اللاهوت العقيدي

البَابُ الثامِن



البَابُ الثامِن

البَابُ
الثامِن

سِرُّ
الكَهنُوت

مُقدّمَة

إنّ
الكنيسة، في أسرارها، تكمّل حضور المسيح على الأرض. كيف يتمّ ذلك في سرّ الخدمة
الكهنوتية؟ هذا هو السؤال الأساسي الذي نبدأ بطرحه عند معالجتنا لاهوت سرّ الخدمة
الكهنوتية.

مقالات ذات صلة

في
عالم يميل اليوم إلى العلمنة في مؤسَّساته وفي طرق تفكيره، لا بدّ من التساؤل حول
دور الكاهن في المجتمع المعاصر، وحول ما يميّزه عن سائر المسيحيين الذين يشتركون
هم أيضاً في كهنوت المسيح.

إنَّ
النظرة الكاثوليكية للكهنوت هي إحدى الأمور الهامّة التي ثار عليها لوثر في إصلاحه.
يمكننا إيجاز تعليمه في الكهنوت في النقاط التالية:

1-
في العهد الجديد لم يعد سوى كاهن واحد، هو يسوع المسيح. لأننا إذا حدّدنا الكاهن
بقولنا “إنه الوسيط بين الله والناس”، فمن الواضح أنّ يسوع المسيح هو
الوسيط الوحيد بين الله والناس، وبتقدمه ذاته على الصليب أزال كل الذبائح
والقرابين التي كان من شأن الكهنة في العهد القديم تقدمتها إلى الله.

2-
جميع المسيحيين، بالمعمودية، يصبحون أعضاء للمسيح، ويشتركون في كهنوته دون تمييز
بين كاهن وعلماني. فالاتحاد بالمسيح والدخول في علاقة خلاص مع الله يتمّ مباشرة
بالمعمودية، ولا يحتاج إنسان لإنسان آخر للحصول على هذا الاتحاد بالمسيح وعلى هذا
الخلاص.

3-
إنّ سرّ الكهنوت لم ينشئه المسيح بل أنشأته مطامع البشر ورغبتهم في السيطرة
والتسلُّط على إخوتهم.

4-
إنّ الخدمة الدينية، في العهد الجديد، تقوم على تغذية الإيمان ودعمه بالكلمة
الإلهية وأسرار الكلمة. فلفظة الكاهن لفظة يهودية أو وثنية، وسبب الاستعاضة عنها
بلفظة “الخادم”. والخدمة هذه لا تعطى الكاهن أيّ سلطان إضافي علاوة على
ما يعطيه سرّ المعمودية. إنّها ناتجة فقط من حاجة الكنيسة لتنظيم ذاتها في سبيل
خدمة الله. لذلك إذا افتقرت إحدى الكنائس إلى أساقفة وكهنة، يستطيع الشعب المسيحي
أن يوكل تلك الخدمة إلى أحد أعضائه، لأنّ جميع المسيحيين يشتركون على السواء في
كهنوت المسيح.

جواباً
على تساؤل الكهنة عن هويتهم، وجواباً على اعتراضات لوثر، سنحاول التعريف بسرّ
الخدمة الكهنوتية، إنطلاقاً أوّلاً من إرادة المسيح والطريقة التي طبّق بها الرسل
إرادة المسيح هذه، وذلك من خلال نصوص العهد الجديد، ثم ببحث في تاريخ الكنيسة الذي
يُظهر لنا كيف مارست الكنيسة مدى الأجيال سرّ الخدمة الكهنوتية. وننهي بتعريف واضح
لسرّ الخدمة الكهنوتية كما تراه اليوم الكنيسة الكاثوليكية، ولاسيّمَا بعد المجمع
الفاتيكاني الثاني.

الفصل
الأول

الخِدمَة
الكهنُوتية في العَهْدِ الجَديد

أولاً-
الخِدَم في العهد الجديد

1-
لمحة تاريخية

أ)
رسالة يسوع العلنيّة

تجد
الخدمة الكهنوتية جذورها في رسالة يسوع الذي كان يجول المدن والقرى مبشِّراً
بملكوت الله وبالتوبة الضرورية للدخول فيه.

ففي
أثناء رسالته اختار من بين تلاميذه اثني عشر رسولاً وثقَّفهم تثقيفاً خاصاً
وأرسلهم للتبشير بالملكوت وشفاء المرضى (مر 3: 14؛ 6: 7). وتقوم دعوة الرسل على
أنهم مُرسَلون من قِبَل المسيح، كما أنّه هو مُرسَل من قِبَل الآب بقوّة الروح
القدس (يو 20: 21- 23؛ 16: 7- 15؛ 17: 17- 19). فمَن يقبلهم يقبل المسيح، ومَن
يقبل المسيح يقبل الآب الذي أرسله (متى 10: 14؛ 4- 42؛ مر 9: 35- 36). ويقومون
بالأعمال نفسها التي يقوم بها المسيح (مر 16: 14- 20). والمسيح سيكون معهم، وحضوره
سيتمّ بواسطة الروح القدس (يو 20: 22؛ لو 24: 48- 49؛ اع 1: 6- 8).

ب)
الجماعة الرسولية الأولى في أورشليم (سنة 30- 43)

في
هذه الفترة قام الرسل بعملين في ما يخصّ الخدم في الكنيسة:

فقد
اختاروا أولاً الرسول الثاني عشر متّيا عِوَض يهوذا. والطريقة التي لجأوا إليها،
أي الاختيار بالقرعة، تشير إلى أنّ اختياره هو من الله نفسه (اع 1: 15- 26). ثم
عيَّنوا سبعة شمامسة للاعتناء بالفقراء ولاسيّما من بين اليونانيين. وهذا التعيين
تمَّ بالصلاة ووضع أيدي الرسل عليهم. “وأقاموهم أمام الرسل فصلّوا ووضعوا
عليهم الأيدي” (اع 1: 1- 6). ونرى هؤلاء الشمامسة يكرزون ويعمّدون ويجرون
الآيات والمعجزات، كاستفانوس (اع 6: 8) وفيلبّس الذي يبشّر ويعمّد في السامرة (اع
8: 5- 13)، ثم يبشّر قيّم ملكة الحبشة ويعمّده (اع 8: 26- 40).

ج)
الفترة الرسولية (43- 95)

نجد
في الكنيسة في تلك الفترة، حسب شهادة بولس الرسول، “أولاً رسلاً، وثانياً
أنبياء، وثالثاً معلّمين” (1 كو 12: 27).

الرسل:
ترسلهم الكنيسة للتبشير بالإنجيل في المناطق التي لم تصلها البشارة بالإنجيل.
فيبشّرون ويؤسّسون الكنائس، ويرسمون كهنة في كل كنيسة، ثم يتابعون سيرهم للتبشير
في مناطق أخرى. وبعد فترة يعودون إلى الكنيسة التي أرسلتهم يخبرون بكل ما صنع الله
معهم. هكذا أرسلت كنيسة انطاكية شاول وبرنابا (اع 13: 1- 3)، فذهبا يبشّران في
جميع كنائس مدن آسيا الصغرى (اع 13- 14) “ورسما لهم كهنة في كل كنيسة”
(14: 23)، ثم عادا “إلى انطاكية حيث كانا قد استُودِعا نعمة الله للعمل الذي
أكملوه. ولما قَدِما وجمعا الكنيسة، أخبرا بكلّ ما صنع الله معهما، وأنّه فتح
للأمم باب الإيمان. وأقاما زماناً غير يسير مع التلاميذ” (14: 26- 28)، ثم
“عادا من جديد يفتقدان الاخوة في المدن التي بشّرا فيها بكلمة الرب” (15:
36- 41).

وكان
من نتائج مجمع أورشليم المنعقد سنة 49 للبحث في أمر إلزام المهتدين إلى المسيحية
من الوثنية باتباع ناموس موسى، أن توزّع العمل بين الرسل: فبولس وبرنابا توجّها
إلى الوثنيين (غلا 2: 9)، وبطرس إلى اليهود المتنصّرين في الشتات (1 بط 1: 1).


الأنبياء: يتكلّمون في اجتماعات الصلاة بكلام بنيان وموعظة (1 كو 14: 29- 33). وقد
يتّخذ كلامهم شكل كشف النقاب عن وجه المستقبل كما فعل “واحد منهم، اسمه
أغابيوس، فأنبأ بالروح أنّها ستكون مجاعة شديدة في المسكونة كلها” (اع 11: 28)،
كما أنبأ أيضاً عن سجن بولس على يد اليهود (اع 21: 10- 14). والأنبياء هم الذين
يتلون في عشاء الرب الصلاة الافخاريستية، كما نقرأ في كتاب “الذيذاخي”: “ليشكر
الأنبياء ما طاب لهم الشكر” (10: 7).


المعلّمون: نجد ذكرهم غالباً جنباً إلى جنب مع الأنبياء (اع 13: 1، راجع أيضاً
الذيذاخي 15، 1 “انتخبوا لكم أساقفة وشمامسة رجالاً مختبَرين جديرين بالرب
ودعاء، سالكين في نزاهة واستقامة، لأنهم يؤدّون لكم خدمة الأنبياء
والمعلّمين”). يقوم دور المعلّمين على تفسير الكتاب المقدس وعلى تعليم الشعب
تعليماً منهجياً في كل ما يختصّ بالإيمان المسيحي والآداب المسيحية.


الكهنة (أو الشيوخ): في أورشليم وفي الجماعات المتحدّرة من أصل يهودي، يرئس
الكنائس جماعة من” الشيوخ” أو” القدامى”، على غرار الجماعات
اليهودية في العهد القديم. هؤلاء الشيوخ يديرون شؤون الكنيسة المادية والروحية (اع
11: 29- 30). في الترجمات العربية تترجم لفظة “الشيخ” إمّا بلفظة
“قسيس” المشتقّة من السريانية والتي تعني الشيخ، وإمّا بلفظة
“كاهن”، لأن الشيوخ كانوا في الكنيسة الأولى يقومون بالدور الذي يقوم به
الكهنة اليوم (راجع ذكر الكهنة أو الشيوخ في أعمال الرسل 14: 21- 23؛ 15: 2 و4 و6
و22- 23؛ 20: 17؛ 21: 18).

هكذا
نجد في كل مدينة مجلساً من الكهنة يقيمهم الرسل بأنفسهم أو بواسطة ممثليهم. فبولس
يكتب إلى تيطس: “لقد تركتك في كريت لتكمّل تنظيم كل شيء، وتقيم كهنة في كل
مدينة، على حسب ما رسمتُ لك” (تي 1: 5). ويذكر صفات الكهنة (تي 1: 6؛ ا تي 5:
17- 22). وهؤلاء الكهنة يُرسَمون بوضع اليد (1 تي 22: 5). مما يدلّ على أنّ خدمة
الكهنوت ليست مجرّد وظيفة إدارية، إنما تتطلّب موهبة خاصة من الروح القدس.

ونرى
الكهنة في رسالة يعقوب يُصلُّون على المرضى ويمسحونهم بالزيت (5: 14). وعندما
يتكلّم بولس عن “الذين يرئسون الكنائس” فربّما يشير إلى الكهنة (راجع 1
تسا 5: 12).


الأساقفة: في كنيسة فيلبي، لا يذكر بولس الكهنة بل الأساقفة والشمامسة (في 1: 1).
يبدو أنّ الأساقفة في العهد الرسولي هم أنفسهم الكهنة. وقد دُعوا أساقفة في
الكنائس المنحدرة من أصل يوناني (كلمة أسقف مشتقّة من اللفظة اليونانية التي تعني
“المراقب، الساهر”). أمّا دور الأساقفة فهو على غرار دور الكهنة، إدارة
الكنائس. يذكر بولس الأساقفة في رسالته الأولى إلى تيموثاوس (3: 1- 7) ورسالته إلى
تيطس، حيث يبدو أنّ الأسقف هو نفسه الكاهن (1: 5 الكهنة؛ ثم 1: 7 الأسقف). وفي
أعمال الرسل تظهر لفظة الأساقفة صفة للكهنة (20، 17 كهنة الكنيسة، ثم 20: 27
أقامكم فيه الروح القدس أساقفة).


الشمامسة: منذ إنشائهم على يد الرسل (اع 6: 1- 6) نجد ذكرهم مراراً ولا سيّما في 1
تي 3: 8- 13 حيث يصف بولس الرسول الصفات التي يجب أن يتحلّوا بها. أما لفظة الشماس
فهي مشتقّة من السريانية وهي ترجمة اللفظة اليونانية وتعني الخادم.

2-
مبادئ العهد الجديد في الخدمة الكهنوتية

نستنتج
مما سبق بعض المبادئ التي سار عليها الرسل في الكنيسة الأولى في ما يختصّ بالخدمة
الكهنوتية:

الوظائف
المختلفة في الكنيسة هي لخدمة الكنيسة وتأمين حاجات شعب الله. وهي وظائف عضوية من
صميم بنية الكنيسة. “ففي الكنيسة يجب أن يجري كل شيء، كما يقول بولس الرسول،
على وجه لائق وفي نظام” (1 كو 14: 40)، “لأنّ الله ليس إله تشويش بل إله
سلام” (1 كو 14: 33).

الخدم
المختلفة هي مواهب يمنحها الروح القدس الواحد للمنفعة العامة (1 كو 12: 4- 11).

الخدّام
يمارسون سلطة المسيح، وهذا ما يردّده بولس مراراً (رو 1: 5؛ 2 كو 10، 8؛ 13: 10؛ 1
تسا 4: 1- 2؛ 2 تسا 3: 14؛ 1 كو 5: 3- 5).

سلطة
هؤلاء الخدّام هي سلطة خدمة وليس سلطة تسلُّط (مر 10: 42- 45؛ يو 13: 12- 16؛ 1 كو
9: 19؛ 3: 5؛ 4: 1؛ 1 بط 5: 2- 3؛ 3 يو 9).

مهمّة
هؤلاء الخدّام هي التبشير بالكلمة وترؤس الصلوات. في سفر أعمال الرسل يروي لوقا
إحدى اجتماعات المسيحيين الأوّلين بحضور بولس ورئاسته: فهو الذي يعلّم وهو الذي
يكسر الخبز أي يحتفل بسرّ الافخارستيا (اع 20: 7- 11). ويؤكّد بولس أنّ مهمة
الخدّام الأولى هي الكرازة (1 تي 4: 13؛ 2 تي 4: 2؛ 1 كو 1: 17).

لكنّ
الكرازة يجب ألاَّ تُفصَل عن الصلوات والأسرار. فالمسيح أوصى رسله بأن يتلمذوا
ويعمّدوا (متى 28: 19)، ومنحهم السلطة على مغفرة الخطايا (متى 16: 19؛ 18: 18؛ يو
20: 20- 23؛ لو 24: 47) وإقامة الافخاريستيا (1 كو 11: 24- 25؛ لو 22: 19) ومسح
المرضى (مر 6: 12).

ثانياً-
ناحية العبادة في الخدمة الكهنوتية

لا
شكّ أنّ العهد الجديد يشدّد في دور الخدمة الكهنوتية على ناحية الكرازة. وهذا ما
أبرزه لوثر. ولكنّ البروتستنتية أهملت ناحية أخرى في الخدمة الكهنوتية هي ناحية
العبادة. لذلك يرفض البروتستنت أن يسمّوا مترئّسي الكنائس “كهنة”، لأن
لفظة “الكاهن” تذكِّر بكهنوت العهد القديم الذي كان مرتكزاً على ناحية
العبادة ولاسيّما على تقديم الذبائح. فمنذ أن أبطل المسيح الذبائح بتقدمة ذاته على
الصليب، لم يعد سوى كاهن واحد هو المسيح. أمّا مترئّسو الكنائس فيجب أن يُدعَوا
فقط “خدّام” الكلمة و”خدام” الأسرار.

ولكن
الكنيسة الكاثوليكية، باستعمالها الألفاظ المتعلقة “بالكهنوت”، لا تعني
أنّ كهنوت المسيح هو تكملة لكهنوت العهد القديم. فالمسيح لم يكن كاهناً حسب مفهوم
العهد القديم للفظة. فالكاهن هو الوسيط بين الله والناس. إنّ كهنة العهد القديم
كانوا وسطاء بواسطة دم الذبائح، أمّا يسوع فكان وسيطاً بتقدمة دمه الخاص. وكهنة
العهد الجديد يمكن تسميتهم كهنة، لا لأنهم وسطاء بين الله والناس بتقدمة ذبائح، بل
لأنهم، باحتفالهم بسر الافخاريستيا، يجعلون ذبيحة المسيح حاضرة اليوم. وذبيحة
المسيح هي ذبيحته على الصليب وذبيحته في حياته كلها.

لقد
أنشأ المسيح بحياته وموته كهنوت العهد الجديد المبني على تقدمة الذات وعلى الشهادة
بالحياة والكرازة. والكهنة، من صميم رسالتهم، متابعة كهنوت المسيح بتقدمة حياتهم
والكرازة بالمسيح. إنّ كهنوتهم هو اشتراك في كهنوت المسيح.

نقرأ
في سفر الخروج قول الله لموسى: “هذا ما تصنع لبني هرون لكي تقدّسهم فيصبحوا
لي كهنة” (29: 1). مقابل هذا التكريس الكهنوتي، طلب يسوع في صلاته الكهنوتية
تقديس الرسل: “أيها الآب، قدِّسهم في الحق، إنّ كلمتك هي حق” (يو 17: 17).
إنّ تقديس الرسل هو التقديس في الحق، التقديس الحقيقي، الذي لم يكن تقديس أبناء
هرون سوى ظل إزاءه.

لقد
فسّرت الرسالة إلى العبرانيين تفسيراً مسهباً الفرق بين كهنوت العهد القديم وكهنوت
العهد الجديد. فالمسيح هو وسيط بين الله والناس في عمق كيانه، لكونه إنساناً
شاركنا في كل شيء ما عدا الخطيئة (2: 10- 18؛ 4: 15؛ 5: 7) وفي آنٍ معاً ابن الله
وأعلى من الملائكة (1: 1- 13). فهو الكاهن الوحيد والأزلي. وقد قرّب نفسه مرة لا
غير وكفّر عن خطايا الكثيرين (7: 27؛ 9: 12، 25- 28). لذلك فهو “حيّ على
الدوام يشفع فينا” (7: 25).

ان
لجوء الكنيسة إلى الألفاظ الكهنوتية قد تمَّ منذ القرن الرابع، ولاسيّما عندما
أصبح الكهنة بحاجة إلى أنظمة وقوانين تنظّم حياتهم وتحفظهم في القداسة وفي الطاعة
لرؤسائهم. فوجدوا في قوانين العهد القديم وأنظمته الكهنوتية ركيزة وإطاراً جاهزاً
لحالتهم الكهنوتية.

الفصل
الثَاني

الخِدمَة
الكهنوتيَّة في تاريخ الكنِيسَة

1-
الآباء الرسوليون (95- 150 بعد المسيح)

في
هذه الفترة نشهد تثبيت الخدمة الكهنوتية في درجاتها الثلاث: الأسقف، الكاهن،
الشمّاس. ففي كل كنيسة نرى أسقفاً واحداً وحوله مجلساً من الكهنة وشمامسة. في هذا
يقول القديس اغناطيوس أسقف انطاكية:

“لا
يصنع أحد منكم شيئاً خارجاً عن الأسقف في كل ما يتعلّق بشؤون الكنيسة. فلتُعتبَر
وحدها شرعية الافخارستيا التي تُقام برئاسة الأسقف أو من يوكله.. كونوا مع الأسقف
وأطيعوه كما أطاع يسوع الآب. ومجلس الكهنة كالرسل، وأما الشمامسة فاحترموهم كما
تحترمون شريعة الله” (رسالة إلى السميرنيين 8: 1).

هذا
التنظيم للكنيسة في ثلاث درجات سيمتدّ من انطاكية إلى آسية الصغرى ثم إلى الكنيسة
جمعاء.

2-
الكنيسة في القرنين الثاني والثالث

تتوطّد
في هذه الفترة سلطة الأسقف وتمتدّ إلى جميع أمور الكنيسة الدينية والمادية، فيصير
المسؤول عن صندوق الكنيسة وأموالها وعن إعانة الفقراء ودفع مرتّبات الكهنة
والشمامسة. فيصير هؤلاء أكثر ارتباطاً به.

في
كتاب “تعليم الرسل”، الذي يعود إلى 230- 250، نرى أنّ الكهنة لا تنتخبهم
الجماعة، بل يعيّنهم الأسقف نفسه، ومهمّتهم تقوم على تقديم الاستشارة للأسقف. أمّا
الشمامسة فكانوا أقلّ عدداً من الكهنة (عادة سبعة)، ولكن أكثر تأثيراً، لكونهم
مرافقي الأسقف المباشرين. فكل من يريد أمراً من الأسقف يطلبه بواسطة الشمامسة.

ومنذ
تلك الفترة شعرت الكنائس بضرورة إنشاء القراء والايبوذياكون (أو ما ندعوه الشماس
الرسائلي أو الشدياق).

3-
الكنيسة بعد قسطنطين

على
أثر مرسوم ميلانو (313) الذي يعترف بحرية العبادة، ومرلسوم تسالونيكي (381) الذي
يفرض فيه الامبراطور ثيودوسيوس على “جميع شعوب الامبراطورية ديانة الرسول
بطرس”، اتّبعت الكنيسة في تنظيمها الادارة المدنية. فالكنائس المحلية تبعت
تنظيم الأقاليم والولايات المدنية: أسقف على مدينة، رئيس أساقفة على عاصمة إقليم،
متروبوليت على عاصمة ولاية ثم بطريرك على ولاية.

ودرجت
العادة في رسامات الأساقفة أن يُرسَم كلّ أسقف على كنيسة واحدة، ومنعت المجامع
انتقال الأساقفة من كرسي إلى آخر. ولكن أهميّة بعض الكنائس فرضت عكس ذلك، وأصبح
الانتقال من كنيسة إلى أخرى أمراً متواتراً. بحيث أصبح الكاهن أو الأسقف كموظف
ينتقل من درجة إلى درجة أعلى بتغيير مركزه. ولكن السعي وراء المراكز والمناصب أفقد
الخدمة الكهنوتية أصالتها الإنجيلية.

4-
الكنيسة في القرون الوسطى

بقيت
الدرجات الثلاث على مدى تاريخ الكنيسة في الشرق والغرب. ولكن ارتباط الأساقفة
والكهنة بالسلطة المدنية ازداد ولاسيّما في فترة الاقطاعية، حيث كان كل سيّد
مقاطعة يبني كنيسة خاصة له ويوكل اهتمامها لكاهن مرتبط به إدارياً وماديًّا. أمّا
رعايا القرى فكان الكاهن فيها يعيش من حسنات المؤمنين، إلى أن تكوّنت الأوقاف
المخصّصة لكل رعية. وأصبح الكاهن مديراً لمنظّمة مالية أو لملك يعطي ريعاً معيّناً.
وسادت في الغرب عادة شراء المراكز الدينية التي تعطي ريعاً أوفر. كما ساد أيضاً
الفساد الخلقي بين رجال الاكليروس. مما حمل البابا غريغوريوس السابع في القرن
الحادي عشر على إصلاح الكنيسة في هذين المجالين. ولكنّ الأمور لم تتحسّن كثيراً،
وكان انحطاط الاكليروس من الدوافع التي حملت لوثر على إعلان ثورته ضد رجال
الاكليروس ورفضه سرّ الكهنوت، وعدم قبوله كهنوتاً آخر غير كهنوت العلمانيين شعب
الله.

المجمع
التريدنتيني (1563) حدّد لاهوت الكهنوت لدى الأساقفة والكهنة من جهة وعمل على
إصلاح الكنيسة بإعداد الاكليروس إعداداً كافياً، فأنشأ الاكليريكيات التي تركّز
على التثقيف الروحي لكهنة الغد، ولكن انطلاقاً من نظرة كهنوتية محورها خدمة الطقوس
الدينية وتوزيع الأسرار والتثقيف النظري الفلسفي واللاهوتي.

5-
الكنيسة المعاصرة: المجمع الفاتيكاني الأول والمجمع الفاتيكاني الثاني

المجمع
الفاتيكاني الأول (1870) ركّز في لاهوت الكهنوت على دور الأساقفة في الكنيسة،
ولاسيّما على دور البابا، فأعلن عقيدة أوّليته على سائر الأساقفة وعصمته في أمور
العقيدة. وتوقّفه بسبب الحرب حالَ دون متابعة التوسع في دور سائر الخدمات
الكهنوتية، ولا سيّما الأساقفة.

المجمع
الفاتيكاني الثاني، في دستوره العقائدي في الكنيسة، وفي قرارين حوله مهمة الأساقفة
وخدمة الكهنة، تابع عمل ما أهمله المجمع الفاتيكاني الأول.

أ)
في دستوره العقائدي في الكنيسة

تبدو
الخدم الكهنوتية ليس فوق شعب الله، بل كخدم عضوية داخل الشعب. وقبل إعلان الخدم
الكهنوتية، يؤكد المجمع كهنوت جميع المؤمنين (رقم 10).

ب)
في قراره في مهمّة الأساقفة

يؤكّد
المجمع الأمور التالية:


المسؤولية الجماعية للأساقفة: “كلّ منهم مسؤول عن الكنيسة مع سائر
الأساقفة” (رقم 6).


“الكنيسة المحلّية” هي النواة الأولى للكنيسة (رقم 11).


استقلال الأساقفة بالنسبة إلى السلطات المدنية (رقم 19) التي يجب أن تتخلّى عن
امتيازاتها في “اختيار وتعيين، وتقديم وتسمية الأشخاص للمهمّة
الأسقفيّة” (رقم 20).


ضرورة تقديم استقالتهم عندما يصيرون، “لتقدّمهم في السنّ أو لسبب آخر خطير،
أقلّ كفاءة للقيام بمهمّتهم” (رقم 21).


كما أعاد المجمع إنشاء “المجامع الأسقفية” (رقم 37- 38).

ج)
في قراره المجمعي “في خدمة الكهنة الرعائية وحياتهم”

يؤكّد
هذا القرار المجمعي الناحية الرعائية لخدمة الكهنة وحياتهم. ولكنه في الوقت نفسه
يحدّد مهام الكهنة.


العنوان يعود بنا إلى اللفظة التي كانت الكنيسة تطلقها على الكهنة (الشيوخ أو
القدامى).


الفصل الأوّل: “واقع الكهنة في رسالة الكنيسة”: يبدأ بكهنوت جميع
المسيحيين، ثم يؤكّد أنّ جسد المسيح “ليست فيه لجميع الأعضاء الوظيفة
عينها” حسب قول بولس الرسول (رو 12: 4). فالكهنة يشتركون في كهنوت الأساقفة
خلفاء الرسل (2). والكهنة ليسوا خارج الشعب، بل “أُخذوا من الناس، لأجل الناس
في علاقاتهم مع الله، لكي يقرّبوا تقادم وذبائح من أجل الخطايا. لذلك يعيشون مع
سائر الناس كما يعيش الاخوة” (3).


الفصل الثاني: “في خدمة الكهنة الراعوية”، يوضح مهمّة الكهنة في الكنيسة
(4- 6)، ثم يتكلّم عن علاقات الكهنة بعضهم مع بعض ومع الأساقفة ومع العلمانيين (7-
9)، وعن مسؤولية الكهنة الرسولية “فعلى الكهنة أن يتذكّروا أنّ من واجبهم أن
يحملوا همَّ جميع الكنائس. وهكذا فليكن كهنة الأبرشيا الغنيّة بالدعوات على أهبة
الذهاب بطيّب القلب، بإذن أسقفهم أو بدعوة منه، لمزاولة خدمتهم في بلدان، أو
رسالات، أو نشاطات تعافي نقصاً في عدد الكهنة” (10).


الفصل الثالث “حياة الكهنة”: يؤكّد المجمع في هذا الفصل على: 1- دعوة
الكهنة إلى القداسة، 2- المقتضيات الروحية الخاصة في حياة الكهنة ولا سيّما
التواضع والطاعة (15)، والعفّة والعزوبة (16)، المتاع المادي والفقر (17). 3-
وسائل مختلفة في خدمة حياة الكهنة، ولا سيّما الحياة الروحية، والحياة الثقافية
والحياة المادية. ويختم بتحريض على تخطّي الصعوبات الملازمة للحياة الكهنوتية
ولاسيّما في العصر الحاضر، واثقين بوعد المسيح وبقيادة روح الرب.

الفصل
الثالِث

النَظَرةُ
اللاّهُوتيَّة إلى الخِدمَةِ الكَهنُوتيّة

أولاً-
كهنوت المؤمنين وكهنوت الخدمة

ان
الله يدعو بعض المسيحيين إلى الخدمة الكهنوتية. ولكن المسيحيين جميعاً يشتركون في
كهنوت المسيح، لأنهم، بالمعمودية، يصيرون أعضاء في جسد المسيح. فما الذي يميّز
هذين النوعين من الكهنوت؟

1-
كهنوت المؤمنين المشترَك

الكنيسة
كلّها متّسمة بطابع الخدمة الكهنوتية. وجميع أعضاء شعب الله هم كهنة. فانهم،
بالمعمودية يصيرون أعضاء للمسيح، ويشتركون بالتالي في رسالته كمعلم وكاهن وملك.
هذا ما تدعوه الكنيسة “كهنوت المؤمنين المشترك”، لأنه مشترك بين جميع
المسيحيين، علمانيين وكهنة. وفكرة الكهنوت المشترك هذه تعود إلى العهد الجديد.
فيقول بطرس في رسالته الأولى:

“ابنوا
من أنفسكم، كمِن حجارة حية، بيتاً روحياً، كهنوتاً مقدّساً، لإصعاد ذبائح روحية،
مقبولة لدى الله بيسوع المسيح.. أنتم جيل مختار، كهنوت ملوكي، أمّة مقدسة، وشعب
مُقتَنى لتشيدوا بحمد الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب، أنتم الذين لم يكونوا
من قبل شعباً، وأمّا الآن فشعب الله، ولم يكونوا مرحومين، وأمّا الآن
فمرحومون” (2: 5- 10).

وقد
أكّد المجمع الفاتيكاني الثاني كهنوت المؤمنين المشترك في دستوره العقائدي في
الكنيسة:

“إنّ
المسيح الرب، الحبر المأخوذ من بين الناس، قد جعل من الشعب الجديد “ملكوتاً
وكهنة لله أبيه” (رؤ 1: 6؛ 5: 9- 10). ذلك بأنّ المعمّدين قد تكرّسوا
بالميلاد الثاني ومسحة الروح القدس لكي يكونوا مسكناً روحيًّا وكهنوتاً مقدّساً،
ويقرّبوا بعملهم المسيحي كلّه قرابين روحية، ويعلنوا قدرة ذاك الذي دعاهم من
الظلمة إلى نوره العجيب. فليقرّب إذن جميع تلاميذ المسيح أنفسهم، مواظبين على
الصلاة وحمد الله (أع 2: 42- 47)، قرابين حيّة، مقدسة، مرضيّة لله (رو 12: 1)،
ويشهدوا للمسيح في كل مكان، ويقيموا الدليل، في كل مطلب، على الرجاء الذي فيهم
للحياة الأبدية (1 بط 3: 15).

“إنّ
كهنوت المؤمنين المشترَك وكهنوت الخدمة الراعوية أو الرئاسة مترابطان كلاهما
بالآخر وإن اختلفا في الجوهر لا في الدرجة فقط. ذلك بأنّ كلا هذا وذاك يشتركان،
كلٌّ على نحوٍ خاص، في كهنوت المسيح الواحد. فكهنوت الخدمة يُنشئ، بما له من سلطان
مقدّس، الشعب الكهنوتي، ويقوده، ويقيم، في وظيفة المسيح، الذبيحة الافخارستية،
ويقرّبها إلى الله باسم الشعب كله. وأمّا المؤمنون فيشتركون بكهنوتهم الملوكي في
تقديم الافخارستيا، ويمارسون هذا الكهنوت بقبولهم الأسرار، ثم بالصلاة والحمد
وشهادة السيرة المقدسة، ثم بالكفر بالذات والمحبة الفعّالة”.

من
هذا النص نستنتج الأمور التالية:


المسيحيون هم جميعاً كهنة، بالمعمودية والتثبيت. إنّ المسحة التي يُمسَحون بها
تمنحهم الروح القدس، فيكرَّسون كهنة. تذكّر تلك المسحة بالمسحة التي كان الكهنة في
العهد القديم يُمسَحون بها. إلاَّ أنّ مسحة العهد الجديد، مسحة الروح القدس التي
مُسح بها يسوع للتبشير والكرازة (راجع لو 4: 18 “روح الرب عليّ، وقد مسحني
لأُبشِّر المساكين”)، ثم مُسح بها التلاميذ بحلول الروح القدس عليهم يوم
العنصرة، تشمل كل إنسان، حسب قول يوئيل النبي: “سيكون في الأيّام الأخيرة
أنّي أفيض من روحي على كلّ بشر فيتنبّأ بنوكم وبناتكم” (يؤ 2: 28؛ أع 2: 17).


يمارس المسيحيون كهنوتهم بتقدمة حياتهم وأعمالهم ذبائح روحية، وبالشهادة للمسيح في
كل مكان، وبالاشتراك في الصلوات والأسرار، ولاسيّما الافخارستيا.

2-
كهنوت الخدمة الراعوية

جميع
المسيحيين هم إذاً كهنة بمسحة الروح القدس. وكيانهم البشري يتكرّس باشتراكهم في
تكريس المسيح. جميع المسيحيين يشتركون على حدّ سواء في السمة الكهنوتية التي تتّسم
بها الكنيسة جسد المسيح. إلاَّ أنّ بعضاً منهم توكَل إليهم مهمّة خاصة في هذا
الجسد. فالفرق بين النوعين من الكهنوت ليس على صعيد كيان المسيحي والكاهن، بل على
صعيد المهمة في الجسد.

هذا
الفرق توضحه جيّداً طقوس الأسرار. فكهنوت المؤمنين المشترَك يُمنَح بالتغطيس
بالماء في المعمودية ومسحة الميرون في التثبيت. فبالمعمودية يشترك المسيحي في موت
المسيح وقيامته ويصبح عضواً فيه، وبالتثبيت يُمنَح “ختم موهبة الروح
القدس”، وكلا السرّين يتعلّقان بكيان المسيحي فيجدّدانه ويجعلانه كائناً
جديداً على صورة المسيح، إنساناً ممتلئاً من روح الله، مسكناً وهيكلاً للروح. فإذا
حدّدنا الكهنوت الوساطة بين الله والناس، يتّضح لنا أنّ تلك الوساطة قد تحقّقت في
شخص المسيح الذي هو إله وإنسان معاً، وتتحقّق في كل إنسان يصير عضواً للمسيح.
كهنوت المؤمنين هو إذاً على صعيد الكيان.

أمّا
كهنوت الخدمة فيُمنَح “بوضع اليد”. ووضع اليد يعني إعطاء سلطة ومهمّة
خاصة. فكهنوت الخدمة يمنح الكاهن مهمّة خاصة. ما هو قوام تلك المهمّة ومضمونها؟

أ)
كهنوت الخدمة هو وظيفة عضوية في جسد المسيح

من
الخطأ اعتبار كهنوت الخدمة سرًّا يُمنَح لقداسة الكاهن الشخصية. فالمسيحي لا يصير
كاهناً” ليخلّص نفسه”. نذكر هنا قول القديس اوغسطينوس لأبناء أبرشيته: “لَئِن
هالني ما أنا لكم، فما أنا معكم يعزّيني: فلكم أنا أسقف، ومعكم أنا مسيحي. ذاك اسم
مهمّة، وهذا اسم نعمة، ذاك عنوان خطر وهذا عنوان خلاص”. الكهنوت خدمة في
الكنيسة، وظيفة عضوية في جسد المسيح. وعندما يتكلم بولس الرسول عن الخِدَم
المختلفة يعتبرها مواهب لخدمة الكنيسة:

“أنتم
جسد المسيح، وأعضاء كلّ بمقدار: فلقد وضع الله البعض في الكنيسة أولاً رسلاً
وثانياً أنبياء وثالثاً معلّمين، ثم من أوتوا موهبة العجائب، فواهب الشفاء،
فالإعانة، فالتدبير، فأنواع الألسنة” (1 كو 12: 27- 28).

لا
يمكننا التعريف بكهنوت الخدمة في ذاته بل في دوره في الكنيسة، والخدمة التي
يؤدّيها فيها. كما لا يمكننا اعتبار كهنوت الخدمة فوق الجماعة المسيحية أو
مستقلاًّ عنها. كهنوت الخدمة وظيفة، ولكن ليس وظيفة اجتماعية، بل وظيفة عفوية لا
معنى لها خارج الجسد. فالقلب والرئة واليد والرِّجل والأُذُن والعين لا يمكن
التعريف بها في ذاتها أو مستقلّة عن الجسد، بل من خلال دورها في الجسد. كذلك كهنوت
الخدمة يؤدّي مهمة في الجسد لا يستطيع العلمانيون القيام بها عوضاً عنه. وكما أنّ
“العين لا تستطيع أن تقول لليد: لا حاجة لي إليك، ولا الرأس للرجلين: لا حاجة
لي إليكما” (1 كو 12: 21)، كذلك لا يستطيع الكاهن أن يقول للعلمانيين لا حاجة
لي إليكم، ولا العلمانيون للكاهن: لا حاجة لنا إليك.

إنّ
سير الأعضاء المختلفة الحسن يضمن صحة الجسد كلّه ونموّه المنسجم. هكذا في الكنيسة.
فالمسيح، حسب قول بولس الرسول، “هو الذي أعطى بعضاً أن يكونوا رسلاً، وبعضاً
أنبياء، وبعضاً مبشّرين، وبعضاً رعاة ومعلّمين، منظّماً هكذا القدّيسين لأجل عمل
الخدمة في سبيل بنيان جسد المسيح، إلى أن ننتهي جميعنا إلى الوحدة في الإيمان وفي
معرفة ابن الله، إلى حالة الإنسان البالغ، إلى مثل اكتمال المسيح” (أف 4: 11-
13).

ب)
كهنوت الخدمة هو استمرار لدور المسيح رأس الكنيسة

لقد
افتدى المسيح البشريّة وكوَّن بدمه الشعب الجديد وأرسل روحه القدّوس ليحيي هذا
الشعب. وهو لا يزال حيًّا يقود الكنيسة إلى مل الحياة الإلهية. انه رأس الجسد.
كهنوت الخدمة لا يحلّ محلّ المسيح، والكاهن ليس مسيحاً آخر بقدر ما هو “سرّ
المسيح”، أي العلامة المنظورة للمسيح غير المنظور. في اف 4: 5- 16، يتكلّم
بولس الرسول عن “المفاصل” التي تتعاون لينمو الجسد ويرتقي “إلى من
هو الرأس، أي المسيح، الذي منه ينال الجسد كله التنسيق والوحدة”. فالدور الذي
تقوم به المفاصل في الجسد يقوم به كهنوت الخدمة في الكنيسة.

فالرأس
يضمن التنسيق والوحدة بين أعضاء الجسد. لا شك أن المسيحيين كأفراد يستطيعون أن
يتّصلوا بالمسيح وبالله. وهذا ما أكّده لوثر. ولكن الكنيسة ليست مجموعة أفراد، بل
جسد منسَّق ومنسجم. فدور الكهنوت في نظر الكنيسة الكاثوليكية والارثوذكسية هو
العمل على “حفظ رباط الروح” بين أعضاء الجسد الواحد. لقد شدّد لوثر على
عمل الروح داخل كل مسيحي، وشدّد على دور كل مسيحي في العمل على وحدة الجسد. ولكنه
أهمل أمراً هامًّا في الكنيسة، وهو دور الكهنوت في التعبير عن وحدة الجسد وربط
جميع الأعضاء بعضهم ببعض وبالأسقف، ومن خلال الأسقف بجماعة الأساقفة في العالم
أجمع ومن خلال الأساقفة بالرسل وبالحدث التأسيسي للكنيسة، أي بحياة المسيح وموته
وقيامته.

ج)
الخدم الكهنوتية هي مواهب من الروح القدس

كل
خدمة هي “موهبة” يمنحها الروح القدس لمنفعة الكنيسة كلّها:

“إن
الخِدَم على أنواع، إلاَّ أنّ الربّ واحد. إنّ الأعمال على أنواع، إلاَّ أنّ الله
واحد، هو يعمل كل شيء في الجميع. وكلّ واحد إنّمَا يُعطى إظهار الروح للمنفعة
العامّة” (1 كو 12: 5- 7).

الجماعة
المسيحية لا تختار هي نفسها كهنتها ولا تمنحها هي سلطتهم ومهمّتهم. إنّمَا تميّز
من بين أعضائها من وهبهم الروح تلك الموهبة. لذلك في صلوات رسامة الكهنة، ينادى
على المرتسم: “هذا هو العبد المختار من الله ومن الروح الكليّ قدسه.. المزمع
أن يرتسم شمّاساً أو كاهناً أو أسقفاً”. وكذلك يقال في صلوات وضع اليد: “النعمة
الإلهية التي في كل حين تشفي المرضى وتكمّل الناقصين هي تنتدب فلاناً..”؛
“أيّها الربّ إلهنا، يا من بسابق معرفته، يرسل موهبة روحه القدوس على
المنتدَبين من قوّته التي لا يُستَقصى أثرها لأن يكونوا خدّاماً كهنوتيين لخدمة
أسراره الطاهرة..”.

ثانياً-
أبعاد الخدمة الكهنوتية

الخدمة
الكهنوتية تضمن استمرار شعب الله وتعمل على بناء جسد المسيح. وتلك الخدمة تتمّ في
ثلاثة ميادين: الكلمة، والأسرار، والرعاية.

1-
خدمة الكلمة

لقد
أنشأ المسيح الكنيسة أوّلاً بالكرازة بالكلمة. وأرسل تلاميذه للغرض نفسه. وفي هذا
يقول بطرس الرسول: “لقد وُلِدتم ثانية، لا من زرع فاسد بل من زرع غير فاسد،
بكلمة الله الحيّة الخالدة” (1 بط 1: 23). إنّ الإيمان بحاجة إلى التبشير
بالكلمة: “كيف يؤمنون به ولم يسمعوا به؟ وكيف يسمعون به بلا مبشِّر؟ وكيف
يبشِّرون إن لم يُرسَلوا؟.. فالإيمان إذاً من البشارة، والبشارة بأمر من
المسيح” (رو 10: 14- 18).

يقول
المجمع الفاتيكاني الثاني في دستوره العقائدي لي الكنيسة:

“إنّ
أولى مهامّ الأسقفيّة الرئيسة هي الدعوة بالإنجيل. ذلك بأن الأساقفة هم روّاد
الإيمان فيجلبون للمسيح أتباعاً جدداً، وهم المعلّمون الأصيلون الذين قُلِّدوا
سلطة المسيح، فيعلنون للشعب الذي ائتُمِنوا عليه بالإيمان الذي يجب أن ينظّم
تفكيره ومسلكه، ويشيعون هذا الإيمان بهدي الروح القدس، ويستخرجون من كنوز الوحي
جُدُداً وعُتُقاً (متى 13: 52)، ويجعلون الإيمان يؤتي ثماره، ويعملون بيقظة على
إقصاء جميع الأضاليل التي تهدّد رعاياهم”.

وفي
قراره في خدمة الكهنة الرعائية وحياتهم، يتوسّع المجمع في “وظائف
الكهنة”، فيبدأ بخدمة الكلمة:

“يجتمع
شعب الله أولاً بكلمة الله الحي التي يخلق أن تُرتَقَب من فم الكاهن خصوصاً. وإذ
لا قِبَل لأحد بالخلاص ما لم يكن قد آمن أولاً، فوظيفة الكهنة الأولى بحكم كونهم
معاوني الأساقفة، أن يبشّروا بإنجيل الله في جميع الناس. وبهذا يلبّون أمر الرب.
“إذهبوا في العالم كله، وبشّروا بالإنجيل الخليقة كلّها” (مر 16: 15).
وهكذا يلدون شعب الله ويزيدونه نماء: فكلمة الخلاص هي التي توقظ الإيمان في قلوب
غير المسيحيين، وتغذّيه في قلوب المسيحيين، وهي التي تلد وتنمي جماعة المسيحيين.
فالرسول يقول: “فالإيمان من البشارة، والبشارة بأمر من المسيح”. فالكهنة
إذاً هم لجميع الناس. وعليهم أن يشركوهم في حقيقة الإنجيل التي آتاهم الربّ إيّاها،
ومن ثم فسواء سلكوا بين الأمم السلوك الحسن لاستمالتهم إلى تمجيد الله، أو بشَّروا
جهاراً لإعلان سرّ المسيح لغير المؤمنين، أو فصّلوا التعليم المسيحي وبسطوا معتقد
الكنيسة، أو درسوا على نور المسيح معضلات عصرهم، فعليهم في جميع هذه الأحوال، ألاّ
يعلّموا حكمتهم الخاصة بل كلمة الله، وأن يدعوا جميع الناس بإلحاح إلى الهداية
والقداسة. ولا جرم أنّ تلك الكرازة الكهنوتية، في وضع العالم الراهن، صعبة جدًّا
في غالب الأحيان، لأنّها، إن أرادوا البلوغ بها حقًّا ذهن المستمعين، يجب ألاّ
تقتصر على عرض كلمة الله بصورة عامة ونظرية، بل أن تطبّق أيضاً حقيقة الإنجيل
الخالدة على أحوال الحياة الظاهرة.

“فهناك
إذاً طرُق عديدة لممارسة خدمة الكلمة وفقاً لحاجات السّامعين المختلفة ومواهب
المبشِّرين الخاصة: ففي البلدان أو الأوساط غير المسيحية يجلب الناس بالدعوة
بالإنجيل إلى الإيمان وأسرار الخلاص. وأمّا في الجماعات المسيحية، ولاسيّما الذين
ينقصهم الإيمان أو الفهم لما يمارسونه عمليًّا، فلا بدّ من إعلان الكلمة في خدمة
الأسرار، التي هي أسرار الإيمان، والإيمان تعوزه الكلمة ليولد ويتغذّى. وهذا يصحّ
خصوصاً في ليتورجيّا الكلمة في القدّاس، حيث يتّحد اتحاداً لا ينفصل إعلان موت
الرب وقيامته وجواب الشعب الذي يصغي إليه وتقدمة المسيح نفسها التي بها ختم بدمه
العهد الجديد، واشتراك المسيحيين في هذه التقدمة بالصلاة واقتبال السرّ” (رقم
4).

2-
خدمة الأسرار

خدمة
الكلمة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بخدمة الأسرار. والكلمة التي يكرز بها الكهنة يجب
أن تقود الشعب إلى الاتحاد بالمسيح بالأسرار، وإلى تكوين جماعة مسيحية تحيا من
الحياة الإلهية الواحدة. فالكاهن هو خادم المسيح وخادم الجماعة التي يقودها لتصير
جسداً واحداً في المسيح. لذلك يعلن المجمع الفاتيكاني الثاني أنّ “الاجتماع
الافخارستي هو النقطة المركزية في الجماعة المسيحية التي يرئسها الكاهن” (رقم
5 من القرار في خدمة الكهنة الرعائية وحياتهم).

إنّ
هذين البعدين للخدمة الكهنوتية تعبّر عنهما بوضوح صلوات الرسامة. ففي رسامة الكاهن
في الطقس البيزنطي، يقول الأسقف في صلاة وضع اليد الثالثة:

“أيّها
الإله العظيمة قدرته والغير المستقصى فهمه والعجيبة آراؤه فوق بني البشر، أنت يا
رب املأ عبدك هذا، الذي ارتضيت أن يدخل في الدرجة الكهنوتية، موهبة روحك القدوس،
لكي يصير أهلاً لأن يقف بلا عيب أمام مذبحك، ويكرز بإنجيل ملكوتك، ويخدم كلمة حقك،
ويقدّم لك قرابين وذبائح روحية، ويجدّد شعبك بحميم إعادة الولادة”.

وفي
رسامة الأسقف تُتلى الصلاة التالية: “.. أنت أيها المسيح اجعل هذا، المقام
مدبّراً لنعمة رئاسة الكهنوت، مقتدياً بك أيّها الراعي الحقيقي، واضعاً نفسه عن
خرافك، مرشداً للعميان، نوراً للّذين في الظلام، مؤدّباً للجهّال، معلّماً للأطفال،
مصباحاً في العالم، حتى يثقّف النفوس المؤتمن عليها في الحياة الحاضرة..”

3-
قيادة شعب الله- خدمة الرعاية

إنّ
تصميم الله هو “أن يجمع تحت رأس واحد في المسيح كلّ شيء، ما في السماوات وما
على الأرض” (أف 1: 10). فالبعد الثالث للخدمة الكهنوتية يقوم على تجسيد عمل
المسيح الراعي الذي يجمع كلّ المسيحيين في جماعة عضوية، في شعب واحد لله، بحيث
تصغي الرعية كلها لصوت المسيح “لتصير رعية واحدة لراعٍ واحد” (يو 10: 16).

يقول
المجمع الفاتيكاني الثاني في قراره “في مهمة الأساقفة الراعوية”: “ليكن
الأساقفة في وسط شعوبهم كالذين يخدمون وهم يمارسون مهمّة الأب والراعي. وليكونوا
رعاة صالحين يعرفون نعاجهم ونعاجهم تعرفهم، وآباء حقيقيين ينسامون بروحهم
المُحِبَّة والمخلصة نحو الجميع.. عليهم أن يجمعوا كل رعيتهم، تلك العائلة الكبيرة،
وينعشوها، بحيث يدرك الكلّ واجباتهم ويعيشون في شركة من المحبة ويعملون فيها”
(رقم 16).

أمّا
عن دور الكهنة من هذا القبيل فيقول المجمع: “يمارس الكهنة، على مستوى سلطتهم،
وظيفة المسيح الرأس والراعي. فباسم الأسقف، يجمعون أسرة الله، جماعة الاخوة التي
تسكن فيها دينامية الوحدة، ويقودونها بالمسيح، في الروح القدس، نحو الله الآب..
وعلى الكهنة، بحكم كونهم مؤدّبين في الإيمان، أن يهتمّوا، بأنفسهم أو بسواهم، بأن
يبلغ كلّ مسيحي، في الروح القدس، تفتّح دعوته الشخصية بحسب الإنجيل، والمحبة
الصادقة الفاعلة، والحرية التي حرّرنا المسيح بها.. وينشّئون أيضاً المسيحيين على
أن لا يحيوا لأنفسهم فقط، بل أن يجعلوا في خدمة الآخرين، على ما تقتضيه شريعة
المحبة الجديدة، ما ناله كلّ منهم من موهبة لكي يؤدّي الجميع، كمسيحيين، الدور
المنوط بهم في مجتمع الناس.

“لا
جرم أنّ الكهنة للجميع، وإنّما عليهم أن يعتبروا أنّ الفقراء والصغار بعهدتهم على
وجه خاص. ذلك بأنّ الرب نفسه قد أظهر نحوهم أنّهم موضع همّه، ولا سيّما في تقدّمهم
الروحي من أجل منفعة الكنيسة كلّها. وأخيراً يهتمّون اهتماماً كبيراً بالمرضى
والمحتضرين فيعودونهم ويشدّدونهم في الرب.

“ثم
إنّ وظيفة الراعي لا ننحصر في مساندة المسيحيين فرديًّا، وإنّما من مهامّها الخاصة
أيضاً أن تربّي جماعة مسيحية صحيحة. ولكنّ الروح الجماعي لا ينمو حقًّا إلاَّ إذا
تعدّى حدود الكنيسة المحليّة ليشمل الكنيسة الجامعة. فيجب على الجماعة المحلّية
ألاّ تقصر اهتمامها على مؤمنيها وحدهم فقط، وإنّما عليها أن تتحلّى بالروح الرسولي،
وتشقّ لجميع الناس طريقاً إلى المسيح..

“والكهنة
إذ يبنون الجماعة المسيحية لا يكونون أبداً في خدمة عقائدية أو حزب بشري، وإنما
يقفون قواهم، بصفة كونهم روّاد الإنجيل ورعاة الكنيسة، على إنماء جسد المسيح
روحيًّا” قرار في خدمة الكهنة الرعائية وحياتهم، 6).

إنّ
رسالة كهذه تتطلّب تهيئة مناسبة. لذلك أصدر المجمع الفاتيكاني الثاني قراراً
“في تنشيّة الكهنة” يؤكّد فيه ضرورة إعداد الكهنة إعداداً كاملاً
فيُهيَّأُوا لخدمة الكلمة وخدمة الصلاة والأسرار وخدمة الراعي (رقم 4- 21).. ثم
لفت المجمع الانتباه إلى أهميّة “متابعة التثقيف الكهنوتي حتى بعد الانتهاء
من مرحلة الدراسة في المعاهد الاكليريكية”، بسبب التطوّر السريع الذي يعيش
فيه المجتمع المعاصر (رقم 22).

ثالثاً-
كهنوت الخدمة سرّ من أسرار الكنيسة

لقد
عاشت الكنيسة الخدمة الكهنوتية منذ أيّام الرسل كموهبة من الروح القدس وكوظيفة
عضوية في جسد المسيح. أمّا اعتبار الخدمة الكهنوتية سراً من أسرار الكنيسة السبعة
فلم يتّضح إلاَّ مع اتّضاح الفكرة اللاهوتية للأسرار وتحديد عددها. وقد ظهر ذلك في
الكنيسة الغربية التي حدّدت عدد الأسرار في القرن الثاني عشر. وقد قبلت الكنيسة
الأرثوذكسية هذا التحديد في اعتراف الإيمان الذي أعلنه الامبراطور ميخائيل
باليولوغوس بمناسبة مجمع الاتحاد الذي انعقد في ليون سنة 1274.

1-
لماذا تعتبر الكنيسة الخدمة الكهنوتية سرّاً؟

أمّا
الأسباب التي دعت الكنيسة إلى اعتبار الخدمة الكهنوتية سراً من الأسرار السبعة فهي
التالية:


أولاً لأنّه يرقى إلى إرادة المسيح نفسه الذي اختار بعض رسله، وأقامهم خدّام
الكرازة: “لستم أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم وأقمتكم” (يو 15: 16)،
“كما أنّ الآب أرسلني كذلك أنا أُرسلكم.. خذوا الروح القدس. فمَن غفرتم
خطاياهم غُفِرت لهم، ومَن أمسكتم خطاياهم أُمسِكَت” (يو 20: 21- 23).


ثانياً لأنّ الخدمة الكهنوتية تمنح من يقبلها نعمة خاصة، كما جاء في قول بولس
لتيموثاوس: “أذكّرك أن تذكي فيك الموهبة التي آتاكها الله بوضع يدي” (2
تي 1: 6، راجع أيضاً 1 تي 4: 14).


ثالثاً لأنّ النعمة التي يمنحها هي لخدمة الكنيسة. يقول أحد اللاهوتيين
الارثوذكسيين: “كلّ سرّ يجب أن يُعطَى في الكنيسة وبواسطة الكنيسة ولأجل
الكنيسة” ثم يضيف: “لا وجود في السرّ لأيّ فردية تعزل العمل والذي يقبله.
كلّ سرّ إنّمَا يترجّع صداه في جسد كلّ المؤمنين. كلّ معمودية وتثبيت ولادة في
الكنيسة التي تغتني بعضو فيها. كلّ مغفرة وحلّة تردّ التائب إلى الكنيسة، إلى
“شركة القديسين”. في كل إفخارستيا “نحن الذين اشتركنا في الخبز
الواحد والكأس الواحدة نصير متّحدين بعضنا ببعض في شركة الروح القدس الواحد”
(ليتورجيا القديس باسيليوس). رسامة أسقف تؤمّن الافخارستيا التي هي ظهور الكنيسة.
وسرّ الزواج يُدخِل شاباً وفتاة إلى الجماعة الافخارستية في حياتهم الزوجية
الجديدة. فالكهنوت يعطى في الكنيسة بواسطة الأسقف الذي يمثّل الكنيسة واشتراك الشعب
الذي يؤكّد عمل الأسقف بهتاف آكسيوس (مستحق). والكهنوت يعطى لخدمة الكنيسة
والافخارستيا التي فيها يظهر كيان الكنيسة بأجلى بيان.

2-
رتبة سرّ الخدمة الكهنوتية

تتكوّن
رتبة سرّ الخدمة الكهنوتية من أمرين أساسيين: وضع اليد والصلاة الابتهالية لمنح
الروح القدس. ووضع اليد أمر تقليدي في الكنيسة منذ الرسل، وقد اتخذته الكنيسة
الأولى عن التراث الشرقي القديم، وهو مرتبط بمنح البركة والسلطة.

3-
درجات سرّ الخدمة الكهنوتية

ابتداءً
من اغناطيوس الانطاكي، كما سبق ورأينا، يشمل سرّ الخدمة الكهنوتية ثلاث درجات: الشمّاس
والكاهن والأسقف. إنّ المسيح لم ينشئ مباشرة إلاَّ خدمة الرسل الاثني عشر. منذ
الرسل والكنيسة الرسولية الأولى نُظِّمت الخدمة الكهنوتية بهذا الشكل الثلاثي.
ولكن من الناحية اللاهوتية لا شيء يمنع الكنيسة من تطوير هذا التنظيم وفقاً
للأمكنة والأزمنة، مع احترام إرادة المسيح في إنشاء كنيسة تأتلف فيها خدم متنوعة
لبنيان جسد المسيح.

4-
وسم السرّ الكهنوتي

هناك
ثلاثة أسرار تمنح من يتقبّلها “وسماً” خاصًّا. إنّ تلك الفكرة قد أدخلها
اللاهوت الغربي، انطلاقاً من أنّ تلك الأسرار لا تعطى إلاَّ مرة واحدة. وهي
المعمودية والتثبيت والخدمة الكهنوتية.

لكن
يجب التنبيه بأنّ وسم المعمودية والتثبيت يتعلق بكيان المسيحي. أمّا وسم الكهنوت
فيتعلّق بمهمّة الكاهن، لا بكيانه. فالسؤال الذي يُطرَح اليوم هو التالي: إذا
أُعفي كاهن من مهامّه الكهنوتية، فهل يبقى كاهناً؟ الجواب التقليدي في الكنيسة
الكاثوليكية هو دون شك: نعم، يبقى كاهناً، حتى ولو أُعفي أو مُنعِ من ممارسة
كهنوته. وهذا الجواب ناتج عن تمييز وُضِع في القرون الوسطى بين “الوسم”
الذي يمنح سلطة للكاهن، “والنعمة” الكهنوتية. يبدو هذا التمييز للبعض
اعتباطيًّا، لأنّ النعمة الكهنوتية هي نعمة للخدمة، وهي نفسها “الموهبة”
التي يتكلّم عنها بولس الرسول في رسالته إلى تيموثاوس (1 تي 4: 14؛ 2 تي 1: 6).
إلاَّ أنّ التمييز بين السلطة والنعمة هو ضروري للتأكيد على أنّ الكاهن، وإن فقد
بسلوكه غير اللائق النعمة الكهنوتية، لا يزال يتمتع بالسلطة الكهنوتية. بحيث إنّه
يمنح الأسرار منحاً صحيحاً، ولو منحها وهو في حالة الخطيئة المميتة. هذا هو السبب
الوحيد الذي يجعلنا نميّز بين “النعمة الكهنوتية” و”الوسم
الكهنوتي”. فاذا أُعفي كاهن من ممارسة كهنوته وأُعيد إلى الحياة العلمانية،
فهل يبقى فيه الوسم الكهنوتي وما يتضمّنه من سلطة؟ تؤكّد الكنيسة الكاثوليكية بقاء
هذا الوسم والسلطة، ولكنّها تمنعه من ممارسة سلطته، إلاَّ في ظروف استثنائية أو
على طلب منها.

رابعاً-
كهنوت الخدمة والزواج

هناك
موضوع طُرِح في الكنيسة منذ بولس الرسول، ولا يزال يُطرَح اليوم، وهو مدى ارتباط
الخدمة الكهنوتية بالبتولية. لهذا الموضوع جوانب متعددة، يمكن الاحاطة بها من خلال
السؤالين التاليين:

1-
هل يجوز قبول رجال متزوجين في كهنوت الخدمة في مختلف درجاته، ولا سيّما في
الشموسية والكهنوت والأسقفيّة؟

وإذا
جاز ذلك فكيف يجب أن تكون حياة هؤلاء الزوجية؟ هل يسمح لهم دون قيد أو شرط ممارسة
العلاقات الزوجية، بما في ذلك العلاقات الجنسيّة وإنجاب البنين؟

2-
هل يجوز للشمامسة والكهنة والأساقفة أن يتزوّجوا بعد رسامتهم؟

1-
لمحة تاريخية

أ)
قبول رجال متزوّجين في كهنوت الخدمة

إنّ
أقدم قانون في هذا الموضوع يعود إلى “قوانين الرسل القديسين”، وهي
مجموعة من القوانين ترجع إلى حوالى السنة 300. يقول القانون الخامس:

“لا
يجوز لأسقف أو شماس أن يصرف عنه امرأته بحجّة الورع. فإن أبعدها فليُقطعَ من
الشركة، وإنْ أصرّ على ضلاله فليسقط”.

*
في مجمع القبّة “ترولّو” الذي انعقد في القسطنطينيّة سنة 692، يقول
القانون 12: “إنّه، وإن كان قد حُدّد سابقاً أنّ الزوجة يجب ألاّ تفصَل، فنحن،
إذ ننصح باتّباع ما هو أفضل، نأمر بأنّه لا يجوز لأسقف بعد الآن أن تسكن معه
زوجته”. فإن دُعي أحد إلى الأسقفيّة وكان متزوّجاً، وجب عليه الانفصال عن
امرأته، على أن يتمّ ذلك برضى الطرفين، وعندئذٍ تدخل امرأته أحد الديورة، حسب قول
المجمع نفسه في القانون 48: “يجب على المرأة التي تنفصل عن الذي سيُنصَّب
أسقفاً أن تدخل من بعد سيامته إلى دير في مكان بعيد عن مركز كرسيّه. وعلى الأسقف
أن يقدّم لها كلّ ما تحتاج إليه”.

يبدو
أنّه ابتداءً من أواخر القرن السابع منعت الكنيسة الشرقية أن يبقي الأسقف المتزوّج
امرأته إلى جانبه. وكان الامبراطور يوستنيانوس قد أصدر في القرن السادس أمراً يمنع
المتزوّجين الذين لهم أولاد أن يصيروا أساقفة، وذلك لئلاّ تتوزّع أملاك الكنيسة
على أولاد الأسقف. كما طلب من الأساقفة المتزوّجين أن تكون علاقتهم الزوجية مع
نسائهم كعلاقة أن مع أخيه.

*
أمّا عن الشمامسة والكهنة، فيقول المجمع نفسه: “على الرغم من أنّ الرومانيين
فرضوا أنّ كلّ من يُسام شماساً أو كاهناً يجب أن يفصل عنه امرأته. فنحن نأمر بأن
يبقى زواج الشمامسة والكهنة ثابتاً، فلا يُحَلّ الاتحاد الزوجي، ولا يُفرَض المنع
من المساكنة الزوجية في الأوقات الملائمة” (قانون 13).

نجد
في هذا القانون أمرين يجب التمييز بينهما:

1-
يبقى زواج المتقدّمين إلى الشموسيّة والكهنوت ثابتاً، “فلا يحلّ الاتحاد
الزوجي”، أي إنّ الرجل المتزوّج لا يفصل عنه امرأته بعد رسامته شماساً أو
كاهناً.

2-
“لا يُفرَض المنع من المساكنة الزوجية في الأوقات الملائمة”. أي أن
الشماس والكاهن المتزوّجين يمكنهما متابعة العلاقات الزوجية وإنجاب البنين، ما عدا
في الأيام التي سيقيمون فيها الخدم المقدسة ولاسيّما سرّ الافخارستيا. نقرأ في
كتاب “مجموعة الشرع الكندي”: “أما بشأن امتناع الاكليريكي عن
مضاجعة زوجته الشرعية مدة إقامته الخدمة، فقد أجاب البطريرك لوقا على هذا السؤال
قائلاً: يجب أن تكون المدة ثلاثة أيام حسب الشريعة القديمة (خر 19: 15)”.

إنّ
الامتناع عن العلاقات الجنسيّة في الفترة التي تسبق إقامة الخدم الكنسية عادة
قديمة أخذتها المسيحية عن اليهودية وعن القوانين الوثنية. إذ نقرأ في قوانين
موجّهة إلى الكهنة الوثنيين. “من يصعد إلى الهيكل لا يستطيع في الليلة التي
تسبق ذلك أن يكون قد تمتّع بأفراد الالهة فينوس (إلهة الحب)”.

وقد
أثّرت تلك العادة على موقف الكنيسة الشرقية، فامتنع المتزوجون عن إقامة
الافخارستيا كلّ يوم. أمّا الكنيسة الغربية فقد فرضت القداس اليومي، وألزمت الكهنة
والشمامسة والأساقفة بممارسة العِفّة حتى عن نسائهم. فقد أعلن مجمع قرطاجة سنة 419
في القانون 70 ما يلي:

“بما
أنّ بعض الاكليريكيين قد اتّهموا بعدم العفّة عن نسائهم، فقد استُحسِن أنّ
الأساقفة والكهنة والشمامسة يجب، بحسب القوانين التي سُنَّت سابقاً، أن يمارسوا
العفّة عن نسائهم. وإن لم يتقيّدوا بهذا يُفصَلون من رتبهم الاكليريكيّة. أمّا
باقي الاكليريكيين فلا يُرغمون على ذلك. ولتُحفَظ في كلّ كنيسة. خطّتها
المعتادة”.

*
إنّ الموقف الشديد الذي اتّخذته الكنيسة الغربية ابتداءً من أواخر القرن الرابع،
أي السماح للرجال المتزوّجين بقبول الخدمة الكهنوتية مع الاحتفاظ بنسائهم ولكن في
العفّة التامة، قد حافظت عليه حتى القرن الثاني عشر. ولكنّ هذا القانون بقي حبراً
على ورق. ولم يطع الكهنة أوامر أساقفتهم وإرشاداتهم. بل كان معظمهم يعيش إمّا في
مساكنة نسائهم وإمّا في التسرّي، كما كان كثيرون يعقدون زواجاً بعد رسامتهم
الكهنوتية. حتى إنّ أحد أساقفة مدينة لييج، في القرن الحادي عشر، قال: “لو
أردت تطبيق كلّ قوانين الكنيسة لأُرغمت على فصل جميع كهنتي”.

يعود
للبابا غريغوريوس السابع (1073- 1085) الفضل في وضع حدّ لهذه الفوضى. فاعتبر كلّ
زواج يعقده احد رجال الاكليروس باطلاً. كما أمر كلّ من يرغب في الخدمة الكهنوتية
أن ينفصل عن زوجته، إذا كان متزوجاً. وهذا ما أعلنه قانوناً شاملاً مجمع لاتران
الثاني سنة 1139.

إلاَّ
أنّ ذلك لم يحلّ المشكلة في الكنيسة الغربية وبقيت أخلاق رجال الاكليروس في
الكنيسة الغربية مخالفة لكل ما سنَّته الكنيسة من قوانين. مما حدا بعض الأساقفة في
المجامع التي عُقدت بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر إلى طلب إدخال إمكانية
الكهنوت المتزوج على غرار الكنيسة الشرقية. وأُعيد الطلب في المجمع التريدنتيني.
إلاَّ أنّ الكنيسة الغربية بقيت على قرار مجمع لاتران. وكان من نتائج تأسيس
الاكليريكيات في القرن السابع عشر ربط الكهنوت بالبتولية.

وقد
أعلن المجمع الفاتيكاني الثاني أهميّة “ممارسة العفّة الكاملة والدائمة من
أجل ملكوت السماوات، ولا سيّمَا في الحياة الكهنوتية. ذلك بأنّها علامة المحبة
الرعائية وحافزها معاً، وهي خصوصاً ينبوع خصب روحي في العالم”. ثم يضيف
المجمع: “لا شكّ في أنّ طبيعة الكهنوت لا تستلزمها، بدليل ما جرت عليه
الكنيسة الأولى، وتقليد الكنائس الشرقية. ففي هذه الكنائس كهنة يختارون، بموهبة
النعمة، أن يحافظوا على العزوبة، وهو ما يفعله جميع الأساقفة، وإنّما فيها أيضاً
كهنة متزوّجون أجرهم كبير. وإذ يوصي هذا المجمع المقدس بالعزوبة الاكليريكية، فانه
لا ينوي البتة تعديل النظام المخالف القائم شرعاً في الكنائس الشرقية. وإنما يحرّض
بكل عاطفة الرجال المتزوجين الذين سيموا كهنة على الثبات في دعوتهم المقدسة، وفي
تكريس حياتهم تكريساً كاملاً سخيًّا للقطيع الذي اثتُمنوا عليه” (قرار في
خدمة الكهنة الرعائية وحياتهم، 16).

ب)
الزواج بعد السيامة

أن
الزواج بعد السيامة الكهنوتية أمر محظَّر في كلتا الكنيستين الشرقية والغربية منذ
القرن الرابع. وأقدم القوانين في هذا الموضوع هو القانون 26 من القوانين الرسولية
الذي يقول: “لا يجوز لأحد من الأكليريكيين، ما عدا القرّاء والمرتّلين، أن
يتزوج بعد سيامته”.

وقد
ثبّت هذا القانون المجمعُ المنعقد في القبّة (692) في قانونه السادس: “بما
أنّه قد ورد في القوانين الرسولية أنّ الذين انخرطوا في الاكليروس وهم غير
متزوّجين لا يسمح إلاَّ للقرّاء والمرتّلين منهم أن يتزوّجوا، فنحن أيضاً نثبّت
هذا القانون ونأمر أنّه من الآن فصاعداً لا يجوز على الاطلاق للايبوذياكون ولا
للشماس (الانجيلي) ولا للكاهن أن يتزوّج من بعد سيامته. ومن تجاسر على ذلك فليسقط.
وإذا أراد أحد المنخرطين في الاكليروس أن يعقد له على زوجة شرعية قبل أن يُسامَ
إيبرذياكوناً أو شماساً أو كاهناً، فليُسمَح له بذلك”.

سنة
314 في مجمع أنقيرة المحلّي في آسية الصغرى، عُرضت قضية زواج الشمامسة، فأجاب
المجمع: “إنّ من أعلن، عند سيامته شمّاساً، أنه ينوي الزواج إذ إنّه لا يحتمل
العزوبة، ثم تزوّج بعد السيامة، فينبغي أن يسمح له بالبقاء في الخدمة، لأنّ الأسقف
اطّلع على رغبته وأباح له ما نوى. وأمّا من لزم الصمت وقت السيامة، أو أعلن رضاه
بأن يبقى عازباً ثم تزوّج بعد ذلك، فيجب إسقاطه من الرتبة”.

وكذلك
يقول مجمع قيصرية الجديدة في الكباذوك سنة 351: “إذا تزوّج كاهن فليُقطعَ من
الكهنوت”.

2-
النظرة اللاهوتية للموضوع

إذا
عدنا إلى العهد الجديد نرى أنّ يسوع اختار رسله دون تمييز بين متزوّج وأعزب، على
الرغم من أنّه دعا إلى البتولية بقوله: “إنّ من الخصية مَن وُلدوا هكذا من
بطون أمّهاتهم، ومنهم من خصاهم الناس، ومنهم مَن صانوا أنفسهم من أجل ملكوت
السماوات” (متى 19: 12). فتلك الدعوة إلى التكرّس لأجل الملكوت هي دعوة حرّة،
وليست على الاطلاق شرطاً مسبَقاً للرسل والمبشّرين.

وبولس
الرسول، في الشروط التي يضعها لاختيار الشمامسة والكهنة والأساقفة، لا يطلب إلاَّ
أن يكون كل منهم “رجل امرأة واحدة” (1 تي 3: 2، 12). وتلك العبارة لا
تعني، كما فهمها التقليد، منع الزواج الثاني لمن ترمَّل. إنما قد تعني، حسب
التفسير الكتابي المعاصر، “الأمانة الزوجية”. فيجب اختيار الشمامسة
والكهنة والأساقفة من ذوي الأخلاق الحسنة في جميع المجالات: في حياته الزوجية يجب
أن يكون المرشّح لتلك الخدمة “أميناً لامرأته”، وفي الحياة الاجتماعية
يجب أن يكون صاحياً رزيناً مهذّباً مضيفاً للغرباء.. ومن الناحية الثقافية، يجب أن
يكون قادراً على التعليم.

يجب
التمييز بين الدعوة إلى الحياة الرهبانية والدعوة إلى الخدمة الكهنوتية. فالحياة
الرهبانية تتطلّب البتولية، كما تتطلّب الفقر والطاعة. تلك النذورات الثلاث هي سبيل
الراهب إلى الكمال المسيحي والقداسة المسيحية. أمّا الكهنوت فخدمة في الكنيسة.
وتلك الخدمة يمكن أن يؤدّيها الكاهن المتزوّج والكاهن الأعزب. لذلك فالإنسان لا
يصير كاهناً ليصل إلى الكمال ويقدّس نفسه، بل ليقوم بخدمة في الكنيسة.

إنّ
أفضليّة البتوليّة على الزواج في الكهنوت أمر لم يستطع اللاهوت، في نظرنا، أن يعطي
عنه براهين واضحة ومقنعة. لذا المهمّ في الأمر ليس النظر إلى أفضلية البتولية في
ذاتها، بل بالنسبة إلى كلّ شخص. فعلى كلّ من يريد تكريس ذاته للخدمة الكهنوتية أن
يسأل نفسه لا عمّا هو الأفضل نظريًّا، بل عمّا هو الأفضل له، استناداً إلى طبيعته
ونفسيّته وإمكانات اكتماله الذاتي. فإذا كانت العزوبة إطاراً صالحاً للبعض
يستطيعون فيه تكريس حياتهم لخدمة الكنيسة بفرح وانتعاش، فقد تكون لغيرهم حاجزاً
وعائقاً للخدمة الكاملة وبذل الذات السخي.

لا
شيء يمنع من الناحية اللاهوتية الزواج بعد السيامة. إنّه تقليد قديم مبنيّ على
روحانية رهبانية ترى في الزواج طريقاً أقل كمالاً من البتولية، وترى في التكريس
لله عطاءً كاملاً لا يجوز التنقيص منه بالزواج. إلاَّ انه يحقّ للكنيسة تغيير هذا
التقليد.

خلاصة

إنّ
موضوع سرّ الخدمة الكهنوتية لا يزال موضوع نقاش ولا سيّما بين التقليدين
الكاثوليكي والأرثوذكسي من جهة والتقليد البروتستنتي من جهة أخرى. ولكن مجلس
الكنائس العالمي يعمل على تقريب وجهات النظر. وقد أصدرت لجنة “الإيمان
والنظام” التابعة له وثيقة في “المعمودية والافخارستيا والخدمة
الكهنوتية”، عُرفت بوثيقة ليما، لأنها نتيجة مؤتمر عُقد في ليما عاصمة البيرو
في كانون الثاني 1982، التقى فيه أكن من مئة لاهوتي من الكنائس الكاثوليكية
والأرثوذكسية والبروتستنتية. وقد أُرسلت هذه الوثيقة إلى مختلف الكنائس لإبداء
رأيها فيها. ويبدو من خلال هذه الوثيقة “أنه على الرغم من الاختلاف الكبير
بين الكنائس في التعبير اللاهوتي، تبقى هناك أمور كثيرة مشتركة في مفهومها
للإيمان”، كما تقول مقدّمة الوثيقة.

يقول
النص في الفقرة الأخيرة المتعلقة بالخدمة الكهنوتية:

“لا
بدّ من تحقيق جهود ملموسة من أجل التقدّم نحو اعتراف متبادل بالخدمة الكهنوتية.
فكلّ الكنائس يجب أن تفحص أشكال الخدمة المكرَّسة ودرجة وفاء الكنائس للغايات
الأصيلة وأن تكون مستعدّة لتجديد مفهومها للخدمة المكرسة وممارساتها لها.

من
بين المسائل التي يجب دراستها أثناء تقدّم الكنائس نحو اعتراف متبادل بالخدمة
الكهنوتية، مسألة التعاقب الرسولي التي لها أهمية خاصة. فالكنائس المشتركة في
الحوار المسكوني تقدر أن تعترف بالتبادل بخدمتها المكرّسة، إذا كانت واثقة من قصد
كل كنيسة في نقل الكلمة والسرّ استمراراً لزمن الرسل. إنّ فعل نقل الخدمة يجب أن
يتمّ وفق التقليد الرسولي الذي يتضمّن استدعاء الروح ووضيع الأيدي.

من
أجل تحقيق الاعتراف المتبادَل تحتاج الكنائس إلى خطوات متعدّدة، مثلاً:

أ)
يُطلَب من الكنائس التي حفظت التعاقب الرسولي أن تعترف بمحتوى الخدمة المكرَّسة في
الكنائس التي لم تبقَ على تعاقب كهذا، وأن تعترف أبضاً بوجود خدمة الأسقفية في هذه
الكنائس في أشكال أخرى.

ب)
إنّ الكنائس التي ليس فيها تعاقب أسقفي، بل تعيش استمرارية الإيمان الرسولي
والمهمة الرسولية، تملك خدمة الكلمة والسرّ، كما يتَّضح من إيمان تلك الكنائس
وممارستها وحياتها. هذه الكنائس مدعوّة إلى أن تعي أنّ الاتصال بكنيسة الرسل يجد
تعبيره الأساسي في تعاقب “وضع يد” الأساقفة، وإلى أن تعي أنّ هذه
العلامة تقوّي هذه الاستمرارية وتعمّقها، على الرغم من عدم افتقارها إلى استمرارية
التقليد الرسولي. ولعلّها تحتاج إلى أن تكتشف من جديد علامة التعاقب الرسولي”
(رقم 51- 53).

وتتكلّم
الوثيقة أيضاً على الخلاف القائم بين الكنائس في موضوع تكرّس النساء للخدمة
الكهنوتية. فتقول “ان الاختلاف يخلق عقبات تحول دون الاعتراف المتبادل
بالخدمة الكهنوتية”. ولكنها تضيف: “يجب ألاّ يُنظَر إلى هذه العقبات
كعوائق أساسية أمام جهود أخرى للاعتراف المتبادل. فالانفتاح المتبادل يُبقي
إمكانية تكلّم الروح في كنيسة من الكنائس عبر إيضاحات (أو تبصّر) الكنيسة الأخرى.
إذاً، يجب على الاعتبارات المسكونية أن تشجّع مواجهة هذه المسألة، لا أن
تقيّدها” (رقم 54).

على
هذا الانفتاح المتبادل بين المسيحيين الذي يبقي إمكانيّة تكلّم الروح، نودّ أن
نختم هذه الدراسة في الخدمة الكهنوتية. ونحن على يقين من أنّ ما يجمع بين الكنائس،
حتى في هذا السرّ الذي تبدو فيه الخلافات عميقة، هو أكثر ممّا يفرّق بينهه.

والأمر
الأساسي الذي يتّفق عليه المسيحيون اليوم، والذي لا بدّ من تأكيده، هو أنّ الخدمة
الكهنوتية ليست منفصلة عن عمل المسيح “الكاهن الأوحد”، وليست نعمة
تُمنَح لمنفعة الشخص الذي يحصل عليها. إنّما هي موهبة يمنحها الروح القدس في سبيل
بناء الكنيسة جسد المسيح.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى