اللاهوت العقيدي

البَاب التاسع



البَاب التاسع

البَاب
التاسع

الحَيَاة
في الدّهْرِ الآتي

مقدمة

“ونترجّى
قيامة الموتى

والحياة
في الدهر الآتي. آمين”

بتلك
العبارة الوجيزة نختم قانون الإيمان معبِّرين عن رجائنا بالمرحلة الأخيرة التي
تتوّج تاريخ الخلاص، الذي بدأ بالخلق واكتمل بمجيء يسوع المسيح وحلول الروح القدس،
ويستمرّ بعمل المسيح والروح على مدى الزمن في الكنيسة والعالم، وينتهي بقيامة
الموتى والحياة في الدهر الآتي

ما
هو مضمون رجائنا في الحياة بعد الموت، وإلى أيّ أساس يستند؟ هذا ما سنحاول توضيحه،
انطلاقاً ممّا أوحى به الله إلينا في الكتاب المقدّس، في كلا العهدين، القديم
والجديد.

إنّ
وحي الله لم يبلغنا دفعة واحدة. فالكتاب المقدّس هو مجموعة أسفار تمتدّ أحداثها
على خمسة عشر قرناً. ووحي الله قد رافق تاريخ البشريّة على مدى تلك الأجيال. لذلك
يجب ألاّ نتوقّع تصوّراً واحداً “للحياة في الدهر الآتي” التي هي موضوع
رجائنا. إنّ وحي الله قد أزال لنا القناع عن سرّ الدهر الآتي بشكل تدريجي وعلى
مراحل متعدّدة. فلا بدّ لنا إذاً من تتبعُّ تلك المراحل، لندرك تمام الإدراك ما
أوحاه لنا الله أخيراً “لمّا بلغ مل الزمان” (غلا 4: 4) في كلمته وابنه
يسوع المسيح.

لذلك
سنتبع تطوّر هذا الوحي على ثلاث مراحل:

1-
في العهد القديم

2-
في رسالة يسوع وخبرة حياته مع الله

3-
في كرازة الرسل.

ان
الانطلاق من العهد القديم أمر ضروري لسببين: أولاً لأنّ يسوع نفسه انطلق في تبشيره
من رجاء شعبه المشبعَ من رجاء العهد القديم ليقوده إلى الكمال. ثمّ لأنّ الرجاء
المسيحي قد استخدم الألفاظ والتعابير التي وردت في العهد القديم، بحيث يستحيل
علينا فهم مضمونه إن لم نفهم أولاً الاطار الثقافي والروحي الذي نشأ فيه.

الفَصل
الأول

تَعْليم
الكِتَاب المقدَّس

أولاً-
العهد القديم ورجاء شعب الوعد

يرى
العهد القديم أنّ الله يحقّق قصده في التاريخ. وبما أنّ التاريخ هو ماض وحاضر
ومستقبل، فلا بدّ لعمل الله من أن يكون له أيضاً ماضٍ وحاضر ومستقبل، لذلك لم
تقتصر رسالة الأنبياء والذين ألهمهم الله تدوين الأسفارَ المقدسة على تقصّي
الأحداث الماضية لإظهار الطرُق التي قاد بها الله شعبه من الماضي إلى الزمن الحاضر.
بل عملوا على كشف معنى التاريخ بإعلان النهاية التي سيصل إليها.

إلاَّ
أنّ سرّ التاريخ هذا قد عبّر عنه العهد القديم في نظرتين مختلفتين:


حتى الأنبياء الكبار في القرن الثامن قبل المسيح، رأى العهد القديم أنّ المستقبل
سيكون تتويجاً لعمل الله الدائم، وأنّ الله سيمنح شعبه خلاصاً ثابتًا ومستمرًّا
دون أي انقطاع ولا توقّف.


ولكن ابتداءً من القرن الثامن، بعد أن اختبر الشعب المحن والمصائب تحلّ به، راح
الأنبياء يعلنون أنّ الله لن يحقّق مواعيده تجاه شعبه إلاَّ بعد أن يُنزِل به
القضاء والدينونة عقاباً له على خطاياه.

لنتوسّع
قليلاً في هاتين النظرتين إلى “نهاية” التاريخ التي فيها سيحقّق الله
قصده.

1-
شعب الوعد والمستقبل المفتوح أمامه

أ)
عهد الله ووعوده

قبل
الأنبياء لا نرى في العهد القديم أيّ أثر لرجاء حياة سعادة بعد الموت.

إنّ
فكرة السعادة بعد الموت نجدها في الميثولوجيا المصرية. وقد كانت تلك السعادة أولاً
من امتيازات الفرعون الذي كان المصريون يعتقدون أنّ الإله- الشمس يتجسّد فيه. ثم
صارت رجاء جميع أفراد بلاطه، وبعد ذلك امتدّت إلى كلّ الذين يمارسون عبادة الإله
اوزيريس، إله الخصب الذي أصبح في ما بعد إله الأموات. أمّا تصوّر تلك الحياة بعد
الموت فلم يكن واضحاً. فقد اعتبرها البعض عودة النفوس إلى الحياة الشاملة، ورأى
فيها البعض الآخر دخولاً في عالم الكواكب الذي تسوده الشمس. أمّا شروط الدخول في
عالم الآلهة فلم تحدَّد انطلاقاً من السلوك والأخلاق، بل كان الدخول إلى هذا العالم
يتمّ عن طريق الممارسات والطقوس السحرية.

تلك
كانت النظرة المصرية إلى الحياة بعد الموت. أمّا الشعب الاسرائيلي فقد تأثّر
بالنظرة السائدة في بلاد ما بين النهرين القريبة من نظرة الميثولوجيا اليونانية.
وبحسب تلك النظرة، لدى موت الإنسان، تنفصل نفسه عن جسده وتنزل إلى عالم الأموات،
إلى “الجحيم”، وهي مقرّ واحد يذهب إليه جميع الأموات دون تمييز بين
أشرار وصالحين، وهناك يحيون حياة بدائية تاعسة، لا هناء فيها ولا سعادة. فالله،
حسب قول المزامير، “لا يصنع المعجزات للأموات، ولا يحدَّث برحمته في القبر،
ولا بحقّه في الجحيم، حيث الظلمة وأرض النسيان” (راجع مز 87: 11- 13). في هذا
التصوّر لا رجاء لأيّ سعادة ولا انتظار لأيّ مكافأة بعد الموت. بل خوف وحزن ورهبة.

لذلك
كان رجاء العهد القديم يقتصر على السعادة على هذه الأرض. فلهذه الحياة اختار لله
له شعباً، وقطع معه عهداً، وأغدق عليه وعوده. وتستفيض أسفار العهد القديم في وصف
الخيرات التي يعد بها الله شعبه، إن حفظ وصاياه:

“إحفظوا
جميع الوصايا التي آمركم بها اليوم، واعملوا بها لكي تحيوا وتكثروا وتدخلوا
وتمتلكوا الأرض التي أقسم الرب عليها لآبائكم.. فإنّ الرب إلهك مُدخِلك أرضاً
صالحة، أرضاً ذات أنهار ماء وعيون وغمار تتفجّر في غورها ونَجْدها؟ أرض حنطة وشعير
وكرم وتين ورمّان، أرض زيت وعسل، أرضاً لا تأكل فيها خبزك بتقتير، ولا يعوزك فيها
شيء، أرضاً من حجارتها الحديد، ومن جبالها تقطع النحاس، فتأكل وتشبع وتبارك الرب
إلهك لأجل الأرض الصالحة التي أعطاكها” (تث 8: 1، 7- 10).

وتنعكس
وعود الله للمستقبل على الماضي في صورة “الفردوس الأرضي”، كما وردت في
الفصلين الثاني والثالث من سفر التكوين. تلك الصورة، التي تعبّر عن رغبات الإنسان
الخفيّة منذ بدء التاريخ، تعني أنّ البلوغ إلى السعادة المادية والتمتّع بالخيرات
الأرضية ليست أموراً غريبة عن قصد الله تجاه البشر.

ب)
وعود الله مشروطة بحفظ وصاياه

إلاَّ
أنّ “الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، بل بكلّ ما يخرج من فم الرب يحيا
الإنسان”، كما يقول سفر تثنية الاشتراع في حديثه عن امتحان الرب لشعبه في
البرّية: “أذكر جميع الطريق التي سيّرك فيها الرب إلهك في البريّة هذه
الأربعين سنة، ليُعَيِّنك ويمتحنك ويُظهر للناس ما في قلبك أتحفظ وصاياه أم لا.
فعنّاك وأجاعك وأطعمك المنّ الذي لا تعرفه أنتَ ولا عرفته آباؤك، لكي يعلّمك أنّه
لا بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ ما يخرج من فم الله يحيا الإنسان” (تث
8: 2- 3). ثم يضيف النص: “فاعلم في نفسك أنّه كما يؤدّب المرء ولده قد أدّبك
الربّ إلهك، فاحفظ وصايا الرب إلهك وسِرْ في طريقه واخشه (8: 5- 6).

إنّ
نجاح الشعب وازدهاره مرتبطان بأمانته لوصايا الله. وقصة خطيئة الإنسان الأول في
الفردوس وفقدانه السعادة بسبب عصيانه أمر لله تعبير على صعيد الإنسان الأول لما
يطلبه الله من شعبه على مدى تاريخه. فالله هو الذي يحدّد للإنسان وللشعب شروط خيره
وشرّه وشروط سعادته وهلاكه. وما يقوله الله في سفر التكوين للإنسان الفرد يقوله من
جديد في سفر تثنية الاشتراع للشعب كله: “إنّ هذه الوصية التي آمرك بها ليست
فوق طاقتك ولا بعيدة منك.. بل الكلمة قريبة منك جداً في لك وفي قلبك لتعمل بها.
أنظر، إنّي قد جعلت اليوم بين يديك الحياة والخير، والموت والشرّ، بما أني آمرك
اليوم أن تحبّ الرب إلهك وتسير في طرقه، وتحفظ وصاياه ورسومه وأحكامه لتحيا وتكثر
ويباركك الرب إلهك في الأرض التي أنت صائر إليها لتملكها” (تث 30: 11- 16).
ثم يضيف منذراً الشعب بالهلاك إن لم يسمع أمر الربّ ولم يحفظ وصاياه: “وان
زاغ قلبك ولم تسمع ومِلْتَ وسجدت لآلهة أخرى وعبدتَها، فقد أنبأتُكم اليوم أنّكم
تهلكون هلاكاً، ولا تطول مدّتكم في الأرض التي أنتم عابرون الأردن لتدخلوها
وتمتلكوها. وقد أشهدت عليكم اليوم السماء والأرض بأني قد جعلت بين أيديكم الحياة
والموت، البركة واللعنة. فاختر الحياة لكي تحيا أنت وذرّيّتك، بأن تحبّ الرب إلهك
وتطيع أمره، وتتشبّث به، لأنّ به حياتك وطول أيامك، فتقيم في الأرض التي أقسم الرب
لآبائك ابرهيم واسحق ويعقوب أن يعطيها لهم” (30: 17- 20).

بما
أن ازدهار الشعب رهن بأمانته لوصايا الله، فسيعتبر الأنبياء انقسام المملكة بعد
سليمان قصاصاً من الله لخطايا الشعب. وسيرجو الشعب بعد داود وسليمان مجيء ملك ينشر
العدل والإنصاف: “أللهمَّ اجعل أحكامك للملك وعدلك لابن الملك، فيحكم لشعبك
بالعدل ولبائسيك بالإنصاف. تثمر الجبال سلاماً والتلال برًّا. يقضي لبائسي الشعب
ويخلّص بني المساكين ويحطّم الجائر.. ينبت في أيامه الصديق وكثرة السلام إلى أن
يضمحلّ القمر.. يُنقذ المسكين المستغيث والبائس الذي لا ناصر له. يرثي للكسير
والمسكين، ويخلّص نفوس المساكين. من الظلم والغضب يفتدي نفوسهم، ويكون دمهم في
عينيه ثميناً، فيحيون ويؤدّون له من ذهب سبأ، ويدعون له كل حين، النهار كلّه
يباركونه. يكون للقمح توافر في الأرض، غلّته في رؤوس الجبال تتموّج كلبنان، ويزهر
أهل المدن مثل عشب الأرض” (مز 71: 1- 6).

ج)
الرجاء الجماعي والرجاء الفردي

جميع
الوعود التي تحدّثنا عنها حتى الآن هي على صعيد الخيرات المادية وموجّهة للشعب
بمجمله على صعيد وجوده التاريخي. لذلك تتّسم بسمة الأرض، أرض الميعاد، والوطن. إنّ
هذا التأكيد على البُعد الأرضي للرجاء سيتطوّر في ما بعد. ولكنه ضروري للدلالة على
أنّ الرجاء النهائي الذي يتجاوز الأرض والزمن ليس هروباً بل اكتمالاً، ويتضمّن كل
نواحي الحياة الواقعية.

هنالك
أيضاً في تلك الفترة تأكيد على تضامن الشعب في الخير كما في الشرّ: “أنا الرب
إلهك إله غيور، افتقد ذنوب الآباء في البنين إلى الجيل الثالث والرابع من مبغضيّ،
وأصنع رحمة إلى ألوف من محبّيّ وحافظي وصاياي” (خر 20: 5- 6). هذا التضامن
ناتج من طبيعة الإنسان الاجتماعية. لذلك لا يمكن الإنسان أن يرجو خلاصاً فردياً
بمعزل عن الجماعة وهذا سيطرح مشكلات كثيرة ستضّح تدريجياً في ما بعد.

2-
النظرة إلى المستقبل في تعليم الأنبياء

قبل
الأنبياء كانت نظرة العهد القديم إلى عمل الله في المستقبل نظرة عمل خلاص مستمرّ
دون أي انقطاع. أمّا الأنبياء فيرون المستقبل منقسماً انقساماً جذريًّا إلى زمنين:
زمن الدينونة وزمن الخلاص. فزمن الدينونة بوقف تقدّم التاريخ المطّرد والمنسجم نحو
نهايته السعيدة، وزمن الخلاص يعود فيشهد تحقيق وعود الله بكلّ قوّتها.

لا
يحدّد الأنبياء أي تاريخ لهذين الزمنين. لأنّه ليس من مهمّة النبي التنبّؤ عن
أحداث المستقبل يوماً بعد يوم، بل إعلان قرب دينونة الله على من يعمل الشرّ ويقين
مجيء خلاصه بعد الدينونة. وهكذا يحثّ الأنبياء على السير في الحق وممارسة العدل،
لأنّ دينونة الله آتية، ويغذّون الرجاء بتحقيق وعود الله حتى كمالها النهائي. ونجد
وصف تحقيق تلك الوعود لدى أنبياء القرن الثامن وفي نبوءة دانيال في القرن الثاني.
وبين القرنين نلاحظ تطوّراً لا بدّ من وصف مختلف مراحله.

أ)
إعلان دينونة الله

يعلن
الأنبياء أنّ الله سيدين العالم. وتلك الدينونة تظهر بما يرسله الله من آفات
ومصائب على شعبه والعالم بأسره جزاء لخطايا. ويؤكّد الأنبياء أنّه لا مفرّ من
دينونة الله، لأنّ الله قد قصد إزالة جميع الخطأة. ولا شفاعة بعد، حسب قول إرميا
النبي: “قال لي الرب. ولو أنّ موسى وصموئيل وقفا أمامي، لما توجّهت نفسي إلى
هذا الشعب، فاطرحهم عن وجهي وليخرجوا. وإذا قالوا لك إلى أين نخرج، فقل لهم: هكذا
قال الرب: الذين للموت فإلى الموت، والذين للسيف فإلى السيف، والذين للجوع فإلى
الجوع، والذين للجلاء فإلى الجلاء” (ار 15: 1- 2).

ويدعو
الأنبياء يوم الدينونة “يوم الرب”، الذي سيكون يوم غضب وظلمة، حسب قول
عاموس النبي: “إنّ عيون البشر المتشامخة ستُخفَض، وترفّع الإنسان سيوضع،
ويتعالى الرب وحده في ذلك اليوم.. وتزول الأصنام بتمامها، ويدخل كلّ أحد في مغاور
الصخر وأخاديد التراب من أمام رعب الرب ومن بهاء عظمته حين يقوم ليزلزل
الأرض” (اش 2: 11- 19). وفي “يوم الرب” يقول أيضاً النبي صفنيا: “قريب
يوم الرب العظيم، قريب وسريع جدًّا. صوت الربّ مرّ. هناك يصرخ الجبار. يوم حنق ذلك
اليوم، يوم ضرر وضيق، يوم إبادة وإتلاف، يوم ظلمة وديجور، يوم غمام وضباب، يوم بوق
وهتاف على المدن الحصينة وعلى البروج الشامخة. وأضايق البشر فيمشون كالعمي، لأنهم
خطئوا إلى الرب” (صف 1: 14- 18).

ولإظهار
رهبة تلك الدينونة يشير الأنبياء إلى بلبلة شاملة في الكون، في الأرض والسماء: “نظرت
إلى الأرض، فإذا هي خاوية خالية، وإلى السماوات، فلم يكن فيها من نور. نظرت إلى
الجبال فإذا هي ترتجف وجميع التلال تتقلقل. نظرت فم يكن إنسان، وكلّ طيور السماء
قد انهزمت. نظرت فإذا بالكرمل قد صار برّية، وجميع مدنه هدمت من وجه الرب، من وجه
شدّة غضبه” (ار 4: 23- 26). “هوذا يوم الرب قد حضر، يوم قاسٍ ذو سخط
واضطرام غضب، ليجعلَ الأرض خراباً ويبيد خطأتها منها. إنّ كواكب السماء ونجومها لا
تبعث نورها، والشمس تظلم في خروجها، والقمر لا يضيء بنوره” (أش 13: 9- 10).
والخراب سيشمل الأرض كلها، لأن الناس جميعاً قد خطئوا: “ها إنّ الربّ يخرّب
الأرض ويخليها، ويقلب وجهها ويبدّد سكانها.. قد تدنّست الأرض تحت سكانها، لأنهم
تعدّوا الشرائع ونقضوا الحقّ ونكثوا عهد الأبد. فلذلك أكلت اللعنة الأرض، وعوقب
الساكنون فيها، واحترق سكان الأرض، فبقي نفر قليل” (اش 24: 1- 6).

تلك
الصور ستنتقل عبر الأجيال من الأنبياء إلى يسوع وإلى سفر الرؤيا، حاملة المعنى
نفسه، وهو أنّ دينونة الله آتية، وأنّه من ثمّ يجب على الإنسان الرجوع عن خطاياه
والتوبة إلى الله والمحافظة على عهده ووصاياه.

ب)
الوعد بالخلاص

ولكن
بعد الدينونة، يذكّر الأنبياء بقصد الله الأخير وهو خلاص البشر. ويقوم هذا الخلاص
على عهد جديد يقطعه الله مع شعبه، “فيجعل شريعته في ضمائرهم، ويكتبها على
قلوبهم، ويغفر آثامهم، فيعرفونه من صغيرهم إلى كبيرهم” (راجع ار 31: 33- 34،
وحز 36: 24- 28). حينئذٍ “تُبنَى الأخربة وتصير الأرض المستوحيّة كجنّة
عدن” (حز 36: 33- 35).

هذا
الخلاص يصفه الأنبياء بلوحات رمزية تعود بالشعب إلى أيّام العهود الأولى. فأشعيا
يراه كأنه رجوع إلى زمن سليمان وداود، وينتظر مجيء الملك الموعود به من سلالة داود،
“فيزول الادلهمام عن التي كانت في الضيق.. الشعب السالك في الظلمة يبصر نوراً
عظيماً، والجالسون في بقعة الموت وظلاله يشرق عليهم نور.. لأنّه قد وُلد لنا ولد
وأُعطي لنا ابن، فصارت الرئاسة على كتفه، ودُعي اسمه مشيراً عجيباً، إلهاً جبّاراً،
أبا الأبد رئيس السلام، لنموّ الرئاسة والسلام لا انقضاء له على عرش داود ومملكته،
ليقرّها ويوطّدها بالإنصاف والعدل من الآن وإلى الأبد” (أش 9: 1- 7).

وهوشع
يعود إلى أيّام الصحراء التي فيها خلّص الله شعبه من عبودية مصر، وأدخله أرض
الميعاد: “ها أنا ذا أتملّقها وآتي بها إلى البريّة، وأخاطب قلبها، وأعطيها
كرومها من هناك، وأجعل من وادي عكور باباً للرجاء، فتغنّي هناك كما في أيام صباها
وفي يوم صعودها من أرض مصر. وفي ذلك اليوم، يقول الرب، تدعينني رجلي ولا تدعينني
بعد بعلي.. وأكسر القوس والسيف والحرب من الأرض وأريحهم في الأمان. وأتزوّجكِ إلى
الأبد، أتزوّجكِ بالعدل والحكم والرأفة والمراحم، وأتزوّجكِ بالأمانة، فتعرفين
الرب” (هو 2: 14- 20).

ويذهب
الأنبياء إلى أبعد من ذلك، إلى الفردوس الأرضي، حيث كان السلام الشامل سائداً جميع
الخلائق: “ويخرج قضيب من جذر يسّى وينمي فرع من أصوله، ويستقرّ عليه روح الرب،
روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح العلم وتقوى الرب. ويتنعّم بمخافة
الرب، ولا يقضي بحسب رؤية عينيه، ولا يحكم بحسب سماع أُذنيه. بل يقضي للمساكين
بعدل ويحكم لبائسي الأرض بإنصاف.. ويكون العدل منطقة حقويه، والحقّ حزام
كشحيه”. بعد هذا الوصف للمسيح المنتظر، يضيف أشعيا: “فيسكن الذئب مع
الحمل، ويربض النمر مع الجدي، ويكون العجل والشبل والمعلوف معاً، وصبيّ صغير
يسوقها. ترعى البقرة والدب معاً، ويربض أولادهما معاً، والأسد يأكل التبن كالثور،
ويلعب المرضَع على حجر الأفعى، ويضع الطفل يده في نفق الحيّة. لا يسيئون ولا
يفسدون في كل جبل قدسي، لأنّ الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغمر المياه
البحر” (أش 11: 1- 9).

والكون
كله يستنير، “ويصير نور القمر كنور الشمس، ونور الشمس يصير سبعة أضعاف كنور
سبعة أيّام، يوم يجبر الرب كسر شعبه، ويشفي جرح ضربته” (أش 30: 26).
“ويخلق الله سماوات جديدة وأرضاً جديدة.. ويخلق أورشليم ابتهاجاً وشعبها
سروراً، ويبتهج بأورشليم ويسرّ بشعبه، ولا يُسمعَ فيها من بعد صوت بكاء ولا صوت
صراخ..” (أش 65: 17- 25). “ويبيد الرب الموت على الدوام، ويمسح الدموع
عن جميع الوجوه، ويزيل تعيير شعبه عن كل الأرض” (أش 25: 8).

تتميّز
تلك الأوصاف بأمرين: أولهما أنّ الخلاص هو لهذه الحياة وهذه الأرض. فالسلام والحق
والعدل ستسود الشعوب على أرض جديدة. ولا يبدو أنّ الأنبياء يشيرون إلى حياة سعادة
بعد الموت. والأمر الثاني هو أنّ الخلاص خلاص جماعي للشعب كلّه، ويشمل مختلف
النواحي: الروحية، إذ إنّ الشعب سيعرف الرب ويحفظ وصاياه، والماديّة من سلام
وازدهار ووفرة في الخيرات.

ج)
من الرجاء الجماعي إلى الرجاء الفردي بعد الموت

بقي
الأنبياء فترة طويلة يعتبرون الجزاء أمراً جماعياً. ولكن ابتداء من سقوط أورشليم
بدأ تصوّرهم يتغيّر. فنقرأ في حزقيال مبدأ الجزاء الفردي: “النفس التي تخطأ
هي تموت” (حز 18: 4). ولكنّ الخلاص بقي مقتصراً على الحياة على هذه الأرض.
ومن ثم راح الصدّيقون، مع أيوب، يطرحون السؤال التالي: إذا كان الله عادلاً، وإذا
كانت مكافأة الصديقين تقتصر على هذه الحياة، فماذا ينجح المنافقون والأشرار، ويشقى
الصدّيقون والأبرار؟ وهل سيتمتّع الصدّيقون بالخلاص المرتقَب في اليوم الاخير؟ نرى
الجواب على هذا السؤال في المزامير وفي الأسفار الحكمية وفي سفر دانيال.

فهناك
بعض المزامير التي تعبّر، من خلال خبرة روحية، عن الرجاء بحياة سعادة مع الله بعد
الموت. فالبار الذي يحيا متّحداً بالله في هذه الحياة، وإن لم يعرف على الأرض
الرفاهية المادية، يؤمن بأنّ الله سيقوده إلى المجد بعد موته، حسب قول المزمور 73:
23- 24: “قد صرت عندك كالبهائم، وأنا معك في كل حين. أخذتَ بيدي اليمنى،
بمشورتك تهديني، ومن بعدُ إلى المجد تأخذني”. والمزمور 48: 15- 16 يقارن بين
مصير الخطأة الذين “جُعلوا في الجحيم كالغنم فيرعاهم الموت ويمحو الجحيم
ذكرهم” ومصير الصدّيق الذي “يفتدي الله نفسه من الجحيم حين يأخذه”.

والرجاء
بالحياة مع الله بعد الموت يبدو واضحاً في المزمور 15: 8- 11، الذي يقول: “جعلتُ
الربّ أمامي في كل حين، فإنه عن يميني لكي لا أتزعزع. لذلك فرح قلبي وابتهج مجدي،
وجسدي أيضاً سيسكن على الرجاء. لأنّك لن تترك نفسي في الجحيم، ولن تدع قدّوسك يرى
فساداً. قد عرّفتني سبل الحياة، وستملأني فرحاً برؤية وجهك، ولي من يمينك لذات على
الدوام”.

في
سفر دانيال نجد الجواب عن مصير الذين ماتوا في سبيل إيمانهم أيام الاحتلال
اليوناني واضطهاد اليهود على يد ملك سوريا انطيوخس أبيفانوس (167- 164 ق. م.).
فبعد التنبّؤ عن سقوط هذا الملك ومجيء ابن البشر الذي سيحقّق “ملك الله وملك
قدّيسي العليّ” (دا 7: 27)، يتحدّث عن الصدّيقين الذين ماتوا في سبيل إيمانهم.
فيقول إنّهم نزلوا إلى الجحيم كسائر الأموات. ولكنّ الله سيقيمهم من هناك للحياة
الأبدية: “وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون بعضهم للحياة الأبدية،
وأهم للعار والرّذل الأبدي. ويضيء العقلاء كضياء الجلَد، والذين جَعلوا كثيرين
أبراراً كالكواكب إلى الدهر والأبد” (دا 12: 2-).

إن
الإيمان بالحياة مع الله بعد الموت قد نشأ من خبرة روحية اختبرها الصدّيقون في هذه
الحياة. وتلك الخبرة هي خبرة الإيمان بالله. فالله، في تلك الخبرة، يبدو إله
الحياة الدائمة التي لا يمكن للموت أن يزيلها، وإله الأمانة لمواعيده بمكافأة
الصدّيقين، وإله العدل الذي لا يمكن أن يترك الشرّ يسيطر إلى الأبد. وهكذا
تدريجيًّا نشأت في المزامير والأسفار الحكمية فكرة الحياة في الدهر الآتي، التي هي
حياة سعادة ومجد مع الله للصدّيقين، وحياة شقاء وعار للهالكين. وصارت لفظة
“الجحيم” تعني فقط مقرّ الهالكين. أمّا الحياة في الدهر الآتي للصدّيقين
فتقوم أساساً على الحياة مع الله. وما سوى ذلك تصوّرات بشريّة لا بدّ منها للتعبير
عما يعجز العقل البشري عن إدراكه إدراكاً تامًّا ووصفه وصفاً دقيقاً موضوعيًّا.

إنطلاقاً
من هذا التصوّر العام، نشأ أدب لم تحتفظ به الأسفار المقدسة فاعتُبر منحولاً، يصف
العالم الآخر وصفاً حسيًّا ومريعاً. وقد حفظ بعض ذلك الوصف في سفر أخنوخ، وهو كتاب
منحول يجمع كتباً مختلفة يعود أقدمها إلى ما قبل تدوين سفر دانيال (سنة 164). فنرى
في هذا الكتاب وصفاً دقيقاً للأماكن المختلفة التي ينزل إليها الأموات وفق المصير
الذي تُعِدّه لهم دينونة الله. فهناك “هاوية من نار” حُدِّد مكانُها على
أطراف “الكرة الأرضية” التي كانت تعتبر “مسطَّحة”، وهي مقرّ
عذاب الشياطين. وهناك “جهنّم النار”، حيث يتعذّب الناس الهالكون. وهناك
أخيراً “جنّة النعيم” التي وُضعت على الأرض في بدء الكون، ثم نُقلت إلى
جزيرة في شمالي غربي الأرض، حيث الآباء والأبرار ينتظرون يوم قيامة الأموات، الذي
يُعاد فيه الفردوس الأرضي على أرض جديدة.

إنّ
تحديد تلك الأمكنة الخيالية يجب ألاَّ يُعتبر تحديداً موضوعياً وألاَّ يُفسَّر
تفسيراً حرفيًّا. إنّما القصد منه التأكيد على أنّ مصير الإنسان بعد الموت يتحدّد
وفقاص لما عمله في حياته. سيلجأ يسوع إلى تلك التصوّرات المعهودة لدى مستمعيه،
فيتكلّم عن قيامة الأموات وهلاك الخطأة في جهنم النار، وانتقال الصدّيقين إلى جنّة
النعيم في أحضان ابراهيم.

إنّ
وصف الحياة بعد الموت للخطأة والصدّيقين نجده أخيراً في سفر الحكمة الذي كُتِب
باليونانية في الاسكندرية في القرن الأول قبل المسيح. يقول هذا السفر:

“إنّ
نفوس الصدّيقين هي بيد الله، فلا يمسّها العذاب. وفي ظنّ الجهّال أنهم ماتوا، وقد
حُسِب خروجُهم شقاء وذهابهم عنّا عَطَباً. أمّا هم ففي السلام. ومع أنّهم قد
عوقبوا في عيون الناس، فرجاؤهم مملوء خلوداً. وبعد تأديب يسير لهم ثواب عظيم، لأنّ
الله امتحنهم فوجدهم أهلاً له” (حك 3: 1- 5).

وعندما
يرى الأثمة مصير الصدّيقين، “يضطربون من شدّة الجزع، وينذهلون من خلاص لم
يكونوا يظنّونه. ويقولون في أنفسهم نادمين، وهم ينوحون من ضيق صدورهم: هذا الذي
كنّا حيناً نتّخذه سُخْرة ومثلاً للعار، وكنّا نحن الجهّال نحسب حياته جنوناً
وموته هواناً، فكيف أصبح معدوداً في بني الله وحظّه بين القديسين. لقد ضللنا عن
طريق الحقّ ولم يضئ لنا نور البرّ، ولم تشرق علينا الشمس” (5: 2- 6).

ثم
يشبّه سفر الحكمة الخطأة “بالظل وبالخبر السائر، وبالسفينة الجارية على الماء
المتموّج، التي بعد مرورها لا تجد أثرها، وبالطائر الذي يطير في الجوّ فلا يبقى
دليل على مسيره، وبالسّهم الذي يرمى إلى الهدف فيُخرَق به الهواء ولدقّته يعود إلى
حاله حتى لا يُعرَف ممرّ السّهم” (5: 9- 12). ثم يضع على لسان الخطأة: “كذلك
نحن أيضاً وُلدنا ثم اضمحللنا، ولم يكن لنا أن نبدي علامة فضيلة، بل فنينا في
رذيلتنا. كذا قال الخطأة في الجحيم. لأن رجاء المنافق كبار تذهب به للريح، وكزَبَد
رقيق تطارده الزوبعة، وكدخان تبدّده الريح، وكذكر ضيف نزل يوماً ثم ارتحل” (5:
13- 15).

أمّا
الصدّيقون فيقول عنهم إنّهم “سيحيون إلى الأبد، وعند الرب ثوابهم، ولهم عناية
من لدن العلي. فلذلك سينالون ملك الكرامة وتاج الجمال من يد الرب، لأنه يسترهم
بيمينه وبذراعه يقيم” (5: 16- 17).

في
سفر الحكمة نجد اعتدالاً ورصانة في وصف حياة بعد الموت لا نجدهما في سفر أخنوخ
وسائر الأسفار اليهودية التي تتحدّث عن الأزمنة الأخيرة. إنّ تعليم سفر الحكمة
يرسم في خطوط بسيطة صورة المرحلة الأخيرة والنهائية من حياة البشر، حياة ما بعد
الموت أو حياة الدهر الآتي. وتلك الصورة هي نفسها التي سيحتفظ بها اللاهوت المسيحي.
ولكن قبل التوسّع في مفهوم اللاهوت لتلك الحياة، سنرى تعليم يسوع في هذا الموضوع
كما يعرضه لنا الإنجيل المقدس ثم تعليم الكنيسة الأولى كما يبدو من مختلف أسفار
العهد الجديد.

ثانياً-
الحياة في الدهر الآتي

من
خلال تعليم يسوع وخبرة حياته

إنّ
يسوع، في تعليمه وخبرة حياته، يكشف الحقيقة العميقة التي يتضمّنها العهد القديم،
ويوصلها إلى الكمال. ماذا علّم يسوع بشأن الحياة في الدهر الآتي ورجاء تلك الحياة؟
كيف اختبر ذلك الرجاء في حياته الخاصة؟

1-
تعليم يسوع في رجاء حياة الدهر الآتي

أ)
تحقيق رجاء العهد القديم بمجيء ملكوت الله

لقد
تنبّأ الأنبياء في العهد القديم عن مجيء زمن جديد يملك فيه الله على البشر ويصنع
معهم عهداً جديداً ويغفر خطاياهم ويفيض في قلوبهم روحه القدوس. وهذا هو موضوع
رجائهم بالأزمنة الأخيرة (الاسختولوجيا). هذا الزمن الجديد والأخير قد تمَّ بمجيء يسوع
وتبشيره بالملكوت، وتمَّ أيضاً بإقامته عهداً جديداً بدمه، وتمَّ أخيراً بإرساله
الروح القدس على تلاميذه بعد قيامته.

“بعدما
أُلقي يوحنا في السجن، أتى يسوع إلى الجليل وهو يكرز بإنجيل الله ويقول: لقد تمَّ
الزمان، واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل” (مر 1: 14- 15). منذ بدء
رسالته يعلن يسوع أنّ رجاء العهد القديم قد تحقق بمجيئه، وأنّ ملكوت الله صار على
متناول أيدي الجميع. وعندما سأل الناس يسوع: متى يأتي ملكوت الله؟، أجابهم: “إنّ
ملكوت الله هو في داخلكم”، أو بترجمة أخرى “إنّ ملكوت الله هو في ما
بينكم” (لو 17: 20- 21). وكلتا الترجمتين تؤدّيان معنى ينسجم وتعليم يسوع
بشأن ملكوت الله. فالملكوت لا يظهر بعلامات خارجية باهرة على الصعيد الكوني في
الشمس والقمر والكواكب، بل في داخل الناس عندما يملك الله في قلوبهم. ثم إنّ ملكوت
الله لا يمكن أن يُنظَر إليه كحدث من أحداث الحياة الاعتيادية ويشاهَد بأعين الجسد،
فيقال هو هنا أو هو هناك. إنه يظهر ظهوراً خفيًّا في شخص يسوع نفسه. فيسوع هو
“الملكوت بالذات”، كما يقول أوريجانوس. وبالإيمان وحده يستطيع الإنسان
أن يشاهد هذا الملكوت. لا شكّ أنّ هناك علامات خارجيّة تشير إلى مجيئه في شخص يسوع،
لكنّ تلك العلامات لا يمكن فهمها إلاَّ بالإيمان. وتلك العلامات هي الأعمال
والآيات التي يقوم بها يسوع لخلاص الناس وتحريرهم من المرض وعبودية الشر. وهذا ما
يؤكّده المسيح للفريسيين: “إن كنت أنا بروح الله أُخرج الشياطين، فذلك أنّ
ملكوت الله قد انتهى إليكم” (متى 12: 28).

لقد
حقّق يسوع الملكوت بعمله وحقّقه بموته وقيامته، التي بهما أظهر سيادة الله على
الخطيئة والموت، ومنح العالم الروح القدس. إنّ يسوع القائم من بين الأموات هو مصدر
الروح للعالم. وموت يسوع وقيامته وإرساله الروح القدس وإنشاؤه الكنيسة شعب الله
الجديد، هي الأحداث التي يشير إليها يسوع بقوله: “الحقّ أقول لكم: إنّ في
القائمين ههنا مَن لا يذوقون الموت حتى يعاينوا ملكوت الله آتياً في قدرة”
(مر 9: 1).

ب)
الدهر الحاضر والدهر الآتي كلاهما موضوع الرجاء

إنّ
الرجاء الذي يكرز به المسيح يشمل الدهر الحاضر والدهر الآتي. وهو في آن معاً رجاء
جماعي ورجاء فردي. فانطلاقاً من تحقيق الملكوت بمجيء المسيح وموته وقيامته وإنشائه
الكنيسة، يمكننا القول إنّ الكنيسة هي في ذاتها تحقيق الرجاء الجماعي لشعب العهد
القديم. فقد أنشأها المسيح على الرسل الاثني عشر الذين يمثّلون أسباط اسرائيل
الاثني عشر. وهي الشكل الحاضر لملكوت الله. فمن يؤمن بالمسيح ويصير عضواً في
الكنيسة جسده يدخل بالفعل نفسه في ملكوت الله، ويبدأ منذ الآن حياة القيامة مع
الله.

أما
للدهر الآتي فينبئ يسوع بسعادة الصدّيقين وهلاك الأشرار. ففي مثَل الزؤان (متى 13:
40- 43)، يشبّه مصير الصدّيقين ومصير الأشرار بالحنطة التي تُجمعَ في الاهراء،
والزؤان الذي يُربَط حِزَماً ويُحرَق. وفي وصف الدينونة العامة يمنح للصدّيقين
ميراث “المُلْك المُعدّ لهم منذ إنشاء العالم”، وللأشرار “النار
الأبدية التي أُعدّت لإبليس وملائكته”. ثم يختم بقوله: “فيذهب هؤلاء إلى
عذاب أبدي، والصدّيقون إلى حياة أبدية” (متى 25: 31- 46) وهكذا يؤكّد الجزاء
الفردي الذي سيحصل عليه كل إنسان في الدينونة العامة.

هل
يعتبر يسوع إمكانية هذا الجزاء لكلّ إنسان حالاً بعد موته؟ إنّ مثَل لعازر والغني
(لو 16: 19- 31) يُلمح إلى ذلك: “ومات المسكين فنقلته الملائكة إلى أحضان
إبراهيم. ومات الغني أيضاً ودُفن، فرفع عينيه وهو في العذاب في الجحيم، فرأى
ابراهيم من بعيد ولعازر في أحضانه”. إنّ تحديد الأمكنة التي يذهب إليها
الموتى تعبير شعبي مطابق لما جاء في سفر أخنوخ. فالغني ينزل إلى “جهنم النار”
حيث يتعذّب الناس الهالكون، أمّا لعازر فينتقل إلى جنة النعيم حيث يمكث الصدّيقون
منتظرين يوم القيامة. وهكذا يلجأ يسوع إلى التصاوير المألوفة لدى مستمعيه ليبلغهم
رسالته ويحثّهم على الأعمال الصالحة في هذه الحياة. ونجد أيضاً فكرة الجزاء
المباشر بعد الموت في قول يسوع للّصّ التائب المعلّق إلى يمينه على الصليب: “اليوم
تكون معي في الفردوس” (لو 23: 34).

ج)
الأزمنة الأخيرة ونهاية العالم في تعليم يسوع

إنّ
نبوءات الأنبياء قد تحقّقت إذاً بمجيء يسوع المسيح ابن الإنسان الذي أُعطي السلطان
على كلّ بشر لإنشاء ملكوت الله. وبدأت مع المسيح الأزمنة الأخيرة. ولكن متى تكون
نهاية العالم؟ نجد عند الازائيين بعض تعاليم يسوع في هذا الموضوع في إطار تنبّؤه
عن خراب أورشليم.

*
يميّز لوقا في تعليم يسوع بشأن المستقبل بين ثلاث مراحل:

1)
خراب أورشليم: “إذا رأيتم أورشليم قد أحاطت بها الجنود، فاعلموا عندئذٍ أنّ
خرابها قد اقترب” (21: 20- 24).

2)
أزمة الأمم: “وتدوس الأمم أورشليم إلى أن تتمّ أزمنة الأمم” (21: 24).
ويعني بأزمنة الأمم الرَّدح من الزمان الذي تقوم فيه الأمم مقام إسرائيل العادم
الأمانة، وهو الزمن الذي يبدأ بإنشاء الكنيسة وينتهي بنهاية العالم. وهو غير محدود
المدة.

3)
نهاية العالم ومجيء ابن البشر: “عندئذٍ يُشاهَد ابن البشر آتياً في السحاب في
كثير من القدرة والمجد” (21: 25- 28). ويضع أيضاً على لسان يسوع وصفاً آخر
لنهاية العالم في 17: 22- 33.

*
في متى ومرقس نجد وصفاً لخراب أورشليم ونهاية العالم في ثلاث مراحل:

1-
تدنيس الهيكل: “رجاسة الخراب قائمة في المكان المقدّس” (متى 24: 51، مر
13: 14، راجع أيضاً دا 9: 27 و11: 31).

2-
ضيق الشعب: “سيكون ضيق شديد لم يكن مثله منذ بدء العالم حتى الآن ولن
يكون” (متى 24: 21، مر 13: 19، دا 12: 1).

3-
ظهور ابن البشر: “بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس ويحبس القمر ضوءه وتتساقط
الكواكب من السماء وتتزعزع قوات السماوات، وعندئذٍ تظهر علامة ابن البشر في السماء..
ويشاهدون ابن البشر آتياً على سحاب السماء في كثير من القدرة والمجد” (متى 24:
30؛ مر 13: 26، دا 7: 13- 14).

أمّا
زمن تحقيق تلك النبوءة فيقول عنه يسوع: “إنّ هذا الجيل لا يزول إلى أن يتمّ
هذا كله”. ثم يضيف: “أمّا ذلك اليوم وتلك الساعة، فلا يعلمها أحد ولا
ملائكة السماء، ولا الابن إلاَّ الآب” (متى 24: 34- 36؛ مر 13: 30- 32). ماذا
يقصد مرقس ومتى بقولهما إنّ هذا الجيل لا يزول إلى أن يتمّ هذا كله؟ هل يقصدان فقط
خراب أورشليم أم أيضاً نهاية العالم؟ إذا انطلقنا من السؤال الذي يطرحه التلاميذ
على يسوع نجد فرقاً بين نص مرقس ونص متى. فالسؤال في إنجيل مرقس يتعلّق فقط بخراب
أورشليم (مر 13: 4). أمّا في إنجيل متى فيتعلّق بخراب أورشليم ونهاية العالم: “قل
لنا متى يكون هذا، وما تكون علامة مجيئك ومنتهى العالم” (متى 24: 3). وبما
أنّ إنجيل مرقس أقدم من إنجيل متى، فيبدو أنّ متى قد أضاف بعض الأمور المتعلّقة
بنهاية العالم، بتأثير من بعض التيارات الفكرية اليهودية التي كانت تعتقد بقرب
نهاية العالم.

يبدو
إذاً أنّ ما يقصده يسوع بشكل مباشر هو أولاً خراب أورشليم ونهاية العالم القديم
المرتكز على هيكل أورشليم. وهذا ما تمَّ لدى احتلال الرومان لأورشليم وتدميرها سنة
70 بعد المسيح. ولكن نهاية أورشليم هي صورة مصغّرة لنهاية العالم التي ستتمّ في
نهاية الأزمان. ولكن لا يمكننا الاستناد إلى أقوال يسوع لتحديد نهاية العالم.

ذلك
أنّ أقوال يسوع بشأن الأزمنة الأخيرة ونهاية العالم ليست وصفاً دقيقاً لما سيجري
في الواقع في آخر الأزمان، ولا يمكن أن تكون على هذا النحو. إنّما يجب فهمها على
سبيل التلميح والتحذير النبوي. إنّها ترسم خطوطاً عريضة إنطلاقاً من نبوءات العهد
القديم وأحداث الزّمن الذي عاش فيه المسيح. وتؤكّد ضرورة السّهر: “إحذروا
واسهروا لأنكم لا تعلمون متى يحين الوقت” (مر 13: 33).

ثم
إنّ هناك علاقة جدلية بين أقوال يسوع النبوية والأحداث التاريخية التي تعقبها.
يقول أحد اللاهوتيين المعاصرين: “إنّ نص الإنجيل مشدود إلى التاريخ الذي يليه.
وهذا التاريخ لا يكتفي بالتعليق على أقوال يسوع. بل إن تلك الأقوال، ببروز الواقع
المنتظر، تجد في هذا الواقع كلّ أبعادها. لذلك يحتمل النص من طبيعته تفسيرات لا
نهاية لها، ولذلك أيضاً يستطيع يوحنا الانجيلي أن يسبر أعماق أقوال يسوع ويفهم
معانيها أكثر من سابقيه. وتفسيره ليس تطبيقاً لاحقاً على أوضاع قد تغيّرت، إنّما
هو سير داخلي مع الكلمة نفسها”.

لذلك
نرى داخل النص الإنجيلي نفسه اختلافات في تفسير أقوال يسوع ناتجة عن تلك العلاقة
الجدلية بين أقوال يسوع من جهة والأحداث والأوساط المختلفة التي عاشت فيها الكنيسة
الأولى من جهة أخرى. فمرقس يكتب في زمن ومحيط مختلفين عن الزمن والمحيط الذي بكتب
فيه متى. وكذلك القول عن يوحنا الذي كتب إنجيله في نهاية القرن الأول، بعد أن
اتَّضح للمسيحيين الأوّلين أنّ نهاية العالم ليست قريبة كما كان يظنّ البعض.

لذلك
يمكننا القول اليوم إنّ قرب مجيء المسيح ونهاية العالم يجب ألاَّ يُفهَم على صعيد
القرب الزمني بقدر ما يجب النظر إليه على صعيد القرب النفسي أي على صعيد الاستعداد
الدائم لملاقاة المسيح، وذلك بالتوبة والإيمان بالإنجيل (متى 24: 37- 51؛ مر 13: 33-
37). وكل ما سوى ذلك من أوصاف متعلّقة بمجيئه، فيسوع لا يأتي على ذكره إلاَّ في
تعابير معهودة لدى معاصريه، ولا يزيل الغطاء عن السرّ الذي سيبقى على ما هو عليه.

2-
رجاء يسوع الشخص

إنّ
يسوع يحيا الرسالة التي يكرز بها. فمن جهة يشترك اشتراكاً كاملاً في ملكوت الله
بقبوله الصليب، ومن جهة أخرى يقود في شخصه رجاء العهد القديم إلى كماله، هذا
الرجاء الذي يلجأ إلى تعابيره التقليدية للتعبير عن رجائه الشخصي.

أ)
الصليب

لقد
رفض يسوع الماسيوية السياسية وقَبِلَ الموت “ليبذل حياته فداء عن
كثيرين” (مر 10: 45)، ويختم بدمه “العهد الجديد” الذي أنبأ عن
مجيئه ارميا النبي.

ب)
رجاء القيامة وتحقيقها في شخص المسيح

يؤمن
يسوع بالقيامة ويرجوها. فنراه يبيّن للصَّدّوقيين الذين لا يؤمنون بعدم القيامة
أنّهم على ضلال عظيم، وأنّ “الله هو إله أحياء وليس إله أموات”.
فالأموات سيقومون، ولكن لحياة روحية. “فعندما يقومون من الأموات لا يزوّجون
ولا يتزوّجون، بل يكونون كالملائكة في السماء” (مر 12: 18- 27).

ويسوع
أيضاً يرجو القيامة لنفسه. فكل مرّة ينبئ تلاميذه بموته لا يفصل أبداً موته عن
قيامته: “أخذ يعلّمهم أنّه ينبغي لابن البشر أن يتألّم كثيراً، وأن ينتبذه
الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، وأن يُقتَل ويقوم بعد ثلاثة أيّام” (مر 8: 31).
وهذا اليوم الثالث هو، في التقليد اليهودي، “يوم تعزية الأموات” أي يوم
القيامة.

وعندما
سأله رئيس الكهنة في أثناء المحاكمة: “أأنت المسيح ابن المبارك؟”، أجابه:
“أنا هو”، ثم أضاف: “وسترون ابن البشر جالساً عن يمين القدرة،
وآتياً على سحاب السماء” (مر 14: 62). إنّ يسوع يرجو بعد موته الدخول في مجد
الله. فالدهر الآتي هو له حالة مجد وحياة إلى يمين الله الآب.

والساعة
التي يتكلّم عنها إنجيل يوحنا هي في آنٍ معاً ساعة موت يسوع وقيامته، وساعة دينونة
العالم وخلاصه. وعندما يرتفع على الصليب يجذب إليه الجيمع ليخلّصهم، والذين يرفضون
الإيمان بيسوع يُدانون. لذلك يعلن وهو على الصليب أنّ كل شيء “قد تمَّ”
بموته (يو 19: 30)، وأنّه بدأ للعالم زمن الدينونة وزمن الخلاص. وتلك هي
“الأزمنة الأخيرة” التي تكلّم عنها الأنبياء.

مع
يسوع نجد في الكتاب المقدس تفسيراً جديداً للأزمنة الأخيرة. فالدينونة والخلاص
يبقيان، ولكن رجاء الشعب يرتكز على يسوع للبلوغ إلى كماله وتحقيق كل تطلّعاته
المتعلّقة بالزمن الجديد والدهر الآتي.

3-
الرجاء المسيحي في الكرازة الرسولية

يستند
الرجاء المسيحي إلى بلوغ رجاء العهد القديم كماله في المسيح. ولكن هذا الرجاء يبقى
مشدوداً إلى كماله النهائي. إنّ موت يسوع قد اعتبره الرسل ذبيحة تكفيرية. فالإنسان،
وقد افتداه المسيح، يمرّ من الوجود الخاضع لشريعة الخطيئة إلى الوجود الجديد
المتّحد بالله والعائش في ملكوته. فمن يؤمن بالمسيح لا يعود خاضعاً للدينونة التي
تبقى مسلّطة على العالم الخاطئ، بل يشترك في الخلاص الذي يمنحه الله للذين يؤمنون.

ذاك
هو أساس الرجاء المسيحي. ولكن هذا الرجاء يتضمّن مرحلتين: مرحلة أولى تتعلّق
بالزمن الحاضر، ومرحلة أخرى تتعلّق بالدهر الآتي بعد الموت.

أ)
الرجاء في الزمن الحاضر

1)
العالم أمام دينونة الله: يرى البعض تناقضاً بين إله العهد القديم الذي يعتبرونه
إلهاً قاضياً وإلهاً ديّاناً وإله العهد الجديد الذي ظهر لنا في شخص يسوع وتعليمه
إلهاً أباً وإلهاً محبة. إنّ في تلك النظرة كثيراً من المغالاة. ففي العهد الجديد
ظهر الله حقًّا إلهاً أباً وإلهاً محبة. إلاَّ أنَّ تلك المحبة هي في آنٍ معاً
“نار آكلة” (عب 12: 29) للخاطئ الذي يجابه تلك المحبة فينغلق على نفسه
ويرفض نعمة الله التي من شأنها أن تصالحه مع الله وتجعل منه إنساناً جديداً. إنّ مجيء
يسوع لم يجعل من فكرة الله الديّان فكرة غابرة يجب تخطّيها، بل على العكس من ذلك
يعلن دينونة الله أمراً ثابتاً في تاريخ العالم. هذا ما يظهر بوضوح في النص
الإنجيلي التالي الذي يجمع فيه يوحنا بين محبة الله وخلاصه من جهة والدينونة من
جهة أخرى: “فلقد أحبَّ الله العالم حتى إنّه بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل
من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية. فإنّ الله لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين
العالم، بل ليخلّص به العالم”. ثم يضيف: “فمَن آمن به فلا يُدان، ومَن
لا يؤمن به فقد دين، لأنّه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد. وعلى هذا تقوم الدينونة:
إنّ النور قد جاء إلى العالم، والناس آثروا الظلمة على النور، لأنّ أعمالهم كانت
شريرة” (بو 3: 16- 19).

إنّ
الله لا يقيم محكمة ليدين العالم ويدين الخطأة. بل عمل الله هو عمل محبة وعمل خلاص.
أمّا الدينونة فهي رفض الإنسان لتلك المحبة وذاك الخلاص. لذلك يستعمل يوحنا صيغة
الماضي المجهول بقوله: “مَن لا يؤمن به فقد دِيْنَ”. رفض الإيمان هو
الدينونة في ذاتها.

على
هذا النحو يجب أن نفهم ما يقوله بولس الرسول عن “غضب الله الذي يعتلن من
السماء على كل كفر وظلم للناس الذين يعوقون الحق بالدم” (رو 1: 18). وفي تلك
النظرة تبدو الحروب والخصومات وما يتبعها من مجاعات وبلايا نتيجة حتمية لخطايا
البشر. فالقول إنّ الله يدين العالم هو تعبير ديني للعلاقة الحتمية التي تربط
خطايا البشر بما ينتج عنها من شرور، وتأكيد على مسؤولية الإنسان في حصول تلك
الشرور.

لذلك
يدعو بولس يوم الدينونة الأخيرة “يوم الغضب واعتلان دينونة الله العادلة،
الذي سيجازي كل واحد حسب أعماله..” (رو 2: 6).

تلك
أيضاً هي نظرة سفر الرؤيا في تعداد المصائب والكوارث التي يتعرّض لها البشر.
إنطلاقاً من الاضطهادات التي عاناها المسيحيون في الامبراطورية الرومانية، يفسّر
يوحنا التاريخ كلّه. فعندما يفضّ الحمل المذبوح، وهو يسوع المسيح الذي ممات وقام،
الختوم السبعة من سفر التاريخ، تظهر في الختوم الستة الاولى الكوارث التي يتعرّض
لها البشر على مدى التاريخ كلّه، وهي على التتالي الاجتياحات والحروب الاهلية
والمجاعات والطاعون والاضطهادات والزلازل والكوارث الطبيعية (6: 1- 17). وعندما
يفضّ الختم السابع ينفخ الملائكة بسبعة أبواق وتبلغ كوارث التاريخ ذروتها، ثم يعلن
مُلْك الله على العالم: “إنّ مُلْك العالم قد صار لربّنا ولمسيحه، فهو يملك
إلى دهر الدهور” (11: 15).

هذه
الآفات هي ما تشهده البشرية منذ وجوده. ويسوع أنبأ تلاميذه بكلّ الاضطهادات التي
سيتعرّضون لها: “فإن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم أيضاً” (يو 15: 20)
ولا خلاص للإنسان إلاَّ بالالتفات إلى الحمل المذبوح والقائم من بين الأموات. هذا
الخلاص لا ينقذ الناس من العذاب والموت، بل يعطي عذابهم وموتهم معنى جديداً، وهو
الاشتراك في عذاب المسيح وموته والدخول معه إلى ملكوت الله ومجده.

2)
الخلاف على صعيدي الشخصي والجماعة: من يؤمن بالمسيح وسيط العهد الجديد ينجو من
الدينونة ويشترك في الخلاص. ويتضمّن هذا الخلاص بُعداً شخصيًّا وبُعداً جماعيًّا.

فالخلاص
على صعيد الشخص هو الدخول في علاقة حميمة مع الله: “ان محبة الله قد أفيضت في
قلوبنا بالروح القدس الذي أعطيناه” (رو 5: 5)، لذلك “انتقلنا من الموت
إلى الحياة” (1 يو 3: 14). “احسبوا أنفسكم أمواتاً للخطيئة، أحياء لله
في المسيح يسوع” (رو 6: 11). إنّ جوهر الخلاص قد أعطي لنا، وهو الحياة مع
الله في المسيح يسوع.

إلاَّ
أنَّ المسيحيين مدعوون إلى تخطّي خلاصهم الفردي لإنشاء شعب واحد في المسيح. وهذا
هو العبد الجماعي للخلاص. فالمسيح قد مات “ليجمع في الوحدة أبناء الله
المتفرّقين” (يو 11: 52). “فليس بعد يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حرّ،
ليس ذكرو وأنثى، لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع” (غلا 3: 28). إنّ حلم
الوحدة البشرية هو ما تريد الكنيسة تحقيقه. وهذا ما صلّى يسوع لأجله: “ليكونوا
بأجمعهم واحداً” (يو 17: 21).

إنّ
الخلاص على صعيد الفرد كما على صعيد الجماعة لن يتحقّق بشكل سحري. فالإنسان مدعو
على الدوام ليصارع “شهوة الجسد” (غلا 5: 16- 21، أف 6: 11) ويخلق
“الإنسان الجديد” في ذاته (أف 4: 20- 32). والكنيسة مدعوّة إلى العمل في
سبيل وحدة البشر على هذه الأرض، لكي لا يكون “بعدُ يوناني ولا يهودي، لا ختان
ولا قلف، لا أعجمي ولا اسكوتي، لا عبد ولا حرّ، بل المسيح الذي هو كل شيء وفي كل
شيء” (كو 3: 11).

لذلك
لا يقتصر الرجاء المسيحي على انتظار عالم آخر يتحقّق بعد الموت وحسب، بل على تغيير
وجه هذا العالم، ليصير هذا العالم عالماً آخر. وهكذا فالدهر الآتي الذي نرجوه،
نرجو أن يأتي ونعمل ليأتي، وإن على وجه غير كامل، في مستقبل هذه الحياة وعلى هذه
الأرض.

3)
انعكاس الخلاص على الأمور المادية: لذلك أيضاً لا بدّ للخلاص من أن ينعكس على
مختلف نواحي حياة الإنسان المادية، وفقاً لما بشّر به الأنبياء أنّ الأزمنة
الأخيرة ستكون عهد سلام وعدالة وأُخوّة شاملة. هذا ما يجب على الكنيسة السعي
لتحقيقه بالعمل على إزالة كل ظلم واستغلال يعانيه الإنسان من أخيه الإنسان.

ليس
من شأن الكنيسة إقامة مثال واحد للمجتمعات تبنيه على أنظمة اقتصادية وسياسية
معيّنة (رأسمالية أو اشتراكية أو غير ذلك). ولكن يعود إليها النظر في كل المجتمعات
القائمة لانتقاد ما فيها من مظالم، واقتراح سبُل تطويرها وفقاً للقيم الإنجيلية
والأخلاق المسيحية التي تكرز بها.

4)
بدعة الالفية: يشير سفر الرؤيا في الفصل 20 إلى مدة ألف سنة يُقيَّد فيها الشيطان،
ويتاح فيها للمؤمنين أن يملكوا مع المسيح. ثم يُحلُّ زماناً يسيراً قبل الدينونة
العامة.

إنطلاقاً
من هذا النصّ ومن نصوص بعض نبوءات العهد القديم التي تعتبر تحقيق ملك الله النهائي
وسعادة البشر في إطار هذا العالم، رأى بعض المسيحيين ابتداءً من القرن الثاني أنّه
سيأتي يوم ينتصر فيه الله في هذا العالم على جميع قوى الشرّ وتتحوّل الأرض إلى جنة
نعيم وفردوس أرضي.

تستند
تلك النظرة الخيالية إلى تفسير حرفي يناقض قواعد الفن الأدبي الذي كُتب فيه سفر
الرؤيا. فاللوحات التي تتعاقب في هذا السفر تمثّل عدة مرات الواقع نفسه، ولكن من
زوايا مختلفة. وهنا الألف سنة تشير إلى زمن الكنيسة، وعدد الألف يرمز إلى الزمن
الطويل الذي يستحيل تحديده. وفي هذلزمن سيحيا المؤمنون، ولاسيمالذين “قُتلوا
من أجل شهادة يسوع ومن أجل كلمة الله” (20: 4)، ويملكون مع المسيح. “تلك
هي القيامة الأولى” (20: 5)، دلالة انتصار المسيح على الموت ودخول المؤمنين
معه في هذا الانتصار.

واستناداً
إلى تفسير حرفي للنص، اعتبر أيضاً البعض في القرون الأولى أنّ نهاية العالم ستكون
سنة الألف بعد المسيح. وبعد مرور تلك السنة، اعتبر البعض الآخر انها ستكون تبل
السنة الألفين. ونسمع في أيامنا البعض يقولون محرّفين نص سفر الرؤيا “تؤلّف
ولا تؤلِّفان”. كل هذه التفسيرات خاطئة، لأن الأعداد في سفر الرؤيا هي أعداد
رمزية، ولا يمكن الاستناد إليها لتحديد زمن نهاية العالم الذي يستحيل التنبّؤ به.
وسفر الرؤيا بكامله لا يمكن تفسيره تفسيراً زمنيًّا وماديًّا، بل يجب تفسيره
تفسيراً روحيًّا.

ثم
إنّ ترقّب زمن تزول فيه على هذه الأرض الصراعات داخل كل إنسان، ويعيش الناس في
جنّة نعيم وفردوس أرضي ليس من الرجاء المسيحي بشيء. لأنّ الإنسان على الصعيد
الفردي يمرّ بمراحل مختلفة ويقوم باختبارات متنوعة، وصراعه فيها ضدّ ذاته صراع
حتمي إلى أن يلاقي الله وجهاً إلى وجه بالموت.

وكذلك
على صعيد الجماعات والشعوب، فإنّ صراع البشريّة ضد قوى الشرّ والموت التي تنخر
فيها وتقوّض اساسها سيدوم حتى نهاية التاريخ. والمشكلات والصعوبات ذاتها تعترض
سبيلها، وإن في أشكال مختلفة وبنى جديدة. ذلك هو الإطار الذي يجب أن يثبت فيه
الرجاء المسيحي بجرأة مستنداً لا إلى أحلام وتطلّعات خيالية، بل إلى الإيمان
بالمسيح ودعوته إلى العمل الدائب والسهر الدائم لتحقيق هذا الرجاء.

ب)
رجاء الدهر الآتي

بمجيء
يسوع وتبشيره بالملكوت بدأت الأزمنة الأخيرة، وبقيامته بدأ الدهر الآتي. والذين
يؤمنون بالمسيح ويعتمدون باسمه يشتركون في الخلاص الذي اقتناه لنا. فالدهر الآتي
يصير حاضراً في أسرار الكنيسة وحياتها. هذا هو زمن الكنيسة. ولكنّ هذا الزمن يبقى
مشدوداً إلى نهايته، حسب قول بولس الرسول: “إنّا بالرجاء خُلِّصنا، على أنّ
رجاء ما يشاهَد ليس برجاء، لأنّ ما يشاهده المرء كيف يرجوه أيضاً؟ ولكن، إن كنّا
نرجو ما لا نشاهد، فبالصبر ننتظره” (رو 8: 24- 25). لتحديد تلك النهاية، يلجأ
العهد الجديد إلى الألفاظ والتعابير التي خلّفها الأنبياء، ويعبّر عنها بتصاوير
يمكن حصرها في المواضيع الثلاثة التالية:

1)
دينونة الله: هذا الموضوع هو الحدّ الأخير لتاريخ البشر في تعليم يسوع. والرسل
يعودون إليه مراراً في كرازتهم. فيعلنون أولاً أنّ تلك الدينونة قد تحقّقت بموت
يسوع. فساعة موت يسوع هي في آنٍ معاً ساعة دينونة العالم: “الآن دينونة هذا
العالم. الآن رئيس هذا العالم يُلقى خارجاً. وأنا متى رُفعت عن الأرض اجتذبتُ إليّ
الجميع. قال يسوع هذا ليدلَّ على أيّة ميتة كان مزمعاً أن يموتها” (يو 12: 31-
33).

لذلك
يروي متى أحداث موت يسوع في إطار أدبي يجمع كل ملامح اليوم الأخير: الظلمة،
الزلزلة، تدنيس الهيكل، قيامة الأموات (متى 27: 45، 51- 52).

ولكنّ
تلك الدينونة تمتدّ أيضاً على الزمن الذي يلي موت يسوع، إلى أن تبلغ ذروتها في
اليوم الذي تزول فيه هيئة هذا العالم: “لأنّ هيئة هذا العالم في زوال”
(1 كو 7: 31). وهذا اليوم يصفه كاتبو العهد الجديد في تصاوير يستقونها من العهد
القديم، ولكنهمِ يضيفون إليها إيمانهم بأنّ المسيح هو ابن البشر الذي تنبّأ عنه
دانيال والذي “أقامت الله ديّاناً للأحياء والأموات” (أع 10: 42).

فبطرس
الرسول يحثّ المؤمنين على أن “ينتظروا ويستعجلوا مجيء يوم الله، الذي من أجله
ستنحلّ السماوات ملتهبة، وتذوب الغناصر متّقدة” (2 بط 3: 11- 12). وهذا اليوم
هو، في رسائل بولس “يوم الرب” (1 كور 1: 8؛ 5: 5؛ 2 كو 1: 14)،
و”يوم المسيح” (في 1: 6، 10؛ 2: 16). “فالآب لا يدين أحداً، بل
فوّض إلى الابن كل دينونة” (يو 5: 22).

في
سفر الرؤيا يظهر المسيح من جديد في نهاية الزمن في هيئة فارس يدعى “كلمة
الله”، و”ملك الملوك وربّ الأرباب”، وينتقم لله فيبيد جميع أعدائه
ويطرحهم في “بحيرة النار المتّقدة بالكبريت”، أي في الموت الأبدي (19: 11-
21). إنّ اعتلان مجد يسوع في مجيئه الثاني المجيد سيكون علامة نهاية الأزمنة: “ها
هوذا يأتي في السحاب. ستراه كل عين، حتى أولئك الذين طعنوه. وستنوح بسببه جميع
قبائل الأرض” (رؤ 1: 7، راجع زخ 12: 10). عندئذٍ تفتح الكتب ويُدان الأموات
على مقتضى أعمالهم المدوّنة في تلك الكتب (رؤ 20: 12). فالمسيح هو الديّان الذي
سيدين كل إنسان. إلاّ أنّ الدينونة يجب فهمها حسب الكلمة التي أتينا على ذكرها
“مَن لا يؤمن به فقد دِينَ”. فانقسام الناس إلى فئتين: فئة الصالحين
المباركين وفئة الأشرار الهالكين، سيتمّ تلقائيًّا طبقاً للاختيار الذي قاموا به
إزاء النعمة التي قدّمها لهم المسيح. على هذا النحو يجب تفسير القول إنّ البعض
يرثون الحياة الأبدية. أمّا الآخرون فيُطرَحون في “بحيرة النار” التي
يدعوها سفر الرؤيا” الموت الثاني” (20: 14). وهناك يكونون مع أعداء
الجنس البشري القدامى: “الوحش الشيطاني” والموت والجحيم (20: 14).

2)
قيامة الأموات: في الرسالة الأولى إلى التسالونيكيين والرسالة الأولى إلى
الكورنثيين، يصوّر بولس تجمّع المختارين النهائي في هيئة تجمّع ليتورجي على صوت
البوق، كما جاء في العهد القديم (عد 10: 2- 10، يؤ 2: 15). وعندئذٍ يلاقي الجميع
الرب من حيث هم: فالأموات أولاً من الجحيم مقرّهم التقليدي حيث ينتظرون يوم
القيامة، والأحياء من الأرض التي لا يزالون عليها:

“إنّا
نعلن لكم، بناء على قول الرب: إنّا نحن الأحياء، الباقين إلى مجيء الرب، لن نسبق
الأموات الراقدين. لأنّ الرب نفسه، عند إصدار الأمر، وعند صوت رئيس الملائكة،
وهتاف بوق الله، سينزل من السماء، فينهض الراقدون في المسيح أوّلاً. ثمّ نحن
الأحياء الباقين نُختَطَف معهم جميعاً إلى السحب، لنلاقي الربّ في الفضاء. وهكذا
نكون مع الربّ على الدوام” (1 تسا 4: 15- 17).

وأجساد
الأموات والأحياء تتحوّل إلى أجساد غير فاسد، “ها إنّي أكشف لكم سرًّا: لن
نرقد كلّنا، ولكن سنتحوّل كلّنا. في لحظة، في طرفة عين، عند البواق الأخير، لأنه
سيُهتَف بالبوق، فينهض الأموات بغير فساد، ونحن نتحوّل. إذ لا بدّ لهذا لجسد
الفاسد أن يلبس عدم الفساد، ولهذا الجسد المائت أن يلبس عدم الموت” (1 كو 15:
51- 53).

أمّا
موضع اللقاء فهو السماء، حسب قول بولس في رسالته إلى الفيليبيين: “أمّا نحن
فموطننا في السماوات التي منها ننتظر مخلّصنا، الربّ يسوع المسيح، الذي سيحوّل جسد
هواننا إلى جسد على صورة جسد مجده، بتلك القدرة التي تمكّنه من أن يخضع لنفسه كل
شيء” (في 3: 20- 21).

كيف
يكون هذا التحوّل؟ هذا أمر يتعلّق بالعالم غير المحسوس الذي يتخطّى المادة والزمن،
والذي لا يمكن لعقلنا المقيّد بالمادة والزمن أن يدركه ادراكاً واضحاً. لذلك يلجأ
بولس إلى تشابيه وتصاوير يستقيها من عالم المادة والحواس، فيشبّه تحوّل الجسد
بتحوّل حيّة الحنطة:

“ولكن،
قد يقول قائل: كيف يقوم الأموات؟ وبأيّ جسد يرجعون؟ يا جاهل، إنّ ما تزرعه أنت لا
يحيا إلاَّ إذا مات. وما تزرعه ليس هو الجسم الذي سيكون، بل مجرّد حيّة من الحنطة،
مثلاً، أو غيرها من البذور. إلاَّ أنّ الله يؤتيها جسماً على ما يريد، لكل من
البذور جسمه المختصّ به.. فهكذا قيامة الأموات: يُزرَع الجسد بفساد ويقوم بلا فساد،
يُزرَع بهوان ويقوم بمجد، يُزرَع بضعف ويقوم بقوة. يُزرَع جسد حيواني ويقوم جسد روحاني”
(1 كو 15: 35- 38، 42- 44).

ويشبّه
أيضاً جسد الإنسان بمسكن أرضي معرّض للموت والانحلال أثناء حياته على الأرض،
وبمسكن سماوي أبدي بعد موته: “إنّا نعلم أنّه، إذا نُقِض هذا الخباء، مسكننا
الأرضي، فلنا في السماوات مسكن من الله، بيت لم تصنعه الأيدي، أبدي”. ثم يشير
إلى رغبته في التحوّل إلى هذا المسكن السماوي: “فلذلك نَحِنُّ في وضعنا هذا،
متشوّقين أن نلبس بيتنا السماوي فوق الآخر، إن نحن وُجِدنا لابسين لا عراة (أي إن
كنّا بعد أحياء لدى مجيء الرب للدينونة). فإنّا، ما دمنا في هذا الخباء، نَحِنّ
مثقلين، لأنا لا نريد أن نخلعه، بل أن نلبس فوقه، حتى تبتلع الحياة ما هو مائت
فينا. والذي أعدّنا لذلك هو الله، الذي أعطانا عربون الروح” (2 كو 5: 1- 5).

إنّ
الروح الذي أعطانا إيّاه يسوع هو العربون الذي نستند إليه لنؤكّد إيماننا بأننا
بعد الموت سنشترك في قيامة المسيح:

“إنّا
نحن الأحياء نُسلَم دائماً إلى الموت من أجل يسوع، لتظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا
المائت.. فإذ فينا روح الإيمان الواحد، المكتوب عنه: إنّي آمنت، ولذلك تكلّمت،
فنحن أيضاً نؤمن، ولذلك نتكلّم، لعلمنا بأنّ الذي أقام الربّ يسوع سيقيمنا نحن
أيضاً مع يسوع، ويظهرنا معكم أمامه” (2 كو 4: 11- 14).

ويتمّ
اشتراكنا في قيامة المسيح على مرحلتين:


على هذه الأرض، إذ نعبر من الموت إلى الحياة، أي من موت الخطيئة إلى الحياة مع
الله في المسيح.


وبعد الموت، وفي اليوم الأخير، فتشمل تلك الحياة جسدَنا نفسه.

نجد
أيضاً في إنجيل يوحنا تمييزاً مماثلاً بين هاتين المرحلتين. يقول يسوع:

“الحق
الحق أقول لكم: إنّها تأتي الساعة، وها هي ذي حاضرة (تلك هي المرحلة الأولى، على
هذه الأرض)، التي يسمع فيها الأموات صوت ابن الله، والذين يسمعون يحيون”.
ويعني بالأموات هنا بالخطيئة على هذه الأرض. ثم يضيف مشيراً إلى المرحلة الثانية
بقوله: “إنّها تأتي الساعة التي يسمع فيها جميع من في القبور صوته، فيخرجون
منها: فالذين عملوا الصالحات ينهضون للحياة، والذين عملوا السيّئات ينهضون
للدينونة” (يو 5: 25- 29).

3)
الحياة الأبدية مع الله: ما هو قوام تلك الحياة الأبدية مع الله؟

منذ
العهد القديم كان موضوع وعود الله وموضوع رجاء المؤمنين كما عبّرت عنها أقوال
الأنبياء والمزامير، حياة الشركة مع الله. وقد ثبّت يسوع تلك النظرة أولاً في
تأكيده المفهوم الروحي للملكوت، إذ يظهر من خلال كرازته أنّ الملكوت هو الحياة مع
الله. ثم في حياته الشخصية، إذ عاش هو نفسه مع الآب في شركة عميقة واتّحاد وثيق.
على هذا يقوم الرجاء المسيحي في العهد الجديد: لقد جاء المسيح ليصالح البشرية
الخاطئة مع الله (2 كو 5: 19). ومن يتّحد بالمسيح القائم، يصير معه كائناً جديداً
(رو 6: 5، 2 كو 5: 17، غلا 6: 15).

الحياة
الأبدية التي نبدأها في هذا الدهر، ونرتقبها ونرجوها للدهر الآتي، هي الحياة مع
المسيح، ومن خلال المسيح مع الله: “مشيئة أبي أن يكون لكل من يرى الابن ويؤمن
به، الحياة الأبدية، وأنا أُقيمه في اليوم الأخير” (يو 6: 40).

تلك
أهمّ تعاليم العهد الجديد في موضوع “قيامة الموتى والحياة في الدهر
الآتي”. كيف نفهمها؟ وأيّ عقيدة إيمانية نستخلص منها؟

ثالثاً-
مبادئ لتفسير لغة الكتاب المقدس:

أساليب
التعبير الدينية

1-
اللغة الدينية

اللغة
وسيلة يلجأ إليها الإنسان للتعبير عن أفكاره. وتختلف اللغة باختلاف الميادين التي
يتكلّم فيها الإنسان. فهنالك اللغة المحكية التي نستعملها في الحياة اليومية،
وهنالك اللغة العلمية التي تستخدمها مختلف العلوم، وهناك لغة الفلاسفة المجرّدة،
وهناك لغة المؤرّخين وعلماء الاجتماع. وجميع تلك اللغات هي أساليب نشأت في الزمن
والتاريخ للتعبير عن اختبارات البشر وعلاقاتهم بعضهم ببعض في إطار العالم الذي
يعيشون فيه.

ولكن
هناك اختبار ديني يعيشه الإنسان، يتخطّى العالم، وهناك علاقة دينية ينشئها بينه
وبين الله، تتجاوز حدود الزمن والتاريخ. وللتعبير عن ذاك الاختبار وتلك العلاقة
يلجأ الإنسان إلى ما لديه من أساليب بشرية للتعبير. ولكنه يجب أن يعي الوعي التام
أنّ تلك الأساليب، لكونها مرتبطة بعالم المادة وعالم الإنسان، لا يمكن أن تعبّر
تعبيراً واقعياً كاملاً عن عالم الروح وعالم الله. يرى بعض الفلاسفة أنّ البشرية
لم تتوصّل بعد إلى خلق لغة تعبّر تعبيراً وافياً عن سرّ الإنسان وسرّ الكون. في
هذا الموضوع يقول الفيلسوف الألماني المعاصر هايدغر: “إنّمَا نحن سائرون نحو
اللغة”. فكم بالحري يمكننا القول إنّ الإنسان لم يتوصّل بعد إلى خلق لغة
تعبّر تعبيراً وافياً عن سرّ الله.

لذلك
كلّ لغة دينية إنّما هي حتماً لغة رمزية، تلجأ إلى أساليب التعبير البشري للكلام
عن الأمور الإلهية التي تؤمن بها. والكتاب المقدس، للإدلاء بوحي الله وإيمان
الإنسان بهذا الوحي يستعمل أساليب للتعبير يمكن جمعها في إطار الأساليب الأربعة
التالية:

أ)
أسلوب المماثلة أو التشبيه أو الاستعارة

هذا
الأسلوب يتصوّر الله على مثال البشر، وعلاقة الله بالبشر على مثال علاقة البشر
بعضهم ببعض. فالله هو الأب والملك والقاضي والراعي. والعهد مع الله يتصوّره الكتاب
المقدس على غرار الميثاق بين البشر. في هذا الأسلوب يلجأ الكتاب المقدّس إلى
التشبيه والاستعارة. فيشبّه الله بالبشر، أو يستعير من البشر أجمل صفاتهم ليصف بها
الله.

ب)
أسلوب الرمز أو الصورة

يعتبر
هذا الأسلوب أحداث العهد القديم رموزاً وصوَراً للحقائق النهائية التي أوحى بها
إلينا المسيح في العهد الجديد. فالدخول في أرض الميعاد بعد عبور الصحراء يرى فيه
الكتاب المقدس صورة لدخولنا السماء في نهاية حياتنا على هذه الأرض (عب 4: 1- 11).
كما يرى في الاحتفالات الدينية التي كانت تتمّ في أورشليم في العهد القديم صورة
لكنيسة العهد الجديد المدعوّة إلى أن تجمع فيها جميع الشعوب لعبادة الله. فالكنيسة
هي “أورشليم الجديدة”، وهي في آن معاً صورة “لأورشليم
السماوية”، حيث سنحيا مع الله حياة الأبد (اش 54، غلا 4: 25- 27؛ عب 12: 22-
24؛ رؤ 21: 9- 27)-

ج)
الأسلوب الميثولوجي

ويلجأ
أيضاً الكتاب المقدس إلى الأسلوب الميثولوجي، الذي يقوم في ثلاثة أوجه:


فتارة ينقل الإنسان إلى العالم الخارجي خبرة يختبرها في عالمه الداخلي، ويحدّد لها
مكاناً معيَّناً. فللتعبير عن الموت يتكلم عن النزول إلى الجحيم، وللتعبير عن
القيامة يتكلّم عن الصعود من الجحيم. وكذلك للتعبير عن دخول المسيح في مجد الله
يروي في أسلوب أسطوري قصة “صعوده إلى السماء”. فالحقيقة هي دخوله يسوع
في مجد الله، وأسلوب التعبير هو “الصعود إلى السماء”.


وتارة يجسّد أحلامه في لوحات خياليّة يصفها وكأنّها لوحات لأحداث واقعية تحقّقت في
بدء الزمن، أو ستتحقّق في نهايته. وهكذا فإن لوحة الفردوس الأرضي الذي عاش فيه آدم
وحواء هي لوحة أسطورية في أسلوبها، يريد من خلالها الكتاب المقدس التأكيد على أنّ
سعادة الإنسان هي من صميم قصد الله للإنسان.


وتارة يصف النواحي الصعبة لوجودنا على الأرض أو لصراعنا الداخلي مع ذاتنا في معارك
يقوم فيها وجهاً إلى وجه أشخاص حقيقيون مع أشخاص رمزيين. فعندما يقوم المسيح
بمعركة ضد الشيطان وقوى الشرّ، ويغلب الخطيئة والموت، ويفتدي البشرية ويعيد كل شيء
إلى الآب، يظهر الشيطان كالوحش البحري الذي يحاول أن يفترس المؤمنين.

كلّ
تلك التصوّرات لا وجود لها كما هي. لكنها تصوّر واقعاً ثابتاً لا يمكن إنكاره.
وهذا الواقع مرتبط بكيان الإنسان منذ نشأته وفي أعماق وجوده، إنّمَا يستحيل وصفه
وصفاً مباشراً وموضوعياً لكونه يتخطّى عالم الحواسّ وعالم الأفكار الجليّة الواضحة.

د)
الاسلوب الوجودي

يعبّر
هذا الأسلوب عن خبرة الإنسان الداخلية في تعابير الحضور والعلاقة. فنقول إنّ الله
حاضر فينا وإلى جانبنا. ونقول إنّه شخص نرتبط به بعلاقة حميمة. وبقدر ما تكون
علاقتنا بالله وطيدة، بقدر ذلك نعبّر عنها بتعابير الحضور المتبادل، فنقول إنّ
الله فينا ونحن في الله.

تلك
الأساليب الأربعة غالباً ما تتشابك في نصّ واحد للتعبير عن خبرة دينية واحدة.
والأسلوب الرابع هو الذي يعطي الأحداث المرويّة في الأساليب الثلاثة الأولى عمق
معناها وحقيقة جوهرها. وهو الذي يمنعها من الهروب إلى عالم الخيال المحض، ويعيدها
إلى حقيقة الواقع الديني الذي يختبره الإنسان. ولكن يجب على من يقرأ الكتاب المقدس
أن يميّز بين تلك الأساليب ليتمكّن من تفسير عناصرها تفسيراً ملائماً، ليتوصّل من
خلال هذا التفسير إلى إدراك جوهرها إدراكاً صحيحاً غير مشوّه. وهذا هو موضوع النقد
الأدبي للغة الكتاب المقدس.

2-
النقد الأدبي وتفسير النصوص

يجب
إذاً في تفسير نصوص الكتاب المقدس التنبّه إلى أساليب التعبير التي كُتبت فيها تلك
النصوص لاكتشاف ما تحمله من تعليم.

أ)
مثال على تفسير النصوص الكتابية

مثالاً
على ذلك، فان الرسائل إلى الكنائس السبع في سفر الرؤيا (فصل 2 و3) تَعِدُ المؤمن
“بالشركة مع الله في المسيح”. إلاَّ أن هذا الوعد تعبّر عنه في رموز
وأساليب للتعبير مختلفة:

فتلجأ
تارة إلى الأسلوب الميثولوجي: “من غلب أوتيه أن يأكل من شجرة الحياة التي في
فردوس الله” (2: 7).

وتارة
يستخدم الأسلوب الرمزي، فيعبّر عن الرجاء المسيحي برموز العهد القديم: “من
غلب فإني أوتيه أن يأكل من المنّ الخفيّ” (2: 17). “الغالب الذي يحفظ
أعمالي حتى المنتهى، أوتيه سلطاناً على الأم، إنّه بعصا من حديد يرعاهم، كم تُحطَّم
آنية من خزف، مثلمَا أُوتيتُ أنا من عند أبي. وأعطيه كوكب الصبح” (2: 27- 28).
“من غلب فإنّي أجعله عموداً في هيكل إلهي، فلا يعود يخرج من بعد. وأكتب عليه
اسم إلهي، واسم مدينة إلهي، أورشليم الجديدة، النازلة من السماء عند إلهي، واسمي
الجديد” (3: 12).

كما
تلجأ إلى أسلوب المماثلة والتشبيه: “ها أنا ذا واقف على الباب أقرع. فإن سمع
أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه، فأتعشى معه وهو معي” (3: 2). في هذا التشبيه
يصوّر الألفة بين المسيح والمؤمن على مثال الألفة القائمة بين صديقين يتعشّيان
معاً.

في
تلك الأساليب الثلاثة يمكننا بسهولة أن نكتشف غاية الكاتب والمعنى الوجودي الذي
يقصده، وهو الاشتراك في حياة الله نفسه.

وهكذا
يساعدنا النقد الأدبي الصحيح على تخطّي أسلوب التعبير للوصول إلى عمق معنى النص،
واكتشاف الحقيقة التي يريد الله أن يوحي بها إلينا.

ب)
جوهر تعليم العهد الجديد بشأن الحياة مع الله

في
هذا الدهر وفي الدهر الآتي

إستناداً
إلى كلّ ما سبق يمكننا القول إنّ جوهر تعليم العهد الجديد بشأن الحياة مع الله في
هذا الدهر وفي الدهر الآتي يقوم على تلك العلاقة الحميمة التي يريد الله إنشاءها
مع الإنسان.

تلك
العلاقة يعبّر عنها العهد الجديد بطرق مختلفة: فهي “شركة مع المسيح”
و”شركة مع الآب” (1 يو 1: 1- 2). وهي أيضاً معرفة المسيح الذي لأجلها
يخسر بولس كلّ شيء: “أعدّ كلّ شيء خسراناً إزاء هذا الربح الفائق: معرفة
المسيح يسوع ربي، الذي لأجله خسرت كل شيء، وفي كلّ شيء لا أرى سوى أقذار حتى أربح المسيح..
فمُنيتي إذاً أن أعرفه هو، وأعرف قدرة قيامته، والشركة في آلامه، فأصير على صورته
في الموت، على أمل البلوغ إلى القيامة من بين الأموات” (في 3: 8- 11).

وهي
كذلك “معرفه الله”: “أيها الأحباء، لنحبّ بعضنا بعضاً، فإنّ المحبة
من الله. وكلّ من يحبّ فهو مولود من الله ويعرف الله” (1 يو 4: 7). وهي أيضاً
محبة المسيح التي تقود إلى محبة الله: “من اعترف بأنّ يسوع هو ابن الله،
فالله يقيم فيه، وهو يثبت في الله. ونحن عرفنا المحبة التي لله فينا، وآمنّا بها.
إنّ الله محبة، فمن ثبت في المحبّة ثبت في الله وثبت الله فيه” (1 يو 4: 15-
16).

تلك
العلاقة مع الله يحياها المسيحي في الكنيسة مع كلّ ما فيها من أسرار مقدّسة وطقوس
ليتورجية. وكلّها طرق تفضي بنا إلى الله. إنّ معرفتنا لله هي معرفة حقيقية
وعلاقتنا به هي علاقة واقعية. إنّنا لا نعيش في الحلم ولا في الخيال. ولكن لا
يمكننا التعبير عن تلك الحقيقة وذاك الواقع إلاَّ من خلال رموز دينية يجب قبولها
كوسائل لا بدّ منها للوصول إلى الله الذي يقول عنه بولس: “إنّه السيّد الأوحد،
ملك الملوك ورب الأرباب، الذي له وحده الخلود، ومسكنه نور لا يُدنَى منه، الذي لم
يره إنسان ولا يقدر أن يراه” (1 تي 6: 16).

على
هذا النحو يعبّر العهد الجديد عن علاقتنا بالله في هذا الدهر. وعلى النحو نفسه
يصوّر لنا علاقتنا بالله في حياة الدهر الآتي. فبولس مثلاً بعد وصف “يوم
الرب” بأسلوب رمزي، بقوله “إنّ الرب نفسه، عند إصدار الأمر، وعند صوت
رئيس الملائكة وبوق الله، سينزل من السماء، فينهض الراقدون في المسيح أولاً. ثمّ
نحن الأحياء الباقين نُختطَف معهم جميعاً في السحب لنلاقي الربّ في الفضاء”،
يختم معلناً: “وهكذا نكون مع الرب على الدوام” (1 تسا 4: 16- 17).

إنّ
الحقائق الثابتة يؤكّدها لنا الكتاب المقدّس من خلال تصاوير بشرية ورمزية يجب
ألاَّ تُفسَّر حرفيًّا، وإلاَّ سلكنا طريقاً مسدودة وجعلنا من الله إلهاً على
قياسنا وحياة الدهر الآتي على مثال حياة هذا الدهر المادية.

كما
يجب ألاَّ تُرفَض رفضاً تامًّا بحجّة أنّ الإنسان لا يمكنه معرفة أيّ شيء عن عالم
الله وعالم الدهر الآتي المغاير كل المغايرة لعالمنا. إنّ التفسير الصحيح هو
“طريق قمة” بين هاويتين: هاوية التفسير الحرفي وهاوية الجهل ورفض كل
معرفة.

الفَصل
الثَاني

رَجَاؤنَا
المَسيحيّ اليَوْم

إنطلاقاً
من تعليم الكتاب المقدس، كيف يمكننا اليوم التعبير عن رجائنا بالحياة مع الله في
هذا الدهر الآتي؟

أوّلاً-
السماء

إنّ
رجاءنا المسيحي يشمل مصيرنا ومصير البشريّة كلّها على هذه الأرض وبعد الموت.

1-
الرجاء المسيحي على هذه الأرض

أ)
حياة الكنيسة

إنّ
ما يرجوه المسيحي قد تحقّق على هذه الأرض على صعيده الشخصي. فالإيمان بالمسيح قد
أدخله في حياة جديدة، إذ أشركه في حياة المسيح الذي قام من بين الأموات وتغلّب على
الخطيئة والموت.

وتلك
الحياة يستقيها المسيحي من الكنيسة جسد المسيح: من إيمانها بكلمة الله التي تبشّر
بها، ومن الأسرار المقدسة التي تقيمها. ففي الكنيسة يختبر المسيحي تحقيق وعد
المسيح بأن يكون مع تلاميذه “كلّ الأيام إلى انقضاء الدهر” (متى 28: 20).
وفي الكنيسة ينال روح التبّني الذي يجعله ابناً لله ووارثاً لحياته الإلهية.

إنّ
كلّ مؤمن يمتلئ من “نعمة الرب يسوع المسيح ومحبة الله الآب وشركة الروح
القدس” (2 كو 13: 13). ودور الكنيسة يقوم على التعبير بشكل جماعي عن تلك
الحياة الجديدة التي يمتلئ منها كل مسيحي في أعماق كيانه، وعلى العمل لتمتدّ تلك
الحياة وتشمل جميع الشعوب، “لأنّ الموعد هو لكم ولبنيكم، ولجميع الذين على
بُعد، بمقدار ما يدعو الربّ إلهنا” (أع 2: 39)، كما قال بطرس ليهود في خطبته
الأولى يوم العنصرة.

ب)
مستقبل البشرية

هكذا
يظهر اعتناق الوجود المسيحي الطريق الفضلى لتجسيد الرجاء في هذا العالم. والناس
جميعاً مدعوون إلى سلوك تلك الطريق، لأن المسيح مات “ليجمع في الوحدة جميع
أبناء الله المتفرقين” (يو 11: 52).

إنّ
حياة المسيحيين في العالم تشهد للخلاص الذي منحه المسيح للعالم. فالبشريّة
التاريخيّة يتصارع فيها، كما في كل فرد، تيّاران متناقضان: تيار يحملها على الوحدة
وتيّار يميل بها إلى التفكّك؛ تيّار يتوق إلى السلام، وآخر تدفعه الأهواء إلى
الصراعات الدائمة؛ تيّار يرغب في العدالة وآخر تبعده عن تلك العدالة مختلف الشهوات.
فالخير والشرّ اللذان يتصارعان في العالم ليسا من الأمور المجرّدة. إنّهما يكوّنان
أُسس المدينتين المتصارعتين على هذه الأرض، حسب الصورة التي استخدمها القديس
اوغسطينوس في كتابه “مدينة الله”.

ولكن
لنحذر أن نرى الخير فقط في المسيحية والشرّ كلّه خارجها. إنّ جذور الشرّ متأصّلة
أيضاً داخل قلوب المسيحيين وداخل مجتمعاتنا وحضاراتنا المسيحية. والمسيح يدعونا
إلى اقتلاع تلك الجذور من الداخل ومن الخارج على حدّ سواء.

ومستقبل
البشرية لا يمكن أن يبيّنه البشر بقواهم الخاصة، بعيداً عن الله الذي “به
نحيا ونتحرّك ونوجَد” (أع 17: 28). ودعوة بعض الايديولوجيات كالماركسية
الملحدة إلى بناء مستقبل خارجاً عن الله يجدّد قول الشيطان لآدم وحواء: “إن
أكلتما من شجرة معرفة الخير والشرّ، تصيران كآلهة عارفي الخير والشرّ”، أي
إنّكما تقرّران ما هو خير وما هو شرّ. ولكن آدم وحواء، عندما أكلا من تلك الشجرة
انفتحت أعينهما وعرفا أنّ عريانان. إنّ تصميم الالحاد لن يصل إلاَّ إلى كشف عري
الإنسان، أي عجزه عن بلوغ المعرفة والسعادة خارجاً عن الله.

إنّ
رسالة الكنيسة تفرض عليها أن تُظهِر للبشر ماذا صنع الله لخلاص هذا الإنسان
العريان، شرط أن يعترف الإنسان بضعفه، ويلجأ إلى صليب المسيح وقيامته منبع الخلاص.
الرجاء المسيحي هو الجواب الوحيد على اليأس الذي يملأ قلوب البشر على صعيد الأفراد
والمجتمعات. وهذا الرجاء يستند إلى وعد المسيح الذي “جاء ليطلب ما قد هلك
ويخلّصه” (لو 19: 10).

2-
الرجاء المسيحي في “الدهر الآتي”

بماذا
ينبئنا الرجاء المسيحي للدهر الآتي بعد الموت؟

أ)
القيامة الفردية

كلّ
الذين كانت حياتهم جواب محبة على محبة الله سيتّحدون بالله ويحيون من حياته. إنّهم
بعد موتهم سيقومون إلى حياة الله. هذا هو موضوع رجائنا لما بعد الموت. وهذا الرجاء
نعبّر عنه بتعابير وتصاوير متنوعة مستخدمين مختلف أساليب التعبير:

1)
الحياة مع الله: في هذا التعبير نلجأ إلى الأسلوب الوجودي. “وهكذا نكون مع
الرب على الدوام” (1 تسا 4: 17). “هوذا مسكن الله مع الناس، سيسكن معهم،
ويكونون له شعباً، وهو الله معهم يكون إلههم” (رؤ 21: 3). أن يكون إنسان مع شخص
آخر ويحيا معه، هذا هو فرح الحضور واللقاء. وأن يكون الإنسان مع الله، مبدأ كيانه
وغاية وجوده، هذا هو أقصى سعادته في هذا الدهر وفي الدهر الآتي. إيماننا هو أنّ
الموت لن يكون لنا تلاشياً وعودة إلى العدم، بل لقاء الله وحياة أبدية معه.

تلك
العلاقة نعبّر عنها أيضاً مستخدمين أسلوب المماثلة، فنشبّه حياتنا مع الله بالألفة
البشرية التي تجمع بين الأب وأبنائه. فنصير على مثال الله، ونعرفه كما يعرفنا،
ونتّحد به الوحدة الكاملة:

“أيها
الأحباء، نحن من الآن أولاد الله، ولم يتبيّن بعد ماذا سنكون. غير أنّا نعلم أنّا،
إذا ما ظهر، سنكون أمثاله، لأنّا سنعاينه كما هو” (1 يو 3: 2). تلك العلاقة
مع الله ستحوّلنا إليه، لأننا سنشاهده “وجهاً إلى وجه” (1 كو 13: 12).

على
هذه الأرض المسيح وحده يعرف الآب معرفة كاملة: “لقد دفع إليّ أبي كلّ شيء،
وليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يرف الآب إلا الابن، ومن يريد الابن أن
يكشف له” (متى 11: 27). ولكن في الدهر الآتي شرف الله كما يعرفنا: “سأَعلم
كما عُلِمت” (1 كو 13: 12).

وإذّاك
تتمّ الوحدة الكاملة مع الله التي وعدنا بما المسيح: “ليكونوا بأجمعهم واحداً.
فكما أنّك أنت، أيها الآب، فيَّ وأنا فيك، فليكونوا، هم أيضاً، فينا” (يو 17:
21).

2)
الاشتراك في مجد الله: وهكذا نعبر من النعمة إلى المجد. هذا العبور قد قام به
المسيح قبلنا: “أيها الآب، لقد أتت الساعة. فمجِّد ابنك لكي يمجِّدك ابنك..
مجِّدني بالمجد الذي كان لي لديك من قبل كون العالم” (يو 17: 1- 5).

الحياة
الأبدية هي حياة الله. ومجد الله هو مل كيانه الذي هو أسمى من كيان كلّ الكائنات،
والذي يعرّف به يوحنا بقوله إنّه “الحياة والنور والمحبة” (1 يو 1: 2،
5؛ 5: 16). إنّ تمجيد يسوع بعد موته هو تحوّل كيانه الإنساني ليصير واحداً مع تلك
الحياة الإلهية وذاك النور الإلهي، بعد أن كان على هذه الأرض الظهور المجسّد لمحبة
الله.

وعلى
مثال يسوع، كلّ من يظهر في حياته على الأرض محبة الله يشترك في هذا المجد: “أيها
الآب، إنّ الذين أعطيتني، أريد أن يكونوا هم أيضاً، حيث أكون أنا، لكي يشاهدوا
مجدي الذي أعطيتني، لأنّك أحببتني قبل إنشاء العالم” (يو 17: 24).

يستحيل
علينا إدراك هذه الحقيقة إدراكاً واضحاً بحواسّنا وحتى بعقلنا. هذا ما اختبره
الصوفيون المسيحيون عبر الأجيال، إذ أكّدوا أن معرفة الله هي معرفة بالإيمان، وهي
أشبه بتلمّس وبحث في ظلمة الليل.

3)
السماء والفردوس: للتعبير عن تلك الحقيقة السرّية التي تعجز عن إدراكها كلّ
مفاهيمنا البشرية، ولتقريبها إلى أذهاننا وحواسّنا، نلجأ بالمخيّلة إلى رموز
نستقيها من الأسلوب الميثولوجي. فنتكلّم عن “السماء” التي هي مكان نراه
فوق رؤوسنا، وعن “الفردوس” الذي هو مكان نتصوّره في بدء التاريخ وفي
نهايته، وفيه سيزول كلّ شقاء عرفناه على هذه الأرض: هناك يجد الحزانى التعزية،
ويشبع الجياع (متى 5: 5- 6، لو 6: 21). هناك يرى أنقياء القلوب الله. هناك
“يمسح الله كلّ دمعة من عيون الناس، ولا يكون بعد موت ولا نوح ولا نحيب ولا
وجع، لأن الأوضاع الأولى قد مضت” (رؤ 21: 4).

4)
الاشتراك في سعادة القديسين: في هذا التعبير نستخدم الأسلوب الرمزي المستند إلى ما
اختبره شعب العهد القديم في تاريخه ومؤسّساته وعباداته. في سفر الرؤيا، المختارون
الذين “افتداهم الحمل بدمه يصيرون لله ملكوتاً وكهنة” (5: 9- 10). وهم
“جمع كثير لا يستطيع أحد أن يحصيه، من كلّ أمّة وكل قبيلة وكل شعب وكل لسان،
واقفون أمام العرش وأمام الحمل، لابسين حللاً بيضاً، وبأيديهم سعف النخل” (7:
9). تلك البشريّة المجدّدة والمصالحة مع الله هي شعب الله الملتئم في
“المدينة المقدسة أورشليم الجديدة، النازلة من السماء من عند الله المهيّأة
كعروس مزيّنة لعريسها” (21: 2)، والتي يتمّ في السماء الاحتفال بعرسها مع
الحمل: “فلنفرح ونبتهج، ولنُشِدْ بمجد الله، لأنّ عرس الحمل قد حضر، وعروسه
قد هيّأت نفسها، وأوتيت أن تلبس بَزًّا نقيًّا. والبَزّ هو مبرّات القديسين”
(19: 7).

هناك
تضامن بين جميع أعضاء جسد المسيح. فالحياة الواحدة التي تسيل فيهم تنشئ بينهم،
أسواء كانوا بعد على الأرض أم رقدوا في الرب، وحدة سرّية دعتها الكنيسة منذ القرون
الأولى “شركة القدّيسين”، أي شركة الذين قدّسهم المسيح بنعمته. في هذا
الإطار يجب أن نفهم علاقتنا بالأموات. فالمسيح هو الذي يجمعنا على هذه الأرض
ويربطنا بمن سبقنا إلى حياة الدهر الآتي.

ب)
القيامة العامة وقيامة الأجساد

في
إطار “شركة القديسين” هذه يمكننا أن نتكلّم عن “القيامة
العامة”. فالصدّيقون، منذ موتهم، يتحرّرون من سلطان الموت ويقومون مع المسيح.
ولكن فرحهم لن يكون كاملاً إلاَّ متى قام جميع الصدّيقين مع المسيح، أي في نهاية
التاريخ. تلك هي القيامة العامة، التي ستكون في آنٍ معاً “قيامة
الأجساد”. ماذا نعني بهذا التعبير؟

الإنسان
روح وجسد، روح يعبّر عن ذاته في جسد. فالجسد فيه أمر ضروري إذ به يعبّر الروح عن
ذاته وبه يدخل الإنسان في علاقة مع الآخرين ومع العالم المادي. وبما أنه في آخر
الأزمان “ستكون أرض جديدة وسماء جديدة” يملأها مجد الله، ستكون أيضاً
علاقتنا بهما علاقة جديدة ممتلئة من مجد الله. هذا ما نعنيه بقولنا اننا سنقوم في
أجساد ممجّدة.

وعندما
نقول إنّ يسوع قام بجسده، نعلن إيماننا بأن يسوع قد وصل إلى تلك الأرض الجديدة
والسماء الجديدة، ودخل في علاقة جديدة ممجّدة مع العالم. وإلى قيامته يستند
إيماننا بقيامتنا: “إن المسيح قد قام من بين الأموات، باكورة للراقدين”
(1 كو 15: 20).

هل
نستطيع إضافة تفاصيل أكثر دقة على ما قلناه؟ قد نرغب في ذلك. إلاَّ أنّ بولس
ينبئنا بأنه “ما لم تره عين، ولا سمعت به أُذن، ولا خطر على قلب بشر، ما
أعدّه الله للذين يحبّونه” (1 كو 2: 9). فلنجتنب إذاً أن نطرح على ذواتنا
أسئلة تفوق امكانات عقلنا، وأن نخترع أجوبة هي أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع.
ولنكتفِ بالتعابير الرمزية التي نجدها في الكتاب المقدّس ويقين إيماننا بأنّنا في
الدهر الآتي سنحيا من حياة الله نفسه، وأنّ ما ينتظرنا يفوق كلّ ما يمكننا أن
نتصوّره.

ثانياً-
المطهر

عندما
يتكلم سفر الرؤيا عن مصير الشهداء، يقول عنهم إنّهم دخلوا الحياة الأبديّة
“بعد أن غسلوا حللهم وبيّضوها بدم الحمل” (7: 14). فالمقصود هنا هو
تطهير كيانهم قبل الاشتراك في حياة الله.

إنّ
الحديث عن المطهر لا يصحّ إلاَّ في هذا المنظار، أي كتهيئة للدخول في فرح الحب
الأبدي. ونار المطهر التي يأتي البعض على ذكرها، استناداً إلى قول بولس إنّ
“من احترق عمله فسيخسر، أما هو فسيخلص، ولكن، كمن يمرّ في النار” (1 كو
3: 15) يجب أن تفهم كرمز لتلك التنقية. مع أنّ المقصود في قول بولس ليس نار المطهر،
بل مجرّد تشبيه يريد منه الإشارة إلى صعوبة الخلاص.

إنّ
اللاهوت الشرقي يرفض فكرة اللاهوت الغربي التي ترى في نار المطهر قصاصاً أو جزاء
لمَا اقترفه الإنسان من خطايا. كما يرفض اللاهوت الشرقي فكرة الاستحقاقات التي
نجدها في اللاهوت الغربي في تفسير شركة القديسين، والقائلة بأنّ الأعمال الصالحة
التي يقوم بها بعض الأحياء تستحق للأموات مغفرة خطاياهم. ان شركة القديسين في
اللاهوت الشرقي هي امتداد للشركة الافخارستية، حيث الروح القدس هو الذي يحقّق وحدة
جميع أعضاء الجسد. نحن شركاء القديسين لأنّنا في شركة مع الثالوث الأقدس. فالمسيح
هو الوسيط الوحيد، والقديسون هم شفعاؤنا مع المسيح باشتراكهم في حياة الثالوث.
وجميع المؤمنين يشاركون أيضاً في تلك الشفاعة. وفي السماء تشارك أرواح القديسين في
الجماعات الليتورجية، وعلى هذا النحو يشارك القديسون في السماء في خلاص الأحياء.

إنّ
التقديس، في العرف الشرقي، ليس تكفيراً بل تأليه. والفترة الممتدة بين الموت
والدينونة هي فترة تنقية وتحرير وشفاء من الخطيئة. وصلوات الأحياء والقرابين التي
يقدّمونها لأجل الراقدين وأسرار الكنيسة تشارك المسيح في عمله الخلاصي. لا تكفير
عن الخطايا، بل تجديد الطبيعة الإنسانية. لا نيران للجزاء، ولا عذابات للانتقام،
بل نضوج للتنقية من كل الشوائب التي تلوّث صفاء الروح.

ثالثاً-
جهنم

1-
ما هي جهنّم؟

ان
المسيح في الإنجيل يتكلّم، كما سبق ورأينا، عن جهنّم وعن العذاب الذي يلاقيه فيها
الأشرار. لا شكّ أنّ التصاوير التي يلجأ إليها هي من نوع الأسلوب الميثولوجي، الذي
يحدّد في مكان خارجي ما يختبره الإنسان في عالمه الداخلي. إلاّ أنّنا من خلال تلك
التصاوير يمكننا التعريف بجهنّم بأنها مصير الذين يرفضون الله وينكرون تعاليمه
ووصاياه، ويعيشون في مختلف أنواع الشرّ والإثم والخطيئة. فإذا اعتبرنا إذاً أنّ
تصوّر جهنّم كمكان ينزل إليه الأشرار هو تعبير ميثولوجي، نبقى الحقيقة التي لا
يمكن إنكارها، وهي أن جهنّم حالة الإنسان الذي يرفض رفضاً جذريًّا الله وكل عمل
خير.

وجود
جهنّم هو الجواب على تساؤل الإنسان حول الخير والشرّ، وحول مصير كل من يختار الشرّ
في حياته على الأرض. فالمسيح، بتأكيده عذاب جهنّم، يبيّن أنّ هناك تناقضاً بين
الخير والشرّ وأن ليس لهمَا القيمة نفسها والنتائج ذاتها لا على هذه الأرض ولا بعد
الموت. فالخير يقود الإنسان إلى السعادة لأنه بالخير يكتمل كيانه، والشرّ يقوده
إلى الهلاك والعذاب، بالشرّ ينهدم كيانه. وعلى هذا يقوم عذاب جهنّم: إنّ السعادة
التي خُلق لأجلها الإنسان، لم يستطع أن يبلغها بسبب رفضه كل ما يقود إليها، ورفضه
السير بحسب تعاليم المسيح ووصايا الله، أو على الأقلّ بحسب إرشادات ضميره، إن لم
تصله بشارة المسيح ولا وصايا الله، كما يقول بولس الرسول: “كلّ الذين خطئوا
بمعزل عن الناموس، فبمعزل عن الناموس أيضاً يهلكون. وكلّ الذين خطئوا وهم تحت
الناموس فبمقتضى الناموس يُدانون.. إنّ الذين ليس عندهم الناموس، هم ناموس لأنفسهم،
إذ يُظهرون أنّ ما يفرضه الناموس مكتوب في قلوبهم، وضميرهم يشهد، وأفكارهم تشكو
مرة، وتحتجّ أخرى” (رو 2: 12- 15).

الله
هو المحبة والله هو الخير. والخطيئة تقوم على رفض الله، أي على رفض المحبة ورفض
الخير. ومن يسلك طريقاً لا بدّ له من أن يصل إلى حيث تقود تلك الطريق. فمن يختار
الخير يصل إلى الله، ومن يختار الشرّ يصل إلى الهلاك. وكما رأينا أن السماء هي
الحياة مع الله وأنّها تبدأ على هذه الأرض، كذلك يمكننا القول إنّ جهنّم هي رفض
الله ورفض المحبة وعمل الخير، وإنها تبدأ على هذه الأرض، ووجود الإنسان بعد الموت
سيكون تتويجاً للنهج الذي يكون قد تبعه على الأرض، وخاتمة لسلسلة من القرارات
والأعمال التي يكون قد اتّخذها وقام بها. وتلك الخاتمة ستكون إمّا خاتمة خير وخلاص،
وإمّا خاتمة شرّ وهلاك.

2-
أبدية جهنّم

يتكلّم
يسوع في وصفه الدينونة العامة عن النار الأبديّة والعذاب الأبدي (متى 24: 41، 46).
إنّ اللفظة اليونانية المستعملة هنا والتي نترجمها بالعربية بلفظة
“أبديّ” و”أبديّة” تعني في الواقع. “ما هو متعلّق بالدهر
الآتي”، أي بوجود ما بعد الموت، دون الإشارة إلى دوام تلك النار ودوام ذاك
العذاب دون نهاية. إنّ دوام عذاب جهنّم دون نهاية مقابل دوام ملكوت الله هو، في
نظر كثير من آباء الكنيسة واللاهوتيين، “إخفاق لتصميم الله وانتصار، ولو جزئي،
للشرّ”.

لذلك
رأى بعض آباء الكنيسة من أمثال باسيليوس وغريغوريوس النزينزي وغريغوريوس النيصي وأفرام
وإيرونيموس، أنّ جهنّم في نهاية الأزمنة ستتلاشى والشرّ يزول، ويخلص الناس كلّهم،
إذ يعودون إلى حالة النعمة التي سبقت الخطيئة. والنص الجوهري الذي يستندون إليه
لدعم تلك النظرية هو قول بولس إنّه في آخر الأزمان “سيُخضع الله للابن كل شيء،
وحينئذٍ يخضع الابن نفسه للذي أخضع له كل شيء، ليكون الله كلاًّ في الكل” (1
كو 15: 27- 28).

إنّ
أوّل من نادى بتلك النظرية هو أوريجانوس (183- 254) إلاَّ أنّه، علاوة على فكرة
“إعادة كل شيء إلى الله في نهاية الأزمنة”، كان يعتقد بأمور أخرى حرمتها
المجامع المسكونية، كالوجود السابق للأنفس. فأنفس البشر، في رأيه، كانت أرواحاً
محضة. وإذ خطئت، قاصصها الله وأدخلها في أجساد بشرية. هذا الوجود السابق للأنفس قد
حرمه المجمع المسكوني الخامس المنعقد في القسطنطينيّة سنة 553. إلاَّ أنّ هذا
المجمع لم يبحث في موضوع “أبدية عذاب جهنّم”، رغم المنشور الذي بعث به
الامبراطور يوستنيانوس إلى البطريرك ميناس ضد أوريجانوس، وفيه يقول: “كلّ من
يقول أو يظنّ بأنّ عذاب الأبالسة والخطأة هو عذاب وقتي له نهاية، وأنّ الشياطين
والخطأة سيعادون إلى حالتهم السابقة، فليكن مبسلاً”. هذا رأي الامبراطور
والبطريرك، إلاَّ أنّه ليس رأي المجمع المسكوني الخامس.

خلاصة

النقاش
إذاً يبقى مفتوحاً أمام اللاهوتيين. إنّ خلاص الخطأة في نهاية الأزمنة وتلاشي
جهنّم هما من الأمور التي يمكن أن نرجوها من محبة الله اللامتناهية. “الخلاص
الشامل في نهاية الأزمنة” ليس عقيدة. إنّمَا هو، حسب قول اللاهوتي المعاصر
أوليقييه كليمَان، أمر “يجب أن يكون موضوع صلاتنا، ومحبتنا العاملة،
ورجائنا”. أبديّة جهنم ليست موضوع إيماننا. ما هو موضوع إيماننا هو أن محبّة
الله أقوى من كلّ شرّ وحياة الله أقوى من كلّ موت.

إن
محبة الله هي الكلمة الأولى والأخيرة في بدء الأزمنة كما في نهايتها، في هذا الدهر
وفي الدهر الآتي. وفي هذا الدهر كما في الدهر الآتي، نحن مدعوون إلى أن نحيا حياة
الله في أعماق نفوسنا، ونعلن محبة الله لنا، ونؤكّد ثبات رجائنا المرتكز على
الإيمان بمحبة الله.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى