيت النفس بقوة الروح القدس ونعمته، هذا من جهة عمل
الله المباشر، وتعطي القدرة على الاعتراف والشهادة والتعليم والمحاجاة. وكتاب
المراسيم الرسولية يقول عنها:

+ [إن هذا الميرون mÚron يُعتبر تثبيتاً
للاعتراف بالإيمان.]
([274])

+ [وأمَّا الميرون فهو ختم sfrag…j لتعهُّدات المؤمن
(بالالتصاق بالمسيح).]
([275])

 

نص
صلاة المسحة بالميرون المقدَّس:


النص المختصر بحسب قانون مجمع القسطنطينية، يقول الأسقف وهو يمسح المعمَّد
بالميرون المقدَّس:

+ [ختم وعطية الروح القدس Sfragˆj
dwre©j PneÚmatoj `Ag…ou
.]([276])

ولكن
هناك صيغة أخرى مطوَّلة يذكرها كاتب المراسيم الرسولية هكذا تحت عنوان “صلاة شكر
تُقال عند المسح بالميرون المقدَّس”:

+ [أيها الرب الإله غير المولود الذي لا
يعلوه أحد وهو رب الكل، الذي نشر معرفة الإنجيل رائحةً طيبةً بين الأُمم، امنح أن
تكون هذه المسحة ذات فعالية في هذا المعمَّد حتى تثبت فيه رائحة مسيحك الذكية،
وحتى أنه كما مات الآن مع المسيح يقوم أيضاً معه.]
([277])

ختم
الصليب
sfrag…j:

مع
هذه المسحة يرشمون المعمَّد بعلامة الصليب. وقد تغلغل هذا الطقس في المفهوم
اللاتيني حتى أنهم سمُّوا سر التثبيت على اسم هذه العلامة التي تُسمَّى عندهم
Consignation والتي بلغت من الأهمية حتى أن طقس المسحة كله دُعي أحيانا بهذا
الاسم بدلاً من
Confirmation والمقابل في الكنيسة اليونانية وهو أقدم كلمة sfrag…j التي تعني الختم بعلامة الصليب.

وضع
اليد:

وهو
الطقس الأكثر أهمية والأكثر قدماً وتأصُّلاً في الكنيسة لتسليم الروح القدس.
ويستخدم وضع اليد في مناسبات عديدة أهمها التثبيت وإعطاء الحل للتائبين والرسامات
الكهنوتية. واعتبر وضع اليد عند اللاتين أهم طقس في سر التثبيت، ولكن ليس هكذا بين
اليونان الذين عندهم تأخذ المسحة المقدَّسة الأهمية الأُولى. غير أن كاتب المراسيم
الرسولية وفي نفس الصفحة التي يتكلَّم فيها عن صلاة المسحة المقدَّسة يرفقها
مباشرة بوضع اليد:

+ [هذه هي قوة وضع اليد الضرورية لكل
إنسان، لأن المعمَّد إن لم يصلِّي عليه كاهن تقي هكذا صلاة استدعاء، فإنه يكون قد نزل إلى الماء مثل اليهود
ليغتسل فقط من وسخ الجسد وليس من وسخ
النفس.]
([278])

لذلك
فإن وضع اليد يجب أن يرافق المعمودية ويلازمها.

وأقدمية
وضع اليد تعود إلى أيام الرسل، ثمَّ امتدت في الكنيسة على مثالهم حيث نقرأ في
أسفار العهد الجديد:

+
“حينئذ وضعا الأيادي عليهم فقبلوا الروح القدس” (أع 17: 8)

+
“فقال له الرب قم وادخل المدينة فيُقال لك ماذا ينبغي أن تفعل.. وقد رأى في
رؤيا رجلاً اسمه حنانيا داخلاً وواضعاً يده
عليه
لكي يبصر.. فمضى حنانيا ودخل البيت ووضع عليه
يديه..
لكي تبصر وتمتلئ من الروح
القدس..
فأبصر في الحال وقام واعتمد” (أع 9: 618)

+
“ولمَّا وضع بولس يديه عليهم حلَّ الروح القدس عليهم فطفقوا يتكلَّمون
بلغات ويتنبَّأون” (أع 6: 19)

+
“.. تعليم المعموديات ووضع الأيادي.” (عب 2: 6)

والقديس كبريانوس يستمدها من سفر الأعمال أيضاً
هكذا:

+ [نفس العادة تلاحظ اليوم في الكنيسة أن
المعمَّدين يتقدَّمون إلى الأساقفة لكي بصلاتهم ووضع أيديهم يتقبَّلون الروح
القدس.]
([279])

والقديس أوغسطينوس يقول:

+ [لقد علَّمنا آباؤنا الأوَّلون أن نفهم
قول الرسول: ” لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى
لنا”

(رو 5: 5) عن الروح القدس الذي يُعطى في الكنيسة الجامعة فقط بواسطة وضع اليد.
لأن هذا الروح هو المحبة الفائقة التي بدونها لا ينفع شيئاً أن نتكلَّم بألسنة
الناس والملائكة ولا أن نعرف جميع الأسرار
(1كو 13: 1و2).. والآن هذا الروح
المعطَى بواسطة وضع اليد لا يظهر بالضرورة بطرق حسيَّة ملحوظة كما كان في العصر
المسيحي الأول من أجل سرعة نشر الإيمان.]
([280])

فكيف
إذن نتحقَّق من حلول الروح القدس فينا؟

+ [«بهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح
الذي أعطانا”
(1يو 24: 3). فإن وجدت في قلبك محبة لله
فاعلم أن الروح القدس فيك ليعطيك كل معرفة. في العصر الأول كان الروح يحل على
المؤمنين فيتكلَّمون بألسنة لم يتعلَّموها.. هذه كانت آيات مناسبة لذلك الزمان من
أجل سرعة نشر الإيمان في العالم أجمع بكافة الألسنة، وهذا كان يحدث من أجل ضرورة
معيَّنة وقد مضت. فحينما نضع الأيدي الآن على المؤمنين لينالوا الروح القدس فهل
نتوقَّع أنهم يتكلَّمون بالألسنة؟ وإن كان الآن لا توجد مثل هذه المعجزات فكيف يتحقَّق
الإنسان أنه قبل الروح القدس؟ فليسأل قلبه: فإن كان يحب الإخوة فروح الله يسكن
فيه.]
([281])

هكذا يستمد القديس أوغسطينوس معرفته بوضع اليد
وحلول الروح القدس من سفر الأعمال بالرغم من غياب التكلُّم بالألسنة والمعجزات،
لأن نعماً أخرى كثيرة منحها الروح القدس لتناسب عصرنا الذي نعيش فيه. والمسئول عن
سكب الروح القدس هي الكنيسة الحاملة لمجد الرسل كمؤسَّسة رسولية حاصلة على كلمتهم
وعملهم وروحهم.

ونلاحظ في (عب 2: 6) أنه يقرن “تعليم
المعموديات” “بوضع الأيادي” حيث تُقرأ في الشرح المنسوب لأمبروسيوس:

+ [إنه يشير بذلك إلى وضع الأيادي الذي
يحدر الروح القدس ويوصِّله، الذي يُعطَى بواسطة الأساقفة (كونهم حاصلين على الروح القدس) بعد المعمودية لتثبيت المعمَّدين في وحدة
الكنيسة التي
للمسيح.]
([282])

وقد قدَّم لنا أحد الأساقفة القدامى المجهولين
في بداية القرن الخامس هذا التعليم:

+ [نقول إن التثبيت يمنح المعمَّد كمولود
جديداً بوضع اليد كل ما ناله المؤمن بحلول الروح القدس (في يوم الخمسين). وقد يسأل
الإنسان ماذا ينفع التثبيت بعد أن تعمَّدت؟ وإن كنا بعد المعمودية نشعر أننا
محتاجون إلى عمل جديد. أهذا يعني أننا لم نأخذ كل شيء نحتاجه في المعمودية؟ ولكن
الحقيقة ليست هكذا، فالروح القدس حافظ ومعزِّي ومعلِّم عظيم للذين وُلِدُوا ثانية
في المسيح، كما يقول الكتاب: ” إن لم يحفظ الرب المدينة فباطلاً يسهر
الحارس”
(مز 1: 127)، لذلك فالروح القدس الذي يحل ومعه الخلاص
على ماء المعمودية يعطينا كل ما يجعلنا أطهاراً وأبرياءَ وأبراراً. ولكن في مسحة
التثبيت يعطينا ازدياداً في النعمة، لأننا طالما نحن في العالم فنحن نعيش بين
أعداء غير منظورين ومخاطر. في المعمودية نولد ثانية إلى الحياة الأبدية، ولكن بعد
المعمودية ننال تعضيداً للجهاد. في المعمودية نغتسل، ولكن بعد المعمودية نتقوَّى
(..) فالتثبيت ضرورة للحياة، تسليح وتحضير المعمَّد ليدخل العالم قادراً على
الصراع ويُحارب حروب الرب في هذا العالم (..) والمسيح يقول: ” إن لي أموراً
كثيرة أيضاً لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأمَّا متى جاء ذاك روح
الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق”
(يو 16: 12و13). لهذا حينما يُعطَى
الإنسان الروح القدس يمتلئ القلب حكمةً وثباتاً. قبل حلول الروح القدس قَفَل الرسل
على أنفسهم الأبواب خوفاً من أن ينكروا المسيح، وبعد أن حلَّ الروح القدس انطلقوا
يكرزون متسلِّحين باحتقار الموت حتى إلى الشهادة بلا حذر من أجل اسمه. فنحن قبلنا
الفداء من المسيح ولكن الروح القدس أعطانا الحكمة الروحية والاستنارة والتعليم
والنمو حتى إلى منتهى الكمال.]
([283])

من
التعليم الذي وصلنا عاليه من الآباء القدامى نفهم أن فكر الآباء منصب على أن سر
التثبيت له ضرورته وأهميته ولزومه بعد سر المعمودية والميلاد الثاني. فالميلاد
الثاني يعطي البراءة ومسامحة الخطية، ولكن تجديد الروح القدس يزيد الحكمة والقوة
لنحتفظ ونقوِّم هذه البراءة ومسامحة الخطايا حتى الكمال. وبهذا تظهر أهمية التثبيت
بالنسبة للمعمَّد وأن لا غنى عنه. وبهذا تأتي القناعة الحتمية بوحدة سر المعمودية
وسر التثبيت. وبعد سر التثبيت ليس للإنسان أن ينتظر من عطايا الله سوى التناول من
جسد الرب ودمه الكريم، وبعدها الموت الذي يُنهي على المخاطر والحروب، وتبقى النعمة
هدية الله العظمى للإنسان.

 

6-
لبس الحلَّة البيضاء

بعد
خروج المعمَّد من الماء يلبس فوراً الحُلَّة البيضاء، وتأتي مباشرة قبل مسحة
الميرون أي قبل إجراء سر التثبيت. ولكن يذكرها ق. كيرلس الأُورشليمي بعد التثبيت.
وهي تعبير عن خلع الإنسان العتيق ولبس الإنسان الجديد (كو 9: 3و10) فيصبح
المعمَّدون رعية المسيح البيضاء.

وبالليديوس في كتابه عن: “حياة ذهبي الفم”
يذكرها خاصة إذ يقول إنه عندما عمَّد كهنة ذهبي الفم أثناء منفاه ثلاثة آلاف
معمَّد في عيد واحد، أرسل الإمبراطور أركاديوس عساكره لتفريقهم “وهم لابسون
ثيابهم البيضاء”
([284]).

وكانت
هذه الثياب تسمَّى بحلة المسيح والحلَّة المستيكية.


والمؤرِّخ سوزومين حينما تكلَّم عن نكتاريوس أسقف القسطنطينية قال إنه بعد
معموديته نال الرسامة بينما كان لا يزال لابساً ثوب المعمودية الأبيض، لأنه رُسم
أسقفاً بعد معموديته مباشرة([285]).

والقديس جيروم يكتب لفابيولا في أسلوب سرِّي:

+
[إننا نغتسل الآن بوصايا الله، وحينما نصير معدِّين لثوب المسيح سنخلع عنَّا
ثيابنا التي من جلد (أي أجسادنا الأرضية) ونلبس الحلَّة البيضاء الكتانية التي ليس
فيها موت، بل كلها بيضاء خرجت من مياه المعمودية، فنمنطق أحقاءنا بالحق ونغطِّي
نجاسات صدورنا.]
([286])

طقس
لبس الثوب الأبيض بالصلاة:

وكانت
هذه الحلل البيضاء تُسلَّم للمعمَّدين الجدد الخارجين من مياه المعمودية بدعاء
مقدَّس، كما هو مكتوب في كتاب الأسرار لغريغوريوس الكبير:

+
[اقبل هذه الحلَّة البيضاء الطاهرة، ليتك تقدِّمها غير مدنَّسة أمام منبر الرب
يسوع المسيح لكي تقبل الحياة الأبدية. آمين.]
([287])

وهذه
الحلَّة البيضاء كانت تُلبس لثمانية أيام ثمَّ تُستودع مخازن الكنيسة للحفظ.
والقديس أوغسطينوس يتكلَّم عن يوم الأحد بعد أحد القيامة باعتباره الوقت المحدَّد
لتسليم هذه الحلَّة البيضاء وذلك في نهاية عيد القيامة. وكان هذا اليوم الأحد
يسمَّى
Dominica in Albis أي الأحد الأبيض بسبب هذه العادة([288]).

 

7-
متعلِّقات طقس المعمودية

(أ)
الاحتفال بالأنوار:

وبالإضافة
إلى الاحتفال بلبس الحلَّة البيضاء، كان هناك احتفال بحمل الأنوار، وهي عبارة عن
شموع مضاءة في أيديهم، وهي مذكورة عند ق. غريغوريوس النزينزي في عظة بعد المعمودية:

+ [إن وقوفك بعد
المعمودية مباشرة أمام الهيكل العظيم هو مثال سابق للمجد العتيد. وتسبحة
الأبصلمودية التي تُستقبل بها هي سبق تذوُّق تسابيح وأغاني الحياة الفُضلى الآتية.
والمصابيح التي ستوقدها هي صورة سرائرية لمصابيح الإيمان التي ستحمل النفوس
العذارى المضيئة ببهاء سماوي التي ستتقدَّم بها لمقابلة العريس.]([289])

+”
فليضيء نوركم هكذا قدَّام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجِّدوا أباكم الذي في
السموات.”
(مت 16: 5)

وفي عماد الشخصيات الكبيرة كان القوم كلهم
يلبسون الملابس البيضاء ويحملون الأنوار والمصابيح المضاءة، كالذي حدث في عماد
ثيئودوسيوس الصغير:

+
[كان الاحتفال من الكنيسة حتى القصر فخماً إلى أقصى حد، حيث كان قوَّاد الشعب
والحكومة مدثّرين بالثياب البيضاء وكأن الثلج يغطيِّهم، وكل السيناتور وعلياء
القوم والجنود بكل رتبهم يحملون المصابيح المضاءة وكأن النجوم نزلت على الأرض.]
([290])

(ب)
اللبن والعسل:

وقد
اعتادت الكنيسة أيضاً أن تذيق المولودين الجدد بالروح قليلاً من اللبن والعسل.
والقديس جيروم يقول إن السبب في ذلك أن المعمَّد صار طفلاً على مستوى الروح وقد
اختير ليدخل عائلة الله. وترتليان يقول إنها عادة الكنيسة الجامعة الرسولية وقد
أخذها الهراطقة. والقديس بطرس يقول: “وكأطفال مولودين الآن اشتهوا اللبن
العقلي (الكلمة) العديم الغش” (1بط 2: 2)، لأن اللبن يشير إلى براءة الطفل.
والقديس كليمندس الإسكندري يقول:

+ [حالما نولد يعطوننا لبناً الذي هو غذاء الرب (الطبيعي)، وعندما نولد
ثانية نُكرَّم برجاء الراحة بوعد
أُورشليم
العليا التي يُقال عنها إنها تفيض لبناً وعسلاً. وبهذه الأشياء المادية
يتثبَّت رجاؤنا في الطعام الفائق.]
([291])

ومن المجمع الثالث لقرطاجنة نعلم أن هذا اللبن
والعسل لهما تكريس خاص غير الإفخارستيا:

+ [إنه يقدَّم على المذبح في اليوم العظيم (يوم السبت الكبير قبل القيامة
وهو زمن مقدَّس جدًّا
للتعميد)
وتُقال عليه بركة خاصة بسر المولودين الجدد وهي غير ما يُقال في سر جسد الرب

ودمه.]
([292])

(ج)
صلاة أبانا الذي:

بعدها
تُقال صلاة يا أبانا الذي (يا أبا الآب) لأن بالمعمودية والتثبيت يتقرَّر المولود
أنه قد صار ابناً لله وأحد أفراد أسرة الله، وقد صار فيه الروح يصرخ يا أبا الآب.
ويصرَّح له أن ينادي الله “يا أبانا” بالصيغة التي أملاها الرب. وكاتب
المراسيم الرسولية يقول:

+ [فليقف (المعمَّد) بعد ذلك وليقل الصلاة
التي علَّمنا إياها الرب. ومن الواجب أن الذي قام (مع الرب) يقف مستقيماً وهو
يصلِّي، فهو قد مات مع المسيح وقام معه، إذن فليقف مستقيماً. وليصلِّي متجهاً نحو
الشرق.. ثمَّ يقول الصلاة التالية: “يا الله الآب ضابط الكل أبا مسيحك ابنك
الوحيد، أعطني جسداً غير دنس وقلباً نقياً وعقلاً صاحياً ومعرفة غير مخطئة وحلول
روحك القدوس، حتى أحصل على الحق وعلى يقين الحق في مسيحك الذي به لك المجد في
الروح القدس إلى الأبد. آمين.”]
([293])

والقديس يوحنا ذهبي الفم أيضاً يذكر تلاوة صلاة
أبانا بعد الصعود من ماء المعمودية([294]). ويكون
المعمَّدون الجدد واقفين بانتصاب كمشتركين في جسد المسيح الجالس في أعلى السموات.
وهذه هي المرَّة الأُولى التي يُسمح لهم بتلاوة هذه الصلاة في الكنيسة لأنهم قد
صاروا أولاد الله بالتبني والاختيار، مع أنهم يكونون قد حفظوها منذ زمن بعيد. ولكن
لا يُسمح لهم أن يقولوها جهاراً في الكنيسة إلاَّ بعد المعمودية.

(د)
حفل استقبال المعمَّدين:

القديس غريغوريوس النزينزي يذكر كيفية
استقبالهم بالأبصلمودية (التسبيح) إذ يقول مخاطباً الموعوظ الذي سينال المعمودية:
[والتسابيح التي ستُستقبل بها هي سبق مذاق التسابيح التي ستقال في الحياة
الأبدية.]([295])
ربما المزمور (118) الذي فيه الكلمات “هذا هو اليوم الذي صنعه الرب فلنفرح
ونبتهج فيه” لأن القديس أوغسطينوس عندما يذكر عيد القيامة يشير إلى هذا
المزمور وهذا العدد منه بالذات:

+ [هذا هو اليوم- يا أحبائي- الذي صنعه الرب وهو أعلى من كل الأيام وأبهى
منها جميعاً، الذي فيه اقتنى لنفسه شعباً جديداً بروح الخليقة الثانية الجديدة
وملأ عقولنا بالفرح والابتهاج.]
([296])

وباولينوس
يقول إنهم ينشدون هلليلويا في هذه المناسبة.

الإفخارستيا:

بعد
أن تنتهي خدمات المعمودية كلها، كان يتقدَّم المعمَّدون الجدد ليشتركوا في مائدة
الرب، باعتبار أنها
tÕ tšleion أي الكمال، أي منتهى الكمال المسيحي. ويعتبرونها الإحسان
الإلهي المباشر بعد المعمودية، وهي نفسها تُعطى لكبار السن والأطفال.



اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى