اللاهوت العقيدي

الفصل الأول



الفصل الأول

الفصل الأول

صور وأمثال ورموز الإفخارستيا في
العهد القديم

يعتمد الآباء في
تقديمهم لصور وأمثال العهد القديم، وهم يشرحون ويوضحون أعمال الله في العهد الجديد،
على حقيقة إيمانية ثابتة لدى الكنيسة كلها، أن كل ما عمله الله في الماضي عمله
بتدبيرٍ خاص حتى يكون كأساس مُسْبَق يبني عليه الإنسان رجاءه وأمله فيما هو عتيد
أن يعمله الله في مستقبل الزمان من أجل تكميل خلاصه.

وتحتل الإفخارستيا في
هذا المضمار مركزاً أساسياً في امتداد واستمرار الصلة السرائرية بين العهد القديم
والعهد الجديد، فهي كالقلب النابض لكلا العهدين.

مقالات ذات صلة

وقد وجدنا أن لدى كل
اللاهوتيين شرقاً وغرباً، وحتى لدى واضعي الليتورجيات وكل شارح من الآباء وواعظ
على الأسرار، اتجاهاً عاماً لاعتبار الإفخارستيا ذات استمرار عميق وسرِّي لذكرى
الذبيحة التي قدَّمها هابيل الصدِّيق، وتقدمة وذبيحة ملكيصادق، وذبيحة إبراهيم
لإسحق ابنه، وذلك من الوجهة الكهنوتية. فكلٌّ من هذه الذبائح قُدِّمت بروح كهنوتية،
ففي كتاب الخولاجي نقرأ في صلاة رفع بخور باكر:

[يا الله الذي قَبِلَ
قرابين هابيل الصدِّيق وذبيحة نوح
» ذبيحة عهد «وإبراهيم » تقدمة إسحق «وبخور هارون
وزكريا …]

ولكننا وجدنا أن
العلاقة بين سر الإفخارستيا والعهد القديم تأخذ صورة أوضح وارتباطاً أكثر من جهة
المادة السرائرية كما هو حادث في تقدمة ملكيصادق حيث الخبز والخمر يبدو فيها
انطباقاً واضحاً. وكذلك في نزول المن من السماء كخبز سمائي، وفي خروف الفصح.

 

1 تقدمة
ملكيصادق، وسرّ الإفخارستيا

فعقيدة الكنيسة الأُولى
نجدها واضحة أشد الوضوح في كلام العلاَّمة كلمندس الإسكندري (سنة 195م.) الذي يربط
ربطاً مباشراً بين الإفخارستيا في الحاضر وتقدمة ملكيصادق في الماضي السحيق هكذا:

[إن الخبز والخمر
المقدَّسين اللذين قدمهما ملكيصادق هما صورة نموذجية
Typos
للإفخارستيا.]([1])

هذه هي عقيدة الآباء
الأوائل عموماً، وقد طوَّرها القديس كبريانوس (210258م) بعض الشيء،
فهو يقول:

[وفي حالة ملكيصادق
كاهن الله العلي نرى ذبيحة الإفخارستيا التي قدَّمها الرب يسوع تسبق فتأخذ صورتها
الأُولى بحسب شهادة الكتاب المقدَّس إذ يقول إن ملكيصادق ملك ساليم قدَّم خبزاً
وخمراً.]([2])

ويستمر كبريانوس في
الربط الدقيق بين العهدين الجديد والقديم من حيث هذا السر الإفخارستي بكل ظروفه،
فيقول:

[إن ملكيصادق هو قبل كل
شيء
» مثال «صورة نموذجية Typos للمسيح، ودليلنا على ذلك قول المزمور 109: » إنك أنت الكاهن
إلى الأبد على طقس ملكيصادق
« ثم مَنْ هو ذلك الكاهن لله العلي أكثر من ربنا يسوع المسيح الذي
قدَّم للآب نفس التقدمة أي الخبز والخمر كملكيصادق
اللذين هما جسده ودمه؟]([3])

وهكذا يربط كبريانوس
بين ملكيصادق والمسيح وبين تقدمة المسيح وتقدمة ملكيصادق، بل ويستمر في إيجاد
عناصر المطابقة لا في صورة إفخارستيا (تقدمة شكر) المسيح وإفخارستيا ملكيصادق فقط،
بل وفي الوضع السري
» Sacramentum» القائم في الإفخارستيا، فيقول:

[وهكذا نجد أن المثال،
أي الصورة النموذجية، للإفخارستيا وتكوينها من خبز وخمر قد أُظهرت في العهد القديم،
وهذه الصورة عينها هي التي أكملها المسيح وحققها حينما قدَّم الخبز والخمر الممزوج
بالماء، ولكن المسيح كان هو نفسه التكميل والتحقيق لهذه الحقيقة المخفية في هذه
الصورة النموذجية.]([4])

ثم نجد هذا التقليد
التفسيري يستوطن عند القديس أمبروسيوس بشيء من الاتساع، إذ يعود إليه في وعظه مرات
كثيرة مضيفاً إلى نموذج الإفخارستيا عند ملكيصادق نموذجاً آخر هاماً للإفخارستيا
هو المن الذي كان معجزة أو سرًّا
Sacramentum «خبز الخروج»، ويقول متكلِّماً عن
إفخارستيا العهد الجديد:

[نحن نذكر أن هذه
الأسرار قد انحدرت إلينا قبل زمان إبراهيم، لأن ملكيصادق
» الشخص
المقدَّس
«الذي قدَّم نموذجاً كان بلا بداية أيام ولا نهاية أيام.]([5])

وهكذا يتقدَّم
أمبروسيوس في استقصائه لهذا السر حتى يُثبت أن سر الإفخارستيا الذي نقيمه الآن هو
من حيث زمانه التاريخي أقدم من عصر الذبائح عند موسى!! وهذه حقيقة جديرة بالاعتبار،
فالكهنوت والإفخارستيا ينحدران أصلاً من الأبدية، من الله، من وراء الزمن والتاريخ،
فملكيصادق هو أصلاً بلا بداية أيام ولا نهاية أيام!! يقول أمبروسيوس:

[اقبلوا هذا الذي أقوله
لكم: اعلموا أن أسرار المسيحيين هي أسبق زمنياً في أصولها من ذبائح اليهود، لأنه
إن كان اليهود يذهبون في أسرارهم إلى زمان إبراهيم، فإن نموذج أسرارنا ينحدر إلينا
من زمن أسبق، زمن ملكيصادق كاهن الله العلي
» الذي هو بلا
بداية أيام
«والذي قابل إبراهيم وهو عائد من انتصاره وأعطاه خبزاً وخمراً،
ومَنْ هو الذي كان في يده الخبز والخمر؟ ليس إبراهيم بل ملكيصادق الذي يُعتبر
مؤسِّس هذا السر.]([6])

ويهمنا هنا أن نشير إلى
أنه سواء القديس أمبروسيوس أو مَنْ قبله من الآباء، فالكل أخذوا إلهامهم فيما يختص
بملكيصادق وعلاقته بالمسيح من رسالة القديس بولس الرسول إلى العبرانيين التي يقول
فيها عن ملكيصادق بصريح العبارة:

+
» بلا أبٍ بلا أمٍ بلا
نَسَبٍ، لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة بل هو مشبَّه بابن الله.
«(عب
3: 7)

ولكن الذي نريد أن
نضيفه على أقوال الآباء في هذا الموضوع الخطير هو أنه وإن كانت رسالة العبرانيين
بنوع خصوصي والأناجيل عموماً لم تكشف بصريح العبارة عن علاقة الخبز والخمر في
ملكيصادق بالخبز والخمر في إفخارستيا المسيح، إلاَّ أن الرسالة إلى العبرانيين
والأناجيل أيضاً محمَّلة بإلهام عال جداً يشير إلى أن المسيح في تقديمه للخبز
والخمر بالذات،
هذه التقدمة التي لم يقدِّمها أحد قط إلاًّ ملكيصادق في القديم،
كان يريد ضمناً أن يُلفت الأنظار في صمت وفي سر رائع إلى كهنوته الأبدي وملكوته
الروحي كملك السلام، وإلى شخصيته التاريخية بتلميحه السري الرائع:
» قبل أن يكون
إبراهيم أنا كائن!!!
«(يو
58: 8)

كذلك، فالمسيح هنا يريد
أن يرفع مستوى العبادة والمفهوم السري للذبيحة والتقدمة فوق وضعها الكائن الذي كان
يعيش عليه اليهود آنئذٍ (والتي كانت متعطِّلة تنتظر التجديد)، فالمسيح بتقدمته
الخبز والخمر التي هي تقدمة ملكيصادق يشير بصورة سرية رائعة وبدون كلام إلى أنه
يتجاوز كل التقدمات والذبائح الموسوية بل واليهودية على الإطلاق، لأن ملكيصادق ملك
ساليم لم يكن من نسل اليهود
» بلا نسب «!

كذلك نريد أن نوضِّح
أيضاً أن المسيح لمَّا أخذ الخبز والخمر على يديه وشكر وبارك وقدمه لتلاميذه على
أنه ذبيحة فعليَّة للعهد الجديد:
» هذا هو دمي الذي للعهد
الجديد
« كان يقصد أن يشير
إلى تلاميذه وإلينا نحن أيضاً في صمتٍ رائع وسرٍ عجيب أنه كما كان الخبز والخمر
وهما على يدي ملكيصادق (الشخص العجيب الذي بلا بداية أيام ولا نهاية أيام)
يستمدان من ملكيصادق بصورة سرية أو سرائرية
Sacramental صفة البركة المادية والتعضيد الروحي اللانهائي لإبراهيم،
كذلك كان المسيح عندما قدَّم لتلاميذه الخبز والخمر إنما ليس في صورة ونموذج بعد
أو كمجرد بركة وتعضيد، بل كحقيقة أبدية وفعل لانهائي وأسرار إلهية حيث كشف المسيح
عن مفهوم الخبز وعن جوهره الذي كان عند ملكيصادق مجرد خبز حنطة للبركة والتعضيد،
فإذا به على يدي المسيح خبز نازل من السماء خبز حقيقي، فيه صفة الأليثيا([7])،
جسد إلهي، مأكلٌ حقٌّ، الذي يأكل منه لا يموت، يثبت في الله، يحيا إلى الأبد، يقوم
في اليوم الأخير.

ثم كشف المسيح
أيضاً عن مفهوم الخمر الذي كان على يدي ملكيصادق مجرد خمر بركة يفيد التعضيد
المستمر الزمني أي بمفهومه الدائم بالنسبة لإبراهيم ولنسله؛ فإذا به على يدي
المسيح يُستعلن جوهره الحقيقي:
» دم « دم ابن الله، حيّ بروح أزلي، دم ذبيحة قُدِّمت بحسب المشورة
الإلهية منذ الأزل (لا بداية أيام لها)، وهي باقية أمام الآب تكفِّر عن خطايا
الخطاة وتشفع في المذنبين
» إلى التمام « إلى الأبد (لا نهاية أيام له) » هذا هو دمي
الذي للعهد الجديد … يُعطَى لمغفرة الخطايا، وحياةً أبديةً لكل مَنْ يتناول منه
«

وهكذا نرى أن المسيح
بتقديمه تقدمة ملكيصادق نفسها، أي الخبز والخمر، أراد أن يُلفت أنظارنا إلى شخصه
أولاً ثم إلى الأسرار الكثيرة والمزدحمة في هذه التقدمة، لنأخذ كل قيمتها الروحية
من نموذجها الأول عند ملكيصادق ونُضيف إليها ما استعُلن في شخص المسيح وبواسطته!!

ولكن لم نُعدم شارحاً
بارعاً يخوض في مجال هذه العلاقة السرية المبدعة بين ملكيصادق والمسيح وتقدمة كل
منهما. فعن أفضلية ذبيحة ملكيصادق على الذبائح الموسوية يقول العلاَّمة الأسقف
يوسابيوس القيصري أنه ولو أن الذبائح الموسوية عند اليهود كانت تُحتسب أنها خطوة
نحو الإعداد وسبق تصوُّر لما سيكون عليه العهد الجديد، غير أنها تُعتبر في نفس
الوقت نكوصاً وتقهقراً في المفهوم العام للكهنوت، لأن الكهنوت في إسرائيل التزام
من جهة الذبائح الدموية أن يكون من اختصاص سبط واحد فقط فلا يقربه أحد من بقية
الأسباط قاطبةً، في حين أن كهنوت ملكيصادق كان كهنوتاً عاماً (مسكونياً) لا يقتصر
على حالة خاصة: [فملكيصادق لم يختاروه من بين الناس ولا دهنوه بزيت من صُنع البشر.]([8])

ويعود يوسابيوس القيصري
فيرى في النظام اليهودي الذي يلتزم بأن تكون العبادة والذبائح في مكان واحد محدد
هو هيكل أورشليم أنه بجوار ما يشير إليه هذا النظام من وحدانية الله ممثَّلة في
الهيكل الواحد المنظور، كذلك يمكن احتساب هذا النظام عينه قصوراً عن بلوغ مفهوم
الملكوت الآتي الذي لا يحدُّه مكان، والذي رآه ملاخي النبي وصوَّره في ذبيحة جديدة
تُقام في كل مكان:
» في كل مكان يُقرَّب لاسمي بخور وتقدمة طاهرة. «(ملاخي 11: 1)

ويقول يوسابيوس القيصري
إن الآباء في الكنيسة يعودون إلى ملاخي النبي مراراً وتكراراً بالشرح والتعليق حول
هذه الذبيحة التي يشير إليها ملاخي باعتبار أنها ما هي إلاَّ ذبيحة الإفخارستيا في
العهد الجديد: [ذبيحة العهد الجديد التي تُقام في كل مكان]([9]).
ثم يربط يوسابيوس القيصري بين ذبيحة ملكيصادق وذبيحة ملاخي النبي قائلاً: [ولأن
ذبيحة ملكيصادق لم تكن محدَّدة بمكان فهي التي يقصدها
» ملاخي النبي «أنها تُقام
في كل مكان.]([10])

ويعود يوسابيوس القيصري
ليفحص هذه العلاقة السرية القائمة بين تقدمة كل من ملكيصادق والمسيح فيقول:

[وكما أن ذلك الذي كان
محسوباً أنه كاهن الأمم
» ملكيصادق «لم يظهر
مستخدماً الذبائح الجسدية بل إنه منح البركة لإبراهيم في الخبز والخمر، كذلك وعلى
نفس الطريقة صنع الرب يسوع، ثم من بعده هؤلاء الذين استمدوا منه كهنوتهم([11])
في جميع أقطار الأمم يتممون جميعاً الذبيحة الروحانية بحسب قوانين الكنيسة
مقدِّمين الخبز والخمر لاستعلان سر الجسد والدم، هذه التي سبق أن رآها ملكيصادق
بالروح القدس لكي يخدم بالصورة والمثال الحقيقة الآتية.]([12])

وهكذا ينتهي يوسابيوس
القيصري إلى أن تقدمة ملكيصادق لإبراهيم كانت تقدمة أكثر روحانية من ذبائح اليهود
الدموية.

ولكن إذا ألقينا نظرة
أكثر عمقاً من نظرة يوسابيوس القيصري نجد أن المسيح بتقديمه أولاً تقدمة
ملكيصادق، وبتقديمها ثانياً في زمن موسوي محدَّد هو وقت ذبح خروف الفصح، وثالثاً
بكشف المسيح عن سر جوهر الخبز والخمر اللذين قدَّمهما باعتبارهما يحملان ذبيحة
نفسه أي جسد حقيقي مكسور ودم حقيقي مسفوك عن العالم، بهذه الاتجاهات الثلاثة يكون
قد جمع المسيح كل السر المتكدِّس في تقدمة ملكيصادق، وأضاف إليه كل السر المتكدِّس
في ذبيحة خروف الفصح الموسوي بكل ظروفه الأولى ومعانيه الروحية العميقة، ثم أضاف
إلى الطقسين وفي نفس الخبز والخمر سرَّه هو كابن الله المتجسِّد الذي قدَّم نفسه
ذبيحةً على الصليب “عن (لأجل) خلاص العالم” كله:
» خذوا كلوا
هذا هو جسدي المكسور لأجلكم … هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي
«(1كو 11: 24و25)، » هذا هو دمي الذي للعهد
الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين!!!
«(مت 26: 28)

إذاً، ففي سر
الإفخارستيا الذي أسَّسه المسيح مساء الخميس وفي مادتيه السريتين المتحولتين،
تتجمع كافة الذبائح بكل قيمها الروحية مضافاً إليها سر المسيح كابن الله وككاهن
أعظم للعالم كله!! وهكذا تكمل في المسيح كل عبادة، وكل ذبيحة وكل عهد، وكل توسط
بين الله والناس، في كل العصور، وعلى المستوى الكلي، فهو البداية والنهاية لكل
علاقة تربط الإنسان بالله والله بالإنسان. أمَّا هذه العلاقة بكل أسرارها العميقة
التي استعلنها المسيح في نفسه فقد استودعها جميعاً في سر الإفخارستيا:
» مَنْ يأكلني
فهو يحيا بي.
«(يو 57: 6)

 

2
الإفخارستيا
والمن السماوي «خبز الخروج»

معروف أن الخروج
أي خروج بني إسرائيل من مصر يبدأ بمعمودية إجبارية
» جميعهم
اعتمدوا …
«(1كو 2: 10)

وهكذا
تقف هذه المعمودية في البحر، ثم بعدها تفجُّر الماء من الصخرة، ثم نزول المن سرًّا
من السماء
دون
أن يراه أحد، تقف كأسرار
Sacraments تسبق وتتصوَّر فيها كل أسرار العهد الجديد.

وبولس الرسول، وهو إمام
الرائين لهذه الأمور السرية التي حدثت كلها من أجلنا حسب إيمانه الحق، يُعتبر أول
مَنْ كشف عن السر المخفي والمكتوم منذ الدهور في هذه الحوادث السرية جداً والتي
بقيت في طيِّ الكتمان مخفية عن الأذهان هذه الأجيال كلها حتى استعلنها وترجمها
بوضوح هذا الرائي الملهَم الحاد البصر!

ويجيء القديس يوحنا
ذهبي الفم ويطابق بين هذه وتلك، إنما في أسلوب مبسَّط، لأن السامعين هم موعوظون
مبتدئون، فيقول:

[بولس الرسول يقول: إن
جميعهم شربوا شراباً روحياً واحداً (وذلك بعد أن خرجوا من البحر الأحمر)، وهكذا
أنتم أيضاً بعدما خرجتم من جرن المعمودية أسرعتم إلى المائدة المقدَّسة، فكما
أكلتم أنتم
» الجسد المقدَّس «أكلوا هم المن من
المائدة العجيبة، وكما شربتم أنتم من الشراب السري، الدم الفادي، كذلك هم أيضاً
شربوا شراباً عجيباً تفجَّر لهم من الصخرة ماءً يجري بغزارة من صخرة صلبة وفي مكان
قفر ليس به ماء!]([13])

وهكذا يبدو أن الإلهام
الذي عاش فيه الآباء الأوائل كان يتركز بشدة حول أسرار الخروج التي اعتبروها
أساساً متيناً يمكن أن يبنوا فوقه كل تعاليمهم حول أسرار العهد الجديد، وكان المن
السماوي والماء المتفجِّر من الصخرة هما المادتين السرائريتين اللتين طالما تصوروا
فيهما خبز وخمر الإفخارستيا التي للعهد الجديد.

أمَّا
من جهة المن فبالرغم من أن التقليد الإسكندري، من كلمندس حتى أُوريجانوس، اكتفى
بالإشارة إلى أن المن يرمز فقط إلى كلمة الله
» اللوغس «وأسموه
المن العقلي، آخذين ذلك عن فيلو الفيلسوف اليهودي، إلاَّ أن كلاًّ من كبريانوس([14])
وأمبروسيوس أشار في تعليمه بوضوح إلى أن المن هو المثال أو التصوير النموذجي
Typos في العهد القديم للجسد المقدَّس
المأكول في خبز الإفخارستيا في العهد الجديد.

فكما نجح القديس
أمبروسيوس في التدليل على أن سر إفخارستيا المسيحيين هي أقدم من كل أسرار اليهود
مستخدماً نموذجها عند ملكيصادق، يعود فيتخذ المن كنموذج
Typos
للإفخارستيا أساساً آخر ليثبت به فعالية أسرار المسيحيين أكثر من أسرار اليهود
فيقول:

[إن المنَّ كان معجزة
كبيرة عندما أمطره الله من السماء على آبائنا الأولين، لقد تولَّت السماء تغذية
الشعب يومياً بالطعام كما هو مكتوب:
» وأكل الإنسان خبز
الملائكة
«(مز 25: 75). ولكن
بالرغم من ذلك فكل الذين أكلوا هذا الخبز ماتوا، أمَّا هذا الطعام الذي تتناولونه
الآن
» جسد المسيح «فهو الخبز الحقيقي
النازل من السماء الذي يمدُّكم بجوهر الحياة الأبدية لأنه جسد المسيح. فكما أن
النور أعظم من الظل والحقيقة أقوى من المثال، هكذا جسد الخالق أعظم من المنِّ الذي
نزل من السماء.]([15])

وهكذا نجد أن القديس
أمبروسيوس أشار بوضوح إلى “التماثل الحقيقي” القائم بين المن والإفخارستيا
باحتساب أن الإفخارستيا هي أعلى من المنِّ كمثيل أو شبيه، ولكن هذا التفاضل أو
التسامي للإفخارستيا على المنِّ لا يعني أن المنَّ في العهد القديم كان مجرد خبز
فاقد لصفة القداسة، بل كان في الحقيقة سرًّا حقيقياً مقدَّساً.

أمَّا ارتفاع قيمة
المنِّ كسرٍّ حقيقي من أسرار العهد القديم فيوضحه القديس أغسطينوس هكذا:

[إن المنَّ قديماً يشير
إلى خبز الإفخارستيا، والمذبح قديماً يشير أيضاً إلى خبز الإفخارستيا، وهذه
أي المنّ ومذبح الله في القديم كانت في الحقيقة أسراراً … الظهور
يختلف ولكن الحقيقة واحدة، فالتغذية تختلف من حيث الجسد: هم أكلوا منًّا ونحن نأكل
شيئاً آخر، غير أن التغذية الروحية كانت واحدة لهم كما لنا.]([16])

وفي الحقيقة إن اعتبار
المنِّ والماء الذي من الصخرة أسراراً فائقة مثيلة لأسرار العهد الجديد ليس من
اجتهاد القديس أمبروسيوس أو القديس أغسطينوس، فالقديس بولس الرسول أوضحها في
رسالته الأُولى إلى كورنثوس بكلام استعلاني عجيب:

+ » جميعهم
أكلوا طعاماً واحداً روحياً وجميعهم شربوا شراباً واحداً روحياً لأنهم كانوا
يشربون من صخرةٍ روحيةٍ تابعتهم، والصخرة كانت المسيح.
«(1كو 10: 3و4)

وبعد هذا التصريح
الخطير للقديس بولس الرسول بأن الصخرة التي كانوا يشربون منها كانت صخرة روحية،
وأنها تابعتهم في تنقلاتهم، يعود بولس الرسول فيبلغ القمة في كشفه
لخفايا أسرار العهد القديم حينما يقول: «والصخرة كانت المسيح»!
مع ملاحظة أنه لم يقل إن الصخرة كانت تمثِّل المسيح ولا كانت رمزاً للمسيح، بل كانت
المسيح.

والمُلاحَظ أنه في نفس
الأصحاح الذي يتكلَّم فيه بولس الرسول عن المنِّ كطعام روحي والماء الذي خرج من
الصخرة كشراب روحي، والذي فيه أشار إلى العقاب الخطير الذي حلَّ بشعب إسرائيل بسبب
عبادتهم للوثن وبسبب زناهم وتذمرهم بعد أن ذاقوا الطعام الروحي والشراب الروحي؛ في
نفس هذا الأصحاح يعود ويطبِّق هذا في الحال على سر الجسد والدم الإلهي فيقول:

+ » أقول كما
للحكماء احكموا أنتم في ما أقول: كأس البركة التي نباركها أليست هي شركة دم
المسيح؟ الخبز الذي نكسره أليس هو شركة جسد المسيح؟ … لا تقدرون أن تشتركوا في
مائدة الرب وفي مائدة شياطين (أي ما ذُبح للأوثان).
«(1كو 10: 15و16و21)

ويعود أيضاً في موضع
آخر ويطبِّق كل ما حصل لشعب إسرائيل على الذين يأكلون ويشربون من جسد المسيح ودمه
بدون استحقاق في أنهم يمرضون ويقعون تحت نفس العقاب والدينونة التي وقع فيها شعب
إسرائيل، الذي بعد أن أكل وشرب من الطعام الروحي والماء الروحي قام للّعب والزنى
فوقع منهم 23 ألفاً بيد الرب في يوم واحد!!

كل هذا يُظهر بغاية
الوضوح تكامل مفهوم السر عند بولس الرسول فيما يختص بالمنِّ وبالماء في العهد
القديم، وليس الماء فقط محسوباً أنه شراب روحاني بل والصخرة نفسها التي كان
ينبع منها الماء كانت عند القديس بولس تحمل سر حضرة المسيح ووجوده الفعلي
([17]) .

كل هذا يضعنا في إحساس
رهيب بخصوص أسرار العهد القديم وعلو شأنها، بالرغم من أنها كانت جسدية وكانت
صورتها الخارجية عادية لا توحي بروحانيتها، ولكن بولس الرسول ينبِّه ذهننا إلى
أنها كانت تطابق، في مفهومها وفعلها وأثرها الرجعي على المخالفين، كلَّ شروط
الأسرار في مفهومنا الآن، مع كل رهبتها المخيفة.

كل هذا أيضاً لم يفُت
على القديس بولس أن يوضِّحه لنا، فهو بعد هذا الكلام مباشرة، يعود فيحذِّر أن
الذين أكلوا من المن السمائي (الطعام الروحي) والذين شربوا من الصخرة (الشراب
الروحي) باستهتار أو بعدم إيمان أو بغير استعداد للتوبة هلكوا:

+ » لكن بأكثرهم
لم يسرَّ الله لأنهم طُرحوا في القفر.
«(1كو 5: 10)

+ » …الذين أخطأوا الذين جثثهم سقطت في القفر، ولمَنْ أقسم لن يدخلوا
راحته إلاَّ للذين لم يطيعوا، فنرى أنهم لم يقدروا أن يدخلوا لعدم الإيمان.
«(عب 3: 1719)

ثم
يعود بولس الرسول ويطابق مطابقة شاملة بين الأسرار في القديم وفعلها الرجعي على
المخالفين، وبين الأسرار في الحاضر وفعلها
الرجعي في المخالفين في مواضع كثيرة ننتخب منها هذه الآيات:

المثل في القديم:

+ » فإني لست
أريد أيها الإخوة أن تجهلوا أن آباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة، وجميعهم اجتازوا
في البحر، وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر، وجميعهم أكلوا طعاماً
واحداً روحياً، وجميعهم شربوا شراباً واحداً روحياً؛
لأنهم كانوا يشربون من
صخرةٍ روحيةٍ تابعتهم والصخرة كانت المسيح. لكن بأكثرهم لم يسرَّ الله لأنهم
طُرحوا في القفر. وهذه الأمور حدثت مثالاً لنا حتى لا نكون نحن مشتهين شروراً
كما اشتهى أولئك …، ولا نَزْنِ كما زنى أُناسٌ منهم فسقط في يوم واحد
ثلاثة وعشرون ألفاً، ولا نجرِّب المسيح كما جرَّب أيضاً أُناس منهم فأهلكتهم
الحيات، ولا تتذمروا كما تذمَّر أيضاً أُناس منهم فأهلكهم المُهلك. فهذه
الأمور جميعها أصابتهم مثالاً وكُتبت لإنذارنا
نحن الذين انتهت إلينا أواخر
الدهور. (لاحِظ هنا أن القديس بولس رأى آخر عهود القديم وأول العهد الجديد). إذاً،
مَنْ يظنُّ أنه قائم فلينظر أن لا يسقط.
«(1كو 10: 112)

يُلاحَظ أن هذه المصائب
كلها حدثت كتأديب وقصاص سريع تلقائي للذين أكلوا الطعام الروحي وشربوا الشراب
الروحي ثم خالفوا وعصوا وصايا الله. أي أن بولس الرسول يشير إلى أن هذه التأديبات
الصارمة هي عقاب حتمي للذين يشتركون في الطعام الروحي والشراب الروحي ولا يسلكون
بالروح بل حسب شهوة الجسد.

ثم يعود القديس بولس
الرسول ويقدِّم التطبيق في العهد الجديد:

+ » لأننا
جميعنا بروحٍ واحدٍ أيضاً اعتمدنا إلى جسدٍ واحدٍ … وجميعنا سُقينا روحاً
واحداً.
«(1كو 13: 12)

+ » إذاً أيُّ
مَنْ أكل هذا الخبز أو شرب كأس الرب بدون استحقاق يكون مجرماً في جسد الرب ودمه،
ولكن ليمتحن الإنسان نفسه وهكذا يأكل من الخبز ويشرب من الكأس، لأن الذي يأكل
ويشرب بدون استحقاق يأكل ويشرب دينونةً لنفسه غير مميِّزٍ جسد الرب. من أجل هذا
فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى وكثيرون يرقدون …، لا تجتمعوا للدينونة.
«(1كو 11: 2734)

والذي نستفيده من هذا
التطبيق الذي استعلنه بولس الرسول بنعمة فائقة بين المنِّ وماء الصخرة من جهة وبين
جسد ودم المسيح من الجهة الأخرى، هو استيضاح صورة الأسرار هنا في الإفخارستيا
ورهبتها المخيفة خصوصاً بالنسبة لعدم الاستحقاق أو المخالفة، وذلك بحسب ما تمَّ في
العهد القديم على المخالفين. فإن كان المنُّ الذي كان يأكله كل الشعب كل يوم بدون
صلاة أو تقديس، وإذا كان الماء الذي يشربونه من الصخرة طول النهار، لم يكن مجرَّد
طعام ساذج ولا شراب عادي مع أنه كان حسب الظاهر لقوام الجسد، بل اعتُبر طعاماً
روحياً وشراباً روحياً يحتاج إلى حياة إيمان وطاعة وعفة وتسليم وشكر([18])
وإلاَّ يصبح هذا الطعام والشراب وبالاً وخراباً للمخالفين وعلَّة موت أكيد؛ فكم يا
تُرى يصير جسد المسيح ودم المسيح بالنسبة للمتناولين منه؟

هذا هو خُلاصة إيمان
العهد الجديد فيما يختص بخطورة الأسرار ورهبتها بحسب بولس الرسول:

+ » مَنْ خالف
ناموس موسى فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة، فكم عقاباً أشر تظنون يُحسب
مستحقاً مَنْ داس ابن الله وحَسِبَ دم العهد الذي قُدِّس به دنساً وازدرى بروح
النعمة.
«(عب 10: 28و29)

ولكن إذ نستمر في المطابقة
بين المن السمائي وبين خبز الإفخارستيا نجد أوجه المماثلة تمتد أيضاً بحسب واقع
الكتاب المقدَّس فتشمل:

أولاً: التعميم:

فكل شعب إسرائيل أُعطي
أن يأكل المن، هكذا نجد في سر الإفخارستيا كيف أن المسيح يوضِّح عمومية هذا السر
بنوع الأمر والهبة في آنٍ واحدٍ:
» خذوا كلوا منه كلكم،
خذوا اشربوا منه كلكم.
«(انظر: مت 26: 26و27)

ثانياً: التكرار:

فالمن يؤكل كل يوم،
والإفخارستيا تُقدَّم باستمرار:
» كلما أكلتم … «(1كو 26: 11). وهنا صفة التكرار لسر الإفخارستيا تأخذ ملامحها
السرية من نزول المن من السماء كل يوم باعتباره طعاماً لقوام الحياة «خبزنا الذي
للغد أعطنا اليوم»،
وهذا ما يميز الإفخارستيا عن المعمودية التي لا تُمنح
إلاَّ مرَّة واحدة في الحياة، كما خرج شعب إسرائيل من مصر مرَّة واحدة فقط وعبروا
البحر الأحمر تحت سحابة الله مرَّة واحدة فقط في حياتهم لم تتكرر قط.

ثالثاً: الأُخروية أو
طعام للمستقبل الدائم:

لقد أعطى اليهود، قبل
زمن المسيح، بواسطة الربيين الملهمين صفة الإسخاتولوجية أي الحياة
الأُخروية للمنّ، فيقول التلمود هكذا:

[فكما أن الله أطعم
شعبه أثناء الخروج من المنِّ كطعام إعجازي مدهش، فهو عتيد أيضاً أن يُطعم الشعب في
آخر الأيام في خروجهم العتيد أن يكمِّلوه.]([19])

ولقد ظل هذا التعبير
الإسخاتولوجي أي الأُخروي يُنسب للمنِّ كطعام للحياة المستقبلة حتى تسجَّل في سفر
الرؤيا ليوحنا الرسول:
» مَنْ يغلب فسأعطيه أن
يأكل من المنِّ المُخفَى
«(رؤ 17: 2). وقد وضع الكتاب المقدَّس المنَّ على مستوى شجرة الحياة
التي في وسط الفردوس عندما قال يوحنا الرسول أيضاً:
» مَنْ يغلب
فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله.
«(رؤ 7: 2)

وهنا أي
في سفر الرؤيا يُعتبر المنُّ استعلاناً مجدَّداً لهذا السر القديم
يشرح كيفية الاشتراك اليومي أي الدائم في بركات وإنعامات الله في الحياة الآتية،
أي في الملكوت الآتي، حيث المنُّ هنا يُستعلن كطعام للحياة الأبدية.

ولكن المعروف أن
الإفخارستيا أي جسد المسيح ودمه هما طعام الحياة
الأبدية:
» الخبز الحي الذي نزل من السماء «(يو 51: 6) حسب قول المسيح: » آباؤكم
أكلوا المنَّ في البرية وماتوا. مَنْ يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد
«(يو 6: 49و58)، » الخبز الذي أنا أُعطي
هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم
«(يو 51: 6)، أي أن الإفخارستيا هي في الحقيقة المنُّ الحقيقي،
الطعام الإسخاتولوجي للحياة المستقبلة، طعام الحياة الدائمة أو الأبدية الذي كان
المنُّ في سيناء مجرد مثال له وجاءت الإفخارستيا وأكملت تحقيقه وكشفت السر المخفى
فيه.

ومن هنا يتضح أن
الإسخاتولوجية أي صفة الأُخروية التي تلازم كلاًّ من المنّ
والإفخارستيا كطعام الحياة الآتية، جعلت التطابق بينهما شيئاً بديعاً لا ينتهي!

 

3
الإفخارستيا
والماء النابع من صخرة حوريب

الذي لا يدقق في مواقف
المسيح وتصريحاته في الإنجيل يستغرب جد الاستغراب من قول بولس الرسول في رسالته
الأُولى لكورنثوس:
» فإني لست أريد أيها الإخوة أن تجهلوا أن آباءنا
جميعهم كانوا تحت السحابة وجميعهم اجتازوا في البحر وجميعهم اعتمدوا لموسى في
السحابة وفي البحر وجميعهم أكلوا طعاماً واحداً روحياً وجميعهم شربوا شراباً
واحداً روحياً لأنهم كانوا يشربون من صخرةٍ روحيةٍ تابعتهم والصخرة كانت المسيح
«(1كو 10: 14). من أين أتى الرسول بهذا الاستعلان العجيب
أن الصخرة كانت المسيح؟؟

يخبرنا إنجيل يوحنا في
الأصحاح السابع عن عيد المظال، وبالأخص اليوم الأخير منه، كيف وقف يسوع ونادى
قائلاً:
» إن عطش أحد فليُقبل إليَّ ويشرب «(يو 37: 7). فما قصة هذا القول؟

كان من أبدع طقوس اليوم
الأخير في عيد المظال أن يسير رئيس الكهنة مع فرقة من اللاويين حاملين جرَّة من
الفضة الخالصة وكانت سابقاً من الفخار يملأونها ماءً من
بركة سلوام ويتقدمون نحو الهيكل وهم يرددون المزمور الخاص بإعالة إسرائيل في
البرية وقصة خروج الماء من الصخرة في جبل حوريب، وكيف ظل يرتوي الشعب العطشان من
هذه الصخرة أربعين سنة.

وفي أثناء مرور هذا
الموكب التقليدي ويسوع واقف في الهيكل، وبمجرد تفريغ الجرَّة المحلاَّة بالفضة على
المذبح (وكسرها على المذبح حتى يتفجَّر الماء منها إذا كانت من الفخار)، نادى يسوع
قائلاً:
» إن عطش أحد فليُقبل إليَّ ويشرب … مَنْ آمن بي كما قال
الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي.
«(يو 7: 37و38)

كانت هنا الإشارة في
هذه المناسبة شديدة الوضوح، كاد المسيح يقول فيها: «أنا هو صخرة حوريب. أنا الذي
سقيت آباءكم في البرية أربعين سنة ماءً حيًّا، تعالوا إليَّ،
آمنوا بي
حتى تستقوا مني لا ماءً يروي العطش بعد بل ماء من جنبي المطعون، ماء فيه الحياة،
فيه الروح القدس الذي إن أخذتموه يظل ينبع في أعماقكم ويخرج من بطونكم أنهار ماء
حي
«

وكان قول المسيح هذا
وفي هذه المناسبة بالذات شديد الوطأة على رؤساء الكهنة والفريسيين حتى إنهم أرسلوا
ليقبضوا عليه!!! لأن قوله هذا كان تحدِّياً لطقوس الهيكل بل إلغاءً لمفهومها
التقليدي القديم، فالصخرة ليست كما ظنوا تاريخية بل
روحية، والماء لم يكن مجرد ماء من صخرة حوريب للذكرى والطقس، بل روحاً نابعاً من
صخر الدهور، سقى الآباء ولا يزال وسيظل حتى إلى الأبد يسقي كل الآتين إليه!!

هذا
كله التقطه بولس الرسول بروحه الشفافة وترجمه بأسلوبه السري، فأعطانا صورة سرائرية
عجيبة لماء حوريب
» شراباً
روحياً
«!! وإسماً حبيباً رهيباً للصخرة التي أنبعته!! «والصخرة
كانت المسيح»!!

وأمَّا بولس الرسول
فكان بقوله هذا مُلهِماً للآباء في الكنيسة منذ البدء الذين أخذوا يطبِّقون سر
الماء النابع من صخرة حوريب المضروبة، على سر الماء النابع من جنب المسيح المطعون،
مع سر الماء الممزوج في خمر الإفخارستيا. وهنا القول للقديس أمبروسيوس:

[الماء نَبَعَ من
الصخرة لليهود؛ والدم نَبَعَ لكم من المسيح. الماء روى عطشهم ساعة؛ والدم يطفىء
عطشكم إلى الأبد. فاليهود شربوا وعادوا عطاشى؛ أمَّا أنتم فإذا شربتم فلن تعطشوا
أبداً. ذاك كان مثالاً؛ وهذا هو الحقيقة. فإذا كان المثال هكذا يظهر لكم عجيباً
فكم تكون الحقيقة التي مِثَالها أنتم توقرونه هكذا!!]

وأيضاً الكلام هنا
للقديس أمبروسيوس:

[هم شربوا من الصخرة
الروحية
التي كانت ترافقهم، وهذه الصخرة كانت المسيح، اشربوا أنتم أيضاً حتى
يرافقكم المسيح. انظر السرَّ: موسى كان هو النبي؛ والعصا التي ضرب
بها الصخرة كانت هي كلمة الله. والماء تفجَّر وشعب الله ارتوى؛ هكذا
الكاهن يقرع (بالصلاة) فيتفجَّر ماء الحياة داخل الكأس لحياة أبدية.]([20])

ثم يأتي القديس
أغسطينوس ويتبع في استعلانه كلام بولس الرسول:

[وجميعهم شربوا شراباً
واحداً روحياً، غير أنهم شربوا بحسب المحسوس الظاهري نوعاً ونحن نشرب نوعاً آخر،
الاختلاف هنا في الظاهر أمَّا بحسب القوة الخفية فكلاهما يشيران إلى نفس الشيء.
لأن الصخرة كانت المسيح.]([21])

 

4
الإفخارستيا وخروف الفصح

ما معنى الفصح؟

إن الترجمة التي اعتمد
عليها آباء الكنيسة في شرحهم للفصح تتجه اتجاهينمتقاربين:

الاتجاه الأول: ويعني به » العبور في
«diabasis
di£basij وينصبُّ هذا الاتجاه في الشرح على عبور
بني إسرائيل في البحر الأحمر.

والاتجاه الثاني: عند بعض
الآباء كان يعني
» العبور على «hyperbasis Øpšrbasij وينصبُّ الشرح حينئذ على عبور الملاك المهلك على
البيوت
التي أخذت علامة
دم الخروف دون أن يصيب الابن البكر فيها.
ولذلك سُمِّي الخروف بخروف
«الفصح»، أي الذي بواسطة دمه
يعبر الملاك المهلك. وهذا الاتجاه الأخير هو
السائد عند
الآباء الذين أولوا الموضوع اهتماماً وعمقاً لاهوتياً، وهو أيضاً
بحسب
التدقيق اللغوي الأقرب إلى معنى الكلمة الحقيقي.

والآن من الواضح أن
عبور الملاك المهلك على البيوت التي أخذت علامة الدم دون أن يصيب الابن البكر فيها،
هو مَثَل بارع لتصوير مفهوم الفداء عملياً.

وأمَّا التطبيق
اللاهوتي الذي يقصده الكتاب المقدَّس من هذا المثل فهو أن الحكم بالهلاك صادر
تلقائياً ودائماً ضد العالم بسبب الخطيئة التي سادت فيه وعليه، ولكن الله قام
بعملية فداء عظمى تغطِّي كل الأجيال في كل الدهور وتشمل الذين يقبلون دم المسيح
كعلامة خلاص، وهذا الدم إذ يلزم أن يكون موجوداً باستمرار وفي كل مكان وزمان،
قدَّمه الله من عنده بروحٍ أزلي ثم استودعه في سرِّ الكنيسة، أي سر الإفخارستيا،
مجاناً؛ ولو أن سر المعمودية لا يخلو أيضاً من تعبير عن هذا الفداء والعبور أي
الفصح، فعندما يُدفن الشخص في الماء يكون كمَنْ مات (تعبيراً عن الطوفان)، ثم
عندما يقوم من الماء يُدهن بزيت الميرون بعلامة الصليب (دم المسيح) فيكون قد نجا
بالصليب وقَبِلَ الفداء بدم المسيح كعلامة حتى لا يموت مع العالم.

ولقد انحدر إلينا
التقليد التفسيري بخصوص هذا الموضوع مبكراً جداً منذ أيام القديس يوستين الشهيد،
إذ يقول:

[إن الذين خلصوا من شعب
إسرائيل في مصر إنما خلصوا بدم الفصح الذي مَسحوا به قوائم أبوابهم وأعتابها، «لأن»
الفصح كان المسيح
الذي ذُبح فيما بعد!! فكما أن دم الفصح خلَّص الذين كانوا في
مصر، هكذا دم المسيح يقي (يحفظ) من الموت الذين يؤمنون به. ولكن هل هذا يعني أنه
إذا لم تكن هذه العلامة موجودة على الأبواب كان الله يُخطىء في معرفة (الذين له)،
كلاَّ ولكن هذه العلامة
أي الصليب([22]) كانت
استعلاناً مُسْبَقاً عن الخلاص الذي سيتم بدم المسيح الذي به يخلِّص جميع الخطاة
في كل الأمم عندما يقبلون الفصح عن خطاياهم ولا يعودون يخطئون.]
([23])

هنا يتركَّز تعليم
القديس يوستين (وهو تقليد سبق أن انحدر إليه أيضاً) أن الذي خلَّص شعب إسرائيل في
مصر وفداهم من ضربة الملاك المهلك هو سر دم المسيح الذي رُسم على الأبواب كعلامة
الصليب، أمَّا دم الخروف فكان هو الظاهر من هذا السر. وهذا واضح في قوله: «لأن
الفصح كان المسيح الذي ذُبح فيما بعد»،
بل وذُبح في مصر بحسب سفر الرؤيا (رؤ 8:
11).

وهكذا يتجه جميع الآباء
فيما بعد في هذا الاتجاه السرائري التقليدي فيما يختص بدم خروف الفصح، وبوضوح شديد
يسلِّمنا هيبوليتس أسقف روما نفس هذا التقليد في عظته الفصحية:

[إن الدم (دم خروف
الفصح) عندما مُسح به كعلامةٍ صار هو السر
Mysterion القائم في
ختم دم المسيح، نعم إن هذه العلامة لم تكن هي ذات الحقيقة بعد ولكنها مثال
Typos للحقيقة الآتية: إن كل الذين يأخذون هذا الدم ينطبع على نفوسهم
كما حدث وانطبع على بيوت اليهود عندما مُسحوا
به كأمر الناموس، فكل الذين (أخذوا هذه المسحة) يعبر عنهم
الهلاك.

فالدم كعلامة هو للخلاص،
كما كانت على البيوت كذلك على النفوس، لأن النفوس بالإيمان وبالروح القدس ما هي
إلاَّ بيوت (هياكل) مقدَّسة. هذا هو سر
Sacrament Mysterion البصخة
(الفصح) العامة للعالم كله!!]([24])

ونلاحظ في كلام
هيبوليتس لاهوتاً فصحياً بمعنى الكلمة يسير في خط سرائري مُبدع، فدم المسيح حينما
ينطبع على النفس البشرية كعلامة صليب تتقدَّس النفس: [وعلامة الصليب بدم المسيح لا يمكن أن تتم كختم دموي على
النفس إلاَّ بالمعمودية والإفخارستيا
معاً،
ففي المعمودية نأخذ علامة الصليب فقط، وفي الإفخارستيا تمتليء هذه العلامة بالدم

المحيي!!!].

وقد أسمى هيبوليتس ختم
الصليب بدم المسيح الذي ينطبع على النفس باسم
» سر البصخة «أو » السر الفصحي
«Paschal Mystery
الذي يُفيد عبور
الهلاك عن النفس، الذي يسري الآن في العالم كله وفي النفوس المقدَّسة، فأصبح سرَّ
العالم الفصحي.

ونأتي الآن إلى تعبيرات
القديس كيرلس الأُورشليمي للموعوظين ببساطتها ووضوحها:

[لقد أرسل الله موسى لكي
يخلِّص شعب إسرائيل من عبودية المصريين، فأمرهم أن يمسحوا أعتاب أبوابهم العليا
وقوائمها بدم الخروف حتى يعبر المهلك متجاوزاً هذه البيوت التي عليها علامة الدم،
والآن نترك القديم ونأتي إلى الجديد، من المثال
Typos نأتي إلى
الحقيقة. فهناك أرسل الله موسى إلى مصر؛ وهنا نجد الله يرسل المسيح إلى العالم.
هناك كانت رسالة موسى أن يخلِّص الشعب المضطهَد من مصر؛ وهنا الرسالة أن ينقذ
المسيح الناس الذين طغاهم العالم واستعبدهم بالخطية. هناك دم الخروف أَبْعَدَ
المهلك؛ وهنا دم الحمل الحقيقي يسوع المسيح يجعل الشياطين تهرب منَّا.]([25])

ويذكر هذا الموضوع
القديس غريغوريوس النزينزي في دفاعه عن معمودية ومناولة الأطفال الصغار بقوله:

[إنه
من الأفضل أن يعتمد الطفل وهو غير مدرك للعماد من أن يموت وهو لم يأخذ الختم
والانفتاح، ولنا في الختان القديم برهان على ذلك، فهو كان يُجرَى على الأطفال في
يومهم الثامن الذي هو مثال ختم المعمودية. وأيضاً نجد البرهان على ذلك في مسح
أعتاب وقوائم الأبواب (في مصر) بالدم، الإجراء الذي حفظ أبكار بني إسرائيل وهو
قائمٌ على حقيقة كانوا يجهلونها.]([26])

والقديس كيرلس الإسكندري يقول في مقاله الملقَّب ب“العبادة”، وذلك في معرض حديثه عن عيد الفصح:

 

[إن رش الدم يخلِّص
الذين يُمسحون به، هذه حقيقة مُثْبَتةٌ في الكتاب المقدَّس حينما أمر أن مداخل
البيوت يلزم أن تُمسح بالدم، هكذا سر المسيح
Sacrament
فإنه يمنع دخول الموت، بل ويجعل الموت عديم القدرة بالنسبة لمَنْ يتقبَّله (في المعمودية
والإفخارستيا)، فلهذا إذ قد مُسحنا بالدم المقدَّس نصير أقوى من الموت ونزدري
بالفساد.]([27])

ويعود أيضاً القديس
كيرلس الإسكندري مشيراً إلى قوة الأسرار قديماً في دم خروف الفصح وأنها لم تتناقص، غير أنه يطابق مسح أعتاب
الأبواب وقوائمها بدم خروف الفصح على ختم المعمودية:

[وما فعله دم خروف
الفصح مع اليهود، هذا تفعله المعمودية الآن مع المسيحيين لأن مفعول هذه الأسرار لا
يمكن أن يتناقص.]([28])

وفي عظة منسوبة للقديس
يوحنا ذهبي الفم تحمل طابع القديس كيرلس الإسكندري التقليدي نجد الإشارة واضحة إلى
فعل الدم الإلهي فينا تطبيقاً لفعل خروف الفصح قديماً:

[لأنه لا وسيلة لنا
الآن أن ننجو من الملاك المهلك إلاَّ بالدم الإلهي الذي بمحبته سكبه من أجلنا،
وبهذا الدم نحصل على الروح القدس، لأن الدم والروح هما على صلة حتى إننا بالدم
الذي من طبيعتنا نحصل على الروح الذي ليس من طبيعتنا، وبهذا ينغلق باب الموت
بالنسبة لنفوسنا، هذا هو ختم الدم.]([29])

وبهذا القول المركَّز
نجد أمامنا منهجاً منسجماً في اللاهوت السرائري فيما يختص بالعماد والإفخارستيا
معاً ممثَّليْن في دم خروف الفصح: فكل مَنْ يأخذ المسحة المقدَّسة في المعمودية
بعلامة الصليب على الجبهة يكون قد حصل على ختم الدم الإلهي، الذي هو استعلان لسرِّ
مسح دم خروف الفصح على أبواب بيوت شعب الله. وهذا الختم الإلهي يبدأ في الحال يفعل
فعله الخفي، فهو أمام الله علامة انعتاق من الهلاك، ولأن هذا الختم يكمُل بالدم
الإلهي بصورة غير منظورة في سرِّ الإفخارستيا، فإنه يكون واسطة لانسكاب الروح
القدس في الحال الذي يجعل هذا الختم روحياً وأبدياً، ولأن كل مَنْ يحصل على الروح
القدس لا يبقى بعد تحت سلطان الموت.

هكذا يصير دم المسيح
عبوراً على الموت وقيامة في الحياة الأبدية.

الإفخارستيا وأكل خروف
الفصح:

والآن نأتي إلى موضوع » أكل خروف
الفصح
«باعتباره » وليمة الفصح «وما تحمله
من معانٍ سرائرية تتصل بالإفخارستيا اتصالاً وثيقاً، وكانت موضع تأملات محبَّبة
لدى الآباء في كل زمان.

وينبغي لنا أن نشير هنا
إلى أن
» أكل الفصح «كان يُعتبر قبل زمن
المسيح لدى كافة اليهود، وبالأخص الربيين وكل شارحي التوراة، أنه مثال
Typos للملكوت الآتي، وأنه وليمة المسيا الآتي!! فكان اليهود يحتفظون
دائماً أثناء أداء طقس الفصح أي أثناء أكل خروف الفصح كل عام
يحتفظون بتذكار حي للفداء الذي تممه الله لهم قديماً، وفي قلوبهم في
نفس الوقت آمال قوية في فداءٍ آتٍ يكمِّل حقيقة الفداء الأول!

ونجد في كلام المسيح ما
يشير بوضوح إلى هذه الحقيقة:

+ » شهوةً
اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم، لأني أقول لكم: إني لا آكل منه بعد
حتى يُكمَل في ملكوت الله.
«(لو 22: 15و16)

إذاً، فوليمة الفصح
ممتدة إلى الدهر الآتي حيث يُستكمل استعلانها في ملكوت الله!!

ومن هذا يتبيَّن أن
الفصح الذي أكله المسيح مع تلاميذه قبل الآلام له أيضاً امتداد في وليمةٍ آتية،
وليمة المسيا في ملكوت الآب، التي يدعو المسيح إليها منذ الآن خواصه القديسين.

ولكن ما هو وضع
الإفخارستيا هنا في هذا الدهر؟

هنا الإفخارستيا تقف
كمرحلة تهيِّيء وتعدُّ المؤمنين ليكونوا من خواصه، من لحمه ودمه، ليكونوا من
مدعويه في وليمته السمائية في عشاء عرس الخروف. فالإفخارستيا تقف بين وليمة الفصح
في العهد القديم وبين وليمة المسيح في الدهر الآتي في ملكوت الآب، فبالنسبة لوليمة
الفصح القديم هي استعلان حقيقي له كسرِّ النجاة والخلاص والفداء.

فالإفخارستيا
هي سر الفصح الجديد للعالم كله، سر الفداء والخلاص الذي أُكمِل، والذي يؤكل فيه
جسد ودم المخلِّص والفادي. أمَّا بالنسبة لوليمة المسيح في الدهر الآتي في ملكوت
الآب،

فالإفخارستيا هي استعلان مُسْبَقٌ لها، وسَبْقُ تَذَوُّقٍ، ونوالُ عربونٍ والحصول
على شركة مع العريس منذ الآن.

فالإفخارستيا هي الآن
استعلان، من داخل الزمان، لملكوت الله على الأرض، حيث الكنيسة في لحظة تقديم
الإفخارستيا تكون بمثابة استعلان زمني لأورشليم السمائية النازلة من السماء سرًّا،
والمذبح يكون بمثابة عرش المسيح غير المنظور، وحوله كل جنوده وخواصه من ملائكة
وأرواح قديسيه، حيث المسيح يكون هو الذي يأخذ بيديه الخبز والخمر ويُطعم خواصَّه
من جسده ودمه، كامتدادٍ دائم وفعَّال لما فعله مع تلاميذه يوم الخميس.

فالإفخارستيا
هي استعلان دائم لسر المسيح الحاضر والآتي، ولا يُستعلَن هذا السر منذ الآن إلاَّ
لخواصه!

وعلاقة الإفخارستيا
بخروف الفصح هي من التقاليد الكنسية الأُولى، فنجد أول إشارة لها عند هيبوليتس في
عظته عن الفصح:

[أنتم تأكلون في بيت
واحد
([30])
لأننا مجمع واحد، كنيسة واحدة، حيث يؤكل الجسد المقدَّس الذي للمسيح.]([31])

هيبوليتس هنا يرى
الإفخارستيا أي الجسد المقدَّس عاملاً أساسياً ليجعل
المؤمنين عائلة واحدة (بيت واحد)، ثم عاملاً أساسياً ليجعل الجماعة المتفرِّقة
مجمعاً متحداً، والمجمع المتحد وحدة كنسية
أي جسد سرِّي، وهكذا يرى أنه كما كان خروف الفصح لا تأكله إلاَّ عائلة مجتمعة

ومتحدة ومختومة بالدم، هكذا سر الإفخارستيا
تنبعث منه هذه القوى السرية: يصالح ويجمع ويوحِّد
ويقدِّس!!

والمعروف في التقليد
اللاهوتي السرائري أن القديس كيرلس الإسكندري هو أول مَنْ عمَّق المفهوم السرائري
للإفخارستيا باعتباره استعلاناً لوليمة خروف الفصح القديم:

[إن أكل الفصح وقت
المساء (أي قبل بزوغ فجر يوم حريتهم العظمى وخروجهم من أرض العبودية) يعني أن سر
الإفخارستيا (الذي هو استعلان له) قد احتُفِظَ به لهذا الدهر فقط لأن
الكتاب يُشدِّد على أن يكون أكل اللحم ليلاً فقط، وكلمة
» ليلاً «تشير إلى
هذا الزمان، لأن هذا هو ما يقوله بولس الرسول. فطالما نحن في هذا العالم فبواسطة
الجسد المقدَّس والدم الثمين نستطيع فقط أن نتحد بالمسيح، إنما بطريقةٍ ليست بعد
كاملة. ولكن حينما نأتي إلى يوم استعلان قوته ومجده ونرتفع إلى بهاء مجد القديسين،
فنحن حينئذ نتقدَّس هناك بطريقة أخرى معروفة لديه، عندما يوزع بركات الدهر الآتي.]([32])

كذلك يرى القديس كيرلس
الإسكندري أن عمل الإفخارستيا الأساسي يتناسب مع هذا الدهر، وسيُرفع هذا الجانب
بحلول فجر يوم المسيح حينما يظهر في مجده:

[إن الاشتراك في الجسد
المقدَّس والشرب من الدم المخلِّص يحوي ضمناً الاعتراف بالآلام والموت اللذين
تقبَّلهما المسيح من أجلنا، كما قال الرب على لسان بولس الرسول عند تأسيسه لقانون
هذا السر:
» فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت
الرب إلى أن يجيء
«(1كو
26: 11). ففي هذا العالم باشتراكنا في هذه الحقائق نحن نظل نُبشِّر بموته إلى أن
يجيء، فحينما نصير في مجد الآب لن يكون هناك زمان للاعتراف بآلامه، بل نتأمله في
صفاءٍ كالله وجهاً لوجه.]([33])

يلاحِظ القارىء هنا أن
القديس كيرلس الإسكندري يركِّز في الإفخارستيا على آلام الرب وموته كجسد مكسور ودم
مسفوك باعتبارهما عملاً جوهرياً يختص بحياتنا الحاضرة (الآلام شافية وموت الرب
مُحيي). ولكن لا يخفى أن القديس كيرلس هنا يربط خفياً بين خروف الفصح المذبوح والمأكول على أعشاب مُرَّة وبين موت الرب
وآلامه، هنا طقس الفصح القديم يكشف ما
فيه من عجب الأسرار المخفية، وهؤلاء الآباء الملهَمون يفتحون عيوننا على حقائق
عظيمة كانت
مخفية.

ولكن لئلاَّ يظهر
القديس كيرلس الإسكندري كأنه مجتهد من ذاته، يلزم أن يُرجع إلى الإنجيل فهل من
إشارة توضِّح مصادر إلهام هؤلاء الآباء؟

هناك إشارة صغيرة في
إنجيل يوحنا، ولكنها تفتح مجالات للفكر اللاهوتي لانهائية بالنسبة لسر الإفخارستيا
وارتباطه بخروف الفصح، ففي الأصحاح التاسع عشر يعلِّق كاتب الإنجيل على سرعة موت
الرب على الصليب وعدم اضطرار الجند لكسر ساقيه تعجيلاً لموته، هكذا:
» لأن هذا كان
ليتم الكتاب القائل عظمٌ لا يُكسر منه!!
«(يو 36: 19)، وما هو الكتاب هنا إلاَّ سفر الخروج وهو يصف كيفية
ذبح الخروف وأكله:
» في بيت واحد يؤكل، لا تُخرِج من اللحم من البيت
إلى الخارج وعظماً لا تكسروا منه.
«(خر 46: 12)

إذاً،
يوحنا الرسول يرى في موت الرب تكميلاً للسر المكتوم في خروف الفصح منذ الدهور!!
ويرى في طقس وترتيب ذبح الخروف وأكله استعلاناً إفخارستياً دقيقاً يكاد يكون على
مستوى حرفي!!

كذلك لا نُعدم عند
القديس بولس الرسول شهادة مؤكدة لذلك، فقد جاء في الرسالة الأُولى لكورنثوس:
» لأن فصحنا
أيضاً المسيح قد ذُبح لأجلنا.
«(1كو 7: 5)

هنا
يبدو العلم اللاهوتي السرائري للقديس كيرلس الإسكندري كتابياً بالدرجة الأُولى،
حيث يظهر لنا بوضوح أهمية العلم اللاهوتي السرائري القائم في طقس خروف الفصح من
الوجهة الإفخارستية.

ويمتد القديس كيرلس
الإسكندري في استعلانه لدقائق سر الإفخارستيا من الوجهة الروحية والسلوكية أيضاً،
وذلك بالمطابقة على ما جاء وتأسس في طقس خروف الفصح قديماً، إذ يقول القديس كيرلس
الإسكندري في مقاله عن العبادة:

[إن كل مَنْ يأكل
المسيح، أي يشترك في جسده المقدَّس وفي دمه، يلزم عليه أيضاً أن يحصل على روحه
القدوس ويجاهد ليحيا في داخل تدبير المسيح وفكره، أي يدرك كل ما في باطن
المسيح. هذه الحقيقة واردة ومقترحة لنا في الكتاب المقدَّس كما جاء
في سفر الخروج أنه ينبغي أن تؤكل رأسه مع أكارعه (رجليه) وجوفه،
وفي الحقيقة فإن جوفه يعني قلبه، أو أليس القلبُ تعبيراً عن الروح؟ أمَّا
أكارعه أي رجلاه فتعني أعماله الصالحة وسلوكه، أمَّا
بقية الجوف فيعني حياته الداخلية المخفية.]([34])

وقد يبدو لنا هذا
التدقيق عجيباً، ولكن هكذا بدأ القديس يوحنا الرسول في إنجيله، وهكذا سار الآباء
على نفس الخط يشرحون ويدققون في أوصاف خروف الفصح باعتباره المثل
Typos الذي يحمل كل ما يمكن أن يُستعلن عن المسيح وفي الإفخارستيا
بالتالي.

ولكن الذي نخرج به من
هذه المطابقات الحرفية أن الإفخارستيا ينبغي أن تحمل لنا كل ما للمسيح، لأننا فيها
نأكل المسيح كله، بمعنى أنه ينبغي أن نحمل كل صفاته ونتحلَّى بفكره وبروحه ونسلك
في نفس طرقه.

ولا يفوتنا هنا أن ننبه
القارىء إلى أن القديس كيرلس الإسكندري في تطبيقاته هذه الأكثر قبولاً وإلهاماً
يُعتبر أول مَنْ خطَّط منهجاً روحياً كتابياً عن الحياة الداخلية للمسيح أو مع
المسيح.

وتأتي المقالات
المنسوبة للقديس يوحنا ذهبي الفم مطابقة للتقليد الذي وضعه القديس كيرلس الإسكندري
في تطبيقاته الروحية والأدبية السلوكية على الإفخارستيا كما استوحاها من طقس خروف
الفصح، ففي مقال له عن الفصح يقول:

[الناموس كان يُنهي
عن أكل لحم الخروف نيِّئاً …،
وهذا بالنسبة لنا يلهمنا معانيَ عظيمة، فهو
يعني أولاً: أنه لا ينبغي أن نقترب من الاشتراك في جسد الرب ونحن في حالة
إهمال وكسل، وثانياً: أو بدون توقير زائد، وثالثاً: أو بدون أن
نُستأهل للإتحاد بجسده بالأعمال الصالحة. وبولس الرسول أيضاً يرى مثل ذلك في الذين
يحوِّلون الإفخارستيا إلى وليمة فخمة فيحوِّلون معنى الشركة المقدَّسة إلى وسيلة
للأكل والشرب، وهؤلاء يرفضهم الرسول لأنهم لا
يقتربون بالقداسة إلى ما هو مقدَّس فيقعون تحت الدينونة كمستبيحين. رابعاً: يعني
أولئك
الذين لا يهيئون جسمهم للإتحاد
اللائق بجسد المسيح حتى يصيروا مستحقين لأخذ الروح
القدس.]([35])

والآن، وقد أَحَطْنا
بالعلائق السرائرية المتينة القائمة بين سر الإفخارستيا وخروف الفصح القائمة على
الكتاب المقدَّس وإلهامات الآباء، يلزم أخيراً أن لا يتوه عن بالنا أن المسيح
أسَّس سر الإفخارستيا من داخل وليمة الفصح الأخير نفسها، هذه الوليمة التي كانت
محسوبة لدى اليهود أنها وليمة خلاصية لفداء تمَّ وفداء مُنتَظَر، وليمة عهد تأسس
بدم خروف الفصح في مصر، انتظاراً لعهد جديد بالمسيا([36]).

هنا أكمل المسيح هذا
الفداء المنتظر الذي ظل ينتظره اليهود كل سنة في كل فصح، على مدى الأجيال السالفة،
هنا أعلن لهم العهد الجديد حيث المسيح نفسه هو حَمَل الفصح الجديد ودمه هو دم
العهد الجديد وجسده هو طعام الفصح الأبدي. لقد انتهى الفصح الذي بالمثال، الذي كان
ينبغي أن يتكرَّر كل سنة، وجاء الفصح الحقيقي ليقدَّم مرة واحدة عن كل العالم،
فتظل تأكل منه كل الأمم، في كل الأجيال، وعلى مدى الدهور كلها إلى أن يجيء.

لقد ذُبح المسيح فعلاً
كحَمَل وديع على الصليب، أمَّا هو فقد استودع مُسْبَقاً سرَّ ذَبْحِه وسر جسده
ودمه في وليمة فصحية قوامها خبز وخمر حملها سر الجسد وسر الدم حتى يصير أكلهما
بالإيمان لا بالعيان.

ولا ينبغي أن يتوه عن
بالنا قط أن عنصر الفصح القديم هو الفداء بدم الخروف، فالفصح حياة قائمة على موت،
لقد عاش الأبكار لمَّا ذُبح الخروف ورُشَّ دمه على الأبواب. كذلك كان الفصح الجديد،
فداءً بدم المسيح، حياة قائمة على موت، لقد مات المسيح لكي يحيا كل مَنْ يتقدَّس
بدمه.

إذاً، فقوام الفصح هو
موتٌ لفداء، ودمٌ للتقديس.

هكذا عرفنا الإفخارستيا
سر آلام وموت:
» فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت
الرب
« » اصنعوا هذا
لذكري
«

ولكنها
ليست ذكرى آلام عقيمة مفردة لواحد قد مات، لأن المسيح الذي مات قام من الأموات.
فالتذكار
هنا شركة في موت لحياة، فكل مرة نقيم الإفخارستيا نموت مع المسيح ونقوم لنحيا معه.
موت المسيح ليس هو موتاً وحسب، بل موتاً لفداء، فكل مرَّة نموت معه نُفدى فنقوم من
الموت!

كان
خروف الفصح الذي يُذبح كل سنة هو السر
Sacrament القائم في العهد القديم بين الله وبين شعب إسرائيل، الذي يقرر حقوقهم في هبات
الاختيار والتبنِّي والاشتراع والمواعيد والنبوَّة سنة بعد سنة.

ولكن لمَّا قام رؤساء
الكهنة والكتبة مع رؤساء شعب إسرائيل على المسيح وذبحوه على الصليب في يوم فصحهم،
توقَّف الفصح القديم من ذلك اليوم ومن تلقاء ذاته، وتوقفت تبعاً لذلك كل حقوقهم
وهباتهم المترتبة عليه، وظهور المسيح أنه الفصح الكبير الحقيقي، فصح العالم كله،
فصح كل زمان ومكان، الذي ظلَّ الفصح القديم يخدم مجيئه إلى أن أتى.

وحينما ذَبَحَ المسيح
ذاته بالنية وسلَّم جسده لتلاميذه ليأكلوه في خبز الإفخارستيا، أعلن نفسه أنه هو
الفصح الحقيقي الجديد، وحينما سلَّمهم دمه في خمر الإفخارستيا ليشربوا منه، ابتدأ
في الحال العهد الجديد وصارت الإفخارستيا ذبيحة فصحية، ذبيحة عبور فوق الموت
والظلمة والجحيم والعالم والخطية والزمن.

إن الكتاب يعلن صراحةً
أن المسيح هو الفصح الجديد:
» لأن فصحنا أيضاً المسيح
قد ذُبح لأجلنا
«(1كو 7: 5)، فصار
جسده حياةً وقيامةً، ودمه عهداً جديداً وغفراناً لخطايا العالم كله!

وفي هذا التقليد
الآبائي السرائري المبدع الذي يدور حول وحدة الأسرار بين الإفخارستيا وخروف الفصح،
يتضح لنا منهج سرائري يقوم على وحدة الأسفار وانسجام العهدين وكمال خطة الله
للخلاص من البداية حتى النهاية.

الإفخارستيا وفطير
الفصح:

كان من ضمن طقس الفصح
أن يؤكل مع الخروف فطير، أي أرغفة خبز غير مختمر، وكذلك يظل هذا الفطير هو طعام
الشعب كله مدة سبعة أيام بعد يوم الفصح. وقد كان عيد الفطير أصلاً
عيداً قائماً بذاته يبدأ في 15 نيسان ويستمر سبعة أيام (انظر: خروج 15: 23، لاويين
23: 68، عدد 17: 28، تثنية 16: 14).

والذي يهمنا من هذا
العيد هو
» نوع «هذا الطعام، وعلاقته
بالفصح، ثم ماذا انحدر إلينا في العهد الجديد من هذا الطقس.

وأول مَنْ ألقى الشرارة
للبدء في استعلان سر هذا الطعام وعلاقته بالفصح هو القديس بولس الرسول، في رسالته
الأُولى إلى كورنثوس:

+ » ألستم تعلمون أن خميرة صغيرة تخمِّر
العجين كله، إذاً، نقُّوا منكم الخميرة العتيقة لكي تكونوا عجيناً جديداً كما أنتم
فطير
Azymes، لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذُبح لأجلنا، إذاً، لنعيِّد ليس بخميرةٍ عتيقةٍ ولا بخميرة الشر والخبث بل بفطير الإخلاص والحق. «(1كو
5: 6
8)

معروف أن الخميرة تكون
دائماً محفوظة أو مخلوطة بعجين مختمر سابقاً أي قديم، أمَّا فطير الفصح فيُعمل
بدقيق جديد من محصول القمح الجديد الذي يكون قد بدأت باكوراته (15 نيسان). أي أن
الفطير في هذا الوقت يشير بوضوح إلى الحياة الجديدة تماماً، فأكْلُ الفطير قديماً
بعد الفصح مباشرةً كان يشير بوضوح إلى حياة الانعتاق الجديدة بعد العبودية
والضيق!!

وتطبيق القديس بولس
الرسول لهذا الطقس في العهد الجديد لا يفيد العودة إلى أكل الفطير، ولكن يفيد
استعلان السر الذي كان مخفياً في هذا الطقس لكي نعيشه بالروح بعد أن عاشه إسرائيل
بالجسد دون أن ينفتح ذهنهم لمعناه العميق.

 القديس بولس هنا
يؤكِّد العلاقة السرية بين أكل الفصح الجديد جسد المسيح ودمه
وأكل الفطير الذي يحمل معنى السلوك في جدَّة
الحياة الخالية من خمير الشر والخبث، فلكي نُؤهَّل لأكل
الفصح الجديد، أي
الإفخارستيا، يلزمنا أولاً أن نكون على استعداد لكي ننقي حياتنا من الصفات
والعادات القديمة بالتوبة الشاملة التي تمثلها المعمودية:
» نقُّوا منكم
الخميرة العتيقة لكي تكونوا عجيناً جديداً
«

هنا العجين الجديد الخالي
من الخميرة هو استعلان واضح للطبيعة الجديدة للإنسان الجديد المولود من فوق من
الماء والروح، المهيّأ والمعدّ والمستحق أن يتقدَّم إلى الفصح الجديد
أي الإفخارستيا بعد العماد، كالفطير الذي يُقدَّم في وليمة الفصح:
» كما أنتم
فطير
«

وهنا بولس الرسول يعود
فيكشف أنه بمجرد أكلنا من الإفخارستيا
» لأن فصحنا أيضاً المسيح
قد ذُبح لأجلنا
« ندخل في عيد أبدي ليس مدته سبعة أيام
بل إلى كمال العمر، نظل نحيا كخليقة
جديدة
في
طبيعة جديدة،
» أنتم فطير «! نغتذي على » الإخلاص والحق «من الفصح
الدائم
» الإفخارستيا «

إذاً، فطير الفصح عند
بولس الرسول كان سرًّا من الأسرار الكثيرة التي كانت مكتومة منذ الدهور في طقوس
وأعياد وحوادث العهد القديم، والتي استُعلنت له. أمَّا سر الفطير، كما استعلنه
القديس بولس، فهو الخليقة الجديدة، الحياة الجديدة للبشرية الخالية من الخبث والشر
المعدَّة منذ الدهور للانفتاح والاستنارة (المعمودية) لقبول سر المسيح
(الإفخارستيا) حتى تكمِّل حياة الإخلاص والحق، ولتكون عجينة واحدة مع المسيح:

+ » فإننا نحن الكثيرين خبزة واحدة جسد واحد
لأننا جميعنا نشترك في الخبزة الواحدة.
«(اكو 17: 10)

وأول مَنْ تكلَّم عن
هذا التقليد التفسيري هو القديس يوستين الشهيد، الذي أضاف معنى جديداً للخميرة
الجديدة:

[إن ما يشير إليه
الفطير هو أن لا نعمل أعمال الشر التي للخميرة القديمة، أمَّا اليهود فقَبِلوا
معنى الفطير على مستوى جسدي خالص، لذلك أمرهم الله أنه بعد أيام الفطير السبعة يخمِّرون
لهم خميرة جديدة، وهو بذلك يوجِّههم إلى الأعمال الجديدة.
]([37])

أمَّا هيبوليتس فيأخذ الخميرة الجديدة ويعمل منها فكراً جديداً، يشير به إلى عمل الإفخارستيا في حياتنا:

[دَعْ اليهود يأكلون
الفطير سبعة أيام حتى إلى سبعة دهور العالم، أمَّا نحن فالمسيح فصحنا قد ذُبح
لأجلنا وقد قبلنا منه عجينة جديدة باتحادنا معه.]([38])

أمَّا في العلم
اللاهوتي السرائري للقديس كيرلس الإسكندري، فتبدأ العلاقة السرية بين الفطير
والإفخارستيا تظهر بأشد وضوح:

[إن الكتاب يصف أن
اليهود يأكلون الفطير في الفصح، وهذا المثال يعني بالنسبة لنا أن الذين يشتركون في
أكل المسيح
» الإفخارستيا «عليهم أن يغذُّوا
أرواحهم باشتياقات طاهرة غير مخمَّرة (بالشر)، حتى يصبحوا منسجمين مع الحياة
المبرَّرة الخالية من الخبث.]([39])

وهكذا إذ يتمشَّى
القديس كيرلس الإسكندري مع بولس الرسول في فكر الفطير، إنما يكشف أكثر العلاقة
بالإفخارستيا.

ويعود القديس كيرلس
الإسكندري في عظته عن العبادة فيقول في هذا الموضوع:

[نحن
الذين تقدَّسنا جميعاً واشتركنا في الحياة الأبدية على مستوى الأسرار، علينا أن
نجاهد بلا انقطاع أن نحافظ على قانون الفصح، فنعيِّد باستمرار مع المسيح رافعين
الخمير من وسطنا، لأن هذا هو ما يليق بالذين دُعوا إلى الإيمان والحق، الذين
يعيشون في المسيح، الذين يعيِّدون الفصح بالروح، أن يرفعوا خمير الخبث والشر من كل
أعمالهم، منقِّين الخميرة العتيقة، فيتغيَّرون عن شكلهم إلى ما هو أفضل دائماً
ويظهروا بالفعل أنهم عجين جديد مع كل أفراد أسرتهم وكل مَنْ تحت سقفهم، حتى يصيروا
جماعة مؤمنين متحدة ككتلة إيمان عظيمة.]
([40])

وهنا نجد أن التقليد
التفسيري الذي انحدر من القديس بولس، يبلغ أعلى درجة من النقاوة والوضوح عند
القديس كيرلس الإسكندري! حيث ترتفع الطقوس القديمة لتأخذ مستواها الروحي الفائق
عندما يُستعلن السر المخفي فيها، الذي ينكشف علانيةً في العهد الجديد!

ويعود القديس كيرلس
الإسكندري يتكلَّم عن الخميرة الجديدة التي ليست من هذا العالم والتي تتقبلها
عجينة البشرية الخالية من خمير الغش والشر فتصير خبزاً سماوياً!

[وكما يقول بولس الرسول
إن خميرة صغيرة تخمِّر العجين كله، هكذا فإن أقل قدر من البركة والصلاح يُصلح كل
الإنسان ويملأه بالقوة والفعل، هكذا حينما يصير المسيح فينا ونصير نحن أيضاً فيه،
كما يُقال، إن العجين كله اختمر أو صار خميراً أو الخميرة صارت في العجين كله، هذا
هو بالاختصار معنى الكلام!

فإن كنَّا نتوق إلى
الحياة الأبدية، وإذا كنَّا نصلِّي لنحصل على واهب الحياة الأبدية داخلنا، فلا
يليق أن نكون كالمستهترين ونرفض البركة، أو نجعل الشيطان بحيله الخبيثة يوقعنا في
فخ من فخاخه أو في مجد باطل. لأنه حقاً هذا المكتوب:
» لأن الذي يأكل (من هذا الخبز) ويشرب (من هذه الكأس) بدون
استحقاق يأكل
ويشرب دينونةً لنفسه
«(1كو 29: 11).]([41])

 

5
الإفخارستيا ووليمة المسيَّا

لقد تكلَّم سليمان
النبي في سفر الأمثال عن وليمة أقامتها
» الحكمة « كلُّها أسرار:

+ » الحكمة بَنَتْ
بيتها،
نحتت أعمدتها السبعة، ذبحت ذِبْحها، مزجت خمرها، أيضاً رتَّبت مائدتها، أرسلتْ جواريها تنادي على ظهور أعالي
المدينة: مَنْ هو جاهل فلْيَمِلْ إلى هنا،
والناقص الفهم قالت له: هلموا كُلُوا طعامي واشربوا من الخمر التي
مزجتُها.
«(أمثال 9: 15)([42])

ثم
إذ نرجع خطوة إلى أيام الناموس الأُولى، نجد أن الله يحدِّث الشعب عن وليمة مزمعة
أن

تكون في الهيكل، يأكل فيها الشعب خبزه وخمره وأبكار غنمه أمام الرب (في الهيكل).
يقول الناموس:

+ » … المكان الذي يختاره الرب إلهكم من جميع أسباطكم ليضع
اسمه فيه، سُكْناه تطلبون وإلى هناك تأتون، وتقدِّمون إلى هناك محرقاتكم وذبائحكم
وعشوركم ورفائع أيديكم ونذوركم ونوافلكم وأبكار بقركم وغنمكم. وتأكلون هناك
أمام الرب إلهكم وتفرحون
بكل ما تمتد إليه أيديكم أنتم وبيوتكم كما بارككم
الرب إلهكم.
«(تث 12: 57)

وهذه الوليمة التي
حدَّدها الناموس لتكون وليمة المستقبل لكل الشعب في هيكل الله، يمكن اعتبارها صورة
موسَّعة تذكارية لوليمة موسى ورفاقه الأخصاء على جبل سيناء التي فيها رأوا الله
وأكلوا أمامه:

+ » ثم صعد موسى
وهرون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل؛ ورأوا إله إسرائيل وتحت رجليه شبه
صَنْعةٍ من العقيق الأزرق الشفاف وكذات السماء في النقاوة، ولكنه لم يمد يده إلى
أشراف بني إسرائيل، فرأوا الله وأكلوا وشربوا.
«(خر 24: 911)

وكانت هذه الوليمة هي
أول وليمة ذُكر فيها أن الإنسان أكل أمام الله، وكانت بعد استلام موسى
دقائق ناموس العهد، فكانت بمثابة «وليمة العهد»، حتى إن كل وليمة أُقيمت
بعد ذلك تُعتبر إحياءً بالتذكار لها أو امتداداً لذلك العهد.

ومن خلال هذا المضمون
السري لهذه الوليمة الأُولى يمكن اعتبار الإفخارستيا التي صنعها الرب وأكل فيها
تلاميذه معه وأمامه أنها وليمة العهد الجديد حيث جلس على مائدة الرب الاثنا
عشر الذين كانوا يمثلون الكنيسة، أي شعب الله الجديد، بدل موسى وهرون والسبعين
شيخاً الذين كانوا يمثلون شعب إسرائيل.

ثم يجيء إشعياء النبي
ويُعطي صورة إسخاتولوجية (أي آتية أو مستقبلة) لوليمة المسيا المنتظرة في الدهور
الآتية:

+ » أيها العطاش
جميعاً هلموا إلى المياه (قارن مع قول المسيح: “إن عطش أحد فلْيُقبل إليَّ ويشرب”
يو 37: 7)، والذي ليس له فضة، تعالوا اشتروا وكلوا، هلموا اشتروا بلا فضة وبلا ثمن
خمراً ولبناً، لماذا تَزِنُون فضةً لغير خُبزْ وتعبكم لغير شبع. استمعوا لي
استماعاً وكُلوا الطيِّب، ولتتلذذ بالدسم أنفسكم، أميلوا آذانكم وهلموا إليَّ؛
اسمعوا فتحيا أنفسكم، وأقطع لكم عهداً أبدياً، مراحم داود الصادقة.

(إش 55: 13)

ثم يعود إشعياء النبي
ويصف الذين سمعوا إليه فاستمتعوا بوليمته، والذين رفضوه (رفضوا المسيح) فجاعوا
وعطشوا بينما غيرهم يشبعون ويرتوون:

+ » … دعوتُ فلم تجيبوا، تكلمتُ فلم تسمعوا، بل عملتم الشر في عينيَّ
واخترتم ما لم أُسر به. لذلك هكذا قال السيد الرب: هوذا عبيدي يأكلون وأنتم تجوعون،
هوذا عبيدي يشربون وأنتم تعطشون، هوذا عبيدي يفرحون وأنتم تحزنون، هوذا
عبيدي يترنمون من طيبة القلب
وأنتم تصرخون من كآبة القلب، ومن انكسار الروح
تولولون؛ وتخلِّفون اسمكم لعنةً لمختاريَّ، فيميتك السيد الرب ويسمِّي عبيده اسماً
آخر.
«(إش 65: 1215)

وفي رؤيا إشعياء النبي
يسبق ويرى هذه الوليمة أنها وليمة لكل الشعوب:

+ » ويصنع رب
الجنود لجميع الشعوب في هذا الجبل وليمة سمائن (مسمَّنات)، وليمة خمرٍ … مصفَّى.
«(إش 6: 25)

فإذا جمعنا أوصاف هذه
الوليمة كما صوَّرها العهد القديم، أنها وليمة الحكمة في بيت الحكمة، في المكان
الذي يعيِّنه الرب، لكل الشعوب، لكل مَنْ يسمع الرب ويأتي، حيث مَنْ يأكل يأكل في
حضرة الله، فهي وليمة عهد للشبع المجاني وشُرْبُها للإرتواء المجاني، خمرها مصفَّى
وممزوج، كلها مسمَّنات، للفرح، وللترنُّم،
وطيب القلب، الجاهل إذا أكل صار حكيماً، والناقص الفهم يصير
مباركاً!!

وبهذه الأوصاف جميعاً
وبعمق روحي فائق أسس الرب وليمة حبه ليلة آلامه. إن الإفخارستيا هنا هي الاستعلان
الواضح والعميق لوليمة المسيا في جميع صورها التي ركَّز عليها العهد القديم كله في
ناموسه وطقوسه ونبواته ومزاميره ورؤاه، في كل الأجيال.

لقد جاء المسيا، وصنع
وليمته، وكعريس قدَّم لمدعويه من جسده ودمه، مسمَّنات أبدية وخمراً إلهياً يقطر
سرًّا وحكمة، فلتفرح الحكمة وليتهلل الناموس وليترنَّم إشعياء مع داود، ولْيَطِبْ
قلب كل الشعوب، وليأتِ الأطفال والجُهَّال ليأكلوا أمام الله من سر الحكمة والحياة
والبركة والخلود.

وإن من مظاهر مجالس
المسيح مع تلاميذه ومدعويه أنه كان يعتبر نفسه عريساً في وليمة عرس، لا صوم فيها،
بل وينبغي أن الفرح والبهجة والترنُّم يكون حيث يكون هو دائماً:
» هل يستطيع
بنو العُرس أن يصوموا والعريس معهم؟
«(مر 19: 2)

كان المسيح يرى أن كل
أيامه على الأرض ينبغي أن تكون وليمة دائمة. أليس هو المسيا؟ ومن أجل هذه الوليمة
جاء، وقد أعد جسده ودمه ليكونا طعامها وخمرها؟
» ليس لأحد
حبٌّ أعظم من هذا، أن يضع أحدٌ نفسه لأجل أحبائه
«(يو 13: 15)، لذلك ليس أسعد من المسيح عندما يرى مدعويه ملتفين حول
جسده ودمه يأكلون ويشربون من سر ألمه وحبه. إنها وليمة المسيَّا العظمى، وأقصى
استعلان للحب ممكن أن يقدِّمه الله لكل الشعوب.

إن المسيح أحب دائماً
أن يأكل مع الخطاة حتى عيَّره الفريسيون على ذلك:
» لماذا يأكل
معلمكم مع العشارين والخطاة؟
«(مت 11: 9). وقد ألمح مراراً وتكراراً أن مسرته في الوجود معهم
والأكل على مائدتهم، فكان هذا واحداً من أعمق الأسرار التي كشفها عن أهداف رسالته،
وهو أن يرفع الحواجز القائمة بين الخاطيء والله، وليس من وسيلة إلى ذلك إلاَّ بأن
يشاركهم مائدتهم ويشاركوه مائدته:
» أتعشَّى معه وهو معي «(رؤ 20: 3)؛ وأخيراً بأن يعطيهم جسده ودمه سرًّا في وليمة حبه،
الأمر الذي كشفه أخيراً في الإفخارستيا. وأخيراً، وأخيراً جداً، وبصعوبة شديدة
قائمة حتى اليوم، عرف العالم أن وليمة المسيَّا هي للخطاة!!

وللقديس أمبروسيوس قولٌ
في هذا الموضوع:

[المسيح يأكل مع
العشارين والخطاة، هذا معناه أنه لا يرفض أن يشارك طعاماً مع الذين هو مزمع أن
يعطيهم الأسرار (جسده ودمه).]([43])

ثمَّ مَنْ هم الخطاة في
عُرف الفريسيين وفي نظر اليهودي المترفع؟ أليسوا هم كناية عن بقية الأمم والشعوب
المحسوبة أنها مرفوضة لأنهم خطاة؟ إذاً، فكانت مجالس ولائم المسيح مع العشارين
والخطاة تكشف بوضوح الخط الخلاصي المتَّجه من المسيح ناحية الأمم. وهذا كان واحداً
من أهم أهداف وليمة المسيا قديماً التي انكشفت إتجاهاتها في سر الإفخارستيا في
العهد الجديد، حينما استودعها المسيح لتلاميذه
أي الكنيسة بيت الحكمة لتكون وليمة كل
الأمم وإلى أقصى
الأرض.

وهذا التقليد التفسيري
لوليمة المسيا وعلاقتها بالإفخارستيا انحدر إلينا بغزارة، عبر الأباء، منذ العصور
الأُولى.

فالقديس كبريانوس يقول:

[بواسطة سليمان يُظهر
لنا الروح أيضاً مثال
Typos الإفخارستيا » ذبيحة الرب « وذلك بذكر الذبيحة التي تُذبح، مع الخبز والخمر، والمائدة. يقول: » الحكمة
بَنَتْ بيتاً ودعمته بسبعة أعمدة، وذبحت ذِبْحها ومزجت خمرها بالماء في الكأس
وأعدت المائدة، ثم أرسلت عبيدها ينادون بصوت عالٍ يدعون المدعوين ليأتوا ويشربوا
من كأسها قائلةً: تعالوا كُلوا خبزي واشربوا خمري الممزوج لكم
« فهنا سليمان حينما يتكلَّم عن الخمر الممزوج، فإنه يعلن بالنبوَّة
عن كأس الرب الممزوج خمراً وماءً.]([44])

ويعطينا أيضاً
العلاَّمة أوريجانوس الصورة التقليدية التي انحدرت إليه عن هذه الوليمة، رابطاً
معاني الوليمة التي جاءت في الإنجيل كمَثَلٍ لملكوت السموات مع وليمة الحكمة،
رابطاً الكلَّ بسر الإفخارستيا، في قوله:

[الكنيسة
الآن تسأل عبيد الحكمة أن يقودوها إلى أقبية الخمر حيث مزجت الحكمة خمرها وذهبت
تنادي بواسطة عبيدها أن تعالوا أيها الجُهَّال كُلوا خبزي واشربوا من كأسي الممزوج،
إنه في بيت الوليمة هذا سوف يأتون من المشارق والمغارب ويجلسون مع إبراهيم وإسحق
ويعقوب في ملكوت السموات، هذا هو البيت (بيت الحكمة) الذي تشتهي كل نفس في الكنيسة
أن تدخله
حتى
تبلغ الكمال بتعاليم الحكمة وأسرار المعرفة التي هي طعام الوليمة ومسرة
خمرها.]([45])

ويعطينا أيضاً القديس
غريغوريوس النيسي هذه الصورة وهذا الرباط عينه بين خمر الوليمة وسر الإفخارستيا في
قوله:

[حينما تُخرج الكروم
أزهارها، تُذكِّرنا بالخمر الذي سوف تملأ به الحكمة كأسها وتسكبه لمدعويها ليشربوا
كما يشاءون ويسكروا بحكمة ورزانة الاستعلان الإلهي الذي يرفع الإنسان من دائرة
المنظورات.]([46])

[ما قلته هنا ظاهر
للذين أُعطوا أن يفهموا الخفيات في معاني الكتاب، إذ لا فرقَ بين هذا وبين ما يتم
عمله في سر العشاء (الإفخارستيا).]([47])

ويعود القديس أمبروسيوس
يشرح السر بأكثر وضوح:

[إن أردت أن تأكل وإن
أردت أن تشرب (الحق)، تعالَ إلى وليمة الحكمة التي تدعو الناس جميعاً بصوتٍ عالٍ،
تعالوا كُلوا خبزي واشربوا خمري الذي مزجته لكم. تعالَ، لا تخفْ، فأنت في الكنيسة
لن تُعدَم رائحة عطرة أو طعاماً صالحاً أو شراباً ممزوجاً أو خدَّاماً أكفاءً،
تعالَ فسوف تجمع مُرًّا الذي هو دَفْنُ المخلِّص حينما تجوز المعمودية معه، وسوف
تذوق القيامة عندما تقوم معه، وتأكل «الخبز» الذي يشدِّد قلب الإنسان و«الخمر»
لكي تنمو إلى ملء قامة المسيح.]([48])

هنا الجمع واضح بين
وليمة الحكمة والإفخارستيا بصورة تطبيقية مبدعة حقاً!!

وفي التقليد السرائري
للعلاَّمة ديديموس الإسكندري الضرير صورة أيضاً مبدعة للربط بين وليمة المسيا عند
إشعياء النبي وسر الإفخارستيا في الكنيسة:

[أيها العطاش تعالوا
إلى المياه، كل مَنْ ليس له ذهب ولا فضة فليأتِ ويشرب خمراً ثميناً وطعاماً فاخراً.
الماء يُعنَى به الروح القدس وينبوع المعمودية، أمَّا الخمر والخبز فهما ما كان
يقدِّمه اليهود قديماً، أمَّا الآن فهما الشركة غير المائتة في جسد الرب ودمه.]([49])

هنا يقف العلاَّمة
ديديموس الإسكندري الضرير ليعلن تحقيق نبوَّة إشعياء عظيم الأنبياء، ويشير في يقين
ووضوح واختصار إلى الإفخارستيا كتكميل نبوات كل الدهور عن وليمة المسيا الدهرية
التي ظهرت لنا واستُعلنت، وأكلنا وشربنا من بركاتها!!

أمَّا عن نبوَّة إشعياء
التي يرى فيها وليمة المسيا على جبل صهيون لكل الشعوب، فيتأمل فيها العلامة
يوسابيوس القيصري ويعلن تكميلها في المعمودية والإفخارستيا:

[ويُعِدُّ الرب وليمةً
على هذا الجبل لكل الشعوب، إنها الكنيسة التي يعنيها الرب بقوله هذا حيث يشربون
خمراً بل سروراً … لأن النبي كان يتنبأ عن سر العهد الجديد الذي أسسه الرب، الذي
تحتفل به اليوم كل الشعوب.]([50])

ومن
جميع هذه النبوات يتضح لنا كيف أن
» وليمة المسيا الآتي «كانت تشكِّل رجاءً هاماً في عبادة إسرائيل على مدى الدهور، كما كانت
موضوعاً لتوقعاتهم اليومية، فأصبحوا ينظرونها بعين الأمل في كل وليمة رسمية
يقيمونها سواء في بيوتهم أو مجامعهم، حتى إنهم أقاموا صلوات وطقوساً مناسبة لوليمة
المسيا في مجامعهم، وكانوا يولونها أهمية خاصة وصلت في زمن ما قبل المسيح إلى درجة
أكثر أهمية من ذبائح الهيكل، إذ كانوا يعتبرونها بالفعل أنها شركة في بركات عهد
الله والمسيا الآتي!!

وكان كثير من اليهود
الأتقياء يقيمون الولائم لاستمطار بركات عهد الله وترجيِّاً لعهد المسيا الآتي،
وهي التي علَّق عليها المسيح كما هو مكتوب:
» وقال أيضاً
للذي دعاه: إذا صنعت غذاءً أو عشاءً فلا تدعُ أصدقاءك ولا إخوتك ولا أقرباءك ولا
الجيران الأغنياء لئلاَّ يدعوك هم أيضاً فتكون لك مكافأة؛ بل إذا صنعت ضيافة
فادْعُ المساكين الجُدْع العُرْج العُمْي، فيكون لك الطوبى إذ ليس لهم حتى يكافئوك.
لأنك تُكافأ في قيامة الأبرار. فلمَّا سمع ذلك واحد من المتكئين قال له: طوبى
لمَنْ يأكل خبزاً في ملكوت الله.
«(لو 14: 1215)

وفي الحقيقة نرى أن
الإفخارستيا كما أسسها المسيح تُحتسب بالحق وليمة المسيا النبوية كما هي وليمة العهد
الجديد، فهي التي رآها الأنبياء بالروح وكما ترجَّاها كل أتقياء اليهود، جاءت وفق
ما كانوا ينتظرون، إنما في بساطة إلهية وفي سر يتناسب مع عِظم الذبيحة المقدَّمة.

ولكن الذي ينبغي أن
ينتبه إليه ذهننا، هو أن المسيح اختار التقدمة على غرار تقدمة ملكيصادق تماماً
لتكون ذات إلهام خاص لتلاميذه، ولنا على ممر الدهور. فقد اختار نفس مواد التقدمة، أي
الخبز والخمر بالذات، ليكشف سرَّ نفسه
وبالتالي سر أزلية التقدمة
» قبل أن يكون
إبراهيم أنا كائن.
«(يو
58: 8)

ثم اختار المسيح زمن سر
الإفخارستيا بدقة ليتناسب مع أهداف عديدة في وقتٍ واحد، فأقامه ليلة الفصح ليشير
إلى ذبيحة نفسه
باعتباره حَمَل الفصح، وليشير إلى العهد الجديد باعتبار
أن الفصح يشكِّل بطبيعته عهداً مع الله، وليعلن الخلاص الكامل الذي كان
يتوقعه كافة اليهود والأمم باعتبار أن الفصح هو عبور من العبودية والموت والهلاك
معاً.

ثم اختار أن تكون
الإفخارستيا على شكل الوليمة الطقسية التي اعتاد اليهود على تقديمها في الميعاد
ترقُّباً لمجيء المسيا، حتى يكشف أنه قد تمَّ الزمان وتحققت كافة النبوات عن سر
وليمة المسيا التي ظل اليهود ينتظرونها بفارغ الصبر.

وهكذا
نرى في مادة الإفخارستيا، أي الخبز والخمر إشارة، عَبْر ملكيصادق، إلى أزلية
المسيح وذبيحته.

ونرى في توقيت
الإفخارستيا، ليلة الفصح، إشارة، عَبْر خروف الفصح، إلى ذبيحة نفسه، وإلى العهد
الجديد بدمه، وإلى الخلاص الشامل العتيد أن يكمِّله بموته.

ونرى في اختيار تأسيس
سر الإفخارستيا ليكون من داخل وليمة المسيا، إشارة إلى اكتمال الزمان وتحقيق
النبوات.

إذاً، فالإفخارستيا هي
التحقيق النهائي
» لوليمة المسيا «النبوية،
والاستعلان الشامل لكل أسرارها. وإنه وإن كانت الإفخارستيا قد جاءت في شكلها
وترتيبها حسب الطقس اليهودي المتواتر، إلاَّ أنها جاءت في كلماتها وفي جوهرها
وسرِّها ومعناها ونتائجها مختلفة تماماً عن كل ولائم المسيا التي صنعها اليهود.

والآن ندرك لماذا جاءت
الإفخارستيا بخبز وخمر، ولماذا جاءت في موعدها هذا، لا على أساس آراء واجتهادات
ومجادلات لاهوتية، بل على أساس تقليد وأسرار عميقة وإشارات قصدها المسيح وأدركها
تماماً وعبَّر بها عن أمور فائقة على التصوُّر والحصر. ولكن كل هذا يعرضه لنا
العهد القديم بعمق وأصالة وإبداع على مدى كل أسفاره المقدَّسة، وذلك بالإشارات
الحية، والنبوات الواضحة، والرموز، والمثالات، والطقوس المتواترة، على مدى كل
الأجيال، بدقة فائقة؛ ليعطينا أكبر قدر من الوضوح والرؤيا لنرى سر الإفخارستيا في
عمقه، ودقته، وامتداده، وأصالته الزمانية، وما فوق الزمانية، البشرية والإلهية معاً، في انسجام وتسلسل، عَبْر الكتاب المقدَّس
كله، بل عَبْر الزمان
والأبدية.

 

6
الإفخارستيا ومائدة الرب

“المزمور 23”

+ » الرب راعيَّ
فلا يُعْوزُني شيء. في مراعٍ خصيبة يقبلني. ومياه الراحة يوردني. يردُّ نفسي
ويُهديني إلى سُبُل البر من أجل اسمه. إني ولو سلكت في وادي ظلال الموت لا أخاف
شرًّا لأنك معي. عصاك وعكازك هما يعزيانني، تهييء أمامي مائدةً تجاه مضايقيَّ. وقد
مسحت بالدهن رأسي. وكأسي مُرْوِيَةٌ. الجودة والرحمة تتبعاني جميع أيام حياتي.
وسُكناي في بيت الرب طول الأيام.
«(الترجمة عن كتابات الآباء)

U U U

هنا الإشارة والمثل بين
الإفخارستيا والعهد القديم لا تقوم على أساس وليمة يصنعها الإنسان أمام الله
كوليمة المسيا، بل مائدة يرتبها الرب للإنسان! وكأنها نازلة من السماء، هنا المثال
Typos يجوز امتداداً جديداً من مستوى الأكل الذي يعدُّه الإنسان
ويتقدَّس بحضور الله، إلى حضور إلهي على رأس مائدة سماوية يقدِّم فيها الله
قُدْسَاتِه ليأكلها الإنسان:
» هيأتَ مائدة « هنا الله هو المخاطَب. » وكأسُك مُرْوية «هنا الله هو
الذي يمزج الكأس ويقدِّمه!!

وهنا الإفخارستيا تأخذ
من العهد القديم استعلانها الإلهي الأخير والأكمل!!

حيث تواجه الإفخارستيا
لا مثالاً ولا صورة، بل سرًّا في مواجهة سر.

المزمور الثالث
والعشرون يحتل مكانة كبيرة في التقليد الكنسي السرائري بسبب قول الروح فيه على فم
داود النبي بخصوص عطايا الله السرائرية فيما يختص بالإفخارستيا والمعمودية،
وبالأخص مسحة الميرون، فكانت الكنيسة تلقِّنه للموعوظين قبل المعمودية كأحد
المحفوظات التي تُحفظ عن ظهر قلب مثل
» أبانا الذي في السموات « وكان الآباء (الأساقفة) يقومون بشرح المزمور الثالث والعشرين هذا
للموعوظين قبل وبعد المعمودية، فكان هذا المزمور هو النور الهادي من العهد القديم
الذي ينير الطريق من المعمودية إلى الإفخارستيا، في موسم عيد القيامة، بالنسبة
للموعوظين.

والقديس كيرلس
الأُورشليمي يعلِّق على هذا المزمور قائلاً:

 

[«لقد هيأتَ مائدةً
تجاه عينيَّ مقابل الذين يضايقونني» ماذا يعني بذلك إلاَّ المائدة السرائرية
mustik» mystical الروحانية التي أعدَّها الله لنا؟

«أنت مسحت
بالزيت رأسي» وهوذا الله قد مسح جباهكم بختم الله
sfr£gij sphragis
الذي تقبَّلتموه حتى إذ ينطبع الختم عليكم تصيرون مقدَّسين (مكرَّسين) لله.

ثم
ترون أيضاً كيف يذكر
الكأس الذي شكر عليه
الرب قائلاً:
» هذه
الكأس هي دمي
«]([51])

وهكذا يعتبر كيرلس
الأُورشليمي هذا المزمور نبوَّة خاصة تُستعلن من خلاله المواهب المسيحية للعماد
والإفخارستيا، ويأخذه كحقيقة نبوية مسلَّمة لا تحتاج إلى جهاد في التطبيق، كما
يعتبره مزموراً خاصاً بكل مَنْ يتقدَّم للمواهب السرائرية.

وبنفس التأكيد والوضوح
يتكلَّم عنه القديس أمبروسيوس:

[اسمعوا عن ماهية
الأسرار التي نلتموها. اسمعوا داود ماذا يقول لكم، لأنه هو أيضاً رأى بالروح هذه الأسرار.
وكيف استهل مزموره أنه لم يعد يحتاج شيئاً، لماذا؟ لأن كل مَنْ يتناول جسد المسيح
لم يعد يجوع بعد، كم مرة سمعتم هذا المزمور دون أن تتأملوا فيه. انظروا كيف
هو يطابق الأسرار السماوية.]([52])

هنا إشارة القديس
أمبروسيوس إلى أن الموعوظين سمعوا هذا المزمور كثيراً، يفيد أنه كان يُتلى عليهم ضمن طقس ليتورجيا العماد، وضمن طقس التسبيح
الذي كان يشترك فيه خورُس الموعوظين.

هذا يتضح أكثر من قول
العلاَّمة ديديموس الإسكندري، مما يثبت قطعاً أن نفس هذه الترتيبات كانت أصيلة في
مصر:

[إن الذين قد حُرموا
بعد من البركات الأرضية بسبب صغر سنهم تُمنح لهم المواهب السماوية بغنى للملء، حتى حقَّ لهم أن يترنموا بالفرح قائلين:
» الرب راعيَّ
فلا يعوزني شيء
«]([53])

هنا الإشارة واضحة أن
المزمور كان تسبحة الموعوظين والأطفال.

ويضيف القديس أمبروسيوس
إلى ذلك، مشيراً إلى مواضع التسبيح بهذا المزمور قائلاً:

[وبعدما يخلع المعمَّد
عنه صبغة الخطايا القديمة
» ويتجدَّد مثل النسر
شبابه
« يُسرع إلى الوليمة السماوية. فعندما يقترب ويرى المذبح
مهيَّأ يرنم قائلاً:
» أعددتَ لي مائدة تجاه عينيَّ «]([54])

وهكذا نكتشف أن خورس
الموعوظين كان يرتل هذا المزمور وهو يتقدَّم داخل الكنيسة حتى يدخل تجاه الهيكل
ويرى المذبح!

ويعلِّق القديس
غريغوريوس النيسي على أسرار هذا المزمور بقوله:

[بهذا المزمور يعلِّم
المسيح الكنيسة أنه ينبغي عليك أولاً أن تصير غنمة وراء الراعي الصالح، بتعاليمه
يقودك إلى المراعي وينابيع المعرفة والتعاليم الصحيحة. بعد ذلك تجوز معه الموت:
» إن جُزتُ في
وادي ظل الموت
«في دفن المعمودية. غير أن ذلك ليس موتاً بحسب الظاهر وإنما
شبه ومثال الموت.

وبعد ذلك يعدُّ لك
المائدة السرائرية، ويمسحك بزيت الروح.

وأخيراً، يقدِّم لك
الكأس التي تفرِّح قلب الإنسان وتَهب الثمالة الروحية والحكمة.]([55])

أمَّا
يوسابيوس القيصري فيقص علينا كيف تعلَّم هو نفسه هذا المزمور لأول مرَّة وهو شماس
صغير:

[وبعدما تعلمنا كيف
نُقيم تذكار الذبيحة على المائدة بواسطة العلامات السرائرية (الخبز والخمر) التي
للجسد والدم، بحسب مواصفات العهد الجديد، تعلَّمنا أن نرنم بصوت داود النبي:
» لقد أعددتَ
مائدةً أمامي تجاه مضايقيَّ، مسحتَ بالزيت رأسي
« وفي هذه الآيات يشير » الكلمة «(اللوغس)، بوضوح، إلى المسحة السرائرية (الميرون) وإلى الذبيحة
المقدَّسة المقدَّمة على مائدة الرب.]([56])

وللقديس
كيرلس الإسكندري شرح فيما يختص بالآيات الأُولى لهذا المزمور نوردها لأهميتها
الخاصة:

[إن المراعي الخضر
(التي يُربض فيها الراعي خرافه) ينبغي أن تُفهم أنها هي كلمات الله التي هي دائماً
نضيرة وجديدة، كلمات الإنجيل المقدَّس التي بإلهام الروح تغذي قلوب المؤمنين
وتهبهم قوة روحانية…

كذلك فالمراعي الخضراء
تعني الفردوس الذي انحدرنا منه وسقطنا، والذي إليه يعود بنا المسيح ويقيمنا فيه
على ماء الراحة، أي نعمة المعمودية.]([57])

وهنا تجدر الإشارة
ولو أنها خارجة نوعاً عن الموضوع إلى أُوشية الراقدين، التي تُقال في
رفع البخور، والتي في مطلعها آية المزمور الثالث والعشرين:

[تفضل يا رب أرِحْ
نفوسهم جميعاً في حضن آبائنا القديسين إبراهيم وإسحق ويعقوب (هنا ذكر لوليمة
المسيا في الدهر الآتي)، ارْعَهُم في موضع الخضرة (المعرفة الإلهية العالية) على
ماء الراحة (بحسب نعمة المعمودية أي كمواهب الخليقة الجديدة المبرَّرة
من كل خطية) في فردوس النعيم … إلخ.]([58])

يؤكِّد هذا المعنى
أيضاً القديس أثناسيوس الرسولي:

[إن ماء الراحة يعني
بلا شك المعمودية المقدَّسة التي بواسطتها تُمحى كل ثقل الخطية.]([59])

ولكن الذي يهمنا من
المزمور الثالث والعشرين هو إلهاماته الخاصة بالإفخارستيا، والتي ركَّز عليها
الآباء جميعاً، يقول القديس كيرلس الأُورشليمي:

[إذا أردت أن تعرف فعل
هذه الأسرار اسأل داود الطوباني الذي يقول لك:
» أعددتَ
مائدةً قدامي قبالة الذين يضطهدونني
« أي قبل أن تأتي يا رب، كانت الشياطين هي التي تعدُّ موائد النجاسة
المملوءة من الأعمال الشيطانية، ولكن لمَّا أتيتَ إلينا يا رب أعددتَ مائدةً لي
التي هي ليست إلاَّ المائدة السرائرية الروحانية التي أعدَّها الله لنا.]([60])

كذلك أيضاً القديس
غريغوريوس النيسي الذي يقول عن
» أعددتَ لي مائدة «

[أي أعددتَ المائدة
السرائرية
Sacramental.]([61])

ويأتي القديس كيرلس
الإسكندري ويوضِّح السر في هذه الآية بقوله:

[إن المائدة السرائرية
يُعنى بها جسد الرب الذي يقوينا قبالة الشياطين وشهواتنا، ففي الحقيقة الشياطين
يخافون من الذين يشتركون في الأسرار.]([62])

وإن
كانت مائدة هذا الراعي هي الإفخارستيا، فالكأس فيها هي كأس الرب. هكذا رآها الآباء
جميعاً.

وفي الترجمة اليونانية
الحديثة تُترجم
» كأس فائضة أو مُتْرعة « أمَّا الترجمة السبعينية القديمة فتُترجم » كأس
مُسْكِرة
«أو » كأس مُدْهشة «

ويتكلَّم عنها القديس
كبريانوس آخذاً عن العلاَّمة أوريجانوس:

[وإن مَثَل الإفخارستيا
واضح ومشروح في سفر المزامير بالروح القدس. فعن ذكر كأس الرب يقول:
» كأسُك
المُسْكِرَة كم هي مدهشة لي
« ولكن السُكْر الذي يكون من كأس الرب ليس هو السكر الذي يحدث من
الخمر العادي، لأن كأس الرب تُسكرنا بالروح دون أن تُفقدنا عقلنا وصَحْونا.]([63])

وعن هذه الكأس المُسْكِرة،
في المزمور، يقول القديس كيرلس الأُورشليمي مطبقاً مباشرةً على كأس الرب:

[كم هي عجيبة يا رب
كأسك المُسْكِرة هذه، هذه (التي في المزمور) هي الكأس التي أمسكها الرب بيده وشكر عليها وقال:
» هذا هو دمي الذي يُسفك عن كثيرين
لمغفرة

الخطايا
«]([64])

أمَّا
عن السُّكْر الذي في كأس الرب، فيقول عنه القديس أثناسيوس الرسولي: [إنه الفرح
السرِّي]
([65])

وهنا إشارة أثناسيوس
الرسولي إلى فعل دم المسيح في الإفخارستيا تبلغ استعلانها الروحي الفعلي، فكما أن
الخمر في العالم تفرِّح قلب الإنسان وترفع عنه الإحساس بالهموم، بسبب التخدير الذي
تستحدثه الخمر في مراكز الأعصاب العليا حتى يدخل الإنسان حالة السكر ثم انعدام
الإحساس بالدنيا، هكذا الإفخارستيا في مستواها الروحي المستيكي أي
السرِّي حيث يدخل الإنسان حينما يتفتَّح وعيه لسرِّ الدم الإلهي
ويتغلغله هذا السر، فيُلهب مراكز الحب العالي في قلب الإنسان، فيهيم الإنسان بالله
والسماء ويفقد وعيه الإرادي بالدنيا وهمومها حتى يدخل الدَهْش الإلهي الذي لا يعود
فيه يحس بنفسه.

ولكن هذه المفاعيل
الروحية لا تصيب الإنسان تلقائياً كمَنْ يشرب كأساً من الخمر فيحس بأعراض السُّكْر
تأتيه مباشرة، ولكنه سكر بالسعي والإرادة والوعي الروحي حينما يرتفع القلب إلى
مستوى بذل المسيح على الصليب ويدرك عمق سر الموت الإرادي الذي دخله الرب عن دوافع
الحب الصادق!!

إنه سكر الروح لا سكر
الحواس!!

إنه خمر الحب الإلهي
الذي يُذهل العقل.

وفي تطبيق سر الشكر من
مزمور داود على كأس الإفخارستيا يقول القديس كبريانوس:

[ولكن السكر الذي نحصل
عليه من كأس الرب ليس كالسكر الذي يُصيب الإنسان بفعل الخمر العادي، لذلك يقول
المزمور (الترجمة السبعينية)
» كأسك المسكرة أدهشتني «

إن كأس الرب تُسكرنا،
إنما لا تُفقدنا وعينا وصحونا، بل بالحري تقود النفس إلى الحكمة الروحانية والدهش
الإلهي، وبواسطتها ينتقل الإنسان من مذاقة الأمور الباطلة إلى معرفة أمور الله.

ولكن كما أن الخمر
تُحرِّر النفس وتجعلها بلا إحساس بالأحزان هكذا يكون عمل الدم المخلِّص في كأس
الرب، فإنه يمحو ذكر الإنسان العتيق ويهب النسيان للحياة السابقة في الباطل ويجعل
النفس تشعر براحة، لأن فرح الله يسكن القلب الذي كان حزيناً ومثقَّلاً بالهموم
ورازحاً تحت أثقال الخطايا.]([66])

وفي
قول آخر للقديس أمبروسيوس يرتفع معنى السكر الروحي إلى مستواه اللاهوتي حينما يقول:

[إن كأس الرب تمنح
غفران كل الخطايا، الكأس التي فيها الدم الذي سُفِك لغفران خطايا كل العالم! وهذه
هي الكأس التي أسْكَرت كل الأمم فنسيت أحزانها ولم تعُدْ تذكر معاصيها الأُولى، كم
هو جيد هذا السُّكر الروحاني الذي يولِّد الصحو، لأنه يزيل حزن الضمير المهموم
بثقل الخطية، وعوضاً عن الحزن ينسكب فرح الحياة الأبدية. من أجل ذلك يقول المزمور:
» إن كأسك المسكرة كم هي عجيبة «]([67])

ويعود أمبروسيوس ليقول
في موضع آخر:

[إن الذين يشربون بحسب
الظاهر فقط يرتوون وحسب، أمَّا الذين يشربون
» بالحق «فإنهم
يسكرون!! كم هو صالح ذلك السُّكْر الذي يورِّثنا الحياة الأبدية، لذلك اشربوا من
هذه الكأس التي يقول داود عنها:
» وكأسك المسكرة كم هي
عجيبة
«]([68])

ويعود القديس غريغوريوس
النيسي بأسلوبه التصوفي ليشرح معنى السُّكْر:

[إن الخمر الذي خُلق
ليُبهج قلب الإنسان، حينما يعطيه الرب فإنه يهب النفس هذا السُّكر المنعش أو
الصاحي الذي يرفع تعلُّقات القلب من الأمور الزائلة إلى الأبديات. وكل مَنْ ذاق
هذا السكر فإنه يستطيع أن يستبدل الأمور الوقتية بالتي بلا نهاية ويعيش في بيت
الرب مدى الأيام كقول المزمور.]([69])

ويعطينا
أيضاً القديس يوحنا ذهبي الفم صورة روحية لهذه الكأس المسكرة في مفهومها
الإفخارستي:

[» إن كأسك
المسكرة لهي عجيبةٌ حقاً
« ما هذه؟ إنها الكأس الروحانية، كأس الخلاص، كأس دم الرب. هذه
الكأس لا تصيب الإنسان بالسُّكْر، بل تهبه اليقظة والصحو.]([70])

ولكن لا تزال في هذا
المزمور إلهامات عميقة استطاع الآباء أن يجدوا فيها استعلاناً لترابط أكثر بين الأسرار
وبين المسيح كراعٍ حقيقي، وفي هذا يقول القديس غريغوريوس النيسي:

[في هذا المزمور يدعوك
داود أن تكون غنمة يرعاها المسيح، حتى لا تعود في عوزٍ لشيء قط لأن راعيك يكون
حينئذ هو ملجأك وهو ماء راحتك وطعامك ومسكنك وطريقك وقائد حياتك يوزِّع نعمه على
قدر حاجتك … وحينما تصبحُ أنت غنمة للراعي الصالح فحينئذٍ يقودك بتعاليم الخلاص
إلى المراعي والينابيع التي هي التعاليم المقدَّسة.]([71])

ويرى القديس كيرلس
الكبير أن المزمور الثالث والعشرين يصلح ليكون:

[أُغنية للوثنيين الذين
صاروا بالإيمان تلاميذ للرب، الذين أكلوا بالروح وشبعوا وأصبح عليهم أن يعبِّروا
عن شكرهم لقائد نفوسهم الذي يُطعمهم طعام الخلاص، يدعونه راعيهم وأباهم لأنه لم
يرسل لهم قديساً ليقودهم كما أعطى لإسرائيل عبده موسى، بل أرسل لهم راعي الرعاة
وسيد المعرفة كلها الذي فيه كل كنوز الحكمة والمعرفة.]([72])

ولقد كان تأثير هذا
المزمور السرائري والرعائي على الكنيسة الأُولى شاملاً، فقد تغلغل حتى في
تعبيراتها الفنية عن الأسرار. ففي كثير من المعموديات رُسم المسيح كراعٍ صالحٍ
يرعى خرافه ويقودها على مجرى الأنهار، ولا يمكن أن يكون هذا التعبير إلاَّ عن
المزمور 23:
» الرب راعيَّ … على ماء الراحة يوردني … مسح بالزيت رأسي « ومعروف أن الموعوظ في ذلك الوقت كان أقدر مَنْ يفهم هذه الصورة،
لأنه يحفظ المزمور عن ظهر قلب! لكن أهم ما يُبرز المزمور الثالث والعشرين بالنسبة
للإفخارستيا هو أنه يجمع معاً
» وليمة المسيا الآتي «مع وضع
المسيا في الوليمة كراعٍ يُطعم خرافه ويسقيها وهو نفسه يقودها ويبذل نفسه عنها.

وهذه الصورة التي
يقدِّمها المزمور الثالث والعشرون للمسيا الآتي، نجدها واضحة وسائدة جداً في حياة
المسيح المعلَنة على طول الإنجيل، والتي كان ينبِّه عليها الرب كثيراً:

+ » أنا هو
الراعي الصالح
«(يو 11: 10)

+» حين أرسلتكم
… هل أعوزكم شيء
«(لو
35: 22)

+ » إن دخل بي
أحد فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى
«(يو 9: 10)

+ » إن عطش أحد
فليُقبل إليَّ ويشرب
«(يو
37: 7)

+ » مَنْ يشرب
من الماء الذي أُعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد
«(يو 14: 4)

+ » مَنْ آمن بي ولو مات فسيحيا، وكل مَنْ
كان حيًّا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد
«(يو 11: 25و26)

+ » أنا هو
الخبز الحي الذي نزل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز
الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم
«(يو 51: 16)

+ » وأخذ الكأس …
قائلاً: اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد.
«(مت 26: 27و28)

ولذلك يُعتبر هذا
المزمور، بعد تأمُّلنا السابق في وليمة المسيا، هو التمهيد الأخير لاستعلان المسيح
في وظيفتيه السريتين العظيمتين: كراعٍ صالحٍ وحَمَلٍ مذبوح، كاهن وذبيحة: راعٍ
يرعى خرافه، وحَمَل يطعمها ويسقيها من جسده ودم نفسه! فالمسيح هو صاحب الإفخارستيا
وهو نفسه مائدتها وطعامها وشرابها.

ثم يظل المزمور الثالث
والعشرون يخط في الكنيسة بتأثيراته الإلهامية السرائرية مقدِّماً أعظم صورة للمسيا
في وظائفه الخلاصية والرعائية، لا في العهد القديم والعهد الجديد فحسب، بل وحتى في
الدهر الآتي.

فنحن
نجد القديس يوحنا الرسول في رؤياه يرى المزمور الثالث والعشرين وقد صار حقيقة تُرى
بالعين:

+ » فقال لهم: هؤلاء
هم الذين أتوا من الضيقة العظيمة وقد غسَّلوا ثيابهم وبيَّضوا ثيابهم في دم الخروف.
ومن أجل ذلك هم أمام عرش الله ويخدمونه نهاراً وليلاً في هيكله، والجالس على العرش
يحل فوقهم. لن يجوعوا بعد ولن يعطشوا بعد ولا تقع عليهم الشمس ولا شيء من الحر.
لأن الخروف الذي في وسط العرش يرعاهم ويقتادهم إلى ينابيع ماء حيَّة، ويمسح الله
كل دمعة من عيونهم.
«(رؤ
7: 1417)



اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى