اللاهوت العقيدي

الفصل الأول



الفصل الأول

الفصل
الأول

الجزء
النظري

1-
مقدِّمة تفسيرية

شرح
المعمودية، قيمتها ومعناها:

مقالات ذات صلة

كانت
المعمودية في عصور الكنيسة الأُولى ذات هيبة فائقة ووقار، وكانت لها صلوات تشرح
بحد ذاتها قيمة هذا السر في الكنيسة، وتنبِّه أذهان الناس- سواء الذين سيتعمَّدون
أو الذين يحتفلون بعمادهم- بأهمية العماد والمعمَّدين في الكنيسة، إذ كانوا
يحتفلون بهم احتفالاً كبيراً يلتحق بالاحتفال بأسبوع البصخة المقدَّس وعيد القيامة
المجيد. وقد التقطنا صلوات الكنيسة التي كانت تجريها على ماء المعمودية ومسحتها
والمعمَّدين، وجعلناها موضوع شرح مطوَّل عن المعمودية. وقد وُضِعت هذه الصلوات
حوالي سنة 350م في قرية صغيرة خاملة الذكر في شمال الدلتا تُدعى تمويس (وهي حالياً
تميّ الأمديد بمركز السنبلاوين بمحافظة الدقهلية)، ولكن كان قد أسعدها النصيب
الفاخر بتنصيب أحد الأساقفة الأجلاء الذين أضاءوا تاريخ مصر الليتورجي وهو القديس
سيرابيون المدعو بالمدرسي لغزارة علمه، وهو مؤلِّف قداس سيرابيون المشهور، وهو
الذي وضع صلوات المعمودية والإفخارستيا للكنيسة آنئذ، وهو صديق القديس أثناسيوس
الحميم جدًّا ومن سن عمره تقريباً. وكان وهو راهب صديق القديس أنطونيوس الناسك
المعروف وزميله في الرهبنة، وقد وهبه ق. أنطونيوس عباءته (جلد خروف) الخاصة،
والثانية أهداها للقديس أثناسيوس. وقد اختاره ق. أثناسيوس لإرسالية هامة
للإمبراطور قسطنطيوس. وسيرابيون قديس كنسي تُعيِّد له الكنيسة في يوم 21 مارس من
كل سنة.

وطبعاً
ونحن نروي ما كانت عليه المعمودية بمستواها الفاخر جدًّا في سنة 350م، يأخذنا
الحزن والأسى على ما صارت إليه في أيامنا- ولكن قصدنا من ذلك أن نوقظ في إحساس
القارئ الشعور بضرورة عودة الكنيسة إلى تراثها المجيد ومستوى إدراكها العالي
لطقوسها وأسرارها وعلمها ولاهوتها- كدراسة بحد ذاتها خلواً من تعميد الذي سبق
ونلناه في طفولتنا.

ويظهر
من هذا الطقس علاقة المعمودية بالاحتفال بالبصخة المقدَّسة، وهي الأسبوع الأخير
بعد الصوم وقبل الاحتفال بعيد القيامة، الأمر الذي كان يهلِّل له الشعب جميعه بفرح
وتحية وزفَّة كبرى لا تزال بقاياها موجودة دون أن يُعرف سببها. حتى أن الشعب كان
حينما تبدأ الكنيسة احتفالها بطقس المعمودية السنوي، كان يتبادر إلى إحساسه قرب
البصخة المقدَّسة وعيد القيامة لارتباطهما الشديد معاً كما سيرى القارئ.

بل
وسيرى القارئ بلا مبالغة أن الكنيسة ذاتها باحتفالها السنوي بطقس سر العماد،
تتعرَّف على نفسها وقيمتها كأُم تلد بنينَ جدداً كل سنة، تستقبلهم بالألحان الخاصة
والطقوس الخاصة مع شرحها للمعمدين بواسطة الأسقف نفسه. فكان طقس المعمودية هو
إحياء لليتورجية القيامة وطقس الكنيسة كأُم، حتى أن غياب طقس المعمودية الآن من
الكنيسة باقتصارها على عماد الأطفال أعطاها إحساس العقم وسلبها فرحتها الكبرى
السنوية.

تقديس
ماء المعمودية:

وأول
خطوات طقس المعمودية هو تقديس الماء: فكان الأسقف يقف أمام جرن المعمودية لابساً
ثياب التعميد البيضاء الخاصة ويقول:

الصلاة:
صلاة الأسقف سيرابيون لمدينة تمويس (تمي الأمديد):
([1])

+ [يا ملك ورب كل شيء صانع المسكونة، الذي
أعطى الخلاص مجاناً لكل الطبيعة المخلوقة بواسطة نزول ابنك الوحيد يسوع المسيح،
أنت الذي فديت الخليقة التي خلقتَ بمجيء الكلمة- الآن ومن السماء انظر إلى هذه
المياه واملأها بالروح القدس، ليت كلمتك الفائق يأتي فيها ويحوِّل طاقتها ويجعلها
ولودة بملئها بنعمتك، لكي لا يكون السر الذي نقيمه باطلاً في هؤلاء الذين سيولدون
منه ثانية، بل ليتك تملأ كل هؤلاء الذين ينزلون ويعتمدون بالنعمة الإلهية. أيها
المحسن المحبوب، أبقِ على صنعة يديك، وخلِّص المخلوق الذي صنعته يمينك. وكل هؤلاء
الذين يولدون ثانية غيِّر شكلهم إلى شكلك الإلهي غير المنطوق به، حتى أنهم بعد أن
يتشكَّلوا بك ويولدوا ثانية يقبلوا الخلاص ويُحسبوا أهلاً لملكوتك. وكما أن ابنك
الوحيد الكلمة لما نزل في مياه الأُردن جعلها مياهاً مقدَّسة، هكذا أيضاً الآن،
ليته ينزل على هؤلاء ويقدِّسهم ويجعلهم روحانيين إلى النهاية. حتى أن الذين
يعتمدون لا يكونون بعد لحماً ودماً ولكن روحانيين قادرين أن يعبدوك أنت أيها الآب
غير المخلوق بابنك يسوع وفي الروح القدس، الذي به لك المجد والقوة الآن وكل أوان
وإلى دهر الدهور آمين].

وكون
المعمودية تبدأ بتقديس الماء فهذا له عمق روحي ولاهوتي سنعرضه حالاً. ولكن وللحزن
نجد أن بعض الكنائس لعدم فهمها لقيمة وأهمية تقديس الماء ومعناه اللاهوتي،
استثقلوا الطقس فوجدوا أنه من العبث تضييع الوقت بالنسبة لهم وللشعب، فلجأوا إلى
الاختصار المُخلّ الذي ضيَّع معنى الطقس بل وقوَّته وقيمته ولاهوته بآن واحد-
فاكتفوا بقليل من الماء السابق تقديسه ووضعوه على الماء الجديد بلا صلاة إرضاء
لأنفسهم وللشعب الذي يرغب في الاختصار، بل ووصل الأمر في بعض الكنائس أنهم حذفوا
جرن المعمودية بكامله لاستثقالهم إجراء هذا الطقس، فبقيت الكنيسة بلا جرن معمودية
كإمرأة استؤصل رحمها! هذا نتيجة الجهل بقداسة هذا السر وأهميته وقيمته، وبسبب
انقطاع التسليم من الكنيسة الأُولى الصاحية، فاختزلوا العماد حتى صار في عشر دقائق
يُصنع الإنسان مسيحياً وعضواً في جسد المسيح ووعاءً مقدَّساً لحمْل الاسم الرهيب
وللروح القدس وللبس المسيح! فكل المطلوب هو استخراج شهادة عماد. فلا عجب إذن إن
كان قد انحط الطقس واستُهزئ به في أعين الناس. ولكن ليس الطقس فقط الذي استُهزئ به
بل والكنيسة التي فقدت قيمتها ولزومها وأسرارها غير المفهومة. وضاع من الإنسان
المسيحي معنى كلمة “الإنسان الجديد” و“الخلقة الجديدة” و“الحياة الجديدة” أو“جدَّة
الحياة”. وصارت كلمات الوعظ غير مفهومة وثقيلة.

والذي
ضاع على الكاهن أن يقوله للشعب أن تقديس ماء المعمودية هو بعينه كتقديس الخبز
والخمر ليتحوَّلا إلى طعام الحق الروحي الذي يغذِّي الروح لا الجسد. هكذا ماء
المعمودية، فبالصلاة وهي نفس صلاة الإفخارستيا أي الشكر للتقديس، يتحوَّل الماء عن
طبيعته الميتة إلى طبيعة حيَّة والدة تهب الحياة الروحية الجديدة غير المنظورة.
وهذه هي أول عملية تقديس تقوم بها الكنيسة بسلطان المسيح الذي اعتمد في ماء
الأُردن ليحوِّله إلى ماءٍ لحياة جديدة “هكذا يليق بنا أن نكمِّل كل بر”
(مت 15: 3). هذا تبدأ به الكنيسة ليصبح فيها أول عمل سرِّي لاهوتي غير منظور،
وبالتالي يكون بداية بديعة لليتورجية العماد في الكنيسة.

والماء:
هو
من أقدم الرموز الدينية المسئولة عن الخلق الأول، حينما كان قبل كل خلقة يرف الروح على وجه المياه في سفر التكوين في الأصحاح
الأول. وهكذا فُهم أن الماء والروح مصدرٌ
للحياة.

ولكن
عاد نفس الماء ليرمز إلى الموت في قصة نوح والفلك، حيث اللجج التي أودت بحياة كل
البشر وخَلُص ثمانية أنفس في الفلك، وهم عائلة نوح الذي يقول عنه ق. بطرس:
“الذي مِثَالُهُ يُخلِّصُنَا نحن الآن، أي المعموديةُ، لا إزالةُ وسخِ
الجسدِ، بل سؤالُ ضميرٍ صالحٍ عن الله، بقيامة يسوع المسيح” (1بط 21: 3)

وكذلك
كانت لجج الماء وأعماقه تشير إلى سكنى الأرواح الشريرة وتهديد الموت الذي ملأ سفر
المزامير. وكان الماء هو الكيان غير المفهوم أو غير المنضبط في أركان عالم الظلمة.
وكما كان الماء مبدأ الحياة فإنه مهبط الموت والهلاك، هذه كانت صورة الماء في
العهد القديم- كما كان أيضاً عنصر تطهير. لذلك اختاره المسيح ليكون أصلاً ومبدأً
لغسل الخطايا والميلاد الجديد، وذلك في حوار المسيح مع نيقوديموس، ولكن ليس من
طبيعة الماء ولكن بعد تقديسه وحلول الروح فيه “يولد من الماء والروح”
(يو 5: 3). فبالروح القدس والماء المتحوِّل عن طبيعته تُوهب الحياة الجديدة، وهذا
هو كشف أو إظهار طبيعة الماء الجديدة بالصلاة والروح القدس.

فكما
حُسب الماء والروح الذي كان يرف عليه مبدأ الخليقة الأُولى المادية، كذلك حُسب
أيضاً الماء نفسه والروح القدس- وقد نزله بالصلاة والتقديس- ليكون مبدأ الخليقة
الثانية الروحية في العالم الجديد الذي أحبَّه الله وبذل ابنه من أجل خلاصه. فأصبح
ماء المعمودية بعد تقديسه يعكس صورة الله بالخلق الجديد الروحي المنبثق منه.

فانظر
الآن يا قارئي العزيز موقف الكاهن وهو واقف أمام جرن المعمودية يُقدِّس الماء،
ليجعل منه رحماً إلهياً سماوياً لخلقة جديدة روحية بشبه خالقها في المجد والقداسة،
ولا تستكثر ذلك، بل اذكر نزول المسيح في الأُردن ليحوِّل ماءه إلى مبدأ المعمودية
الجديدة بالروح والماء! الماء هنا صار أكثر من ماء! لقد أُظهرت طبيعة جديدة لماء
المعمودية، فقد صيَّره المسيح قاعدة للخلق الجديد: “فاذهبوا وتلمذوا جميع
الأُمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (مت 19: 28)

فالآن
تأمَّل معي ما صار إليه الماء وما صار منه وفيه: مبدأ الخلق الأول المادي ومبدأ
الغضب الإلهي والموت الجماعي، أي مبدأ الحياة والموت. على هذه الصورة استخدمته
الكنيسة في سر المعمودية إذ جعلته بواسطة دفن المعمَّد تحت سطح الماء ثلاث مرَّات
مثالاً لموت المسيح والدفن في القبر ثلاثة أيام- بمعنى توثيق الإيمان الذي آمن به
المعمَّد- ولكن هنا أصبح تمثيل الإيمان عملياً يشير إلى مشاركة المسيح عملياً في
موته. ثمَّ بقيامته من تحت الماء يقوم المُعمَّد وقد شكَّله الروح القدس على صورة
قيامة المسيح من القبر لحياة جديدة، وأيضاً ليُمثِّل حالة شركة أيضاً في قيامته-
وهكذا أصبح الماء وسيط موت وقيامة مع المسيح. والذي يحوِّل هذا الفعل إلى حقيقة
روحية مطابقة للحقيقة الإيمانية هو الروح القدس، الذي إحدى وظائفه كقول المسيح أن
“يأخذ مما لي ويستعلنه لكم” (يو 14: 16) (ترجمة “ويخبركم” لا
توفي المعنى). أي أن أعمال المسيح غير المدركة يجعلها لنا وفينا مدركة.

وهكذا
نرى أن صلاة تقديس الماء قد أعطته المحتوى والهدف، أمَّا المحتوى فهو إعطاء الحياة
الجديدة بالروح المحيي، أمَّا الهدف فالمعمودية من أول أهدافها المعلنة هي نعمة
الدخول إلى ملكوت الله كهدف الحياة الجديدة المباشر. لذلك نجد أن مَنْ ينال
الانغمار تحت الماء لثلاث مرَّات مع الاعتراف بالثالوث يبدأ في الحال يشتاق إلى
هذا الهدف الذي تشكَّل في أعماقه ويسعى إليه، وتبتدئ الكنيسة تُعلِّمه كيف يبلغه
بالنعمة وبالسلوك الأخلاقي والمحبة وبساطة القلب. فالنعمة المنحدرة من الملكوت على
المعمَّد هي التي تُلهب قلبه بحب الملكوت والسعي إليه. كما يسمعها أيضاً من شرح
الأسقف في الإنجيل وكهدف لهذا السر المقدَّس. علماً بأن النعمة التي سترافق
المعمَّد في طريقه الطويل للعبور الصعب اللذيذ (وقد أتقنت الكنيسة ترتيب طقس
المعمودية حتى تكتمل خطواته بالاشتراك- أول اشتراك- في الإفخارستيا المقدَّسة ليلة
عيد القيامة بمفهومها أنها زاد الطريق إلى الملكوت) والانتقال السرِّي غير المنظور
من هذا العالم الزائل إلى عالم الروح ومسرَّات الدهر الآتي، وتمدَّه المعمودية
بالاستنارة ليدرك حقيقة الزائل وحقيقة الباقي.

بهذا
نكون قد أدركنا قيمة تقديس الماء في المعمودية، الذي يهيئ الماء لأن يكون مع الروح
القدس واسطة للميلاد الجديد حسب وصف المسيح لنيقوديموس. وبمعنى روحي عميق يحرِّر
مادة الماء من طبيعتها الأُولى الميتة والمميتة الموافقة لسكنى الأرواح النجسة،
إلى طبيعة جديدة حيَّة محيية بالروح الذي فيها، صالحة لسُكنى الروح القدس لميلاد
الإنسان الجديد. وبذلك يتهيَّأ الماء للحضور الإلهي، وكأن الماء المتقدِّس في
المعمودية يصير المبتدأ لتجلِّي المادة في العالم، وكأن العالم يبدأ أن يُخلق
جديداً بخلقة الإنسان الجديد.

وإن
كنَّا سنرث من الولادة الجديدة من الماء والروح ميراث الحياة الجديدة فهو حتماً
ميراث النور: “فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس” (يو 4: 1)، فمن
الاستنارة في المعمودية إلى حياة النور في الإفخارستيا.

انظر
أيها القارئ العزيز أهمية معرفة هذا عن المعمودية، فإن أهملناه ألا نكون غير أمناء
فيما أخذنا وفيما ورثنا، وفيما نحياه؟!

صلاة
من أجل المعمَّدين:

يقول الأسقف سيرابيون([2]):

+ [نحن نتوسَّل إليك يا إله الحق من أجل
عبدك هذا- الذي يتعمَّد- ونصلِّي حتى تحسبه مستحقاً للسر الإلهي، من أجل الولادة
الثانية الفائقة الوصف، لأن لك يا محب البشر نقدِّم هذا ونكرِّسه لك. امنحه أن
يكون شريكاً لهذا الميلاد الجديد السماوي إلى النهاية، حتى لا يُساق في ما بعد بأي
أمر شرير أو رديء. ولكن ليخدمك باستمرار ويحفظ وصاياك. وأيضاً ليت ابنك الوحيد،
الكلمة، يقوده، لأن به لك المجد والقوة في الروح القدس الآن وكل أوان وإلى كل
الدهور آمين].

+ [يا محب البشر مخلِّص كل الذين لجأوا
إليك للإغاثة، كن منعماً على عبدك هذا، قُده إلى الميلاد الثاني بيمينك، وليت ابنك
الوحيد الكلمة، يقوده إلى الاغتسال، واجعل ميلاده الثاني مكرَّماً بموافقتك، ولا
تجعله فارغاً من نعمتك، وليت كلمتك المقدَّسة ترافقه وروحك القدوس يكون معه طارداً
بعيداً عنه كل تجربة، لأنه بابنك الوحيد يسوع المسيح لك المجد والقوة الآن وكل
الدهور آمين].

+ [يا الله إله الحق صانع كل شيء رب كل
خليقة، بارك عبدك هذا ببركتك، واجعله طاهراً في الميلاد الجديد، واجعل له أُلفة مع
قوَّاتك الملائكية، حتى لا يُدعى في ما بعد جسدانياً بل روحانياً باشتراكه في
عطيتك الإلهية النافعة. ليته يُحفظ إلى النهاية لك، لك أنت يا صانع المسكونة بابنك
الوحيد يسوع المسيح، الذي به لك المجد والقوة الآن وكل الدهور آمين].

انظر
وتأمَّل هذه الصلوات، وتعجَّب من قول بعض الناس الجهلاء الذين يقولون إن المعمودية
نوع من السحر يقترفه الكهنة لذلك أسموه سرًّا. والكنيسة مسئولة عن هذا لأنها لا
تُعلِّم الشعب عن ماذا يُجرى في معموديتها من البدء. فهذه صلوات منذ ما قبل سنة
350م. إنه الطقس السائد في كل كنيسة وكل أسقف يُسجِّل ما وهبه الله. فضياع هذا
التراث والميراث خسارة عظيمة على الكنيسة وعلى الشعب جميعاً. وصلوات تقديس الماء
والمعمَّد هذه، وتكريسهما، لحساب العالم الجديد والرعية السماوية للراعي الصالح،
يقف فيها الأسقف نائباً عن العالم والخليقة العتيقة، يُصلِّي ويتوسَّل من أجل فداء
المادة والإنسان معاً اللذان أسقطهما آدم بخطيته وورَّث طبيعته الساقطة لكل إنسان
ولكل العالم. يقف الأسقف يجاهد مع الله باسم ابنه الوحيد المحبوب من أجل خلقة
جديدة، هو الذي أخرجها إلى الوجود بمعموديته في الأُردن أول ما استُعلنت، وعلى
الصليب والقبر والقيامة آخر ما استُعلنت، كعناصر جديدة دخلت العالم لتجدِّده
وتخلقه جديداً في اسمه واسم أبيه الصالح والروح القدس. والأسقف حينما يقف يقدِّم
الصلوات والتشكرات لله خالق الجميع بيسوع المسيح ابنه، يقف بنفسه كخليقة حرَّة،
حرَّره المسيح الحق بالحق، فصار حرًّا يتشفَّع عن ما ومن لا يزال عبداً مسخَّراً
للعالم والشيطان. لتصير المادة ويصير الإنسان حرًّا بالمسيح وفي المسيح، ويصير
الماء والإنسان معاً على طبيعة فائقة ذات صلة مباشرة بالله في المسيح والروح
القدس. وكأنما يُدخلنا الأسقف بصلاته وهو يُقدِّس الماء والإنسان إلى الفردوس، حيث
تُستعلن الطبائع على أصلها الأزلي يوم خلقها الله في جوهرها الطاهر المقدَّس
الخارج من يد الله.

والأسقف
يذكر في صلاته كل أعمال الله الخلاصية، مِن تجسُّد وفداء وقيامة وحياة جديدة أبدية
مخلوقة بنفخته من الماء والروح، وتوسُّله هذا ذو فاعلية محبوبة في عين الله
والمسيح، لأنه اعتراف بالفضل والشكر وذكر مراحم ونعم استعاد بها الله طبيعة
الإنسان التي فسدت وانحطَّت وقاومت الله وأهانت الاسم وجدَّفت عليه. وها هو الأسقف
يذكر كيف أعلن الله رحمته واستعاد ملكوته بعد أن رفض الإنسان الحياة الأُولى
والمكرَّمة جدًّا مع الله، وانحدر بها إلى الخطية فأوقع نفسه والخليقة معه عن
اضطرار تحت عبودية الشيطان للتخريب والهلاك، وكيف استعاد الله الطبائع الأُولى إن
في الإنسان أو في الخليقة، الأمر الذي صار يوم أن تجسَّد الابن الوحيد مرسَلاً من
الله الآب، وفدى الإنسان بصليبه وذبيحة نفسه وأقامه معه لحياة جديدة أبدية، يحياها
بحضرة الآب والابن وبنعمة الروح القدس. والماء بعد أن كان للموت والهلاك وعبودية
الشيطان استُعلن بطبيعته الجديدة أول ما استُعلن في الأُردن بمسحة الروح القدس،
ثمَّ من الجنب المثقوب على الصليب والجسد قد مات ليُعلن انبثاق الحياة في الماء
بعد موت. ثمَّ نزول الروح القدس على الماء في جرن المعمودية بصلاة استدعاء الأسقف
ليمسحه الله بالقوة ليأخذ الإنسان شركته الجديدة مع الخالق. ويرشم الأسقف الماء
بالزيت بعلامة الصليب ليكون مرعباً للأرواح الشريرة، ومن هنا جاء اسم الاكسورسزم
في الطقس، أي صلاة إخراج الأرواح النجسة من المادة والإنسان، بعد أن كانت المادة
وخاصة الماء مأوى للأرواح الشريرة، وكان الإنسان نهباً هو الآخر للأرواح الشريرة.
والآن بفداء الإنسان فُديت المادة بعربون الروح القدس إعداداً لفداءٍ كامل في يوم
الفداء.

وبعد
أن تقدَّس الماء برسم الصليب ومسحة الزيت صار رمزاً لمجد الله وحضوره وبدء الشركة
معه كما حقَّقها المسيح بتجسُّده وصليبه وقيامته، وكما حقَّقها المسيح في حضوره في
خبز الإفخارستيا وكأس الخمر، وصار فيها وبها شركة حقيقية في المسيح والله:
“مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه” (يو 56: 6). وكما كان
نزول الروح القدس على المسيح إيذاناً بافتتاح زمن الخلاص في شخص المسيح، كان نزول
الروح القدس على التلاميذ والماء في معمودية يوم الخمسين إيذاناً بافتتاح زمن
الخلاص في أشخاص الرسل باسم المسيح، كما هو الآن في استدعاء الأسقف للروح القدس
على الماء في جرن المعمودية باسم المسيح لبدء زمن الخلاص لشخص المعمَّد. والشعب
كله شهود لهذا، يؤازرون بالصلاة. فكان طقس مسحة الزيت في الماء وفي المعمَّد أقوى
ما عبَّرت عنه الكنيسة لعمل الفداء والخلاص الذي أكمله المسيح على الصليب
وبالقيامة، الذي كان قد حفظه المعمَّد بتلقين الأسقف عن ظهر قلب وآمن وعلى إيمانه اعتمد
فعُمِّد. فكما يأكل الإنسان الخبز والخمر المتحوِّل فيأكل جسداً ويشرب دماً
للمسيح، هكذا وبالبدء اعتمد فعُمِّد بماء المعمودية والروح القدس فقبل الشركة
والعضوية في جسد المسيح. ولكن هذا وذاك بالسر وليس بالاستعلان، أي على مستوى عمل
الروح القدس الخفي غير المنظور. ولهذا كانت المعمودية هي السر الأول في الكنيسة،
أمَّا الاستعلان فهو مؤجَّل إلى يوم الفداء هناك في نهاية زمن العالم وكل ما فيه،
عندما تفنى الطبيعة المادية وتستعلن حقيقتها في الله!

زيت
الاكسورسزم:

بعد
تقديس الماء يدهن الماء ويدهن المعمَّد أيضاً بزيت الزيتون الساذج- مسحة زيت
الاكسورسزم- ثمَّ يقول هذه الصلاة:

صلاة سيرابيون أسقف تمي من أجل مسحة
الزيت للذين يرغبون أن يعتمدوا
([3]):

(دهن
الزيت للجسد بأعضائه قبل المعمودية).

+ [يا سيِّدي محب البشر ومحب النفوس (حكمة 26:
11) العطوف وكثير الشفقة الإله الحق. نحن ندعوك تبعاً وطاعة لوصاياك التي لابنك
الوحيد القائل: مَنْ غفرتم خطاياه تُغفر له
(يو 23: 20). ونحن نمسح بمسحة
الزيت هذه أُولئك المتقدِّمين لهذا الميلاد الجديد الإلهي، متوسِّلين إليك أن يعمل
فيهم ربنا يسوع المسيح للشفاء ولقوة تمنحهم العافية، ولكي يستعلن لهم نفسه بمسحة
هذا الزيت، ليعافي نفوسهم وأجسادهم وأرواحهم من كل أثر للخطية والأخطاء
والانحرافات التي من الشيطان، وبنعمته يوفِّر لهم الغفران حتى يموتوا عن الخطية
فيحيوا للبر
(1بط 24: 2)، ويُخلقوا من جديد بهذه المسحة ويتطهَّروا بهذا
الاغتسال ويتجدَّدوا بالروح القدس
(أف 23: 4)، ليكونوا من الآن نائلين
النصرة ضد كل قوى المضاد والغش الذي في هذا العالم الذي يطغي عليهم، حتى يرتبطوا
ويتحدوا مع الرعية التي لربنا ومخلِّصنا يسوع المسيح، لأن به لك المجد والقوة في
الروح القدس إلى جميع دهر الدهور آمين].

الروح
القدس والحُلَّة البيضاء:

بعد
دهن البدن كله بكل أعضائه بزيت الزيتون، فإن المعمَّد يغطس في الماء ثلاث مرَّات
ويقوم ليكتسي الروح القدس لمَّا يكتسي الحُلَّة البيضاء التي تُدعى عند الآباء
بثياب البر والحُلَّة المضيئة وحُلَّة العُرس الملكي كما يقول ذهبي الفم([4]).

ويقول
علماء الليتورجية([5])
إن هذا الطقس من أكثر الطقوس قدماً، وهو يحتل مكانة هامة في شرح طقس المعمودية عند
الآباء القدامى- فهو الذي يعطي المعمودية تأثيرها وقوتها وفاعليتها. فالحُلَّة
البيضاء رمز النقاوة الروحية، فهي “رداء البر” (إش 10: 61). فالاكتساء
بالروح ليس هو رمزاً ولكنه جوهر ليتورجية التعميد، والحُلَّة تستعلن البر الأبدي.
فحالة الانحلال المسيحي الآن والانقسامات والمحنة الأخلاقية ذلك كله هو بسبب غياب
الروح القدس. فالكنيسة الأُولى كانت تعيش في ظل عمل الروح القدس لجمع الأعضاء
الواحدة في الكنيسة، والحُلَّة البيضاء بمثابة الأفود البيضاء الكتَّانية التي كان
يلبسها داود للتكلُّم مع الرب واستشارته (2صم 14: 6؛ 1صم 7: 30). فهي تُدعى
الحُلَّة الملوكية والكهنوتية والنبوية، وهو تحقيق لقول ق. بطرس: “وأمَّا
أنتم فجنس مختار وكهنوت ملوكي أُمَّة مقدَّسة شعب اقتناء، لكي تخبروا بفضائل الذي
دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب” (1بط 9: 2). فهنا إشارة واضحة لسرّ
المعمودية. كذلك قال سفر الرؤيا: “وجعلنا ملوكاً وكهنة لله أبيه” (رؤ 6:
1)، كما يُدعى أيضاً ثوب النبوَّة: “وعلى العبيد أيضاً وعلى الإماء أسكب روحي
في تلك الأيام” (يؤ 29: 2)، “وعلى عبيدي أيضاً وإمائي أسكب من روحي
فيتنبَّأ بنوكم” (أع 18: 2). ليس نبوَّة رؤية المستقبل بل استعلان الإنجيل في
الحاضر الزمني.

ختم
الروح القدس:
([6]) sfrag…j

صلاة
من أجل المسحة (الميرون) التي يُمسح بها الذين اعتمدوا: (دهن الميرون المقدَّس):

+ [يا إله القوات معين كل نفس تلتجئ إليك
تحت يد ابنك الوحيد القوية، ندعوك أن تعمل في هذه المسحة بطاقة إلهية سمائية،
بالقوة الإلهية غير المنظورة التي لربنا ومخلِّصنا يسوع المسيح، حتى أن الذين
اعتمدوا يمسحون بها بعلامة الختم التي للصليب المقدَّس الذي لابنك الوحيد، ذلك
الصليب الذي يهرب وينهزم أمامه الشيطان وكل قوة مضادة، حتى أن هؤلاء الذين وُلدوا
ثانيةً وتجدَّدوا بغسل الميلاد الثاني
(تي 5: 3) يصيروا
شركاء عطية الروح القدس، مصونين بهذا الختم، راسخين غير متزعزعين
(1كو 58:
15)، غير مصابين ولا مطغي عليهم، خاليين من كل عنف أو مكيدة في صدق الإيمان
وملء معرفة الحق، منتظرين الرجاء السماوي الموعود به للحياة الأبدية التي لربنا
ومخلِّصنا يسوع المسيح، الذي به لك المجد والقوة الآن وإلى كل الدهور آمين.]
([7])

ويقول
بولس الرسول: “ولكن الذي يثبِّتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو الله”
(2كو 21: 1). هذه الآية هي في الحقيقة تعقيب على طقس التثبيت الذي أخذوه في سر
المعمودية لمَّا اعتمدوا بعد أن آمنوا. فبعد دهن الزيت العادي والتغطيس في الماء
والخروج من الماء ولبس الحلَّة البيضاء، فالمولود جديداً يُمسح بالميرون، وهو جزء
هام من سر المعمودية وله قيمة هامة في الإيمان كما رآه بولس الرسول عاليه (2كو 1:
21و22، أف 13: 1) وعند الآباء الأوائل، وهو يُدعى
cr‹sma أي مسحة (1يو 2: 20و27). ومنها جاء اسمنا كمسيحيين أي ممسوحين
بالروح القدس. فهي نعمة ملازمة للحياة وهي تحقيق لفعل المعمودية. ولكن ليس هناك أي
فصل بين المعمودية والحلَّة البيضاء ودهن الميرون المقدَّس للختم. فإذا كانت
المعمودية هي عطية وهبة غفران الخطايا والتجديد الخلقي أي الميلاد الثاني بواسطة
فعل الروح القدس، ففي التثبيت تستلم النفس من الداخل الموهبة الشخصية للروح
القدس
للسكنى الدائمة في حياة المؤمن.

لذلك
فسرّ التثبيت هو الذي يعطي للمعمودية فاعليتها في الحياة الداخلية للانفتاح على
الإيمان المسيحي. والروح القدس هنا له أثر اسخاتولوجي أي له فعله المستقبلي في
حياة الإنسان. والتثبيت هو نفسه كان بوضع اليد الرسولية، وهو واضح جدًّا في
معمودية أهل السامرة الذين لم يُمنحوا الروح القدس، إلى أن وصل القديسان بطرس
ويوحنا ووضعا عليهم الأيادي (الرسولية). والميرون الذي هو مسحة الزيت والعطور
الموروثة في الكنيسة من أيام الرسل بل والمسيح (أطياب التكفين) صار هو عوض اليد
الرسولية بل يد المسيح! فالتثبيت ملازم للمعمودية، ويُقال إن المعمودية تهب الروح القدس
وهذا خطأ، ولكن في الحقيقة هو وضع اليد أي التثبيت. وفلسفة المعمودية تقول إن
الموعوظ يُعمَّد بالماء ليُمسح بختم الميرون. كما يُدعى سر التثبيت- الذي يهب
الروح القدس شخصياً وليس عطية منه- بأنه تجديد يوم الخمسين. فالذي نزل على المسيح
في الأُردن نزل على التلاميذ يوم الخمسين وهو الآن ينزل على المعمَّدين. فكما أن
الروح القدس كائن في المسيح، هكذا يكون كائناً في المسيحي، لأن المسيح يوصي
وينبِّه أن الروح القدس “
يأخذ مما لي ويستعلنه لكم (يخبركم)”
والقول: “يخبركم” ترجمة قاصرة لا توفي المعنى (يو 16: 14و15).

وحينما
ينال المعمَّد ختم ميراث الملكوت يشتهي في الحال الملكوت ويتطلَّع إليه بكل قواه،
لأن الختم يوصِّله سرًّا بالملكوت، لأن الروح القدس الذي نناله في الختم هو عربون
يوم الفداء (أف 30: 4)، وعربون الميراث المقتنى لمجد الله (أف 14: 1). لذلك فهو من
الناحية الداخلية يُحسب القوة السريَّة التي تدفعنا للتوبة والعودة السريعة إلى
الله والمسيح، وهو ينبوع التقديس فينا، والنعمة التي نحن فيها مقيمون كقول بولس
الرسول (رو 2: 5)، وهو استعلان الثالوث الذي نحيا في شركته كقول ق. يوحنا في
رسالته الأُولى (1يو 3: 1)، وهذا هو الروح الساكن في هياكلنا (1كو 19: 6) المحسوبة
أنها هيكل الله (2كو 16: 6) غير المصنوع بيد. لذلك يرتاح المسيح فينا ويحيا ويهبنا
سلطان ملوكيته وكرامة كهنوته ونعمة بنوَّته، وقد ختمنا المسيح بالروح لنكون ذبائح
لحسابه، ذبائح هيكلية معدَّة للذبح على مذبحه الناطق السمائي.

دخول
الملكوت والباب المغلق:

وبعد
ختم المعمَّدين وهم متسربلين بالحلل البيضاء، والشموع مضاءة في أيديهم، يقودهم
الأسقف ومعه الكهنة الذين خدموا المعمودية- حيث يقف الشعب كله خارج باب الكنيسة
المدعو بالباب الملكي أي الرئيسي وهو مقفل بانتظار وصول زفَّة المعمَّدين اللابسين
الحلل البيضاء، ذلك قبل إقامة الإفخارستيا التي للقيامة- وكانت مسيرة المعمَّدين
هامة لأنها قمة سر المعمودية، وكانت الزفَّة تبدأ من جرن المعمودية في شكل دائرة
تدور حول بركة المعمودية وهم يرتِّلون ما قاله ق. بولس في (غل 27: 3): “لأن
كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح” ثمَّ تتجه المسيرة بقيادة
الأسقف تجاه باب الكنيسة الملكي المقفل والشعب متجمهر بانتظار زفة المعمَّدين،
وبوصولهم يتركونهم هم الذين يفتحون الباب بهتاف الشعب الأنتيفونا التي تنتهي بصرخة
“المسيح قام”. والشعب الآن في هذه الأيام يسير في الزفة دون أن يعرف معناها، بل
ولا تزال بعض الكنائس تقيم صورة باهتة لذلك عند باب الهيكل. وبدخول المعمَّدين
يشترك الشعب في زفتهم وهم يدورون داخل الكنيسة في دائرة. ولكن كانت زفَّة
المعمَّدين هي الأهم التي تدخل كجزء حي في ليتورجية عيد القيامة وبالتالي ملكوت
الله! باعتبار الكنيسة هي ملكوت الله على الأرض. وروح الزفة أصلاً هو بلوغ لحظة
“المسيح قام” الذي يعني شركتهم في قيامة المسيح بعد كل طقوس المعمودية والبصخة
المقدَّسة. أمَّا تناول المعمَّدين لأول مرَّة فكان هو التزوُّد بطعام الحق الذي
لملكوت الله.

وقد
توقَّف الطقس وضاعت معالمه وضاع معهما مفهوم ليتورجية القيامة وزفَّة الشعب والباب
المغلق الذي كان يُمثِّل انغلاق باب الملكوت في وجه آدم وبنيه لحظة خروجه من فردوس
الله. وكان دخول المعمَّدين لابسين الحلل البيضاء وممسكين بالشموع المضاءة إشارة
إلى دخولهم العرس الملكي المعد بالحلل الرسمية للمدعوين، ذلك في ضياء نور العريس.
وعند انفتاح باب الكنيسة كانت تبدأ ليتورجية
القيامة بقداس العيد. وكما يقول ق. غريغوريوس النيسي عن هذه الليلة المبهجة إنها

أكثر بهاءً من النهار بشمسه([8]).
وعند تناول الإفخارستيا لأول مرَّة يُحسب هذا نهاية طقس سر
المعمودية!

رأينا
في هذا الطقس المهيب الدور الأساسي الذي كانت تقوم به المعمودية في ليتورجية عيد
القيامة، وقد كان تحديد هذا الموعد التاريخي لإقامة المعمودية هاماً للغاية لأنه
واقع في مفهوم “الزمن الجديد” بالنسبة للكنيسة وكل الشعب، الذي من أجله يُقام
العيد باحتفاله العالمي في كل أنحاء العالم فيستوعب الشعب معنى العيد كاستعلان لسر
الخلقة الجديد. وكان السر يُمارس ليلاً أي من وسط الزمن الميت المظلم ليكون معنى
المعمودية واضحاً ومؤثِّراً في الانتقال من الزمن الميت إلى أنوار القيامة، حيث
كانت تُضاء الكنيسة من أجل ذلك بأضواء فوق العادة. فكان يُدعى عيد القيامة بعيد
الأنوار وفي حقيقته عيد الاستنارة وإعادة انفتاح الطريق الذي كرَّسه المسيح لنا
حديثاً حيًّا بالحجاب أي جسده (عب 20: 10) وبدم الأقداس للدخول إلى الملكوت وحياة
الدهر الآتي! حيث كان يواجه المتعمِّد بإعلان “المسيح قام” الذي هو التفسير
المتجِّدد للمعمودية.

والآن
ابتعد فكر الشعب نهائياً عمَّا كان يجري في الطقس، والطقس كان جزءًا هاماً مشروحاً
لمضمون القيامة وقوتها وما تحمله من المعاني كما رأينا في هذه المقدِّمة
التفسيرية.

وهكذا
قاست المعمودية وفلسفتها الروحية ومعها الكنيسة أيضاً والشعب من غياب هذا الطقس
الذي يحوي مفردات الإيمان وتفسيره عملياً.

ولكن
شكراً لله أنه لا تزال الكنيسة تحتفظ في كنوزها بكل ما كان يُجرى في هذا الطقس،
ولا شيء يمنعها بأن تقوم بتدريسه حتى يعيش المعمَّدون- الذين اعتمدوا في صغرهم-
هذه الحقائق والمفهومات. لأن هذا يُحسب أمانة في عنق الكنيسة وأمانة في عنق كل
مَنْ تعمَّد!

نستخلص
من الإنجيل والآباء توصيفاً للمعمودية كالآتي:

1- هي مثال الفلك- تخلِّصنا- بسؤال ضمير صالح عن الله
بقيامة يسوع المسيح (1بط 21: 3).

2-
هي ختم أو تذكرة شخصية أو شهادة ممنوحة لمواعيد رسمية.

3-
المعمودية لها وجهان: وجه هو النعمة المحسوسة ظاهرياً، ومنافع روحية داخلية.

4-
المعمودية وعد بمغفرة الخطايا (أع 16: 22) كما تمَّ لبولس شخصياً. والمعمودية وعد
بالميلاد الثاني (يو 5: 3) وتجديد الروح القدس (تي 5: 3) بالموت عن خطايا سالفة
لحياة عتيقة خاطئة وابتداء لحياة جديدة ليس فيها خطية (رو 11: 6).

5-
هي تطعيم في المسيح بشركة الاتحاد فيه (غل 27: 3).

6-
هي اتحاد في المسيح: في موته ودفنه وقيامته (رو 6: 36). مع الدخول في
علاقة جديدة مع الله: عهد بنوَّة (غل 3: 26و27). مع عطية الروح القدس (1كو 13: 12)
وعلاقة انتماء للكنيسة (أع 41: 2) مع هبة الخلاص (مر 16: 16، يو 5: 3).

ومن
هذه الشواهد الإنجيلية والمثيل لها استطاع اللاهوتيون أن يستخلصوا الآتي:

1-
المعمودية هي علامة وختم تطعيمنا في جسد المسيح واتحادنا فيه لمغفرة الخطايا
وتجديد الخلقة بالميلاد الثاني ونوال التبني للحياة الأبدية. حتى أن الماء في
المعمودية هو صورة تمثِّل دم المسيح الذي رفع عنا كل خطايانا وقدَّسنا بالروح
القدس في مقابل أعدائنا الشياطين والخطية وفساد طبيعتنا البشرية.

2-
فالمعمودية تمثِّل غسل الخطايا بموت وقيامة المسيح.

3-
المعمودية تشير إلى غسل دم المسيح مع استحقاقات موت المسيح عند الآب من أجلنا، من
جهة موت الخطية والإنسان العتيق وقيامة حياة جديدة. فكما يغسل الماء الجسد هكذا المسيح بدمه يغسل النفس من الخطايا بالروح القدس،
حتى أننا نجد في رفعه للخطايا ليس
فقط
مسامحة ولكن إخلاءً حقيقياً من الفساد وسطوة الخطية وبداية حياة جديدة علينا أن

نحياها.

4-
ولكن بدون إيمان عملي في الأقوال والسلوك تصير المعمودية بدون قوتها، فبدون إيمان
لا يحدث تجديد ولا يخلص أحد.

5-
المعمودية ختم عهد بين المسيح الذي قدَّمه للخطاة في موته وقيامته وبين الخطاة إذ
قدَّموا حياتهم الماضية وعزمهم على حياة جديدة. فإذا تخلَّى الخطاة عن عهدهم داسوا
ليس معموديتهم فقط بل وقيمة موت المسيح وقيامته وكأنها ليست لهم. إنها خيانة
للمعمودية باسم المسيح وخيانة للإيمان بالمسيح في موته وقيامته.

6-
المعمودية علامة تبعيتنا للمسيح وشهادة عامة منطوقة بطاعتنا بشروط المعمودية وكل
وعود التغيير فيها، وهي فعل انتماء للمسيح يتحقَّق بواسطة الشخص في حياته الخاصة
والعلنية.

7-
الفرق بين الواقع والرمز في المعمودية يظهر في علاقتنا بالكنيسة المنظورة وغير
المنظورة، أي الكنيسة كمجتمع قديسين في السماء.

8-
المعمودية عملية خضوع بإحناء الرأس، والمسيح قد أعطى المثال واعتبره تكميلاً لكل
برٍّ. فالمعمودية هي طاعة علنية وشهادة.

9-
التجديد الذي يحدث في المعمودية يشهد له المعمَّد نفسه بتجديد الإيمان والسلوك.
فالمعمودية تبدأ حيث يكمُل الإيمان، فإذا كمل الإيمان صحَّ الخلاص وعبَّرت المعمودية
عنه.

 

2-
سر المعمودية وسلطان المسيح

§ من واقع تاريخ الكنيسة والمسيحية نجد أن المعمودية صارت ممارستها
الأُولى من اليوم الأول الذي حلَّ فيه الروح القدس “يوم الخمسين” شاهداً لقيامة
المسيح. وهكذا سارت المعمودية بدفع الروح القدس وعمله، وتجديده للخلقة الجديدة
للبشرية على أساس موت المسيح وقيامته. وهكذا قبلت المسيحية المعمودية دون أي سؤال
أو استفسار أو شك، على مدى تاريخ المسيحية كله حتى هذا اليوم.

§ وقد قبلها جميع العلماء بلا نقد وبلا تقديم البديل كحقيقة عامة لا
تحتاج إلى شرح.

§ والحيرة والسؤال الذي يمكن أن يخطر على بال أي إنسان أو عالم، هذا
تبنَّاه نيقوديموس وقدَّمه للمسيح فأجاب إجابته التي صارت رسماً إلهياً لواقع
ومعنى وحتمية المعمودية، كميلاد من فوق وهو نفسه الميلاد من الماء والروح. ولا
يمكن أن تبحث في ماهيتها كما لا يمكن أن تبحث في ماهية هبوب الريح من أين وإلى
أين.

§ أمَّا ما هي أول شروط المعمودية ولوازمها ففسَّرها ق. بطرس في قصة
كرنيليوس، حيث لخَّصها في خطابه أمام الكنيسة التي اجتمعت لمساءلته عن معموديته
لرجل أُممي فأجاب:

+
“فإن كان الله قد أعطاهم الموهبة كما لنا أيضاً بالسوية مؤمنين بالرب يسوع،
فمن أنا، أقادر أن أمنع الله؟ فلمَّا سمعوا ذلك سكتوا. وكانوا يمجِّدون الله
قائلين إذاً أعطى الله الأُمم أيضاً التوبة للحياة!” (أع 11: 17و18)! هكذا
فُهمت المعمودية عند الرسل أول ما فُهمت أنها “للتوبة للحياة”.

§ وفي قصة كرنيليوس حدث أمر خطير هو حلول الروح القدس قبل العماد،
هذا ليس استثناءً كما يقول العلماء، ولكن هو حقيقة إلهية، فقد حدث ذلك ليرغم ق.
بطرس على العماد بالماء غير مرتاب، وفي الوقت نفسه يرفع عنه الترفُّع والكبرياء
ويرفع عن كل التلاميذ في أُورشليم أنهم كأنهم هم الذين لهم السلطان على العماد
فقط، فقد نحَّى الله الإنسان، كل إنسان، عن أن يكون له سلطان التعميد واحتفظ به
لنفسه ليطمئن كل معتمد أن الأمر بعماده صادر من فوق وبيد المسيح، لتكون ولادته من
فوق صدقاً وحقًّا ومن الله، ويكون للإيمان النصيب الأوفر في الاستحقاق للعماد!

§ الإيمان بالمسيح بموته وقيامته في
المعمودية
هو السر الذي يقوم عليه العماد.

§ وأيضاً حلول الروح القدس على كرنيليوس وأهل بيته قبل العماد يكشف
عن أن الله ليس مربوطاً بطقس من الطقوس أو بشخص مهما كان، فهو له السلطان الكامل
فوق الطقس.

§ ووراء كل مُعمَّد يقع عماد المسيح بالماء، وعماد المسيح بالدم على
الصليب([9]).
لهذا فدخول المسيح إلى ملكوته بعد قيامته صار هو نفس الباب الذي يدخل منه كل مَنْ
يعتمد باسمه.

§ ليس طقس العماد هو الذي يُعطي الخلاص لمن يعتمد، ولكن هو فعل الله
والمسيح الذي وراء الطقس بعد أن مارسه بنفسه في الأُردن بالماء وعلى الصليب بالدم!

§ لذلك فالمعمودية هي تحقيق للكريجما، أي تحقيق لتعليم الرسل عملياً
كفعل استجابة، فهي فعل إيمان.

§ فالمعمودية هي التعبير العملي للإيمان بكل بنوده، كفعل استجابة
بعد فعل سماع وطاعة.

§ المعمودية هي الختم الواحد الوحيد الذي يناله كل مسيحي لتكوين وحدة
مسيحية
واحدة من أعضاء المسيح في الجسم الواحد للكنيسة وللمسيح. فالمعمودية
عملية تطعيم فرع الزيتونة المرَّة في الجسد الإلهي الزيتونة الطيبة، ليكون للجميع
نفس فكر المسيح وحياته ويستمدوا منه مقوِّمات الحياة الأبدية.

§ حينما نقول إن المعمودية هي تأسيس إلهي بسلطان المسيح لا نعتمد على
أقوال قيلت، بل بالأكثر على حياة المسيح ومثاله إن في موته أو قيامته أو مواعيده.
فالمعمودية هي عبور مأساوي أكمله المسيح بالصليب سابقاً للدخول إلى راحته.

§ على أن المعمودية هي الدعوة الإلهية الرسمية للوليمة العظمى ولبس
ثياب العرس للدخول إلى فصح المسيح ليغتذي الإنسان لأول مرَّة من طعام الحق:
“جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق” (يو 55: 6)

 

3-
عماد المسيح وسر المعمودية المقدَّسة

معمودية
المسيح كانت هي الحد الفاصل بين العهد القديم الذي وقف على قمته يوحنا المعمدان،
والعهد الجديد الذي افتتحه المسيح يوم أن اعتمد، وبالتالي فمعمودية المسيح هي
بداية الإنجيل. وبمسحة الروح القدس في معمودية المسيح ابتدأ الخدمة، وبمعمودية
الموت والصليب افتتح المسيح للإنسان طريق الملكوت والحياة الأبدية. فالمعمودية في
حياة المسيح وموته كانت بدء الانطلاق الإلهي مع الإنسان في الأرض وفي السماء لعودة
الإنسان إلى أحضان الله.

ومن
التعبيرات المفسِّرة لمفهوم المعمودية عامة قول المسيح للمعمدان لمَّا تمنَّع في
عماده: “اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمِّل كل برٍّ” (مت 15: 4).
فجاء هنا البر ليعبِّر عن المعمودية نفسها وعن رسالة المسيح في استعادة وتكميل بر
الإنسان لدى الله، الذي يشمل بالضرورة غفران الخطايا ومصالحة الإنسان مع الله.

أمَّا
افتتاح السماء ونزول الروح القدس على المسيح فكان إيذاناً ببدء عصر “الماء والروح”
أو ميلاد الإنسان من فوق، بمعنى خلقة الإنسان الجديد وعودة صورة الله للإنسان بعد
غيابها. فالمسيح لم يكن يرى نفسه إلاَّ في الخطاة.

أمَّا
صوت الله الآب من السماء مخاطباً المسيح- وهو في الأُردن في حالة تمثيل البشرية
كمقدِّم التوبة لله- وقول الآب أنت ابني الحبيب الذي به سررت، فهي موجَّهة للبشرية
في شخص المسيح.

وبناءً
على معمودية المسيح في الأُردن وعلى الصليب، بدأت الكنيسة فوراً في تطبيق هذه
المكتسبات. فمعمودية المسيح أعطت الكنيسة المنهج والفكر لتقديم هذه المعمودية
للراجعين إليها بالإيمان، فأعطت التبني، وأعطت مسحة الروح القدس، وأعطت قوة وموهبة
المصارعة مع الشيطان لإخلاء الطريق أمام الإنسان، وأعطته الانفتاح والدخول إلى
حياة المسيح وفكره، وبالتالي إلى الاتحاد به وحق الدخول به إلى الملكوت.

كما
أخذت الكنيسة بثقة معنى نزول الروح القدس على المسيح وهو في ماء الأُردن، أنه
لتقديس الماء وتحوُّله عنصرياً إلى ماء حي ومحيي له قوة ولودة تطبيقاً عملياً لما
قاله المسيح: “مولودين من الماء والروح” كحق لدخول ملكوت الله (يو 5:
3)- على غرار التحوُّل والإحياء العنصري للخبز والخمر بصلاة الاستدعاء أيضاً من
أجل التحوُّل والإحياء العنصري للإنسان نفسه ليصير خليقة روحية جديدة روحانية،
وبالتالي لبدء فهم التحوُّل المزمع أن يكون للمادة وللعالم كله ليقبل خلقته
الروحية الجديدة في المسيح والإنسان الجديد. وبهذا يمكننا أن نفهم أن عماد المسيح
في مياه الأُردن كان المدخل الإلهي الرسمي، العلني والسرِّي والمستيكي لدخول
العالم والإنسان فيه إلى بدء مرحلة التغيير الروحي الكلِّي الجديد. هذا هو الذي
فهمته الكنيسة لاهوتياً من قول الرب بعد القيامة وهو يرسم منهج التلمذة والعماد
للعالم: “فتقدَّم يسوع وكلَّمهم قائلاً: دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى
الأرض” (مت 18: 28). ويعني أن كافة القوى والعناصر في السماء وعلى الأرض قد
دخلت تحت خضوع سلطانه وتهيَّأت للتحوُّل المزمع أن يكون.

كان
هذا بعد أن أكمل المسيح معموديته بالموت وصبغة الدم على الصليب، فأكمل معنى وعمق
وامتداد معمودية الأُردن، وسلَّم الكنيسة معنى المعمودية كاملاً بشكلها الولودي
وشكلها الذبائحي بالموت معاً، فأصبحت معمودية الكنيسة للحياة والموت أو بحسب ترتيب
الموت والقيامة للموت والحياة، الموت للخطية والحياة لله. ولكن الموت مع المسيح
والحياة مع المسيح.

وفي
الحال دخلت هذه المعاني الخاصة في طقس المعمودية إلى مستواها اللاهوتي التعليمي في
الكنيسة، لأن ما حدث في المعمودية كان هو أساس التعليم اللاهوتي بكل مناهجه في الكنيسة
عند الرسل القديسين وعند ق. بولس وكافة الآباء. نعم، فليفهم القارئ هذا، وهو الذي
دفعنا إلى كتابة هذا البحث عن المعمودية، لأن الكنيسة والشعب نسي أن ما جرى في
المعمودية هو أساس اللاهوت والمعرفة اللاهوتية والروحية في الكنيسة.

فمثلاً
يقول بطرس الرسول، وهو في الحقيقة يصف ما يحدث لنا في المعمودية: “فإن المسيح
أيضاً تألَّم مرَّة واحدةً من أجلِ الخطايا، البارُّ مِنْ أجل الأثمةِ، لكي
يقرِّبنا إلى الله، مُماتاً في الجسدِ ولكن محييً في الروحِ” (1بط 18: 3)

كما
أننا نجد أن نزول الروح القدس على المسيح وهو في ماء المعمودية أثار فكر الكنيسة
للرجوع إلى فلك نوح وجعله مثالاً للمعمودية كما رآه ق. بطرس: “في أيام نوحٍ،
إذ كان الفُلْكُ يُبنَى، الذي فيه خَلَصَ قليلونَ، أي ثماني أنفسٍ بالماءِ. الذي
مِثَالُهُ يُخلِّصُنَا نحن الآن، أي المعموديةُ” (1بط 20: 3و21). ومنها وضع
ق. بطرس وضعاً لاهوتياً للمعمودية أنها للخلاص!

كما
يرى ق. بولس الرسول ما يحدث في المعمودية أنه حدث لاهوتي بالدرجة الأُولى:
“الذي أنقذنا من سلطان الظلمة ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته” (كو 13: 1).
وهي تمثيلية يُوجَّه فيها المُعمَّد إلى الاتجاه نحو الغرب رمز الظلمة وجحد الشيطان
مع كل أعماله، ثمَّ الاتجاه نحو الشرق رمز النور والاعتراف بالمسيح والتعهُّد
باتِّباعه.

والقديس
يوحنا يعطينا في إنجيله مشاهدة عملية لخروج ماء ودم من جنب المسيح بعد أن مات على
الصليب من جراء طعنة حربة بيد ضابط رئيس مائة. ويقدِّم لنا هذا الحدث باعتباره ينبوع
سرّيْ المعمودية والإفخارستيا، اللذان هما السرَّان الأساسيان في الكنيسة،
وبالتالي تكون الكنيسة قد خرجت ووُلِدَت من جنب المسيح كحواء التي خُلقت من جنب
آدم- وهكذا سلَّمنا المسيح ماء المعمودية بموته. هذا يراه الآباء الأُول بمعنى أن
معمودية المسيح بالموت وانصباغه بالدم سلَّمتنا سر معموديتنا مؤسَّسة على موت
المسيح أو كشركة في موته، الذي أخذه ق. بولس وشرحه كثيراً. ومعروف أن كل العطايا
والمواهب الروحية قد نالها الإنسان بموت المسيح، وأهمها غفران الخطايا، وأعظمها حق
الدخول إلى ملكوت الله. كما استقرأها بولس الرسول: “إننا كل مَنْ اعتمد ليسوع
المسيح اعتمدنا لموته، فدُفِنَّا معه بالمعمودية للموت. حتى كما أُقيم المسيح من
الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة. لأنه إن كنا قد صرنا متحدين
معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته” (رو 6: 35). ومنذ معمودية
المسيح إن في الأُردن أو على الصليب، والماء في المعمودية أصبح يحمل معنى الموت
وقوته وغلبته بآن واحد.

وبهذا
نرى أن الكنيسة قد رسمت معموديتها على معمودية المسيح وعلى هذه المعطيات كلها، إنْ
في معناها أو محتواها أو سلطانها وغرضها التعليمي كنبع للاهوت والليتورجيا- كما نرى
اقتباس الكنيسة طقس جحد الشيطان في المعمودية من مصادمة المسيح للشيطان رسمياً
وجهاراً بعد المعمودية مباشرة بتدبير الروح.

 

4-
التسليم في تاريخ الكنيسة

أولاً:
التسليم في الأسفار:
par£dosij

1-”
إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقَّنة عندنا- كما سلَّمها
إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخُدَّاماً للكلمة.”
(لو 1: 1و2)

يبدأ القديس لوقا إنجيله بذكر مصادره التي وفَّرت له هذا
الكم الضخم من المعرفة والأسرار في إنجيله.

2-”
فينبغي أن الرجال الذين اجتمعوا معنا كل الزمان الذي فيه دخل إلينا الرب يسوع
وخرج، منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنَّا، يصير واحدٌ منهم شاهداً
معنا بقيامته (قيامة الرب).”
(أع 1: 21و22)

هنا
يصرّ التقليد أن يظل التلاميذ اثني عشر شهوداً لقيامة الرب قلب الإيمان المسيحي.

3-”
كما أرسلني الآب أرسلكم أنا.” (يو 21: 20)

وهكذا
يكون إرسال الرسل تكليفاً إلهياً على مستوى إرسالية المسيح للعالم، والذي سيعلِّم
به الرسل ويبشِّرون هو ما استلموه من الرب، وبدورهم يسلِّمونه لكافة
الأُمم. فالتسليم هنا بالمعنى الإلهي هو المناداة بالإنجيل ومحوره الكرازة
k”rugma بما فعله الرب لأجلنا.

4-”
وأعرِّفكم أيها الإخوة بالإنجيل الذي بشَّرتكم به، وقبلتموه، وتقومون فيه، وبه
أيضاً تخلصون، إن كنتم تذكرون أي كلام بشَّرتكم به، إلاَّ إذا كنتم قد آمنتم
عبثاً- فإنني سلَّمت
paršdwka إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضاً: أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب، وأنه دُفن، وأنه قام في اليوم
الثالث حسب الكتب.”
(1كو 15: 14)

هنا
تكرار بولس الرسول لكلمة حسب الكتب ذات معنى هام، فالرسل لا ينادون بحقائق
فقط أو مجرَّد حوادث تاريخية، ولكن حوادث شُرحت في ضوء الأسفار المقدَّسة بطريقة
تؤكِّد أن حقيقتها من مصدر مؤكَّد. ثمَّ أليس هذا التسليم هو الإنجيل؟ فإنه يبدأ
بقوله: “أُعرِّفكم بالإنجيل
eÙaggšlion الذي بشَّرتكم به eÙhggelis£mhnثمَّ يشرح ذلك قائلاً: “فإني سلَّمت
إليكم
paršdwka

5-
فعندما قال ق. لوقا: ” الأشياء المتيقنة عندنا” (لو 1: 1) فهو
هنا يشير إلى قلب التقليد =
par£dosij = tradition، وقوله: الأشياء وليس الإنجيل يعني ارتباطه بالأعمال الجارية في
الكنيسة قبل ارتباطه بتعليم الإنجيل
kerygma. فهنا ضمَّ ق. لوقا كل كلام وأعمال الرب المنقولة إليه، وهذا
هو التقليد.
وكان التقليد في العقود الأُولى من القرن الأول يتبع المناداة
بالقيامة شفهياً، وهذا هو التقليد الشفاهي. هذا التقليد الشفاهي دخل في
تدوين الإنجيل، وهذا عينه الذي صار ذخيرة في الكنيسة أي التقليد الشفاهي.

6-”
عن جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويُعلِّم به، إلى اليوم الذي ارتفع فيه.”
(أع 1: 1و2)

إذن
فالتسليم
par£dosij يتكوَّن من توصيل أقوال وأعمال يسوع المسيح:

+ “فإننا نقول لكم هذا بكلمة
الرب.”
(1تس 15: 4)

+ “وأمَّا المتزوجون فأوصيهم لا أنا بل
الرب”
[10]) (1كو 10: 7)

7-”
لأنني تسلَّمت من الرب ما سلَّمتكم أيضاً: إن الرب يسوع في الليلةِ التي أُسلم
فيها، أخذ خبزاً.. وقال.. اصنعوا هذا لذكري. كذلك الكأس أيضاً.. قائلاً..اصنعوا
هذا كلَّما شربتم لذكري.”
(1كو 11: 2325)

لاحظ هنا أن ق. بولس يقول لأنني تسلَّمت من الرب ما
سلَّمتكم
قولاً وعملاً. وفي الأناجيل دوِّن هذا التقليد مكتوباً كآخر التقليد
الشفاهي المسلَّم من الرب، وهكذا وبلا نزاع فإن التسليم هو
الإنجيل.

ومن
هذا نستطيع أن نقول إن نقل كلمات الرب وأعماله هي التي يقولها التقليد لإقامة
نموذج حياة وسلوك = أي الذي يُسمَّى الطريق([11])
(طريق الحياة أو الموت) كنموذج حياة مسيحية، وهذا هو الذي يُفهم من الآية
التالية:

8-”
فاثبتوا إذاً أيها الإخوة وتمسَّكوا بالتعاليم
(التقاليد
t¦j paradÒseij) التي تعلَّمتموها سواء كان بالكلام أم برسالتنا.” (2تس 15: 2)

هذه عيِّنة لحياة مسيحية نموذجية تبعاً لتعاليم وتقاليد
منقولة سواء عقائدية أو عملية، التي نقلها إليهم.

9-”
ثم نوصيكم أيها الإخوة باسم ربنا يسوع المسيح، أن تتجنَّبوا كل أخ يسلك بلا
ترتيب وليس حسب التقليد (
par£dosin = tradition) (وليس حسب التعليم كما في الترجمة العربية)
الذي أخذه منَّا.”
(2تس 6: 3)

هنا
التقليد يختص بالسلوك، لأن التلميذ يلزم أن يتبع عيِّنة الحياة التي استلمها
بالكلام والأعمال كما استُعلنت أيضاً بالقول والعمل عند الرسل.

10-”
وما تعلَّمتموه وتسلَّمتموه وسمعتموه ورأيتموه فيَّ، فهذا افعلوا، وإله السلام
يكون معكم.”
(في 9: 4)

هذه
العيِّنة للحياة المسلَّمة من الرسل تكون فردية أو مشتركة. لذلك فهناك تقليد
للعبادة والسلوك الذي يُتَّبع: ” كما في جميع كنائس القديسين”
(1كو 33: 14)،” أم منكم خرجت كلمة الله. أم إليكم وحدكم انتهت.”
(1كو 36: 14)

إذن
فكنيسة كورنثوس وهي صغيرة ليست في حرية أن تخرج عن كلمة الله التي سُلِّمت إليهم.

وهكذا
نستخلص أن التسليم
par£dosij هو الطريق المؤدِّي إلى الحياة. فالمسيح الرب الحي رأس
الكنيسة نفسه يُشرف عليها ويقود عملية النقل والتسليم من جيل إلى جيل.

فالرب
الحي موجود في الكنيسة، ويعمل في كل عمل رسولي باعتباره تسليمه، والرسل قد ماتوا
ولكنه هو حيٌّ!!

+”
وأمَّا المتزوجون فأوصيهم لا أنا بل الرب.” (1كو 10: 7)

لاحِظ
كما سبق وقلنا عن هذه الآية إن بولس الرسول يتكلَّم بالفعل المضارع “أوصيهم”، لأن
الرب حاضر يتكلَّم من خلال التسليم والتقليد من فم لفم.

لهذا
نقول إن التسليم في الكنيسة حيّ لأن المشرف عليه والذي يقوده حيّ!

لهذا
أيضاً فالكنيسة حيَّة بحياة المسيح رأسها.

ونختم
هذه الأقوال بقول بولس الرسول لتيموثاوس: “وما سمعته مني بشهود كثيرين
أَودِعهُ أُناساً أمناء يكونون أكفاء أن يعلِّموا آخرين أيضاً” (2تي 2: 2).
وهكذا سار التقليد من جيل إلى جيل حتى سمعناه نحن أنفسنا ووعيناه.

ثانياً:
تسليم التراث والتعليم في تاريخ الكنيسة:

بخصوص
الآباء الأوائل كان التسليم المكتوب وقفاً على الإنجيل، ولكن بعد ذلك في الأجيال
اللاحقة امتد التسليم وزاد وأصبح الإنجيل والكتابات الرسولية.

كما
أن التقليد الرسولي أصبح يُسلَّم في الأجيال اللاحقة بالفم كما بالكتابة، وبابياس
الأسقف يؤمِّن أنه انتفع من الكلمة المسموعة أي التقليد الشفاهي أكثر مما انتفع من
المكتوب:

+
[فأنا لا أتصوَّر أن أحصِّل مثل هذا الانتفاع من المكتوب في الكتب كما هو من صوت
إنسان حيّ باقٍ.]([12])

هذا
التقليد الشفاهي لا يُفضَّل على الكتابات الرسولية، ولكن يُفضَّل على الذين
يسجِّلون مدركات غريبة([13]).
ولكن بمرور السنين ودخول أنواع هرطقات لا حدَّ لها أصبح الالتزام بكتابات الرسل.
وهذا حدث بالفعل عند قيام صدامات مع الهرطقات، فكان الآباء ملتزمين في ردودهم
بكتابات الرسل الأصيلة كحجة لا تحتمل النقاش. وهكذا ظلَّت الأسفار المقدَّسة هي
القانون والقاعدة وبواسطتها يُقاس كل تقليد آخر ويُثبَت غشّه.

والآباء
كانوا على حذر، فقد كانوا لا يستلمون التقاليد التي لا تطابق الأسفار المقدَّسة
تماماً بتحقيق، والتي ترتكز على نص كلمات المسيح وشهادات الرسل المؤسَّسة على صخرة
الحق. ولكن التقليد ليس مصمتاً ولا هو قواعد ونصوص بل “تقليد حي”، لذلك فإنه ينمو
على ممر السنين إنما أيضاً على أساس الرسل والمسيح نفسه حجر الزاوية، الذي يمسك
البناء كله مهما تضخَّم.

وشيئاً
فشيئاً امتد التقليد ليضم أيضاً كتابات آباء الكنيسة أنفسهم. وهكذا انضم تقليد
الآباء إلى تقليد الرسل، ليس لأن تقليد الآباء تقليد جديد، ولكنه شرح صادق ملتزم
بتقليد الرسل فجاء مطابقاً في اتجاهاته.

وبعدها
دخلت الكنيسة عصر المجامع، فصارت قوانينها تقليداً لميراثها القانوني المتفق عليه،
وقُبلت كجزء هام أساسي للتقليد العام. وهذا لم يُعتبر أنه تقليد جديد ولا إضافة،
ولكن في الحقيقة هو ملخَّص لعقيدة الإنجيل والأسفار المقدَّسة. ولكن ظلَّ بعض
الآباء الكبار مصمِّمين على الاعتماد الكلِّي على الأسفار المقدَّسة، فالقديس
أثناسيوس الرسولي يقول:

+
[إن الأسفار المقدَّسة الملهمة هي كافية بذاتها لإعلان الحق.]
([14])

وبعد
ذلك أخذت الشروحات التي للآباء العظام مكانة التقليد، وقليلاً قليلاً أُضيفت
للتقليد الرسولي للأسفار المقدَّسة.

من
هذا نفهم كيف امتدَّ واتسع التقليد وتضخَّم أثناء القرون الأُولى، وعليه اعتبرت
الأسفار المقدَّسة والتقليد السلطة المزدوجة لإيمان الكنيسة والممارسة فيها.

 

5-
العلاقة بين تقليد الأسفار المقدَّسة وتقليد الكنيسة

إن
كان تقليد الكنيسة له قيمته الهامة، ولكنه لا يُعتبر كصاحب أو منبع سلطة للعقيدة
إلاَّ إذا كانت هذه العقائد موجودة أو يمكن تحقيقها من الأسفار المقدَّسة.

على
أنه سيظل الإنجيل هو تقليد الكنيسة بالأساس.

وسوف
تبقى أعمال القوات الكبرى التي للفداء وللتجسُّد، وحياة المسيح وخدمته وآلامه
وموته وقيامته وصعوده، وانسكاب الروح القدس وقيام الكنيسة، هي مرَّة كانت وستظل
حوادث فريدة ليس لها نظير.

إن
تاريخ الكنيسة هو تاريخ الخلاص نعم، ولكن يستحيل أن يماثل زمن التجسُّد للمسيح أو
بالنسبة للذين شاهدوه أو زمن الرسل وشهود العيان الذين عاشوا معهم ورأوهم.

وهناك
تقليد الرؤيا والسماع والتعليم الذي حازه الرسل المختارون من المسيح رأساً ورأوا
القيامة. هذا جعل شهادتهم وعملهم صورة فريدة لا نظير لها وغير قابلة للنقل
بالصورة، الأمر الذي عدَّده ق. يوحنا بشيء من أحلام الماضي السعيد والخبرة
الرسولية النادرة:

+
“الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا، من جهة كلمة الحياة. فإن
الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب
وأُظهرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به، لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا.
وأمَّا شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح” (1يو 1: 13)

هنا
الإخبار بما شاهده ق. يوحنا وشهد به هو تسليم التقليد، ولكنه تسليم من رؤيا وسمع
ولمس إلى مجرَّد شهادة كلام. ويُلاحَظ أيضاً أن ق. يوحنا اعتبر نفسه شريكاً للآب
والمسيح وبالتالي نقل شهادته ورؤيته وشركته إلى الآخرين. هذا هو طريق التقليد
الرسولي، تقليد رؤيا ومشاهدة! فهو ثمين ثمين جدًّا للذي يفهم.

فأي
فخر وأي مجد وأي سعادة حازها الرسل؟([15])

والقديس
بطرس رأى الرب وعاين قيامته مع خبرات قديمة نادرة كانت كالحلم فكتب:

+
“لأنه أخذ من الله الآب كرامةً ومجداً، إذ أقبلَ عليه صوتٌ كهذا من المجدِ
الأسنى: هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به. ونحن سَمِعنا هذا الصوت مُقبِلاً من
السماءِ، إذ كنَّا معه في الجبل المقدَّس” (2بط 1: 17و18)

هذه
شهادة رسول، وحيدة فريدة عظيمة لا تدانيها خبرة.

والقديس
بولس رأى الرب وعاينه في المجد من السماء، فكانت خبرة فوق جميع خبرات الرسل، ولذلك
كانت كتاباته ليس لها نظير، وكل ما كتبه الآباء يتوارى أمام ضياء ما كتب ق. بولس
الذي حلَّق وارتفع حتى السماء الثالثة.

لهذا
صار الرسل حجر أساس وقاعدة لعمود الحق أي لكنيسة الله: “مبنيِّين على أساسِ
الرسل والأنبياءِ، ويسوعُ المسيح نفسه حجرُ الزاويةِ” (أف 20: 2)

ونلخِّص
ما قلناه في أن:

§ الأسفار المقدَّسة هي الوديعة Deposit
التي خرج منها تقليد الكنيسة.

§ والتقليد في الكنيسة فوق أنه طريق الحياة فهو النهر الذي تفيض منه
حياة الكنيسة بدءاً من نهر الأُردن. وهو تقليد حر ممتد متسع متحرِّك يطوي الزمن
والعصور، وعليه بُنيت العقيدة.

§ والأسفار المقدَّسة هي التقليد الأول للكنيسة، وتقليد الكنيسة هو
بالنسبة لها سرّها الإلهي الخاص وتاريخها بدءاً من الميلاد- وكتابات الأسفار
المقدَّسة تحوي في بطنها تقليد الكنيسة الذي اندفق منها.

ولن
ننسى أن الليتورجيا في الكنيسة هي سابقة على الإنجيل. فالعلية التي أُقيم فيها
العشاء الأخير وبدأت فيها الصلوات والتسابيح كانت مهد الليتورجيا للكنيسة، حيث
بدأت فيها حتماً أيضاً خدمة التعميد. فكانت الإفخارستيا والمعمودية هما اللتان
فتحتا باب التقليد.

 

6-
لاهوت المعمودية

كانت
الإشارة التي ذكرها ق. لوقا في سفر الأعمال عند اختيار متياس ليكون الثاني عشر
للرسل عوض الخائن يهوذا، التي تقول بالنسبة للشروط التي يختارون بها رسولاً
جديداً، أن يكون قد عاصر المسيح “منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه
عنَّا” (أع 22: 1)، هذه الإشارة تُعد شهادة فائقة الأهمية، لأنها تكشف لحظة
حرجة في تاريخ الخلاص. لأنها تشير بدورها إلى أن معمودية يوحنا للمسيح تدخل كأساس
في تاريخ الفداء والخلاص. ثمَّ إذ يذكر بعدها وملتحماً فيها الصعود، يكون قد شكَّل
هيكل الكرازة والمناداة بالمسيح المخلِّص. فالمعمودية والصعود هما طرفا حياة الرب،
لا يمكن فصلهما. وبهذا تصبح المعمودية في نظر الرسل مؤدية إلى الصعود بالنهاية
وداخلة كأساس لتاريخ الخلاص، وبآن واحد تكشف عن عمل الله الآب المقتدر في المسيح
يسوع من المعمودية إلى الصعود. من هنا يبدأ لاهوت المعمودية.

وهكذا
دخلت المعمودية في تعليم الرسل كأساس الكرازة
Kerygma
العملية، وتجذَّر طقسها في الكنيسة كبداية حياة المسيح العملية، وعليه صار فيها
التشبُّه بالمسيح، وصارت المعمودية تمسك بطرف الماضي كأول الماضي وكأنه بدء سر
الخلقة المسيحية الجديدة، وبطرف المستقبل في المسيح وكأنه النهاية، نهاية الخلاص
والفداء وكل أعمال الله والمسيح!

وهنا
يقع لاهوت المعمودية بين هذين الطرفين أو القطبين! معمودية المسيح في الأُردن وقد
تكمَّلت في الموت واستُعلنت بالقيامة والصعود.

حيث
تقف المعمودية كعمل إلهي فوق الطبيعة “اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمِّل
كل بر” (مت 15: 3)، تنظر من على بُعد إلى الأخرويات التي تتوقَّف على عملها.
ولكن الرب أكَّد أن هذا العمل بمواصفاته في معمودية يوحنا لن يكون هو كما هو مرَّة
أخرى، ذلك بواسطة اشتراكه فيه واضعاً الحد الفاصل بين معمودية الماضي اليهودية
ومعمودية المستقبل بالروح: “لأن يوحنا عمَّد بالماء وأمَّا أنتم فستتعمَّدون
بالروح القدس” (أع 5: 1). وهذا يعطي صورة شديدة الوضوح أن معمودية يوحنا قد
بطلت وأُهملت واستُنقصت، ثمَّ صُنعت هي نفسها من جديد وبكمال فائق. فإن كانت
معمودية يوحنا من السماء فالمعمودية المسيحية هي السماء: مولودين من فوق (يو 3:
3). هذا هو الكمال الذي قال عنه الرب: “يليق بنا أن نكمِّل كل
برٍّ” فالمسيحية انبثقت من المعمودية بالماء، ولكن عليها الروح القدس الذي
قبله المسيح لبناء المعمودية الجديدة القادمة.

ولكن
ولو أن المعمودية التي جازها المسيح أخروية بمعنى الكلمة بشهادة الروح
والآب وبآن واحد هي افتتاحية افتتحت سر الآتي! إلاَّ أن قول الرب: “يليق بنا
أن نكمِّل كل برٍّ” كمَّله الرب على الصليب لمَّا حمل خطايا العالم، حيث أخذت
المعمودية ختمها الأخير بالدم “لي صبغة (معمودية
b£ptisma) أصطبغها.” (لو 50: 12)، فهي ابتدأت بالماء ووضع يد
النبوَّة، وانتهت بالدم ووضع يد الآب، حيث كمُل واستُعلن البرّ الذي ركَّز عليه
المسيح بالنسبة للمعمودية بالماء في معمودية الموت: “ليكون باراً ويبرِّر
مَنْ هو من الإيمان بيسوع” (رو 26: 3). فبعد المعمودية كبداية البر كان
الصليب والقيامة تكميلاً لكل برٍّ حقا وفعلاً- ومن وراء الصليب والقيامة وُلِدَ
الإنسان الجديد كخليقة جديدة قد عبرت الماء مع المسيح وانصبغت بالدم معه على
الصليب، فتجدَّدت ولبست صورتها الأُولى الأخروية في الله. فالمعمودية بالماء
للغسيل والمعمودية بالدم للتقديس، لأن الذي قُدِّم على الصليب صار ذبيحة حيَّة
ناطقة للتكفير عن خطايا الشعب. فمعمودية الماء أخذت كمال صورتها السماوية وحقيقتها
الإلهية بذبيحة المسيح على الصليب لتكميل قوة المعمودية وفعلها. أمَّا الانفتاح
الحقيقي للإنسان المسيحي فقد تمَّ بالقيامة والصعود، ولذلك فإن المعمودية المسيحية
أخذت طبيعتها الفعَّالة وإمكانياتها من صعود الرب وظهور الإنسان الجديد، لأن
المعمودية هي الميلاد المسيحي الجديد للإنسان الجديد القائمة على عمل المسيح في
الغفران، ولاهوتها ينبع من تاريخ المسيح وعمله ويقوم على عمل الغفران الذي أكمله
المسيح ووهبه لكل مَنْ يؤمن.

فالمعمودية
بناءً على ذلك تحوي فعل مغفرة الخطايا وبالتالي الدخول إلى الملكوت ونوال موهبة
الروح القدس. ويجمعها كلها بولس الرسول بقوله: “إننا كل مَنْ اعتمد ليسوع
المسيح اعتمدنا لموته، فدفنَّا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أُقيم المسيح من
الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً في جدَّة الحياة” (رو 6: 3و4)

كذلك
فإن غفران الخطايا في المعمودية المسيحية لا ينبع شكلاً من معمودية المسيح في
الأُردن، ولكن من فعلها وجوهرها، وهما من فعل ذبيحة موته وقيامته والشركة في هذا
الموت وهذه القيامة لميراث حياة جديدة.

وقد
أخذ سفر الأعمال في بدايته قيمة مغفرة الخطايا في المعمودية المسيحية من مفهومها
في معمودية يوحنا التي جازها المسيح، ولكن قليلاً قليلاً استُعلن نور قيامة المسيح
كبداية لحياة أبدية، فانعكس على المعمودية ليعطيها لاهوت مغفرة الخطايا بشركة
الموت والقيامة مع المسيح، التي تغنَّى بها بولس الرسول في رسائله (رو 6: 3و4).

على
أن معمودية يوحنا للتوبة ومغفرة الخطايا كانت في حقيقتها ومفهومها الاسخاتولوجي
مدخلاً للدخول في عصر المسيَّا، وكان هذا قصد الله القدير منها. أمَّا قبول المسيح
لهذه المعمودية فقد جعلها بالفعل مدخلاً إليه، وبعدها أخذت معمودية المسيح معناها
من واقع استعلان بولس الرسول للدخول في العهد الجديد للمسيح والشركة والاتحاد فيه
هو شخصياً بالقيامة.

أمَّا
الروح القدس الذي أخذه على المعمودية فكان وكأنه نبوَّة أو إرهاصة([16])
لحلول الروح القدس على المعمودية المسيحية. فالذي أخذه المسيح على المعمودية أرسله
على المعمودية! لأن كل ما أخذه المسيح أعطاه. وهكذا صار شعب الله الجديد حينما
يستجيبون للإنجيل يقبلون بالتالي قوة حضور الروح القدس عندما يستجيبون لدعوة
المعمودية! ولكن “كعربون” كما يقول بولس الرسول (أف 14: 1)، لأن المسيح الذي أتى
سيأتي ثانية.

وهكذا
صار مفهوم المعمودية المسيحية وسرّها هو بعينه مفهوم سر لاهوت المسيح وشرحه من
العماد حتى القيامة. وبناءً عليه أعطت الكنيسة للمعمودية سر الدخول إلى حياة
الثالوث: “فإن الحياة أُظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي
كانت عند الآب وأُظهرت لنا.. وأمَّا شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع
المسيح” (1يو 1: 2و3). وإذ نلنا حياة وشركة مع الآب والابن صرنا بالتالي
وحتمياً شركاء موت المسيح وقيامته. وهذا يعني أننا متحدون بالمسيح المصلوب والمقام
في وحدة يحييها الروح القدس.

هذه
الوحدة أو الاتحاد في المسيح الذي يناله المعمَّدون هي التي أعطتهم لقب “قديسين”
بالاستحقاق، الذي يخاطبهم به بولس الرسول في معظم رسائله: “بولس رسول يسوع
المسيح بمشيئة الله وتيموثاوس الأخ- إلى
“القديسين” في كولوسي والإخوة المؤمنين في المسيح.” (كو
1: 1و2)

أمَّا
الاتحاد بالمسيح في المعمودية بالإيمان وتصديق الموت والقيامة والخضوع لمفاعيلها،
فهذا الاتحاد نابع أصلاً، وكنتيجة له، من اتحاد ابن الله بالجسد- جسد الإنسان-
اتحاداً كاملاً وكليًّا بغير افتراق ولا امتزاج ولا تغيير. معنى هذا أنه اتحد بنا
اتحاداً كليًّا، لكي بالنهاية وبعد أن نحصل على غفران خطايانا، نولد جديداً خلقة
جديدة روحانية هيَّأتنا لنفس الاتحاد الذي اتحده هو بنا لكي نتحد نحن به إذ
اشتركنا معه في موته وقيامته، لأن جسده هو جسدنا. علماً بأن هذا الاشتراك ليس فقط
بالمعمودية، ولكنه أولاً وبالدرجة الأُولى هو اشتراك ناتج عن أنه لمَّا اتّحد بنا
صرنا فيه منذ ميلاده الذي صار ميلادنا، وبعد ذلك موته الذي كان هو موتنا، ثمَّ
قيامته التي كانت من أجل قيامتنا من موت الخطية لقبول حياة جديدة بحياته. فالمسيح
هو الذي صنع اتحادنا فيه بنفسه وبغير إرادتنا أو استحقاقنا لأننا كنَّا أمواتاً
وبلا إرادة.

وبالنهاية
نقول إننا نتجاوز العقل والمعقول معاً حينما نقول إننا نتحد بجسد الرب مع أنه
حاصل، ولكن هو نفسه تجاوز العقل والمعقول تماماً لما حدث أن الله الإله الرب
القادر على كل شيء نزل من السماء واتحد بجسدنا. هل هذا معقول؟ وأليس هذا هو عثرة
كل المعقول!! فاتحادنا بالمسيح، المسيح هو الذي صنعه أولاً لمَّا اتحد بنا!
واتحادنا به الآن كغصن في كرم ولكن هناك هو كل الكرم!

وإذ
نعود إلى المعمودية وهي السبب في هذه العلاقة السرِّية الفائقة، نرى أن عمل
المعمودية الإلهي السرِّي هو الذي جمعنا في جسد المسيح كأعضاء كما يقول بولس
الرسول “لأننا جميعنا بروح واحد أيضاً اعتمدنا إلى جسد واحد” (1كو 13:
12)، ولكن وبالتالي يجمع المخلَّصين والمفديين جميعاً معاً فيه. وهذا هو معنى
الكنيسة، المعنى السرائري الذي نمارسه في المعمودية والإفخارستيا! ويعبِّر بولس
الرسول عن هذه الحقيقة بقوله: “إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان
ومعرفة ابن الله. إلى إنسان كامل. إلى قياس قامة ملء المسيح!” (أف 13: 4)

ولكن
المعمودية وحدها لا تعطي هذا البلوغ الكامل في المسيح، ولكن هي تضع البذرة ونحن
بمساعدة الروح القدس ننمِّيها لتصير شجرة هائلة، ولكن في أصلها تظل المعمودية هي
البذرة الصغيرة. هذا هو لاهوت المعمودية الممتع البديع.

أمَّا
وفي مستوى المعمودية لاهوتياً يبرز السؤال بخصوص عماد الأطفال: نقول إن الرجل
المُعمَّد والمرأة زوجته المُعمَّدة أنجبا طفلاً فهو ملتصق بهما، فإن كانا قد صارا
أعضاءً في جسد المسيح فالطفل صار نصيبه من نصيبهما. علماً بأن جسد المسيح سيتسع
للطفل بالدرجة الأُولى وبالأكثر لأنه قد وُهِبَ له أن يدخل ملكوت الله، فالمعمودية
تعدُّه لهذا الملكوت وتبنيه على الإيمان ليكون عكَّازه الذي يسنده في رجولته وسط
هموم هذا العالم.

فإن
كان جسد المسيح يسعه أَلاَ تسعه المعمودية؟ وإن كان المسيح سيقبله في ملكوته فهل
لا تقبله الكنيسة؟

علماً
بأن الطفل اليهودي يتحتَّم أن يُختتن في اليوم الثامن ليدخل في الشعب وفي عهد
إبراهيم، ويكون إسرائيلياً ويرث الأرض، دون أن يعرف ما هو الختان ولا له أية إرادة
فيه. فهل والمعمودية هي مثال الختانة نمنع الأطفال من الدخول في المسيح والمسيحية
لميراث السموات، حتى أن أولاد الأُمم كانوا يُختَّنون ليدخلوا مع شعب إسرائيل.
علماً بأننا بالإيمان بالمسيح صرنا أبناء إبراهيم ولو لم يعرفنا، وعلاقتنا
بإبراهيم هي بلا نزاع من خلال مياه الأُردن التي اعتمد فيها المسيح كأنه لإبراهيم،
ولا ندَّعي أن علاقتنا بإبراهيم تعطينا الفرصة أن نمارس ممارسة أبناء إسرائيل،
ولكن علاقتنا بالمسيح هي التي توجب أن الأسرة كلها يلزم أن تعتمد بما فيها الأطفال
ليدخلوا المسيحية وبالتالي الكنيسة، كما نقرأ ذلك بكثرة في أمثلة سفر الأعمال (أع
14: 11، 15: 16و33، 8: 18).

فنحن
نُهدي الأطفال أن تُكتب أسماؤهم في الكنيسة ليرثوا مع آبائهم حق التبني كأعضاء
فيها ليكونوا أعضاءً في جسد المسيح مجَّاناً، عرفوا هذا أو لم يعرفوه. فهم حتماً
سيعرفونه هنا أو هناك.

ثمَّ
إن كان كما يقول النبي إرميا إن الله في العهد الجديد سيكتب فرائضه ووصاياه على
قلوبنا بدل أن كانت مكتوبة على لوحي حجر، وذلك مجَّاناً؛ أفلا نكتب نحن أيضاً على
قلوب أطفالنا اسم المسيح ونطبع صورته وختمه على جباههم؟ مجَّاناً!!

وإن
قال المسيح: “دعوا الأولاد يأتون إليَّ ولا تمنعوهم” (مت 14: 19) فهل
ترفضهم الكنيسة؟ وإن كان قد وضع يديه عليهم وباركهم، ألا تضع الكنيسة يدها عليهم
وتباركهم؟

إن
المعمودية في كل صورها صورة دقيقة للمسيح وكل ما عمله، والدخول في المسيحية بكل
تراثها إلى الكمال هو كائن ومعمول في المعمودية كبذرة تنمو، ونموها يقرِّره سلوك
المُعمَّد وإرادته وأمانته للدعوة والروح القدس المتهيِّئ دائماً أن يعمل إذا
طُلب. فالكنيسة بمعموديتها تعطي المعمَّد الأساس الكامل في الإيمان والعقيدة
عموماً الذي يبني عليه إن كان قشًّا أو ذهباً!

 

7-
معنى “شبه موته”

الشبه
في المعنى اللاهوتي للمعمودية

+
“إن كنَّا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصير أيضاً بقيامته” (رو 5: 6)

+
“فإن كنَّا قد متنا مع المسيح نؤمن أننا سنحيا أيضاً معه” (رو 8: 6)

لكي
نفهم كيف يكون هذا، نسير خطوة خطوة مبتدئين:

1-
ما هو الموت الذي ماته المسيح، وما هو الموت الذي نموته؟

يلزم
أن نعرف قبل كل شيء أن موت المسيح كان عملاً إرادياً، أي أنه أراد واشتهى أن يموت
كما يظهر من الآية التالية:

+
“لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً، ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها
أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها
أيضاً. هذه
الوصية قبلتها من أبي
(يو 10: 17و18)

2-
وتقول الكنيسة إن المسيح بطبيعته القدوسة كان غير مستهدف للموت:
بمعنى أنه
كان خالياً من الموت ومسبِّباته ونتائجه أي الفناء، لأنه كان “هو الحياة”، فلمَّا
مات المسيح كان هذا لأنه أراد أن يموت، أي أن موته كان إرادياً. بمعنى أنه موت
الذي لا يموت أو الذي هو غير قابل للموت، وهذا هو الذي جعل موته من أجل الآخرين،
فكان موتاً خلاصياً.

3-
ما معنى أن المسيح كان يريد أن يموت؟

هذا
يتمحور حول المعنى الروحي للموت وفحواه، على أن الموت في مفهومه وحقيقته الأصلية
هو حقيقة روحية وليست عضوية، مع أن المعنى السائد عند الجميع هو أن الموت هو الموت
العضوي الطبيعي كنهاية إجبارية للحياة على الأرض- ولكن الإيمان يتخطَّى هذه
النهاية ويؤكِّد وجود حياة أخرى لا نهائية وهي حياة النفس غير المائتة. بهذا
المعنى يكون الموت هو العبور من حياة ميتة إلى حياة لا تموت.

علماً
بأن الموت يخص الجسد وعدم الموت يخص النفس.

والنظرة
المسيحية الضعيفة للموت هي أنه موت للجسد، مع أن الإنسان المسيحي يمارس الموت وهو
حيّ، بل ويمكن للإنسان وهو ميت في القبر أن يكون خالياً من الموت. إذن الموت
الحقيقي هو الموت الروحي وليس العضوي الجسدي.

4- كان الموت بالنسبة لآدم هو انفصاله عن الله مصدر الحياة
وهو وحده معطي الحياة وهو الحياة.

5-
هذه الحياة أي حياة الله أو الله الحياة هي كما يقول القديس يوحنا إنها “نور
الناس” (يو 4: 1). هذه إذا رفضها الإنسان بأن أساء إليها ولم يخضع ويطيع،
يموت ويكون موته أبدياً لأن الحياة التي رفضها أبدية. وهكذا كانت الخطية الأصلية
موتاً روحياً أبدياً مظهره على الأرض موت جسدي بالضرورة.

6-
فالموت ليس حالة عضوية ولكن حقيقة روحية، والمتسبِّب لها هي الخطية، ودُعيت عند ق.
بولس بالشوكة تمثيلاً لشوكة العقرب المميتة (1كو 56: 15).

7-
وبرفض الإنسان الأول للحياة الحقيقية، والحقيقية وحدها، التي أعطاها له الله كهبة،
دخلت الخطية إلى العالم، وكان الموت بالخطية (رو 12: 5). علماً بأنه ليس حياة أخرى
غير حياة الله، فالذي يرفضها حتماً يموت حتى ولو عاش، لأن الحياة بدون الله هي
الموت. وهذا هو الموت الروحي الذي لو عاش الإنسان بعد رفض الحياة الحقيقية من يد
الله فإن عيشته أو حياته الأرضية يملأها الموت، لأنه يعيش حالة انفصال مستمر عن
الله، وبهذا يعزل نفسه ويداهمه الخوف وتملأه العداوة، ويرضخ لعبودية الخطية وبالتالي
للمادة بكل صورها. وتصبح حياته بلا معنى، تحيط به الشهوة والفراغ وأخيراً الموت
المحتَّم.

هذا
هو الموت الروحي الأبدي الذي تسبَّب للإنسان في موته العضوي الزمني.

8-
وطالما لم نستطع أن نبلغ هذه الرؤية المسيحية والإحساس الحقيقي بالموت ومفهومه
كقانون رعب وخطية تملأ الحياة بالموت الذي يسود على العالم (رو 14: 5) فلن نكون
قادرين أن ندرك القيمة الثمينة لموت المسيح من أجلنا ومن أجل كل العالم.

9-
لأن الموت الطبيعي الجسدي هو في حقيقته ثمرة زمنية مرَّة للموت الروحي الذي جاء
المسيح ليخلِّصنا منه.

10-
وهنا المعنى الحرج لقول المسيح إنه يموت بإرادته وبمنتهى مشيئته الحرَّة. فموت
المسيح أراد المسيح أن ينفِّذه بنفسه في نفسه، وذلك لأنه أحبَّ الله أكثر من نفسه.
بينما الإنسان في المقابل مات لأنه أراد الحياة لنفسه في نفسه لأنه أحب نفسه أكثر
من الله!

11-
فبقدر ما كان حب الإنسان لنفسه وحياته هو السبب الرئيسي لخطيته التي هي الجذر
المرّ لموته والشوكة المميتة، بقدر ما كان المسيح باذلاً حياته ونفسه، فكان السبب
الرئيسي للخلاص من الخطية وتحرير الإنسان من الموت الروحي.

12-
فاعتبرت إرادة المسيح للموت بحريته هي أول وأقوى عمل لمحبته الكاملة لله وللإنسان
في طاعة كاملة لإرادة الله. بمعنى أن موته لم يكن له أي دافع في نفسه غير المحبة،
فكان موته هو قمة استعلان المحبة للحياة في الله، ولكي ينزع شوكة الموت التي هي
الخطية ويحرِّر الإنسان من سطوة العدو والموت.

13-
فالمسيح لم يُبطل أو يبيد الموت الجسدي، لأنه إن كان قد صنع هذا فمعناه أنه يبيد
العالم أو يبطله لأن الموت فيه ويسوده. الموت ليس جزءاً من العالم بل هو أساس حياة
العالم ونموِّه، لأن كل مَنْ يحيا فيه يحيا للموت والذي ينمو فيه ينمو للموت- ولكن
الذي عمله المسيح أعظم من ذلك جدًّا، إذ أنه أبطل شوكة الموت أي الخطية فأبطل
الموت كحقيقة روحية ولاشاها روحياً، لأنه لبس الموت وتواجد فيه وملأه بنفسه
وبمحبته وحياته، فجعل الموت بعد أن كان هو الانفصال عن الله والمتسبِّب في فساد
حياة الإنسان والعالم، جعله طريقاً للعبور مُفرحاً ومضيئاً بملء المحبة والحياة
الأبدية: “لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح” (في 21: 1). وبولس
الرسول لا يتكلَّم هنا عن موت الجسد ولكن عن الموت بمعناه الجديد: الموت مع المسيح
رمز القوة والنصرة، لأن الذين يؤمنون بالمسيح ويحيون فيه لا يعود لهم موت، لأن
الموت يُبتلع بإيمانهم إلى نصرة (1كو 54: 15)، فصار كل قبر لكل قديس مملوءاً حياة
بدل الموت.

14-
والآن ما معنى القول إن كنَّا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته؟

ما
معنى الشبه؟
إذ يتحتَّم أن نفهمه قبل أن نكمِّل الطقس.

معناه
أننا نترسَّم خطوات المسيح ونشترك فيها بإيماننا وحبنا له، فتكون إرادتنا هي
إرادته وأن يكون إيماننا به لا مجرَّد اعتراف أو مجرد نوال ما له، بل وفوق كل هذا
أن نعطيه حياتنا وأنفسنا. هذا هو معنى وصيته أن “اتبعني أنت” (يو 22:
21)، وليس أمامنا أي طريق للإيمان به سوى أن نقبل إيمانه ليكون إيماناً لنا أو
إيماننا، ونقبل محبته لتكون هي محبتنا ومشيئته لتكون مشيئتنا. لأن الإيمان بالمسيح
يعني كل المسيح وخارجاً عنه لا يوجد إيمان. وكل المسيح يعني طاعته ومحبته ومشيئته
التي بها نتعرَّف عليه ويستعلن هو نفسه لنا.

فإذا
آمنا بالذي لا يؤمن به هو، أو أحببنا الذي لا يحبه هو، أو نشاء ما لا يشاؤه هو،
ونطيع ما لا يطيعه هو، فهذا يعني أننا لا نؤمن به إذ فصلناه عن حياته، عمَّا له!
وندَّعي بعد ذلك أننا نحيا على رجاء المعجزات، ونصرخ من أجل المعونة دون أن نعمل
ما يعمله هو، بل نطيع إرادة غير إرادته، وبعد ذلك ندعوه “يا رب” ونعبده دون أن
نكمِّل مشيئته التي هي مشيئة أبيه. هذا ليس إيماناً به. فنحن خَلُصنا ليس لأننا نؤمن بالمعجزات والقوى الفائقة، هذا إيمان لا يريده
لأنه إيمان وهمي
كاذب.

ولكن
إن جعلنا مشيئتنا هي نفس مشيئته التي تملأ حياته والتي ساقته إلى الموت لينزل إليه
ليبيده، فهذه المشيئة تُدعى حقا الإيمان به وتكون هي الموت والقيامة كثمرة عمل
الإيمان، وهذا هو الشبه للمسيح وأعماله. فإذا تشبَّهنا بموته حتماً
سنتشبَّه بقيامته لأن موته ينشئ قيامة، وبالتالي تشبُّهنا بحياته في الله
“لأنكم قد مُتُّم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله” (كو 3: 3)

وعليه
يستحيل أن نؤمن بالمسيح دون أن نشاء الكأس الذي شربه، وأن نعتمد بالمعمودية التي
اعتمد بها، أي ندخل حرباً سافرة ضد الخطية، ونضع أنفسنا كما وضع هو. هذا هو
الشبه
لموت المسيح، هذا هو الإيمان الحقيقي “إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم
نفسه من أجلي” (غل 20: 2)، وأحب الكنيسة وأسلم نفسه من أجلها.

أمَّا
الإيمان الذي نحياه بعيداً عن التشبُّه به والالتزام بحياته فهو ليس إيماناً وإنما
نظرية تلقيناها وحفظناها لنردِّدها بعيداً عن قلبنا ووعينا وإيماننا.

من
هنا تصبح المعمودية التي نتكلَّم عنها هي معمودية موته وقيامته، نشتهيها شهوة
ونقدِّسها تقديساً، لأنه هو اشتهى الموت وقدَّسه تقديساً فحوَّله إلى حياة جديدة
أبدية.

 

8-
قيام المعمودية على أساس موت المسيح وقيامته

إن انقطاع الصلة الأساسية بين معمودية يوحنا والمعمودية
المسيحية يُصرِّح بها يوحنا المعمدان نفسه:

+
“أنا أُعمِّدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست
أهلاً أن أحمل حذاءه. هو سيعمِّدكم بالروح القدس ونار” (مت 11: 3)

وأيضاً:

+
“أنا أعمِّدكم بماءٍ، ولكن يأتي مَنْ هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحل
سيور حذائه، هو سيعمِّدكم بالروح القدس ونار” (لو 16: 3)

حيث
النار من ملابسات الكلام هي إشارة إلى الدينونة العتيدة أن تكون جزاءً لمن لا يجوز
هذه المعمودية.

وأيضاً:

+
“أنا عمَّدتكم بالماء، وأمَّا هو فسيعمِّدكم بالروح القدس” (مر 8: 1)

إذن
فمعمودية المسيح ليست كمعمودية يوحنا، أي ليست تمهيدية أو إعداداً لآخر. فهي
معمودية كمال ونهاية، وتقود مباشرة إلى ملكوت السموات الذي جاء المعمدان ليعدَّ
لمن سيفتتحه.

واضح
هنا إن إعطاء الروح القدس الذي قال به المسيح (أع 1: 5و8)، وحقَّقه يوم الخمسين،
وأكَّد قوته وعمله، هو عمل أخروي يختص بكشف ملكوت الله وإعطاء القوة لبلوغه. فهو
عطية أخروية ولكن كمجرَّد عربون، الأمر الذي جعل ق. مرقس يكتفي بذكر الروح القدس
ولم يذكر “النار”، لأن “النار” لا تتبع الزمن الحاضر.

هذا
العمل الأخروي الذي اختصَّت به معمودية المسيح أو المعمودية المسيحية هو عنصر جديد
جدًّا وغير موجود في مفهوم المعمودية بواقعها عند المعمدان والعهد القديم، فعطية
الروح القدس غير مستمدَّة من ماضٍ أو من آخر، ولكن من شخص المسيح مباشرة ومن عمله.

وانسكاب
الروح القدس العلني على كل جسد (أع 17: 2) هو عمل مختص “باسم المسيح” “سيرسلة
الآب باسمي” (يو 26: 14)، وبالقيامة وذهاب المسيح إلى الآب وذلك من كلام
المسيح نفسه: “لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزِّي. ولكن إن ذهبت أرسله
إليكم” (يو 7: 16)

لذلك
لم تبدأ الكنيسة بالمعمودية إلاَّ بعد أن صارت بيت الروح القدس وقادرة أن تعطيه،
علماً بأنه مرسل من عند الآب باسم المسيح “وأمَّا المعزي الروح القدس الذي سيرسله
الآب باسمي
فهو يعلِّمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم” (يو 26: 14)

ولكن
ما دخل الروح القدس في مغفرة الخطايا؟

معروف
أن معمودية يوحنا كانت لمغفرة الخطايا للتوبة، استعداداً أو تمهيداً لدخول عهد
المسيَّا أو لقرب مجيء ملكوت الله. ولكن بمجيء المسيح أخذ موضوع مغفرة الخطايا
معنى آخر. فها هو ملكوت الله قد جاء، فقد أصبح المطلوب هو مغفرة الخطايا لدخول
ملكوت الله، أي مطلوب مغفرة خطايا بصورة أبدية مطلقة لتساوي الحياة الأبدية التي
انفتحت علينا بعد أن كانت مخفية عند الآب، كقول ق. يوحنا في رسالته الأُولى.
والخطايا بمفهومها الإنجيلي دين، فالآن مطلوب من يدفع ثمن هذا الدين. وهذا كان عمل
المسيح منذ أن بُشِّر بميلاده “وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلِّص شعبه من
خطاياهم” (مت 21: 1)، وهكذا أخذ اسم ومعنى “مغفرة الخطايا” بكلمة “الخلاص”.
وهكذا وُلِدَ المسيح ليكون “المخلِّص”.

والخلاص
تمَّ على الصليب بذبح المخلِّص كذبيحة خلاص أو كفَّارة، ولم يُستعلن الصليب أنه
كان واسطة الخلاص إلاَّ بعد قيامة المسيح من الأموات. هكذا بموت المسيح وقيامته
استُعلن الخلاص الذي تمَّ لجميع العالم، حتى لا يهلك كل مَنْ يؤمن به بل تكون له
الحياة الأبدية. وهكذا ارتبط غفران الخطايا “بالإيمان بالمسيح بموته وقيامته”.

ولكن
ما علاقة الإيمان بالمسيح وموته وقيامته بالمعمودية؟

نعود
إلى معمودية يوحنا لنجد أن غفران الخطايا الذي نادى به المعمدان كان شرحه أن يؤمن
اليهودي أن هذه المعمودية من السماء، وكانت قوة غفران الخطايا فيها لا
تتعدَّى أثرها الجسدي الزمني، لأنها كانت
مجرَّد إعداد لعهد آتٍ وليست للأبدية. لذلك كان ماء المعمودية عند يوحنا
المعمدان مرتبطاً بالإيمان بالسماء، أي عودة
الإيمان اليهودي إلى وضعه الأول عند إبراهيم وإسحق ويعقوب.

أمَّا
معمودية المسيح فالماء فيها مرتبط بالإيمان بالمسيح وما عمله المسيح من أجل الخلاص،
أي غفران الخطايا، أي بالموت على الصليب والدفن والقيامة. وهنا الغفران ليس زمنياً
ولا جسدياً، بل هو غفران أبدي يخص النفس بالدرجة الأُولى. هكذا أصبحت معمودية
المسيح أو المعمودية المسيحية قائمة على قاعدة الإيمان بالمسيح شخصياً وبرسالة
الخلاص التي تمَّت بالموت والدفن والقيامة. وقد انكشفت عن عيني يوحنا المعمدان
بصفته النبي الخاص السابق للمسيح، فرأى المسيح بعد المعمودية وهو سائر بجوار
الأُردن فقال: “هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يو 29: 1).
فالمسيح نزل المعمودية على أساس هذه المهمة العظمى التي أسماها المسيح بعين
نبوَّته “نكمِّل كل بر” لا من أجل نفسه بل من أجل الجميع. والبر من أجل
الجميع هو برفع خطاياهم حتماً، لأنه لا يُحسب أحد “باراً” إلاَّ إذا كان بلا خطية،
الأمر الذي ستنتهي إليه معمودية الناس باسم المسيح.

نعود
ونقول إن الجديد في المعمودية هو انسكاب الروح القدس الذي هو عطية الآب باسم
المسيح، الذي انسكب بمجرَّد صعود المسيح: “وأمَّا المعزي الروح القدس الذي
سيرسله الآب باسمي فهو يعلِّمكم كل شيء.” (يو 26: 14)، “لكني أقول لكم
الحق إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزِّي. ولكن إن ذهبت
أُرسله إليكم” (يو 7: 16). وأيضاً: “لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطي
بعد، لأن يسوع لم يكن قد مُجِّد بعد” (يو 39: 7). وقد وفَّى المسيح بوعده،
فبعد الصعود بعشرة أيام، أي في عيد الخمسين، سكب الروح القدس فكان أقوى مفاعيل
المعمودية. ولكن موقعه من معمودية الماء هو بعد اكتمالها، أي أن بالمعمودية يتم
غفران الخطايا القائم على مشاركة المسيح في موته وقيامته بالإيمان والغطس تحت
الماء كأنه للموت والدفن مع المسيح، ثمَّ بالقيامة معه. وهنا يكون عمل
الروح القدس في الإحياء أو الإقامة من الموت للقيامة مع المسيح، حيث يشكِّل الروح
القدس صورة الميلاد الثاني من الماء ليكون الإنسان الجديد على صورة خالقه في مجد
القيامة والحصول على الحياة الأبدية.

لذلك
أصبح عمل الروح القدس في المعمودية عملاً أساسياً للتكميل، وبدونه لا تكمل
المعمودية، وكأنه أصبح عمل المعمودية بالأساس أن تهب الروح القدس بعد تكميل
الغفران، ثمَّ يعود الروح القدس يكمِّل عمل المعمودية في قيامة المولود جديداً على
صورة المسيح لملء الحياة الأبدية: فالمعمودية بالماء = موت وغفران، وبالروح
= قيامة وحياة. وبالنهاية تكون “المعمودية بالماء والروح” = الدخول لملكوت
الله في المسيح.

وينطبق
على ذلك ويشرحه قول ق. بولس الرسول: “أم تجهلون أننا كل مَنْ اعتمد ليسوع
المسيح اعتمدنا لموته، فدُفِنَّا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أُقيم المسيح من
الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة” (رو 6: 3و4)،
“لأنه إن كنَّا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته” (رو
5: 6)

حيث
كلمة “بشبه موته” تشير إلى الفرق بين موته وموتنا: فموته كان موتاً للخطية أمَّا
موتنا فهو موت جسد الخطية. وكما مات المسيح للخطية مرَّة واحدة وقام ولن يسود عليه
الموت بعد (رو 6: 9و10)؛ هكذا أيضاً بحسب سفر العبرانيين معموديتنا هي معمودية
واحدة، لأن شركتنا في موت الصليب هي مرَّة واحدة، فإذا سقط أحد بعيداً عن الإيمان
والمسيح بعد المعمودية لا يمكن تجديده مرَّة أخرى، وإلاَّ يكون كمن يصلب لنفسه
المسيح مرَّة أخرى (عب 6: 6).

أمَّا
معنى المعمودية الرسمي المسيحي من منطوق المسيح فهي “يليق بنا أن نكمِّل كل
برٍّ” على أساس الطاعة لصوت الله.

القيامة
والميلاد الجديد:

+
“لأنه لمن من الملائكة قال قط أنت ابني أنا اليوم ولدتك” (عب 5:
1) التي قيلت للمسيح من جهة قيامته.

+
“كذلك المسيح أيضاً لم يمجّد نفسه ليصير رئيس كهنة، بل الذي قال له أنت
ابني أنا اليوم ولدتك”
(عب 5: 5)

فإذا
أضفنا إليها شهادة إنجيل ق. لوقا في بعض المخطوطات الغربية التي تقول: إنه لمَّا
انفتحت السماء جاء الصوت يقول: ” أنت ابني الحبيب أنا اليوم ولدتك”
(لو 22: 3) فإنها تكشف صحة ما جاء في رسالة العبرانيين.

وهذا
يُعتبر من أهم ما يمكن بالنسبة للمفهوم المسيَّاني ليسوع المسيح من جهة قيامته من
الأموات. فإذا أضفنا إليه ما قاله مزمور (7: 2): “إني أخبر من جهة قضاء الرب.
قال لي أنت ابني أنا اليوم ولدتك” وقد شرحه بولس الرسول بأن
“اليوم ولدتك” هو يوم قيامته (رو 4: 1، عب 5: 5)، وقد أعادها أيضاً سفر
الأعمال: “ونحن نبشِّركم بالموعد الذي صار لآبائنا، إن الله قد أكمل هذا لنا
نحن أولادهم، إذ أقام يسوع، كما هو مكتوب أيضاً في المزمور الثاني: أنت ابني
أنا اليوم ولدتك = إنه أقامه من الأموات”
(أع 13: 3234)

هنا
اصطلاح لاهوتي خطير يهمنا جدًّا في مفهوم المعمودية: أن القيامة هي ولادة جديدة
سماوية (أع 33: 13)، والآية واضحة “إن الله قد أكمل هذا لنا نحن أولادهم إذ
أقام يسوع، كما هو مكتوب أيضاً في المزمور الثاني: أنت ابني أنا اليوم ولدتك، إنه
أقامه من الأموات غير عتيد أن يعود أيضاً إلى فساد” هكذا فهمنا المعمودية
أنها لميلاد ثانٍ أي جديد، ذلك على أساس واضح أنها قائمة على موت المسيح وقيامته.
وقيامة المسيح تشكِّل في الحقيقة اللاهوتية “ميلاداً جديداً من السماء”
أي من فوق، على أساس نداء الآب من السماء في المعمودية في الأُردن، ومن واقع
لاهوتي بحد ذاته باعتبار القيامة من بين الأموات التي قامها المسيح هي ميلاد جديد
للبشرية كلها فيه من بعد الموت معه: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي
حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات.”
(1بط 3: 1)

 

9-
المعمودية والاتحاد بجسد المسيح

في
اللاهوت الخلاصي معروف أن المسيح مات وهو حامل خطايانا في جسده على الخشبة بحسب ق.
بطرس، ولمَّا مات مُتنا معه، لأن جسده الذي تجسَّد به هو جسدنا، والموت الذي ماته
ماته لأنه حمل خطايانا وحُوكم بمقتضاه راضياً وقَبِلَ حكم الموت صلباً، فهو مات من
أجلنا ونحن متنا معه بالتالي، وبعد الصلب دُفن في باطن الأرض ثلاثة أيام وكنَّا
معه أمواتاً بجسد الخطية، فلمَّا قام، قام بجسدنا بقوة لاهوته وبإرادته وبقوة الآب
والروح القدس، فقُمنا معه. قام بقداسته الأزلية التي له بلا أي خطية، فنلنا نحن من
قداسته، ونلنا من طهارته وحياته الأبدية بحكم الاتحاد الذي تمَّ في التجسُّد
والموت والقيامة.

وكان
المسيح قد ألمح أن موته على الصليب وصبغته بالدم هي في الحقيقة معموديته التي
سيجوزها حتماً من أجلنا، فما معنى هذا؟ معناه أننا قبلنا مع معمودية أو صبغة
المسيح معموديتنا بالضرورة، بمعنى أننا اعتمدنا مع المسيح في موته وقيامته، ذلك
بلا عمل من جهتنا ولا إيمان ولا صلاحية من أي نوع، لأنه أتمَّ ذلك ونحن كنَّا لا
نعرفه:

+
“ونحن أموات بالخطايا أحيانا مع المسيح” (أف 5: 2)

+
“هكذا أحبَّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به،
بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 16: 3)

+
“الله بيَّن محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا”
(رو 8: 5)

إنه
عمل مجَّاني من طرف واحد. والآن ما قيمة عمل المعمودية في الكنيسة؟ (سنرد على هذا
السؤال بعد قليل). على أن معمودية المسيح التي اعتمدها بصبغة دم الصليب هي المفهوم
الأصيل واللاهوتي والوحيد لاسم ومعنى وعمل المعمودية باسم المسيح.

ومروراً
في طريق فهمنا وبحثنا عن المعمودية يُسأل هنا: هل اعتمد المسيح وانصبغ بالدم ومات
وقام من أجل الأطفال أيضاً أم لا؟

نعود
إلى تعبير ق. بولس في رسالته لأهل رومية: “أم تجهلون أننا كل مَنْ اعتمد
ليسوع المسيح اعتمدنا لموته، فدُفنا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أُقيم المسيح
من الأموات، بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة. لأنه إن كنّا قد صرنا
متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته” (رو 6: 35). فإذا
أضفنا إليه ما كتبه ق. بولس أيضاً في رسالته لأهل كورنثوس: “لأننا جميعنا
بروح واحد أيضاً اعتمدنا إلى جسد واحد، يهوداً كنَّا أم يونانيين، عبيداً أم
أحراراً، وجميعنا سُقينا روحاً واحداً” (1كو 12: 13)

فذلك
يشرح أن شركتنا في موت المسيح وقيامته في المعمودية تكون: “بروح واحد”
“إلى جسد واحد” واضح أنه جسد المسيح بمعنى كنسي، أي جماعة المؤمنين أي
الكنيسة.

فلكي
نحدِّد جوهر ومعنى المعمودية من هاتين الآيتين: نجد أن الآية الأُولى تعطي إجابة
واضحة لسؤال: ماذا يكون معنى فعل المعمودية في الكنيسة الأُولى إن كنَّا قد
اعتمدنا جميعاً بعماد المسيح على الصليب؟

والمعنى
الذي نستخلصه من الآيتين معاً هو الرباط السرِّي الذي يربط بينهما، بمعنى أن جسد
المسيح هو هو الجسد المذبوح على الصليب، الأمر الذي توضِّحه الآيات الآتية:

+
“الذي الآن أفرح في آلامي لأجلكم، وأكمِّل نقائص شدائد (جسد) المسيح في جسمي،
لأجل جسده، الذي هو الكنيسة” (كو 24: 1)

+
“لأنه كما تكثر آلام المسيح فينا، كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضاً”
(2كو 5: 1)

+
“بل كما اشتركتم في آلام المسيح، افرحوا، لكي تفرحوا في استعلان مجده أيضاً
مبتهجين” (1بط 13: 4)

وحتى
في جسده المقام:

+
“ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة الراقدين. فإنه إذ الموت
بإنسان، بإنسان أيضاً قيامة الأموات. لأنه كما في آدم يموت الجميع، هكذا في المسيح
سيُحيا الجميع” (1كو 15: 2022)

وهكذا
على قاعدة العلاقة بالمسيح في الموت والقيامة معه من ناحية، ومن ناحية أخرى على
قاعدة بناء جماعة المؤمنين في المسيح، يكتب ق. بولس لأهل غلاطية هذا النص (الثمين
جدًّا للمعمودية):

+
“لأن كُلَّكُم الذين اعتمدتُم بالمسيح قد لبستُم المسيح. ليس يهوديٌّ ولا
يونانيٌّ، ليس عبدٌ ولا حرٌّ، ليس ذكرٌ وأُنثى، لأنكم جميعاً واحدٌ في المسيح
يسوع. فإن كنتم للمسيح، فأنتم إذاً نسلُ إبراهيمَ، وحسب الموعدِ ورثَةٌ” (غل
3: 2729)

في
هذه الآيات جميعها نحن لا نقرأ عن كيف يفهم المعمَّد علاقته بموت المسيح
وقيامته، وعلاقته بالجسد الميت والمُقام، بل يتقبَّل ويستلم ويأخذ بعقله وقلبه
وفكره وروحه وإيمانه وكل كيانه علاقة حيَّة واتصالاً والتصاقاً واتحاداً في موت
المسيح وقيامته، وبالتالي في جسده، ليصير جزءاً حيًّا من هذا الجسد، بالموت،
فتُرفع عنه خطاياه في الحال، وبالقيامة يستلم إنسانه الجديد، خليقة جديدة حيَّة
لها صورة المسيح المقام.

وباختصار
لغوي يكون الإنسان المعمَّد في حالة انفتاح لتقبُّل فعل إلهي، ويكون المسيح في حالة
قبول أعضاء جُدد لجسده الذي يملأ الكون كله؛ والذي يضم الأعضاء الجدد إلى جسد
المسيح بسرّ المعمودية هو الله!

+
“وكان الرب كل يوم يضم إلى الكنيسة الذين يخلصون” (أع 47: 2)

+
“فقبلوا كلامه بفرح واعتمدوا وانضمَّ في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف
نفس” (أع 41: 2)

انظر
أيها القارئ كيف يبني الله كنيسته؟

وطبعاً
على الكنيسة أن تُعلن وتُهلِّل وتُبشِّر بذلك في تعاليمها. ولكن هل تعليم الكنيسة
يُعلن عن كيفية بنائها؟ أم أن الذي يبنيها هو الله سرًّا بفعل الإيمان وسر العماد؟
وهل على الكنيسة أن تُعلن هذا؟ وهل في إعلانها فرح ومسرَّة؟

اسمع
الكنيسة وهي تفتخر:

+
“ولكن الله بيَّن محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا، فبالأولى
كثيراً ونحن متبرِّرون الآن بدمه نخلص به من الغضب- لأنه إن كنَّا ونحن أعداء قد
صولحنا مع الله بموت ابنه، فبالأَولى كثيراً ونحن مُصالحون نخلص بحياته” (رو 5:
810)

+
“في هذا هي المحبةُ: ليس أننا نحن أحببنا الله، بل أنه هو أحبنا، وأرسل ابنه
كفَّارة لخطايانا.. نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً” (1يو 4: 10و19)

+
“ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم، وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر، ويدوم
ثمركم. لكي يعطيكم الآب كل ما طلبتم باسمي” (يو 16: 15)

كل
هذا بسبب ما عملته المعمودية فينا ولنا، إذ جمعتنا ووحَّدتنا في جسد المسيح. فنعمة
المعمودية ليست صورة نتأمَّل فيها ونتكلَّم عنها، بل حقيقة حيَّة نابضة تأخذ
نبضاتها من الجلجثة التي تمَّت مرَّة وإلى الأبد. وهي تمتد بالمعمودية في عمق الزمن
حتى الأبدية. وسيبقى حدث الجلجثة وحدث المعمودية واحداً كما هو واحد في
الإفخارستيا. هذا ليس معناه أن المعمودية ولا الإفخارستيا هما تكرار للجلجثة، لأن
الجلجثة ستبقى حدثاً جديداً ما بقي الزمن وإلى الأبد، والذين يعتمدون يجدِّدونها
في فكرنا وفكر الكنيسة.

 

10-
المعمودية والإيمان

أهمية
المعمودية تقوم على أمرين: الأول ماذا يحدث في المعمودية، والثاني
ما هي نتائج المعمودية، الأمر الذي يستمر مدى الحياة للمُعمَّد.

والآن
نضع الأساس ونسأل: ما هو دور الإيمان قبل وأثناء المعمودية؟ وما هو دور الإيمان
بعد المعمودية؟

هنا
نستوضح ما جاء في (1كو 1: 10 إلخ):

+
“فإني لست أريد أيها الإخوة أن تجهلوا أن آباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة،
وجميعهم اجتازوا في البحر، وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر. وجميعهم
أكلوا طعاماً واحداً روحياً، وجميعهم شربوا شراباً واحداً روحياً، لأنهم كانوا
يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح. لكن بأكثرهم لم يُسرّ الله،
لأنهم طُرحوا في القفر. وهذه الأمور حدثت مثالاً لنا، حتى لا نكون نحن مشتهين
شروراً كما اشتهى أولئك: فلا تكونوا عبدة أوثان.. جلس الشعب للأكل والشرب ثمَّ
قاموا للعب، ولا نزنِ.. ولا نجرِّب المسيح.. ولا تتذمَّروا.. فهذه الأمور جميعها
أصابتهم مثالاً، وكُتبت لإنذارنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور” (1كو
10: 111)

فلنتمعَّن
ما أصاب شعب إسرائيل في طريقهم عبر البحر الأحمر، الذي هو نموذج أصلي للمعمودية،
وقد تكرَّر ذكر هذه الحادثة بالنسبة للجزء الأعظم من الشعب والنتائج المرعبة لها
(انظر: عب 7: 313)

كذلك
حينما يتكلَّم العهد الجديد عن السقوط بعيداً عن نعمة المعمودية يقول:

+
“لأن الذين استنيروا مرَّة (أي تعمَّدوا)، وذاقوا الموهبة السماوية، وصاروا
شركاء الروح القدس، وذاقوا كلمة الله الصالحة وقوَّات الدهر الآتي (كلها عطايا
وهبات المعمودية)، وسقطوا، لا يمكن تجديدهم أيضاً للتوبة، إذ هم يصلبون لأنفسهم
ابن الله ثانية ويشهّرونه (لأن التجديد يحتاج إلى صلب المسيح مرَّة أخرى
وإشهاره)” (عب 6: 46)

وأيضاً:

+
“فإنه إن أخطأنا باختيارنا بعدما أخذنا معرفة الحق، لا تبقى بعد ذبيحة عن
الخطايا، بل قبول دينونة مخيف، وغيرة نار عتيدة أن تأكل المضادين. مَنْ خالف ناموس
موسى فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفةٍ. فكم عقاباً أشرّ تظنُّون أنه
يُحسب مستحقًّا مَنْ داس ابن الله، وحسب دم العهد الذي قُدِّس به دنساً، وازدرى
بروح النعمة. فإننا نعرف الذي قال: لي الانتقام، أنا أجازي، يقول الرب. وأيضاً:
الرب يدين شعبه. مخيف هو الوقوع في يدي الله الحيّ” (عب 10: 2631)

واضح
من هذا أن الذي يفقد نعمة المعمودية فهي لا تُعوَّض، وتكون حياته بعد ذلك حرجة
جدًّا قياساً على ما أخذه في معموديته. وفي نفس الوقت نجد أن الذي يُعطَى في
المعمودية عظيم ومهول وفائق على العقل والتصوُّر، ولا يحتاج إلى موافقة أو فهم.
إنها عضوية في جسد المسيح وبالتالي مواطنة سمائية، وهذه وتلك لها خصائصها وقوتها
الدافعة، وأي رجعة أو تعطيل في مسار نعمة المعمودية هذه يُحسب خيانة تماماً تماماً
كما تُحسب خيانة المواطنة، وخيانة للمسيح الذي لبسه في المعمودية، وخيانة للروح
القدس الذي وهبه القيامة وقوتها للحياة الجديدة.

فالمعمودية
كفعل خلاص هي فقط بدء للانطلاق لحياة تعمل فيها، لذلك سُمِّيت بالميلاد الثاني.
ولكن الميلاد هو بدء حياة تُحسب له وعليه، هي في ذلك كميلاد الجسد الذي له عمر
سنين كحدث قائم بذاته ولكنه ممتد ومتصل بعمر المولود. فإذا انقطعت صلة حياة
المولود بميلاده يموت في الحال، لأن قوة حياة ميلاده هي التي تجعله يعيش. تماماً
في حالة الميلاد الثاني من الماء والروح، فبعد الميلاد يستمر المولود ثانية في
حياة بالروح، ولكن إذا انقطع الإيمان انقطعت صلة المولود بقوة دفع حياة ميلاده
الثاني، فيموت.

لذلك
فإن المعمودية للميلاد الثاني يتحتَّم أن تُحسب أنها بداية جديدة لحياة جديدة.
إنها حقيقة خلاص، وإنها حقيقة موت للخطية: “كذلك أنتم أيضاً احسبوا أنفسكم
أمواتاً عن الخطية، ولكن أحياءً لله بالمسيح يسوع ربنا” (رو 11: 6)

ففي
المعمودية نحن وعاء فارغ يمتلئ بهبة وعطية الله، وبعد المعمودية يتحتَّم أن نؤمن
بما أخذنا ونبشِّر ونعترف ونشكر ونتمسَّك بما أخذنا. هذا توضِّحه حادثة عماد شعب
إسرائيل في البحر الأحمر: العمل هو عمل الله المجاني، وعلى الشعب أن يخضع ويطيع
ويستجيب لعمل الله. وباختصار الله يعمل والشعب يستجيب- ولكن الذي حدث أن معظم
الشعب لم يستجب لمعجزة الله، وهكذا لم تكفهم المعجزة بكل قوتها ورعبها حتى تجعلهم
يؤمنون ويخلصون، لأنهم لم يخضعوا لها بالإيمان وعادوا إلى خطيتهم. هكذا المعمودية
معجزة بحد ذاتها مجَّانية، ولكن بعد حدوثها مطلوب الإيمان بها والعمل بمكتسباتها.

وما
هي المعمودية؟ هي معجزات المسيح في موته وقيامته وغفران خطايانا وإعطائنا استنارة
روحية وعضوية في جسده وفي عهده ونعمة الحياة الجديدة. هذه المعجزات الفائقة الغير
حسِّيَّة والباطنية الداخلية والفائقة العقل، أراد الله أن ينقلها للأفراد فرداً
فرداً، ليذوقها في المعمودية كل إنسان على حدة بصورة خاصة وسريَّة. كان من الصعب
أن يؤمن بها الإنسان قبل أن يأخذها، ولا يُحاسب على هذا، ولكن إن أخذها بصورتها
الباطنية وذاقها وأحسَّها وعاش فيها، إن هو أنكرها بعد أن يكون قد أخذها، وتنكَّر
لها بعد أن يكون قد عاشها وذاقها، تُسحب منه نعمة المعمودية وكل عطيتها ونورها
وصلتها بالمسيح، ويصبح الإنسان خائناً لنعمة المعمودية، خائناً للمسيح، خائناً
للدم الذي قُدِّس به مزدرياً بروح النعمة، ويكون أقل من غير المؤمن ولا يمكن
تجديده مرَّة أخرى.

فالإيمان
يُطلب من كل مَنْ اعتمد، وإلاَّ تُسحب منه الحياة الجديدة ويكون في حكم المائت
روحياً، أي أبدياً، ولا يكون له تجديد مرَّة أخرى.

 

11-
معمودية الماء ومعمودية الروح

1-
الميلاد من فوق:
هو فعل إلهي من فوق.

الميلاد
الثاني:
هو
الميلاد الثاني من الماء والروح.

والاثنان
بمعنى واحد يفيد أن المعمودية هي عامل الولادة الثانية:

+
“الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن
يدخل ملكوت الله” (يو 5: 3)

+
“لا تتعجَّب أني قلت لك: ينبغي أن تولدوا من فوق” (يو 7: 3)

+
“بمقتضى رحمته خلَّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس”
(تي 5: 3)

ولكن
المذكور في (يو 7: 3) هو ميلاد روحاني الذي يوحي إليه اصطلاح مولودين من فوق، أو
مولودين ثانية، لأن الميلاد الثاني لا يمكن أن يكون من اللحم:

+ “الذين وُلِدُوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من
مشيئة رجل، بل من الله” (يو
13: 1)

+
“المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح” (يو 6: 3)

بمعنى
أن الميلاد الثاني يكون دائماً من أصل إلهي: “من فوق” من الثالوث الأقدس، من الآب
(يع 18: 1، 1بط 3: 1)، ومن الابن (يو 12: 1)، ومن الروح القدس (تي 5: 3)، ولكنه
يُدعى عادة من الروح. فالمعمودية هي الأداة التي يؤدّي فيها الروح القدس عمله في
الولادة الثانية.

2-
الماء والروح (يو 5: 3):

هو
وصف تعبيري أو تفسيري للمعمودية بمفهوم أن المعمَّد يُعمَّد:

(أ)
في الماء:

+ “كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها،
لكي يقدِّسها مطهِّراً إيَّاها بغسل الماء بالكلمة” (أف 5: 25و26)

+ “والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة: الروح والماء والدم، والثلاثة هم في الواحد”
(1يو 8: 5)

حيث
غسل الماء يشير لمغفرة الخطايا:

+ “توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران
الخطايا،
فتقبلوا عطية الروح القدس” (أع2: 38)

+ “والآن لماذا تتوانى، قم واعتمد واغسل خطاياك
داعياً باسم الرب” (أع 16: 22)

+ “وهكذا كان أُناس منكم، لكن اغتسلتم، بل
تقدَّستم، بل تبرَّرتم، باسم الرب يسوع وبروح إلهنا” (1كو 11: 6)

(ب)
في الروح:

على
قدر ما يُعطَى الروح القدس للشخص المعمَّد من أجل تجديده الروحي وتقديسه.

والاثنان
يعملان معاً (أ، ب)، الماء والروح، حيث يكون الماء كالوسط العامل
فيه الروح، والروح هو السبب والمؤثِّر، ويكوِّنان معاً عنصري المعمودية
المنظور والسببي. ويمثِّل هذا الشرح قول ق. بولس لتيطس:

+ “لا بأعمال في برٍّ عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته
خلَّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس” (تي 5: 3)

هنا
الماء كعنصر هام في المعمودية يعمل بالإيمان والكلمة لغسل الخطايا مضافاً
إليه الروح كعنصر هام في المعمودية منوط به تجديد الروح للخليقة!! ويؤيِّد هذا قول
بولس الرسول لأهل أفسس: “لكي يقدِّسها مطهِّراً إياها بغسل الماء
بالكلمة” (أف 26: 5). هنا الماء للغسل والتقديس بالكلمة أي الماء
بالكلمة
.

ويضمّها
معاً ق. بولس قائلاً: “لكن اغتسلتم بل تقدَّستم بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع
وبروح إلهنا” هنا عمل المعمودية وعمل الروح معاً دون أي تفريق لهذه كلها:
الغسل والتقديس والتبرير.

3-
على أن كلمة الله
الحيَّة التي هي العاملة في الميلاد الثاني حسب
قول بطرس الرسول (1بط 1: 23)، هي في حقيقتها يد الله على المعمَّد للخلق
الثاني بالروح القدس، تستقبلها يد الإنسان في المعمودية بالإيمان. واليدان
معاً للعطاء والأخذ معاً هما سر المعمودية. يد الله تقدِّم الحق والإيمان والروح
والفرح بالعطاء للخلق، ويد الإنسان هي التصديق والإيمان والفرح بالأخذ للحياة
الجديدة.

4-”
هو سيعمِّدكم بالروح القدس ونار” (مت 11: 3):

النار
هنا جاءت بدون (أل) التعريف، فهي صفة لعمل الروح، أي الدينونة والتوبيخ الشديد
الذي يحرق كنار كل ما هو خاطئ ومنحرف عن البر. ف“الروح ونار” هنا هما واحد لعمل
واحد: أي الهدم للخطأ بفاعلية محرقة، والبناء للحق بفاعلية نارية. فإن كانت المياه
على يد المعمدان تغسل بالراحة، فالمعمودية بالروح ونار تغسل بالإحراق، وكلاهما
للتطهير؛ ولكن الروح ونار توضِّح العمل الأعلى الإلهي لحرق الشوائب الخارجية للجسد
وإنارة المواهب الداخلية في النفس، وهي خاصة بتلاميذ الرب للإعداد والتأهيل.

 

5-
المعمودية بالروح القدس:

أولاً:
لقد جاءت في الأربعة أناجيل كالآتي:

إنجيل
متى:

+
“أنا أُعمِّدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست
أهلاً أن أحمل حذاءه. هو سيعمِّدكم بالروح القدس ونار” (مت 11: 3)

إنجيل
مرقس:

+
“أنا عمَّدتكم بالماء، وأمَّا هو فسيعمِّدكم بالروح القدس” (مر
8: 1)

إنجيل
لوقا:

+
“أنا أُعمِّدكم بماء، ولكن يأتي مَنْ هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحل
سيور حذائه، هو سيعمِّدكم بالروح القدس ونار” (لو 16: 3)

إنجيل
يوحنا:

+
“وأنا لم أكن أعرفه، ولكن الذي أرسلني لأُعمِّد بالماء ذاك قال لي: الذي ترى
الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو الذي يُعمِّد بالروح القدس. وأنا قد
رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله” (يو 1: 33و34)

+
“إن عطش أحد فليُقبل إليَّ ويشرب. مَنْ آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ. قال هذا عن الروح الذي كان
المؤمنون به مزمعين أن
يقبلوه، لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطي
بعد، لأن يسوع لم يكن قد مُجِّد بعد”
(يو 7: 3739)

+
“ولمَّا قال هذا نفخ وقال لهم: اقبلوا الروح القدس، مَنْ غفرتم خطاياه
تُغفر له
ومَنْ أمسكتم خطاياه أُمسكت” (يو 22: 20و23)

هذه
هي الشواهد التي جاءت في الأناجيل الأربعة عن المعمودية بالروح.

ثانياً:
وقد جاءت في سفر الأعمال كالآتي:

+
“لأن يوحنا عمَّد بالماء، أمَّا أنتم فستتعمَّدون بالروح القدس، ليس
بعد هذه الأيام بكثير” (أع 5: 1)

+
“لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم، وتكونون لي
شهوداً في أُورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض” (أع 8: 1)

وكان
حلول الروح القدس يوم الخمسين تحقيقاً عملياً دقيقاً لما تنبَّأ به المسيح عن
معمودية الروح القدس، وكانت معه:

(أ)
مظاهر الروح: –
“صوت كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كل البيت حيث كانوا
جالسين” (أع 2: 2)

“ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على
كل واحد منهم وامتلأ الجميع من الروح القدس” (أع 2: 3و4)

(ب)
وفعل الروح: ” وابتدأوا يتكلَّمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا.”
(أع
4: 2)

+
“يقول الله: ويكون في الأيام الأخيرة أني أسكب من روحي على كل بشر،
فيتنبَّأ بنوكم وبناتكم، ويرى شبَّانكم رؤى، ويحلم شيوخكم أحلاماً. وعلى
عبيدي أيضاً وإمائي أسكب من روحي
في تلك الأيام فيتنبَّأُون” (أع 2:
17و18)

+
“توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا
عطية الروح القدس” (أع 38: 2)

+
فبينما بطرس يتكلَّم بهذه الأمور حلَّ
الروح القدس على جميع الذين كانوا يسمعون
الكلمة. فاندهش
المؤمنون (اليهود) الذين من أهل الختان، كل مَنْ جاء مع بطرس، لأن موهبة الروح
القدس قد انسكبت على الأُمم أيضاً”
(أع 10: 44و45)

+
“فتذكَّرتُ كلام الرب كيف قال إن يوحنا عمَّد بالماء وأمَّا أنتم فستُعمَّدون
بالروح القدس”
(أع 16: 11)

6-
ملاحظات هامة:

(أ)
في كل هذه الإشارات عن معمودية الروح القدس لم يُعطَ لأحد قط أن يعمِّد بالروح
القدس إلاَّ المسيح وحده، بل التصريح هو فقط أنهم يُعمَّدون بالروح القدس، حيث
الروح القدس هنا هو المسئول مع المسيح مباشرة عن عملية التعميد وكل ظروفها
وإمكانياتها ونتائجها في معمودية الروح القدس.

(ب)
الملاحظ هنا بوضوح من ترديد بطرس الرسول لنبوَّة يوئيل النبي أن الروح القدس قد
جاء هنا في يوم الخمسين:

بمظاهر مختلفة تماماً عن كل ما عرفناه
عن حلول الروح القدس في العهد القديم.

وبقوة مختلفة جديدة.

وواضح
من حلول الروح القدس بحسب النبوَّة والواقع في يوم الخمسين أن حلوله منتشر ومتسع
بلا قيود ولا حدود. وكان في العهد القديم يحل على أفراد معيَّنين من الله. ولكن
هنا العطية على التلاميذ مجتمعين أي الكنيسة بل “على كل جسد”. وبينما كان حلول الروح القدس قديماً وقتياً وجزئياً ولغرض خاص،
نراه هنا دائماً وملازماً ويجيء في ملء.

(ج)
في إنجيل القديس لوقا (49: 24):

+ “وها أنا أرسل إليكم موعد أبي. فأقيموا في مدينة
أُورشليم إلى أن تُلبسوا قوة من الأعالي

وأيضاً
في إنجيل القديس يوحنا (26: 15):

+
“ومتى جاء المعزِّي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند
الآب ينبثق، فهو يشهد لي”

وأيضاً
في إنجيل القديس يوحنا (16: 13و14):

+
“وأمَّا متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلَّم من
نفسه، بل كل ما يسمع يتكلَّم به ويخبركم بأمور آتية. ذاك يمجِّدني لأنه يأخذ
مما لي
(كلمة يخبركم خطأ) ويستعلنه لكم

واضح
هنا أنه جاء ليُكمِّل عمل المسيَّا ويستعلنه، واستعلان كل الحق وإرشادنا “إلى
جميع الحق” يعني أن تكون موهبة الروح القدس بكل الملء. وواضح أيضاً أن المسيح
هو الذي أعطى الروح القدس من عند الآب. والروح هنا بهذا الوصف يكون قد أخذ وظيفة
المسيح الذي صعد ويستعلن بقية أموره.

بهذا
نفهم معمودية الروح القدس التي حدثت يوم الخمسين أنها البدء التاريخي على أساس
ميلاد المسيح وحياته وموته وقيامته وصعوده، وهي تحدِّد وتبرز بداية الزمن الجديد
في ملكوت الله، وقد حوت كل الحركات التاريخية ورفعتها إلى المستوى الروحي، ووظيفة
الروح مع التلاميذ بدأت ببشارة الإنجيل لكل العالم.

7-
الكنيسة ويوم الخمسين:

كان
يوم الخمسين هو يوم ميلاد الكنيسة في الوجود المنظور، وقد حُمِّل التلاميذ
بمسئولية الرسالة والرسولية في كل الأنحاء القريبة لهم في البداية. وقد اكتسبوا من
حلول الروح القدس عليهم بالتساوي روح الألفة والاتحاد القوي بالروح. وبحسب وعد
الرب قد تمَّ بالفعل أن تأيَّد الرسل بقوة من الأعالي ظهرت بوضوح شديد في بداية
حياة الكنيسة وصراعها مع رؤساء اليهود وهيئاتهم، وشهادتهم أمام الملوك والرؤساء.
كما وضحت القوات المعمولة من الكنيسة بمعجزات وأعاجيب أخرست مقاوميهم (أع 2: 3
إلخ، 12: 5 إلخ).

كما
ظهر مؤخّراً في رسائل بولس الرسول كيف كان الروح القدس يقدِّس قلوب الكنائس
بالجملة لحساب الإيمان والشهادة والسلوك المسياني المشهود له، وقد خدمته موهبة
الألسن التي بها سمعت جميع الأُمم الإنجيل بلسانها. وهكذا خدم بعماد الروح القدس
وفتح باب انتشار الملكوت في العالم بقوات مذهلة على أيدي التلاميذ الأُميين.

8-
ولكن كلمة المسيح لا تسقط،
فالمعمودية بدأ مفهومها عند التلاميذ، بل وعند
الناس عامة ممثلين في نيقوديموس الذي جاء إلى المسيح باعتباره “المعلِّم” مستفسراً
عن المدخل لملكوت الله، فكان رد المسيح واضحاً ومؤسِّساً لمفهوم العماد: ” إن
كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله.”
(يو 3: 3)

ولمَّا
عَسُر على نيقوديموس فهم الولادة من فوق، كشف المسيح له أصلها ومبدأها من تحت:
إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله.”
(يو 5: 3)

وقد
شرحهما معاً ق. بولس في رسالته إلى تيطس بقوله: “لا بأعمال في برٍّ عملناها
نحن، بل بمقتضى رحمته خلَّصنا: بغسل الميلاد الثاني
regeneration، وتجديد الروح القدس renewal
(تي 5: 3). حيث الغسل هو غسل خطايا للإعداد للعمل الثاني وهو تجديد
الروح القدس.
ولكن في الحقيقة هما عمل واحد للروح القدس في الماء.

فإذا
انتبهنا إلى بدء ذكر كلمة معمودية الماء في يوم الخمسين، نجدها في قول بطرس الرسول
للذين حلَّ عليهم الروح القدس ونخسوا في قلوبهم عند سماع كلام شرح ق. بطرس لعمل
المسيح، فأرشدهم ق. بطرس لتكميل عمل الروح القدس في تغيير حياتهم وإيمانهم من
اليهودية إلى المسيحية قائلاً: ” توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع
المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس”
(أع 38: 2). فهنا عمل
الروح القدس في نخس قلوبهم أي لإيمانهم بالمسيح كان عمل الروح الشخصي، وق. بطرس يطلب لهم عطية الروح القدس أو هبة
الروح القدس بالعماد
بالماء.

وبقية
الكلام هام جدًّا: ” واعتمدوا وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس”
(أع 41: 2). هنا عماد بالروح القدس تكمَّل بالعماد بالماء باسم يسوع المسيح للتوبة
ومغفرة الخطايا.

واضح
هنا كل ما حدث يوم الخمسين: فبالوعظ وسماع عمل المسيح الفدائي والخلاصي، يبدأ
القلب يقبل الكلام ويؤمن، وفي الحال يحل الروح القدس، فيُقاد المؤمن إلى المعمودية
ليعتمد باسم المسيح، فيولد للمسيح ويتجدَّد بالروح القدس للخلقة الجديدة.

وظلَّت
معمودية الماء قائمة بنفسها تنتظر معمودية الروح، كما رأينا عدة أمثلة عند الرسل،
لمَّا اعتمد أهل السامرة ولم يحل الروح القدس عليهم، حتى أُرسل إليهم القديسان
بطرس ويوحنا ووضعا عليهم الأيادي فحلَّ الروح القدس (أع 15: 8). وأيضاً عند ق. بولس
كما جاء في (أع 19: 5و6): “فلمَّا سمعوا اعتمدوا باسم الرب يسوع، ولمَّا وضع
بولس يديه عليهم حلَّ الروح القدس عليهم، فطفقوا يتكلَّمون بلغات ويتنبَّأون”

والعكس
صحيح كما قلنا سابقاً وكما حدث مع ق. بطرس وكرنيليوس، إذ بعد أن حلَّ الروح القدس
عند سماع كلمات الوعظ، بعدها عمَّده بالماء هو وأهل بيته.

وهكذا
نجد أن معمودية الروح القدس هي مكمِّلة لمعمودية الماء، ومعمودية الماء لازمة
لزوماً تأسيسياً لمعمودية الروح، وهما معاً معمودية “الماء والروح” حسب ترتيب
الرب، غير منفصلين عن بعضهما قط. فالماء يعمل بالروح والروح يعمل بالماء. وأساس
معمودية الماء لاهوتي عقائدي كما يحقِّق ذلك بولس الرسول: “أم تجهلون أننا كل
مَنْ اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته” (رو 3: 6)، باعتبار أن الدفن في
الماء هو شركة موت مع الرب ليكون القيام من الماء هو شركة قيامة مع الرب. وهذان
فيهما الغفران والحياة الأبدية، والذي يقوم بفعلهما وتكميلهما في الإنسان على مثال
ما عمل المسيح هو الروح القدس.

فالماء
في المعمودية عنصر فعَّال للموت والقيامة، والروح القدس يكمِّل عملهما روحياً فينا
لأنه يأخذ من المسيح ويستعلن لنا.

وكان
الروح القدس في البداية يعمل، وله في عمله مظاهر مؤثِّرة كنوع من الشهادة لازمة في
وقتها. ولكن شيئاً فشيئاً بعد أن صار الإيمان والثقة يغطيان كل عمل المعمودية، لم
يصبح له أي مظاهر في المعمودية، فعمله صار سريًّا ولكن دون أن يقل تأثيره.

 

12-
المعمودية أيام الرسل

لقد
افتتح المسيح الحديث عن المعمودية وطقسها أيام الرسل بقوله قبل صعوده: “لأن
يوحنا عمَّد بالماء، وأمَّا أنتم فستتعمَّدون بالروح القدس، ليس بعد هذه الأيام
بكثير.. لكنكم ستنالون قوة متى حلَّ الروح القدس عليكم، وتكونون لي شهوداً في
أُورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض” (أع 1: 58)

هذا
معناه أن معمودية يوحنا ستتغيَّر إلى معمودية الروح القدس التي تقبَّلها المسيح
على الأُردن. وهنا نلمح علاقة سريَّة بين معمودية المسيح ويوم الخمسين، وأوضح ما
فيها نزول الروح القدس بعلامة والتي كانت مع المسيح على هيئة جسمية مثل حمامة،
وعلى الرسل كألسنة نار منقسمة استقرت على رؤوسهم. وهكذا بانتهاء عمل المسيح استلم
الرسل العمل وبنفس الروح القدس. ومعمودية الروح القدس التي كانت حلماً مستقبلياً
عند يوحنا المعمدان صارت حقيقة بمجرَّد قيامة المسيح وصعوده. وهكذا صارت معمودية
الروح القدس اسخاتولوجية محقِّقة في ملء الزمن بانسكاب الروح القدس من عند الآب
حسب “الموعد” (لو 49: 24، أع 4: 1) وباسم ا لمسيح.

والروح
القدس الذي انسكب على الرسل أسّس في الحال حسب أمر المسيح الإرساليات والتبشير
بالمسيح الرب: “جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم ربًّا ومسيحاً” (أع 36:
2). وجميع المعجزات والقوات التي عملها الروح القدس آلت إلى تقدُّم الإنجيل، وتمَّ
وعد يوئيل النبي بالرجاء المنتظر في الاسخاتولوجيا وانسكاب الروح على كل بشر.

وأول
من أعلن تحقيق الصلة بين الروح القدس والمعمودية كان هو المسيح للتلاميذ بخصوص يوم
الخمسين، وقد ابتدأت هذه المعجزة بالفعل مع الرسل، والرسل مارسوها من خلال معمودية
الماء لكل الداخلين في الإيمان، حيث التحمت معمودية الرسل بالروح القدس مع معمودية
الماء للتوبة وغفران الخطايا بالنسبة للشعب. وتمَّ الرجاء المنتظر منذ القديم أن
يمتلك الشعب الروح القدس كبركة مستقبل الدهور لعهد الله الجديد مع الإنسان، واجتمع
الرسل معاً والروح القدس:

+
“رأينا وقد صرنا بنفس واحدة، أن نختار رجلين ونرسلهما إليكم مع حبيبينا
برنابا وبولس.. لأنه قد رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلاً أكثر
غير هذه الأشياء الواجبة” (أع 15: 25و28)

+
“أمَّا الكنائس في جميع اليهودية والجليل والسامرة فكان لها سلام، وكانت
تُبني وتسير في خوف الرب، وبتعزية الروح القدس كانت تتكاثر” (أع 31: 9)

+
“احترزوا إذن لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة،
لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه” (أع 28: 20)

وارتفع
مفهوم سكنى الروح القدس في المؤمنين حتى صار فكراً لاهوتياً كنسياً:

+
“وأمَّا أنتم فلستم في الجسد بل في الروح، لأن (
since)
روح الله ساكنٌ فيكم. ولكن إن كان أحد ليس له
روح المسيح، فهو ليس من خاصته
does not belong to him” (رو 9: 8)

وإلهام
الروح القدس صار هو قوة الإيمان للإنسان الذي اعتمد:

+
“وليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلاَّ بالروح القدس” (1كو 3: 12)

+
“.. لننال التبني. ثمَّ بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً
يا أبا الآبُ” (غل 5: 4و6)

فإذا
وضعنا في الاعتبار أن الروح القدس لا يتغيَّر، فهو هو الذي حلَّ على المسيح وهو هو
الذي حلَّ على الرسل، وهو هو الذي يحل على مَنْ آمن ودعى باسم الرب. فكل معمودية
لأي فرد مربوطة بمعمودية المسيح ومسحته لأن الروح واحد. فالروح القدس هو الرباط
الذي يجمع ويوحِّد الرب يسوع سواء في معموديته أو قيامته أو صعوده مع الذين يعتمدون
باسم المسيح ويصيرون أعضاء في جسده. فهم يشتركون في ذات مسحة المسيح على الأُردن
كما يقول ق. يوحنا:

+
“مَنْ يحفظ وصاياه يثبت فيه وهو فيه، وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي
أعطانا” (1يو 24: 3)

+
“بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا أنه قد أعطانا من روحه” (1يو 13: 4)

فالروح
القدس هو الصلة وهو الرباط الذي يربط المؤمن بالمسيح، ومن خلال شركة الروح تتكوَّن
الكنيسة وتُبرز المسيح إلى الوجود وتستعلن محبته. لهذا فمن يحوز على الروح القدس
فهو يقبض على الحقيقة وعلى الوعد الأخروي بآن واحد، محقِّقاً في حياته صورة للدهر
الآتي. وهو ضامن أن يتغيَّر بالنهاية إلى الكمال.

وبقبول
المعمودية من أيدي الرسل يصير المعمَّدون الجدد تابعين للمسيح وأعضاءً مع المؤمنين
تحت اسم المسيح، وباشتراكهم في مسحة الروح القدس ينالون نصيباً في مسحة المسيح
لعهد المسيَّا الذي قد حضر.

قصة
هامة:

أمَّا
المعمودية الآن وفي أيامنا فقد صارت كما يقول المثل “أثراً بعد عين”، والمعنى أنها
بعد أن كانت عيناً قائمة لها مهابتها وجمالها وعظمتها، صارت آثاراً يطويها الزمن.
فقد عاينت بنفسي حال بنايات المعمودية في الأديرة، ففي دير السريان في وادي
النطرون معمودية ولكن أثراً بعد عين. ففي دير السريان غرفة هامة تسمَّى “آلجوْ
al goo” أي المخزن بالسرياني، وكنت كلما أدخلها أشعر برهبة خاصة
وقشعريرة. فسألت أحد الشيوخ ما سرّ هذه الغرفة وهي مساحتها تقريباً 8 متر × 8 متر
ولها قبة هائلة مهيبة ترتكز على الجدران الأربعة، وموقعها غرب الكنيسة ملاصقة لها،
فقال لي هذه الغرفة كانت مغطس يغطس فيها الآباء ليلة عيد الغطاس بعد القداس، حيث
يكون الزمان شتاءً والبرد قارساً. فأدركت بحسِّي أنها كانت المعمودية وضاع زمانها
فكانوا يملأونها ماءًا للغطس ليلة الغطاس تكريماً لغطاس المسيح. فلمَّا قدم هذا
الطقس أيضاً وشاخ واستكثر الرهبان هذا الإجراء الشديد القسوة، ملأوا المغطس تراباً
وصارت الغرفة مخزناً للمأكولات.

هذه
النبذة هي قصة واقعية ولكنها تحكي حال المعمودية وما آلت إليه. كما علمت أنه توجد
معموديات كثيرة في أديرة وكنائس أثرية تحتاج لمن يكتشفها ويقدم لنا عنها نبذة
تاريخية ترد روحنا.

ولكن
هذا يذكرنا ويحقِّق لنا أن عماد السيد المسيح في الأُردن كان فعلاً بالغطس، وأن
هذا التقليد أخذته الكنيسة وصار تراثاً مقدَّساً.

كما
أنه لا تزال كل عائلات الأقباط المحافظين يقدِّسون عيد الغطاس، فكل ابن يولد لهم
في هذا العيد المقدَّس كانوا يسمُّونه “غطاس”، وهو اسم جليل يحمل ذكرى عماد السيد
المسيح كما يحمل روح طقس العماد بالتغطيس.

 

الموعوظون
Catechumens([17])

الكلمة
من الأصل اليوناني
kat”chsij- kathcšw وتعني عموماً التعليم الأَوَّلي. ولكنها في وضعها الكنسي هي تعليم المبادئ الأوَّلية
للديانة المسيحية. ويُسمَّى الموعوظون أيضاً الجنود الجدد لله كما هو حادث عند
ترتليان وأُغسطينوس. وقد يُسمُّون في الكنيسة بالسامعين لأنهم يسمعون التعليم، كما
كان يُصرَّح لهم بسماع العظات فقط، ولكن لا يشتركون في صلوات الكنيسة.

ويجب
البدء بهذا النشاط الكنسي مع الداخلين إلى الإيمان، لأن تعليمهم هو أساس اشتراكهم
في الخدمات الكنسية، وأساس تدريبهم المتواصل لحفظ مستوى التعميد والنمو في بناء
الكنيسة. ودرجتهم الأدبية والاجتماعية لدى الكنيسة هي أقل من المؤمن ولكن أعلى من
اليهود والوثنيين. والمجموعات المختارة منهم يُجرى عليهم طقس القبول وهو الصلاة
ووضع اليد عليهم بواسطة الأسقف وسط الكنيسة ورشمهم بالصليب. ويذكر سلبسيوس ساويرس
إن القديس مارتن (385م) كان ماراً خلال مدينة وكانت جماعة من الأُمم كبيرة ولم يكن
أحد منهم مسيحياً، وقد أجرى بعض المعجزات فأعلن جميعهم الإيمان بالمسيح وطلبوا أن
يكونوا مسيحيين. ففي الحال رفع القديس مارتن يديه على رؤوسهم وصلَّى عليهم وجعلهم
موعوظين قائلاً: وإن كان المكان عراءً وغير لائق لتكريسهم، لكن هذا المكان تقدَّس
بشهادة مسيحيين ماتوا في سبيل الاعتراف بالإيمان وتكرَّسوا قديسين لله
([18]).

وهكذا
كان يُعتبر تكريس الناس ليكونوا موعوظين مشابهاً لتكريسهم ليكونوا مسيحيين، فهذا
وذاك يتم بواسطة وضع اليد للصلاة. ووضع اليد على الموعوظ هو جزء من طقس المعمودية
لإعداد الشخص لقبول الانضمام.

ومعروف
أن الموعوظ وقبل المعمودية يأخذ علامة الصليب حتى يُعدّ لقبول الطقوس الرسمية لتعميده.
وقد ذكر هذا الطقس ق. أوغسطينوس في اعترافاته، وأنه استُخدم له عندما قبلوه
كموعوظ. وفي حياة الأسقف بروفيوس أسقف غزَّة يُذكر:

+ [إنه عندما سقط على رجله بعض الموعوظين
وطلبوا أن يُرسموا بعلامة الصليب، فأعطاهم علامة الصليب وجعلهم موعوظين، وطلب منهم
أن يواظبوا على الكنيسة. وفي مدة بسيطة علَّمهم وعمَّدهم.]
([19])

والمهم
جدًّا للقارئ في هذه الأيام التي نعيشها في نهاية القرن العشرين، أن يعرف أن
الكنيسة الأُولى حينما كانت تعمِّد الأطفال الصغار، كان يُؤخذ وثيقة على أبويه أن
يُقدِّماه عندما يصير صبيًّا لكي يدخل في صفوف الموعوظين عندما يصبح قادراً على
التعلُّم. ويقرِّر ق. تيموثاوس أسقف الإسكندرية أن الطفل حينما يبلغ 7 سنوات من
العمر كان يُستدعى للدخول في صفوف الموعوظين. وكتاب المراسيم الرسولية([20])
يقرِّر أن مدة الموعوظية من البدء إلى التعميد كانت ثلاث سنوات. والقديس جيروم
يقول إنه كان من المعتاد في أيامه:

+ [أن يمضي الموعوظ أربعين يوماً وهي أيام
الصوم الكبير في التعليم ليتقن عقيدة الثالوث الأقدس.]
([21])

والقديس
كيرلس الأُورشليمي يقول مخاطباً الموعوظ الذي يستثقل الاعتكاف أربعين يوماً قبل
المعمودية:

+ [هل بعد أن قضيت كل هذه السنين في
الانشغال بأمور العالم الباطلة، لا تجد الآن وقتاً كافياً لتكرِّس أربعين يوماً
للصلاة ولِما ينفع نفسك؟]
([22])

ولكن
المدة كانت تختصر جدًّا في حالات دخول جماعات كبيرة للمسيحية مثل الذي وصفه سقراط
عند دخول البورجانديين معاً مرَّة واحدة، فالأسقف الفرنسي أعطاهم سبعة أيام تعليم
كموعوظين وفي اليوم الثامن عمَّدهم.

والقديس
كيرلس الإسكندري في إحدى رسائله القانونية أعطى نفس هذه الأوامر لتعميد الخارجين
عن الإيمان وعادوا في ساعة الموت.

ولكن
في الأزمنة العادية كان تعليم الموعوظين يدوم وقتاً كثيراً ليتتلمذوا ويتمرَّنوا
حتى يُقبلوا في المعمودية. على أن يبتدئوا يتمرَّنون على التوبة والتوقُّف عن
الخطية وعلى الأعمال الصالحة، لكي يدخلوا عهداً جديداً مع الله. وكانوا يدرسون كل
مفردات قانون الإيمان، ويدرسون معنى عدم موات النفس، ويدرسون الكتب القانونية في
الإنجيل التي كانت جسم العظات الثمانية عشرة لكيرلس الأُورشليمي للموعوظين. وكاتب
المراسيم الرسولية يقول:

+ [دعوا (الموعوظ) يتعلَّم قبل المعمودية
معرفة الله الآب كما يعلنها له الابن الوحيد ويؤكِّدها له الروح القدس. وليدرس
نظام الخليقة في العالم وحلقات العناية الإلهية وكل الشرائع، ولماذا خُلق العالم
والإنسان في العالم، وليدرس طبيعة الإنسان وما هي صفاتها، وكيف عاقب الله الخارجين
عن الفرائض بالطوفان ونزول نار من السماء، وكيف مجَّد القديسين في كل جيل. شيث
وأخنوخ ونوح وإبراهيم وكل نسله، ملكي صادق وأيوب وموسى ويشوع وكالب وفينحاس الكاهن
وكل القديسين في كل جيل. وليدرس عناية الله التي لم تترك جنس البشر، بل دعتهم من
الباطل والضلال إلى معرفة الحق في كل حين، وعتقتهم من العبودية والفجور إلى الحرية
والصلاح، ومن الإثم إلى البر، ومن الموت الأبدي إلى الحياة الأبدية (..) ثمَّ يدرس
العقائد الخاصة بتجسُّد ربنا وآلامه وقيامته وصعوده (..) ثمَّ يتعلَّم معنى جحد
الشيطان، وكيفية دخول العهد مع المسيح.]
([23])

ويُلاحَظ هنا أنه لم يذكر شيئاً عن الأسرار المقدَّسة لأنها
ممنوعة على الموعوظين حتى يكمل
تعميدهم. وكانت تُقسَّم هذه التعاليم على مراحل
وحصص تلائم المعرفة. والذي يود أن يعرف المزيد في ذلك عليه أن يدرس مدرسة
الموعوظين في الإسكندرية بمناهجها الضخمة ولاهوتها الذائع الصيت.

وكان
على الموعوظين أن يدرسوا الأسفار المقدَّسة وكتباً أخرى نافعة لتقويم النفس مثل
كتاب الديداخي. ويقول القديس أثناسيوس:

+ [وهناك كتب أخرى، ولو أنها غير محسوبة
ضمن قانون الأسفار المقدَّسة، لكن الآباء أوصوا بقراءتها بواسطة الراغبين أن
ينضموا إلينا وأن يتعلَّموا كلام التقوى، وهي حكمة سليمان وحكمة ابن سيراخ وأستير
ويهوديت وطوبيت والكتاب المعروف بتعليم الرسل (الديداخي)
والراعي
لهرماس.]
([24])

وقد
أُضيفت بعد ذلك كتب ق. أثناسيوس. وفي مدرسة الموعوظين بأُورشليم كانت تُدرَّس عظات
كيرلس الأُورشليمي. وكان محرَّماً عليهم أن يدرسوا كتباً خاصة بمعرفتهم لأن
الكنيسة كانت تحدِّد لهم الكتب التي يقرأونها. ويقول العالِم بيد
Bedeوهو عالِم مدرسي كتابي أبو التاريخ
الإنجليزي، أن الموعوظين كانوا يُجبرون على حفظ بعض الأجزاء من الأسفار المقدَّسة
عن ظهر قلب كتمرين وتلمذة على الحفظ والاستيعاب وذلك قبل أن يتعمَّدوا، كما يدرسون
بدايات الأناجيل الأربعة ومختصرها وأغراضها، وذلك بجوار حضور العظات التي تفتح
آذانهم وتوعِّيهم في المعرفة والإيمان. فخرج منهم أوائل وأبطال وعظماء في الحفظ
والفهم والمناقشة في اللغات والفلسفة والرياضيات واللاهوت والإيمان.

 

(أ)
المعمودية من واقع الإنجيل وسفر الأعمال

1- التعليم عن المعمودية في سفر الأعمال

5- التعليم عن المعمودية في رسائل بولس الرسول

2- المعمودية في كتابات القديس يوحنا

6- تعقيب على تعاليم بولس في كل رسائله عن المعمودية

3- المعمودية في رسالة بطرس الرسول الأُولى

ملخَّص تعاليم العهد الجديد عن المعمودية

4- مدى الإلهام الذي قدَّمه القديس بولس

7- ختم الروح القدس

(ب)
معمودية الأطفال- شهادة الآباء



اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى