اللاهوت العقيدي

الفصل السادس



الفصل السادس

الفصل
السادس

الهندسة
الأثرية للمعموديات في الكنيسة الأُولى

رد
الفعل الفوري إزاء الذين سمعوا الكرازة بإنجيل يسوع المسيح هو طرح هذا السؤال:
” اذا نصنع أيها الرجال الإخوة؟.. فقال
لهم بطرس: توبوا و ليعتمد كل واحد منكم” (أع 37: 2-
38). فمنذ بدء
الكنيسة احتلَّت المعمودية المكانة العظمى، فكانت أمراً مستقراً في خلفية الحياة
المسيحية، ذات زخم وافر المعاني ألبسها رداءً ميَّزها عن كل التطهيرات والغسلات
التي تفرضها الأديان والمذاهب الأخرى. بواسطتها كان الدخول إلى شعب إسرائيل
الجديد، إسرائيل الله؛ وهي الميلاد الثاني من الماء والروح فيتم التبنِّي في بيت
الله؛ وهي أيضاً الاستنارة وتدشين الخليقة الجديدة بالموت والقيامة مع المسيح
فتُغفر الخطايا وتنشأ الشركة مع الروح القدس.

وقد بدأت ملامح المعموديات في الظهور خلال القرن الثالث
الميلادي. ولاشك أنه قد وُجدت معموديات قبل ذلك لكن تعوزها الأسانيد المكتوبة، كما
أن الحفريات الأثرية لم تسعفنا بشئ من هذا القبيل. ففي العصر الرسولي كانت
المعمودية تجري في الأنهار والبحيرات بل وحتى في البحار المكشوفة([1])،
في الوقت الذي كانت الاجتماعات الكنسية تتم في البيوت والمباني الخاصة. ومع امتداد
المسيحية وانتشارها تكاثر عدد المؤمنين مما اقتضى تخصيص مباني للعبادة تستوعب
العدد المتزايد من المنضمين إلى المسيحية، وبالتالي تحتم تخصيص أماكن للتعميد.
وتطوُّر العبادة العامة إلى طقوس وممارسات ليتورجية اقتضى أن يرافقه تطوُّر مماثل
لطقس المعمودية بتخصيص مبنى مستقل لإجرائها. فابتداءً من القرن الثالث حتى السابع
أصبح لدينا ما يقرب من 400 مبنى مخصص للمعمودية أمكن اكتشافها وتحديد أزمانها([2]).
ومن خلال الشواهد المنحوتة والحجرية، ثم زخرفتها وتزيينها بالفرسكات والموزاييك،
تعرَّفنا على مقدار أهمية هذا السر، الذي هو باب الدخول إلى المسيحية، بطريقة
تجعلنا أكثر إدراكاً ووعياً لأسلوب ممارسته؛ ليس فقط في المدن الكبرى مثل روما
وأنطاكيه وأورشليم، بل وإلى أعماق البلاد والكور البعيدة في مصر وفلسطين وسوريا
وآسيا الصغرى واليونان وإيطاليا وشمال أفريقيا.

وقبل الدخول في
التفاصيل المعمارية، نقدم وصفاً موجزاً لمبنى المعمودية في قصر اللاتيران
بالفاتيكان الذي أقامه الإمبراطور قسطنطين الكبير (شكل 1): فهو
مثمَّن الشكل، قطره حوالي 20م، وتتوسَّطه 8 أعمدة من الرخام السماقي
porphery (الأبيض المائل إلى زرقة السماء)، حاملة تيجان أقدم،
وتعلو أعتابها أعمدة أصغر حجماً يستند عليها السقف. والدخول إليه خلال رواق متسع
يمثل المدخل الذي كان الموعوظون يجحدون فيه الشيطان ويرددون قانون الإيمان، كما
جاء في عظات ق. كيرلس الأورشليمي. ويؤكد الأثريون أن تكسية حوائط المبنى والرواق
تحمل طابع عصر قسطنطين. ويحفل “كتاب الأحبار
Lib. Pontif.”([3])
بتفاصيل وافية عن فخامة التحف التي كانت تزينه، مثل: تغطية الحوائط بالرخام
السماقي
porphery، عمق الجرن 1.50م ومغشَّى برقائق الفضة وتفيض مياهه من 7 تماثيل
فضِّية للإيَّل، وتمثال ثامن من الذهب للحَمَل الإلهي، وعلى يمين الحَمَل صورة
فضية ارتفاعها 1.5م للمخلص وعلى يسارها صورة ثانية للقديس يوحنا المعمدان من نفس
الحجم والمعدن، ويتوسط المشهد أعمدة من الرخام البرفيري حاملة اسطوانة من الذهب
الخالص تزن أكثر من 20 كجم كان عليها قنديل الفصح([4]).

على أنه لا توجد أية
مباني للمعمودية باقية بحالتها إلى وقتنا الراهن سوى الملحقة بكاتدرائية رافِنَّا
والمشهورة باسم
يوحنا المعمدان؛ والتي تم بناؤها، أو على الأقل تجديدها، في عهد رئيس أساقفتها نيون “Neon بين سنتي 425-430م. والمظهر العام لزخارفها يشهد أن العمل كله تم
تحت إشراف الأسقف نيون، وإن كان قد امتد حتى منتصف القرن السادس. وتخطيطها العام
ثُمانيّ الأضلاع فيه حنيتان
apses في ضِلعيْن منه، وقطره 12م. ويقع الجرن في مركز المضلع، ويتميز
بوجود مكان مخصص لوقوف الكاهن الذي يمارس السر (شكل 2).

ويعتبر فن تزيين هذا
المبنى من أجمل الأمثلة القائمة في أوروبا (شكل 3). فالأعمدة وما تحمله من بواكي
نصف دائرية، والجزء المنخفض من الحوائط مغطي ببلاطات رخامية من نفس النوع تعلوها
ألواح الرخام المطعَّمة بقطع ملونة، ثم الصف العلوي من الأعمدة تتخلله حنيات صغيرة
كانت تحوي تماثيل للقديسين من الجبس المصبوب
stucco
مع القبة المزينة بالفسيفساء، ثم يتوسط المشهد كله صورة للمخلص وهو يعتمد وتحيط به
صور الاثنى عشر تلميذاً (شكل 4).

ومنذ عصور قديمة كان
طقس المعمودية تنحصر ممارسته في الكنيسة الرئيسية في الإيبارشية؛ ولا زال هذا
التقليد سائراً حتى الآن في فلورنسا وبيزا وأماكن أخرى في إيطاليا. وجاء في
كتاب
الأحبار
“Lib. Pontif.
أن البابا مارسللوس (304-309م) عيَّن 25 كنيسة في روما لتكون بمثابة كنائس رئيسية
لإجراء طقس المعمودية. وكما يتكرر في هذا الكتاب أن مباني المعمودية كانت ملحقة
بالعديد من الكنائس الصغيرة؛ مما يدفع إلى الاعتقاد أن كل كنيسة مخصصة لإحدى إيبارشيات
أحياء روما كان يُلحَق بها مبنى للمعمودية.
وقيام عدة مباني للتعميد في مدينة واحدة كان على مايبدو يختص بروما وحدها.

أما ميعاد إجرائه فكان
في عشية عيد الفصح وأحد العنصرة وأحياناً في عيد الإبيفانيا. فيوم سبت النور الذي
قُبض فيه على ق. يوحنا ذهبيّ الفم بطريرك القسطنطينية (398-408م) لنفيه، كان قد
أتمَّ تعميد ثلاثة آلاف شخص وأكثر من هذا العدد كانوا ينتظرون دورهم إلا أنهم
ولُّوا هاربين([5]).

إذن قد تحتَّم توفير
مكان يتسع للآلاف المنتظرين معموديتهم.

ويمكننا
تبويب كمَّ المعلومات التي تمدنا به الهندسة الأثرية للمعموديات تحت أربعة فصول:

1-
مبنى المعمودية، أي القاعة المقام فيها جرن التعميد:
Baptistarium Baptist”rion.

2- جرن المعمودية: kolumb”qra, piscine.

3- صالات وحجرات متصلة
بطقس المعمودية.

4- الزخارف وعناصر
التزيين.

أولاً- مبنى المعمودية:

المعلومات
التي توافرت لدينا من الأقطار المطلة على حوض البحر الأبيض أجمعت على أن الشكل
الرباعي لهذا المبنى هو السائد في
مصر
واليونان وفلسطين وسوريا حتى القرن السابع.

وتتميز مباني المعمودية
في مصر أنها دائماً جزءٌ ملتحم بالكنيسة؛ وغالباً ما تكون ذات علاقة بالهيكل
والمذبح أو قريبة منهما. ففي دير ق. مار مينا بصحراء مريوط اكتشفت ثلاث كنائس في
كل منها معمودية([6]).
ففي الكنيسة الرئيسية المعروفة بإسم
البازيليكا الكبرى– التي يرجع تاريخ إنشاءها إلى الإمبراطور أركاديوس في أوائل القرن
الرابع- نجد صالة التعميد بملحقاتها ملتصقة بالجانب الغربي لكنيسة الشهيد، وكانت
تتكون من حجرتين رئيسيتين، الكبرى منهما كانت مثمَّنة الشكل وتغطيها قبة. وفي كل
منهما كان جرن التعميد الذي يمكن النزول إليه من الجانبين بواسطة عدَّة درجات.
والهدف من الحجرتين هو إمكانية تعميد النساء بعيداً عن الرجال. وأسفل الجرن اكتشفت
مجاري تغذيته بالمياه من خزان تجميع مياه الأمطار. وفي منتصف القرن السادس تطورت
مجموعة المباني إلى قاعة واحدة متوسطة تحتوي على الجرن والحجرات الملحقة لشرح
قانون الإيمان وتسليمه، وخلع الملابس.. الخ.

وإذا انتقلنا إلى
البازيليكا الشمالية، وهى من نفس عصر البازيليكا الكبرى، نرى جناحاً كاملاً
للمعمودية ملتصقاً بالجانب القبلي للبازيليكا. ويقع جرن التعميد في القاعة الوسطى،
يحيط به ستة أعمدة حاملة البلدكان
ciborium، ثم قاعة شرقية بها ثلاثة مذابح لتناول المعمَّدين الجدد، وقاعة ثالثة غربية ليسمع فيها الموعوظون شرح قانون الإيمان
وتسليمه لهم قبل دخولهم للتعميد
.

وفي دير ق. أنبا شنوده
بسوهاج، الدير الأبيض، يقع مبنى المعمودية في المدخل؛ ويتكون من كنيسة صغيرة مُلحق
بها من الغرب حجرة ثم صالة التعميد التي تحوي جرناً متسعاً يمكن الصعود إليه بعدة
درجات. وبعد المعمودية يتوجه المعمَّدون إلى الكنيسة الصغيرة للتناول. ويرجع تاريخ
هذا الدير إلى القرن الرابع.

والدير الوحيد من أديرة
وادي النطرون الذي لازالت فيه معمودية هو دير الأنبا بيشوي خلف هيكل كنيسة الشهيد
أبسخيرون([7]).
ولكن كان في دير السريان حوض مغطس واسع في حجرة مقبية تدعي
الجو، كان يستعمل في عيد الإبيفانيا وليس للتعميد.

وبينما نرى استمرار
الشكل الرباعي في كنائس مصر، حدث تطوّر في الغرب، في فرنسا وألمانيا وإيطاليا
والبلاد الواقعة تحت تأثيرها، من الشكل الرباعي إلى الدائري أو الثُماني ابتداء من
منتصف القرن الخامس، الأمر الذي يوحي لنا بالتساؤلات التالية:

أ- لماذا كان الشكل
الرباعي؟

ب- ولماذا ساد في
المناطق المتباعدة مثل اليونان وسوريا وفلسطين؟

ج- وما علَّة تطوره إلى الشكل الدائري أو الثماني أو السداسي في بلاد إيطاليا
وفرنسا
؟

(أ) بخصوص التساؤل
الأول،

اختيار الشكل الرباعي الذي شاع في كل أقطار البحر الأبيض يرجع لعدة عوامل مؤثرة؛
منها: بعدما توقَّف استخدام الأنهار والبحيرات لهذا الغرض تخصصت إحدى الحجرات أو
القاعات للتعميد بحسب شكلها المألوف أي الشكل المستطيل في البيوت والمساكن
العادية. وهذا ما تشهد به أقدم كنيسة تطورت عن البيت العادي واشتهرت في العالم
بإسم المنطقة التي وُجِدت فيها:
ديورا يوربوس Dura Europos على نهر الفرات وترجع إلى عام 230م. استقلال الكنيسة عن البيت
جعلها تخرج حاملة الأوضاع المألوفة في البيت العادي. فالكنيسة أساساً هي “بيت
الله”، لذلك حملت سمات “البازيليكا”([8]) حتى تتسع قاعاتها
لإقامة الإفخارستيا. فاستمرت المعمودية تحتلّ حجرة جانبية مستطيلة أو مربعة.

والعامل
الثاني المؤثِّر، أن التطور الذي حدث في مبنى المعمودية يشبه ما حدث في الحمامات
العامة التي أضيف إليها حوض مياه باردة
frigidarium رباعي الشكل وأحياناً في حنية حائطية apse. فوجود حوض مياه في وسط قاعة التعميد أو في طرفها هو
نفس ما اكتشف في ديورا يوربوس.

والعامل الثالث أن
المعمودية في العهد الجديد تحتسب موتاً وقيامة. فالرب يسوع اعتبر صليبه معمودية:
” ي صبغة أصطبغها وكيف أنحصر حتى تكمل” (لو12: 50)، وأيضاً ق. بولس:
” دفِنَّا معه بالمعمودية للموت” (رو4: 6)،” مدفونين معه في
المعمودية” (كو12: 2). فحجرة المعمودية اعتُبرت مدفناً. وحيث أن الكثير من
المدافن والأضرحة التذكارية في الوثنية كانت ذات قباب رباعية، ولها ممشى مسقوف
ambulatory بينما طقس المعمودية لا يستلزم هذا، لذلك انتقل هذا الشكل بعناصره
إلى مباني المعمودية باعتبارها موتاً وقيامة مع المسيح.

(ب) وإجابة التساؤل
الثاني عن استمرار مبنى المعمودية الرباعي في مناطق معينة،
بخلاف ما
حدث في إيطاليا والبلاد الخاضعة لتأثيرها، راجع إلى أن المدفن الرباعي هو النمط
السائد في شمال إفريقيا ومصر وفلسطين وسوريا حتى بلاد اليونان وجزرها. فالضريح
الوثني مكعب الشكل، تغطيه قبة نصف دائرية تعكس انطباعاً بالقبة السمائية. وهذه
تطورت في المباني الدينية إلى البلدكان
ciborium. عند المسيحيين لم
يكن سقف المبنى ذا غرض نفعي فقط، بل يحمل مغزى باطني يتطلبه اهتمامهم بالمضمون
الإيديولوجي الفكري. لذلك شاع بينهم استعمال القبة سواء كغطاء خارجي للمبنى، أو داخلي أي البلدكان التي هي قبة محمولة
على عدة أعمدة. بهذا نجح مبنى المعمودية في
توجيه الاهتمام إلى أن المعمودية هي موت وقيامة ثانية مع المسيح، تصيِّر
المعمَّد مواطناً في ملكوت
السموات.
فتخطيط المبنى وتنفيذه يستهدف تعميق إدراك معنى الموت والقيامة في ممارسة طقس

المعمودية.

هذه الاعتبارات توجه
الأنظار إلى الرد على التساؤل الثالث الخاص باستخدام نماذج أخرى غير المربع في
إيطاليا وما حولها.
ففي إيطاليا كان التطور من المربع إلى الدائرة والمثمَّن
وإضافة الممشى المسقوف الذي كان شائعاً في الأضرحة التذكارية. ففي كاتدرائية
جاميلا في نوميديا بشمال أفريقيا، وكانت متأثِّرة بالترتيبات الآتية إليها من
إيطاليا، لدينا مبنى للمعمودية دائري الشكل له ممشى مسقوف
ambulatory قائم على أعمدة (شكل 6).

وهنا لا بد لنا من
الرجوع إلى العلاقة الوطيدة بين المُنشأ ومضمونه. فالمثمَّن لا يزال يحمل سمات
الدائرة، خاصة لو جاء في الاعتبار عدم دقَّة التعبيرات الهندسية لدي قدماء
المؤمنين. فالقديس غريغوريوس النيسي، مثلاً، يصف الشكل المثمَّن أنه دائرة ذات
ثمانية أركان([9]).
والمثمَّن هو استمرار لمبنى الضريح الدائري؛ وفي نفس الوقت يوحي للمعمَّد بالمدلول
الرمزي المرتبط بالأعداد
Numerology. فقد جاء في رسالة برنابا: نحن بمسرة نحتفل باليوم
الثامن الذي فيه قام المسيح من الأموات وصار ظاهراً للجميع ثم صعد إلى
السموات([10]).
ونفس المعنى جاء عند ق. أمبروسيوس:
بقيامة المسيح قدَّس
اليوم الثامن وبدأ اعتباره اليوم الأول
([11]). يسوع قام في اليوم الثامن الذي صار اليوم الأول في الأسبوع
الجديد. فالمبنى المثمَّن الأضلاع يضيف كثيراً من التأكيد واليقين لدي المعمَّد
لقيامته مع المسيح بمعموديته؛ إنه فجر الجيل الآتي.

وإذا انتقلنا إلى
النموذج السداسي الأضلاع لمبنى المعمودية، نجده رمزاً لليوم السادس في الأسبوع،
يوم الجمعة الذي صُلب فيه المسيح ودُفن في القبر. وهذا إشارة إلى الزمن الحاضر
الذي فيه أتعابنا ومشقَّات الحياة تهدف إلى إماتة جسد الخطية. إنه زمن الصليب كقول
ق. أغسطينوس([12]).

ويدخل في هذا المجال
أيضاً وجود بعض المعموديات متصلة بمذابح مقامة على رفات شهداء. هذا يشرح التوازي
الإيديولوجي الكنسي بين معمودية الماء للموعوظين ومعمودية الدم للشهداء. فيقول
ترتليان: “لدينا معمودية ثانية هي التي بالدم. هاتان المعموديتان للرب قد نبعتا من
الجنب المطعون([13])،
حتى يتيسر للذين يؤمنون بدمه أن يغتسلوا بالماء، والذين يغتسلون بالماء (في
المعمودية) أن يشربوا دمه أيضاً. أما معمودية الدم فهي لمن لم ينل معمودية الماء”([14]).
فوجود معمودية متصلة بهيكل مدفون تحت مذبحه رفات شهيد يؤكد العلاقة بين هاتين
المعموديتين. وهذه النوعية من مباني المعموديات شاعت في العصر الذي أعقب قرون الاستشهاد لكي تعطي للمعمَّد انطباعاً أنه
شريك ثمار موت المسيح الشهيد الأمثل.

ثانياً- جرن المعمودية:

أقدم معمودية معروفة
جاءتنا من ديورا يوربوس، البيت الذي تحول إلى كنيسة في القرن الثالث. فعلى يمين
المدخل حجرة مستطيلة فيها وعاء ضخم على الأرضية مستطيل الشكل أبعاده:
1.6×0.95×0.65م، يعلوه بلدكان. وتُزيِّن الحجرة رسومات حائطية تتعلَّق بسرِّ
المعمودية. وحيث أنها دَفْنٌ مع المسيح لذلك صار الجرن بشبه المدفن، وعلى وجه التحديد
على شكل تابوت
sarcophagos.

هذا المضمون
الإيديولوجي يشرح بداية استخدام النمط المستطيل للجرن في شمال إفريقيا وأورشليم.
أما في إيطاليا فكان الشكل السائد هو السداسي أو الثماني. فقد اكتشف جرن قديم في
مدينة أكويليا
Aquileia سداسي الأضلاع (شكل 6)، له من الخارج درجة واحدة ودروة منخفضة، ثم
درجتين من الداخل وشرقية صغيرة
apse أمام الضلع الشرقي. والدخول إليه بواسطة ممر مقبي يتصل بثلاث
حجرات للموعوظين لاستماع شرح قانون الإيمان وتسليمه لهم. وربما كان يُلحق به دور
علوي للموعوظات.

 

(شكل 7) المعمودية
الأثرية في أكويليا

وهنا نعود مرة أخرى إلى
المدلول الرمزي للأعداد.
Numerology
فالجرن
السداسي يشير إلى موت المسيح في اليوم السادس، ووجوده داخل مبنى مثمَّن الشكل يرمز
للقيامة: ” دفِنَّا معه بالمعمودية للموت (في اليوم السادس) حتى كما أُقيم
المسيح من الأموات بمجد الآب (في اليوم الثامن) هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة
الحياة” (رو4: 6). فعند دخول الموعوظ إلى المبنى الثماني الأضلاع يتقوَّى
رجاؤه بالقيامة، وفي نزوله إلى الجرن السداسي يعلم أنه يموت مع المسيح، وخروجه مرة
أخرى إلى القاعة المثمَّنة يدرك أن عليه السلوك في الحياة الجديدة من الآن
فصاعداً، كما يقول ق. نرسيس:
في ماء المعمودية،
الكاهن يدفن الإنسان العتيق، ثم يقوم إنساناً جديداً بقوة الحياة المذخرة في كلمات
خادم السرّ
([15])، وهو نفس
التعبير الذي قاله ق. أمبروسيوس.

لدينا أيضاً عدة أمثلة
من جرن المعمودية الدائري. هذا النمط يشير إلى مفهوم جديد قائم على آية ق. يوحنا
الإنجيلي: ” ن كان أحد لا يولد من فوق..لا يولد من الماء والروح لا يقدر ان
يدخل ملكوت الله” (يو3: 3-5). فالآباء يعتبرون جرن المعمودية أحشاء الكنيسة
الوالدة؛ لذلك يحقّ للقديس أغسطينوس أن يقول: “وجدنا لنا والِدَيْن آخرَيْن، الله
كأب والكنيسة كأم. ومنهما نولد ثانية للحياة الأبدية”([16])،
والقديس مار أفرآم يعلن: “أيها الرَحِم الذي يلد بدون شهوة أبناءً لملكوت الله”([17]).
فالجرن الدائري ينقل للمعمَّد عقيدة الولادة الجديدة بالمعمودية التي تؤهِّلنا
لنكون أهل بيت الله نخاطبه هكذا:
أبانا...

من
الأنماط الشائعة أيضاً لجرن المعمودية أن تكون أحياناً مثمَّنة مثل كنيسة بواتييه
Poitier في فرنسا داخل حجرة مربَّعة (شكل 8)،
أو بشكل صليب ذي أربعة أجنحة متساوية
cruciform، وفي مدينة قفط بصعيد مصر([18])
معمودية بهذا المثال (شكل 9)؛
أو على شكل زهرة رباعية
الأوراق
quatre-foil (شكل 10). وهو بذلك يحمل مضمون الموت
أكثر من أي نموذج آخر. فالمعمودية- كقول ذهبيّ الفم- هي “.. صليب؛ ماذا كان الصليب
والدفن بالنسبة للمسيح، هكذا المعمودية بالنسبة لنا”([19])؛
وبالمثل أيضاً ق. أمبروسيوس:
حينما تغطس في الجرن فأنت بشبه الموت والدفن إذ تقبل سرَّ الصليب
([20]).

 

وأحياناً
تمتزج هذه النماذج مع بعضها؛ فوُجدت أجران من الداخل على شكل صليب
ومن الخارج ثمانية الشكل كما في بيت لحم، أو من
الداخل على شكل صليب ومن الخارج دائرية.

بقي ترتيب آخر في بعض
النماذج يستحق التمعُّن من جهة الممارسة الطقسية؛ وهي درجات السلم الكائنة في بعض الأجران، مثلما هو ظاهر في
معمودية كنيسة تمجاد في شمال أفريقيا (شكل
11)؛ حيث أن ضيق درجات مثل هذا
السلَّم لا يسمح بالانتفاع العملي بها. ولكن الهدف من وجودها هو “تأكيد معنى
النزول” الذي يرمز إلى التغطيس ثلاث مرات، كقول ق. كيرلس الأورشليمي: “أنتم تنزلون
ثلاث مرات في الماء ثم تصعدون ثانية. هذا إشارة خفية إلى الدفن ثلاثة أيام مع
المسيح الذي أمضى في بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالي”([21]).

والبراهين الأثرية التي
تقدمها نماذج الجرن تساعدنا في الوصول إلى الممارسة العملية لهذا السرّ. فيمكن
إجراء هذا الطقس بأحد الأساليب التالية:

1-
التغطيس الكامل.

2-
الغمر، أي تغطيس الرأس في الماء بينما الشخص فيه أو خارجه.

3- سكب الماء على
الرأس.

4- رش الماء باليد على
رأس المعمَّد.

ومع أن الجدال بين
المتخصصين في الليتورجيا والطقس لم ينته إلى نتيجة حاسمة، إلا أن علم الآثار يقدم
بعض النتائج الختامية في هذا الشأن. فلم يوجد حتى الآن أي جرن للتعميد في كل بلاد
اليونان تسمح مقاساته بالتغطيس التام للموعوظ إلا في مثالين فقط بين أكثر من عشرة
أمثلة. أما في سوريا وفلسطين ومصر فالموجود منها يتراوح عمقه من 0.40م إلى 1.50م.
وحتى إن كان العمق كبيراً، إلا أن اتساعه لا يسمح بالتغطيس الكامل للموعوظ تحت
مياهه.

بناء على ذلك يمكن
القول أن أسلوب التعميد كان يختلف من مكان لآخر؛ ولكن من المتيقَّن أن الموعوظ كان
يقف في الجرن إلى ركبتيه، ويحني رأسه لتُغمَر تحت مياهه إن كان اتساعه يسمح بذلك،
أو يسكب خادم السرّ ماءً على رأسه؛ وهذا ما نستلهمه من قول ق. يوحنا ذهبيّ الفم:
“حينما نغمر رؤوسنا في الماء يكون هذا بمثابة تغطية الرأس بالتراب في القبر..
وحينما نرفعها منه فهذا يعني الميلاد الجديد”([22]).
فالتعميد بالتغطيس الكامل لم يكن شائعاً بالدرجة التي كان يمكن تصوُّرها من قبل.
كما أن استعمال الغمر أو الرش يعطينا مفتاحاً لفهم بعض تفاصيل مبنى المعمودية الذي
أقامه قسطنطين الكبير في قصر اللاتيران بالفاتيكان حالياً (شكل 1). فرغم أن الجرن
متسع بدرجة تسمح بالتغطيس الكامل، إلا أن وجود
تمثال الحَمَل الذهبي الذي من فمه يخرج سلسبيل ماء
يجعلنا نعتقد أن خادم السِّر كان يحمل في يده وعاء يملأه من الماء المنحدر
من الحَمَل ليسكبه على رأس المعمَّد.

 بهذا نستنتج أن العادة
الجارية كانت الوقوف في الجرن وتغطيس الرأس فقط تحت مياهه أو سكب الماء على الرأس.
وهذا لاينفي العلاقة بين الدفن والمعمودية. فما زالت العادة بين أقباط مصر أن يحمل
الكاهن في يده حفنة تراب يرشها على جسد المتوفي، علامة على موته، قائلاً: أنت تراب
وإلى التراب تعود.

ثالثاً- القاعات أو
الحجرات ذات الاتصال بالمعمودية:

يسهم علم الآثار في
إمدادنا بمفهومات عن ممارسة ومغزى الدخول إلى المسيحية ابتداء من القرن الثالث.
ومع أن الطقس كان أكثر تعقيداً رغم الاختلافات الطفيفة من مكان لآخر، إلا أنها
تشترك جميعاً في إعداد الموعوظين بواسطة ممارسات محددة مثل: تسليم قانون الإيمان
وشرحه، تكرار عمليات التعزيم
exorcism، خلع الملابس، ثم المعمودية والدهن بالزيت المقدس. ويلي ذلك
ارتداء الثوب الأبيض والانتظام في موكب حافل حاملين الشموع المضاءة من مبنى
المعمودية حتى الكنيسة للتناول من الإفخارستيا مع سائر المؤمنين المجتمعين في
الكنيسة المحلية.

وبسبب حرية المسيحيين
في تنظيم العبادة، تيسَّر إعداد مجموعة من القاعات والحجرات تخدم كل عنصر من عناصر
هذا السرّ؛ ولا يحدُّهم في هذه الحرية سوى نقص المواد أو التمويل اللازم. وهذا
وحده يشرح وجود مباني للتعميد لا تحوي سوى حجرة واحدة بينما مباني أخرى فيها
العديد من الملحقات لتفي بالعناصر المختلفة لممارسة المعمودية. وبصفة عامة، كانت
تخصص إحداها للموعوظين يستمعون لشرح قانون الإيمان وترديده، وما تستلزمه الحياة الجديدة من سلوك فردي وعائلي
واجتماعي يتواءم مع الإنجيل. وقاعة ثانية للتعميد ولإجراء المسحة المقدسة في عصر
لم تكن فيه قد استقلت باسم سرِّ التثبيت.
فإن وُجد أي تجويف في حائط القاعة فهذا يعني أنه موضع كرسي الأسقف الذي
يمارس دهن المسحة. كما أنه يؤكد أن هذا الإجراء كان ختام طقس المعمودية. وأحياناً
كان مطلوباً من الموعوظ التوجُّه إلى قاعة الأسقف ليُجري عليه آخر طقوس التعزيم
قبل نزوله
إلى جرن المعمودية.

 والانتقال بين هذه
القاعات كان من خلال فتحات في الحوائط أو عن طريق ممرَّات مسقوفة. وبعد الانتهاء
من هذه الطقوس يخرج المعمَّد الجديد لابساً ثياباً بيضاء وحاملاً شمعة مضاءة في
موكب متَّجهاً إلى الكنيسة خلال ممر مسقوف.

وملاحظة أخيرة؛ أن الكثير
من مباني المعموديات كان بالقرب منها حمامات. ففي (شكل 12) تظهر حجرات الاستحمام
كجزء متصل بمكان التعميد في الكنيسة الأثرية في جاميلا بشمال أفريقا. هذا يعني أن
الموعوظ كان عليه الاستحمام قبل الدخول إلى مبنى المعمودية، فكان يُهيَّأُ له مكان
لائق للاستحمام تحصيناً له ضد الأعمال الشائنة التي كانت في الحمامات العامة.

وبعدما اتضحت أهمية
الدور المنوط بالأسقف، كانت مباني المعمودية تقام في المدن الرئيسية التي يتوفر
فيها الكرسي الأسقفي. لكن بعدما سُمح في بلاد الشرق للكهنة أن يمارسوا مهام الأسقف
في التعميد في الأماكن البعيدة، انتشرت المعموديات في القرى والكور النائية. أما
في الغرب حيث لم يفوَّض للكهنة ممارسة هذا السر، بقيت المعموديات في المدن
الأسقفية.

رابعاً- الزخرفة
والتزيين:

لم تكن أبداً مباني
المعموديات عبارة عن حوائط بسيطة مجردة، بل كان هناك اهتمام بليغ بتزيينها
وزخرفتها بالفرسكات والموزاييك. وحين يتمعَّن القارئ في الأشكال (1و3و8و11) يحس
بجمال التزيين للمعموديات واحتفاظها برونقها أكثر من ستة عشر قرناً من الزمان.
وكما حملت نماذجها مضموناً إيديولوجياً هكذا بالمثل كان تزيينها مملوءاً بالمعاني
الرمزية. فكانت هناك موضوعات زخرفية نمطية متكررة على مدى العصور المختلفة
والأماكن المتباعدة. ففي البيت الذي تحول إلى كنيسة في ديورا يوربوس عام 230م على
نهر الفرات ومبنى المعمودية في نابولي بإيطاليا (حوالي 400م) خمسة مشاهد مشتركة:
السماء المرصَّعة بالنجوم، الراعي الصالح، النسوة عند القبر، يسوع ماشياً على
الماء، ثم السامرية عند بئر سوخار. واختيار هذه المشاهد يعود إلى التوازي الفكري
بين المدافن والمعموديات؛ فالموت والقيامة- كمفهوم للخلاص- هو العامل المشترك. هذا
العامل المشترك بين موت الجسد ودفنه في القبر وموت الإنسان العتيق ودفنه في
المعمودية، يشرح علَّة اختيار موضوعات محددة من معجزات السيد المسيح، سواء في
السراديب
catacumbs أو التوابيت sarcophagos مع مباني المعموديات. فالمعجزة هي برهان القوة الإلهية، وتمثيلها
مصوَّرة على الفرسكات يعتبر التجاءً وتوسلاً لله أن يُظهر نفس القوة الآن؛ سواء في
القيامة من الأموات للمدفونين في الأضرحة والمدافن، أو في قيامة المعمَّد الجديد
بعد معموديته. فالموعوظ، قبيل نزوله إلى المعمودية، يتأمل مشهد المسيح ماشياً على
الماء أو جالساً على بئر سوخار يحادث السامرية عن ماء الحياة، فيخفق قلبه بالصلاة
والتوسّل لله أن يكرر في شخصه نفس القدرة الإعجازية. وحينما يرى النسوة واقفات عند
القبر الفارغ لأن يسوع قد قام، يزداد يقيناً بقيامته مع المسيح بالمعمودية. وهكذا
تكون الزخارف مصدراً ثميناً لمعنى الدخول إلى المسيحية بواسطة المعمودية وتشرح
المنهج الفكري الذي تشير إليه نصوص العهد الجديد وشروحات آباء الكنيسة.

وبالمثل أيضاً؛ تمثل
القبة المرصَّعة بالنجوم السماء لدي المؤمنين. فشاع استعمالها في المدافن المسيحية
وفي المعموديات كما هو ظاهر في كنيسة/بيت ديورا يوربس.وهذا يعني أن الذين يثبتون
على إيمانهم حتى النهاية لا بد أن يدخلوا البيت السمائي. ومشهد الراعي الصالح كان
ديكوراً شائعاً في المدافن والمعموديات، لأن الراعي يضع نفسه عن الخراف (يو11: 10)
أي يفدي الإنسان من الخطية والهلاك. فيصير هذا التصوير جواباً فعلياً على سقوط آدم
وحواء، وهو الرسم المقابل في كنيسة/بيت ديورا يوربوس. ثم يتطرق المعنى إلى ما جاء
في (مز: 1: 23-2)” لرب راعي فلا يعوزني شيء، في مراع خضر يربضني إلى مياه
الراحة يوردني”. والخراف تختص بالراعي، أي أن الراعي يمتلكها، لذلك كانت
تُختم بعلامة مميزة لاتُمحى. فالذي نال ختم المعمودية
sfrag…j قد صار مِلكاً للمسيح، كما يقول ثيئودورس المصِّيصي: بهذا الختم sfrag…j صرنا محسوبين خراف
المسيح.. فعند شراء أية غنمة، تُختم بختم حتى يُعرف صاحبها ومالكها”.

في الحقيقة، منذ عصر
مبكر جداً كانت المعمودية تُمثَّل رمزياً بما جاء في مر17: 1″ أجعلكما تصيران
صيادي الناس”، وأيضاً المثل الذي قاله السيد المسيح عن ملكوت السموات وإنه
يشبه شبكة مطروحة فاصطادت سمكاً جيداً ورديئاً. ويصوِّر ترتليان هذا المعنى
رمزياً: “نحن الأسماك الصغيرة كمثال ال
„cqÚj الذي لنا. نولد في الماء، وطالما نحن فيه نبقى في أمان” (de Bapt. c1). ونفس التمثيل الرمزي جاء عند ق. إيلاري (In Matheum) إذ يقول إن ما جاء في (مت 19: 9) هو المهمة التي سيقوم بها الرسل
باجتذاب الناس إلى نور المساكن السمائية كمثل الأسماك من البحر.

هذا التشبيه ورد كثيراً
في السراديب الرومانية وفي أنحاء متفرقة في فرنسا. ففي أوتون
Autun يظهر كسمكتين متقاربتين ومرتبطتين بخيط يخرج من فم الأولى إلى رأس
الثانية. وعلى ما يبدو، هو تطوير مسيحي لرمز وثني كان شائعاً في بلاد الغال حيث
يظهر إله الفصاحة وكأن رباطاً ذهبياً يخرج من فمه ليدخل أذن المتكلم الفصيح، وكأنه
يمليه ما ينبغي أن ينطق به. هكذا في المسيحية، فالمتكلم الذي لم يسبقه آخر، وهو
الرب يسوع، تمثله السمكة- الإخثيس
„cqÚj– يجتذب بسلطان كلمته نسل السمكة السمائية. هذا التمثيل الرمزي
يبدو واضحاً في أبواب كاتدرائية أوتون
Autun ومخطوطة الكتاب
المقدس من القرن الحادي عشر في مكتبة كنيسة
Clermont Ferrand، وعلى تاج عمود مبنى المعمودية في كنيسة ق. جرمانوس القريبة من
باريس (شكل 13)، والتي يظهر فيها تطوير مسيحي لنحت السمكة، إذ أن جسمها العلوي
بشكل إنسان بينما السفلي سمكة حقيقية، ويدها ممسكة بسمكة أخرى صاعدة من مياه
المعمودية. وهذه الكنيسة معتبرة أنها أقدم كنائس باريس. وحينما أعيد بناؤها في
القرن الحادي عشر نقلت إليها أعمدة وتيجان الكنيسة الأولى ولا زالت قائمة حتى
الآن. وهذا يؤكد شيوع هذا التمثيل الرمزي في بلاد الغال في القرن السابع إن لم يكن
قبل ذلك.

 

(شكل 13) تاج عمود مبنى
المعمودية في كنيسة ق. جرمانوس بباريس

ربما كان أكثر الزخارف
شيوعاً هو “الإيَّل”؛ فقد وُجدت فرسكاته في فرنسا وإيطاليا وشمال إفريقيا،
وتماثيله واضحة في مبنى المعمودية في اللاتيران بروما. وتبنِّي هذا الديكور راجع
إلى التفسير المعاصر ل (مز1: 42″
(كما يشتاق الإيل إلى
جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله”. وشرح ق. أغسطينوس واضح في هذا
المجال: لا ينبغي أن يُساء فهم اشتياق الموعوظين إلى نعمة المعمودية المقدسة حيث
يُرتَّل هذا المزمور في هذه المناسبة: “هم يشتاقون إلى ينبوع مغفرة الخطايا
كاشتياق الإيل إلى جداول المياه.. ليس هذا فقط، فالإيَّل عدو الأفعى، وحينما
يصارعها ويأتي عليها فإنه يلتهب عطشاً فيعدو عدواً ليروي ظمأه. والأفعي هي الشرور
والآثام والخطايا أعداء حياتنا. فعليك أن تأتي عليها جميعاً فحينئذ تلتهب عطشاً
إلى ينبوع الحق.. قم أسرع إلى ينبوع المياه الذي أعده الله لإنعاشك وإروائك عند
وصولك إليه لاهثاً، كالإيَّل المُسرِع في عَدْوِه بعد انتصاره على عدُوِّه”(
[23]). فالأفعى عند إحساسها باقتراب الإيَّل تختبئ في
شقوق الصخر. والإيَّل يحاول من جهته إخراجها من مخبأها بأن يغمرها من فمه بالماء
أو ببعض السوائل من بطنه. ومتى سحقها يكون عطشه قد بلغ حد الالتهاب فيسرع إلى
جداول المياه يروي فيها عطشه.

 

(شكل 14) أرضية إحدى
مباني المعموديات تصوِّر المعركة بين الإيَّل والأفعي

والشكل (14) يشرح هذه
المعركة؛ كل إيَّل منهما يصارع أفعي ممسكاً بها محاولاً سحقها تحت حافره. فالموعوظ
ليس مطلوباً منه الخلاص فقط، بل مصارعة قوات الشر وسحقها. فالتوازي هنا رائع بين
تماثيل الإيَّل المنسكب من أفواهها المياه في معمودية اللاتيران، وبين جحد الموعوظ
للشيطان وكل أعماله وغواياته. كما يظهر في الصورة أيضاً الحمامة، رمز حلول الروح
القدس في المسحة المقدسة، ثم شجرة حاملة الثمار إشارة إلى الإفخارستيا التي سيشترك
فيها المعمَّد عقب خروجه متوجهاً إلى الكنيسة. وهكذا انجمع في رسم واحد كل ممارسات
طقس المعمودية.

كذلك،
من الزخارف التي كانت تزين حوائط المعموديات: الطاوُّوس الذي يرمز للخلود وللقيامة
والحياة الأبدية، الفُلْك الذي يمثل الكنيسة كوسيلة
النجاة والخلاص، داود وانتصاره على جليات
الجبار.

وبإيجاز، يمكن القول إن
المنهج الزخرفي في المعموديات يقدم لنا:

1- أهم مواسم التعميد
كانت عشية عيد القيامة وأحد العنصرة. فبعد القراءات التي يُسمح للموعوظين بحضورها،
يتوجهون إلى المعمودية مرتِّلين مزمور 42.

2- جحد الشيطان ومسحة
الإكسورسزم بيد الأسقف أو من يفوضه لإجرائها.

3- زخرفة المبنى بصورة
تعميد السيد المسيح نراه واقفاً في الأردن والماء إلى ركبتيه، وق. يوحنا المعمدان
يضع يده على رأسه. وهذا يعكس الترتيب المعاصر في القرون المسيحية الأولى.

4- عودة المعمَّدين
الجدد مرة أخرى إلى الكنيسة للتناول من الإفخارستيا كان يصاحبه ترتيل مزمور 23،
وعبارة: ” سحتَ بالدهن رأسي” تشير للمسحة المقدسة، والثانية: ”
رتِّب قدامي مائدة” توحي بمائدة الإفخارستيا. وينتهي الاحتفال بكأس اللبن
والعسل، كما في طقس الإسكندرية وروما وشمال إفريقيا، ويعنى الدخول إلى أرض الميعاد([24]).

وهكذا رأينا كيف أن
كمَّ المعلومات الأثرية قد أثرى معرفتنا بأهمية المدخل إلى المسيحية عن طريق
المعمودية. فالتشكيل المعماري مع شكل الجرن وعناصر التزيين والزخرفة تشرح مجتمعة
إخلاص الكنيسة لتعاليم العهد الجديد الذي يتمحور حول موت المؤمنين وقيامتهم مع
المسيح. جرن المعمودية يعيننا على فهم الأسلوب العملي للسرّ، والحجرات الملحقة مع
قربها من هيكل الكنيسة تؤكد أن غاية المعمودية هي الشركة بالرب والاتحاد به في
الإفخارستيا. وعظمة وغنى التنظيم الإنشائي لمباني المعمودية في العصور المسيحية
الأولى يعلو فوق كل جدال، ولكنه لم يكن مقصوداً لذاته بل هو انعكاس لتقييم الكنيسة
لهذا السر.

وفي ختام هذا البحث يمكن القول بنوع من الجسارة إنه أمكن
للحجارة أن تنطق بعظمة هذا السرّ.



اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى