اللاهوت العقيدي

البَابُ السَّابع



البَابُ السَّابع

البَابُ
السَّابع

سِرُّ
الزّواج المقدّس

مُقدّمَة

الزواج
كمؤسسة هو أمر نشهده في مختلف الحضارات والمجتمعات البشرية على مدى العصور. وقد
صار في معظم الدول الغربيّة المعاصرة أمراً خاضعاً لقوانين الدولة ومحاكمها.
فلماذا تتمسّك الكنيسة، حتى في هذه الدول، بالاحتفاظ به كسرّ من أسرارها المقدّسة،
وتحتفل به في رتبة دينية خاصة؟ ما هو قصد الله من الزواج؟ وما هي علاقته بالسيد
المسيح وبالكنيسة جسد المسيح؟

هذا
ما سنحاول دراسته في هذا الباب.

فنعالج
أولاً النظرة المسيحية إلى الزواج بنوع عام،

ثم
نوضح نعمة سرّ الزواج ومفاعيله في الذين يرتبطون به أمام الله والكنيسة؛

ثم
نتطرّق إلى التشريع المسيحي في الزواج، ولاسيّما في ثلاثة مواضيع رئيسة: تعدّد
الزوجات، الطلاق، الزواج الثاني بعد الترمّل.

ونفسّر
أخيراً رتبة سرّ الزواج والمعاني اللاهوتية لما تتضمّنه من طقوس وصلوات.

أولاً-
النظرة المسيحية إلى الزواج

1-
إنشاء الزواج في الفردوس

إنّ
الله عزّ وجلّ، بعد أن خلق الكون وكلّ ما فيه من جماد ونبات وحيوان، قال
“لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا.. فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة
الله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم” (تك 1: 26- 27). وفي رواية أخرى، يصف سفر
التكوين كيف تمّ خلق الرجل والمرأة:

“وقال
الربّ الإله: لا يحسن أن يكون الإنسان وحده، فأصنع له عوناً بإزائه.. فأوقع الربّ
الإله سباتاً على آدم فنام، فاستلّ إحدى أضلاعه، وسدّ مكانها بلحم وبنى الربّ
الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة، فأتى بها آدم، فقال آدم: ها هذه المرّة عظم
من عظامي، ولحم من لحمي. هذه تسمّى امرأة، لأنها من امرئ أُخذت. ولذلك يترك الرجل
أباه وأُمّه ويلزم امرأته، فيصيران جسداً واحداً” (تك 2: 18- 23).

هكذا
عبّر الكتاب المقدّس عن مفهومه للطبيعة الإنسانية حسب قصد الله منذ الأزل.
“فالرجل” هو الإنسان دون أحد أضلاعه، و”المرأة” هي هذا الضلع
الذي خرج من أضلاع الإنسان. والرجل والمرأة هما عنصران متكاملان يكوّنان معاً
“الإنسان” المخلوق على صورة الله كمثاله. ولأن الرجل والمرأة متكاملان،
ولأنّ كليهما على صورة الله كمثاله، فلا متساويان في الكرامة الإنسانية.

والزواج
هو السبيل الذي يسلكه معظم الناس للبلوغ إلى تحقيق إنسانيتهم. فبالزواج يصير الرجل
والمرأة “جسداً واحداً”، إذ يعود الضلع إلى المكان الذي خرج منه، ويكتمل
“الإنسان” باتّحاد الذَّكَر والأُنثى. ولكن هذا الاكتمال لا يمكن أن
يكون اكتمالاً إنسانياً إلاَّ إذا كان نتيجة الحب. فالكائنات الحية الأخرى يتّحد
فيها الذَّكر والأُنثى عن طريق الغريزة. أمّا الإنسان فقد خُلق على صورة الله، أي
إنّه يتمتّع بالحب المبني على الحرية والعقل. لذلك لا يكون فيه الاتحاد بين الرجل
والمرأة على صورة الله إلاَّ إذا تمَّ عن طريق الحب والحرية والعقل.

يؤكّد
آباء الكنيسة أنّ سرّ الزواج قد أنشأه الله نفسه في الفردوس. فالسيد المسيح، في
حديثه عن الزواج، يعود إلى ما صنعه الله في بدء الخليقة:

“أما
قرأتم أنّ الخالق، من البدء، خلقه ذكَراً وأُنثى، وأنّه قال: لذلك يترك الرّجل
أباه وأُمّه ويلزم امرأته، ويصيران كلاهما جسداً واحداً، ومن ثمّ، فليسا هما اثنين
بعد، بل جسد واحد. وإذن، فما جمعه الله فلا يفرّقه إنسان” (متى 19: 4- 6؛
راجع مر 10: 6- 9).

في
هذا يقول القديس اكليمنضوس الاسكندري: “إنّ الابن قد ثبَّت ما أنشأه
الآب”. وكذلك القديس أوغسطينوس: “إنّ المسيح قد ثبّت في قانا ما أنشأه
في الفردوس”.

وبولس
الرسول أيضاً، في حديثه عن الزواج، يعود إلى قوله تعالى في الفردوس: “لذلك
يترك الرجل أباه وأُمّه، ويلزم امرأته، فيصيران كلاهما جسداً واحداً”. ثم
يضيف: “إنّ هذا السرّ لعظيم، أقول هذا بالنسبة إلى المسيح والكنيسة” (اف
5: 31- 32).

إنّ
لفظة “سرّ” تعني هنا أمراً يربط الزمن الحاضر بما يتخطّى الزمن، ويسكب
فيه غنًى لا ينضب يستطيع الإنسان أن يجد فيه متعة دائمة ومثالاً أبدياً. أن محبة
المسيح للكنيسة تعود إلى بدء الزمن، إلى ما قبل سقطة الإنسان. والقديس اكليمنضوسِ
الاسكندري، في تعليق له على هذا النصّ، يقول: “إنّ الله قد خلق الإنسان رجلاً
وامرأة. فالرجل يعني المسيح، والمرأة تعني الكنيسة”. ان محبة المسيح للكنيسة
هي المثال الأول والأساسي للزواج، ووجودها يسبق وجود الزوجين. بحيث يمكن القول إنّ
آدم قد خُلق على صورة المسيح وحواء على صورة الكنيسة. ان الزواج، في النظرة
المسيحية، يعيد الحب الزوجي إلى صفائه الأول الذي يسبق سقطة الإنسان. وحب المسيح
للكنيسة هو الصورة الأساسية التي يعود إليها الزوجان الأولان وكل الأزواج الأخرى
على مدى الزمن.

2-
الزواج صورة الله

ان
خلق الإنسان وإنشاء الزواج وتأسيس الكنيسة في الفردوس هي أحداث ثلاثة يراها الكتاب
المقدس واللاهوت المسيحي مرتبطة بعضها ببعض في عمل خلق واحد قام به الله. لذلك
يلجأ الكتاب المقدّس إلى صورة الرباط الزوجي ليصف علاقة الله بالإنسان وبالكنيسة.
فشعب الله هو عروس الله وزوجته، والكنيسة هي عروس المسيح، والملكوت هو عرس الحمل.

لقد
رأى آباء الكنيسة في الحب الذي يجمع بين الرجل والمرأة في جسد واحد صورة للثالوث
الأقدس. يقول يوحنا الذهبي الفم:

“عندما
يتّحد الرجل والمرأة في الزواج، لا يبدوان بعد كشيء أرضي بل هما صورة الله نفسه.
ان للحب ميزة خاصة، بحيث لا يعود الحبيبان كائنين اثنين، بل يصيران كائناً واحداً..
انهما ليسا فقط متّحدين بل هما واحد.. الحب يغيّر جوهر الأشياء”.

وكذلك
يقول ثيوفيلوس الانطاكي: “لقد خلق الله آدم وحواء ليكون بينهما أعظم قدر من
الحب، فيعكسا سر الوحدة الإلهية”. إنّ إلهاً بأقنوم واحد لا يمكن أن يكون
محبة. “الله محبة”، في نظر المسيحية، لأنه في آن معاً واحد في ثلاثة
أقاليم. فالوحدة والمحبة فيه لا تزيلان الأقانيم التي تفرضانها. كذلك الوحدة
الزوجية، في نظر اللاهوت المسيحي، هي وحدة شخصين هما اثنان وواحد في آنٍ معاً،
ووحدتهما متأصّلة في وحدة الثالوث الأقدس.

يقول
السيد المسيح في صلاته الكهنوتية: “لقد أعطيتُهم المجد الذي أعطيتَني لكي
يكونوا واحداً كما نحن واحد” (يو 17: 22). وفي رتبة الإكليل تعلن الكنيسة أن
الزوجين “مكلّلان بالمجد”. فالمجد هو حضور الروح القدس، روح الوحدة. ان
موهبة الوحدة التي يمنحها الروح القدس لا يمكن البلوغ إليها إلاَّ في كنيسة
“المسيح، الذي منه ينال الجسد كلّه التنسيق والوحدة، وبتعاون جميع المفاصل،
على حسب العمل المناسب لكلّ عضو، ينشى لنفسه نموًّا، ويُبنى في المحبة” (اف 4:
15- 16).

ان
الكنيسة جسد المسيح، تلك الجماعة الحيّة، تنمو “بتعاون جميع المفاصل” أي
بروابط المحبة بين الأعضاء، وهذه المحبة هي نعمة يمنحها الروح القدس الذي أرسله
السيد المسيح على تلاميذه يوم العنصرة. وإلى جانب وحدة الجماعة الكنسيّة، هناك
أيضاً وحدة الزوجين التي هي أيضاً عمل الروح القدس. مما يجعل من الزواج “إيقونة
حيّة لله”. “ظهور الله”.

3-
غاية الزواج

من
هنا يتّضح لنا أنّ غاية الزواج الأولى والأساسية هي الحب الزوجي نفسه الذي
“يستطيع وحده، حسب قول القديس يوحنا الذهبي الفم، أن يجعل من كائنين كائناً
واحداً”. ان خطيئة الإنسان الكبرى هي الأنانية التي تقوده إلى أن ينفصل عن
الآخرين وينزوي على نفسه. وأحد سبل النعمة لتجاوز هذا الوضع الخاطئ هو الحب الزوجي
الذي يحمل كلاًّ من الزوجين على الخروج من ذاته ليجد في الآخر اكتماله. إن هذا
الحب هو صورة للحب الذي يربط الله بالإنسان والإنسان بالله.

يقول
القديس يوحنا الذهبي الفم في مقالته في الزواج:

“لقد
أُنشئ الزواج لهدفين: الأول حمل الإنسان على الاكتفاء بامرأة واحدة، والثاني إنجاب
الأولاد. ولكن الهدف الأول هو الأساسي. أمّا إنجاب الأولاد فليس نتيجة حتمية
للزواج. وبرهان ذلك الزواجات الكثيرة التي لا يمكن أن ينتج منها أولاد. لذلك فإن هدف
الزواج الرئيسي هو تنظيم الحياة الجنسية. لاسيّما أن الجنس البشري قد ملأ الآن
الأرض كلها”.

يجد
الزواج غايته في اكتمال الحب الزوجي عينه. ولكن هذا لا يعني أنه يمكن للزوجين أن
يقصيا عن هذه الغاية بشكل متعمّد ودائم إنجاب الأولاد. والكنيسة لا تعتبر زواجاً
صحيحاً الزواج الذي يعقده شاب وفتاة، وفي نية كليهما أو نية أحدهما رفض صريح ودائم
لإنجاب الأولاد. ذلك انه، إذا كان الحب البشري على صورة حب الله الخالق، فهو يعمل
ما بوسعه “ليوجد” كائنات أخرى يسكب عليها من فيض جوده. يقول إفدوكيموف:

“ان
وجود العالم لا يزيد شيئاً على مل الله في ذاته. ومع ذلك فهو الذي يمنحه صفة الله.
إنه إله، ليس لذاته، بل لأجل خليقته. كذلك الاتحاد الزوجي هو ملء في ذاته. لكنه
يستطيع أيضاً أن يَسِم فيضه الذاتي بسِمَة جديدة: الأبوّة والأمومة. فالولد الذي
ينشأ من الجماعة الزوجية هو امتداد لها وتأكيد آخر لوحدتها الكاملة المكوّنة.
فالحب يفيض على ما يعكسه في العالم وينجب الولد”.

كما
أن الله يجد ملئه في ذاته، لكنه يخلق العالم بفيض من ملئه وبكامل حريته، كذلك يجد
الزواج اكتماله في حب الزوجين أحدهما للآخر. لذلك ترفض الكنيسة أن تعتبر عجز
الزوجين عن إنجاب الأولاد سبباً للطلاق أو لإعلان بطلان الزواج. لكن هذا الحب يعمل
ما بوسعه ليكتسب صفة جديدة هي صفة الأبوّة والأمومة. إنّ من طبيعة الحب الزوجي أن
يفيض بحرية على ما يعكس صورته في العالم، فيتكوّن بواسطته وجه جديد مدعو إلى أن
يصير بدوره إيقونة حيّة لله.

إنّ
إنجاب البنين يجب أن يتمّ بحرية، مع احترام طبيعة العلاقات الجنسية، التي هي تعبير
عن حب الزوجين أحدهما للآخر. والكنيسة اليوم، مع تشديدها على عدم إقصاء الأولاد من
قصد الزوجين، تترك لهما حرية تحديد عددهم، حسب ما يستطيعان أن يوفّرا لهم من سبل
الحب الأبوي والتربية الصالحة. الولد هو ثمرة الحب، ولا يستطيع أن ينمو ويصل إلى
كمال كيانه الإنساني إلاَّ في جوّ عائلي من الحق بين والدَيه وبين إخوته.

الزواج،
كرباط يجمع بين رجل وامرأة في أُسرة واحدة، وينتج منه عادة أولادٌ هم بحاجة إلى
النمو في جوّ من الحب، هو أمر تعتبره الكنيسة أساسياً في الطبيعة البشرية كما
أرادها الله الخالق. الزواج ليس من صنع المجتمع بل من إرادة الله. لذلك تؤكّد
الكنيسة واجب المجتمع في المحافظة على هذه المؤسسة الطبيعية وإنمائها. وبالمحافظة
على الزواج وعلى الأُسرة، يحافظ المجتمع على ذاته، لأنه يحافظ على العنصر الأساسي الذي
يتكوّن منه الزواج ويتكوّن منه أيضاً المجتمع، وهو عنصر الحب.

لا
شك أن الزواج والأسرة يتّخذان أشكالاً متنوّعة حسب الحضارات والمجتمعات وحسب
العصور. لذلك هما عرضة للتغيّر والتطوّر. ولكن لا يمكن إزالتهما وتحويل المجتمع
البشري إلى تجمّع من الزواجات الحرة تتكوّن وتتبدّل حسب تقلّبات الشهوة ونزواتها.
وأيّ تطوّر يخطر ببال المجتمعات إدخاله على ما في الزواج والأُسرة من نواحٍ
اجتماعية يجب أن يكون القصد منه إنماة الحب في الأُسرة، وإنماء حرية ومجد وكرامة
كل من أفرادها.

ثانياً-
نعمة سرّ الزواج

استناداً
إلى أنّ الزواج أمر مرتبط بإرادة الله الخالق، تعتبر الكنيسة زواجاً صحيحاً أيّ
زواج يتمّ في الأديان الأخرى. لذلك عندما تطلب أسرة غير مسيحية اعتناق الدين
المسيحي، لا تفرض الكنيسة على الزوجين أن يتكلّلا فيها من جديد، بل تقبلهما
متزوّجين في كنفها، وتمنحهما وأولادهما المعمودية وسائر الأسرار. وعندما يتعمّدان
يكتسب الزواج الذي عقداه خارج الكنيسة صفة خاصة. فيصير زواج مسيحيين، أي زواج
شخصين متّحدين بسرّ المسيح الفصحي، يعملان على تحقيق أبعاد هذا السرّ الفصحى في
حياتهما الزوجية.

تلك
هي النعمة الخاصة التي يمنحها سرّ الزواج في الكنيسة. إذ يُدخل الزوجين سرّ المسيح
الفصحي، أي سرّ محبته للكنيسة، ويجعل بالفعل عينه من الأُسرة المسيحية أُسرة على
مثال الكنيسة، كنيسة صغرى مكلّلة بالمجد والكرامة، وعلامة لحضور ملكوت الله
واستباقاً لاكتماله في الدهر الآتي.

1-
الدخول في سرّ محبة المسيح للكنيسة

“أيّها
الرجال أحبّوا نساءكما كما أحبَّ المسيح الكنيسة: فلقد بذل نفسه لأجلها، ليقدّسها
ويطهّرها بغسل الماء والكلمة. إذ كان يريد أن يزفّها إلى نفسه كنيسة مجيدة، لا
كلَف فيها ولا غضَن ولا شيء مثل ذلك، بل مقدّسة ولا عيب فيها. فكذلك على الرجال أن
يحبّوا نساءهم كأجسادهم الخاصة. مَن أحبّ امرأته، أحبَّ نفسه. فإنّه ما من أحد
أبغَضَ قطّ جسده الخاص، بل إنّما يغذّيه، ويعتني به كما يفعل المسيح بالكنيسة.
أوَلسنا أعضاء جسده؟ لذلك يترك الرجل أباه وأُمّه، ويلزم امرأته، فيصيران كلاهما
جسداً واحداً. إنّ هذا السرّ لعظيم؛ أقول هذا بالنسبة إلى المسيح والكنيسة..”
(أف 5: 25- 32).

الحياة
المسيحية بمجملها هي اشتراك في حياة السيد المسيح، التي هي حياة إلهية وإنسانية
معاً. فالسيد المسيح هو الإله الذي ظهر في الجسد ليدعو الناس إلى طريق التألّه.
وبموته وقيامته أوضح للإنسان معنى حياته. أن أسرار الكنيسة هي السبل المتنوّعة،
كما أوضحنا سابقاً، التي يعود فيها إلى البشر ليدخلهم سرَّه الفصحي، سرّ موته
وقيامته. واشتراك الإنسان بسرّ المسيح الفصحي يتمّ أوّلاً في سرّ المعمودية.
والأسرار الأخرى هي امتداد للمعمودية. لذلك عندما تحتفل الكنيسة بالزواج كسرّ من أسرارها
المقدسة، إنّما تعلن تطبيق معنى سرّ المعمودية على المرحلة الجديدة التي يدخلها
المسيحي بالزواج. فالمسيحي الذي يرتبط برباط الزواج في الكنيسة، لا يعود زواجه
مجرّد عقد بشري، بل دخول حياته الزوجية الجديدة في مختلف أبعادها سر المسيح الفصحي،
سرّ موته وقيامته.

الأسرار
هي أولاً عمل الله وعمل روحه القدوس الحاضر في كل منها. ان العالم يتخبّط في
الظلمات، لكن النور أتى إلى العالم ولا يزال في العالم. “أبواب الجحيم لن
تقوى على الكنيسة” لأنّ روح الله حاضر فيها: في صلاتها وأسرارها وإيمان
أعضائها.

يتقرّب
المسيحي من سرّ الزواج لينال بواسطة بركة الكاهن الذي يمثّل الكنيسة نعمة الروح
القدس ليمتلئ حبه الزوجي، الذي هو في ذاته طاهر ونقي، من نفحة طيب المسيح ونعمة
سرّه الفصحي. ان مادّة سرّ الزواج هي حب العروسين أحدهما للآخر. وهذه المادة،
بواسطة بركة الكاهن ونعمة السرّ، تتّسم بسِمَة خاصة، سِمَة الاشتراك في موت المسيح
وقيامته. وهذا يعني أنّ قدرة الروح القدس التي أقامت المسيح من الموت تكتنف الحب
الزوجي ليحيا في قيامة دائمة، ويصمد أمام الزواج والأعاصير الكثيرة التي ترافق
مسيرته الطويلة.

إنّ
للحبّ، لدى نشأته في القلب، طعم الأزل. فعندما يمتلك الحب قلب شخصين، يمتلكهما في
الوقت عينه شعور بأنّ أحدهما خُلق للآخر، وبأن الله قد حدّد لهما منذ الأزل هذا
اللقاء. كلّ إنسان يحمل في ذاته توقاً إلى الضلع الذي خرج منه. وهذا ما يختبره كلّ
شاب وفتاة في فترة المراهقة، حيث تملأ العاطفة واقع الحياة بالأحلام. ان الله ليس
بغريب عن هذا الشعور. ولكن الحب، ككلّ ما هو جميل في الكون، يتعرّض لخطر الزوال.
وأكبر عدو للحبّ هو الشهوة. ففيما الحب هو اكتمال بالآخر، الشهوة هي انحراف نحو
الأنانية. ونعمة سرّ الزواج تقوم على مساعدة الحب للمحافظة على صفائه وطهارته.
وذلك لا يتمّ دون السخاء والبذل والعطاء. وهذا ما يعنيه بولس الرسول بقوله إن الحب
الزوجي يجب أن يصير على مثال حب المسيح الذي “بذل نفسه لأجل الكنيسة”.

2-
الأسرة كنيسة بيتيّة

ان
الحبّ الزوجي الذي يتّسم بسرّ الزواج بسِمَة جديدة، هي مشابهة حبّ المسيح للكنيسة،
يحوّل كلّ أسرة مسيحية إلى “كنيسة بيتيّة”، حسب تعبير بولس الرسول (رو
16: 5)، أو إلى “كنيسة صغرى”، حسب تعبير القديس يوحنا الذهبي الفم.

ان
هذه التعابير ليست مجرّد تشابيه أدبية، بل إعلان لحقيقة حضور الله في العالم،
وحقيقة امتداد حضور المسيح، الكلمة المتجسّد، على مدى الزمن، وذلك بأنواع متنوعة
وعلى مختلف الأصعدة. ففي الكنيسة الجامعة، وفي الكنيسة البيتية، يحضر المسيح ليملأ
كلّ شيء بروحه الإلهي، ويحوّل الكون وكل ما فيه إلى إيقونة لله.

في
قانا الجليل، في حفلة عرس، حوَّل السيد المسيح الماء خمراً، “وأظهر مجده فآمن
به تلاميذه” (يو 2: 11). إنّ لحضور المسيح في هذا العرس الذي صنع فيه
“آيته الأولى”، حسب قول يوحنا (2: 11) معنًى خاصاً، تؤكّده الكنيسة
باختياره هذا الحدث الإنجيلي ليقرأ في رتبة الإكليل. ان حضور المسيح يحوّل الماء
خمراً، “وخمراً جيّدة” (يو 2: 10). وهذا يعني أن الحب الزوجي يتحوّل في
سرّ الزواج، بواسطة حضور المسيح، إلى “حب جديد” يفوح عطراً خاصاً، هو
“نفحة المسيح الطيّبة” (2 كو 2: 15). الأسرة المسيحية هي كنيسة صغرى
بسبب حضور المسيح وحضور روحه القدوس فيها.

3-
الزواج سرّ الملكوت

إذا
كان للحب لدى نشأته في القلب طعم الأزل، فهو أيضاً من طبيعته يتطلب الديمومة، أي
أن يبقى إلى الأبد. لقد أشاد الشعراء في جميع لغات العالم وبجمال الحب ودوامه.
إلاَّ أنّ دوام الحب لا يتحقّق إلاَّ بتنقيته الدائمة على نار البذل والعطاء. ان
عيد الحب لا يدوم طويلاً. والصورة المثالية لا تظهر إلاَّ لتختفي من جديد. ذلك أن
الحب يُعطَى مرّة، ولكنّه لا يدوم إلاَّ إذا عمل الزوجان على خلقه كل يوم جديداً.

إنّ
أقدس الأمور تفقد قدسيتها برتابة الحياة اليومية وتكرار الزمن. والحب يفقد مع
الموت عذوبة اللقاء الأوّل، وكثيراً ما يسقط في السأم. ان نعمة حضور المسيح في سرّ
الزواج تحوّل الحبّ الزوجي إلى حبّ ناضج يحمل للزوجين سعادة الأبد ضمن تقلّبات
الزمن.

بمجيء
السيد المسيح وموته وقيامته تحقّق الملكوت، وتحوّل الزمن الحاضر إلى زمن ممتلئ من
حضور الله. ان الزمن، بعد التجسّد، لم يعد مجرّد تسلسل للأحداث بين الماضي والحاضر
والمستقبل. بل صار ممتلئاً من حضور الله الأبدي. بحيث إن كل لحظة من لحظات حياة
المسيحي العائش في حضرة المسيح الحيّ هي لحظة أبدية، أي ممتلئة من حضور محبة يسوع
المسيح “الذي هو هو أمسِ واليوم وإلى الدهور” (عب 8: 13). ان هذا الدخول
في الملكوت الأبدي يتحقّق للمسيحي في كلّ الأسرار التي يشترك فيها. وسرّ الزواج
يحقّق دخول الملكوت بواسطة الصبغة الجديدة الأبدية التي يصطبغ بها الحب الزوجي
باشتراكه في سرّ موت المسيح وقيامته.

إنّ
القديس اكليمنضوس أسقف رومة، في رسالته الثانية إلى الكورنثيين (12، 2)، ينقل
حديثاً للسيد المسيح حول مجيء الملكوت، فيقول:

“يقال
أن الرب، إذ سُئل يوماً عن زمن مجيء الملكوت، أجاب: عندما يصير الاثنان واحداً،
ويصير الخارج كالداخل، ويتّحد الذَّكر والأُنثى بحيث يصيران لا ذكَراً ولا
أُنثى”.

سرّ
الزواج المسيحي هو صورة الملكوت، إذ به يصير الاثنان واحداً في المسيح. والذَّكَر والأُنثى
باتحادهما السرّي يعودان بالطبيعة البشرية إلى كمالها الأول. أما التناقض بين
الخارج والداخل فيزول بواسطة العفّة الزوجية التي تطلبها صلاة السرّ للعروسين.

ان
العفّة في الزواج لا تعني الانقطاع عن العلاقات الجنسيّة، بل صفاء تلك العلاقات،
بحيث تكون تعبيراً عن الحب الكامل الذي يحمله كلّ من الزوجين للآخر، والذي يجعله
يرى في الآخر وحده كلّ ما ينقصه من اكتمال عاطفي وإنساني. بحيث لا يعود يبحث عن
اكتماله في شخص آخر. وهذا هو الأساس للتشريع المسيحي في تعدّد الزوجات والطلاق
والزواج الثاني بعد الترمُّل.

ثالثاً-
التشريع المسيحي في الزواج

في
هذه النظرة السامية لسرّ الزواج المقدّس في المسيحية، يسهل فهم التشريعات التي
سنّتها الكنيسة في الزواج، مستندة إلي أقوال السيد المسيح في الإنجيل المقدس، وإلى
ما أوضحه بولس الرسول في رسائله، ولاسيما في تعدّد الزوجات، والطلاق، والزواج
الثاني بعد الترمُّل.

1-
تعدّد الزوجات

نعني
بتعدّد الزوجات أن يكون لرجل واحد عدّة زوجات في آنٍ معاً. وقد كان هذا الأمر
مباحاً في معظم الشعوب القديمة، ولكن ليس في جميعها. فقد أثبت المؤرّخون وجود شعوب
قديمة كثيرة تحظّر تعدّد الزوجات. كما أثبتوا أنّه، حتى لدى الشعوب التي كانت تسمح
بتعدّد الزوجات، كان هذا الأمر في كثير من الأحوال محصوراً على قلّة من الرجال
الأثرياء.

ففي
مصر القديمة كان تعدّد الزوجات مباحاً، إلاَّ أنّه كان نادراً ويقتصر على الملوك
والأمراء. وفي بابل، كانت شريعة حمورابي تنصّ على الزوجة الواحدة، ما عدا في بعض
الحالات كمرض الزوجة أو عجزها عن الإنجاب. إذّاك يمكن للرجل أن يأخذ له زوجة أخرى،
أو سُرّية من بين إمائه.

عند
الكنعانيين والعبرانيين كان تعدّد الزوجات مباحاً. ولكنّه في الواقع كان محصوراً
في الملوك والأعيان والأثرياء، وذلك بسبب ارتفاع قيمة المَهْر الذي كان يتوجّب على
الرجل دفعه لوالد الفتاة التي ينوي الزواج بها (راجع تك 34: 12؛ 1 مل 18: 25)،
وبسبب ما يكلّفه الاعتناء بعدّة زوجات. ففي زمن القضاة كان لجدعون “سبعون
ابناً خرجوا من صُلبه لأنه تزوّج نساء كثيرة” (قض 8: 30)، ولإبصان
“ثلاثون ابناً وثلاثون ابنة” (قض 12: 9)؛ ولعبدون “أربعون
ابناً” (قض 12: 14). أمّا داود فكان له تسع نساء تذكر أسفار الملوك أسماءهنّ
(2 مل 3: 2- 5، 13؛ 11: 26- 27؛ 3 مل 1: 3)؛ ورحبعام ابن سليمان الملك “ثماني
عشرة زوجة وستين سُرّية” (2 أخ 11: 21)؛ وأبيّا ابن رحبعام “أربع عشرة
امرأة” (2 أخ 13: 21). أمّا سليمان الملك فيذكر سفر الملوك أنّه “كان له
سبع مئة زوجة وثلاث مئة سُرّية، فأزاغت نساؤه قلبه” (3 مل 11: 3). لذلك يطلب
سفر تثنية الاشتراع من الملك “ألاّ يستكثر من النساء، لئلا يزيع قلبه”
(تث 17: 17). وينصّ التلمود على “أنّ الحكماء قد تركوا لنا نصيحة جيّدة، وهي
ألاّ يتزوّج الرجل أكثر من أربع نساء”.

وتذكر
أسفار العهد القديم بعضاً من مشاهير الرجال الذين كان لهم زوجتان. فيعقوب تزوّج
ليئة ثم راجل (تك 29: 15- 28)؛ وألقانة كان له امرأتان: فَنِنَّة وحنّة أم صموئيل
النبيّ (1 مل 1: 2)؛ وكذلك الملك يوآش (2 أخ 24: 3). وقد كانت عادة اتخاذ زوجتين
معروفة، إذ نجد في سفر تثنية الاشتراع قانوناً يطلب من الرجل الذي له زوجتان يفضّل
إحداهما على الأخرى، أن يبقي حقّ البكريّة لابنه البكر، حتى وإن لم يكن ابن الزوجة
التي يفضّلها على الأخرى. وهذا يعني أيضاً المساواة بين الزوجات وبين أولادهنّ (تث
21: 15- 17). وكذلك يحظّر سفر الأحبار على الرجل أن يتخذ له زوجة ثانية أخت امرأته
(1 ح 18: 18).

وكذلك
أباح العهد القديم أن يتّخذ الرجل له، إلى جانب زوجته، سُرّية، يعاملها كالإماء،
وذلك لتُنجب له أولاداً، ولاسيّما إذا كانت امرأته عاقراً. وهذا ما فعله ابراهيم،
إذ كانت سارة امرأته عاقراً، فأخذت سارة نفسها هاجر، الأمة المصرية، وأعطتها له
زوجة، فولدت له اسماعيل (تك 16: 1- 16). وكذلك يعقوب كانت له سُرِّيَّتان (تك 3: 1-
10)؛ وشاول كانت له امرأة وسُرِّيّة (1 مل 14: 50؛ 2 مل 21: 11).

ولكن،
ابتداء من سبي بابل، أخذت عادة تعدّد الزوجات تتقلّص. حتى صار تعدّد الزوجات في
زمن السيّد المسيح أمراً نادراً.

أمّا
المسيحية فمنذ نشأتها منعت تعدّد الزوجات، استناداً إلى قول السيّد المسيح في
الطلاق، الذي ينطبق أيضاً على تعدّد الزوجات

“أما
قرأتم أنّ الخالق من البدء خلقهما ذَكَراً وأُنثى، وأنّه قال: لذلك يترك الرجل
أباه وأُمّه ويلزم امرأته، ويصيران كلاهما جسداً واحداً. ومن ثمّ فليسا هما اثنين
بعد، بل جسد واحد. وإذن، فما جمعه الله فلا يفرّقه إنسان” (متى 19: 4- 6).

يقول
قداسة البابا شنودة الثالث، بطريرك الأقباط الأرثوذكس، في كتابه “شريعة
الزوجة الواحدة في المسيحية”:

“إن
فكرة الجسد الواحد تجعل تعدّد الزوجات أمراً متعذّراً. فليم بالإمكان عقلياً أن
يكون رجل في جسد واحد مع أكثر من امرأة، إذ يستحيل اجتماع ثلاثة أو أربعة في جسد
واحد.

إنّ
تعدّد الزوجات في العهد القديم ولدى بعض الشعوب القديمة هو ظاهرة اجتماعية يرى
علماء الاجتماع أنّ لها أسباباً عديدة أهمها: ازدياد عدد النساء بالنسبة إلى عدد
الرجال ولا سيّما من جرّاء الحروب؛ منع الرجل في بعض الحضارات من ممارسة الجنس مع
زوجته في فترة حملها، ويستمرّ الحظر عند بعض الشعوب حتى يُفطَم الطفل؛ الشهوة التي
تدفع الرجل إلى أن تكون له امرأة شابة وجميلة، عندما تفقد امرأته الأولى جمالها
بسبب التقدّم في السنّ والعمل المضني الذي كانت تقوم به قديماً؛ رغبة الرجل في أن
يكون له أولاد، إذا كانت امرأته عاقراً؛ وأخيراً رغبة الأثرياء والنبلاء في أن
يكون لهم أولاد كثيرون للاعتناء بأراضيهم ومواشيهم وفي تعزيز مكانتهم الاجتماعية.
فكثرة النساء وكثرة الأولاد هما علامة فخر واعتزاز.

أمّا
مساوئ تعدّد الزوجات فأهمّها الغيرة التي تنشأ بين الزوجات. إذ إنّه أن الصعب على
الرجل ألاّ يميل إلى إحدى زوجاته فيفضّلها على الأخريات، ممّا يثير الحسد بين
الزوجات، والشقاق بين الأولاد. وتُمتَهَن كرامة المرأة، إذ تقتصر قيمتها على
جمالها الجسدي وقدرتها على الإنجاب.

إنّ
تعدّد الزوجات هو تقليد كانت له أسبابه في العصور القديمة، إلاَّ أنّه لا يمكن أن
يكون شريعة المستقبل للبشرية. والمحافظة عليه دليل تخلّف حضاري. والقرآن نفسه،
لمّا أباح تعدّد الزوجات عند المسلمين، وضع له حدًّا. ففيمَا كان عدد الزوجات قبل
الاسلام يصل إلى ثمانٍ وعشر، أوصى القرآن قائلاً: “فانكِحوا ما طاب لكم من
النساء مَثْنى وثُلَث ورُبَع؛ فإن خفتم ألاّ تعدِلوا فواحدة” (سورة النساء،
3). ثم يعود في السورة عينها فيحذّر الرجال قائلاً: “ولن تستطيعوا أن تعدِلوا
بين النّساء، ولو حَرَصتم”. وهذا التطوّر الحضاري لمفهوم الزواج وللعدالة
والمساواة بين النساء هو الذي حدا معظم دول العالم في العصر الحاضر إلى منع تعدّد الزوجات
في قانونها المدني.

2-
الطلاق

مع
أن بعض الشعوب تسمح في بعض الأحيان بزواج يُعقَد لفترة محدّدة من الزمن، إلاَّ أنّ
الزواج في معظم الحضارات ولدى معظم الشعوب يُعقَد مبدئياً لمدى الحياة كلها. أما
الطلاق، أي فسخ عقد الزواج وانفصال الزوجين أحدهما عن الآخر والسماح لهما بعقد
زواج آخر، فنجده لدى معظم الشعوب القديمة، مع أنّ بعضاً منها يمنعه منعاً باتاً
وصريحاً.

الشعوب
السامية القديمة كانت تجيزه. وقد سمحت به شريعة موسى، وفق ما جاء في سفر تثنية
الاشتراع:

“إذا
اتّخذ رجل امرأة، وتزوّجها، تمّ لم تنل حظوة في عينيه لأمر غير لائق وجده فيها،
فليكتب لها كتاب طلاق ويسلّمها إيّاه، ويصرفها من بيته” (تث 24: 1).

لقد
كان تفسير هذا النصّ، ولاسيّما عبارة “أمر غير لائق وجده فيها”، موضوع
خلاف بين علماء الناموس عند اليهود. وفي أيّام السيّد المسيح، كان هناك موقفان من
تفسير هذه الآية. فأتباع المعلّم هِلِّل كانوا يجيزون الطلاق لأيّ علّة: فإذا رأى
الرجل أنّ امرأته لا تجيد الطبخ، أو إذا وجد أجمل منها، حقّ له أن يطلّقها. أمّا
أتباع المعلّم شِمعي فكانوا يحصرون سبب الطلاق في حالة الزنى.

في
إطار هذا الاختلاف في التفسير، نفهم سؤال الفريسيين للسيد المسيح: “هل يحل
للرجل أن يطلّق زوجته؟”، كما جاء في مرقس (10: 2). أو: “هل يحلّ للرجل
أن يطلّق زوجته لكلّ علّة؟”، كما جاء في متّى (19: 3).

ان
جواب السيد المسيح في إنجيل مرقس يشجب الطلاق دون أيّ استثناء: “فأجاب وقال
لهم: بِمَ أوصاكم موسى؟ قالوا: لقد أمر موسى بأن يُكتَب صكّ طلاق، وأن تُخَلَى.
فقال لهم يسوع: إنّه لقساوة قلوبكم كتب لكم هذه الوصية. ولكن، في بدء الخليقة،
ذكراً وأُنثى خلقها الله، فلذلك يترك الرجل أباه وأمه.. وكلاهما يصيران جسداً
واحداً. ومن ثمَّ فليسا هما اثنين بعد، بل هما جسد واحد. فما جمعه الله فلا يفرّقه
إنسان. وفي البيت سأله التلاميذ عن ذلك أيضاً. فقال لهم: مَن طلق امرأته وتزوّج
أخرى، فقد زنى عليها. وإن طلّقت امرأة رجلها وتزوّجت آخر فقد زنت” (مر 10: 2-
12).

وكذلك
نجد في إنجيل لوقا شجباً للطلاق دون أيّ استثناء: “فكلّ مَن طفق امرأته
وتزوّج أخرى فقد زنى؛ ومَن تزوّج امرأة طلّقها رجلها فقد زنى” (لو 16: 18).

الاستثناء
الوحيد الذي يبدو أنه يجيز الطلاق في العهد الجديد نجده في إنجيل متى في نصَّين:

“لقد
قيل: مَن طلَّق امرأته فليدفع إليها كتاب طلاق. أمّا أنا فأقول لكم: إنّ مَن طلَّق
امرأته -إلاَّ في حالة الزّنى- فقد عرَّضها للزّنى؛ ومَن تزوّج مطلّقة فقد
زنى” (متى 5: 31- 32).

“وإنّي
أقول لكم: مَن طلَّق امرأته -إلاَّ في حالة الزّنى- وتزوّج أخرى، فقد زنى”
(متى 19: 9).

يرى
بعض المفسّرين المعاصرين أنّ الاستثناء الذي يرد في إنجيل متى “إلاَّ في حالة
الزّنى” لا يشير إلى الخيانة الزوجية في زواج شرعي قائم، بل إلى حالة زواج
غير شرعي كالتسرّي أو احدى الحالات المناقضة للناموس التي يرد ذكرها في سفر
الأحبار (18: 6- 18). فيكون معنى قول السيّد المسيح أنه لا يحقّ للرجل أن يطلِّق
زوجته، إلاَّ إذا كان زواجه بها غير شرعي.

أمّا
في القرون الأولى، فقد فسّر معظم آباء الكنيسة هذه الجملة بقولهم إنّه يحق للرجل
أن يطلّق زوجته الزانية، ولكن من غير أن يباح لأيّ منهما بعقد زواج آخر، بل يسعيان
إلى المصالحة حسب قول بولس الرسول، الذي يذكر وصيّة من السيد المسيح نفسه:

“أمّا
المتزوّجون فأُوصيهم، لا أنا بل الرب: أن لا تفارق المرأة رجلها. وإن فارقته،
فلتلبث غير متزوّجة، أو فلتصالح رجلها؛ وأن لا يترك الرجل امرأته” (1 كو 7: 10-
11).

إنّ
التفسير المتشدّد للاستثناء الذي يرد في إنجيل متى هو أكثر انسجاماً مع ما جاء به
السيّد المسيح من جديد بالنسبة إلى تفسيرات المعلّمين اليهود الذين كانوا يجيزون
الطلاق “في حال الزّنى”، ومع تأكيده إعادة الزواج إلى ما أراده الله في
بدء الخليقة، إذ إنّ موسى لم يسمح بالطلاق إلاَّ لقساوة قلوب الأقدمين.

إن
معظم الآباء الشرقيين، من أمثال كيرلس الاسكندري وباسيليوس الكبير وغريغوريوس
النزينزي ويوحنا الذهبي الفم، قد اتخذوا موقفاً متسامحاً في معالجتهم الأمور
الرعائية الطارئة، ولكن دون إباحة الطلاق بشكل شرعي أو قانوني. يقول المطران بطرس
الراعي:

“من
المعروف أن القديس باسيليوس الكبير (330- 379) اتخذ في بعض أجوبته لأسئلة طُرحت
عليه حول حالات رعائية خاصة، موقف المتساهل والعاذر، بشرط أن يخضع أصحابها
لممارسات التوبة التي تفرضها القوانين المقدسة، قبل أن يُقبَلوا للاشتراك مع سائر
المؤمنين في الليتورجيا الإلهية. فعذَرَ مثلاً رجلاً هجرته امرأته فتزوّج أخرى،
ولم يعتبر هذه الأخيرة امرأة زانية. إنّمَا فرض عليهما ممارسات توبة شديدة،
تخفيفاً لوضعهما الشاذّ قانوناً، والمستعصى تنظيمه وحلّه اجتماعياً ورعوياً. وكذلك
غضّ النظر عن رجل هجر زوجته وتزوّج أخرى. وفي كل الأحوال لم يكن يعني هذا التسامح
رضى عن الواقع أو اعتبار هذا الزواج الثاني بمثابة سرّ مقدّس كما هو عليه الزواج
الأول. فكان هذا التسامح أشبه بغضّ النظر منه بقبول وضع شرعي أو قانوني.. ثمّ إنّ
المسؤولين الكنسيّين في الشرق ما لبثوا أن وسّعوا غضّ النظر حول حالات أخرى للطلاق
نصَّ عليها تشريع الامبراطور يوستنيانوس. وما عتّم التشريع الكنسي الشرقي أن تأثّر
شيئاً فشيئاً بهذا الوضع.. أمّا الكنيسة الغربية، فبعد أن جرى الرعاة فيها على
طريقة إباحة الزواج الثاني لأسباب يعود معظمها إلى الخيانة الزوجية، عادت، ابتداءً
من القرن الثاني عشر، ففرضت رسمياً في قوانينها لا انحلالية الزواج في حالة الزنى.
وفسّرت الجملة الاعتراضية الواردة في إنجيل الرسول متّى تفسيراً لا يتعدّى حقّ
الانفصال، أي من غير مسّ بلا إنحلالية الوثاق الزوجي”.

ان
اللاهوتيين الأرثوذكس يفسّرون السماح بالطلاق في حال الزنى بقولهم أن مادة سرّ
الزواج هي الحب. والزّنى يعني أن الحب لم يعد قائماً بين الزوجين. لذلك فالطلاق
الذي تعلنه الكنيسة ليس من شأنه فسخ الزواج ولا إزالة الحب. إنّمَا هو مجرّد إعلان
بأن الحب بين الزوجين قد تلاشى، وبأن الزواج بالتالي لم يعد قائماً. ويعتبرون موت
الحب شبيهاً بالموت الجسدي وبموت الإيمان في حال الجحود.

ان
الكنيسة الشرقية، بقبولها الطلاق كحالة استثنائية، تؤكّد الاحترام للشخص البشري
ولسرّ الحب. فالحب لا يمكن أن يُفرَض على الإنسان. والأمانة الزوجية، كالإيمان
والاستشهاد، يجب أن تبقى عمل الحرية، وإلاّ فلا قيمة لها.

هناك
حالة سمح فيها بولس الرسول نفسه بالطلاق، دعيت “الامتياز البولسي”. ففي بدء
المسيحية كان بحدث أن يهتدي إلى المسيحية أحد زوجين كانا قد عقدا زواجهما في
اليهودية أو الوثنية. فكان السؤال: هل يتوجّب على من صار مسيحياً أن يبقى على
زواجه، أم يستطيع أن يفسخه ويتزوّج من جديد مع شخص مسيحي؟ على هذا السؤال أجاب
بولس الرسول:

“أمّا
الباقون فأقول لهم، أنا لا الرب: إن كان أخ له امرأة غير مؤمنة، وهي ترتضي أن تقيم
معه، فلا يتركها؛ والمرأة التي لها رجل غير مؤمن وهو يرتضي أن يساكنها، فلا تترك
رجلها. لأن الرجل غير المؤمن يقدّس بمالمرأة المؤمنة، والمرأة غير المؤمنة تقدّس
بالأخ المؤمن. وإلاّ فيكون أولادكم نجسين، والحال أنّهم قدّيسون. ولكن، إن فارق
غير المؤمن، فليفارق؛ فليس الأخ أو الأخت مستعبداً في مثل هذه الأحوال، فإنّ الله
قد دعاكم لتعيشوا في سلام. فما أدراكِ، أيتها المرأة، أنّك تخلّصين رجلكِ؟ وما
أدراكَ، أيها الرجل، أنّك تخلّص امرأتك؟” (1 كو 7: 12- 16).

ان
القديس يوحنا الذهبي الفم، في تعليقه على هذا النصّ، يقول: “إنّ فسخ الزواج
أفضل من الهلاك”.

فهناك
حالات خاصة تفرغ فيها الحياة الزوجية من جوهرها، ولا بدّ للكنيسة من أن تأخذ منها
موقفاً خاصاً لخلاص الإنسان.

3-
الزواج الثاني بعد الترمُّل

إذا
مات أحد الزوجين، حقَّ للآخر أن يعقد زواجاً ثانياً. هذا ما يوضحه بولس الرسول في
عدّة مقاطع من رسائله:

“إنّ
المرأة مرتبطة برجلها ما دام حيًّا. فإن رقد الرجل، فهي حرّة أن تتزوّج بمن تشاء،
ولكن في الربّ فقط. غير أنّها تكون أكثر غبطة ط على ما أرى، ان بقيت على ما هي عليه”
(1 كو 7: 39- 40؛ راجع أيضاً رو 7: 2- 3).

يسمح
إذاً بولس الرسول بالزواج الثاني بعد الترمُّل، ولكن في الربّ، أي مع أحد
المسيحيين. إلاَّ أنّه لا يحبّذ هذا الزواج القاني، ما عدا في حال الأرامل
الفتيّات:

“وأقول
للعزّاب والأرامل إنّه حسن لهم أن يلبثوا كما أنا. ولكن، إن لم يكن في وسعهم أن
يضبطوا أنفسهم، فليتزوّجوا. لأنّ التزوّج خير من التحرّق” (1 كو 7: 8).

“أريد
أن الأرامل الفتيّات يتزوّجن من جديد، ويلدن البنين، ويدبّرن البيوت، ولا يعطين
المقادم سبباً للطعن” (1 تي 5: 14).

في
هذا الموضوع، يوصي بولس الرسول بألاّ يُقبَل كأسقف أو كاهن أو شماس (إنجيلي) الرجل
الذي عقد زواجاً ثانياً بعد موت امرأته، هكذا فسّر التقليد العبارات التالية:

“يجب
أن يكون الأسقف بغير مشتكى، رجل امرأة واحدة.. وليكن كلّ من الشمامسة رجل امرأة
واحدة” (1 تي 3: 2، 12؛ راجع أيضاً تي 1: 5- 6).

إلاَّ
أنّ بعض المفسّرين المعاصرين يرون أن ما يرفضه بولس الرسول في عبارتي “رجل
امرأة واحدة”، و”امرأة رجل واحد” (1 تي 5: 9)، هو أن يكون الرجل أو
المرأة قد تزوّجا بعد طلاق. وهذا كان يحدث كثيراً في الكنيسة الأولى لدى المهتدين
من الوثنية أو اليهودية إلى المسيحية. ولا يعني بذلك الزواج الثاني بعد الترمُّل.
ويرى مفسّرون آخرون في هذا التعبير إشارة إلى الأخلاق الحميدة أي إلى الأمانة في
الزواج أو الحب الزوجي الشديد بين الزوجين.

استناداً
إلى هذه النصوص، شجب آباء الكنيسة في القرون الأولى الزواج الثاني بعد الترمُّل
ولم يعتبروه سرًّا، وفرضوا على من ينوي عقد زواج ثانٍ أو ثالث عقوبات توبة شديدة.
في هذا يقول القديس باسيليوس الكبير:

“الذين
تزوّجوا للمرّة الثانية يوضَعون تحت عقوبة كنسيّة لمدة سنة أو سنتين. والذين
تزوَّجوا للمرَّة الثالثة لمدة ثلاث سنين أو أربع. ولكن لنا عادة أنّ الذي يتزوّج
للمرّة الثالثة يوضع تحت عقوبة لمدة خمس سنوات، ليس بقانون وإنّمَا
بالتقاليد”.

أمّا
سبب هذه العقوبات فهو أنّ الكنيسة كانت ترى في الزواجات المتعدّدة علاج ميل جانح
نحو شهوة الجسد لا يتلاءم والأخلاق المسيحية. في هذا يقول القديس غريغوريوس
النزينزي: “الزواج الأوّل شريعة، والثاني تسامح، والثالث تعدِّ.. أمّا الرابع
فأشبه بسلوك الخنازير”.

رابعاً-
رتبة سرّ الزواج

1-
الزواج أمام الكنيسة

إنّ
ما جاء في العهد الجديد على لسان السيد المسيح وعلى لسان بولس الرسول من أقوال
ووصايا متعلّقة بقداسة الزواج وسموّه قد حمل الكنيسة منذ أواخر القرن الأوّل على
دعوة المؤمنين إلى عقده أمام الأسقف أو الكاهن لينالوا منه بركة الله ونعمته.
فالشهادة الأولى لعقد الزواج أمام الكنيسة نجدها في إحدى رسائل القديس اغناطيوس
الانطاكي، يقول فيها:

“على
الرجال والنساء الذين يتزوّجون أن يكون اتحادهم على يد الأسقف، حتى يكون الزواج
حسب الربّ لا حسب الشهوة. ليصر كل شيء لمجد الله”.

وترتوليانوس
يتحدّث عن الزواج أمام الكنيسة كأمر أصبح شائعاً لدى المسيحيين. فيعتبر أنّ ما
يميّز الزواج الذي يباركه الله هو أنه يُعقَد أمام الكنيسة. فبركة الكاهن تختمه
على الأرض والآب يثبِّته في السماء.

في
القرن الرابع لنا شهادات عن أهمّ طقوس الزواج نجدها في مؤلّفات الآباء القديسين: تسليم
الخواتم، جَمع اليدين بواسطة الكاهن، بركة الكاهن، الأكاليل، الكأس المشتركة.
فالقديس غريغوريوس النزينزي مثلاً، إذ لم يستطع أن يحضر زواج فتاة تدعى أوليمبياس،
يكتب لبروكوبيوس الذي كان وصيًّا عليها:

“أنا
حاضر معكم بالقلب، أحتفل معكم بالعيد، وأضمّ يدي العروسين الواحدة إلى الأخرى
وكلتيهما إلى يد الله”.

2-
خادم سرّ الزواج

هناك
فرق بين اللاهوت الشرقي واللاهوت الغربي في تحديد خادم سرّ الزواج. ففي نظر اللاهوت
الغربي، خادما السرّ هما العروسان، والسرّ يتمّ بتبادل الرضى بينهما، وما الكاهن
إلاَّ شاهد على هذا التبادل للرضى، تنتدبه السلطة الكنسيّة لذلك. أما في نظر
اللاهوت الشرقي، فالكاهن هو خادم السرّ، وهو الذي بالبركة التي يمنحها للعروسين
يسبغ عليهما نعمة السرّ.

3-
رموز رتبة الزواج

تدعى
رتبة الزواج في الطقوس الشرقية “رتبة الاكليل”، وذلك من باب تسمية الكل
باسم الجزء. إذ تصل هذه الرتبة إلى قمّتها لدى وضع الأكاليل على رأس المريض
والعروس (والاشبينين في الكنيسة المارونية)، إشارة إلى أنّ الإنسان، بالزواج،
يشارك الله الملك في الخلق والسيادة على الكون. ويسود الرتبة كلّها جوّ من الفرح
والغبطة يعود بنا إلى أجواء الفردوس الأول قبل الخطيئة، ويُنبئنا بسعادة الملكوت
الأبدي. فالكنيسة، عندما تكلّل المسيحي في رتبة زواجه، تذكِّره بأنّه مدعو في
حياته الزوجيّة إلى أن يحوّل الأرض إلى ملكوت يملك فيه الله المحبة.

في
هذا الإطار يمكن فهم الرموز المتنوعة التي تحفل بها رتبة الاكليل:

1ً)
دخول العروسين: يدخل العروسان في تطواف احتفالي، فيما الكاهن يبخّر، والإشبينان
حاملان الشموع. فالبخور علامة التنقية والقداسة، والشموع إشارة إلى النور الذي أظهره
الله في بدء الخليقة، عندما قال “ليكن نور! فكان نور”؛ فيمَا الجوقة
ترنّم نشيداً لمريم العذراء، “الملكة فخر العذارى والأمّهات”، التي
“يحار العقل في تأمّل ولادتها”، إذ ولدت المسيح ابن الله، الإنسان
الجديد، ولبثت بتولاً.

ثم
يقف العريس على اليمين أمام إيقونة السيد المسيح، والعروس على اليسار أمام إيقونة
مريم العذراء والدة الإله، التي هي مثال وصورة الكنيسة. فاتحاد العروسين هو على
مثال اتحاد المسيح والكنيسة.

2ً)
لبس الخواتم: يرمز لبس الخواتم إلى الاتحاد الدائم بين الزوجين: “فالرجل
مرتبط بامرأته، والمرأة مرتبطة برجلها” (1 كو 10: 7). كما يرمز أيضاً إلى
حريتهما والسيادة التي يتمتعان بها. فلبس الخاتم خاص بكل من له سلطان وبالأحرار لا
بالعبيد. وزواج المسيحيين هو زواج أبناء الله، الذين أعتقوا من العبودية وصاروا
ينعمون بحرية أبناء الله.

3ً)
طلب الرضى: يطلب الكاهن من العروسين أن يعلنا أنّهما، بملء رضاهما واختيارهما،
يتّخذان أحدهما الآخر. وهما، بقولهما “نعم”، يعلنان قبولهما أحدهما
للآخر بكل حرية، والتزامهما العيش معاً مدى الحياة كلها، حاملين معاً أفراح الحياة
ومصاعبها.

4ً)
صلوات البركة: يتلو الكاهن على العروسين صلوات البركة، طالباً لهما “العفّة
وثمر الحشى وجمال النّسل، والتمتّع بكثرة الأولاد، وعيشة لا عيب فيها.. واتفاق
النفس والجسد.. والغِلال الوافرة لينموا في كل عمل صالح ومرضي لدى الله”.

5ً)
جَمعْ اليدين: يجمع الكاهن يدي العروسين، إشارة إلى اقترانهما بالاتفاق والمحبة،
وهو يتلو عليهما الصلاة التالية، في الطقس البيزنطي:

“أيّها
الاله القدوس، يا مَن جبل الإنسان من تراب وبنى من جنبه امرأة على شابهه لتكون له
عوناً وزوَّجه بها، لأنه هكذا حسن لدى عظمتك أن لا يكون الإنسان وحده على الأرض،
فأنت الآن أيها السيد، أرسل يدك من مسكنك المقدّس، واقرن عبدك (فلاناً) وأمتك
(فلانة). لأنّ منك اقتران الرجل والمرأة. إجمعهما بالاتفاق، كلِّلهما بالمحبة،
وحِّدهما ليصيرا جسداً واحداً. أنعم عليهما بثمرة الحشى، والتمتُّع بأولاد أصحّاء،
وبسيرة غير ملومة..”.

6ً)
التكليل: يضع الكاهن إكليلين على رأس العريس والعروس، قائلاً: “يكلِّل عبد
الله (فلان) على أمة الله (فلانة) + باسم الآب والابن والروح القدس”،
“تكلَّل أمة الله (فلانة) على عبد الله (فلان) باسم الآب والابن والروح
القدس”. فالرجل هو رأس المرأة، والمرأة هي إكليل الرجل.

ثم
ينشد في الطقس البيزنطي نشيد الاكليل طالباً إلى الله أن يكلّل العروسين بالمجد
والكرامة، ويسلّطهما على أعمال يديه:

“أيّها
الربّ إلهنا، بالمجد والكرامة كلِّلهما، وعلى أعمال يديك سلّطهما”.

المجد،
في الإنجيل المقدس، هو حضور الروح القدس الذي يتمّ أعمال المسيح. فعندما يطلب
الكاهن للعروسين المجد والكرامة، يطلب أن يحلّ عليهما الروح القدس ليجعل منهما
خليقة جديدة ويملأ أعمالهما بنعمة الله.

في
الطقس الماروني، يقول الكاهن لدى وضع الإكليل على رأسيهما:

“الرب
الإله الذي كلَّل الآباء القدّيسين بإكليل البرّ وكلَّل الملوك وعظمهم، هو يرفق بك،
ويمينه المملوءة مراحم تكلّلك مثل ابراهيم واسحق ويعقوب. وبما أنّك قصدتَ البيعة
المقدسة، تطلب منها المغفرة والمعونة، فليعطكَ الربّ مراحم نعمته، ويغفر جميع
ذنوبك وخطاياك، ويحفظك وينصرك، الآن وكلّ آنٍ إلى الأبد”.

ثم
يقول للعروس لدى وضع الإكليل على رأسها:

“الله
الذي كلّل جميع النساء القدّيسات، وبارك سارة ورفقا وراحيل، هو يبارككِ بيمينه
الإلهيّة، ويفيض عليك المراحم، ويبجّلك بإكليل المجد، فتكونت كجفنة مباركة في
البيعة المقدّسة، تثمر ثماراً روحانية، وليعطكِ الرب الإله أن تظلّي بفرح مع زوجك،
فيسود الأمان والحب بينكما، وأن تلدي البنين المباركين الدين يرضونه بصلوات والدة
الإله وجميع القدَيسين”.

7ً)
الرّسالة والإنجيل

تقرأ
رسالة القديس بولس إلى أهل أفسس (5: 20- 33)، التي يقارن فيها الرسول بين حب
المسيح للكنيسة وحب الزوجين أحدهما للآخر. أما الإنجيل فيقرأ منه في الطقس
البيزنطي رواية عرس قانا الجليل (يو 2: 1- 11)، وفي الطقس الماروني نص متى (19: 3-
6) الذي يتكلّم فيه السيّد المسيح عن عدم الطلاق. أن حضور المسيح الذي حوّل الماء
خمراً هو الذي يحوّل حياة الزوجين إلى حياة محبة واتفاق بحيث يصيران جسداً واحداً
لا يستطيع أيّ إنسان أن يفرّقهما.

8ً)
الكأس المشتركة

الافخارستيا
هي قمّة الأسرار، لأن بها يتحقّق عطاء المسيح نفسه للعالم عطاءً كاملاً في جسده
ودمه، وبها تتحقق قيامته ودخوله مجد الآب. لذلك كلّ الأسرار تتجه نحو الافخارستيا
حيث تجد كمال حقيقتها في الاشتراك في سرّ المسيح الكامل. كذلك سرّ الزواج، الذي
يهدف إلى أن يجعل الحب الزوجي على صورة حب المسيح للكنيسة، يتجه أيضاً نحو
الافخارستيا. لهذا السبب في بعض الكنائس، كالكنيسة الأرمنية والحبشية والرومانية،
يحتفل برتبة الزواج في أثناء القداس الإلهي. وهذا ما يشير إليه ترتوليانوس منذ
القرن الثالث.

في
الطقس البيزنطي كانت رتبة الزواج تنتهي قديماً، حسب شهادة سمعان التسالونيكي في
القرن الخامس عشر، بتناول جسد المسيح ودمه المكرّسين في ليتورجيا سابقة. ثم تعطى
للعروسين “الكأس المشتركة”، التي هي رمز الحياة المشتركة التي تجع
بينهما من الآن فصاعداً.

إنّ
العادة الدارجة اليوم في معظم كنائس الشرق تقضي بالاكتفاء في رتبة الاكليل بتلك
“الكأس المشتركة”، على أن يتناول العروسان القربان المقدس في قداس
الصباح، أو لدى أوّل قداس يشتركان فيه من بعد إكليلهما في ما يدعى “إدخال
العروسين الكنيسة”. إنّ سرّ الزواج لا يمكن أن يحقّق هدفه، أي الوصول بالحب
الزوجي إلى التشبّه بحب المسيح للكنيسة إلاَّ عن طريق الاشتراك في سرّ الافخارستيا
الذي هو سرّ حب المسيح لكنيسته، على أن يكون هذا الاشتراك مجرّد حفلة اجتماعية، بل
اشتراك عميق في كل معاني سرّ المسيح الفصحي وأبعاده ونتائجه بالنسبة إلى حياة
الزوجين اليومية. إذّاك تتحوّل حياتهما وتصير إيقونة يظهر فيها الله للبشر.

خلاصة

تنتهي
رتبة الاكليل بتطواف يقوم به العروسان والإشبينان حول الصمدة وهم ممسكون بعضهم
بأيدي بعض، ويتقدّمهم الكاهن وهو يبخّر. إنّ هذا التطواف الذي يُقام ثلاث مرات
بشكل دائرة هو في آنٍ معاً رقصة فرح ودخول في قدسيّة الهيكل وأبديّة الزمن الجديد.
فالشكل الدائري هو رمز الأبد، وتعبير عن الدخول في حماية السماء. والأناشيد
الثلاثة التي يرنَّم بها في هذا التطواف هي عينها التي يرنَّم بها في أثناء
السيامات الكهنوتية:

“يا
أشعيا اطرب فرحاً. فإنّ البتول قد حملت وولدت ابناً هو عمّانوئيل، إلهاً وإنساناً
معاً، واسمه المشرق. فإيّاه نعظّم، مطوّبين العذراء”.

“أيّها
الشهداء القديسون، الذين جاهدوا حسناً وتكلَّلوا، تشفّعوا إلى الربّ أن يرحم
نفوسنا”.

“المجد
لك أيّها المسيح الإله، فخر الرّسل وبهجة الشهداء، الذين كرزوا بالثالوث الواحد في
الجوهر”.

لقد
تمَّت نبوءة أشعيا، لما وُلد من البتول المسيح الذي هو إله وإنساناً معاً، وظهرت
بالتجسّد محبّة الله الخلاصية للبشر.

والشهداء
والرّسل القديسون أظهروا أيضاً للعالم تلك المحبة الخلاصية عينها، بجهادهما الحسن
وكرازتهم بالثالوث الواحد في الجوهر.

هذا
هو المثال الذي تضعه الكنيسة أمام أعين الذين يكرّسون ذواتهم لإظهار محبة الله
ومتابعة عمل التجسّد الإلهي إمّا في الكهنوت وإمّا في الزواج: أن يجسّدوا في
العالم محبّة الله، ويكون السيد المسيح فخرهم وبهجتهم.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى