اللاهوت العقيدي

الفصل الثاني



الفصل الثاني

الفصل الثاني

المعاني العميقة وراء
كلمات الرب وقت العشاء

أولاً: «حتى يُكمَل في
ملكوت الله»!

ثانياً: «أشربه معكم
جديداً في ملكوت أبي».

لوقا: » لأني أقول
لكم إني لا آكل منه بعد حتى يُكمَل في ملكوت الله.
«(16: 22)

لوقا: » لأني أقول
لكم إني لا أشرب من نتاج الكرمة حتى يأتي ملكوت الله.
«(18: 22)

مرقس: » الحق الحق
أقول لكم إني لا أشرب بعد من نتاج الكرمة إلى ذلك اليوم حينما أشربه
جديداً في ملكوت الله.
«(25: 14)

متى: » إني من
الآن
لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديداً في
ملكوت أبي.
«(29: 26)

 

المسيح هنا ينتهي إلى
نقطة فاصلة مع الزمن (من الآن)

كما ينتهي إلى الحد
الفاصل بين خدمته التي أكملها في الزمن، وخدمته التي سيكملها في ملكوت الله
» يُكمَل في
ملكوت الله
«

وهنا المسيح يرفع
أنظارنا مرة واحدة ويوجِّهها بشدة كأنه ينذر نذراً أو يقطع عهداً:
» الحق أقول
لكم إني لا أشرب بعد
«حتى ننتبه إلى أهمية
وخطورة العمل القادم الذي سيكمله مع الآب لنا، مؤكِّداً أن الفصح الجديد
(الإفخارستيا) هو موضوع عمله الأعظم لدى الآب، فهو سيكمل بتكميل الذبيحة أمام الآب،
وسيصير
» جديداً «بالروح القدس وأنه
سيكون مركز التلاقي بيننا وبينه:
» أشربه معكم « وأن من خلال الإفخارستيا سيعلن ويعطي ملكوت الآب » أشربه معكم
في ملكوت أبي
«
مشيراً بذلك إلى حضورنا مع الآب بعد ذلك في صميم الإفخارستيا، وهكذا فإن
بالإفخارستيا سيتلاقى بالنهاية الزمن الخلاصي بالملكوت «من الآن
إلى ذلك اليوم
في ملكوت الله»، فهي دربنا إلى الملكوت.

 

1 الرب
يستبدل الحضور المنظور بحضور سرِّي

 

حينما بدأ الرب وليمة
العشاء الأخيرة بقوله:
» شهوةً اشتهيت أن آكل
هذا الفصح معكم قبل أن أتألم
«(لو 15: 22)، كان يتطلَّع إلى الهوَّة العميقة المرعبة التي
سيعبرها من أجل العالم، وذلك من خلال المحاكمة، والآلام والصليب والموت والهاوية
ثم القيامة.

وكان يرى، بل كان قد
صمَّم ودبَّر، أنه لا بد قبل أن يعبر الهاوية بمفرده أن يسلِّم العالم (العالم
الجديد أي الكنيسة) الواسطة أو «الطريق» الذي يعبر به كل إنسان هذه الهوة
التي سيعبرها المسيح، حتى يكون مع المسيح دائماً ومع الآب، ويبلغ النهاية التي من
أجلها خلق الإنسان. أي أن الإفخارستيا تكون دربنا إلى الملكوت.

لذلك قال المسيح: » شهوةً
اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم
«لأنه كان
يريد أن يحقِّق لتلاميذه حضوره «السري» الدائم بالجسد والدم
من خلال
هذا «الفصح» عوض حضوره المنظور الذي سيتوقف بموته وقيامته (الفصح بمفهومه
المسيحي الجديد أي العبور إلى الآب)، حتى يكون لهم بواسطة أكلهم وشربهم لجسده ودمه
وجود ملتحم دائم معه ثم عبور دائم به إلى الآب. هذا هو المفهوم اللاهوتي
البسيط الواضح كما جاء في تعبير بولس الرسول إلى العبرانيين:
» فإذ لنا
أيها الإخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع، طريقاً كرَّسه لنا حديثاً (جديداً)
حيًّا بالحجاب أي جسده.
«(عب 10: 19و20)

وهكذا،
بالدم والجسد إذ نشترك فيهما نصير دائماً معه لأن وجودنا معه هو منتهى
مسرَّته ومسرة الآب أيضاً:
» أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون
أنا.
«(يو 24: 17)

من أجل هذا، واضح جداً
أنه كان
» يريد «و» يشتهي «أن يأكل هذا
الفصح الأخير معهم ليسلِّمهم
» الطريق « طريق العبور به إلى الآب وسر الدخول
إلى الأقداس بدمه وجسده، قبل أن يعبر هو.

هنا كلمة «الفصح»،
في مفهومها الطقسي العبري «العبور»، كانت تصبغ كل فكر المسيح وحديثه ليلة
العشاء. فالمسيح يعلم أنه «سيعبر» من العالم إلى الآب:
» أمَّا يسوع
قبل عيد الفصح وهو عالم أن ساعته قد
جاءت “لينتقل” من هذا العالم إلى
الآب …
«(يو 1: 13) فهو يعلم
أنه سيكون «فصح العالم» أو
» فصح الزمن والتاريخ « العالم سيجد في المسيح » فِصْحَه «إلى الآب
أي
» عبوره «إلى الحق والحياة
الأبدية!!

والمسيح يعلم أن ساعته
أيضاً قد جاءت وأنه سيعبر الموت إلى القيامة:
» من ذلك
الوقت ابتدأ يسوع يُظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن
يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيراً من الشيوخ ورؤساء الكهنة
والكتبة ويُقتل، وفي اليوم الثالث يقوم
«(مت
21: 16). أي أنه سيكون
» فصح الإنسان إلى الحياة الجديدة «!

لذلك كان المسيح
يتكلَّم وقت العشاء بلغة هذه النهاية التي صوَّب كل نظره إليها، لم يصبح الفصح
أمامه بعد بمعناه القديم، بل ذبيحة عبور حقيقية من العالم إلى الآب ومن الموت إلى
القيامة، بجسده الذي
» يُكسر «ليتم به
العبور، ودمه الذي
» يُسفك «ليتم به
العبور!!

هنا فصح حقيقي يشتهيه
العالم
ويشتهيه كل إنسان، لذلك اشتهى المسيح أيضاً نيابةً عن كل إنسان أن يأكل
هذا الفصح الحقيقي مع تلاميذه قبل أن يتألم حتى لا يعبر وحده!! اشتهى أن يحقِّق
للعالم
أن يكون لكل إنسان عبور إلى الآب معه!!

المسيح
بحسب الطقس أكل مع تلاميذه كسرة الخبز التي بارك، وذاق الكأس التي
بارك قبل أن يعطيهما لتلاميذه، ولكنه لم يشترك بعد ذلك في بقية الأكل أو الشرب! …
لأن أكل المسيح من الخبز الذي بارك ومن الكأس التي بارك جزءٌ
لا يتجزأ من تقديس الأسرار في المفهوم الطقسي
والروحي معاً. وهو بآنٍ واحد تعبير عن رضاه منتهى الرضا بالموت الذي سيجوزه وكأنه
قد جازه.

فهو أكل وشرب «موته» مع تلاميذه فعلاً، لذلك دُعي
» العشاء
الأخير
« ولكنه كان أكلاً
وشرباً
في مفهوم الموت وحدوده: هذا جسدي، هذا دمي!!

وعلى هذا المرتكز قال
إنه الأكل الأخير والشرب الأخير، وبقبوله الأكل من الفصح الأخير، قَبِل بإرادته
ضمناً الموت،
هذا الموت الذي كان على الأبواب!!

ولكن عشاء المحبة
الإلهية لا يمكن أن يوقفه الموت أو يقف عند حدود الموت أو يحجزه الزمن عن الدوام
والاستمرار، لذلك فقد زوَّد المسيح تلاميذه بسر عشاء هو في الحقيقة أبدي، وكان
عتيداً أن يُستعلن سريعاً: «إن كان الله قد تمجَّد فيه فإن الله سيمجِّده في
ذاته ويمجِّده سريعاً»
(يو 32: 13). فالموت وإن كان في إحساس المسيح قد دخل
إلى أعماقه بسر الإفخارستيا وبرضاه
وقت العشاء وكان بالتالي على الأبواب
بالصليب، فملكوت الآب والمجد الذي أعدَّه لابنه بالقيامة كان أيضاً وراء
الأبواب!!

وإن
كان الأكل مع التلاميذ من الخبز والكأس ليلة الخميس والمسيح في أَوَج مضمون
الإحساس بالموت وقت العشاء الأخير بسبب الموت الذي ارتضاه وأصبح ينتظره في كل لحظة:
» وهو عالم أن ساعته قد جاءت «
إلاَّ أن هذا لم يُخْفِ ولم يطمس في إحساس المسيح معالم الحقيقة الباهرة الآتية
فيما يختص بالأكل والشرب مع التلاميذ أيضاً من سر الفصح الجديد بالإفخارستيا
المكمَّلة في ملكوت الله بعد القيامة التي كانت قد أصبحت أيضاً في إحساس المسيح
وشيكةً وقادمةً سريعاً،
فالقيامة سريعة وعلى
الأبواب:
» بعد
قليل لا تبصرونني، ثم بعد قليل أيضاً ترونني
«(يو 16: 16) » عندكم
الآن حزن ولكني سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم.
«(يو
22: 16)

 

«حتى يُكمَل في ملكوت
الله»:

 

+ «لأني أقول لكم إني
لا آكل منه بعد حتى يُكمَل في ملكوت الله.» (لو 16: 22)

«يُكمَل =plhrwqÍ «

إن استخدام المسيح
لصيغة المبني للمجهول هو بنوع الإشارة السرية إلى عمل الآب مع الابن. وهذا التعبير
بصيغة المبني للمجهول هو أسلوب المسيح الفريد الذي لا يوجد له مثيل في العهد
القديم أو الأدب الرباني([1]).
ويظهر هذا الأسلوب واضحاً في (مت 5: 4و6و7)، (مر 5: 2)
» لأنهم
يُعزَّون
«و» لأنهم يُشبعون «و» لأنهم
يُرحمون
«و» خطاياك غُفرت لك « واضح أن المسيح يشير إلى عمله مع الآب يعزِّي ويُشبع ويرحم ويغفر
الخطايا.

لذلك
ففي قول الرب:
» لا
آكل منه بعد حتى يُكمَل في ملكوت الله
«إشارة إلى عمل الآب في تكميل هذا الفصح الإفخارستي في ملكوت الآب، أي
بعمله وبحضوره.
بمعنى أني أنا الآن معكم في هذا العشاء، لكن عندما يُكمَل هذا
الفصح في العشاء الآتي يكون الآب معي والروح القدس أيضاً على مائدتكم. أي أن
تكميل الإفخارستيا أو الفصح الجديد سيكون بتكميل حضور وعمل الثالوث!!

وبذلك
يكون في الإفخارستيا وبواسطتها، إعلان إتيان ملكوت الله، أي حضور الآب والابن
والروح القدس، عاملين معاً لعبورنا من الموت إلى الحياة، ومن العالم إلى ملكوت
الله، دائماً وكل يوم!

والعجيب أن كنيستنا
القبطية الأرثوذكسية تهتف في بداية القداس لخدمة الإفخارستيا:
» مجداً
وإكراماً، إكراماً ومجداً للثالوث
الكلي القدس
الآب والابن والروح القدس
« إعلاناً عن حضور الثالوث واستعلاناً لملكوت الله وعمل الآب والروح
القدس في الإفخارستيا مع المسيح.

ثم عند تقديم الحمل
يهتف الخورس في لحن
» يا ملك السلام « «عمانوئيل إلهنا في وسطنا الآن بمجد أبيه والروح القدس»! ثم في بداية الرشومات على الخبز والخمر نهتف: «باسم الله الآب
الضابط الكل وباسم ابنه الوحيد يسوع المسيح ربنا وباسم الروح القدس الباراكليت».

كل ذلك تحقيقاً لوعد
المسيح أن فصحنا المسيح الذي ذُبح لأجلنا بإرادته وقت عشاء الخميس وعلى الصليب يوم
الجمعة، هو الآن معنا في الإفخارستيا مع أبيه والروح القدس.

هذه هي الإفخارستيا
المكمَّلة في ملكوت الله، التي يأكلها المسيح ويشربها معنا في ملكوت أبيه
أي بحضوره في الإفخارستيا (يلاحَظ دائماً في تعبير المسيح بخصوص ملكوت الله أنه
يعني حضوره الشخصي، وحضوره يعني بالتالي الدخول في تدبيره المباشر.)([2])

حضور الثالوث القدوس في
الإفخارستيا هو إتيان الملكوت، وابتداء عمله فينا، ودخولنا في تدبيره يوماً بعد
يوم. فمن خلال الإفخارستيا يتلاقى الزمن مع الأبدية ومع نهاية الدهور، حسب وعد
المسيح وتعبيره:
» إني من الآن (نهاية الزمن العاري من
الخلاص والتجديد والأبدية) لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما
أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي
«(مت 29: 26) (أي بإعلان زمن الخلاص وملكوت الله بالقيامة وحلول
الروح القدس).

«من الآن (هذا الدهر) …
إلى ذلك اليوم (الدهر الآتي).»
(مت 29: 26):

هنا يتحتم علينا أن
نتأمل معاً في معنى الزمن أو التاريخ العاري من الخلاص والتجديد والأبدية، الذي
يعبِّر عنه المسيح بكلمة
» من الآن « ومعنى الزمن أو التاريخ الخلاصي (إلى ذلك اليوم) الداخل في الفداء
وإعلان ملكوت الله وتدبيره، وكيف ربط المسيح بينهما بشخصه، وأعطى للأول معناه
وللثاني وجوده وإتيانه، وما علاقة ذلك كله بالنسبة لحياتنا وتفكيرنا؟ وما هو دور
الروح القدس في استعلان الدهر الآتي والوجود فيه منذ الآن؟

 

2 معنى
الزمن

(أ) معنى الزمن ودوراته
التكرارية عند اليونان:

إن
مسار الزمن والتاريخ كان له مفهوم خاص وله معتقدات خاصة عند كل من اليونان واليهود
قديماً. فمنذ سنة 500 ق.م واليونان يعتقدون بوجود دورات تاريخية يجتازها العالم،
وقد بنوا نظريتهم هذه على علوم فلكية كان قد برع فيها علماء الفلك في بابل، إذ
كانوا قد قسَّموا السماء إلى ثماني دورات فلكية منتظمة تتبادل معاً كل عشرة آلاف
سنة، حيث تعود النجوم إلى مواقعها
الأُولى التي بدأت منها
مسارها. حيث يبدأ العالم كله، بعد كل دورة، حركته التاريخية من جديد
بنفس حوادثها وبكل دقائقها الهامة. ومن هنا لا يزال المثل
السائد
» التاريخ
يعيد نفسه
«يُشير
إلى هذا المعتقد.

وكان هذا المعتقد لا
يُفيد شيئاً من جهة النمو الحضاري والأخلاقي وبلا قيمة تُذكر حتى من جهة الفكر،
وبالرغم من أن هذا المعتقد المحدود لم يتغلغل إلى الحياة الفردية ليقفل نوافذها،
إلاَّ أنه كان يتحكم في كثير من معتقدات اليونان.

(ب) الزمن وملء الزمن
عند اليهود:

أمَّا اليهود فكانت لهم
فلسفة مبنية على أُسس التوراة ومعاملة الله، فبينما أغلق اليونان التاريخ إذ جعلوه
على صورة دوائر متكررة بلا نهاية ولا معنى، جعل اليهود التاريخ على صورة خط وإن
كان خطاً غير مستقيم بطبيعة الحال، لما عاناه اليهود من تأديبات جعلت الخط
التاريخي عندهم قابلاً للهبوط والارتفاع.

ولكنه
كان على كل حال خطاً له بداية وله نهاية. أمَّا بدايته فهي خلقة العالم بسفر
التكوين حينما خلق الله العالم من لا شيء بسلطانه وإرادته ومشيئته وحده حيث بدأ
الزمن ومعه التاريخ أمَّا النهاية فهي ما ذكرها العهد القديم دائماً
باسم
» يوم
الرب
« حيث فيه وعنده ينتهي الزمن والتاريخ([3]).

على أنه قبل الزمن
والتاريخ والعالم، وبعد الزمن والتاريخ والعالم، لا يزال يوجد الله
» الرب العالي
والمرتفع جداً الذي يسكن الأبدية
«! فعندما يبلغ الزمن غايته وينتهي العالم، يبقى الله ليحكم في
الدهر الآتي.

أمَّا » يوم الرب «هذا فهو لا
يمثِّل كارثة أو انقطاعاً فجائياً غير متوقع للتاريخ في لحظة، فالتاريخ كلي لا
يتجزأ، له هدف محدد ويسير إلى غاية مدبَّرة، وفي كل مراحله له معنى وله عبرة، لأن
الله يضبط التاريخ ويوجِّهه إلى غاية سعيدة قد وضعها له في تدبيره.

ولكن الإنسان وهو واقف
في منتصف هذا التاريخ، أو حينما يعبر مرحلة فيه، فإنه لا يستطيع أن يدرك حركته
الكلية، وبالتالي لا يستطيع أن يفهم معناه تماماً أو يدرك غرض التاريخ ككل لأنه
بالنسبة للزمن كله، لا يرى الإنسان إلاَّ جزءاً دقيقاً جداً منه (أي من التاريخ)،
وهو لا يمكن أن يستشعره كحركة مع أنه كامل تماماً ومنظور ومُقاس في نظر الله.

لذلك، فإن حكم الله
وضبطه للتاريخ والزمن والعالم يبقى دائماً غير واضح للإنسان، وفي مدى رؤيتنا
المحدودة لا يظهر أمامنا إلاَّ الشرور وكأنها هي التاريخ، تظهر منتصرة بينما يظهر
الإنسان مغلوباً وتظهر الفرص والحظوظ المؤقتة وكأنها شيء أو حقيقة، أمَّا مشيئة
الله الكاملة وإرادته الضابطة فلا تظهر في الأجزاء الصغيرة من هذا التاريخ الضخم!
مع أن حكم الله الكلي والبالغ الذروة في الدقة والحكمة والعدل والقضاء يضبط
التاريخ ككل، بكل أبعاده الكبيرة! فحينما يكمل التاريخ حينئذ تُستعلن مشيئة الله
في التاريخ في أصغر أجزائه وتبدو عجيبة ومريحة ومفرحة.

أمَّا قرب النهاية،
نهاية الزمن، أو عندما يبلغ الزمن مِلأَه، فسيأتي شخص تحيطه الأسرار جداً يُدعى
» المسيَّا «أي » الممسوح من
الله
« وهو الذي سيضطلع
بإنهاء التاريخ وإظهار مشيئة الله وحكمه وسلطانه وكل دقائق تدبيره. وهكذا عندما
يأتي المسيَّا
» يوم الرب «يَستعلِن ملكوت الله،
أي يَستعلِن حكمه السابق واللاحق!

و» يوم الرب « في المفهوم اليهودي يعني » آخر الأيام «أو » نهاية
الدهور
«(œscaton
eschaton)، أي نهاية التاريخ الذي يُرى الآن (في نظر اليهود) وكأنه مغلق
وغير مفهوم، والذي يظهر أيضاً (لهم) وكأنه غير مضبوط.

و» آخر الأيام «هنا ليست نهاية باللفظ أو
للزمن، بل هي مفهوم يعني تكامل التاريخ والزمن (يسميه الإنجيل:
» ملء الزمان «غل 4: 4) لاستعلان الحق.
فهي كلمة مفرحة ومبهجة لفكر الإنسان الحزين الذي يواجه مظالم غير مفهومة ولا يرى
من التاريخ إلاَّ صُدَفاً وظروفاً، لذلك أصبح لهذه الكلمة:
» آخر الأيام
«eschaton عِلم وبحوث وآراء تُدعى بعلم البحث
في الأُخرويات =
eschatology.

لذلك ف » يوم الرب
«eschaton
سيكون هو الإجابة على كل
مشاكل التاريخ المحزنة وغير المفهومة، المقبولة وغير المقبولة.

ولكن » هذا اليوم «أو هذه
النهاية التي سيُستعلن فيها ملكوت الله في كل التاريخ السابق وفي كل أجزائه
وأصغرها لن تحطِّم التاريخ أو تلغيه، ولكنها ستشرحه وتعلنه وتكمِّله. فكل
أعمال الله وتدبيره العظيم الذي كان مجزَّءاً ومخفياً وراء الحوادث والتاريخ،
يتجمَّع ويترتب ويُستعلن معاً في
» هذا اليوم «أو في هذه
النهاية
eschaton التي يتحرك التاريخ نحوها.

وبهذا المعنى أيضاً
يُفهم أن
» يوم الرب «يحمل معنى محاكمة
التاريخ ككلٍّ ومحاكمة كل مَنْ تدخَّل في صنع هذا التاريخ.

فالنهاية، أي آخر
الأيام
eschaton، واقعة في صميم التاريخ، ولكنها في نفس الوقت فائقة عليه وهي تحكم
فيه، وهي تُعتبر كمال التاريخ أو اكتماله، لأنها بلوغ ذروة الزمن
» ملء الزمان « ولكنها في الوقت نفسه تعبُر بالزمن إلى ما بعده، أي إلى » الدهر الآتي «

لذلك، فإن الأنبياء
سبقوا فرأوا وتنبأوا عن هذه النهاية
eschaton كحادثة محددة واقعة في الزمن، ولكنهم في نفس الوقت ولكي يشرحوها
اضطروا أن يمثِّلوها بأشياء فائقة على الوصف وأن يحيطوها ببركات غير عادية أرضية
وسمائية، ولكنهم على العموم رأوا فيها كمال واكتمال كل القيم الزمانية وشرحاً لكل
معنى التاريخ.

أمَّا بالنسبة لفكر
اليهودي المتدين، فهذا اليوم أي
» يوم الرب «أو المسيَّا
أو آخر الأيام يمثِّل عنده أولاً وأخيراً تحقيق كل قيمة الدين ومنفعة
التديُّن، فهذا
» المسيَّا «وهذه النهاية eschaton المنتظرة بفارغ الصبر، هي قلب الدين ورجاء التديُّن.

أمَّا العهد القائم بين
الله وإسرائيل فلم يستطع إسرائيل أن يكون أميناً عليه إلاَّ في انتظار المسيَّا!
ففي
» أيام المسيَّا «سيرتفع » العهد
القديم
«إلى » عهد جديد «سيكون الله
فيه صفوحاً بلا حدود. وعند استعلان مُلكه هذا سيُعطي إسرائيل القوة التي أعوزته
لكي يحفظ هذا العهد لأن
» بواسطة المسيَّا «سيفدي الله
إسرائيل وسيعفو عن كل ذنوبه وإخفاقاته، وبالتالي سيرفع عنه تأديب التاريخ وأحزان
وكوارث الزمن.

 

(ج) الزمن وملء الزمن
في المفهوم المسيحي:

وبمجيء المسيح كشف سر
اليوم المكتوم منذ الدهور، وبموت المسيح وقيامته جاء
» هذا اليوم «واستُعلن
فيه أي في المسيح فكر الله وتدبيره عبر كل التاريخ والزمن
» لتدبير ملء
الأزمنة
ليجمع كل شيء في المسيح ما في السموات وما على الأرض في ذاك.
«(أف 10: 1)

أي أن المسيح هو نفسه
استعلانٌ ومعرفةٌ وشرح لكل حركات التاريخ والزمن على الأرض كما في السماء!! لأن
حركة التاريخ في المفهوم المسيحي الآن تسير في الأرض
وفق ما يتدبر في السماء. فكل خفايا التاريخ وألغازه ومشقّاته وتأديباته التي وقعت
على الأجيال السالفة، بدأت منذ الآن تُعرف وتنكشف بواسطة المسيح كما يفصح القديس
بولس الرسول:
» بإعلانٍ عرَّفني بالسر … حينما تقرأونه تقدرون أن
تفهموا درايتي بسر المسيح، الذي في أجيال أُخر لم يُعرَّف به بنو البشر
كما قد أُعلِن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح … لي أنا أصغر جميع القديسين
أُعطيت هذه النعمة أن أُبشِّر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يُستقصى، وأُنير
الجميع في ما هو شركة السر المكتوم منذ الدهور في الله خالق الجميع بيسوع
المسيح.
«(أف 3: 39)

وهكذا، فإنه في اللحظة
التي قدَّم المسيح فيها نفسه ذبيحة بإرادته أمام بيلاطس البنطي راضياً بالصليب،
لكي يكمِّل مشيئة الله الآب فيه، كانت هذه هي محنة التاريخ كله ودينونة العالم،
فكانت هي اللحظة التي بلغ فيها التاريخ ذروته والنقطة الحرجة التي عندها اكتملت
الأزمنة.

أمَّا عندما عبر المسيح
من الموت إلى القيامة، ثم أكمل القيامة بالصعود، ودخل فعلاً بجسده إلى مجد أبيه،
فقد بدأ التحوُّل، وبدأت دهور الله أو الزمن الآخر
eschaton،
وبدأ عهد المصالحة مع الله بواسطة المسيح. لأن في حياته وفي سلوكه وفي موته كإنسان،
تبرَّر الإنسان إزاء كل أحكام الله ونواميسه، لأن المسيح أكمل كل حكم الله وناموسه
وكل قضاء التاريخ في نفسه!! الله صالح العالم لنفسه بواسطة المسيح!!

و» في المسيح «أي في جسده،
تعيش الكنيسة (العالم الجديد) مبرَّرة، والمفديون بدمه صاروا أعضاءً في جسمه الذي
وُلدوا منه وله بالمعمودية. وبالإفخارستيا صاروا معه وفيه دائماً على الأرض كما في
السماء:
» أقامنا معه وأجلسنا معه في السمويات. «(أف 6: 2)

لقد دخل الإنسان » يوم الرب « وهو الآن يعيش فيه!! يعيش فيه كل يوم!! فكل إفخارستيا هي » يوم الرب «

 

3 عمل
الروح القدس

في استعلان أواخر الدهور
«يوم الرب»

لقد أتاح لنا الروح
القدس أن نعيش
» يوم الرب «وملكوت الله في هذا
الزمن، منذ الآن!

لقد بدأ الروح القدس
عمله معنا على الأرض، حيث أنهى المسيح خدمته معنا على الأرض!
» لكني أقول
لكم الحق أنه خيرٌ لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن
ذهبتُ أُرسله إليكم.
«(يو
7: 16)

حينما اكتملت الأيام
وجاء ملء الزمن أو بتعبير المسيح له المجد
» قد أتت
الساعة
«(مر 41: 14)، أنهى
المسيح خدمته على مستوى التاريخ الزمني، وصعد إلى السموات ودخل في مجد أبيه. وأرسل
لنا المسيح الروح القدس ليبدأ معنا حكم الله أي ملكوته الروحي على مستوى التاريخ،
ولكن التاريخ والأبدية معاً! … «وأنا أطلب من الآب فيعطيكم مُعزِّياً آخر ليمكث
معكم إلى الأبد!!»
(يو 16: 14)

وكما
أنه لا تستطيع ممالك العالم الزمني أن تؤرِّخ لأعمال الروح القدس، كذلك فإن الروح
القدس لا
يعمل على مستوى تاريخ العالم الزمني، لأنه يعمل في المفديين فقط الذين ليسوا من
هذا العالم بل من عالم آخر، عالم المولودين من فوق، من الماء والروح:
» روح الحق
الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأمَّا أنتم فتعرفونه
لأنه ماكثٌ معكم ويكون فيكم.
«(يو 17: 14)

إن علاقة الروح القدس ب
» يوم الرب «eschaton علاقة صميمية يعبِّر عنها القديس بطرس الرسول هكذا: » هذا ما قيل
بيوئيل النبي: يقول الله ويكون في الأيام الأخيرة (إسخاتايس إيميرايس
™sc£taij ¹mšraij) أني أسكب من روحي على كل بشر «(أع 2: 16و17). ولكن العجيب أن بطرس الرسول يضيف من عنده كلمة
الأيام «الأخيرة» بإحساس وبروح العهد الجديد الذي يعيشه، لأن يوئيل النبي
يقول فقط:
» ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي «(يوئيل 28: 2). إن بطرس الرسول يشعر فعلاً أن النهاية أو الآخرة eschaton قد حضرت بحضور الروح القدس وذلك لمَّا أكمل المسيح ذبيحته عن
العالم، أي بموته وفدائه، عند ذلك أكمل الأيام وختم على الدهور السالفة. ثم
بقيامته وصعوده ودخوله إلى مجد الآب، بدأ
» الدهر الآخر «وبدأ » الملكوت « وأُرسل الروح القدس ليلدنا للدهر الآتي، يلدنا من جديد، من جسد
المسيح، من فوق، من الله.

وكل مَنْ يلدهم الروح
القدس يختمهم بختم الله لأنهم صاروا مشترين لله، ليسوا من العالم، ويلد لهم
تاريخاً جديداً، تاريخ المفديين على الأرض، تاريخ بني الملكوت الذين لا يعيشون بعد
للعالم و
» لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام «(2كو 15: 5). أي لا يعيشون تاريخهم بعد للعالم الحاضر، بل يعيشون
تاريخ النهاية، تاريخ المسيح، تاريخ الأبدية وملكوت الله.

الروح القدس يعمل فينا
الآن عملين، لكي يؤهِّلنا للقيامة والحياة في أوخر الدهور
eschaton،
أي ليجعلنا قادرين أن نحيا في
» يوم الرب «الذي يمثِّله الصليب، أي في محنة التاريخ وفي مقاومة العالم!:

أولاً: يلدنا
ميلاداً آخر جديداً ليس من العالم بل من فوق من السماء، من جسد المسيح، ويوحِّدنا
في هذا الجسد.

ثانياً: يعطينا
بواسطة سر المسحة المقدَّسة (وكانت بوضع اليد في الكنيسة الأُولى) هبة روحية للعمل
والشهادة لنصير أعضاءً حية عاملة في الجسد لكي لا نبقى عاطلين في العالم. وبذلك
يؤهِّلنا للإفخارستيا (إذ لا يشترك في جسد الرب ودمه إلاَّ العضو الشاهد الحي في
الجسد)، وبالإفخارستيا نوجد دائماً مع المسيح وفيه بالروح والعمل.

وبذلك يعطينا الروح
القدس كل الحصانة لكي نعيش في يوم الرب في مواجهة العالم في صليب دائم
ومحنة الزمن والتاريخ.

وهكذا تمم الروح القدس
دعاء وطلب المسيح من الآب:
» لست أسأل أن تأخذهم من
العالم، بل أن تحفظهم من الشرير
«(يو 15: 17). فبالمعمودية والمسحة المقدسة نصير محفوظين من الشرير،
وبالإفخارستيا نعيش «يوم الرب» مع المسيح، وفي نفس الوقت نعيش في صميم الزمن
والعالم. أي أن بواسطة الروح القدس، تبقى الكنيسة في المسيح في «يوم الرب»، تعيش
أواخر الدهور والزمن بآن واحد!

وفي هذا نرى أيضاً أن
الروح القدس يسخِّر الزمن والتاريخ ليؤرِّخ لأزمنة الفداء وللعالم المفدي
(الكنيسة)، ويكتب في سجلاَّته اليومية أسماء الذين ينضمون إلى الكنيسة ويخلصون،
ألوف ألوف وربوات ربوات!

الكنيسة تحيا الآن، كما
يقول القديس بولس الرسول، أواخر الدهور:
» نحن الذين انتهت
إلينا أواخر الدهور.
«(1كو 11: 10)

الروح القدس يعزي
الكنيسة إزاء محنة التاريخ والعالم، يأخذ من الجسد الممجَّد فوق، ويعطي (الأعضاء)
التي هي الجسد المتألم على الأرض.

» يوم الرب «لا يزال
محنة التاريخ ودينونة العالم، لأن المسيح يمارس فيه ومنذ الآن قضاءه بواسطة الروح
القدس!!
» ومتى جاء ذاك يبكِّت العالم على خطية وعلى برٍّ وعلى دينونة.
أمَّا على خطية، فلأنهم لا يؤمنون بي (ذلك لأنه بدون المسيح الخطية قائمة
ودينونتها دائمة ومستعدة) وأمَّا على برٍّ، فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضاً
(أي أن ذهاب المسيح مرفوضاً من العالم أضاع فرصة التبرير السهل على العالم). وأما
على دينونة، فلأن رئيس هذا العالم قد دِينَ (أي أن العالم الرافض للمسيح واقع تحت
الدينونة والتبكيت الدائمين).
«(يو 16: 811)

والعالم بدوره
أو رئيس العالم بمعنى أصح يصبُّ روح النقمة والدينونة التي وقع فيها
على الذين رفضوا العالم وجحدوا رئيسه مع أعماله وأمجاده الباطلة وصاروا
» ليسوا من
العالم
«

من أجل ذلك يئن
المفديُّون العائشون في
» يوم الرب
«eschaton
الآن من ثقل الجسد
والمحنة التي يعيشونها بسبب اضطهاد العالم والتاريخ، وينتظرون بفارغ الصبر
الانعتاق الأبدي من نير العالم، والتبنِّي فداء أجسادهم بالقيامة من الأموات
بالمجيء الثاني للمسيح وحياة الدهر الآتي حيث يستنفذ العالم فرصته الزمنية ويُبتلع
الموت الذي فيه، وتصير الأرض كلها للرب ولمسيحه ويصير كل شيء مُخضَعاً لله، ويصير
الله الكل في الكل.

ولكن نهاية العالم
الزمني، أي نهاية الزمن والتاريخ، ليست محسوبة من
» يوم الرب
«eschaton
لأن العالم الذي وُضع في الشرير قد دِينَ في » يوم الرب «وهو
محفوظ ل
» يوم
الدينونة
«العتيد
أن يكون بالمجيء الثاني للرب. فالعالم الشرير مع تاريخ أعماله سيقع بعيداً عن
» يوم الرب « سينتهي بقضاء عادل.

أمَّا » يوم الرب «فسيزداد
نوراً وبهاءً ومجداً وامتداداً بالمجي الثاني للمسيح، لأن
» يوم الرب «هو النهاية » الإسخاتون «التي بلا
نهاية!!

أولاً: الإفخارستيا
وملء الدهور
eschaton «يُكمل في ملكوت الله»:

إذا
لاحظنا في ترتيب النظريات الخاصة بحركة الزمن ومسار التاريخ التي قدَّمناها سابقاً
صفحة
186 وما بعدها، نجد أن إدراك اليهود لمسار
التاريخ وتحرُّك الزمن والحوادث ثم استعلان قصد وغرض ونهاية هذا الزمن وهذا
التاريخ، كل هذا يقوم على أساس لاهوتي. ثم أن هذا الأساس اللاهوتي يقوم على أساس
أكثر تحديداً وتشخيصاً على
» المسيًّا «وبالتالي
على
» يوم الرب « ثم وجدنا أنفسنا كمسيحيين قد ورثنا هذا الإدراك اللاهوتي للزمن
والتاريخ واستعلانهما معاً، عندما ورثنا فجأة
» يوم الرب « وورثناه بالمسيَّا نفسه عندما آمنَّا به، ورثناه بالحقيقة، ورثنا
شخصه بالكامل جسداً ودماً، ورثناه
» كذبيحة يوم الرب «في » عشاء الرب « ورثناه في داخلنا لأنه أعطانا جسده ودمه لنأكله ونشربه فصار فينا
وصرنا فيه، فدخلنا في ملء الزمن، وأواخر الدهور، واستعلان كل شيء، لأننا صرنا في
» يوم الرب «

الإفخارستيا كانت
المدخل الوحيد السري والفائق للعقل والقياس الزمني، التي بواسطتها دخل الإنسان في
أواخر الدهور، وعبَر الزمان والتاريخ وارتفع فوقهما وتعالى عنهما في حياة أخرى، مع
أنه لا يزال كائناً في حركتهما، يحيا في مسارهما، بحسب الظاهر.

الإفخارستيا أعطتنا » المسيَّا «جسداً ودماً
وروحاً وفكراً ونفساً، فدخلنا يوم الرب بكل كياننا، ودخلنا استعلان الزمن والتاريخ
وكل شيء.
» إنه بإعلان عرَّفني بالسر … سر المسيح، الذي في أجيال أُخر
لم يُعرَّف به بنو البشر كما قد أُعلِن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح …
لي … أُعطِيَتْ هذه النعمة أن … أُنير الجميع في ما هو شركة السر المكتوم منذ
الدهور في الله خالق الجميع بيسوع المسيح.
«(أف 3: 39)

هذا كان مفهوم
الإفخارستيا عند آباء الكنيسة الأوائل.

فالعلاَّمة هيبوليتس
(تنيح 235م) يفتتح قدَّاسه هكذا:

[في آخر الأزمنة ep’ eschatois chronois أرسلتَ يا الله كلمتك ليكون فادياً ورسول تدبيرك].

وقدَّاس » أداي وماري «[4]) الذي
يُعتبر من القداديس السريانية الأصيلة الأُولى الخالية من أي تأثير بيزنطي
وقد استخدمه النساطرة بعد ذلك. يقول عند التناول في نهاية القدَّاس:

[نشترك (في الجسد
والدم) للحياة الجديدة في ملكوت السموات.]([5])

أي أننا إذ نشترك في
المسيح (جسداً ودماً) نتقدَّم به إلى الآب نحن الأمم الذين كنَّا
بعيدين جداً عنه
» فجاء وبَشَّركم بسلام أنتم البعيدين والقريبين
لأن “به” لنا كلينا قُدُوماً في روح واحد إلى الآب.
«(أف 2: 17و18)

إذاً،
فالإفخارستيا أصبحت مدخلنا إلى الآب، إلى ملكوت الله، إلى الحياة الجديدة
الأخرى،

الملكوت تحقَّق والحياة الجديدة الأخرى استُعلنت لنا بموت المسيح وقيامته، وقد
اشتركنا فيهما بالإفخارستيا.

هذا هو تحقيق نهاية
التاريخ
» الإسخاتون « وهذا هو غرضه ومعناه، مهما طال واستمر. الإفخارستيا (بالمسيح)
تُحضرنا كأناس عائشين في الزمن إلى حضرة الله، ولكن
تكشفهم أولاً وتدينهم، ثم تغسلهم بالدم وتصالحهم بالآب وتُخضعهم لملكوته.

الزمن والزمانيون، في
المسيح وبعمل الإفخارستيا، يتَّحدون أخيراً بالأبدية ويصيرون منها، ويصبحون ولهم
كيان خالد ومعنى ووجود.

الإفخارستيا
هنا أولاً: دينونة وحكم وقضاء وهذا ما فات على كثيرين مما تسبب في
ميوعة

الكنيسة وبرودتها ثم ضعفها الشديد ثم مرضها
الذي قارب الموت عند كثيرين فالدخول إلى الإفخارستيا هو
دخول
إلى
» يوم الرب « إلى محاكمة الأفكار وفضح النيات والضمائر وكشف أستار القلوب.

هذا
هو تقليد الكنيسة الذي استلمته من الرسل، منذ البدء. ومعروف أن خدمة
الإفخارستيا
«خوف ورعدة» بالنسبة للكاهن والشعب، ولماذا الخوف ولماذا
الرعدة؟ إلاَّ بسبب حضرة الآب وحضرة المسيح والروح القدس. أمَّا حضرة الله فهي
دينونة حتماً قبل أن تكون بركة ومنح هبات.

«يوم الرب» معروف منذ
أيام الأنبياء أنه يوم قضاء خطير ومرعب:

+ » يوم الرب
عظيم ومخوف جداً فمَنْ يطيقه … لأن يوم الرب قريب في وادي القضاء.
«(يؤ 11: 2؛ 14: 3)

+
» يوم الرب قريب، لأن الرب
قد أعدَّ ذبيحة وقدَّس مدعوِّيه، ويكون في يوم ذبيحة الرب أني أعاقب الرؤساء وبني
الملك وجميع اللابسين لباساً غريباً (أي غير لباس العُرس الذي ورد ذكره في مثَل
المسيح الذي كان يشير به إلى نفس هذه النبوَّة). وفي ذلك اليوم أعاقب كل الذين
يقفزون من فوق العتبة (يدخلون بدون استحقاق) الذين يملأون بيت سيدهم ظلماً وغشاً.
«(صف
1: 79)

+ » هأنذا أُرسل
إليكم إيليا النبي (يمثِّل روح القضاء والدينونة مثل يوحنا المعمدان) قبل مجيء يوم
الرب العظيم والمخوف.
«(ملا 5: 4)

القديس بولس الرسول يرى
أن الإفخارستيا قبل أن تكون غفراناً وصفحاً ومصالحةً هي قضاء ومحاكمة،
على أساس
أنها دخول إلى الحضرة الإلهية، ووقوف أمام ديان الأرض كلها، واشتراك في أقداس
ذبيحة إلهية:

+ » لأن الذي
يأكل ويشرب بدون استحقاق (أي قبل أن يبرىء ذمته وضميره عن كل خطاياه) يأكل ويشرب
دينونة لنفسه غير مميِّز جسد الرب. من أجل هذا (يدخل تحت القضاء والتأديب) فيكم
كثيرون ضعفاء ومرضى وكثيرون يرقدون، لأننا لو كنَّا حكمنا على أنفسنا (دينونة
الذات والاعتراف بالخطية وتوبة) لما حُكِم علينا.
«(1كو 11: 2931)

واضح جداً من كلام
القديس بولس الرسول أن
» جسد الرب ودمه في
الإفخارستيا
«هو في الحقيقة » يوم دينونة « يوم محاكمة أفكار وقضاء وحكم. وليس ذلك فقط بل وتنفيذ أحكام
وعقوبة، وأمر بالدخول تحت التأديب
» ولكن إذ قد حُكم
علينا نؤدَّب من الرب
لكي لا نُدان مع العالم.
«(1كو 32: 11)

إن صورة الرب التي
رسمتها هذه الأجيال الأخيرة للرب يسوع على مائدة الإفخارستيا مشوَّهة وناقصة. نعم
هو طيب وحبيب وغافر الخطايا وماسح الآثام والذنوب، ولكن ليس بلا سؤال وتحقيق، أو
ليس بلا توبيخ وتأنيب، أو ليس بلا قضاء وحكم ودينونة، أو ليس بلا تأديب!!

أين نهرب من إعلان هذا
الرسول المُشْهَر كالسيف فوق رؤوس المتناولين
» إذ قد
حُكم
علينا نؤدَّب، من الرب
«

وأين نهرب من تحذيره » لا تجتمعوا
للدينونة؟!
«(1كو 34: 11)

إذاً، فالإفخارستيا هي
دخول إلى «ملكوت الله» عَبْر «محاكمة» هي مواجهة خطيرة لحكم قداسة الله على
التاريخ الإنساني وعلى الزمن وحوادثه، قبل أن نعبر التاريخ والزمن إلى الدهر الآخر
وحياة الأبدية!!

المسيح
سبق ودخل حكم التاريخ من أجلنا وتبرَّأ
» رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شيء «(يو 30: 14). ثم دخل
بذبيحة نفسه الطاهرة المبرَّأة إلى الآب
» كسابق من
أجلنا
«إلى الأقداس العليا، فوجد رضاءً، ووجد صفحاً، ووجد فداءً
أبدياً. من أجل ذلك صارت الإفخارستيا لنا مكمِّلة حسب وعد الرب: قضاءً وتبرئةً
معاً، محاكمة وصفحاً، «مَنْ هو الذي يدين، المسيح هو الذي مات بل بالحري قام أيضاً
الذي هو أيضاً عن يمين الله
الذي أيضاً يشفع فينا.
«(رو 34: 8)

وهكذا نرى أن العلاقة
بين الإفخارستيا والدهر الآخر أو الحياة الأبدية علاقة جوهرية، فالإفخارستيا هي
المنفذ الوحيد من الزمن إلى الحياة الأبدية عَبْر «يوم ا لرب»، أي عَبْر قضاء الله
وحكمه على التاريخ السابق وكل أعماله الجاهلة.

وعلينا أن ندرك كم من
المعاناة عاناها المسيح ليكمِّل وعده الذي قاله في إنجيل لوقا:
» إني لا آكل
منه بعد حتى يُكمَل في ملكوت الله.
«(لو 16: 22)

فالإفخارستيا تمت وكملت
بمعاناة شديدة وعميقة للغاية، بقضاء من الناموس، وقضاء من سلطان البشر، والتاريخ،
والزمن، والعالم، ورئيس هذا العالم، ومن الموت، والهاوية. فلم يستطعْ واحد من هذا
كله أن يأتي بحكم افتراء على المسيح وعلى ذبيحته، إذ نقض المسيح هذا كله فلم
يُمسَك في القبر، ولا استطاع الموت ولا الهاوية أن يحتفظا به لحظة واحدة أكثر مما
حدَّده هو!!

والإفخارستيا تمت وكملت
أيضاً بقيامة المسيح من الأموات، وظهوره علانيةً لتلاميذه، ثم صعوده في سحابةٍ إلى
السماء، ودخوله إلى مجد أبيه: فوجد في نهاية المطاف رضاءً وفداءً ومصالحة عظمى،
فكانت ذبيحة المسيح مصالحة للعالم مع الله الآب، وأرسل بناءً على ذلك وبناءً على
وعده، الروح القدس
» المعزِّي الآخر «الذي كمَّل
فعل واستعلان ذبيحة الخلاص لكل بشر!!

هكذا
جازت
» الإفخارستيا «بمفهومها كذبيحة المسيح الحية كل قضاء
الأرض والسماء، حكم هذا الدهر وحكم الدهر الآخر، ملكوت الدنيا وملكوت الله،
فتكمَّلت بالبراءة والمجد، وصارت للبراءة والمجد.

ثانياً: أشربه معكم
«جديداً» في ملكوت أبي

الإفخارستيا والروح
القدس:

+ » إني من الآن
لا أشرب من نتاج الكرمة هذا، إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديداً في
ملكوت أبي.
«(مت 29: 26)

«جديداً» = kainÒn:

الجديد أو الجدَّة هي
دائماً إشارة إلى عمل الروح القدس في الخليقة.

فالخليقة
الجديدة هي خليقة روحانية، والميلاد الجديد هو الميلاد من الروح، والعهد الجديد أي
عهد الله
مع الخليقة الجديدة، وجدَّة الحياة هي الحياة الروحانية، وما قاله القديس بولس:
» هوذا الكلُّ
قد صار جديداً
«(2كو 17: 5) أي صار
روحياً، والإنسان الجديد هو الذي يعيش بحسب الروح، والسماء الجديدة والأرض الجديدة
إشارة إلى العالم الروحاني الجديد. وذلك لأن كلمة
» الجديد «أو » التجديد «تفيد إعادة
صياغة أو ميلاد أو خلقة الشيء على أساس روحاني بعمل الروح القدس.

فهنا في هذه الآية يشير
الرب إلى إفخارستيا تُمارَس على أساس حياة جديدة قادمة، أي بعمل الروح القدس في
خليقة جديدة، (أي كنيسة)، يكون قد كمُل فداؤها وصارت تحيا بالروح القدس في عهد
مصالحة مع الآب.

فالمسيح وقت العشاء لم
يكن قد أكمل الفداء والمصالحة، وبالتالي لم يكن بدأ عمل الروح القدس في الكنيسة
للميلاد الجديد والحياة الجديدة، لذلك قال إنه لا يشربه من الآن حتى يشربه معهم جديداً!!
أي عندما يصير التلاميذ على مستوى الحياة الجديدة، بالقيامة وبعطية الروح القدس.

حيث كل مَنْ يتناول من
الإفخارستيا حينئذ (بعد القيامة وحلول الروح القدس)، يأخذ لا جسد الرب ودمه فقط،
بل أيضاً الرباط الذي يربطه بهذا الجسد عَبْر الزمن والحياة اليومية؛ هذا الرباط
هو الروح القدس الذي يهبنا قوة القيامة ويوحِّدنا بجسد المسيح لنحيا دوماً فيه
ومعه معلناً حقيقة ملكوت الله في داخلنا.

لذلك نجد في صلوات
الإفخارستيا، غير صلاة استدعاء الروح القدس للتقديس، صلوات أخرى لنوال قوة وموهبة
الروح القدس قبل الخدمة، بالنسبة للكاهن، ثم قبل التناول مباشرةً من الأسرار التي
هي قوام الحياة الجديدة حسب قول المسيح له المجد:
» أشربه معهم جديداً «

(أ) قبل الخدمة:

في القداس المنسوب
للقديس مرقس الرسول نجد هذه الصلاة وهي منسوبة للقديس يوحنا أسقف
بوسطرة (عاصمة حوران ببلاد العرب)، بحسب تحقيق برايتمان في كتابه عن الليتورجيات
(صفحة 158) وهي تسمَّى صلاة الحجاب، أي التي يقولها الكاهن سرًّا وهو
واقف خلف حجاب الهيكل أمام المذبح، قبل أن يبدأ صلاة الصُلح. وفيها يقول الكاهن:

[أعطني يا رب روحك
القدوس، النار غير الهيولية (غير المادية) غير المُدرَكة، التي تأكل كل ضُعف وتحرق
كل اختراعات الشرور، لكي يميت كل أعضاء الجسد التي على الأرض، ويُلْجِم كل حركات
الفكر التي تقوده إلى الخيالات المملوءة أوجاعاً وآلاماً، وكما يليق بالكهنة يجعلني فوق كل فكر ميت ويهبني كلمات التقديس
… لكي أكمِّل هذا القربان
الموضوع الذي هو سر جميع الأسرار بمعونة وشركة
مسيحك.]

(الخولاجي المقدَّس
صفحة 546)

 

(ب) صلاة
استدعاء وحلول الروح القدس، كما جاءت في قداس القديس مرقس الرسول، وهي من الصلوات
النادرة والعميقة، والتي لا يوجد لها نظير في جميع القدَّاسات قاطبةً:

[إرحمنا
يا الله ضابط الكل، وأرسل إلى أسفل من علوِّك المقدَّس ومن السماء مكان سكناك
المهيَّأ،
ومن حضنك غير المحدود، ومن عرش ملكوت مجدك، الباراكليت روحك القدوس الكائن بالأقنوم غير المنقسم ولا متغير، الرب المحيي الناطق
في الناموس والأنبياء والرسل، الموجود في
كل مكان، والمالىء كل مكان، ولا يحويه مكان، الذي بإرادته وسلطانه، وليس
كالخادم، إنما
بحسب مسرتك، يصنع تقديساً على الذين يرتاح (يُسرّ) فيهم،
البسيط في طبعه والمتعدد الأنواع في عمله، ينبوع النعمة الإلهية، الواحد معك
بالجوهر، والمنبثق منك، شريك عرش ملكوت مجدك مع الابن الوحيد ربنا وإلهنا ومخلِّصنا
وملكنا كلنا يسوع المسيح. أرسله علينا نحن خدَّامك، وعلى
هذه
القرابين الكريمة الموضوعة (الحاضرة) أمامك، على هذا الخبز وعلى هذه الكأس،
لكي يتقدَّسا ويتحولا (ينتقلا). ولكي هذا الخبز يجعله جسداً مقدساً للمسيح، وهذه
الكأس أيضاً دماً كريماً للعهد الجديد الذي له.]([6])

(الخولاجي المقدَّس: صفحة
639641)

 

(ج) يقول الكاهن (في قداس القديس باسيليوس) قبل التناول مباشرةً وهو خاضع
برأسه أمام الله:

[نسأل ونطلب من صلاحك
يا محب البشر لكي تطهرنا كلنا وتوحِّدنا فيك، بواسطة اشتراكنا في أسرارك الإلهية لكي
نصير مملوئين من روحك القدوس …
] (الخولاجي المقدَّس)

وفي
قداس القديس يعقوب الرسول الذي تحتفظ به الكنيسة السريانية يقول في التقديس على
الكأس:

[وهكذا بعد العشاء أخذ
الكأس ومزجه من خمر وماء. ونظر إلى فوق نحو السماء، وقدَّمه (أظهره) إليك
يا الله أباه، وشكر، وبارك، وقدَّس، وملأه بالروح القدس، وأعطاه لتلاميذه
القديسين المباركين قائلاً …]([7])

والواقع أن هذا قد
يُفهم أيضاً ضمناً في القداس الباسيلي عند قوله على الكأس «وقدَّسه»!! أليس
هذا معناه أنه ملأه بالروح القدس!

وفي هذا المعنى يقول
القديس أفرآم السرياني:

[لقد دَعا الخبز جسده
الحي وملأه بنفسه وبالروح … خذوا كلوا بالإيمان، ولا يشكَّ أحد أنه جسدي،
وأن كل مَنْ يأكل منه بإيمان يأكل فيه ناراً وروحاً، كلوا منه كلكم،
كلوا فيه الروح القدس
لأنه جسدي بالحق.]([8])

وفي هذا المعنى يقول
الأب ثيئوذور أسقف المصيصا (سنة 410م) على التناول:

[إن الكاهن يصرخ قائلاً:
«القُدْسات للقديسين» لأن هذا الطعام مقدَّس وغير مائت، لأنه جسد ودم ربنا ومملوء
قداسة بسبب الروح القدس الذي يسكن فيه.
]([9])

وكذلك نجد عند هيبوليتس
نفس الاتجاه بصورة عملية:

[لكي تمنح جميع مَنْ
يتناولون منه أن يصيروا واحداً، ولكي يتكلَّموا بالروح القدس.]([10])

ولا يزال في القداس
الروماني (اللاتيني) حتى اليوم هذه الصلاة في داخل قداس عيد القيامة:

[اسكب فينا يا رب روح
محبتك، حتى أننا نحن الذين ملأتهم بأسرارك الفصحية نكون بحسب محبتك فكراً واحداً.]

وذلك كقول القديس بولس
الرسول:
» لأننا كلنا سقينا روحاً واحداً «(1كو 13: 12) كإسرائيل قديماً وهم في الصحراء: » أكلوا
جميعاً طعاماً روحياً واحداً وشربوا شراباً واحداً روحياً.
«(1كو 10: 3و4)

وهكذا ينبغي أن يعود
إلينا فكر الآباء وروح الإفخارستيا الحقيقي لأن الروح القدس عندما نناله في
الإفخارستيا فهو الذي يحقق لنا حياتنا الأبدية من خلال حياتنا الأرضية، ويجعل
أقوالنا وأفكارنا وأعمالنا مطابقة لسيرتنا في السموات:
» فإن سيرتنا
نحن هي في السموات.
«(في
20: 3)

هذا هو المعنى العميق
الذي قصده الرب بقوله:
» أشربه معكم جديداً «أي في
إفخارستيا يعمل فيها الروح القدس لاستعلان ملكوت الله في داخلنا ولبقاء اتحادنا
بجسد المسيح السري قائماً في صميم التاريخ والزمن، بواسطة اتحادنا بالروح القدس من
خلال الإفخارستيا أيضاً‍!

 

4 «هذا جسدي:
زه بيصاري»

«هذا دمي: زه دامي»

الرب يؤكد بهذا أن
الإفخارستيا ذبيحة!

كلام المسيح ينصبُّ،
فكراً ولفظاً، وعملاً، على اعتبار أنه قد صار بنفسه ذبيحة في سر الخبز والخمر،
ذبيحة كفَّارية كهنوتية
» عن كثيرين «

أولاً: «هذا» جسدي، «هذا»
دمي =الخبز والخمر صارا عنصري الذبيحة جسداً ودماً:

لأول وهلة يتراءى لفكر
القارىء أن
» هذا «هنا هي اسم إشارة لكل
من الجسد والدم، ولكن الحقيقة أن «هذا» هنا إشارة للخبز وإشارة للكأس.
فالمسيح هنا ماسك بالخبز ويقول:
» هذا «جسدي، أي
هذا الخبز هو جسدي!! وماسك بالكأس ويقول «هذا» دمي!

ويتضح هذا الأمر جداً
في النص الإفخارستي الذي أورده القديس بولس الرسول لأهل كورنثوس، وفيه يقول:
» أخذ خبزاً، وشكر، فكسر، وقال خذوا كلوا “هذا هو” جسدي «(1كو 11: 23و24)، فالضمير » هو «أوضح أن اسم
الإشارة «هذا» يعود على الخبز الذي في يد الرب. وفي حالة الكأس يتضح المعنى أكثر حينما يقول:
» “هذه الكأس هي” العهد الجديد بدمي. «(1كو 25: 11)

إذاً، فالخبز نفسه هو
جسد المسيح،

والخمر نفسه هو دم
المسيح.

هنا المسيح لمَّا أمسك
الخبز وبارك عليه (باركه بحسب لغة القداس) «صار» بحسب «تدبير» الرب جسداً له،
كحالة واقعة «حقيقية».

ولكن الرب حفظ المادة
المصنوع منها الخبز من أن تتحوَّل عن شكلها الظاهر (كما تحوَّل الماء خمراً سابقاً
بإرادته). إذ جعل التحوُّل هنا ليس بالمظهر بل بالحق
™n ¢lhqe…vالفائق على المادة، الذي يعطيها طبيعة وصفات
جديدة ليست لها أصلاً، والذي لا يخضع للتغيير المادي أو تدركه الحواس الجسدية أو
تؤثر فيه العوامل الطبيعية.

فالمسيح نور العالم،
ولكن نور المسيح لا تراه العين، لأنه نور حقيقي
¢liqinÒj
لا ينطفىء قط. وجسد المسيح الذي كان يعيش به على الأرض كان جسداً إلهياً، ولكن في
شكل وصورة جسد ترابي لا تدرك الحواس لاهوته، ولكن الإيمان عند بطرس أدرك
» حقيقته «فنطق قائلاً:
» أنت المسيح ابن الله الحي
«(مت 16: 16)، حيث الجسد هنا فائق على الطبيعة وفائق على الموت.
والعين البشرية لمَّا دخلت في حالة تجلِّي (عند بطرس ويعقوب ويوحنا) رأت الجسد
مضيئاً
» وتغيَّرت هيئته قدَّامهم
«(مر 2: 9). ولكن بعد التجلِّي لم ترَ العين إلاَّ الجسد البشري ولم
ترَ فيه إلاَّ الصفات الطبيعية، حتى إن بطرس عثر في المسيح وأنكره بعد ذلك!!

هكذا «خبز
الإفخارستيا»
بعد البركة هو جسد إلهي للمسيح، أي جسد بالحق ¢lhqîj وليس بالشكل أو بالطعم، لذلك فالحواس لا تستطيع أن تدرك صفاته
اللاهوتية.

العين البشرية إذا دخلت
في حالة تجلِّي، تستطيع أن ترى
» خبز «الإفخارستيا
جسداً حقيقياً بالصورة التي يشاء الروح القدس أن يعلنه فيها، وكثيرون رأوا
وارتعبوا وانعقدت ألسنتهم.

المهم أن الرب قال: «هذا الخبز
هو جسدي»

كتقرير حالة حقيقية واقعة. وكذلك قال:
«هذه الكأس هي العهد
الجديد بدمي»،
وفي موضع آخر قال: » هذا هو دمي
الذي للعهد الجديد
«
فمن كل الوجوه ضيَّق الإنجيل، في تسجيلاته الأربعة، على منافذ الشكوك، حتى يؤمن
الإنسان أن الرب جعل كأس الإفخارستيا دماً حقيقياً له.

ثانياً: (أ) لحم/
ودم =
aŒmas£rx
(يو 51: 6)
([11]).

(ب) جسد/ودم = aŒmasîma (اكو 11: 24و25).

» بصار ودام «Basar
wadam
.

فصل عنصري الذبيحة
إمعاناً في تحقيق فعلها ووجودها:

بحسب المفهوم العبري
الطقسي، يحدِّد هذا الاصطلاح مكونات الذبيحة «بعد ذبحها». فالذبيحة من جهة
مكوِّناتها التي تُرفع إلى الله على المذبح بعد ذبحها، عبارة عن «لحم ودم»:

+ » لأن نفس الجسد
هي في الدم. فأنا أعطيتكم إياه (الدم) على المذبح للتكفير عن نفوسكم، لأن
الدم يكفِّر عن النفس.
«(لا 11: 17)

+ » احترز أن لا
تأكل الدم، لأن الدم هو النفس فلا تأكل النفس مع اللحم … فتعمل
محرقاتك (لا يؤكل منها شيء البتة) اللحم والدم على مذبح الرب إلهك، وأمَّا
ذبائحك فيُسفَك دمها على مذبح الرب إلهك واللحم تأكله.
«(تث 12: 23و27)

+ » فإن
الحيوانات التي يُدخل بدمها عن الخطية إلى الأقداس بيد رئيس الكهنة تُحرَق أجسامها
خارج المحلة (ذبيحة المحرقة). لذلك يسوع أيضاً (كذبيحة محرقة) لكي يقدِّس الشعب
بدم نفسه تألم خارج الباب.
«(عب 13: 11و12)

يُلاحَظ
في هذه الأمثلة أن الذبيحة ذات عنصرين أساسيين: الدم واللحم، وأنهما دائماً
منفصلان: الجسد وحده والدم وحده. هذا له طقس، وذاك له طقس آخر. فالجسد
يُحرق خارج المحلة إذا كانت الذبيحة للتكفير عن الخطايا، ودمها في نفس
الوقت يُرش على المذبح للتكفير عن الشعب.

كما
يُلاحَظ في هذه الأمثلة أن كلمة جسد
sîma وكلمة لحم s£rx استُخدمتا كلتاهما
بدون تفريق.

فإذا
رجعنا إلى كلمات السيد المسيح:
» هذا هو جسدي … وهذا دمي «
نجده يقول كُلاًّ منهما منفردة عن الأخرى ويقدِّمها منفردة عن الأخرى. وهكذا ندرك
في الحال أنه يتكلَّم بلغة الذبائح، هذا ما فهمه التلاميذ تماماً وأدركوا معناه في
الحال ولم يكونوا محتاجين إلى استيضاح، لأن السر الأقدس كان يصبغ كلمات الرب
ونظراته وعواطفه. فالرب في هذه اللحظات كان يذبح نفسه بالنية والنبوَّة.

ويقيناً أنه قد جرى
توضيح أكثر فيما يختص بذبيحة المسيح، وإلاَّ فمن أين أتى بولس الرسول بتقليده
الرهيب في رسالته الأُولى إلى كورنثوس:
«لأن فصحنا أيضاً
المسيح قد ذُبح لأجلنا»
(1كو 7: 5)؟ إن اعتقادنا أن هذا التقليد الطقسي
واللاهوتي الذي أورده بولس الرسول هو بقايا شرح قدَّمه المسيح وقت العشاء عن
ذبيحته. وهذا واضح غاية الوضوح في رسالة القديس بولس الأُولى إلى كورنثوس، إذ
يؤكِّد الرسول أن الأكل والشرب من الخبز والكأس في سر الإفخارستيا هما اشتراك فعلي
في جسد ودم المسيح:

+ » كأس البركة التي
نباركها أليست
هي شركة دم المسيح؟

الخبز الذي نكسره أليس هو شركة جسد المسيح؟ «(1كو 16: 10)

وعندما يستطرد القديس
بولس الرسول ويوضِّح خطورة الأكل من ذبائح الوثنيين كشف بالأكثر أن الإفخارستيا
بحد ذاتها ذبيحة، وأن الأكل منها يربط الإنسان في شركة مع الرب؛ كما يرتبط الأكل
من ذبيحة العهد القديم بمذبح الله (المذبح في العهد القديم له صفة شخصية باعتباره
يمثِّل الله وينوب عن اسمه)
([12]). أو كما
يرتبط الوثني بالوثن (الشيطان) عندما يأكل من الذبيحة المقدَّمة له. لذلك يمتنع
على المسيحي أن يشترك في ذبيحة مقدَّمة للأوثان، لأنه يُعتبر حينئذ أنه مشترك في
ذبيحتين: ذبيحة الرب، وذبيحة شياطين!!
» لا تقدرون أن تشتركوا
في مائدة الرب وفي مائدة شيطان.
«(1كو
21:
10
)

ونسمع صدى هذا التقليد
عينه أيضاً عند القديس بطرس الرسول:
» عالمين أنكم افتدُيتم
لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة
التي تقلدتموها من الآباء، بل
بدم
كريم
كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح «(1بط 1: 18و19). كذلك نرى هذا التقليد واضحاً أيضاً
في سفر الرؤيا:

+ » ورأيت فإذا
في وسط العرش والحيوانات الأربعة وفي وسط الشيوخ
خروف قائم كأنه مذبوح له سبعة
قرون وسبع أعين هي سبعة أرواح الله المرسَلة إلى كل الأرض …

وهم يترنمون ترنيمة
جديدة قائلين: مستحق أنت أن تأخذ السفر وتفتح ختومه، لأنك
ذُبحت واشتريتنا
لله
بدمك من كل
قبيلة ولسان وشعب وأُمَّة … وسمعت صوت ملائكة كثيرين حول العرش والحيوانات
والشيوخ وكان عددهم ربوات ربوات وألوف ألوف قائلين بصوت عظيم: مستحق هو
الخروف
المذبوح

أن يأخذ القدرة والغِنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة …

وهم غلبوه (أي غلبوا
الشيطان)
بدم الخروف
وبكلمة شهادتهم ولم يحبوا حياتهم حتى الموت.

«(رؤ 5: 6و912؛ 11: 12)

ثالثاً: هذا دمي الذي
«يُسفك» من أجل كثيرين:

يُسفك ™kcunnÒmenon

 

أ . عبري

 

ب. أرامي

hannisphakhe bead rabbim

 

demi ystephek al saggi in

هنِّيشفاخ بِعَد
رَبِّيم   

 

دامي يستفك على ساجي
إن

 

إعطاء الدم صفة دم
الذبيحة:

وهنا الفعل جاء في
الأصل اليوناني في حال المضارع المستمر
Present Participle،
وهذا بسبب قصور اللغة اليونانية في ترجمة الأصل العبري أو الأرامي الذي نطقه السيد
المسيح. فالمسيح نطق الكلمة في وضعها المصدري. والمصدر في اللغة العبرية والأرامية
ليس له زمن
» هذا دمي مسفوكاً « والذي يحدِّد زمن المصدر هو واقع الجملة وزمانها. أمَّا في
العربية فتُرجم المضارع الدائم في صيغة الفعل المضارع المبني للمجهول.

والمصدر
في اللغة الأرامية لا يُستخدم أصلاً إلاَّ للتعبير عن حالة مؤكَّدة الوقوع حالاً
أو متوقعة أكيداً([13])،
أي أن الرب هنا يصف الكأس الذي يقدِّمه، أنه ليس مجرد دم بل دمٌ مسفوكٌ كصفة
محتَّمة أو واقعة بالتأكيد. أي ليس هو دماً طبيعياً أو عادياً هذا الذي يعطيه لهم
في الكأس، بل دم ذبيحته!!

وكلمة » مسفوك «هي تعبير في
لغة الذبائح لا يصح استخدامه في حالة القتل أو الموت الطبيعي، وذلك بحسب ما جاء في
الترجمة السبعينية([14])،
حيث أن السفك يشمل معنى السكب على المذبح
» يُسفك على
المذبح
«

ويُلاحَظ أن الرب هنا
يشير إلى نبوَّة إشعياء
» وسكب للموت نفسه «(إش 12: 53). هنا كلمة » سكب «جاءت
بالعبرية
he’erah هِعِراه. وقد تُرجمت في الترجمة السبعينية إلى paredÒqh، ولكن إذا رجعنا إلى الأصل العبري نجد أن كلمة إشعياء يناسبها ™kcÚnnein أي » يُسفك
«وليس » يُسكب. «[15])

وهكذا نلاحِظ أن في
استخدام الرب لكلمتي
» الجسد «و » الدم « كل منهما منفصلة عن الأخرى في وقتها وفي طقسها، ثم استخدامه لصفة
«المسفوك»
بالنسبة للدم؛ كل هذا يحتِّم على القارىء أو السامع أن يدرك ضمناً
أن المسيح إنما يتكلَّم عن نفسه كذبيحة([16]).

فالمسيح
يقدِّم نفسه على هيئة عنصرَيْ الذبيحة،
جسد
ودم ذبيحة كاملة، كل منهما قائم بذاته([17]).

وهو يشير بذلك ضمناً
أيضاً إلى أية ميتة سيموت، فهو يكاد يصوِّر نفسه مذبوحاً، مع العلم بأن الصليب لا
يمثِّل الذبح تماماً، لأن موت الصليب لا يكون من أثر ذبح أو إهراق الدم فقط، بل
ومن جراء عوامل أخرى أيضا. ولكن المسيح يُمعِن في تصوير الذبح لكي ننتبه إلى أن
موت الرب بحد ذاته إنما هو ذبيحة. وهو وإن كان في العشاء يقدِّم الجسد بصفة «المكسور»
والدم بصفة «المسفوك»، فهو أيضاً إمعاناً منه في توضيح عنف الموت الذي
سيموته!!

ننبِّه القارىء إلى أن
كلمة «المكسور» التي استخدمها الرب ليلة العشاء واصفاً بها جسده الممزَّق
على الصليب، استخدمها الآباء الأولون ليس فقط كصفة للخبز المتحوِّل للجسد، بل
» كإسم «حيث يُقال: [» هذا المكسور «الموضوع
أمامك، وكما وُضِع هذا
» المكسور»]. وذلك إمعاناً في إعطاء الخبز المتحوِّل بالتقديس والصلاة
والمقسَّم في الصينية نفس حالة الجسد الممزَّق على
الصليب!

كذلك لا نستطيع أن
نتجاهل المناسبة التي يقول الرب فيها هذا الكلام، فهي مناسبة فصحية، الفصح على
الأبواب، فالإشارة واضحة إلى خروف الفصح، المسيح يقدِّم تقدمة فصحية،
» حمل الله « هنا تتطابق ليس فقط النبوات، بل وكلام يوحنا المعمدان وهو يشير
بأصبعه إلى المسيح. إذاً، فالأكل والشرب هما أكل وشرب من حمل الله، الفصح السماوي.

فالأكل من الجسد شركة
في حياة الرب للخلاص:
» أنا هو الخبز الحي الذي
نزل من السماء … والخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم.
«(يو 51: 6)

والشرب من دم الرب شركة
في موت الرب:
» كلما … شربتم هذه الكأس تُخبرون بموت الرب. «(1كو 26: 11)

وهكذا يتضح لنا أن
عملية الاشتراك في ذبيحة المسيح قصدها الرب أن تكون كاملة جسداً ودماً، كلاًّ
على حدة، حتى تتم شركة كاملة في المسيح كذبيحة، في حياته وفي موته!! وقد
سبق الرب وأنذر أن كل مَنْ لا يأكل جسد الرب ويشرب دمه لا تكون له حياة
في ذاته، نحن ليس لنا حياة أبدية في ذواتنا؛ بل المسيح أعطانا حياته، التي
في جسده ودمه!!

رابعاً: يُسفك «عن»
(من أجل)
كثيرين
(Øpšr) وبالأرامي » على «كثيرين:

واضح أن الموت هنا
كفَّاري،
» الذبيحة كفَّارية
«

يقول الرب هنا أن دمه يُسفك
» من أجل كثيرين «
يكشف مرة واحدة عن أنه يتكلَّم عن ذبيحة نفسه، ثم يعطيها صفتها أنها ذبيحة
كفَّارية، أي كهنوتية،
» من أجل كثيرين « إذاً فهي مقدَّمة لله، إذاً فهي لها كل صفات
المقدَّسات. فالجسد هنا مقدَّس، والدم هنا مقدَّس، فكلاهما مقدَّم على مذبح الله
السمائي: و
» هذا هو جسدي الذي يُبذل عنكم
«(لو 19: 22) أمام الله، » هذا هو دمي،
الذي يُسفك عنكم
«(مت
28: 26، لو 20: 22) أمام الله، وهذا التكرار يعني أن كلاًّ منهما
أي الجسد
والدم
له عمل على
مذبح الله السمائي!

الرب هنا يزيد كلامه
وضوحاً، فهو لا يتكلَّم فقط بلغة الذبائح، بل بدأ يحدِّد ويعيِّن صفة ذبيحته
وعملها. فالجسد الذي كسره وأعطاه لتلاميذه هو جسد ذبيحة كفارية (يُبذل عنهم)،
يستبدل لهم حياة بحياة أو على وجه الأصح حياة بدل موت، والدم الذي يقدِّمه لهم في
الكأس هو دم ذبيحة كفَّارية
» مسفوك عنهم «أو » عليهم «بحسب
التعبير الأرامي، لمغفرة الخطايا التي هي سبب الموت، والتطهير والتقديس وإعطاء
» روح «الحياة
الجديدة لأن هذا هو عمل الدم ووظيفته في الذبيحة.

+ » ويكون لكم
الدم
علامةً
على

البيوت التي أنتم فيها، فأرى الدم
وأعبر عنكم فلا يكون عليكم ضربة للهلاك. «(خر 13: 12)

هنا لا يزال لون
التعبير الذي يعبِّر به الرب عن ذبيحته لوناً فصحياً، فهو يشعر فعلاً أنه
» حمل الله «وأنه الفصح
السماوي، جسده هو خبز الحياة ودمه هو شرب الحياة. فهو فصح أبدي، فصح النهاية
eschaton التي ترقبتها الأجيال لتجد فيها الخلاص. نبوَّة إشعياء كانت ماثلة
دائماً أمامه
» سكب
للموت نفسه وأُحصي مع أثمة. وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين.
«(إش
12: 53)

إذاً، ليس كما أكل
آباؤهم الفصح وهلكوا وأكلوا المن وماتوا، وشربوا من الصخرة وعطشوا وسقطت جثثهم على
قفر التيه في سيناء وتبدَّدت أجيالهم. هنا الحمل الحقيقي
¢lhqinÒj،
جسده مأكل حق
¢l»qeia أبدي، ودمه مشرب حق ¢l»qeia أبدي. والذين يأكلون ويشربون منه يعيشون الأبدية، يثبتون فيه وهو
فيهم إلى الأبد ولا يموتون، لأن ذبيحته قائمة أمام الله على مذبح الله، أبدية،
تشفع «كل
حين»

(عب 25: 7)،
وتخلِّص «إلى التمام» (عب 25: 7) كل الذين
يتقدَّمون به إلى الآب، الذين يأكلونه بالروح والحق.

خامساً: من أجل «كثيرين» pollîn عِظم وشمول عمل
الذبيحة وأثرها:

هنا تحديد كلمة » كثيرين «(أي تحديد مَنْ هم هؤلاء » الكثيرون « يحدِّد بالتالي إحدى صفات هذه الذبيحة الكفارية المقدَّمة لله.
فمن الواضح أن هذه الكلمة:
» كثيرين «مقصودةٌ بها
تماماً ما قصده إشعياء النبي في نبوته الكاملة عن ذبيحة المسيح الكفارية
والكهنوتية المقدَّمة لله.
» حمل خطية كثيرين
وشفع في المذنبين.
«(إش
12: 53)

إذاً، يلزمنا هنا أن
نعرف حدود قصد إشعياء النبي من هؤلاء ال«كثيرين». مَنْ هم هؤلاء الكثيرون؟
وخصوصاً في اعتبارات الفكر المعاصر لزمن المسيح، حتى ندرك فكر المسيح؟

ولكن تواجهنا في ذلك
صعوبة شديدة إذا رجعنا إلى علماء التلمود، فلا يوجد سفر لوَّثه اليهود بشروحاتهم،
في كل كتبهم القديمة والحديثة، مثل سفر إشعياء النبي وبالأخص أصحاح 53، بسبب أنه
يحمل نبوات واضحة ومركَّزة على آلام المسيح وموته وذبيحته الكفَّارية.

وقد قام أخيراً عدة
علماء في دراسة الكتاب بلغاته القديمة، ومحَّصوا هذا الأصحاح بالذات في المخطوطات
القديمة والتي اكتُشفت في وادي قُمران حديثاً. وقد واجهوا في شروحات الربيين
تحيُّزات يهودية، وذلك بقصرهم معنى الكلمة على بيت
» إسرائيل فقط «وما يماثل
ذلك. فجاء شرحهم لكلمة
» كثيرين «هكذا: » الكثيرون من
بيت إسرائيل
« » الأغنياء
والفقراء من بيت إسرائيل بدون تمييز
« » كل أجيال بيت
إسرائيل
« » الذين عبدوا
العجل الذهبي في سيناء
« » كل المدعوين
إلى الحياة الذين يشاء الله أن يخلِّصهم من بيت إسرائيل
« » الملوك والأقوياء والخطاة من بيت إسرائيل « » الأشرار الذين تركوا الله من اليهود «

وعلى العكس من ذلك
تماماً، وجدوا أن الكتب المعاصرة لإشعياء النبي وما بعده إلى زمن المسيح، مثل سفر
أخنوخ، وحكمة سليمان، اتفق الشرَّاح والربِّيون فيها على أن كلمة
» الكثيرين «التي قصدها
إشعياء النبي تشير
» إلى الأمم الذين لا يملكون أن
يدافعوا عن أنفسهم فيقفوا صامتين وخجلين وتائبين أمام المسيَّا
« » وبالأخص أولئك الذين تنفتح عيونهم فجأة على منظر
المسيَّا وهو حامل خطاياهم، في الوقت الذي فيه كانوا لا يعتدُّون به بسبب منظره
وهيأته غير المناسبة!!
«[18])

ولكن واضح من استخدام
كلمة
» كثيرين «كما جاءت في النص
الإفخارستي لإنجيل القديس مرقس الرسول، أنها هي في وضعها العبري الأصيل كما قصدها
المسيح تفيد الكثرة التي تشمل ضمناً
» كل واحد « وهذا بسبب عدم وجود كلمة » كل «في اللغة
العبرية([19])
بالمعنى الشمولي للكلمة. ذلك لأن كلمة
» كُلّ «العبرية
تختلف في مضمون معناها عن كلمة
» كل «العربية،
فهي تعني في العبرية
» الإجمالي «ولكن ليس » الكل «الشامل،
بينما كلمة
» رَبْيِم «تُترجم بالعربية » كثيرون «وتعني » الكل الشامل
بما يحويه من كثرة
«

و » الكل «هو المقصود
الأساسي من الكلمة. وقد أوضحها جداً يوحنا الرسول في إنجيله عند قوله:
» والخبز الذي
أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم.
«(يو 51: 6)

لذلك فكلمة » كثيرين «بحسب فكر
إشعياء النبي وبحسب فكر المسيح والنص الإفخارستي هي
» الكثرة التي
تحوي كل واحد
«أي الدم المسفوك عن شعوب العالم، شعوب الأرض في كثرتها التي
تحوي كل إنسان، كل الأجيال، إلى الأبد =
» حياة العالم «

هنا مقدار شمول
الكفَّارة لشعوب الأرض وأثرها المستمر إلى الأبد، يوضِّح عِظم مقدار الذبيحة وعمق
أثرها وامتداده. إذاً، فالمسيح عندما قدَّم جسده ودمه لتلاميذه، قدَّم جسد ودم
ذبيحة إلهية بلا شك، كون فعلها شاملاً وأبدياً.

ولعل في قول الرب: » اشربوا منها
كلكم
«إشارة إلى هذا الشمول عَبْر كل العالم وكل الدهور، ثم
استطراد الرب في ا لحال بالقول:
» ولكن هوذا يد الذي
يسلِّمني هي معي على المائدة
«(لو 21: 22) إشارة إلى قصور البشرية قصوراً فاضحاً عن قبول هذا
الخلاص الكلي والحياة الأبدية الشاملة للعالم، وذلك ممثَّلاً في يهوذا واحد من
الاثني عشر، وتلميذ من المقرَّبين خان وسقط بعيداً عن عمل الذبيحة!!

 

5 خذوا
كلوا … خذوا اشربوا منها كلكم!!

هذا «دمي»، هذا «جسدي»

 

«حضور الرب، وسر
الشركة»:

لقد حرص الرب بعد أن
بارك الخبز مباشرةً أن يمنحه بقوة الكلمة سلطان
التحوُّل إلى جسده، وهو على يده، قبل أن يسلِّمه لتلاميذه ليأكلوه، ثم قال:
» خذوا كلوا
هذا هو جسدي
« وبنفس الدقة وبنفس
الترتيب حرص بعد أن بارك على الكأس مباشرةً أن يعطيه
قوة الكلمة المحوِّلة، لكي يصير دماً له، وهو في يده، قبل أن يسلِّمه لتلاميذه
ليشربوه. ذلك عن قصد واضح، وهو أن يأكل التلاميذ الجسد ويشربوا الدم معاً
فيصيروا في اتحاد وشركة مع المسيح ومع بعضهم البعض.
لأنه كان ممكناً أن يؤجل
المسيح إلى ما بعد العشاء، وبعد الأكل من الخبز وشرب الكأس، يؤجل الكلام عن الخبز
والخمر وشرح كونهما جسداً ودماً هذا إن كان الأمر مجرد كلام أو شرح أو رموز، لأن
ذلك كان يُعتبر أكثر مناسبةً كحديث ما بعد العشاء.

ولكن أن يكون التوقيت بهذه
الكيفية وهذه الدقة في كل من الخبز والخمر، كلٍّ على حدة، حتى يأكل التلاميذ خبزاً متحولاً إلى جسد وخمراً متحولاً
إلى دم، فهذا له بالضرورة اعتباره العميق
السري!

فالأمر هنا له هدف واضح
في اعتبارات السيد، فالتلاميذ سيصبحون محتاجين أقصى الاحتياج بعد
ارتفاع الرب إلى وحدة سرية تجمعهم إلى شركة، وما من سبيل إلى ذلك
إلاَّ بوجود الرب نفسه!! أو على وجه الأصح باستمرار وجوده، فإن كان يتحتَّم
ارتفاعه كذلك يلزم حضوره!!

إذاً، ف» هذا جسدي
كُلُوه
« و» هذا دمي
اشربوا منه كلكم
« هما دعوة سرية إلى
شركة فيه واتحاد. الجسد هنا حضور. إذاً «هذا جسدي» تعني باللغة السرائرية «هذا
حضوري»
أو بحسب اصطلاح الرب الذي كان محبوباً عنده:
» أنا هو Ego Eimi لا تخافوا «! والدم أيضاً حضورٌ حيٌّ، و» هذا دمي اشربوا منه كلكم «يعني باللغة السرائرية «هذا حضوري، وحياتي أيضاً».

وقد حرص الرب أن يعطيهم
جسده ودمه معاً، لأن الوجود في هيئة كاملة أو على مستوى كياني كامل يستلزم أن يكون بالموت والحياة، باللحم والدم، مأكولاً ومشروباً، على أعلى
مستوى سري أو إلهي
» بالحق «

فالإفخارستيا هنا وفي
هذا الوضع السرائري الدقيق، تحقق حضوراً سريًّا للرب: على مستوى الموت والحياة،
مأكولاً ومشروباً بالحق!! الرب هنا يهب نفسه
» خذوا كلوا
جسدي، خذوا اشربوا دمي
« وبالتالي يهب حضوره مصلوباً ومُقاماً كوعده، ليكون في وسط الجماعة
المسبِّحة دائماً وإلى الأبد تحقيقاً لوعده:
» وها أنا
معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر
«(مت 20: 28)، وتحقيقاً لاسمه النبوي » عمانوئيل «الذي تفسيره
» الله معنا «!

حضور الرب هنا ومن داخل
الأسرار، كمأكول ومشروب، يُنشىء شركة
koinwn…a،
شركة
أعضاء روحانية، متحدة في الرب، تستمد منه وجودها الكلي والفردي،
الجسد هنا
يتجلَّى من وضعه السري غير المنظور على المذبح إلى أعضاء منظورة حية، تعمل، وتشهد
لوجود المسيح، وتجاهد، بتدبير الرأس.

والمسيح يعلن وجوده في
هذه الشركة وفي كل عضو بقدر العمل والشهادة والجهاد. الإفخارستيا بهذا المعنى
«حضور» و«عمل» للرب معاً.
الرب
يحضر أولاً في الكنيسة بالإفخارستيا، ثم ثانياً بعد اكتمال الشركة يعمل فيها
وبواسطتها،

ككل، ومع كل فرد، بقدر ما تستجيب الكنيسة وبقدر ما يستجيب الفرد لحضوره!!

ولكن يلزم لكل إنسان في
الكنيسة أن يدرك تماماً وعن يقين أن الرب له عمل متكامل مع كل فرد ومع كل كنيسة،
فهو ينقِّي ويطهر ويدين الأفكار والنيات وآراء القلوب الخفية والأعمال الظاهرة
والمختفية، وإن لزم الأمر يوبِّخ وينذر، وإن لزم الأمر أكثر يؤدِّب، وأخيراً إن
لزم الأمر يقطع ويطرح خارجاً.

يلزم
أن ننتبه إلى أن مَثَل الكرمة قاله الرب بعد العشاء، بعد أن أكل التلاميذ وشربوا من
سر

جسده ودمه، فمَثَل الكرمة يختص أساساً
بالتناول والمتناولين،
فبعد أن تعشوا قال لهم: » قوموا ننطلق من ههنا « وبينما هم منصرفون عن المائدة، قال لهم: » أنا هو الكرمة الحقيقية وأبي الكرَّام. كل غصن فيَّ لا يأتي بثمر ينزعه (الكرَّام =
الله الآب) وكل ما يأتي بثمر ينقِّيه ليأتي بثمر أكثر
«(يو 1: 15). هذا ما قاله بعد أن أكلوا وشربوا من جسده
ومن دمه السرِّيين. إذاً، فمَثَل الكرمة يصوِّر الاتحاد الذي يتم بين كل فرد
يتناول من جسد المسيح ودمه وبين جسم المسيح الكرمة الحقيقية، أي الكنيسة.

والمَثَل كله يشرح
قانون الشركة الذي يجمع الكل في المسيح، فكل عضو لا يأتي بثمر لا يتركه الرب عالة
على الجسد، بأكله بلا ثمر، بمعنى أن الذي لا يُمجِّد ويشهد للمسيح وفي نفس الوقت
لا يعمل ويتعاون مع الأعضاء ينذره الرب ثم يقطعه، فيصبح فجأة وإذا هو بلا نعمة ولا
قوة ولا بركة؛ أمَّا الذي يأتي بثمر فالرب لا يتركه، لأن عضو الشركة مطالَب دائماً
بإثمار مستمر ومتزايد أيضاً. فإذا تكاسل أو أهمل أو استهان بالشركة، وأضرَّ بحياة
الإخوة وأعثر الصغار أو استعلى أو تصامم عن مطالب الكنيسة وواجباتها، يصبح وإذا يد
الرب عليه ثقيلة، ودون أن يدري يجد نفسه واقعاً تحت التأديب.

القديس بولس الرسول
يوضِّح ذلك بلا مواربة:
» ليمتحن الإنسان نفسه وهكذا يأكل
من الخبز ويشرب من الكأس، لأن الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق (مستهيناً بقانون
الشركة) يأكل ويشرب دينونة لنفسه غير مميِّزٍ جسد الرب.
«(1كو 11: 28و29)

جسد الرب هنا هو المسيح
نفسه أولاً، ثم الكنيسة أيضاً باعتبارها جسده السري.

إذاً، فالشركة بصورتيها
أي سر الشركة مع الرب في الإفخارستيا، وسر الشركة مع الكنيسة
بالإفخارستيا هما ليسا كأنهما بلا قانون أو بلا محاسبة!!

بولس الرسول يعتبر أن
أي إخلال بقانون الشركة وسرِّها هو جريمة توقع صاحبها تلقائياً تحت العقاب:
» إذاً أيُّ
مَنْ أكل هذا الخبز أو شرب كأس الرب بدون استحقاق، يكون مجرماً في جسد الرب
ودمه …
من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى وكثيرون يرقدون. لأننا لو
كنا حكمنا على أنفسنا لما حُكم علينا.
«(1كو 11: 2731)

ثم يوضِّح بولس الرسول
موقف الرب المرعب والمخيف إزاء المستهينين بسر الشركة:
» ولكن
إذ
قد حُكم علينا نؤدَّب من الرب
«(1كو 32: 11)، إذاً، ليس باطلاً صراخ الشماس على مدى القداس: » انصتوا
بحكمة الله، انصتوا بخوف الله، قفوا بخوف من الله، اسجدوا لله بخوف ورعدة
« ولماذا هذا الخوف؟ ولماذا الرعدة في الإفخارستيا إلاَّ بسبب حضور
الرب، ولماذا حضور الرب يكون مخيفاً هكذا ومرعداً؟ أليس لأن حضور الله هو بحد ذاته
كشف خطايا ودينونة وفضح آراء القلوب الخفية؟ ألم نقل أن
» يوم الرب «» كيرياكي «هو يوم
القضاء!!

وأخيراً، يلزم أن
نوضِّح أنه ما بين حضور الرب والشركة في جسده ودمه، علاقة غاية في الدقة والأهمية
يقوم عليها سر الإفخارستيا كله.

أمَّا الشركة التي
أسسها المسيح في الإفخارستيا من جسده ودمه، ومن أحد عشر تلميذاً، ثم رافقها
بتدبيره، فهي الكنيسة الحية التي صارت ألوف ألوف وربوات ربوات، والتي لا يزال يقودها
منذ عشاء الخميس عَبْر كل الدهور، حتى اليوم، وإلى الأبد. فهي جسده وهي دمه، أي هي
حضوره في الإنسان، وهي أيضاً تدبيره وعمله
» نحن عمله «(أف 10: 2)، أي أن الكنيسة هي جسده، وهو أيضاً رأسها المسئول عنها
الذي يحركها، هي شركة المفديين من العالم الذين يقودهم المسيح ويهديهم إلى
ملكوته!!

هذه هي هبة الإفخارستيا
العظمى التي وهبها المسيح للعالم، فهو جاء لا ليموت فقط لأجل حياة العالم، بل
لينشىء من جسده ودمه من الإفخارستيا حياة جديدة للإنسان
«شركة الإنسان
الجديد
« أو بتعبير بولس الرسول » شركة
القديسين
«الذين يمثلون العالم الجديد، أي الكنيسة، والتي يملك عليها
المسيح سرًّا، بحسب تعبير سفر الرؤيا والقداس في مخاطبته للمسيح بقوله: [يا ملك
القديسين]. يملك عليهم ويقودهم إلى ملكوته!!

أمَّا العنصر الأساسي
الذي أبقى على هذه الشركة الإلهية أي الكنيسة، ولا يزال مبقياً عليها ضد عوامل
الزمن والانحلال البشري، فهو سر حضور الرب الدائم بالإفخارستيا
» فإننا نحن
الكثيرين خبزة واحدة، جسد واحد، لأننا جميعنا نشترك في الخبزة
الواحدة.
«(1كو 17: 10)

 

6 «وبارك
وقال … هذا هو العهد الجديد بدمي»

عند
كلامنا على بركات العهد القديم، رأينا كيف تجلَّت الخليقة المنظورة لإسرائيل وأعطت
من ناموسها الفائض في النبات والحيوان والأرض والسماء وأغدقت، حسب أمر الله، على
الشعب المبارك.

هكذا كانت المجازاة لكل
مَنْ سمع لكلمات الرب ووصاياه، بركات في النسل وبركات في الحقل وبركات في الحظيرة
وبركات في البيت، بركات في السلم وبركات في الحرب.

ولم يكن هذا أمراً
عجيباً، فالخليقة لا تزال أبداً محتفظة ببركتها التي باركها بها الله يوم خلقها،
وهي لا تزال رهن إشارة الله، تعطيها لمَنْ حلَّت عليه بركة الله وانفكَّ من اللعنة
الأُولى. أمَّا اللعنة التي استُعلنت قديماً بالأمراض والآفات والإخفاقات، فقد
أصابت الخليقة لما أصابت الخطية الإنسان وأسقطته. وهي لا تزال تنتظر عتقها من
الفساد، عندما يفوز الإنسان أخيراً بفداء الجسد!!
» لأن الخليقة
تئن وتتمخَّض معاً إلى الآن منتظرة التبنِّي فداء أجسادنا.
«(راجع رو 8: 22و23)

ولكن البركات الكثيرة،
والكثيرة جداً، التي فاز بها شعب إسرائيل، لم تدُمْ عليه لأن أذنيه ثقلتا عن سماع
الرب وعينيه زاغتا وراء الشهوات والمحرَّمات، احتقر الوصية، وداس العهد، وأهان اسم
القدوس في الباطل، ورفض
» المسيَّا «رجاء
إسرائيل الوحيد الذي عليه بركة الدهور كلها.

بركة العهد الجديد:

حينما أخذ الرب الخبز
على يديه ليبارك، لم يطلب البركات للأرض والبركات لخبز الأرض. وحينما أخذ الكأس
على يديه، لم يبارك الكرمة ولم يبارك نتاج الكرمة. ولم يبارك الرب الأرض المشتهاة
أرض فلسطين التي تفيض لبناً وعسلاً
» الوفيرة الخيرات «بحسب صلوات » البِراخوث « ولا بارك عهد الختان الذي ختمه على لحمهم، ولا
بارك مملكة بيت داود للتسلُّط على كل الأمم. وعلى العموم، فكل بركات العهد القديم
التي كانت تدور حول الأرض والطعام ورفاهية الحياة وعز الملوكية وإخضاع الشعوب، لم
يذكر المسيح من هذه البركات شيئاً على الإطلاق.

ولكنه قال بركته
الجديدة على الخبز: هذا جسدي المكسور كُلُوه. وقال بركته الجديدة على الخمر: هذا
دمي المسفوك لأجلكم ولأجل كثيرين اشربوه،
» هذا هو عهدي
الجديد معكم لغفران الخطايا …
اصنعوا هذا لذكري، وسأشربه معكم جديداً
في الملكوت الآتي.
« إذاً، لقد
صارت البركة لا في الخبز ولا في الخمر، بل في جسد مكسور ودم مسفوك!

إذاً، لقد
صارت البركة لا في أرض الموعد المشتهاة الكثيرة الخيرات لشبع إسرائيل، التي تُخرج

الخبز
والخمر، بل في الرب يسوع مشتهى كل الأمم الذي قدَّم جسده ودمه ذبيحة فداء لأجل
حياة العالم كله.

إذاً، لقد صارت البركة لا في الأكل والشرب حتى الشبع والملء والرفاهية،
بل في غفران الخطية.

إذاً، لقد
صارت البركة لا في عهد مختوم على لحم إنسان، بل في عهد مختوم على القلب بدم ابن
الله.

إذاً، لقد
صارت البركة لا في عهد يربط الإنسان بالأرض، بل في عهد جديد (بالروح القدس)
يربط الإنسان بالسماء.

إذاً، لقد
صارت البركة لا في مملكة بيت داود للتسلُّط على كل الشعوب، بل في ملكوت الله
لخلاص كل الشعوب.

لقد أعاد الرب يسوع إلى
الإنسان لا البركة المادية المفقودة بالخروج من أرض الفردوس، بركة الأكل بالراحة
والشرب بالمسرة والصحة والقوة والتسلُّط على الخليقة، بل البركة الروحية
المفقودة بالخروج من أمام وجه الله!!

فالإنسان بسقوطه في
العصيان فَقَدَ بركات وجه الأرض الطيبة، وفَقَدَ بركات وجه الله، معاً.

أمَّا بركات العهد
القديم فكانت استعادة جزئية لبركات أرض الفردوس الطيبة في صورة أرض الميعاد التي
تفيض لبناً وعسلاً،
» أرض الخيرات الوفيرة « التي كان يصلِّي من أجلها اليهود عابدين بكل جهد ليل نهار ولا
يزالون!

وأمَّا بركات العهد
الجديد فهي استعادة نور الله في وجه يسوع المسيح الذي أعطانا جسده ودمه
» عربون «التواجد
الدائم مع الله في ملكوته.

إذاً، فليست لنا الآن
بركة على الأرض. بركتنا هي في السماء، هي في المسيح
» مبارك الله
أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية، في السماويات في المسيح
«(أف 3: 1). ليس كأننا قد فقدنا الأرض بالمسيح، بل قد ورثنا السماء
على الأرض!

المسيح
لم يتألم ولم يمُت على الصليب لكي يُعيد لنا بركات الأرض المفقودة جزئياً، بل
ليعيد لنا بركات
السماء التي فقدناها فقداناً كليًّا، حتى لم تعد تراها عين
أو تسمع بها أذن، أو تخطر على قلب بشر.

وحينما أعطانا جسده
ودمه في الإفخارستيا، وهبنا القوة والقدرة ومفتاح السر المخفي المؤدِّي إلى طريق
الأقداس لنعبر به من العالم بالخبز والخمر بل بالجسد
والدم، إلى السماء، إلى الله!!

لقد أعطى لنا بركة
الإفخارستيا الجديدة التي تهيئنا، لا لكي نستوطن الأرض ونحوِّل لعنتها بالصلاة إلى
بركة كالعهد القديم، بل لأن نحصل على وطن أفضل أي سماوي
بجسد يسوع المسيح، «لأن ليس لنا هنا مدينة باقية.»
(عب 14: 13)

وفي
الإفخارستيا نقدِّم أنفسنا والعالم كله لله، في ذبيحة المسيح ليحوِّل الكل ويجمع
الكل إلى ملكوته.

في القداس نصلِّي من
أجل الهواء والمطر والزروع والعشب ونبات الحقل وكل شجرة مثمرة والمياه والينابيع
والأنهار والمدن والجزائر والأديرة والكنائس والملوك والرؤساء ومداخلنا ومخارجنا
ومن أجل شفاء أمراضنا، ليباركها الله لا ببركة العهد القديم لتزيد
وتفيض وتُخرج أسرار ناموسها الفائض بل ببركة العهد الجديد ليكون
لنا فيها وبواسطتها شركة مع الله وسلام،
لنرى فيها نعمته وعمله، لا لكي نأكل
منها ونشبع ونتقوى وتملك أيدينا ويتسلط سيفنا، بل لتتجلَّى فيها رحمة الله علينا
ويتجلَّى لنا في مجيئها وذهابها، في كثرتها وقِلَّتها، يتجلَّى سواء في وجودها أو
إلى عدمها تدبير الله ومسرة مشيئته نحونا، مكتفين منها جميعاً على أحسن وجه
بالكفاف!! كما يقول القداس [وإذ يكون لنا الكفاف في كل شيء، كل حين، نزداد في
كل عمل صالح!!]
(أوشية الثمار) …
» إن كان لنا
قوت وكسوة فلنكتفِ بهما.
«(1تي 8: 6)

في بركة العهد القديم
الله جعل الخليقة تتجلَّى لتكشف عن ناموسها الفائض لتعطي من أسرار خيراتها وقوتها
وصحتها وملء نجاحها المادي، للذين يطيعون وصاياه، بحسب بركة الله الأُولى لها
» لتثمر وتكثر
وتملأ الأرض.
«(راجع تك 22: 1)

أمَّا
في بركة العهد الجديد، فالله نفسه تجلَّى في شخص ربنا يسوع المسيح، ويسوع المسيح
نفسه تجلَّى في جسد نوراني ووجه يلمع كالشمس، لكي بهذا الجسد الذي أعطانا إياه في
سر الإفخارستيا تتجلَّى الخليقة فينا وعلى أيدينا (وكرمز لها: الخبز
والخمر)، ونتجلَّى معها، فيرتسم نور وجه الله علينا تحقيقاً للطِلْبة:
» ليحلّ روح قدسك علينا وعلى هذه
القرابين
«(الخولاجي المقدَّس صفحة 230)، وندخل إلى حضرة الله،
ونعيش في ملكوته كعربون لعودتنا إليه يوماً لنحيا معه إلى الأبد.

الخليقة الجديدة
ممثَّلة في الخبز والخمر لمَّا تتجلَّى بالروح القدس لا تُظهر
ناموسها المادي الفائض كأن تكفي خمس خبزات لتشبع خمسة آلاف (كوليمة أغابي عظيمة)، ولكن
تتجلَّى لكي تُظهر الله الذي فيها فيرتسم وجهه عليها
بالإيمان كإفخارستيا
التحوُّل للمجد، كقول القداس: [أَظهِرْ وجهك على هذا الخبز وعلى هذه الكأس]
(أوشية التقدمة)! هنا استعلان وتجلٍّ!!

أمَّا البركة في العهد
القديم التي بإظهار الناموس الفائض التي مارسها الرب
أيضاً في خمس الخبزات وماء عرس قانا الجليل، شهادةً على أنه رب البركة الأُولى
أيضاً كانت أولاً وأخيراً للشبع والملء، ونادراً ما كانت لذكر الله
أو تمجيده.
» وقال الحق الحق أقول لكم: أنتم تطلبونني ليس لأنكم رأيتم
آيات بل لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم، اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام
الباقي للحياة الأبدية (الإفخارستيا) الذي يعطيكم ابن الإنسان، لأن هذا الله
الآب قد ختمه
(أظْهَرَ وجهه عليه)([20]).
«(يو 6: 26و27)

هذه هي بركة العهد
القديم، وهذه هي بركة العهد الجديد.

أمَّا البركة القديمة
فهي للشبع والملء ونسيان الله، ونهايتها الزوال والموت (الطعام البائد). أمَّا
البركة الجديدة، وإن كانت بالطعام أيضاً ومن خلاله، ولكنه محسوب أنه طعام باقٍ،
غيرُ بائدٍ للحياة الأبدية. الله الآب ختمه (أي أظهر وجهه عليه)، وجعل اسمه فيه،
أخذناه ونأخذه من يد الرب
» الذي يعطيكم ابن
الإنسان
«!

ونحن نأخذ ليس الخبز
والخمر فقط على المذبح من يد المسيح مختوماً بيد الله الآب والروح القدس، لنأكله
جسداً حقيقياً ودماً حقيقياً، بل وأيضاً نأخذ كل شيء من يديه؛ ففي الإفخارستيا،
نأخذ كل شيء في هذه الحياة وكل أعمالها ومهامها، حتى أحزانها ودموعها وأمراضها
وقلقها وظلمها، نأخذه من يدي المسيح مختومة بالصليب، نأخذه كجزء لا يتجزأ من
إفخارستيا الأبدية، فيختم علينا الله بختمه كما بختم على ذبيحة المسيح:
» من أجلك
نُمات كل النهار، قد حُسبنا مثل غنم للذبح.
«(رو 36: 8)

أليست هذه أيضاً هي
بركة العهد الجديد؟

 

7 «دم
العهد»

«هذا هو دمي الذي للعهد
الجديد

الذي يُسفك من أجل
كثيرين لمغفرة الخطايا»

(مت 26: 28)

هذا تعبير ناطق أشد
النطق بأن الرب كان يقدِّم للتلاميذ وقت العشاء ذبيحته الحية التي كان يقدِّمها في
نفس اللحظة أمام أبيه في السماء!

هذا أشد تعبير عن سمو
ذبيحة المسيح وسرِّيتها غير المدركة بالقياسات العقلية والزمانية، أو على مستوى
الحوادث، إذ كان لا يزال باقياً على الصليب يوم كامل، ولكن استُعلنت ذبيحة الرب
على مستوى أواخر الدهور وملء الزمن واكتمال كل شيء، أليست هذه ذبيحة أبدية؟

المسيح هنا يعلن ذبيحته
على مستوى سمائي، قبل أن تُستعلن على مستوى الحوادث الزمنية وحُكم حنان وقيافا وبيلاطس. الجسد يُرى مكسوراً
بمشيئة الله قبل أن يتمزَّق على الصليب بمشيئة
الناس، والدم يُقدَّم مسفوكاً بمسرة الآب والابن قبل
أن ينسكب على الصليب بمسرة رؤساء الكهنة.

هنا
الإفخارستيا تحمل صورة الصليب على مستوى السر أو النبوة، بل وتحمل القيامة والصعود
أيضاً.

على جبل سيناء أبرم
الله عهده مع شعبه بدم ذبيحة، بعد أن سلَّمهم الناموس على يدي موسى، عندما بني
موسى المذبح وأمر الشعب أن يقدِّموا ذبائح محرقة وذبائح سلامة:

+ » فأخذ موسى
نصف الدم ووضعه في الطسوس، ونصف الدم رشَّه على المذبح. وأخذ كتاب العهد (المدوَّن
فيه الوصايا) وقرأ في مسامع الشعب. فقالوا: كل ما تكلَّم به الرب نفعل ونسمع له،
وأخذ موسى الدم (الذي في الطسوس) ورشَّ على الشعب وقال: هوذا دم العهد الذي
قطعه الرب معكم على جميع هذه الأقوال.
«(خر 24: 68)

يُلاحَظ هنا أن موسى
أخذ نصف الدم ورشَّه على المذبح أي قدَّمه أمام الله أولاً ليكون عهداً من قِبَل الله نحو شعبه، ثم أخذ النصف الآخر
ورشه على الشعب ليكون عهداً من قِبَلهم نحو
الله.

وهكذا بواسطة دم
الذبيحة تم تصوير الاتحاد بين الله وشعبه تصويراً نبوياً، باعتبار ما سيكون في عهد
مختوم بالدم.

ولكن الملاحَظ أن هذا
العهد لم يكتف بختم الدم فقط، بل اعتمد في أساسه على طاعة كلمة الله
» كتاب العهد « » هوذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم على
جميع هذه الأقوال
(بعد أن قرأها لهم) «

والآن حينما قدَّم الرب
«دمه» لتلاميذه، كان قد انتهى معهم لتوِّه من تقديم «كتاب العهد» أي
تعاليمه وأقواله على مدى ثلاث سنين، الذي اعتبره الرب كعملية تطهير أساسية بالروح
والقلب:
» أنتم أطهار من أجل الكلام الذي كلَّمتكم به. «(يو 3: 15)

لذلك تحرص الكنيسة أن
تقدِّم قداس الكلمة (قداس الموعوظين) قبل قداس الإفخارستيا (قداس المؤمنين). لأن
هذا هو المفهوم الروحي للتطهير الداخلي، أي القلبي والذهني، «تغيَّروا عن شكلكم
بتجديد أذهانكم» (رو 2: 12). وهكذا دائماً تتم شروط العهد بين الله وشعبه في العهد
الجديد: «بالاتحاد مع الله أولاً بالكلمة، ثم بدم المسيح».

فإن كان موسى قد قدَّم
نصف الدم على مذبح الله أولاً، ثم بعد ذلك وبعد قراءة
» كتاب العهد «رش الشعب
بالنصف الآخر، هكذا ذاق المسيح أولاً من الكأس، ثم أعطاه لتلاميذه ليشربوا؛ كذلك
فكأس الدم وهو في يد الرب وقت العشاء، كان في الحقيقة وفي نفس الوقت مقدَّماً للآب
مسفوكاً على مذبح الله في السماء. فالمسيح كان
وهو على الأرض، دائماً في السماء وفي حضن الآب!

وموسى ليس كالمسيح،
فالعهد الذي قدَّمه موسى، قدَّمه كوسيط بين طرفين هما الله وشعبه، أمَّا المسيح فقدَّم عهداً من طرف واحد، لأنه قدَّمه
من قِبَل الله كابن (انظر غل 3: 19و20). لأن
الدم الذي قدَّمه هو دمه، ودمه هو دم ابن الله، والعهد الذي قطعه معنا هو عهده،
وعهده هو عهد
الله.

وخادم البيت لا يكون
كصاحب البيت حينما يُبرم عهداً مع ساكنيه، هكذا يصف سفر العبرانيين وضع المسيح منا
ومن الله:
» وموسى كان أميناً في كل بيته كخادم شهادةً للعتيد أن
يُتكلَّم به، وأمَّا المسيح فكابنٍ على بيته، وبيته نحن.
«(عب 3: 5و6)

«لمغفرة الخطايا»:

هذا هو طابع العهد
وجوهره من خلال عشاء الرب وكأنما كل نقطة في كأس الرب
وقت العشاء هي ختم، وكل ختم يُقرأ هكذا:
» لمغفرة
الخطايا
«

الخطية كانت تحجزنا إلى
الأبد عن الله، أمَّا دم ألوف الذبائح قديماً، اليومية والموسمية منها فكانت تقف
شاهدة على الخطايا. فكانت كتذكار دائم لخطايا الإنسان أمام الله شاهدةً على أن
العداوة قائمة والفُرقة أبدية.

وعجز الإنسان يصرخ أمام
الله، طالباً مَنْ يسدّ العجز ويدفع الغرامة والدَّيْن. فكانت كثرة الذبائح شاهداً
بحد ذاتها على أن الحاجة مستمرة إلى مَنْ يرفع الخطية ويصالح الإنسان بالله.

المسيح جاء بالدم
القادر على أن يغفر هذه الخطايا، دم ذبيحة أبدية قادرة على أن ترفع خطايا
كل العالم. من أجل ذلك كانت مسرة الله الآب أن يبذله لأجل حياة العالم، ومن أجل
ذلك نزل ابن الله من السماء وتجسَّد من العذراء مريم، وهكذا اقتنى دماً له فصار هو
دم الكلمة ابن الله الذي بلاهوته
أو بروح أزلي يستطيع أن يقدِّس ويطهِّر إلى التمام ويغفر خطايا كل
مَنْ يتناول
منه.

وهكذا رأى المسيح هذه
القوة وهذه القدرة في دمه الإلهي
» لمغفرة الخطايا « وحينما أعلن الرب وقت العشاء عهد الله الجديد معنا بدمه هذا،
والذي سيسفكه على الصليب لمغفرة الخطايا اعتُبر ذلك تأسيساً لسر الخلاص والمصالحة
الذي استعلنه الرب بعد ذلك على الصليب بالموت جهاراً!!

ولكن ظل الدم في سر
العشاء مستحوزاً على المفهوم الأساسي لمغفرة الخطايا، باعتبار أنه هو هو نفس الدم
الذي سُفك على الصليب!! وظل الكأس الذي حمله الرب بيده معلناً أن هذا هو دمه
الذي للعهد الجديد
لمغفرة الخطايا، نعم ظل هذا الدم في الكأس مستحوزاً على
مفهوم سر الخلاص الذي استلمته الكنيسة من الرب الذي به غفران الخطايا
والحياة الأبدية لكل مَنْ يتناول منه، باعتبار أنه يحوي كل سر الصليب!!
» لقد
تسلَّمتُ من الرب ما سلَّمتُكم
«! (1كو 23: 11)

لقد استلمت الكنيسة
عشاء الرب ومن داخله عمل الصليب والسفك الفعلي للدم والموت، أي كل مقومات غفران
الخطايا، ثم أيضاً القيامة والصعود والجلوس عن يمين الآب، وحتى المجيء الثاني للرب،
التي هي مكملات الشفاعة والخلاص ونوال الحياة الأبدية كميراث مع المسيح الجالس عن
يمين أبيه. هكذا رأى بولس الرسول هذا كله في هذا السر حينما قال
» فإنكم كلما
أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء
«! (1كو 26: 11)

لقد استلمت الكنيسة من
الرب
» سر العشاء «كميثاق العهد الجديد،
وكسِرِّ الخلاص الذي من داخله تقوم كل الأسرار ويُقْبَل ويتم فعلها وثمارها حتى
مجيء الرب، ولكن أولها وبالدرجة الأُولى «مغفرة الخطايا».

إن العهد الجديد يدور
كله حول محور هذه الحقيقة: أن الله لن يذكر بعد خطايانا بسبب ذبيحة ابنه
التي قدمها عن خطايا العالم كله:
» ها أيام تأتي يقول الرب
وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً … أصفح عن إثمهم ولا
أذكر خطيتهم بعد.
«(إر
31: 31و34)

أمَّا العهد القديم
فيقول عنه سفر العبرانيين هكذا:
» لأن الناموس إذ له ظل
الخيرات العتيدة لا نفس صورة الأشياء لا يقدر أبداً بنفس الذبائح كل سنة التي
يقدمونها على الدوام أن يكمِّل الذين يتقدمون. لكن فيها كل سنة ذكر خطايا (أي
مجرد ذكر الخطايا أمام الله فقط) لأنه لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع الخطايا … وكل كاهن يقوم كل يوم يخدم ويقدِّم مراراً كثيرة تلك الذبائح عينها التي لا تستطيع البتة أن تنزع الخطية، وأمَّا
هذا (الرب يسوع) فبعدما قدَّم عن الخطايا ذبيحة
واحدة جلس إلى الأبد عن يمين الله (إذ
كان ينبغي أن) ينزع الأول لكي يثبت الثاني
«(عب 10: 19)

وباختصار، كانت ذبائح
العهد القديم عبارة عن تذكار دائم لخطايا الشعب أمام الله، لكل مَنْ يقدِّم
ذبيحة، إلى أن يأتي مَنْ هو قادر أن يحملها عن الخاطيء.

فأصبح العهد الجديد
بواسطة ذبيحة المسيح غفراناً دائماً للخطايا أمام الله، لكل مَنْ يتقدَّم
بذبيحة المسيح، لأنه جاء لكي يحمل خطايانا ويتحمَّل أوجاعنا
» وآثامهم هو
يحملها
«(إش 11: 53)، » هوذا حمل
الله الذي يرفع خطاية العالم.
«(يو 29: 1)

 

8 «اصنعوا
هذا لذكري»

toàto poie‹te
e„j t¾n ™m¾n ¢n£mnhsin

إن فهم معنى هذا النص
الإفخارستي فهماً واضحاً سليماً، سوف يضيف إلى ذخيرتنا الإيمانية والتقوية آفاقاً
جديدة، وسوف يجعل الإفخارستيا بليتورجيتها عملاً أو فعلاً محقِّقاً لأمر المسيح:
» اصنعوا هذا «تسليماً
شخصياً من الرب يسوع نفسه، كقول القديس بولس الرسول:
» لقد
تسلَّمتُ من الرب ما سلَّمتُكم
«

فوصية الرب: » اصنعوا هذا
لذكري
«تجعل من الإفخارستيا بعد كونها شركة في جسد ودم
المسيح رباط حب مقدس وعهد أمانة شديد الصلة جداً بالرب، كميراث
روحاني غالي الثمن نعود إليه كل يوم، ككنز، ننال بواسطته دخولاً إلى الله الآب،
ونتراءى أمامه في ذبيحة المسيح وباسمه، فنجد رحمةً ونجد خلاصاً ونجد تطهيراً ونعمة،
ونصبح وكأننا على مائدة عشاء الرب يوم الخميس وسط التلاميذ نأكل ونشرب سرَّ موته
وقيامته.

هذه الوصية » اصنعوا هذا
لذكري
«جعلت للإفخارستيا كعمل جوهري للمسيح
سرَّ ديمومة، وجوهر بقاء على مدى الدهور، وحضوراً للرب معنا كل حين، لنتراءى به
أمام الله الآب.

وهنا نفحص معاً أولاً
كلمة «لذكري» ثم بعد ذلك «اصنعوا هذا»:

أولاً: «لذكري»:

وباليونانية، كما جاءت
في الترجمة السبعينية أيضاً
¢n£mnhsij أما باللغة العبرية فجاءت zikkaron = زِكَّارون، وهي نفس الكلمة التي تُستخدم في ليتورجية الذبائح وفي طقس
خروف الفصح بالذات. وجاءت أيضاً
azkarah = أزكاراه، وأصل الكلمة هو zeker = زِكِرْ، وهي قريبة الشبه في النطق
والمعنى من مثيلتها في اللغة العربية، إلا أننا نجدها في العبرية تقتصر على
الاستخدامات الدينية.

+ » ويكون لكم
هذا اليوم تذكاراً
zikkaron فتُعيِّدونه عيداً للرب، في أجيالكم تعيدونه فريضة أبدية.«(خر14: 12)

+ » ويكون لك
علامة على يدك وتذكاراً بين عينيك لكي تكون شريعة الرب في فمك،
لأنه بيد قوية أخرجك الرب من مصر.
«(خر9: 13)

وقد جاءت هذه الكلمة في
العهد الجديد، بخلاف نصوص الإفخارستيا في إنجيل القديس لوقا ورسالة كورنثوس الأولى،
وفي رسالة العبرانيين في نفس المعنى (3: 10)؛ وفي قصة امرأة بيت عنيا التي دهنت
جسد الرب بالطيب، فاعتبر الرب ذلك لها «تذكاراً»
zikkaron؛
كذلك قائد المائة أخبره الملاك أن صلواته وصدقاته صعدت «تذكاراً»
zikkaron أمام الله (أع4: 10).

وهكذا نرى على وجه
العموم أن هذه الكلمة تُستخدم في الأعمال التي تخص الله وتعبِّر عن حدوث
«صلة شخصية» على وجهٍ ما بين الإنسان والله.

أما » ذكر الله «بنفس اللفظة
التي استخدمها الرب يسوع
le zeker = لي ذِكِرْ،
حيث
» لي «ضمير المتكلم، وهي نفس
اللفظة تقريباً التي وُضعت كترجمة باللغة العربية
» لذكري « فهي كلمة طقسية كانت تُستخدم في العهد القديم كليتورجيا أو خدمة
إلهية قائمة بحد ذاتها، اسمها
» ذِكِر «أو صلاة » ذِكِر « لها أصولها وخدَّامها من اللاويين والكهنة الذين يُعيَّنون عليها.
وكانت عبارة عن تلاوة أعمال الله وذكر عجائبه مع تسبيح وشكر:

» وجعل أمام
تابوت الرب من اللاويين خُدَّاماً، ولأجل التذكير والشكر وتسبيح الرب إله
إسرائيل… وكان آساف يصوِّت بالصنوج، وبنايا ويحزيئيل الكاهنان بالأبواق دائماً
أمام تابوت عهد الله… وجعل داود يحمد الرب بيد آساف وإخوته (أي بالآلات): احمدوا
الرب، ادعوا باسمه، أخبروا في الشعوب بأعماله، غنُّوا له،
ترنَّموا له، تحادثوا بكل عجائبه، افتخروا باسم قدسه، تفرح
قلوب الذين يلتمسون الرب، اطلبوا الرب وعزَّه، التمسوا وجهه دائماً، اذكروا
عجائبه التي صنع، آياته وأحكام فمه.
«(1أي4: 1612)

أي أن طقس ليتورجيا
«الذِكر» في العهد القديم كان تلاوة أعمال الله وشكراً وتسبيحاً معاً
تقوم به
فرقة من اللاويين والكهنة.

والكلمة » زِكِر
«zeker
التي استخدمها الرب يسوع » اصنعوا هذا
لذكري
«لها وجهان: وجه يختص
بالإنسان بأن يَذكر الإنسان عمل الله، ووجه يختص بالله بأن يذكر الله عمله أو
رحمته
وعهده.

وكلٌّ من الوجهين
متعلَّق بالآخر بصورة جوهرية. فإذا ذكر الإنسان عمل الله ورحمته، حيث
» الذِكِرْ « كما سبق وقلنا عبارة عن خدمة وليتورجيا
يتخللها قراءة أعمال الله وعجائبه ورحمته مع شكر وتسبيح، فإن الله يذكر عهده
ورحمته.

كذلك، فإن تقديم
الذبائح كان للذكر أو تذكاراً كما في خروف الفصح. وهنا المقصود بالذكر أو التذكار
الوجهان معاً، أي أن يذكر الإنسان بالشكر والحمد عمل الله ورحمته التي عمل لخلاص
الشعب من العبودية المرَّة
» ويكون لك علامة على يدك
وتذكاراً بين عينيك لكي تكون شريعة الرب في فمك، لأنه بيد قوية أخرجك الرب من أرض
مصر
«(خر 9: 13). وفي
نفس الوقت هو لتذكير الله برحمته وخلاصه الذي عمله، حتى يستديمه ويكمِّله:
» ويكون لكم
هذا اليوم تذكاراً فتعيِّدونه عيداً للرب.
«(خر 14: 22)

أي أن خروف الفصح كان
ذَبْحُه في كل سنة تذكاراً على وجهين: هو تذكار للشعب ليذكر رحمة الله عليه
وعنايته وليشكره عليها ويطلب دوامها، ثم هو تذكار بالنسبة لله، إذ حينما كان يُسكب
دم خروف الفصح أسفل مذبح الله كان ذلك كتذكير لله ليذكر رحمته حتى يكمل عهده ووعده
الذي قطعه مع آبائهم.

وهكذا كان عيد الفصح
يُعتبر عيداً
» أي ذِكْراً «للشكر والشهادة
والاعتراف بعناية الله وأمانته أمام العالم كله، وفي نفس الوقت كان يُعتبر فرصة
مقدسة لتذكير الله بهذا الخلاص العجيب الذي صنعه مع شعبه تحقيقاً للعهد الذي قطعه
مع آبائهم حتى يكمله لهم.

فأولاً: الذكر هنا
هو تلاقٍ لأمانة الشعب مع أمانة الله في ذكر تحقيق وعد وعهد الله، وهو يُعتبر
تلاقياً مجدَّداً ومستمراً بين الله والشعب.

وثانياً: هو تلاقٍ
أيضاً مجدَّد ومستمر مع عهد الخلاص الذي بدأه الرب في مصر ليكمله معهم على طول
المدى.

وثالثاً: هنا الذكر
يُعتبر كرازة بأعمال الله ووسيلة عملية لإذاعة كلمة الله على العالم.

فإذا لاحظنا أن الصلوات
التي كانت تُتلى على المائدة في مثل هذه المناسبات التي أقامها الرب، سواء كانت
هذه المناسبات أعياداً عامة أو هامة للذكرى، كانت تحوي صلاة توسلية حارة من أجل
ظهور المسيَّا، استطعنا أن ندرك جمال المناسبة التي أسَّس الرب فيها
الإفخارستيا باعتباره سر ظهور واستعلان الرب
كاستجابة لصلوات الأجيال السالفة على مدى مئات السنين!!
أما مضمون الصلاة فقد سبق وأن دوَّنَّاه في صفحة 148149، ولا مانع من إعادة كتابته للأهمية:

[يا إلهنا وإله آبائنا
فليدخل إليك تذكارنا هذا (
zikkaron أو ذِكرُنا)، ذِكرنا وذِكر آبائنا وذِكر أورشليم مدينتك، «وذِكر
المسيا ابن داود فتاك»،
وذِكر شعبك إسرائيل، ليقم هذا الذِكر أمامك، وليأت
إلى حضرتك، وليمرَّ أمامك، وليُنظر ويُقبل ويُسمع، حتى يصير في ذِكْرِك، ذِكراً
للخلاص، للصلاح، للنعمة، للرأفة، للرحمة،
في هذا اليوم الذي هو تذكار (…).
اذكرنا أيها الرب إلهنا في هذا اليوم للصلاح، وافتقدنا فيه للبركة، وخلِّصنا
للحياة بكلمة خلاص ورحمة ومعروف يدوم،
واظهِرْ فيه رحمتك لأنك إله مُنعِمٌ
وملك رحوم] وهو الدعاء الذي يُضاف على البركة الثالثة على المائدة
للمناسبات([21]).

هذا التوسل الذي تضعه
الليتورجيا القديمة في أفواه المجتمعين من أجل ظهور المسيا، أصبح في الواقع غير ذي
موضوع والمسيا جالس في وسط التلاميذ!! خصوصاً وأنهم كانوا قد أدركوا تماماً وآمنوا
أنه هو المسيح الرب الآتي، بحسب إعلان بطرس الرسول مرة وهم جالسون على المائدة منذ
سنتين خلتا، حينما أعلن بوضوح وإيمان
» أنت المسيح. «(مر29: 8)

هذا كله مهَّد تمهيداً
إيمانياً على مستوى الرؤيا الحية، والسر الموضوع أمامهم، أنهم فعلاً إزاء العهد
الجديد وأمام نهاية العهد القديم، وأن المسيح مُشتهى الأجيال القديمة و
» مُشتهى كل
الأمم
«(حجي 7: 2) وموضوع
ذِكر كل الأجيال، جالسٌ في وسطهم الآن، وأن الصلاة والتوسل لله من أجل ظهور المسيا
ينبغي فعلاً أن تُعدَّل على وضعها الجديد، كأمرٍ قد حدث بالفعل، وأن المطلوب الآن
استمرار عمله!! كما جاءت على فم المسيح نفسه
» اصنعوا هذا لذكري… «!

فإذا تذكرنا الكلمة
التي قالها القديس بولس الرسول:
» لأن فصحنا أيضاً المسيح
قد ذُبح لأجلنا
«(1كو7: 5)، استطعنا
أن نفهم أكثر ماذا يعني الرب من
» اصنعوا هذا لذكري « بل استطعنا أن نفهم عمق معنى كلمة «ذكري» وأهدافها القريبة
والبعيدة.

فالرب وقت العشاء كان
يتكلم في جو فِصْحي. وأورشليم كلها كانت في الخارج تعجُّ بمئات الألوف من الحجاج
الآتين من كل أنحاء العالم، من كل شعب ولسان وأُمة على وجه الأرض، من يهودٍ ودخلاء
وزائرين؛ وذَبْح الخروف لم يتبقَّ عليه إلاَّ ساعات، والرب عالم أن ساعته قد جاءت
ومنظر الصليب أمام عينيه، الرب كان يتكلَّم بإحساس
» حمل الله «الوديع الذي
يسوقه أبوه إلى الجلجثة من أجل خلاص كل هذه الشعوب «الكثيرة»: الخروف الذي
سيُذبح مرة واحدة لأجل العالم كله فيتوقف فصح مصر إلى الأبد ويُنسى ذكر مصر
وخروفها كما تُنسى قصص الطفولة.

الرب قدَّم جسده ليؤكل
كفصح حقيقي، ودمه ليُشرب لعهد خلاص أبدي، لا يُطلب عليه مزيد، ولن يتوقف تذكاره
إلى الأبد.

الرب يقول: » اصنعوا هذا
كلما شربتم لذكري
«(1كو25: 11). إنه «ذِكْرُ» فصح المسيح الحي والقائم مذبوحاً
دائماً أمام الله، الذي فيه نتلاقى معه كلما أكلنا من جسده ونتلاقى معه على عهد
أمانة كلما شربنا من دمه الثمين؛ نتلاقى معه في موت وفي قيامة، وفي خلاص مجدَّد
ومستمر،
أكمله بالدم على الصليب مرة واحدة، ودخل به إلى الآب فوجد لنا فداءً
وخلاصاً أبدياً. ولكنه خلاص يتحقق وفداء يتجدد بمجيئه إلينا على المائدة كل يوم
لنأكله وكأنه ذُبح اليوم لساعته،
نتلاقى معه بالكلمة وبالكرازة إلى أقصى الأرض، وفي رؤية مجيئه الثاني الذي نتوقعه
بالصبر:
» فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون
بموت الرب إلى أن يجيء.
«(1كو26: 11)

ومنذ تلك الليلة التي
قدَّم المسيح فيها نفسه فصحاً لأجل حياة العالم كله، واستودع الكنيسة سرَّ جسده
المكسور وسرَّ دمه المسفوك قائلاً:
» اصنعوا هذا لذكري « لم يعد تذكارٌ لفصح مصر!! لقد توقف ذبح الخروف التذكاري عند
اليهود إلى الأبد! لأنه قد جاء موضوع الذكرى الذي كانت كل أعياد الفصح السالفة
تمهِّد له فقط وتشير إليه!!

وبهذا لا نرى أن «اصنعوا
هذا لذكري»
قيلت على مستوى الرجاء، أو هي وصية مَن هو ذاهب ليموت، ولكن الرب
قالها فكانت، والسماء والأرض تزولان و
» ذِكر «المسيح الرب
بالإفخارستيا لن يزول!!!

إن ذكر المسيح
قد صار
» فصحنا الأبدي «وتذكاره هو » عيدنا
اليومي
« إنه » يوم الرب «= » كيرياكي « بداية الأبدية ودينونة العالم واستعلان ملكوت الله الذي نعيشه.

وما هو ذكر المسيح
بالإفخارستيا؟

+ «ذكر» المسيح هو
صلاحية بها نتقدَّم وندخل بجراءة إلى الآب، وذلك باستحقاق المسيح الذبيحة
القائمة، ومصالحته الدائمة لنا مع الآب بوقوفه أمام وجه الله يشفع بدمه عن كل
خطايانا:
» المسيح لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بيدٍ أشباه الحقيقية، بل
إلى السماء عينها ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا، فمن ثمَّ يقدر أن
يخلِّص إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله، إذ هو حيٌّ في كل حين ليشفع فيهم
«(عب24: 9؛ 25: 7). فكل ذِكْر للمسيح بالإفخارستيا هو دخولٌ إلى
الله بواسطته وتراءٍ أمام وجهه للخلاص.

+ «ذكر» المسيح بالإفخارستيا،
هو بمثابة وضع يد الخاطئ على ذبيحة المسيح الكفارية، ورفع العين إلى الآب
السماوي ليذكر الله الآب عهده الجديد بمقتضى ما صنعه المسيح في نفسه، إذ قدَّم
نفسه ذبيحة إثم عن الخاطئ وسكب إلى الموت نفسه. من أجل هذا التذكار يسمع الخاطئ من
فم الآب:
» أَصفَح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد. «(إر34: 31)

إذاً، فكل ذِكر للمسيح
بالإفخارستيا يقابله عدم ذكر لخطايانا، وصفح
» مؤكَّد «عن كل
آثامنا من قِبَل الله.

+ «ذكر» المسيح بالإفخارستيا،
هو دخول في قوة العهد الجديد حسب الوعد: عهد أمانة من جهتي وعهد دم من جهته،
لنوال قوة العهد الجديد وختمه للتطهير والتقديس:
» دم المسيح
الذي بروح أزلي قدَّم نفسه لله بلا عيب يطهِّر
ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي.
«(عب14: 9)

إذاً، فكل ذكر للمسيح
بالإفخارستيا هو تطهير للضمير المثقَّل بالخطية ونوال قوة واستحقاق لخدمة الله.

+ «ذكر» المسيح بالإفخارستيا،
هو رؤيا لتجلِّي المسيح في المجد وسط تسبيح وشكر وتهليل القديسين، لأن
كأس الإفخارستيا ثمن حريتنا ووثيقة عتقنا،
وقراءة مستمرة لصك الشراء الذي
اشترانا به المسيح من كل لسان وشعب وأمَّة.

إذاً، فكل ذكر للمسيح
بالإفخارستيا هو ليتورجيا شكر واعتراف وتهليل وشركة مع القديسين.

+ «ذكر» المسيح بالإفخارستيا،
هو انتظار حار ملتهب بالصبر لمجيء الرب حسب وعده، ليُكمِّل الخلاص الذي بدأ.

إذاً، فكل ذكر للمسيح
بالإفخارستيا هو قوة للرجاء وعمل للصبر يتناسب مع طول أناة الله.

ثانياً: «اصنعوا هذا»
لذكري:

في فحصنا لكلمة » لذِكري «اتضح من
المعنى والشرح أن الرب يقصد فعلاً أن يتكرر هذا الإجراء السري لكسر الخبز وشرب كأس
البركة لذكر المسيح، وهو ضمناً وحسب عادته وأسلوبه تَرَك مفهوم حضوره معهم في كل
مرة يقيمون هذه المائدة الروحانية، ترك ذلك لإيمانهم واستحقاق كل منهم لرؤيته،
ولكنه في مواضع أخرى نبَّه إلى ذلك:
» حيثما اجتمع اثنان أو
ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم
«(مت20: 18)، » وها أنا معكم كل الأيام
إلى انقضاء الدهر.
«(مت20:
28)

القديس بولس الرسول
لإحساسه الشخصي الشديد بأهمية سر عشاء الرب وبحسب التقليد الذي استلمه، أوضح على
فم المسيح ضرورة أن يُصنع هذا لذكر المسيح. وكرر ذلك مرة عند ذكر الخبز:
» وشكر فكسر
وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم اصنعوا هذا لذكري
« ومرة أخرى عند توزيع الكأس: » هذه الكأس
هي العهد الجديد بدمي. اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري.» (1كو24: 11و25)

ولكن في إنجيل القديس
لوقا نجد هذه الوصية
» اصنعوا هذا لذكري «يوردها عند
الخبز فقط باعتبار أن كسر الخبز يمثِّل طقس العشاء كله، وهو التعبير الذي استخدمه
القديس لوقا نفسه في سفر الأعمال عند ذكر الإفخارستيا.

والآن نتقدم لفحص
المعنى العميق وراء هذا الأمر:

اصنعوا هذا toàto poie‹te ليست من الكلمات العادية التي تدخل ضمن الحديث أو التعبير الشخصي،
ولكنها اصطلاح ليتورجي، وذلك بحسب ورودها واستخدامها في الطقس القديم:

1 » وتصنع kaˆ
poi»seij
لهرون وبنيه هكذا بحسب كل ما
أَمرتُك.
«(خر35:
29)

2 » هكذا تصنع oÛtw
poi»seij
للثور الواحد… «(عد11: 15)

3 » هكذا يُصنع oÛtw
poi»sousin
بالرجل الذي لا يبني بيت
أخيه.
«(تث9:
25)

ومن هذا يتبين بوضوح أن
كلمة
» اصنعوا هذا «هي اصطلاح مستخدم في الطقس للتعبير عن «تكرار
الطقس»
وعن
«قانونيته».

وبالرجوع إلى النصوص
العبرية المستخدمة في التنظيم للعبادة في أيام المسيح، وجدنا هذا الاصطلاح في نصوص
قمران، وبالذات في ترتيب الموائد الطقسية التي كانت تُدعى موائد ماسيانية للصلاة من أجل مجيء المسيا. وقد تأكَّد العلماء من
أن ورود كلمة
«هذا» بعد كلمة » اصنعوا «إشارةً
إلى
«طقس محدد»، وقد تعيَّن
للتكرار، كما هي واردة تماماً في الآيات الثلاث التي ذكرناها أعلاه.

ولكن ما هو تحديد كلمة » اصنعوا هذا « أي ما هو الموضوع المقصود من التكرار أو ما هو الترتيب الطقسي
الذي يطلب المسيح أن نصنعه؟

في الواقع أن كلمة » اصنعْ «تنصبُّ على
معنى
» إجراء كامل «أو » فعل كامل «يتضح أكثر
من كلمة
» كلما شربتم
«التي أوردها بولس
الرسول في (1كو25: 11). فأن يوردها القديس بولس الرسول
» كأمر «عند توزيع
الخبز المكسور، ثم يوردها بنفس الصورة عند توزيع الكأس حيث يقول:
» اصنعوا هذا
كلما شربتم…
«
يفيد أن قصد الرب من التكرار يشمل كل الطقس في سر العشاء، بل ويفيد ضمناً أن الرب
قد أسس ترتيباً جديداً بخلاف ما كان متَّبعاً سواء من جهة الصلاة أو الترتيب في
الأكل والشرب أو في أسلوب ومعنى وشرح وليمة هذا الطقس. وبسبب هذا الترتيب الجديد
أوصى الرب أن
» اصنعوا هذا لذكري
«

ومن غير المعقول
إطلاقاً أن يكون الرب قد أوصى تلاميذه أن يصنعوا هذا العشاء بوضعه وترتيبه القديم،
بل بوضعه الجديد، لأنه من الأمور المحتَّمة بديهياً أن الرب أوصى وصايا وعلَّم
أشياء وشرح وصلَّى في هذا العشاء السري أشياء جديدة وبطريقة فائقة جداً، تتناسب مع
هذا السر، خصوصاً وأنها الوليمة الأخيرة والتي ينبغي أن يسلِّم كل شيء فيها
لتلاميذه، وغالباً نحن تسلمناها ككلمات وأعمال ونستخدمها حالياً بتسلسل التقليد،
ولكن لا نستطيع أن نحدِّدها.

وتوجد إشارة إلى ذلك في
» الديداخي «(تعليم
الرسل الاثني عشر)، وهي من مدونات سنة 100م، حينما تقول بعد شرح كلمات الصلاة على
الكأس: [
التي
أعْلَمْتَنا بها بواسطة فتاك يسوع].
ثم في صلاة الشكر الأخيرة، تقول: [نشكرك
يا أبانا القدوس من أجل اسمك الطاهر الذي أحللته في قلوبنا، ومن أجل المعرفة
والإيمان والخلود
التي أعْلَمْتنا بها بيسوع فتاك].

وحينما يستشهد القديس
بولس الرسول بالطقس الذي تسلَّمه والذي يلخِّصه كالآتي:
» كأس البركة
التي نباركها… الخبز الذي نكسره
«إشارة إلى مجمل ما أمر الرب أن » نصنعه «فهو هنا عمل وصلاة معاً. كذلك
في تكرار القديس بولس الرسول للوصية بنفس كلماتها:
» اصنعوا هذا لذكري «عند الخبز وعند الخمر إشارة إلى أهمية تكرار كل
شيء كما سلَّمه الرب لتلاميذه تماماً وبدقة.

والملاحظ أن الجزء
السري من العشاء والذي يختص فعلاً بالرب وهو
» كسر الخبز «بعد البركة
والشكر، ثم مزْج الكأس وتوزيعه بعد البركة والشكر، كان هو الجزء السري من الوليمة
الذي أكَّد عليه الرب أنه هو الذي يُصنع لذكره. والبرهان الأكيد على ذلك هو
إمكانية فصل الإفخارستيا بعد ذلك عن وليمة المحبة، أي فصل الجزء السري من العشاء
عن بقية الوليمة!!

وهكذا يصبح مفهوم » اصنعوا هذا
لذكري
«هو أن يقيموا هذا الطقس السري من الوليمة الذي
يختص بالجسد المكسور والدم المسفوك للرب، حتى بواسطة إقامة هذه الذبيحة أمام الله
يكون لهم هذا واسطة
» لذكر
«المسيح الرب لدى الآب
كل حين، إذ بهذا الذكر يكون لهم دالة وقبول أمام الآب وصفح عن الآثام وغفران
الخطايا.

ثالثاً: تسجيل القديس
بولس الرسول لقول المسيح: «فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون
بموت الرب إلى أن يجيء» (1كو26: 11)، وعلاقة ذلك بالنص الإفخارستي: «اصنعوا هذا
لذكري
«

واضح أن التعقيب الذي
أورده بولس الرسول (كجزء من التقليد المسلَّم إليه) لأهل كورنثوس وهو:
» فإنكم كلما
أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء
« يقوم أساساً على النص الذي أورده القديس لوقا الإنجيلي: » اصنعوا هذا
كلما شربتم لذكري
«
وهذا يدل دلالة واضحة على أهمية
النص الأول في حد ذاته، أي أهمية
الوصية
«اصنعوا
هذا لذكري»
، حتى إن
التقليد أخذ على نفسه أن يشرحه من داخل النص أيضاً!!

ويلاحِظ القارئ أن كلمة
«فإنكم
g£r» التي بدأ
بها التقليد التعقيب على النص
» اصنعوا هذا لذكري «تزيد من
التأكيد، فهي حرف تعقيب للتأكيد!

كذلك يلاحظ القارئ
أيضاً أن كلمة
«كلما æs£kij» تفيد تأكيد التكرار وضرورته، وبهذا يكون
التقليد قد ضمن تسجيل هذا التعقيب ونجح في أن يوصل لنا رسالة خاصة من الرب هي
كالآتي: [إن الرب قد أوصى أن نصنع هذا الطقس (كسر الخبز والبركة على الكأس)
باستمرار (بقوله:
» كلما شربتم
« لكي يكون لنا واسطة عملية مستمرة لذِكْر المسيح،
لأن بتتميمنا هذه الوصية، وفي كل مرة نقيم فيها طقس هذا العشاء السري الذي للرب،
نخبر بموت الرب وبالتالي نتراءى أمام الله في هذه الذبيحة].

وهكذا يرتبط «ذِكْر» الرب ب » موت الرب « ففي كل مرة نعلن فيها موت الرب بواسطة الإفخارستيا، يكون ذلك » ذِكْراً «له أمام
الله الآب في السماء.

«الذِكْر»
كما قلنا حضورٌ، فالإفخارستيا حضور للمسيح معنا هنا على الأرض بالجسد
والدم، وحضور مع المسيح
» بالذكر «في السماء
أمام الله الآب. هذا يعني أن الإفخارستيا المقدمة على مذبح الرب في الكنيسة مقبولة
وظاهرة ومُعلنة بآن واحد على المذبح الناطق السمائي).

ولكن كيف نخبر بموت
الرب؟ وما معنى ذلك؟

لكي نفهم معنى » نخبر بموت
الرب
«يلزمنا أن نفحص علاقتها ببقية الجملة: » إلى أن يجيء «

فالوصية تُلزمنا أن نخبر
بموت
الرب، وذلك لغاية مهمة محددة وداخلة في صميم الإفخارستيا والذِكر، وهي إلى
أن يجيء!!

ويمكننا أن نفهم
التركيب اللفظي والمعنوي لهذه الجملة في اللغة اليونانية إذا قسناها على آية أخرى
تحوي نفس التركيب اللفظي والمعنوي باليونانية عند القديس بولس الرسول مثل:
» إن القساوة
قد حصلت جزئياً لإسرائيل إلى أن يدخل ملؤ الأمم
«(رو25: 11)، وأيضاً مثل: » لأنه يجب أن
يملك إلى أن (حتى حسب النص) يضع جميع الأعداء تحت قدميه.
«(1كو25: 15)

وقد جاء أيضاً هذا
التركيب عند القديس لوقا في إنجيله:
» وتكون أورشليم مدوسة من
الأمم حتى تكمل أزمنة الأمم.
«(لو24: 21)

إذاً، فنحن في
الإفخارستيا نظل نخبر بموت الرب إلى أن يجيء. ولا يعني هذا أننا نذكر حادثة
تاريخية مضت، بل نذكر موت الرب كحقيقة واقعة لها صلة وعلاقة صميمية بما هو آتٍ،
بمستقبل
» النهاية «eschaton التي بدأت بموت الرب، والتي تكمل بانتهاء الكرازة بموته. فالعهد » الجديد «بدأ بموت
الرب، ولا يبلغ غايته إلاَّ بمجيء الرب!!

فنحن طالما نخبر بموت
الرب نعيش
» العهد الجديد بدمي «! وهذا لا يمكن أن يتأتى عملياً إلاَّ بأن » نصنع هذا «أي نقيم
الإفخارستيا بدم المسيح، التي فيها وفيها فقط نستطيع أن نخبر بموت الرب خبراً
عملياً. وهكذا كلما نقيم الإفخارستيا تنفيذاً للأمر الإلهي:
» اصنعوا هذا
لذكري
«نظل نعيش العهد الجديد، وسنظل نعيش العهد الجديد بجسد المسيح
ودمه طالبين سرعة مجيء الرب، إلى أن يجيء الرب!

هذا المعنى
أي طلب سرعة مجيء الرب من داخل الإفخارستيا تشرحه وتوضِّحه
» الديداخي «(تعليم الرسل الاثني عشر سنة 100م) إنما في اختصار
أشد الاختصار، حينما تقول بعد تقديس الخبز والخمر في الفصل (6: 10):

[اذكر يارب كنيستك،
نجها من كل شر، وكمِّلها في محبتك، واجمعها من الأربعة الرياح. لتكن مقدسة لملكوتك
الذي أعددته لها، لأن لك القوة والمجد إلى الأبد. ليت النعمة تأتي وليت هذا
العالم ينتهي، أوصنا (خلصنا) لإله داود.
فمن كان طاهراً فليتقدم، وإذا لم يكن
أحد كذلك فليتُب. «ماران آثا»([22]) = تعالَ
أيها الرب يسوع آمين…]

إذاً، فكوننا نخبر
بموت
الرب كخبر نتلوه في الإفخارستيا على الخبز وعلى الخمر وقت التقديس وعلى
الجماعة أيضاً وأمام الله، فهو فضلاً عن أنه نص إفخارستي تقديسي، فهو أيضاً مرفوع
إلى الله الآب مع الذبيحة (التي هي بحد ذاتها استعلان مستمر لموت الرب)، حتى
بالخبر المنطوق بموت الرب وبالذبيحة الناطقة بموت الرب يكون تذكار دائم أمام الله
في السماء، إلى أن يكمُل عمل الخلاص الذي وعد به ويأتي الرب!! ولا ننسى أبداً أن
موت الرب كان ولا يزال هو مسرة الآب.

وهكذا يلتحم «الذِكْر»
الدائم للرب، مع الخبر الدائم «بموته»، مع الذبيحة المقدمة من الكنيسة،
ليُرفع الكل أمام الله الآب كرائحة سرور لتكميل ظهور المسيح والمجيء الآتي!!

وهكذا استلمت الكنيسة
منذ البدء أن تصلي بحرارة في نهاية كل إفخارستيا من أجل مجيء الرب. وهذا
واضح جداً في صلوات الإفخارستيا المسجَّلة في
» الديداخي « كما أوضحناها، وكذلك في سفر أعمال الرسل.

ولكن لأن مجيء الرب
يتحقق فعلاً في كل إفخارستيا، لذلك كانت الإفخارستيا في الكنيسة الأولى بالنسبة
للمؤمنين الحارِّين بالروح ساعة ابتهاج قلبي لا يوصف:
» وإذ هم
يكسرون الخبز (سر الإفخارستيا) في البيوت كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة
قلب (قلب واحد) مسبِّحين الله ولهم نعمة
لدى جميع الشعب.
«(أع46: 2و47)

وبذلك، أي بذلك السر
المنطوي في ممارسة وصية الرب:
» اصنعوا هذا لذكري « بإقامة سر عشاء الرب باستمرار، وبالتالي مداومة «ذِكر»
الرب، اتَّحدت الجماعات الأولى في جسد المسيح وبسر الفداء بقوة وفاعلية لا توصف.
فكان الرب من جهته يكمِّل وعده:
» وكان الرب كل يوم يضم
إلى الكنيسة الذين يخلصون»
(أع47: 2). أي أن سر الخلاص كان يسري في جسم
الكنيسة بقوة علوية!! والذي كان ولا يزال بحد ذاته بمثابة استعلان وظهور ل «عمل»
الرب، إلى أن يَستعلن الرب نفسه!

 

9 «ثم سبَّحوا
وخرجوا»

(مر26: 14)

التسبيح جزء «أساسي» في
ذبيحة الإفخارستيا

بعد
الشكر والتناول من كأس البركة الأخير، تبدأ التسبحة مباشرةً. وتشمل هذه التسبحة
المناسبات التي في دائرة التعييد للفصح (بمفهومه الذي قصده المسيح في ذاته): تلاوة
المزامير 114 و115 و116 و117 و118. ثم يتلو أحد التلاميذ المزامير بيتاً بيتاً،
وفي كل نصف بيت تردُّ الجماعة
» هلليلويا « أما عدد المرات التي تردُّ فيها الجماعة ب » هلليلويا «فهي لا تقل عن 123 مرة!!

والمعروف بحسب التقليد
أن الرب كان يتقن جداً حفظ المزامير، والمعتقد أنه هو الذي كان يتلو المزمور
والتلاميذ يجاوبون
» هلليلويا «

ثم
بعد التسبحة تَرَأس الرب صلاة الشكر في الختام، وصلاة الشكر هذه مأخوذة من
المزامير 114118.

صورة لخورُس التسبيح
بعد العشاء،

وعمق المعاني التي
تركِّز عليها التسبحة:

بدأ التسبيح يأخذ من
هذه المناسبة الفصحية في زمن المسيح لوناً ماسيَّانياً ملتهباً، وهذا واضح جداً من
تسجيلات شروحات المزامير (114118) المدوَّنة في كتب اليهود وأسفارهم([23]).
فأصبح لكل مزمور من هذه المزامير طابع أُخروي
eschatological (إسخاتولوجي) نبويٌّ. ويتضح هذا من مجرد العناوين لبعض هذه
المزامير وآياتها كما جاءت في
» المدراش «و» تلمود بابل «و» تلمود
أورشليم
«[24]):

 

عنوان تسبحة مز2: 113

: تسبيح الرب في الدهر
الآتي.

عنوان تسبحة مز9: 113

: صهيون في «أواخر
الأيام».

عنوان تسبحة مز1: 115

: الآلام في أيام
المسيا.

عنوان تسبحة مز1: 116

: أيام المسيا،
وما ينبغي أن تكون عليه صلاة إسرائيل للفداء.

عنوان تسبحة مز4: 116

: خلاص نفوس الأتقياء
من جهنم.

عنوان تسبحة مز9: 116

: قيامة الأموات،
ووليمة الدهر الآتي.

عنوان تسبحة مز13: 116

:
بركات مائدة داود بعد وليمة الخلاص.

عنوان تسبحة مز7: 118

: الدينونة الأخيرة.

عنوان تسبحة مز10: 11812

: الحرب ضد جوج
وماجوج.

عنوان تسبحة مز15: 118

: بداية أيام
المسيا!!

عنوان تسبحة مز24: 118

: الفداء بواسطة
المسيا!!

عنوان
تسبحة مز25: 118و26

: خورُس التسبيح
بالأنتيفونا في زمن استعلان المسيا!!

عنوان تسبحة مز27: 118

: الله نور أزمنة
الخلاص!

عنوان تسبحة مز28: 118

: مستقبل العالم!!

لذلك تُعتبر التسبحة
التي سبَّح بها الرب مع التلاميذ على أساس هذه المعاني المعروفة جداً
آنذاك كأنها صورة طبق الأصل من الواقع!

وهذا يوضِّح مدى حساسية
وإلهام وحكمة حكماء إسرائيل القدامى في شرحهم وتأملهم في أقوال الله وخاصة
المزامير، لأن رجاءهم وحبهم وإخلاصهم وتوقُّعهم الشديد لأزمنة الفداء والخلاص
ومجيء المسيا، كان أشد وأعظم جداً مما نتصوره. فالنبوة لم تفارق إسرائيل قط حتى
مجيء المسيح، وروح الرب ظل يشير إلى يوم الرب بأصبع الرؤيا والنبوة والإلهام في
قلوب الأنبياء والنبيات، مثل سمعان الشيخ وحَنَّة النبية، حتى أتى الرب وظلت
الرؤيا الصادقة تقود أقدامهم من بيت إلى بيت، حتى وجدوه على صدر مريم العذراء وهي
داخلة به إلى الهيكل في صمت لم يحتمله الروح المتأجج في صدر سمعان، الذي كان
يمثِّل آخر نبوة في إسرائيل، فحمله وظل يبارك الله حتى ارتاحت روحه وروح جميع
الأنبياء فيه!

وعجيب حقاً أن يفسِّر
المدراش (كتاب لتفاسير ودراسة المزامير وبقية الأسفار عند اليهود) الآية 24 في
مزمور 118 «هذا هو اليوم الذي صنعه الرب»([25])،
بأن ذلك يعني «يوم الفداء» الذي سيُنهي كل العبودية إلى الأبد! أي أنه
يوم المسيا للفداء. ومن هذا التفسير ينطلق المفسر ليفسر كل الآيات على هذا المستوى
العالي والواقعي جداً، مصوِّراً كل حوادث ووقائع الأيام الأخيرة، بحاسةٍ لا تخطئ!!
حتى وصل إلى تصُّور تمثيلية سيقوم بها رجال أورشليم من الداخل ورجال يهوذا من
الخارج عند استعلان يوم الفداء هذا، أي
» يوم الرب «

وننقل هنا للقارئ هذه
التمثيلية التي تخيَّلها حكماء إسرائيل أنها ستتم عند مجيء المسيا، ليدرك مدى
انطباق الحوادث في أيام المسيح على التعاليم والشروحات التي كانت بين أيديهم.

فالشارح يصوِّر بالروح
خورُساً من المسبِّحين من رجال أورشليم في داخل أورشليم يتجاوبون بالأنتيفونا([26])
مع رجال يهوذا، والمسيا يقترب من أبواب أورشليم، هكذا:

جماعة أورشليم من الداخل

:

نتوسل إليك يا رب
الآن خلِّصنا (أوصنا بالعبري) مز25: 118.

يرد عليهم رجال يهوذا
من الخارج

:

نتوسل
إليك يا رب، اجعلنا أن نكون الآن لزمان الإثمار…

جماعة أورشليم من الداخل

:

مبارك الآتي باسم
الرب مز26: 118.

يرد عليهم رجال يهوذا
من الخارج

:

باركناكم من بيت الرب.

جماعة أورشليم من الداخل

:

الرب هو الله وقد
أنار علينا مز27: 118.

يرد عليهم رجال يهوذا
من الخارج

 

:

رتبوا موكب العيد
بأغصان الشجر الكثيفة وثبِّتوا الذبيحة إلى قرون المذبح([27])!!

جماعة أورشليم من الداخل

:

أنت هو إلهي وأقدِّم
إليك الحمد مز28: 118.

يرد عليهم رجال يهوذا
من الخارج

:

أنت هو إلهي وإني
أرفعك.

ثم بعد ذلك تتحد جماعة
أورشليم مع جماعة يهوذا في تسبيح واحد للقدوس تبارك اسمه([28]):
اعطوا شكراً للرب لأنه صالح وأن إلى الأبد رحمته.

وهكذا يتصور المدراش
اليهودي (قبل زمن المسيح بمدة كبيرة)، هذا المنظر الرائع الحي في لحظة ظهور المسيا،
كيف يقف سكان أورشليم على أسوار أورشليم وأبراجها مع كهنة الهيكل، في نفس الوقت
الذي يتقدَّم فيه رَكْبُ المسيا الملك نازلاً من جبل الزيتون على رأس جوقات من
رجال يهوذا، وحينئذ إذ يقترب الموكب من أسوار أورشليم يحيي كل فريق الآخر بتسبحة
الأنتيفونا من مزامير داود بكلمات المزمور 118. وبعد ذلك تتحد الجماعات معاً في
تسبحة واحدة:

+ » اشكروا الرب
فإنه صالح وأن إلى الأبد رحمته
«!

هذه التمثيلية بحسب
تدقيق علماء الكتاب المقدس هي من زمن سابق على زمن المسيح، وكانت متداولة بين عامة
الشعب، حتى إن الشعب من تلقاء ذاته لما أحسَّ بالميعاد والشعب في
إحساسه دائماً دقيق لا يخطئ خرج لاستقبال المسيح فعلاً عند دخوله إلى
أورشليم في أحد الشعانين مستخدماً نفس هذه التسبحة ومن نفس هذا المزمور 118!!
باعتبار أن ما تعلَّمه كان حقاً نبوة، وكان حقاً ترتيباً رُتِّب بالروح لزمانه
المحدد.

ولكن تطبيق هذه التسبحة
بكلماتها وبنفس أوضاعها التي تصوَّرها شارح المزامير في المدراش يبدو عجيباً حقاً،
لأنه معروف في الأناجيل الثلاثة (مر9: 11، مت9: 21، يو13: 12) أن الشعب والأطفال
تلقائياً وبدون من يرتب صفوفهم، خرجوا جميعاً لاستقبال المسيح قائلين:
» أوصنا
(خلِّصنا)، مبارك الآتي باسم الرب
«التي هي اختصار للآية
25: 118 وكل الآية 26: 118.

ولكن العجيب أيضاً أن
يذكر كلٌّ من إنجيل مرقس وإنجيل متى ربما بدون الانتباه المُسبق إلى
دقة هذا الوضع أن الجماعة التي خرجت لاستقباله قسَّمت نفسها إلى خورس
يمشي أمام المسيح وخورس يمشي وراءه!
» والجموع الذين تقدَّموا
والذين تبعوا كانوا يصرخون (الواحد قبالة الآخر) قائلين: أوصنَّا لابن
داود، مبارك الآتي باسم الرب، أُوصنا في الأعالي
«(مت9: 21)!!

أما بقية » الأنتيفونا «التي تقول
في المدراش، بالكلام: «رتبوا موكب العيد بأغصان الشجر حتى إلى قرون المذبح»،
فقد أكملها أصحاب هذا الموكب، إذ يقول الإنجيل أنهم قطعوا بالفعل أغصان الشجر
وفرشوها وزيَّنوا بها الطريق إلى الداخل.

ولكن الذي يهمنا من هذا
الموكب، أنه جاء تحقيقاً للشرح الإلهامي (الإسخاتولجي) لشارح المدراش الذي تصوَّر
أواخر الأيام وتصوَّر موكب المسيا وتصوَّر كيفية دخوله. وهذا في الواقع يثبت أهمية
ودقة شرح المزمور 118 في المدراش الذي هو أصلاً موضوع تسبحة لوليمة الفصح! والذي
استخدمه الرب ليلة العشاء السري (باعتبار أنه هو نفسه الفصح الحقيقي لأجل حياة
العالم).

ونلاحظ أيضاً أن الرب
كان يرى ومنذ البداية في المزمور 118 العلامات والكلمات والنبوات التي تشير إليه،
إذ لا ننسى تمسُّكه بالآية:
» هذا هو الحجر الذي رفضه
البناؤون الذي صار رأساً للزاوية
«مشيراً به إلى نفسه!! » أما قرأتم هذا
المكتوب: الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية، من قِبَل الرب كان هذا
وهو عجيب في أعيننا.
«(مر10:
12و11)

بل وأكثر من ذلك أيضاً،
فالرب شاء بنفسه أن يُلفت نظر التلاميذ والجموع التي كانت تتبعه إلى هذا المزمور
118 بل وإلى شرحه الذي تعلَّموه من المدراش، بقوله:
» لأني أقول
لكم: إنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب
«(مت39: 23).

وهكذا يصوِّر لنا الرب
كيف أن أورشليم التي بكى عليها لأنها لم تعرف زمان افتقادها والتي عيَّرها لقتلها
الأنبياء والمرسَلين إليها، كيف أن الله أبقى فيها بالرغم من ذلك شهوداً أُمناء،
وسيترتب منهم خورُس تسبيح لاستقبال الرب ساعة دخوله فيها للمرة الأخيرة، تحقيقاً
لنبوة الملهَمين السابقين. حيث أصبح أيضاً دخول الرب أورشليم بهذه الكيفية إشارة
قوية وواضحة لمجيئه الثاني.

وعندما نعود إلى » الديداخي «(كتاب تعليم الرسل الاثني عشر سنة 100م)، وهو أقدم
وثيقة بقيت على حالها وهي تصوِّر لنا ترتيب الإفخارستيا في الكنيسة، نرى كيف أن
جماعة المؤمنين الأوائل كانوا يعرفون تماماً بالتسليم وحسب التقليد هذه التسبحة
وهذه ال
» أُوصنّا «(مز25: 118) بنفس أسلوب ومعنى الاستعلان والظهور ومجيء الرب!! حيث » أُوصنّا «التي معناها
» خلِّص «أو » خلِّصنا «وهي كلمة
أرامية من الأصل
Yeso = خلِّص،
والتي منها جاء اسم
» يسوع
«Yesoh
أي » مخلِّص « بدأت تأخذ في الإفخارستيا في الكنيسة معنى التهليل لظهور المخلِّص
نفسه!! برجاء المجيء الثاني لكمال الخلاص.

هذا يعيدنا مرة أخرى
لأصل التقليد، فالرب بعد العشاء سبَّح بهذا المزمور، وهتف التلاميذ ب
» أوصنّا «بأسلوب
ليتورجي حي واقعي، وكان في شعورهم وإحساسهم أنهم إنما يوقِّعون تسبحة الخلاص
السنوية والتقليدية على خلاص حاضر وواقع أمام عيونهم، حيث جماعة التلاميذ تمثِّل
الكنيسة كلها عندما تلتف حول المسيح في مجيئه الثاني!!

ففي هذا المزمور وفي
إِنشاده والتسبيح به بالأنتيفونا وفي ال
» أُوصنا «بهتاف الفرح
والرجاء يتحقق سر خلاص تمَّ، وخلاص يتمُّ، وخلاص سيتم أيضاً، من داخل الإفخارستيا
وبحضور الرب.

وهكذا نتيقَّن لماذا
حرص الرب بأن يقيم طقس «هذه التسبحة» في ختام توزيع كأس البركة، باعتبار أن
هذه التسبحة عموماً هي جزء أساسي في سر العشاء، وتأكيد لخلاص تمَّ، وأنها تكميل حي
في تدبير الخلاص الدائم، وتعبِّر عن علاقة وثيقة وأساسية بمجيء المسيح الآتي الذي
هو جزء لا يتجزأ من سر الإفخارستيا وعمله.

فبهذه التسبحة التي في
ختام سر العشاء تصير شركة، ويصير اتصال، وتصير هبة للكنيسة كما صار للتلاميذ في
الخلاص بمعناه الكلي وفي سر المجيء الثاني للمسيح وحتى استقباله والسير في موكبه
والاشتراك في وليمة الأبدية
» عشاء عرس الخروف « إفخارستيا كمال كل الدهور.



اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى