اللاهوت العقيدي

البَابُ الرّابع



البَابُ الرّابع

البَابُ
الرّابع

سِرُّ
الإفخارستيَّا

مُقَدّمَة

في
قانون الإيمان الذي يتضمّن موجز الإيمان المسيحي لا يرد ذكر لسرّ الافخارستيّا.
فبعد إعلان الإيمان “بكنيسة واحدة جامعة مقدّسة رسولية”، يتابع قانون
الإيمان: “ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا”. فمن الأسرار السبعة
لا يرد ذكر إلاَّ لسرّ المعمودية، دون أيّ إشارة إلى الافخارستيّا ولا إلى سائر
الأسرار. وذلك لسبب تاريخي بسيط، هو أنّه عندما أعلن آباء الكنيسة قانون الإيمان
في القرن الرابع في مجمعي نيقية سنة 325 والقسطنطينيّة سنة 381، لم يكن سرّ
الافخارستيّا موضوع خلاف بين المسيحيين، بل كانت الكنائس كلّها تحتفل به “بفم
واحد وقلب واحد”. ففيما كان المسيحيون مختلفين حول عقائد الثالوث الأقدس
وتجسّد الكلمة وألوهية الروح القدس، وطريقة التعبير عنها بألفاظ ترضي العقل، كانوا
متّحدين في الاحتفال بسرّ الافخارستيّا، معتبرينه محور صَلاتهم الجماعية وعباداتهم
الطقسية. فالعقائد كانت تفرّق المسيحيين، أمّا سرّ الافخارستيا فكان يجمعهم.

مقالات ذات صلة

ثم
إنّ سرّ الافخارستيّا مرتبط ارتباطاً وثيقاً بسرّ الكنيسة الواحدة. فلا وجود
لكنيسة دون افخارستيّا، ولا وجود لإفخارستيّا دون كنيسة. لذلك بإعلان الإيمان بالكنيسة
الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية، أعلن الآباء ضمناً إيمانهم بالإفخارستيّا.

إنّ
سرّ الافخارستيّا هو التعبير الليترجي عن قانون الإيمان. وهذا القول الذي يبدو لنا
أساسياً لفهم كِلا قانون الإيمان وسرّ الافخارستيّا هو الذي وجّه تصميم بحثنا في
سرّ الافخارستيّا:

ففي
قانون الإيمان نعلن إيماننا من خلال الشهادة، وفي سرّ الافخارستيّا نعلن الإيمان
عينه من خلال الاحتفال الليترجي. وهذا الإيمان يتضمّن خمس نقاط:

1-
الله الآب الخالق

2-
الابن المتجسّد والخلّص

3-
الروح القدس الرب المحيي

4-
الكنيسة الواحدة

5-
قيامه الموتى والحياة في الدهر الآتي

تلك
الحقائق الخمس التي نعلنها في قانون الإيمان هي نفسها التي نحتفل بها في سرّ
الافخارستيّا. وهذا ما سنبيّنه في مختلف فصول هذا البحث:

1-
فالافخارستيّا هي أولاً سرّ الشكر لله الآب الذي خلقنا وأدخلنا في عهد جديد معه
بواسطة ابنه يسوع المسيح (الفصل الأول).

2-
والافخارستيّا هي أيضاً سرّ حضور المسيح المخلّص في تجسّده وحياته وعشائه الأخير
مع تلاميذه، وموته وقيامته ومجيئه الثاني (الفصل الثاني).

3-
5 والافخارستيّا هي أخيراً سرّ حضور الروح القدس الربّ المحيي، الذي يحوّل
القرابين المقدَّمة إلى جسد المسيح ودمه، ويكوّن الكنيسة، على رجاء الاحتفال
بالوليمة السرّية في ملكوت السماوات.

قانون
الإيمان والاحتفال الافخارستيّ سبيلان نعبّر من خلالها عن إيماننا بالله الحيّ: بالآب
مبدإ وجودنا، والابن مصدر خلاصنا، والروح القدس ينبوع حياتنا.

بإعلان
إيماننا في قانون الإيمان وفي سرّ الافخارستيّا نشترك في حياة الله الثالوث،
فنتألّه نعمل على تأليه الكون.

 

لا
أُوبِّخك على ذبائحك، فإنّ محرقاتك أمامي في كل حين.

لا
آخذ من بيتك عجلاً، ولا من حظائرك تيساً.

فإنّ
لي جميع وحوش الغاب، وألوف البهائم التي في الجبال..

إن
جعتُ فلا أخبرك، فإنّ لي المسكونة وملأها.

أم
لعلّي آكل لحم الثيران أو أشرب دم التيوس.

إذبحْ
لله الاعتراف، وأوفِ العليّ نذورك.

إنّ
الذي يجعل ذبيحته الاعتراف هو يمجّدني،

والذي
يقوّم طريقه إيّاه أُري خلاص الله”.

(مز
49: 7- 23)

ونجد
المعنى الروحي عينه في المزمور 50:

“يا
رب افتح شفتيَّ، فيذيع فمي تسبيحك،

لأنك
لو شئتَ ذبيحة لقدّمت. لكنّك لا ترتضي بمحرقات

إنّمَا
الذبيحة لله روح منسحق. لا يرذل الله قلباً منسحقاً ومتواضعاً”.

(مز
50: 17- 19)

وهذا
المعنى الروحي للقرابين والذبائح، الذي نجد بعض إشارات إليه في العهد القديم، سيبلغ
كماله في شخص يسوع المسيح الذي سيقرّب ذاته ذبيحة على الصليب، حسب قول الرسالة إلى
العبرانيين:

“من
المحال أنّ دم ثيران وتيوس يزيل الخطايا. فلذلك يقول المسيح عد دخوله العالم: ذبيحةً
وقرباناً لم تشأ، غير أنّك هيّأت لي جسداً. لم ترتضِ محرقات ولا ذبائح خطيئة.
حينئذٍ قلتُ: ها أناذا آتي -إذ عنّي قد كُتب في دَرْج الكتاب- لأعمل، يا ألله،
بمشيئتك” (عب 10: 4- 7).

بالتقدمة
يتخلّى الإنسان عن بعض ما يملك تعبيراً عن إيمانه بأن الله مصدر وجوده وينبوع
ممتلكاته. وبالتقدمة تصير الأرض كلها والحياة البشرية رمزاً لله، مصدر كل وجود وكل
حياة.

ان
الكلمات التي تعبّر من خلالها ليتورجيا القديس يوحنا الذهبي الفم في الطقس
البيزنطي عن التقدمة: “ما لك ممّا هو لك، نقرّبه لك عن كلّ شيء ومن أجل كلّ
شيء”، هي العبارة الأساسية لكلّ تقدمة وكلّ ذبيحة. فالمؤمن يعتبر أنّ كل ما
يملك هو لله، لذلك لا يسعه إلاَّ أن يقدّم لله “ممّا هو لله”. وبهذه
التقدمة وهذا التلاقي بين ما هو إلهي وما هو إنساني يتجدّد العهد بين الله
والإنسان.

إنّ
هدف التقدمة الأوّل هو إذاً جعل الله حافراً في العالم المرئي والدخول في عهد معه.
إلى هذا الهدف الأول تنضمّ أهداف أخرى تبدو أكثر نفعاً للإنسان: كالطلب والتكفير
عن الخطايا. ولكنّ هذه الأهداف تبقى ثانوية بالنسبة إلى الهدف الأساسي. وإن كانت
في بعض الأحيان تحجبه، إلاَّ أنّها تفترض دوماً وجوده.

2-
الذبيحة

في
الذّبيحة يدخل على التقدمة عنصر جديد. هو عنصر إتلاف التقدمة أو ذبحها أو إحراقها.
إنّ هذا الإتلاف غير ضروري للتعبير عن معنى التقدمة، ولكنّه يؤكّد العطاء الكامل: فالأشياء
التي تُتلَف، والحيوانات التي تُذبَح أو تُحرَق تحرَّم عن الاستعمال العام وعن
العلاقات الدنيوية.

أن
إتلاف الذبيحة هو تقدمة ثانية تجعل من المعاهدة الدينية التي تتمّ من خلال العمل
الرمزي معاهدة نهائية. ولتوضيح هذا الأمر نشير إلى أحد الطقوس الغريبة التي
يمارسها الهنود في شمالي غربي أميركا: عندما تلتقي قبيلتان، يقدّم رئيسا القبيلتين
أحدهما الآخر أثمن ما لديه من الأشياء، ثم يُتلف كلّ منهما ما قُدِّم له، للتعبير
عن أنّ ما هو أساسيّ ليس الشيء المقدَّم بل ما يرمز إليه، أي علاقة التضامن
والتبادل والعهد بين القبيلتين.

إنّ
الفائدة الحقيقيّة التي يجنيها الإنسان من تقدمة الذبيحة هي الدخول في علاقة مع
الله، وليس الحصول على موهبة خاصة مقابل تقدمته. يكفي الإنسان أنه يتّصل، من خلال
هذا العمل الرمزي، بمن هو مصدر وجوده والأساس الثابت لحياته. وهذا الاتصال يمنحه
السكينة والاستقرار. وبهذا يُظهر العهد مع الله فعاليّته، قبل أيّ التفاتة أخرى أو
أيّ تدخُّل خاص من قِبَل الله لصالح الإنسان.

أمّا
الطابع الدموي للذبائح فيدلّ على أمرين: فالإنسان أولاً بسفك دم ذبيحة حيوانيّة
يرمز إلى سفك دمه الخاص، أي إلى عطاء ذاته عطاءً تامًّا لله. ثم أن الدم هو وسيلة
مميّزة للاتصال بالله: وذلك إمّا برشّ دم الذبيحة على الهيكل، الذي يمثّل الله،
وعلى الشعب، وإمّا بشرب دم الذبيحة المكرّسة لله. فرباط الدم هو أقوى رباط بشري.
والله والإنسان، بدخولهما في هذا الرباط بواسطة دم الذبيحة، يتّحدان في معاهدة
قرابة.

وهذا
يقودنا إلى الناحية الثالثة، التي هي التناول من الذبيحة.

3-
التناول من الذبيحة لتحقيق الشركة مع الله

في
معظم الديانات، تنتهي الذبيحة بتناول جزء من الضحية المقدَّمة. فالأكل والشرب هما
العلامتان الأساسيتان اللتان يتم بهما التعبير عن تحوّل شيء خارجي منفصل عن
الإنسان ليصير جزءاً من الإنسان. ويرى التحليل النفسي في القبلة والمعانقة شكلاً
متفرّعاً من هذه الظاهرة الإنسانيّة.

والتناول
يحقّق الشركة على صعيدين: على الصعيد العمودي، بالشركة مع الله، وعلى الصعيد
الأفقي، بالشركة مع جميع الذين يتناولون من الذبيحة الواحدة. فبتناول جزء من
الذبيحة المكرّسة لله، يعبّر الإنسان عن اتحاده بالله. ثم ان تحقيق الشركة مع الله
بواسطة شيء من أشياء هذا العالم هو في الوقت عينه تقدير لخلائق الله واعتراف بما
لها من قدرة على إدخال الإنسان في علاقة مع الله.

وكذلك
على الصعيد الأفقي، فالمتناولون، باشتراكهم في الذبيحة الواحدة، يعبِّرون عن
اتحادهم بعضهم ببعض. كما أن تناول الخبز معاً هو علامة الصداقة والمصالحة حسب ما
جاء في سفر المزامير: “صاحب سلامي الذي اتكلتُ عليه وأكل خبزي قد رفع عليَّ
عَقِبه” (مز 41: 10؛ راجع يو 13: 18). ان هذا البُعد الأفقي للذبيحة مهمّ
جدًّا للتأكيد على أنّ العمل الديني ليس هروباً من هذا العالم. فلا وجود لدين
حقيقي ولا لذبيحة حقيقية إلاَّ ضمن هذا العالم وضمن جماعة من الناس مترابطين بعضهم
ببعض في حياة أخوية. فالذبيحة الواحدة توطّد اتحادنا بالله، وتوطّد اتحادنا بعضنا
ببعض. ويجب التنبّه إلى عدم الفصل بين هذين البعدين والاكتفاء بالواحد دون الآخر.
فالاتحاد بالله يجب أن يقودنا إلى الاتحاد بإخوتنا. ومن جهة أخرى الاتحاد بين
الإخوة يصير اتحاداً دنيوياً وتجمّعاً بشريًّا معرّضاً للانحلال لدى أدنى صعوبة،
إن لم تتأضل جذوره في الاتحاد بالله. فالإخوة في الجماعة الواحدة، بارتباطهم بعضهم
ببعض في الدم المكرّس لله الذي يشتركون فيه، يدخلون في أُسرة الله. ولأنهم أبناء
الله، هم إخوة بعضهم لبعض.

ثانياً-
الذبائح والقرابين في العهد القديم

1-
الذبائح والقرابين عامة

لقد
عبّر العهد القديم عن علاقته بالله بثلاثة أنواع من الذبائح: المحرَقات، وذبائح
السلام، والذبائح عن الخطايا. ولقد ذكر سفر الأحبار قواعد وشرائع تقديمها بكل دقة
(اح فصل 1- 7).

أ)
المحرقات

المحرقات
هي الذبائح التي تُحرَق بكاملها على مذبح الله. ولا يعود شيء منها لا للكاهن ولا
لمقدّم الذبيحة. انها “مُحرَقة بالنار، رائحة رضى للرب” (أح 1: 13، 17).
والذي يقدّم الذبيحة “يضع يده على رأس المحرقة، فيُرضى عنها تكفيراً
عنه” (أح 1: 4). إنّ حرق الذبيحة بكاملها يعبّر عن العطاء الكامل لله.

ب)
الذبائح السلامية

تُدعى
هذه الذبائح “ذبائح سلامية” لأنها تعيد السلام والمصالحة بين الإنسان
والله. انها ذبائح العهد. لذلك تُقسَم إلى ثلاث حصص: حصة الله، وحصة الكاهن، وحصة
لمقدّم الذبيحة. فحصة الله تُحرَق بكاملها، والحصتان الأخريان يتناولهما الكاهن
ومقدّم الذبيحة، ويرمز اشتراك المؤمن مع الله والكاهن في تناول الذبيحة الواحدة
إلى الدخول في شركة مع الله، إلى عقد عهد سلامي معه.

وفي
هذا يقول بولس الرسول: “تأمّلوا اسرائيل بحسب الجسد: أليس الذين يأكلون
المذبح هم شركاء المذبح؟” (1 كو 10: 18).

بسبب
العهد مع الله، كانت هذه الذبائح تتَّسم بسمة الفرح والعيد.

ج)
ذبائح الخطايا وذبائح الآثام

هي
الذبائح التي تُقدَّم للتكفير عن خطايا الشعب (أح 4- 7). والذي يقدّم الذبيحة
تكفيراً عن خطاياه لا يعود له أي جزء منها (اح 7: 6- 10). في هذا النوع من الذبائح
يأخذ الكاهن من دم الذبيحة ويرشّ به المذبح (اح 4: 16- 18).

ويفسّر
سفر الأحبار معنى الدم فيقول: “إنّ نَفْس الجسد هي في الدم، وأنا جعلنه لكم
على المذبح ليكفَّر به عن نفوسكم. لأنّ الدم يكفّر عن النفس” (اح 17: 11).

د)
قرابين من غلال الأرض

هناك
أيضاً قرابين من ثمار الأرض كانت تُقدَّم إلى جانب ذبائح الحيوانات أو عِوَضاً
عنها، حسب ما يصفه سفر الأحبار.

فهناك
أولاً قرابين التقدمة، أي قرابين الشكر:

“إن
قرّب أحد قربان تقدمة للرب، فليكن قربانه سميذاً يصبّ عليه زيتاً ويجعل عليه
بخوراً.. وان قرّبتَ تقدمة بواكير للرب، فسنبلاً مشويًّا بالنار، جَرِيشاً من
الحبوب الطريئة تُقدِّم قربان بواكيرك، وتجعل عليها زيتاً وتضع عليها بخوراً: إنّها
تقدمة” (أح 2: 1- 16).

ثم
هناك قرابين تُقدَّم للتكفير عن الخطايا:

“إذا
خطئ أحد.. ولم يكن في يده أن يقدّم شاة، فليأتِ للرب بذبيحة إثمه الذي خطئ به،
زوجَي يمام أو فرخَي حمام، أحدهما ذبيحة خطيئة والآخر محرقة.. وإن لم يكن في يده
أن يقدّم زوجَي يمام أو فرخَي حمام، فليقرِّب عن خطيئته التي خطئها عُشْر إيفَة
سميذاً، قربان خطيئة، لا يصبّ عليه زيتاً ولا يجعل عليه بخوراً، لأنه قربان خطيئة
(أح 5: 5- 12).

2-
ذبيحة العهد على يد موسى

هناك
ذبيحة هامة في تاريخ شعب العهد القديم قدّمها موسى على جبل سيناء ورافقت إقامة
العهد مع الله، وتكتسي بالنسبة إلينا أهمية خاصة بسبب المقارنة التي سيجريها العهد
الجديد بينها وبين ذبيحة السيد المسيح.

وصل
العبرانيون، بعد خروجهم من مصر، إلى برية سيناء، فنزلوا فيها مقابل الجبل. فصعد
موسى إلى الله، وأوحى له الله بالوصايا العشر وبسائر أحكامه وأوامره، دُعيت في ما
بعد “كتاب العهد” (خر 24: 7).

“فجاء
موسى وقصّ على الشعب جميع أقوال الرب وجميع الأحكام. فأجابه الشعب كلّه بصوت واحد
وقال: كلّ ما تكلّم به الرب نعمل به. فكتب موسى جميع كلام الرب، وبكَّر في الصباح
وبنى مذبحاً في أسفل الجبل، واثني عشر نُصُباً لأسباط إسراثيل الاثني عشر. وأرسل
شبّان بني اسرائيل، فأصعدوا محرقات، وذبحوا ذبائح سلامية من العجول للرب. فأخذ
موسى نصف الدّم، وجعله في طسوت، ورشّ النصف الآخر على المذبح. وأخذ كتاب العهد،
فتلا على مسامع الشعب، فقال: “كلّ ما تكلّم الرب به نفعله ونسمعه”. فأخذ
موسى الدم ورشَّه على الشعب وقال: “هوذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم على
جميع هذه الأقوال”. ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ اسرائيل.
فرأوا إله اسرائيل وتحت رجليه شبه صنع بلاط سفير أشبه بالسماء نفسها نقاء. وعلى
أعيان اسرائيل هؤلاء لم يمدّ يده. فرأوا الله وأكلوا وشربوا” (خر 24: 3- 11).

انطلاقاً
من هذا النصّ يمكننا القول إنّ العهد بين الله وشعبه يحوي ثلاثة أمور متماسكة
ومؤتلفة: العهد بالكلمة، العهد بدم الذبائح، والطعام على مائدة الله.

أ)
العهد بالكلمة

العهد
هو اتفاق بين الله وشعبه وفقاً لأحكام واضحة يعلنها الله نفسه ويلتزم الشعب
باتّباعها. وهذه الأحكام هي قبل كل شيء وصايا الله العشر المنصوص عليها في الفصل
العشرين من سفر الخروج: “أنا الرب إلهك.. لا يكن لك آلهة أخرى تجاهي.. لا
تحلف باسم الرب إلهك بالباطل.. أذكر يوم السبت لتقدّسه.. أكرم أباك وأمّك لكي يطول
عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك. لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشهد على
قريبك شهادة زور. لا تشتهِ بيت قريبك، لا تشتهِ امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا
ثوره ولا حماره ولا شيئاً ممّا لقريبك” (خر 20: 2- 17). ويعود سفر الخروج
فيدعو تلك الوصايا “كلام العهد، الكلمات العشر” (خر 34: 28)، فالله يكون
مع شعبه وينصرهم على أعدائهم ويُسكنهم أرض الميعاد، شرط أن يتبعوا وصايا الله ولا
يخونوا العهد الذي أبرموه مع الله.

ب)
العهد بدم الذبائح

إنّ
العهد الذي عُقد بين الله وشعبه على الأحكام والوصايا قد تثبَّت بدم الذبائح. فإنّ
موسى، بعد أن عاهد الله بالكلمة، رشّ على المذبح وعلى الشعب من دم الذبائح قائلاً:
“هوذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم على جميع هذه الأقوال”. إلى هذا العهد
يشير يسوع في قوله لرسله أثناء العشاء الفصحي: “اشربوا من هذا كلكم، هذا هو
دمي، دم العهد، الذي يُهراق عن الكثيرين لمغفرة الخطايا” (متى 26: 27- 28).

ج)
الطعام المشترك

رأينا
أن الذبائح السلامية تكتمل بالاشتراك في الطعام الواحد. فالعهد الذي يُبرَم
بالكلمة ويُثبَّت بالدم تُوطَّد عراه في طعام الشركة: “رأوا الله وأكلوا
وشربوا”. إنّ الشركة في الطعام الواحد بعد عقد العهد هي في آن واحد تعبير
لفرح المتعاقدين وعلامة لاتحادهم وصداقتهم ومحبتهم بعضهم لبعض. لذلك تُعتبَر خيانة
العهد الذي توَطَّد في شركة المائدة خيانة بغيضة. وهذا ما شعر به يسوع إزاء خيانة
يهوذا له: “إنّ من يأكل خبزي رفع عليَّ عَقِبه” (يو 13: 18؛ مز 41: 10).

ثالثاً-
الفصح في العهد القديم

هناك
ذبيحة أخرى كان لها عند اليهود أهمية كبرى لكونها تذكّرهم بأعظم حدث في تاريخهم،
حدث خروجهم من مصر على يد موسى، وهي ذبيحة الحمل الفصحي الذي كانت كل أسرة يهودية
تأكله ليلة عيد الفصح مع خبز فطير وأعشاب مُرَّة، تذكاراً للحمل الذي أكله
العبرانيون ليلة خروجهم من مصر، وبدمه أُنقِذ أبكارهم من الموت.

1-
تاريخ عيد الفصح

أ)
عبد الفصح قبل الخروج من مصر

يرى
معظم مؤرخي الكتاب المقدس أنّ عيد الفصح لم يبدأ مع موسى. بل له تاريخ قديم يعود
إلى زمن القبائل الرحّالة. فبدء الربيع هو، عند الرُحَّل، زمن الانتقال بالمواشي
إلى أماكن أخرى طلباً للكلأ والماء والمناخ المعتدل. وقبل الرحيل كانوا يقدّمون
ذبيحة لآلهتهم طلباً للخصب وحماية لقطعانهم من “ملاك الموت” الذي كانوا
يعتقدون أنّه هو الذي يفتك بمواشيهم. وبما أنّ صغار المواشي كانت معرَّضة أكثر من
غيرها لخطر الهلاك في هذا الرحيل، درجت العادة بتقديم حمل من مواليد السنة ذبيحة
للآلهة. ثم يؤخَذ من دمه ويُجعَل علامة على مدخل خيمهم لإبعاد الشرّ عنهم. وقد تكون
هذه العادة أصل لفظة “الفصح” المشتقّة من فعل “فسح” الذي يعني
بالعبريّة “عبر”. وهذا المعنى سيحفظه سفر الخروج:

“فيكون
الدم لكم علامة على البيوت التي أنتم فيها فأرى الدم، وأعبر عنكم، ولا تحلّ بكم
ضربة مهلكة، إذا ضربت أرض مصر” (خر 12: 13؛ راجع أيضاً 12: 23، 27).

وكانت
هذه الذبيحة تُقدَّم عند المساء، في اكتمال البدر، عند الاعتدال الربيعي، في
الرابع عشر من شهر أبيب، أي السنابل (وقد أطلق عليه اسم نيسان بعد الرجوع من
السبي)، وذلك في عشاء عائلي يلائم أوضاع حياة البدو في الصحراء، مكوَّن من لحم
مشوي هو لحم الذبيحة المقدّمة، وبعض الأعشاب البرية (التي ستصير في احتفال الفصح
بعد الخروج من مصر أعشاباً مرّة ذكراً لما قاساه اليهود لدى خروجهم من مصر)، وخبز
فطير. وهذا الخبز هو تقليدي في البلدان الحارّة ولدى الارتحالات إلى مناطق أخرى،
لأنه يمكن حفظه لفترة طويلة دون أن تصيبه العفونة.

فكلّ
سنة في أوّل الربيع، كان العبرانيون يحتفلون بهذا العيد الذي ورثوه عن أجدادهم.
وقد حافظوا على هذا الاحتفال حتى في أثناء وجودهم في مصر. وهذا ما تشير إليه بعض
النصوص في سفر الخروج، تخبر أنّ موسى وهارون دخلا على فرعون، وطلبا منه من قِبَل
الرب أن يسمح للعبرانيين بأن ينطلقوا من ممرا ويذهبوا “مسيرة ثلاثة أيام في
البرية ليعبدوا الرب هناك ويعيّدوا له ويقدّموا له ذبيحة” (خر 3: 18؛ 5: 1-
3؛ 7: 16؛ 8: 21- 27). فهذا العيد “يرجع إلى ما قبل موسى وقبل الارتحال من
مصر. لكن الخروج هو الذي أعطاه مغزاه النهائي”.

ب)
عند الفطير

هناك
أيضاً عيد آخر يعود إلى ما قبل الخروج من مصر، وقد دُمج في ما بعد بعيد الفصح، وهو
عيد الفطير. ففيما عيد الفصح مرتبط بحياة البداوة وتربية المواشي، عيد الفطير
مرتبط بحياة الحضر والزراعة. ويعود أصل هذا العيد إلى الكنعانيين، وقد تبنّاه
العبرانيون بعد استقرارهم في أرض كنعان. وهذا العيد يُحتفَل به أيضاً في بدء
الربيع لدى حصاد الشعير، وفيه تُقدَّم لله بواكير الحصاد. “فكانت خبزات من
الفطير تصحب باكورة الحصاد (اح 23: 5- 14؛ تث 26: 1). وكان التخلّص من الخمير
القديم رتبة طقسية للطهارة والتجديد السنوي”.

وبعد
دمج هذا العيد بعيد الفصح، سيربط التقليد الاسرائيلي بين هذه المراسيم الطقسية
وبين الارتحال من مصر (خر 23: 15؛ 34: 11)، فيرى في الفطير علامة العجلة في
الارتحال من مصر، حتى ان العبرانيين حملوا معهم عجينهم قبل أن يختمر (خر 12: 34-
35).

ج)
الخروج من مصر

لقد
حفظ العبرانيون ذكراً خاصاً لحدث هام في تاريخهم، وهو حدث خروجهم منِ مصر على يد
موسى. وهذا الحدث التاريخي فسّروه تفسيراً إيمانياً، فرأوا فيه تدخُّلاً خلاصيًّا
من قِبَل الله لإنقاذ شعبه وإعادته إلى أرض الميعاد التي أقسم لابراهيم واسحق
ويعقوب أن يعطيها لهم ولنسلهم من بعدهم (تك 26: 3؛ تث 1: 35).

ان
هذه الأعياد والتذكارات الثلاثة: عيد الفصح، وعيد الفطير، وذكرى الخروج من مصر
تجمّعت على مرِّ الزمن، وصارت بعد استقرار العبرانيين في أرض كنعان، عيداً واحداً
له مراسيم خاصة حدّدتها الشرائع في أدقّ تفاصيلها.

فما
نقرأه في سفر الخروج (12: 1- 20) وفي سفر تثنية الاشتراع (16: 1- 9) عن قصة الخروج
من مصر وعن طريقة الاحتفال بعيد الفصح وأكل الحمل الفصحي ليس رواية تاريخية لما
جرى على زمن موسى، بل رواية ليترجية تصف ما كان يجري في عيد الفصح في زمن
الاستقرار، ولاسيما ابتداءً من الاصلاح الذي قام به الملك يوشيّا في القرن السابع
قبل المسيح (2 مل 23: 21- 23؛ 2 أخ 35).

2-
معاني عيد الفصح

إذا
كان تاريخ الفصح في العهد القديم يشوبه بعض الغموض، إلاَّ أنّ معانيه الروحية في
نظر الشعب المؤمن واضحة كلّ الوضوح.

فهناك
نشيد حفظه لنا الترجوم، وهو نشيد “الليالي الأربع”، يوضح معاني العيد.
والترجوم هو تفسير باللغة الآرامية كان يعطى في مجامع فلسطين عدّة قرون قبل المسيح،
ابتداءً من الزمن الذي لم يعد فيه معظم الشعب يفهم نصّ الكتاب المقدّس العبري.
وهذا النشيد هو تفسير للآية التالية من سفر الخروج: “كانت ليلة سَهَر للرب
لإخراجهم من أرض مصر. فليلة السَهَر هذه يحفظها للرب بنو إسرائيل جميعهم مدى
أجيالهم” (خر 12: 42). يقول نص الترجوم:

“إنّها
ليلة سَهَر أعدّها الله للتحرير باسمه، عندما حرر بني اسرائيل وأخرجهم من أرض مصر.
وهناك ليالٍ أربع محفوظة في سِفْر الذكريات:

فالليلة
الأولى هي التي ظهر فيها الله على العالم ليخلقه. فالعالم كان خاوياً خالياً، وعلى
وجه الغمر ظلام. وكانت كلمة الله نوراً يشعّ. ودعاها الليلة الأولى.

الليلة
الثانية هي التي ظهر فيها الله لابراهيم، وقد كان له من العمر مئة سنة، ولسارة
امرأته ولها من العمر تسعون سنة. فهل سيلد ابراهيم، وله من العمر مئة سنة؟ وهل
ستضع سارة طفلاً، ولها من العمر تسعون سنة؟ وكان لإسحق سبع وثلاثون سنة عندما
قُدِّم إلى المذبح. فانحنت السماوات ونزلت، واسحق رأى كمالاتها، وأظلمت عيونه بسبب
كمالاتها. ودعاها الليلة الثانية.

الليلة
الثالثة هي التي ظهر فيها الله للمصريين في وسط الليل: يده تقتل أبكار المصريين،
ويمينه مضي أبكار اسرائيل، ليتمّ ما قال الكتاب: اسرائيل هو ابني البكر. ودعاها
الليلة الثالثة.

الليلة
الرابعة هي التي سيصل فيها العالم إلى نهايته ليوم الفداء: إذّاك يتحطّم نير
العبودية، وتضمحلّ الأجيال الفاسدة. من وسط الصحراء يصعد موسى، ومن العلاء يأتي
المسيح الملك. أحدهما يمشي على رأس القطيع، وكلمته تسير بين الاثنين، وهم يسيرون
معاً. انها ليلة الفصح لاسم الله، ليلة محفوظة ومحددة لتحرير إسرائيل كلّه على مدى
أجيالهم”.

ان
عيد الفصح هو ذكرى تحرير العبرانيين من عبودية المصريين، وقد صار ذكرى شاملة لكل
أْعمال محبة الله وخلاصه منذ خلق العالم حتى نهاية التاريخ. لذلك صار عيد الفصح
عند اليهود “العيد الكبير” أو “العيد” (متى 26: 5) كما لا
نزال نقول اليوم في شرقنا المسيحي عندما نذكر عيد الفصح. وفي تعليق على معاني هذا
العيد عند اليهود نقرأ في الميشنا: “ان الله قد أجازنا من العبودية إلى
الحرية، ومن الحزن إلى الفرح، ومن الحِداد إلى يوم العيد، ومن الظلمة إلى النور
الساطع، ومن العبودية إلى الفداء” (فصحيات 5: 5).

3-
مراسيم عيد الفصح

تلك
هي معاني عيد الفصح عند اليهود. أما المراسيم التي كانوا يتبعونها في أثناء العشاء
الفصحي فتستند إلى ما جاء في وصف الفصح الذي احتفل به العبرانيون لدى خروجهم من
مصر. ثم انتظمت مع الزمن حتى صارت رتبة ليترجية لها قوانينها وشرائعها وصلواتها.

أ)
الفصح ليلة الخروج من مصر

يروي
سفر الخروج في الفصل الثاني عشر كيف تناول اليهود الفصح ليلة خروجهم من مصر على يد
موسى:

“وكلَّمَ
الرب موسى وهارون في أرض مصر قائلاً: هذا الشهر يكون لكم رأس الشهور، وهو لكم أول
شهور السنة. كلّمَا جماعة اسرائيل كلّها، ومُراهم أن يتخذوا لهم في العاشر من هذا
الشهر، كلّ واحد حَمَلاً بحسب بيوت الآباء، لكل بيت حَمَلاً، فإن كان أهل البيت
أقلّ من أن يأكلوا حَمَلاً، فليأخذوه هم وجارهم القريب من منزلهم بحسب عدد النفوس،
فيكون الحَمَل بحسب ما يأكل كل واحد. حَمَل تام ذَكَر حوليّ بكون لكم، من الضَّأن
أو المَعِز تأخذونه. ويبقى محفوظاً عندكم إلى اليوم الرابع عشر من هذا الشهر،
فيطبخه كل جمهور جماعة اسرائيل بين الغروبين. ويأخذون من دمه ويجعلونه على قائمتي
الباب وعارضته على البيوت التي يأكلونها فيها. ويأكلون لحمه في تلك الليلة مشويًّا
على النار، بأرغفة فطير مع أعشاب مرة يأكلونه. لا تأكلوا شيئاً منه نِيْئاً ولا
مسلوقاً بالماء، بل مشويًّا على نار مع رأسه واكارعه وجوفه. ولا تبقوا شيئاً منه
إلى الصباح، فإن بقي شيء منه إلى الصباح، فأحرقوه بالنار. هكذا تأكلونه: تكون
أحقاؤكم مشدودة، ونعالكم في أرجلكم وعصيّكم في أيديكم، وتأكلونه على عجل فإنه فصح للرب.
وأنا أجتاز في أرض مصر في تلك الليلة، وأضرب كلّ بكر في أرض مصر، من الناس إلى
البهائم، وبجميع آلهة المصريين أنفّذ أحكاماً أنا الرب. فيكون الدم لكم علامة على
البيوت التي أنتم فيها، فأرى الدم وأعبر من فوقكم، ولا تحلّ بكم ضربة مهلكة، إذا
ضربتُ أرض مصر. ويكون هذا اليوم لكم ذكرى، فتعيّدونه مدى أجيالكم فريضة
أبدية” (خر 12: 1- 14).

ب)
مراسيم الفصح التقليدي

تطوّرت
الاحتفالات بالفصح وبالعشاء الفصحي، حتى صارت على زمن السيد المسيح تُقام على
الترتيب التالي، الذي نورده استناداً إلى ما توصّل إليه معظم مؤرخي الكتاب المقدس،
ونورد في المقارنة ما فعله السيد المسيح في عشائه الأخير مع تلاميذه، وفقاً لما
جاء في الأناجيل المقدسة وفي رسالة بولس الأولى إلى الكورنثيين:

الفصح
اليهودي

1-
مراسيم افتتاحية

أ)
الكأس الاولى: بعد أن يتّكئ الجميع، يقوم ربّ البيت ويتناول كأساً من الخمر الممزوج
بالماء، ويرفعها ويباركها قائلاً: “مبارك أنت أيها الرب الهنا، الملك الأزلي،
يا من خلق ثمر الكرمة”. ويشرب منها. ثم يتناولها منه الحضور، ويشربون منها
كلّ بدوره.

ب)
غسل الأيدي: يؤتى بوعاء مملوء ماء. فيغسل كل من الحضور اليد التي سيأكل فيها، ثم
يمسحها بالمنديل.

ج)
أكل الأعشاب المرّة: في الولائم الاعتيادية بعد غسل الايدي، كان يؤتى بمقبّلات
يأكلها الحضور قبل الطعام. في العشاء الفصحي يستعاض عن المقبّلات بأعشاب مرّة،
وذلك تذكيراً للحياة المرّة التي عاشها الحدود في مصر قبل خلاصهم بواسطة الحمل
الفصحي.

2-
تفسير معنى العبد وصلوات

أ)
يفسّر رب البيت معنى عيد الفصح: الله أنقذنا من أيدي المصريين.


الفصح يعني العبور (خر 12: 17)


الخبز الفطير يرمز الى العجلة التي أكل فيها اليهود فصحهم الأول.


الحمل الفصحي برمز الى الحمل الفصحي الأول الذي ثم بدمه إنقاذ أولاد العبرانيين.

ب)
الصلوات: يجيب الحضور على هذا التفسير بصلوات يسبّح فيها الله (مز 113: “في
خروج اسرائيل من مصر..”).

ج)
الكأس الثانية.

3-
أكل الخبز الفطير والحمل

أ)
غسل الأيدي: يغسل كلّ من الحضور يديه الاثنتين.

ب)
الأب يبارك الخبز الفطير.

ج)
أكل الحمل

د)
الكأس الثالثة، وتدعى “كأس البركة”

4-
نهاية العشاء

أ)
القسم الثاني من مزامير التسبيح (مز 114- 118).

ب)
كأس رابعة ختامية.             عشاء المسيح الأخير

أ)
الكأس الاولى: “لما أتت الساعة اتكأ (يسوع) مع الرسل وقال لهم: “لقد
اشتهيت جدّاً ان آكل هذا الفصح معكم، قبل أن أتالّم. فإنّي أقول لكم: إنّي لن آكله
بعد الى أن يتمّ بكماله في ملكوت الله”. ثم تناول كأساً وشكر وقال: “خذوا
هذا واقتسموا في ما بينكم، فإنّي أقول لكم: إنّي لن أشرب بعد من ثمرة الكرمة إلى
أن يأتي ملكوت الله” (لو 22: 14- 18).

ب)
غسل الأرجل: قام يسوع بنفسه بهذا العمل، عوضاً عن كسل الأيدي، فغسل أرجل تلاميذه
(يو 13: 1- 17) وأوصاهم بالاقتداء به في الخدمة المتواضعة.

ج)
إعلان خيانة يهوذا: لربّما في هذه اللحظة يعلن يسوع خيانة يهوذا، كما جاء في متى
(26: 20- 25) ومر (14: 17- 21) ويو (13: 18- 30). لوقا يترك إعلان الخيانة الى ما
بعد العشاء (22: 21- 23).

2-
خطاب يسوع (يو 14- 17)

ب)
“ثم أخذ خبزاً وشكر وكسر وأعطاهم قائلا: هذا هو جسدي الذي يُبذَل لأجلكم.
إصنعوا هذا لذكري” (لوقا 22: 19؛ راجع أيضا متى 26؛ مر 14: 22؛ 1 كو 11: 23-
24).

ج)
لا ذكر للحمل في العشاء السري.

د)
الكأس الثالثة: “وكذلك الكأس من بعد العشاء قائلا: هذه الكأس هي العهد الجديد
بدمي الذي يُهَراق من أجلكم” (لو 22: 20؛ راجع أيضاً متى 26؛ 27- 29، مر 14: 23-
25؛ 1 كو 11: 25).

أ)
“ثم سبّحوا (أي تلوا مزامير التسبيح)، “وخرجوا الى جبل الزيتون”
(متى 26: 30؛ مر 14: 26).

خاتمة

“بماذا
أُكافئ الربّ عن كل ما أحسن به إليّ؟

كأسَ
الخلاص أقبل، واسمَ الرب أدعو” (مز 115).

“اعترفوا
للرب، فإنه صالح، لأن إلى الأبد رحمته.

الرب
عزّي وتسبيحي، لقد كان لي خلاصاً.

أنت
إلهي فأعترف لك، اللهمّ اني أرفعك” (مز 117).

تلك
الآيات من مزامير التسبيح التي تقال في العشاء الفصحي، نودّ أن نختم بها هذا الفصل
الأول من بحثنا في سرّ الافخارستيا. فالفكرة الأساسية التي ينطلق منها هذا السرّ
هي فكرة الشكر والاعتراف لله على كل ما صنعه تجاه الإنسان. أن القرابين والذبائح
التي كانت الأديان القديمة تقدّمها لآلهتها وكان الشعب اليهودي في العهد القديم
يقدّمها لله صانع السماء والأرض، هي وسائل استخدمها الفكر الديني للتعبير عن شكره
لله واعترافه بصنائعه:

“أَذكرُ
أعمال الرب، فإني أتذكّر معجزاتك من القديم،

وأهذّ
بجميع أفعالك، وفي أعمالك أتأمّل” (مز 77: 12).

إنّ
ذكرى أعمال الرب تعود بنوع خاص في العشاء الفصحي الذي جمع فيه إيمان شعب العهد
القديم كل معجزات الله منذ الخلق حتى ظهوره لابراهيم وتحرير شعبه على يد موسى إلى
يوم نهاية العالم القديم وبدء عهد جديد بظهور المسيح الملك.

واليومْ
أيضاً عندما نحتفل بسرّ الافخارستيا، أول ما نبدأ به قسم الأنافور، أي قسم تقدمة
القرابين وتكريسها، هو الشكر لله الآب على كل ما صنعه تجاهنا منذ الخلق.

ونقدّم
مثالاً على ذلك أنافور القديس يوحنا الذهبي الفم في الطقس البيزنطي:

“واجبٌ
وحقٌّ أن نسبِّحَك ونباركَك، ونُشيدَ لك ونشكرَك، ونسجدَ لك في كلِّ مواضع سيادتِك.
فإنك أنت الإلهُ الذي لا يَفي به وصفٌ ولا يحدُّه عقل، ولا يُرى ولا يُدرَك،
الدائمُ الوجود، والكائنُ هو هو. أنت وابنُك الوحيدُ وروحُك القدوس. أنت أخرجتَنا
من العدَمِ إلى الوجود، وبعد أن سقَطنا عُدتَ فأَقمتنَا. وما زلتَ تصنعُ كلَّ شيء
حتى أصعدتَنا إلى السماء، وأنعمتَ علينا بمُلكِك الآتي. فمن إجلِ هذه كلِّها
نشكرُك، ونشكر ابنَك الوحيد وروحَك القدوس، كما نشكرُ لك كلَّ ما نِلنا من
إحساناتِك، المعروفة والمجهولة، الظاهرة والخفيَّة. ونشكرُ لك أيضاً هذه الخدمة،
التي ارتضيتَ أن تقبلَها من أيدينا، مع أنَّ أُلوفاً من رؤساء الملائكة، وربواتٍ
من الملائكة، ماثلون لديك، الشروبيم والسرافيم ذوي الأجنحة الستة والعيون الكثيرة،
محلِّقين وطائرين.. “

 

الفصل
الثّاني الإفخارستيَّا سِرُّ حُضُور يَسوُع المَسيح

مقدّمة

سرّ
الافخارستيا هو سرّ الشكر. فيه نرفع قلوبنا إلى الله لنشكر له كلّ ما أنعم به
علينا من إحسانات منذ الخلق. ونقدّم له من مخلوقاته ومن صنع أيدينا قرابين هي رمز
عطاياه ورمز عطيّة ذواتنا له. هذا ما بينّاه في الفصل الأول من خلال جولة في معنى
الذبائح والقرابين في الأديان عامة وفي العهد القديم. نتابع في هذا الفصل الفكرة
عينها، فنؤكّد بيقين الإيمان أنّ أعظم عطيّة منحنا إيّاها الله، وتشكّل هي نفسها
قرباننا ومحور اجتماعنا الافخارستي، هي ابنه الحبيب يسوع المسيح. في العهد القديم
كان الناس يقدّمون قرابينهم لله من مخلوقاته ومن صنع أيديهم. أمّا في العهد الجديد
فما نقدّمه لله هو ابنه يسوع المسيح. فهو نفسه قرباننا الذي نقدّمه بشكل سرّي من
خلال مخلوقات لا تزال في آنٍ معاً عطية الله لنا وصنع أيدينا: بعض الخبز وبعض
الخمر. في الافخارستيا، نشكر لله محبته لنا التي ظهرت في ما أنعم به علينا من
مخلوقات وما صنعه تجاهنا من أعمال ومعجزات. ونشكر له بنوع خاص محبته لنا التي ظهرت
في أقصى حدودها في إرسال ابنه يسوع المسيح إلينا مخلصاً وفادياً.

في
ليتورجيا التقليد الرسولي التي تعود إلى أوائل القرن الثالث (215)، يبدأ الأنافور
على النحو التالي:

1-
الشكر: “نشكرك، أللهمّ، لأجل ابنك الحبيب يسوع، الذي أرسلته إلينا في الأزمنة
الأخيرة مخلصاً وفادياً ورسول إرادتك. فهو كلمتك الذي لا ينفصل عنك، الذي به خلقت
كل شيء، وبه سُرِرت.

لقد
أرسلته من السماء في أحشاء بتول. فحُبِل به وتجسّد، وظهر لك ابناً مولوداً من
الروح القدس ومن مريم العذراء.

لقد
أتمَّ إرادتك، ولكي يقتني لك شعباً مقدّساً، مدّ يديه وهو في العذاب لينجّي من
العذاب كلّ الذين وضعوا فيك رجاءهم.

2-
العشاء الأخير: “وفيما هو يُسْلِم ذاته للآلام الاختيارية، ليدمّر الموت،
ويكسر قيود الشيطان، ويدوس الجحيم تحت قدميه، وينشر نوره على الصدّيقين، وينشئ
العهد، ويظهر قيامته، أخذ خبزاً، وشكر وقال: “خذوا فكلوا، هذا هو جسدي الذي
يُكْسَر لأجلكم”. وكذلك الكأس، وقال: “هذا هو دمي الذي يُهَرَاق لأجلكم.
عندما تصنعون هذا، إصنعوه لذكري”.

3-
الذكر والتقدمة: “فنحن إذ نذكر موته وقيامته، نقدّم لك هذا الخبز وهذه الكأس،
ونشكر لك أنّك أهّلتنا لأن نقف أمامك ونخدمك.

4-
استدعاء الروح القدس: “نسألك أن ترسل روحك القدوس على قربان كنيستك المقدسة،
ليجمع في الوحدة الذين يشتركون في أسرارك المقدّسة. فليمتلئوا من الروح القدس،
وليثبّت إيمانهم في الحق، ونستطيع هكذا أن نسبّحك ونمجّدك بابنك يسوع المسيح.

5-
تمجيد الثالوث: به، المجد والاكرام لك، مع الروح القدس، في كنيستك المقدسة، الآن
وإلى دهر الداهرين. آمين”.

على
مثال هذه الصلاة الافخارستية القديمة، تكوّنت معظم الصلوات الافخارستية التي لا
تزال الكنائس المسيحية تتلوها في مختلف الطقوس. فتشكر لله محبته التي ظهرت في ابنه
يسوع المسيح، ثم يلي الشكر ذكر العشاء الأخير وكلمات التقديس، ثم ذكر موت المسيح
وقيامته وتقدمة القرابين، ثم استدعاء الروح القدس على القرابين ليجمع في الوحدة
كلّ الذين يشتركون في هذه الأسرار المقدسة، وأخيراً تمجيد الثالوث.

في
الفصل الثالث، سنعالج موضوع استدعاء الروح القدس على القرابين، وعمله في توحيد
جميع الذين يشتركون في الأسرار المقدسة داخل الكنيسة الواحدة. أما في هذا الفصل
فسيقتصر بحثنا على سرّ حضور يسوع المسيح في التقدمة الافخارستية. فالافخارستيا هي
ذكرى محبة الله لنا التي ظهرت في شخص يسوع المسيح: في تجسّده وحياته (1)، وفي عشائه
الأخير مع تلاميذه (2)، وفي موته على الصليب (3)، وأخيراً في قيامته (4).

أولاً-
الافخارستيّا سرّ حضور كلمة الله

1-
الافخارستيّا والكلمة

في
كلّ الطقوس الكنسيّة، يبدأ الاحتفال بسرّ الافخارستيّا، الذي يدعى أيضاً
“الليتورجيا الإلهيّة”، أو “القداس الإلهي”، “بقسم
الكلمة”. وفيه تُقرأ مقاطع من الكتاب المقدس، ولاسيما من العهد الجديد: من
الرسائل ومن الانجيل المقدس بنصوصه الأربعة.

يعيد
إلينا هذا القسم الأول من سرّ الافخارستيا حضور يسوع المسيح في حياته التبشيرية.
فإنّ ذكرنا للسيد المسيح في سرّ الافخارستيّا لا يقتصر على “ذبيحة
الصليب”، كما يبدو في بعض الكتب اللاهوتية، فوت المسيح على الصليب لا يمكن
فهمه إلاَّ كخاتمة لحياة بشَّرَ فيها بمحبة الله للبشر. فقد حقّق السيد المسيح
بسفك دمه على الصليب ما كرز به في أثناء حياته. وتلك الكرازة التي حفظتها لنا
أسفار العهد الجديد هي التي نسمع إعلانها في القسم الأول من القداس الإلهي. من هنا
يبدو لنا مناقضاً للتقليد الكنسي وللفكر اللاهوتي الأصيل ما يقوم به بعض هواة
“عصرنة” الليتورجيا، إذ يستبدلون قراءات الكتاب المقدس بنصوص أخرى دينية
أو أدبية عصرية تظهر، رغم عمق أفكارها وروعة انشائها، هزيلة بالمقارنة مع التدبير
الخلاصي الذي تجلّى لنا في شخص يسوع المسيح، الكلمة المتجسّد.

أن
محبة الله قد ظهرت لنا في شخص يسوع المسيح وأعماله وأقواله. وتلك المحبة هي التي
يبدأ القداس الإلهي بإعلانها والتغنّي بها بعاطفة الشكر والاعتراف لله الآب الذي
أرسل إلينا كلمته، وكشف لنا عن سرّ محبته، وأدخلنا في حياته الثالوثيّة.

وهذا
ما نعلنه في ليتورجيا القديس يوحنا الذهبي الفم بإنشاد الترنيمة التالية للكلمة،
وهي من أقدم النصوص الكنسيّة:

“يا
كلمة الله الابن الوحيد الذي لا يموت،

لقد
رضيت من أجل خلاصنا

أن
تتجسّد من والدة الإله مريم الدائمة البتولية.

فتأنّست
بغير استحالة،

وصُلبت
أيها المسيح الإله، وبالموت وطئتَ الموت،

أنت
أحد الثالوث القدوس، الممجَّد مع الآب والروح القدس،

خلِّصنا!”

إنّ
سرّ الافخارستيّا لا يمكن فهمه إلاَّ ضمن تدبير خلاصي، يبدأ بتجسّد كلمة الله
“أحد الثالوث القدوس”، فما نحتفل به في سرّ الافخارستيا هو وحي الله
ذاته لنا في شخص ابنه وكلمته يسوع المسيح. وما قراءات الكتاب المقدس في القداس
الإلهي إلاَّ إعلان لهذا الوحي الخلاصي. لذلك في الطقس البيزنطي لا تُقرَأ في
القداس الإلهي إلاَّ قراءات من أسفار العهد الجديد، فالقداس الإلهي هو سرّ العهد
الجديد. أما أسفار العهد القديم الذي يهيّئ لمجيء المسيح، فتُقرأ في سائر الصلوات
والساعات، ولاسيما في صلاة المساء (المعروفة بصلاة الغروب). أما الطقوس التي تُدخل
في القداس الإلهي قراءات من العهد القديم، فتُدخلها في إطار تهيئة لإعلان كلمة الله
الأخيرة والنهائية في الانجيل المقدس.

الانجيل
المقدّس هو “البشرى الصالحة”، بشرى الخلاص، التي جاءنا بها السيد المسيح.
هو الكلمة الأخيرة التي نطق بها الله على لسان كلمته وابنه يسوع المسيح وفي كل
أعماله، وهو الذي يفسّر معاني سرّ الافخارستيّا، حسب قول المجمع الفاتيكاني الثاني:

“يحتلّ
الكتاب المقدس مكانة مرموقة في الاحتفال بالطقوس. أنه النصوص التي تُقرَأ، والتي
تشرحها العظة، ومنه أيضاً المزامير التي ترنَّم. وبوحي منه انبثقت الصلوات
والابتهالات والتراتيل الطقسية، ومنه تأخذ الأول والرموز معناها” (دستور في
الليترجيا المقدّسة، 24).

“احترمت
الكنيسة دوماً الكتب الإلهية كما احترت جسد الرب نفسه، فإنها لا تنثني تأخذ خبز
الحياة، خاصة في الليترجيا المقدسة، سواء عن مائدة كلمة الله أو عن مائدة جسد
المسيح لتقدّمه للمؤمنين” (المرجع السابق، 21).

2-
الافخارستيا والملكوت

أن
محور البشارة الانجيلية هو الملكوت، على حسب ما جاء في مستهلّ إنجيل مرقس: “بعدما
ألقي يوحنا في السجن، أتى يسوع إلى الجليل، وهو يكرز بإنجيل الله، ويقول: لقد تمّ
الزمان، واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل” (مر 1: 14- 15).

فمحتوى
الإنجيل هو مجيء الملكوت في شخص يسوع المسيح. وما الأشفية والمعجزات التي أجراها
السيد المسيح في حياته إلاَّ علامات لهذا الحدث الإلهي. فالملكوت يعني حضور الله
حضوراً شخصياً بمحبته في قلوب البشر:

“وسأل
الفريسيون يسوع: متى يأتي ملكوت الله؟ فأجابهم، وقال: إنّ ملكوت الله لا يجيء بوجه
منظور، ولن يُقال: هو هنا، أو: هناك! فها إنّ ملكوت الله في داخلكم” (لو 17: 20-
21).

من
يؤمن بمحبة الله التي ظهرت في شخص يسوع المسيح، يمتلئ في داخله من ملكوت الله. وكل
فصل من بشرى الانجيل يُقرأ في القداس الإلهي يُظهر لنا شكلاً خاصاً من الأشكال
الكثيرة التي ظهرت فيها تلك المحبة في حياة السيد المسيح وأقواله وأعماله ومعجزاته.
فسماع تلك البشرى يدخلنا شيئاً فشيئاً في نور الملكوت.

سرّ
الافخارستيا هو سرّ الدخول في ملكوت الله. وملكوت الله هو شخص يسوع المسيح بالذات،
الذي نتّحد به في سماع كلمته في الإنجيل المقدس، ثم بتناول جسده ودمه. وهذا ما
توضحه ليتورجيا القديس يوحنا الذهبي الفم. فتبدأ بتمجيد “ملكوت الآب والابن
والروح القدس”. وفي دورة القرابين، يعلن الكاهن: “يذكر الرب الإله
جميعنا في ملكوته كل حين، الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين. آمين”. وتبل
المناولة، يصلي الكاهن مع الشعب: “أذكرني يا رب في ملكوتك”. يقول
افدوكيموف:

“في
الليتورجيا، يجد الانسان ملكوت الله. فلقد اقترب، انه في ما بين البشر، في وسطهم
وفي داخلهم. والباقي يُعطى له في الوقت المناسب، ويزاد له. أن الإنسان، بسعيه وراء
الملكوت، يطيع ربّه، ويصير ابنه؛ وعندما يجده، يفرح “كمن وجد لؤلؤة”،
و”كمن وجد كنزاً”، وفرحُه كامل”.

3-
العهد بالكلمة

لقد
رأينا أن العهد القديم على يد موسى كان يشمل قسمين: العهد بالكلمة والعهد بالذبيحة.
فالعهد بالذبيحة كان تصديقاً وختماً للعهد بالكلمة: “هوذا دم العهد الذي قطعه
الرب معكم على جميع هذه الأقوال” (خر 24: 8). وهنا أيضاً في الافخارستيا، سرّ
العهد الجديد، يسبق العهدَ بالذبيحة العهدُ بالكلمة. ولكن، فيما الكلمة في العهد
القديم كانت وصايا وشرائع، الكلمة في العهد الجديد هي شخص يسوع المسيح. وفيما
الكلمة في العهد القديم كانت وعداً وتهيئة، الكلمة في العهد الجديد هي تحقيق وكمال.
فإعلان كلمة الله في الإنجيل المقدس هو إعلان لتحقيق الوعد الذي وعد به الله
الإنسان منذ القديم. فوعد الله “ان يكون مع شعبه” ويرافقهم على الدوام
يتحقق الآن في شخص يسوع المسيح، فيأتي “عمانوئيل” (أي الله معنا) إلى
وسطنا ويكون معنا وفي داخلنا، فنسمعه يكلّمنا كلام الله، ونراه يعمل أعمال الله.

اننا
بحاجة إلى نور المسيح لكي “يفتح أذهاننا فنفهم الكتب” (لو 24: 45)، كما
فعل لدى ترائيه للرسل ولتلميذي عماوص (لو 24: 25- 27). وهذا ما تطلبه الصلاة
التالية، التي تقال قبل قراءة الإنجيل المقدس في ليتورجيا القديس يوحنا الذهبي
الفم:

“أيها
السيد المحب البشر، أضئ قلوبنا بصافي نور معرفتك الإلهية، وافتح عيون أذهاننا
لنفهم تعاليمك الانجيلية. ضع فينا خشية وصاياك المغبوطة، حتى إذا دُسْنا جميع
الشهوات الجسدية، نسير سيرة روحية، مفكّرين بكل ما يرضيك وعاملين به. لأنك أنت
استنارة نفوسنا وأجسادنا، أيها المسيح الإله”.

يتطلّب
العهد من الإنسان أن يتبع كلمة الله، وبما أن كلمة الله في العهد الجديد هي شخص
يسوع المسيح بالذات، فما يُطلب منا لدى سماعنا الانجيل المقدس، هو النظر بفرح إلى
شخص يسوع المسيح والتأمل بدهش وإعجاب في كل ما قاله وفعله، وليس التركيز على ما
يجب أن نفعله نحن. فهو الذي يجب أن يكون محور انتباهنا. لا يحسن أن يلتفت الانسان
دوماً إلى شقائه ويتشنّج لرؤية خطاياه. يقول افدوكيموف:

“في
الليترجيا لا يوجّه الإنسان نظره إلى ذاته، بل إلى الله وإلى بهائه. في اللحظات الليترجية،
ليس القصد أن يجتهد الإنسان في البلوغ إلى الكمال، بقدر ما هو أن يوجد أمام نور
الله. وهذا الفرح هو الذي ينعكس، في ما بعد وبشكل متجرّد، على طبيعة الإنسان
ويغيّرها. لا نَزِدْ شيئاً على بهاء الله وعلى حضوره. فهما يعملان في الانسان
تلقائياً”.

“هل
يستطيع أصدقاء العريس أن يحزنوا ما دام العريس معهم؟” (متى 9: 15).
“أمّا صديق العريس القائم بقربه ويسمعه، فإنّه يهتزّ فرحاً لصوت العريس”
(يو 3: 29).

إنّ
أصدقاء العريس يفرحون لسماعه يتكلم كلام الله ويعمل أعمال الله: فيغفر الخطايا،
ويشفي المرضى، ويصنع المعجزات. انهم يفرحون لمشاهدتهم تحقيق العهد الجديد الذي
تنبّأ عنه الأنبياء (راجع ار 31: 31- 34).

“وأمَا
أنتم فطوبى لعيونكم لأنها تبصر، ولأذانكم لأنها تسمع. الحق أقول لكم: إنّ كثيرين
من الأنبياء والصدّيقين قد اشتهوا أن يروا ما أنتم راؤون ولم يروا، وأن يسمعوا ما
أنتم سامعون ولم يسمعوا” (متى 13: 16- 17).

وأخيراً
يفرح أصدقاء العريس ويتعجّبون لدى مشاهدتهم “الأسرار الرهيبة” التي
يُحتفل بها أمامهم في القسم الثاني من القداس الإلهي، الذي يعيد ذكرى وحضور العشاء
الأخير الذي تناوله السيد المسيح مع تلاميذه.

ثانياً-
الافخارستيّا سرّ حضور العشاء الأخير

1-
رواية في أربعة نصوص

كلّ
مرة نحتفل بالافخارستيا نعيد ما صنع السيد المسيح ونكرّر الأقوال التي نطق بها في
عشائه الأخير مع تلاميذه. وقد وصلت إلينا رواية هذا العشاء في أربعة نصوص من العهد
الجديد: متّى ومرقس ولوقا وبولس في رسالته الأولى إلى الكورنثيين. لدى مقارنة هذه
النصوص يتبيّن أنّ متّى ومرقس يستقيان من مصدر واحد، ولوقا وبولس من مصدر آخر.

في
مستهلّ حديث يسوع مع تلاميذه، يضيف لوقا على سائر النصوص:

22:
14 “لما أتت الساعة اتكأ يسوع مع الرسل، 15 وقال الم: لقد اشتهيت جداً أن آكل
هذا الفصح معكم قبل أن أتألّم. 16 فإني أقول لكم: إني لن آكله بعد إلى أن يتمّ
بكماله في ملكوت الله. 17 ثم تناول كأساً وشكر، وقال: خذوا هذا واقتسموا في ما
بينكم. 18 فإنّي أقول لكم: إنّي لن أشرب بعد من ثمرة الكرمة، إلى أن يأتي ملكوت
الله”.

بعد
هذه الكأس الأولى التي لا تذكرها سائر النصوص، نبدأ المقارنة بين النصوص الأربعة:

متّى
26

26
وفيما هم يأكلون أخذ يسوع خبزاً وبارك وكسر وأعطى التلاميذ قائلاً: خذوا كلوا هذا
هو جسدي 27 ثم أخذ كأساً وشكر وأعطاهم قائلاً: اشربوا منها كلكم. 28 فإنّ هذا هو
دمي دم العهد، الذي يُهرَاق عن كثيرين لمغفرة الخطايا. 29 وأقول لكم: اني لن أشرب من
ثمرة الكرمة من الآن إلى اليوم الذي فيه أشربه جديداً في ملكوت أبي.

مرقس
14

22
وفيما هم يأكلون أخذ يسوع خبزاً وبارك وكسر وأعطاهم قائلاً: خذوا هذا هو جسدي 23
ثم أخذ كأساً وشكر وأعطاهم فشرلوا منها جميعاً 24 وقال لهم: هذا هو دمي دم العهد، الذي
يُهَراق عن كثيرين

25
الحق أقول لكم: إني لن أشرب بعد من ثمرة الكرمة إلى اليوم الذي فيه أشربه جديداً في
ملكوت الله.

لوقا
22

19
ثم أخذ خبزاً وشكر وكسر وأعطاهم قائلاً: هذا هو جسدي الذي يُبذل لأجلكم إصنعوا هذا
لذكري 20 وكذلك الكأس بعد العشاء قائلاً: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي، الذي
يُهَراق من أجلكم.

راجع
آية 18: فإني أقول لكم: إني لن أشرب بعد من ثمرة الكرمة من الآن إلى أن يأتي ملكوت
الله.

1
كو 11 23 أخذ خبزاً 24 وشكر وكسر وقال هذا هو جسدي الذي هو لأجلكم إصنعوا هذا لذكري
25 وكذلك الكأس بعد العشاء قائلاً: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي. إصنعوا هذا كلما
شربتم لذكري. 26 فإنكم كلّما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى
أن يأتي.

تعليقاً
على هذه المقارنة نقول مع معجم اللاهوت الكتابي:

“إن
صياغة نص مرقس ذات الطابع الآرامي البارز قد تنقل إلينا التقليد الفلسطيني، بينما
صياغة نصّ بولس -وهي ذات طابع أكثر هِلّينِسْتية- قد تعكس لنا تقليد كنائس انطاكية
أو آسية الصغرى، فيما صياغة نص متّى تمثّل لنا على الأرجح تقليد مرقس نفسه مع بعض
الاختلافات البسيطة أو الإضافات التي قد ترجع أيضاً إلى أصل ليزجي. أمّا بالنسبة
إلى لوقا، فإنه يثير مشكلات دقيقة، عُرضت لها حلول متنوعة متضاربة. فآياته من 15-
18 قد تمثّل تقليداً قديماً، مختلفاً عن الآخرين، أو على الأرجح إسهاباً استمدّه
لوقا نفسه من مرقس 14: 25. وأمّا في ما يتعلّق بالآيتين 19- 20 اللتين ينبغي
اعتبارهما أصليّتين، بخلاف الشهود التي تهمل الآيتين 19 ب و20، فإنهما تُعتبران
تارة بمثابة توفيق بين نص مرقس ونص كورنثس الأولى، جاء به لوقا نفسه، وتارة كصورة
أخرى لتقليد الكنائس الهلِّينستية يقوم به شاهد ليترجي ثالث، إلى جانب شاهد
مرقس/متى، وشاهد كورنثس الأولى. على أن الاختلافات البسيطة بين هذه النصوص
المتنوعة ضئيلة الأهمية، ما عدا أمر يسوع بالتكرار (اصنعوا هذا لذكري) الذي أُغفِل
في مرقس/متى، فهو يحملنا على اعتباره منذ البداية الشاهد القائم في كورنثس
الأولى/لوقا، مرجحاً بذلك الاحتمال الباطني على أنه عريق في القِدَم”.

يقول
بولس قبل بدء روايته: “إني تسلّمت من الرب ما سلّمته أيضاً إليكم أنّ الرب
يسوع في الليلة التي أُسلم فيها أخذ خبزاً..”. لا تعني هذه الجملة وحياً
خاصاً لبولس، بل تقليداً تسلّمه من الله بواسطة الكنائس. تعود الرسالة الأولى إلى
الكورنثيين إلى سنة 55. ولكن بولس قد “سَلَّم” هذا التعليم لدى مروره في
كورنثس حوالى سنة 49. وربّما “تسلَّم” هو نفسه هذا التعليم في سفرته
الأولى إلى أورشليم سنة 36- 37 أو لدى وصوله إلى أنطاكية سنة 40. فهذا التعليم
يعود إذاً إلى بضع سنوات فقط بعد موت المخلّص.

لدى
قراءة هذه النصوص الأربعة، يتَّضح أنّ كاتبيها لم يقصدوا أن ينقلوا إلينا بالتدقيق
رواية كلّ ما قاله السيد المسيح وصنعه في عشائه الأخير. أن هذه النصوص هي بالحريّ
انعكاس لِما كان يصنعه المسيحيون الأولون في أورشليم وانطاكية لدى احتفالهم بعشاء
الرب.

2-
معنى العشاء الأخير

أ)
هل كان العشاء الأخير عشاءً فصحياً؟

ان
العشاء الأخير هو بالنسبة إلى الأناجيل الازائية عشاء فصحي. فنقرأ في مرقس: “في
اليوم الأول من الفطير، الذي فيه يُذبَح الفصح، قال التلاميذ ليسوع: أين تريد أن
نمضي فنعدّ لك الفصح؟” (مر 14: 12؛ راجع أيضاً متى 26: 17؛ لو 22: 7). أمّا
بحسب يوحنا، فالفصح لم يجرِ الاحتفال به في تلك السنة إلاَّ مساء الجمعة: “وجاؤوا
بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية، وكان الصبح. بيد أنهم لم يدخلوا دار الولاية،
خشية أن يتنجّسوا، فيمتنعوا عن أكل الفصح” (يو 18: 28)؛ “وكانت تهيئة
الفصح، وكان نحو الساعة السادسة” (يو 19: 14)؛ “وإذ كان يوم التهيئة،
فلئلاّ تبقى الأجساد على الصليب في السبت- لأن يوم ذلك السبت كان عظيماً- سأل
اليهود بيلاطس أن تُكسَر سوقُهم ويُذهَب بهم” (يو 19: 31).

حاول
المفسّرون تفسير هذا الاختلاف. فقال بعضهم إنّ تأخير يوحنا لموعد الفصح اليهودي
إلى مساء الجمعة يهدف إلى تحقيق المقارنة التامة بين المسيح والحمل الفصحي. فموت
المسيح قد حدث في الساعة الثالثة من بعد ظهر الجمعة، وهي الساعة التي تُذبَح فيها
الحملان الفصحية في الهيكل. فيسوع هو الحمل الفصحي الحقيقي. لذلك فقد جاء الجند
وكسروا ساقي اللصين اللذين صُلِبا معه؛ “وأمّا يسوع فلمّا انتهوا إليه ورأوه
قد مات، لم يكسروا ساقيه.. ولقد جرى ذلك ليتمّ الكتاب: إنه لا يُكسَر له عظم”
(يو 19: 33- 35). والحمل الفصحي، حسب الناموس اليهودي، “لا يُكسَر له
عظم” (خر 12: 46).

وقال
غيرهم إنّ الفصح قد أُقيم في تلك السنة يومي الخميس والجمعة في جماعات مختلفة من
اليهود. كما قال أيضاً آخرون إن يسوع قد أقام الفصح مساء الثلاثاء طبقاً لتقويم
الإسّينيين. “ولكن الأفضل أن نتصوّر بدون شك أن يسوع، وهو يعلم بأنه سيموت في
وقت الفصح بالذات، قد بادر فأقامه في اليوم السابق له، مستحضراً في عشائه الأخير
طقس الفصح بصورة يمكنه معها أن يدمج فيه طقسه الجديد، الذي سيصير طقس الفصح في
العهد الجديد. وهذا الحلّ يحترم ترتيب يوحنا الزمني للأحداث، ويقيم اعتباراً
كافياً لأسلوب العرض في الأناجيل الازائية”.

استناداً
إلى هذا الحل، نقول إن يسوع قد قُبض عليه في الليلة التي سبقت ليلة الفصح اليهودي،
وصُلب في الساعات التي تسبق البدء باحتفالات الفصح. أمّا العشاء الأخير الذي
تناوله مع تلاميذه فلم يكن عشاءً فصحياً حسب تقليد الفصح اليهودي، بل كان عشاء
وداع في جوّ عيد الفصح، ترك فيه السيد المسيح لتلاميذه وصيته الأخيرة، حسب ما جاء
في إنجيل يوحنا (فصل 13- 17)، ورسم السرّ الذي يوضح معنى موته، وطلب من تلاميذه أن
“يصنعوا هذا لذكره”.

ب)
عمل نبوي يوضح معنى موت يسوع على الصليب

إنّ
ما صنعه السيد المسيح في أثناء العشاء الأخير كان استباقاً وتوضيحاً لما تمَّ في
اليوم التالي على الصليب.

“خذوا
كلوا، هذا هو جسدي.. اشربوا من هذا كلكم، هذا هو دمي دم العهد، الذي يهراق عن
كثيرين لمغفرة الخطايا”. في هذا الكلام الذي قاله السيد المسيح على الخبز
والخمر، أوضح معاني موته على الصليب. فالخبز هو جسده الذي يُبذَل لأجلنا، والخمر
هي دمه الذي يُهَراق عن خطايانا. فكما أن الخبز يُكسَر ويوزَّع على الأصدقاء علامة
لصداقتهم ومحبتهم المتبادلة، هكذا سيُكسَر جسد يسوع على الصليب علامة لمحبته لنا،
إذ “ليس لأحد حب أعظم من أن يبذل الحياة عن أصدقائه” (يو 15: 13)،
وعلامة لمحبة الآب للعالم: “فلقد أحبّ الله العالم حتى إنّه بذل ابنه الوحيد،
لكي لا يهلك من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 3: 16). وكما أنّ دم
الذبائح يُسكَب على الهيكل تكفيراً عن الخطايا، هكذا سيَسكب يسوع دمه على الصليب
تكفيراً عن خطايا العالم أجمع.

إنّ
عمل يسوع أثناء العشاء الفصحي هو عمل نبوي، به ينبئ يسوع بموته القريب ويحدّد
معانيه وأبعاده الشاملة. ولقد اعتاد الحدود على أمثال هذه الأعمال النبوية. فأشعيا
مشى في أورشليم عارياً حافياً لينبئ بما سيفعله ملك أشور “إذ يسوق الصبيان
والشيوخ عراة حفاة” (أش 20: 1- 6). وإرميا يكسر جرّة على مرأى من الشعب قائلاً:
“هكذا قال ربّ الجنود: كذلك أكسر هذا الشعب وهذه المدينة، كما يُكسَر إناء
الخزّاف الذي لا يمكن أن يُجبَر بعد” (إر 19: 11). وحزقيال يمثّل أمام الشعب
رواية السبي إلى بابل (حز 12: 1- 10). كل هذه الأعمال النبويّة، في التقليد
الاسرائيلي، تشير إلى أن الله هو شيّد التاريخ، لذلك يستطيع أن ينبئ عن المستقبل.

كذلك
يسوع، بإنبائه عن موته القريب، يعلن لتلاميذه أنّه يختار الموت بملء حريّته: “إنّ
أبي يحبّني لأني أبذل حياتي لكي أسترجعها أيضاً. لا ينتزعها أحد مني، إنّما أنا
أبذلها باختياري. فلي سلطان أن أبذلها، ولي سلطان أن أسترجعها أيضاً” (يو 10:
17- 18).

ج)
العهد الجديد بدم المسيح

أن
قول السيد المسيح: “هذا هو دمي دم العهد” (متى ومرقس) يذكّرنا بما قاله
موسى لدى عقد العهد مع الله على جبل سيناء: “هوذا دم العهد الذي قطعه الله
معكم..” (خر 24: 8). وما جاء في رواية لوقا وبولس: “هذه الكأس هي العهد
الجديد بدمي” يذكّرنا بما قاله ارميا النبيّ عن “العهد الجديد”:

“ها
إنها تأتي أيام يقول الرب أقطع فيها مع آل اسرائيل وآل يهوذا عهداً جديداً، لا
كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أخذت بأيديهم لأخرجهم من مصر، لأنّهم نقضوا عهدي،
فأهملتهم أنا، يقول الرب. ولكنّ هذا العهد الذي أقطعه مع آل اسرائيل بعد تلك
الأيام، يقول الرب، هو أنّي أجعل شريعتي في ضمائرهم، وأكتبها على قلوبهم، وأكون
لهم إلهاً، وهم يكونون لي شعباً. ولا يعلّم بعد كلّ واحد قريبه وكلّ واحد أخاه
قائلاً: اعرف الرب، لأن جميعهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم، يقول الرب، لأنّي
سأغفر آثامهم، ولن أذكر خطاياهم من بعد” (ار 31: 31- 34).

كذلك
يتنبّأ أشعيا عن المسيح الذي يفيض عليه الله روحه، ويجعله “عهداً للشعب
ونوراً للأمم” (أش 42: 6). وفي فصل آخر يصف أشعيا آلام المسيح التي بها سيحمل
خطايا الكثيرين:

“لقد
أخذ عاهاتنا وحمل أوجاعنا.. قُدّم وهو خاضع، ولم يفتح فاه. كشاة سيق إلى الذبح،
وكحمل صامت أمام الذين يجزّونه.. لأجل عناء نفسه.. يبرّر الصديق عبدي كثيرين، وهو
يحمل آثامهم. فلذلك أجعل الكثيرين نصيباً له والأعزّاء غنيمته، لأنّه أفاض نفسه
للموت، وأحصي مع الأثمة، وهو حمل خطايا الكثيرين، وشفع في العصاة” (أش 53: 4-
13).

إن
ذبيحة المسيح هي ذبيحة عن خطايا” الكثيرين”. ولفظة” الكثيرين”
لفظة آرامية تعني “الجماعة الكثيرة”، أي الجميع. فيسوع المسيح هو
“حمل الله الراء خطيئة العالم” (يو 1: 29). وفي نصوص العشاء الأخير الأربعة
إشارة إلى هذا الفداء: “فدم العهد يُهَراق عن الكثيرين” (متى ومرقس)،
“لمغفرة الخطايا” (متى)، “يُهَراق من أجلكم” (لوقا). وكذلك
يقول عن الخبز: “هذا هو جسدي الذي يبذل لأجلكم”؛ وبولس: “هذا هو
جسدي الذي هو لأجلكم”.

لقد
رأى المسيحيون الأولون في موت يسوع المسيح على الصليب تحقيق كل النبوءات القديمة،
وعبوراً من العهد القديم الذي تمّ بدم الذبائح إلى العهد الجديد الذي تمَّ بتقدمة
جسد ودم يسوع نفسه. وهذا ما تفسّره الرسالة إلى العبرانيين التي تقارن بين
“العهد الأول” (8: 7، 13؛ 9: 1) و”العهد الثاني” (8: 7) أو
“العهد الجديد” (8: 8، 13). فوحي الله النهائي لم يتمّ على جبل سيناء،
بل في يسوع المسيح الذي هو “وسيط عهد جديد. فإنّه بموته لفداء المعاصي
المقترفة في العهد الأول، ينال المدعوون تمام الموعد، الميراث الأبدي” (9: 15).

إنّ
العهد الجديد قد بدأ في تجسّد كلمة الله. فيسوع، الإله والإنسان، قد وحّد في شخصه
بين الله والبشر. لذلك هو الوسيط الوحيد الذي تستطيع به البشرية الوصول إلى الآب.
وبلغ هذا العهد كماله في ذبيحة الصليب التي بها افتدى يسوع البشر من الخطيئة
وصالحهم مع الآب. “إنّ الله، كما يقول أيضاً بولس الرسول، هو الذي صالح، في
المسيح، العالم مع نفسه، ولم يحسب عليهم زلاّتهم، وأودعنا كلمة المصالحة” (2
كو 5: 19). وفي المسيح ارتضى الله “ان يحلّ الملء كله، وأن يصالح به، لنفسه،
كلّ ما على الأرض وفي السموات، بإقراره السلام بدم صليبه” (كو 1: 19- 20).

ثالثاً-
الافخارستيّا سرّ الاشتراك في ذبيحة يسوع المسيح على الصليب

يقول
المجمع الفاتيكاني الثاني: “إنّ مخلّصنا، في الليلة التي أُسلم فيها، ليلة
العشاء الأخير، قد وضع ذبيحة جسده ودمه الافخارستية كي تستمرّ ذبيحة الصليب عبر
الأجيال حتى مجيئه، وعلاوة على ذلك لكي يَكِلَ إلى كنيسته، عروسته المحبوبة، ذكرى
موته وقيامته: سرّ التقوى، علامة الوحدة، رباط المحبة، وليمة فصحية فيها يؤكَل
المسيح، فتمتلئ النفس نعمة وتُعطَى عربون المجد الآتي” (دستور في الليتورجيا
المقدسة، 47).

إنّ
المعاني التي أعطاها يسوع لموته على الصليب أراد أن تبقى لنا على مدى الأجيال. فقال
لرسله من بعد كلامه على الخبز والخمر: “إصنعوا هذا لذكري”. وتقابل هذه
الوصية كلام الرب لموسى عن يوم الفصح: “هذا اليوم يكون لكم ذكراً، فتعيّدونه
عيداً للرب، تعيّدون مدى أجيالكم فريضة أبدية” (خر 12: 14). لم يكن العهد مع
موسى عهداً بين الله وإنسان بل بين الله وشعب، لذلك كان لا بدّ من إعادة هذا العهد
على مدى تاريخ هذا الشعب. وكذلك عهد الله الجديد بيسوع المسيح لم يكن عهداً مع
جماعة من التلاميذ، بل عهداً مع البشرية بأسرها. لذلك يطلب يسوع من رسله أن يصنعوا
لذكره ما صنعه ليتجدّد العهد مع كل إنسان على مدى الزمن.

أ)
ذبيحة الصليب كانت كافية للتكفير عن خطايا العالم

عندما
نقول إنّ الافخارستيا هي تجديد لذبيحة الصليب، لا نعني أن يسوع يُذبَح كل مرة على
الهيكل تكفيراً عن خطايا البشر. فقد فعل ذلك مرة واحدة في ذبيحة الصليب التي كانت
كافية للتكفير عن خطايا العالم أجمع. هذا ما تبيّنه رسالة القديس بولس إلى
العبرانيين في مقارنة تقوم بها بين ذبائح الكهنة في العهد القديم وذبيحة يسوع
المسيح على الصليب:

“إنّ
كل كاهن يقف، كل يوم، خادماً ومقرّباً مراراً تلك الذبائح بعينها، التي لا قِبَل
لها البتة بأن تزيل الخطايا، أمّا هو فإذ قرّب عن الخطايا ذبيحة واحدة، جلس عن
يمين الله إلى الأبد، منتظراً، من بعد، أن يوضَع أعداؤه موطئاً لقدميه، لأنه
بتقدمة وحيدة جعل مقدَّسيه كاملين على الدوام” (عب 10: 11- 14).

فيسوع
المسيح هو الوسيط الوحيد بين الله والبشر، لأنه إله وإنسان. وهو الذهن الوحيد،
لأنه الابن الوحيد. وذبيحته على الصليب هي الذبيحة الوحيدة الكاملة. وكمال هذه
الذبيحة يظهر في قيامة المسيح التي تلت الصليب: “فالمسيح، إذ قد جاء حبراً
للخيرات الآتية، اجتاز المسكن الأعظم والأكمل، الذي لم تصنعه يد، أي ليس من هذا
العالم، وبدمه الخاص لا بدم تيوس وعجول، دخل المقادس مرة لا غير، بعد أن أحرز لنا
فداءً أبدياً (عب 9: 11- 13). يقارن هذا النص بين “يوم التكفير” عند
اليهود، الذي كان الكاهن الأعظم يدخل فيه مرّة في السنة إلى قدس الأقداس بدم
الذبيحة الذي كان يقدّمه لأجل خطايا الشعب (أح 16)، وذبيحة المسيح على الصليب. فصليب
المسيح كان “يوم التكفير” لأجل خطايا العالم كله. ففيه اجتاز المسيح
السماوات إلى قدس الأقداس، أي إلى حضرة الله، حاملاً استحقاقات دمه الخاص. وهكذا
لا يمكن فصل ذبيحة الصليب عن القيامة وعن المجد الذي دخل فيه المسيح بالقيامة.
فالمسيح، بدخوله في المقدس السماوي، جعل ذبيحة موته الفدائية حاضرة إلى الأبد
وآنيّة لجميع البشر. وهذا الحضور هو الذي يحقّقه سر الافخارستيا.

ب)
الافخارستيا امتداد لذبيحة الصليب الواحدة

الافخارستيا
هي سرّ، أي “علامة حسّية” تقوم بها الكنيسة لتجعل ذبيحة المسيح الأبدية
حاضرة الآن في وسط المؤمنين بالمسيح. فليس القصد من الافخارستيا تكرار ذبيحة
الصليب، ولا إكمالها بمعنى أنّنا نقدّم لله عملاً جديداً لنشكره ونطلب مغفرة
خطايانا. إنّما الافخارستيا امتداد في الزمان والمكان، لصالح كل الجماعات المسيحية،
لذبيحة المسيح الواحدة الكاملة التي تسمو الزمان والمكان، والتي، بالقيامة، دخلت
في أبدية الله.

ان
الله، في صليب يسوع، قد أظهر للعالم عمق محبته، وقتل العداوة التي هي أصل كل شر في
العالم بين الشعوب وبين الأفراد (أف 2: 13- 18)، و”صالح العالم مع نفسه”
(2 كو 5: 19)، وأقام عهداً جديداً بينه وبين البشر. ويسوع، بعد أن مات، قام وصعد
إلى السماوات وجلس عن يمين الله الآب، “حيث هو الآن حيّ على الدوام يشفع في
الذين يتقرّبون إلى الله” (عب 7: 25). ففي الافخارستيا، لا يحدث شيء جديد
بالنسبة إلى المسيح، فكل مما يحدث من جديد يحدث بالنسبة إلى الجماعات المسيحية
التي تشترك كل مرة في ذبيحة المسيح الواحدة، أي في عمل محبة الله القصوى تجاه
البشر، وتغتذي بثمار تلك الذبيحة. فما يتغيّر إنما هي الأيدي الجديدة التي ترتفع
نحو الصليب لتؤدّي الشكر وتنال الغفران وتدخل في تيار محبة الله القصوى التي تجلّت
لنا في موت يسوع على الصليب.

الافخارستيا
التي تقيمها الكنيسة على الأرض هي انعكاس للافخارستيا الواحدة الأبديّة التي
يقيمها المسيح في السماء. يقول يوحنا الذهبي الفم: “هل هناك مسحاء كثيرون،
لأن الافخارستيا تقام في أماكن كثيرة؟ كلا.. فكما أن الذي يقدّم في أماكن عديدة هو
جسد واحد، وليس أجساد متعدّدة، كذلك ليس إلاَّ ذبيحة واحدة”. وكذلك يقول
تيودوروس المصيصي: “بما أنّ هذه الذبيحة تُتمّ بشكل رمزي ما هو حقيقي في
السماء، فهي أيضاً تُظهِره. ما يصنعه الكاهن إنّما هو على نحو ما صورة لليتورجيا
التي تقام في السماء”.

من
الخطأ القول “إنّ المسيح يُذبَح كلّ يوم على مذابحنا”. فالذبيحة قد تمّت
مرّة واحدة على الصليب. يقول كاباسيلاس: “ان الذبيحة لا تتمّ بتضحية الحمل
الآن، بل بتحوّل الخبز إلى هذا الحمل الذي تمّت تضحيته على الصليب. فالتحوّل
يتكرّر، أمّا ما يتحوّل إليه الخبز فيبقى واحداً ويبقى هو هو”.

لذلك
الافخارستيا هي في آن معاً ذكرى الصليب وذكرى القيامة.

رابعاً-
الافخارستيا سرّ الاشتراك في قيامة المسيح

بعد
ذكر كلمات السيد المسيح في العشاء السري، تذكر مختلف الليتورجيات قيامة المسيح:

“اصنعوا
هذا لذكري، فإنكم كل مرة تأكلون هذا الخبز، وتشربون هذه الكأس، تخبرون بموتي
وتعترفون بقيامتي” (ليتورجيا القديس باسيليوس في الطقس البيزنطي).

“اصنعوا
هذا لذكري، فإنكم كل مرة تأكلون هذا الخبز وتشربون هذه الكأس، تخبرون بموتي،
وتعترفون بقيامتي، وتذكروني إلى أن آتي” (ليتورجيا القديس باسيليوس في الطقس
القبطي).

“اصنعوا
هذا لذكري، فإنكم كل مرة تأكلون هذا الخبز، وتشربون هذه الكأس، تذكرون موتي،
وتعزفون بقيامتي حتى مجيئي” (ليتورجيا القديس يعقوب في الطقس السرياني).

“اصنعوا
هذا لذكري، فكلّما اشتركتم في هذا الجسد، وفي مزيج هذه الكأس، تذكرون موتي
وتعترفون بقيامتي حتى مجيئي” (القداس الماروني).

في
الافخارستيا نذكر كلّ ما صنعه الله لأجلنا في يسوع المسيح. فبعد ذكر موت المسيح
على الصليب، نذكر قيامته من بين الأموات. إننا لا نشكر لله فقط أنّه أظهر لنا
محبته بموت يسوع على الصليب، بل أيضا أنّه أظهر لنا محبته في قيامة المسيح. لذلك
المسيح الذي نحتفل بسرّ حضوره في الافخارستيا هو المسيح القائم من بين الأموات. أن
ذكرى قيامة المسيح تصير، من خلال الافخارستيا، حاضرة الآن في ما بيننا في كل
معانيها وأبعادها، بحيث اننا بإقامتنا هذا السرّ، نؤمن أن المسيح نفسه القائم من
بين الأموات يدعونا إلى مشاركة كلمته ومائدته وحياته.

1-
الافخارستيا سر الإيمان بقيامة المسيح

يدعو
بولس الرسول الافخارستيا “عشاء الرب” (1 كو 11: 20) والوليمة التي فيها
نشترك في “مائدة الرب” (1 كو 10: 21). ولفظة “الرب” تعني في
العهد الجديد المسيح القائم من بين الأموات. فبالقيامة “جعل الله يسوع
المصلوب ربًّا ومسيحاً” (اع 2: 36).

الافخارستيا
هي الوليمة التي نؤمن أن المسيح القائم من بين الأموات يدعونا فيها إلى تناول
عشائه، فنجلس إلى مائدته، ونشترك معه في ما يصنعه لأجلنا، إذ يبارك الله ويشكر
ويكسر لنا الخبز ويناولنا الخمر، كما فعل مع تلميذَي عماوص.

عندما
نقرأ في انجيل لوقا قصة ترائي المسيح القائم من بين الأموات لتلميذَي عماوص، نصل
إلى قمة الرواية في اللحظة التي تنعكس فيها الأدوار: فبعد أن دعا التلميذان يسوع،
وهما لم يعرفاه، إلى تناول العشاء معهما: “أَقِمْ معنا، فإن المساء مقبل،
والنهار قد مال، دخل ليمكث معهما. ولما اتكأ معهما، أخذ هو الخبز، وبارك وكسر
وناولهما. إذاك انفتحت أعينهما وعرفاه” (لو 24: 30- 31). في كسر الخبز
والبركة والشكر، كان التلاميذ يختبرون حضور المسيح القائم في ما بينهم.

أن
العلاقة بين الافخارستيا والإيمان بقيامة المسيح تبدو من خلال اختبار التلاميذ ومن
خلال تبشيرهم بالقيامة. وهذا ما يوضحه بطرس الرسول في خطبته التالية: “إنّ
يسوع هذا قد أنهضه الله في اليوم الثالث، وآتاه أن يظهر لا للشعب كله، بل لشهود قد
اصطفاهم من قبل، لنا نحن الذين أكلوا وشربوا معه بعد نهوضه من بين الأموات”
(أع 10: 40- 41).

سرّ
الافخارستيا هو تعبير عن إيمان المسيحيين بقيامة المسيح. وهو أيضاً سبيل للاشتراك
في حياة المسيح القائم من بين الأموات.

2-
الافخارستيا سرّ الاشتراك في حياة المسيح القائم من بين الأموات

في
مقارنة يقيمها بولس الرسول بين الاشتراك في ذبائح اليهود والوثنيين والاشتراك في
جسد المسيح ودمه، يؤكّد أنّ الافخارستيا هي “شركة في جسد المسيح ودمه”
(1 كو 10: 14- 21).

أن
الخبز والخمر، علامات جسد المسيح ودمه، نقدّمها في الافخارستيا منفصلين أحدهما عن
الآخر، إشارة إلى موت المسيح. أمّا الآن فالمسيح قد قام، “وبعدما أُقيم من
بين الأموات، لا يموت أبداً، فالموت لا يسود عليه من بعد” (رو 6: 9). والجسد
والدم يدلاّن على الشخص كلّه. فالاشتراك في جسد المسيح ودمه يعني الاشتراك في شخص
المسيح الحيّ، وبواسطته في حياة الله نفسه. فالمسيح يصير غذاءً وشراباً ليُشرك
المتناولين بحياته التي تصير بالمناولة حياتهم: “فليست أنا حيًّا بعد، بل هو
المسيح يحيا فيَّ” (غلا 2: 2). ان قول بولس هذا لا ينطبق على أيّ موضوع آخر
بقدر ما ينطبق على المناولة الافخارستية.

وتلك
الحقيقة عينها نقرأها مفصّلة في خطبة يسوع في خبز الحياة في الفصل السادس من إنجيل
يوحنا. في هذه الخطبة يؤكّد السيد المسيح أمرين متكاملين: علاقة الافخارستيا
بالإيمان وبالتجسّد.

أ)
الافخارستيا والإيمان

يحوي
هذا الفصل ما قاله السيد المسيح لليهود بعد معجزة تكثير الخبزات. وهذه المعجزة كان
لها رمز في العهد القديم، وهو المنّ الذي نزل من السماء، وهي نفسها رمز للخبز
الحقيقي النازل من السماء، الذي هو السيد المسيح نفسه:

“ان
موسى لم يُعطِكم الخبز من السماء، ولكن أبي يعطيكم خبز السماء الحقيقي، لأنّ خبز
الله هو الذي ينزل من السماء، ويهب الحياة للعالم.. أنا خبز الحياة، من يقبل إليّ
فلن يجوع أبداً، ومن يؤمن بي فلن يعطش أبداً” (يو 6: 32- 35). فتناول الخبز
النازل من السماء يعني الإيمان برسالة المسيح الحامل الحياة الأبدية: “إنّي
قد نزلت من السماء، لا لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الآب الذي أرسلني.. ومشيئة أبي أن
تكون، لكل من يرى الابن ويؤمن به، الحياة الأبدية، وأنا أُقيمه في اليوم
الأخير” (يو 6: 38- 40).

وما
سرّ الافخارستيا إلاَّ تعبير عن هذا الإيمان بيسوع المسيح وبالحياة الأبدية التي
يمنحها لكل من يؤمن به. لذلك ينتقل السيد المسيح في القسم الثاني من الخطبة إلى
الخبز الذي هو جسده:

“أنا
الخبز الحيّ الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز
الذي سأعطيه أنا هو جسدي لأجل حياة العالم” (6: 51). في هذه الآية إشارة
واضحة إلى كلمات رسم الافخارستيا التي لا نجد لها ذكراً في إنجيل يوحنا في العشاء
الأخير. إنّ إغفال هذا الموضوع في العشاء الأخير الذي يخصّص له يوحنا خمسة فصول من
إنجيله (13- 17)، يعود إلى أن يوحنا كتب إنجيله حوالى سنة 95، أي بعد حوالى ستين
سنة من ممارسة الافخارستيا في الجماعات المسيحية. فلم يجد داعياً لذكر رسم هذا
السر، بل ذكر عوضاً عنه غسل الأرجل في شبه سرّ لتواضع المسيح وعطاء ذاته عطاءً
كاملاً لأجل أحبائه ولأجل العالم. وقد طلب من تلاميذه “ان يصنعوا هم أيضاً ما
صنع هو بهم” (يو 13: 15؛ راجع لو 22: 19 “إصنعوا هذا لذكري”).

أمّا
المضمون الافخارستي لكلام المسيح في الفصل السادس، فيتضح لنا لدى مقارنة الآية 51
بما نقرأه في لوقا 22: 19.

لوقا
22: 19                يوحنا 6: 51

هذا
(أي الخبز)              الخبز الذي سأعطيه

هو
جسدي            هو جسدي

الذي
يعطى لأجلكم   لأجل حياة العالم

 

لقد
اعتاد اللاهوت الغربي منذ القديسة أنسيلم تفسير موت المسيح كعمل يعوّض فيه المسيح
عن موت البشر الذي كان يجب عليهم أن يقاسوه من جرّاء خطاياهم. في هذه النظرة تبدو
الافخارستيا استمراراً لهذا العمل “التعويضي”. أن عبارة لوقا “يعطى
لأجلكم” أو بترجمة أخرى بالعربية “يُبذَل لأجلكم”، يوضحها يوحنا
بقوله: “لأجل حياة العالم”. وهذا ما تفسّره الآيات التالية: “فجادل
اليهود بعضهم بعضاً، قائلين: كيف يستطيع هذا أن يعطينا جسده لنأكله؟ فقال لهم يسوع:
الحق الحق أقول لكم، إن لم تأكلوا جسد ابن البشر، وتشربوا دمه، فلا حياة لكم في
ذواتكم. من يأكل جسدي ويشرب دمي فله الحياة، وأنا أقيمه في اليوم الأخير. فإنّ
جسدي مأكل حق، ودمي مشرب حق. فمن يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه. وكما
أنّ الآب الحيّ قد أرسلني، وأنا أحيا بالآب، فمن يأكلني يحيَ هو أيضاً بي” (6:
52- 57).

ب)
الافخارستيا والتجسّد

فيما
الازائيون وبولس الرسول يربطون الافخارستيا بموت المسيح، يؤكّد يوحنا علاقة
الافخارستيا بالتجسّد. فقول المسيح: “كما أن الآب الحيّ قد أرسلني وأنا أحيا
بالآب” يشير إلى التجسّد، وإلى حياة الابن التي هي حياة الآب. وتلك الحياة
نفسها التي ينالها الابن من الآب، يمنحها في الافخارستيا للّذين يؤمنون به ويأكلون
جسده: فمن يأكلني يحيَ هو أيضاً بي”. وهذه الحياة هي التي تدفع المؤمن إلى
الرسالة: “كما أن الآب أرسلني، كذلك أنا أرسلكم” (يو 20: 21). فالافخارستيا
ليست مجرّد لقاء ألفة شخصيّة بين السيد المسيح والمؤمن، بل انها ترمي بالمؤمن في
تيار التجسّد المتدفّق ليهب الحياة للعالم.

ان
الحياة الإلهية التي أتت إلى العالم في شخص يسوع المسيح تنسكب على مدى الزمان على
الذين يؤمنون بالمسيح ويتناولون جسده ودمه في سرّ الافخارستيا، الذي هو سرّ حضوره
الحقيقي في ما بين البشر إلى أن يأتي من جديد في “مجيئه الثاني” المقدّس
في آخر الأزمنة.

خامساً-
“حضور المسيح الحقيقي” في سرّ الافخارستيا

سرّ
الافخارستيا هو سرّ حضور يسوع المسيح القائم من بين الأموات من خلال الخبز الخمر
المكرّسين. فكيف نفهم هذا الحضور؟ هل هو حضور “رمزي” أم حضور
“حقيقي”؟ وإذا كان حضوراً حقيقياً، فكيف السبيل إلى التوفيق بين وجود
المسيح إلى يمين الآب بعد قيامته وصعوده إلى السماء وحضوره في مادة الخبز والخمر
في الافخارستيا؟

1-
اللاهوت الكاثوليكي التقليدي

لقد
شغل هذا الموضوع اللاهوت الكاثوليكي في الغرب منذ القرن التاسع. فأكّد بعض
اللاهوتيين “الحضور الحقيقي”، وقالوا أن ما يصير حاضراً في الافخارستيا
هو جسد المسيح نفسه الذي وُلِد من مريم العذراء، فيما أكّد غيرهم الحضور الرمزي
والروحي، وقالوا ان ما يحضر في الخبز والخمر هو قوّة وفاعلية جسد المسيح ودمه.
وأشهر الذين قالوا بالحضور الرمزي هو بيرنجيه لاهوتي مدرسة تور في فرنسة. فقال أن
ما نتناوله هو “صورة المسيح”. فحُكِم عليه في عدّة مجامع محلية، وفي
مجمع اللاتران سنة 1059. أُرغم على الاعتراف بأن “الخبز والخمر على الهيكل،
بعد التكريس، ليسا فقط سر ربنا يسوع المسيح، بل جسده ودمه الحقيقيان اللذان، بشكل
حسّي، يمسّها ويكسرهما أيدي الكهنة ويأكلها المؤمنون”. لكنه ما عتّم أن أنكر
اعترافه هذا، ثم عاد عن إنكاره، وقبل تحديد مجمع رومة (11 شباط 1079) الذي ميّز
بين الجوهر والأشكال. فالمسيح حاضر في حقيقة الجوهر. أما الأشكال فهي أشكال الخبز
والخمر.

ان
اللاهوت الكاثوليكي منذ القرون الوسطى يفسّر حضور المسيح في الافخارستيا استناداً
إلى هذا التمييز الذي أخذه عن فلسفة أرسطوطاليس بين الجوهر والأعراض. وهذا ما
سيتوسّع فيه بشكل خاص القديس توما الأكويني. فحضور المسيح في الافخارستيا هو حضور
حقيقي، أي بجسده ودمه، ولكن ليس بشكل مادي وحسّي. فما نأكله ونمضغه هو حقاً جسد
الرب ودمه ولكن تحت أشكال أو أعراض الخبز والخمر. ان ما يتحوّل هو جوهر الخبز
والخمر، أما الأعراض فتبقى على ما هي عليه. وبهذا “التحوّل الجوهري”، لا
يعود على الهيكل جوهر الخبز والخمر، بل جوهر السيد المسيح الذي يستطيع الإيمان
وحده أن يعرفه ويتّصل به. ان السيد المسيح حاضر في الافخارستيا بجسده ودمه، ولكن
ليس على غرار حضور أجسادنا في الزمان والمكان. وللردّ على الذين كانوا يطلبون أن
يروا بأعين الجسد المسيح في القربان، أو يشيّعون حدوث عجائب كظهور طفل في القربانة
أو خروج دم منها، خصّص توما الأكويني مقالة كاملة في “خلاصته
اللاهوتيّة” للتأكيد أن الخبز يتحوّل إلى جسد المسيح الممجَّد، الذي لا يمكن
أن يُرى بأعين الجسد، وأنه من المستحيل أن يخرج دم من القربانة المكرّسة.

2-
لاهوت الكنائس البروتستية

لم
يرفض لوثر “الحضور الحقيقي” لجسد المسيح في سرّ الافخارستيا، ولكنه رفض
اللاهوت الكاثوليكي ومفهوم “التحوّل الجوهري”. ففي نظر لوثر، لا بدّ من
القول، استناداً إلى الكتاب المقدس، إنّ جسد المسيح ودمه حاضران في سرّ
الافخارستيا. فعبارة “هذا هو جسدي.. هذا هو دمي” يجب فهمها بالمعنى
الحقيقي، وليس بالمعنى الرمزي. ولكن جوهر الخبز والخمر لا يتحوّلان، بل يضاف
إليهما جوهر جسد المسيح ودمه. ويفسّر وجود جوهرين معاً من خلال مثل الحديد الذي
يوضع في النار، فيبقى جوهره على ما هو عليه، ولكن يضاف إليه جوهر النار. كما يشبّه
وجود جوهرين في الافخارستيا بوجود طبيعتين في شخص المسيح: الطبيعة الإلهية
والطبيعة الانسانية.

ان
تعليم لوثر هذا قد حرمته الكنيسة الكاثوليكية في المجمع التريدنتيني (1545- 1563)
الذي تبنّى “التحوّل الجوهري” كتعبير أوحد عن سرّ حضور المسيح الحقيقي
في الافخارستيا. أما الكنائس اللوثرية فأعلنت إيمانها بحضور المسيح في “صيغة
الاتفاق” سنة 1577 في العبارة التالية: “ان جسد المسيح يقدّم للمؤمنين
في القرابين الافخارستية، معها وتحتها”.

انطلاقاً
من هذا التحديد، انتشرت في اللوثرية النظرية القائلة إن المسيح حاضر في القرابين
فقط في أثناء الاحتفال الافخارستي والمناولة، غير أن تلك النظرية لا وجود لها كما
هي عند لوثر.

هناك
كنائس بروتستنتية أخرى تؤثر التكلم على نوع من الحضور الروحي غير محدود في جسد
المسيح ودمه من خلال الخبز والخمر. فالافخارستيا ذكرى موت المسيح وقيامته. ومن
خلال هذه الذكرى، وبواسطة الروح القدس، وإيمان الجماعة المسيحية، يصير المسيح
حاضراً في الاحتفال الافخارستي بمجمله، الذي تدعوه تلك الكنائس “عشاء
الرب”.

3-
اللاهوت الأرثوذكسي

يرفض
اللاهوت الارثوذكسي اللاهوت الكاثوليكي الذي يقول أن ما يتحوّل في الافخارستيا هو
فقط جوهر الخبز والخمر فيما أشكال الخبز والخمر تبقى على ما هي عليه، كما يرفض
اللاهوت اللوثري الذي يقول بوجود جوهرين معاً. فالمسيح، في نظر اللاهوت الارثوذكسي،
لا ينزل من السماء ليحتجب تحت أشكال الخبز والخمر، كما يقول الكاثوليك، ولا إلى
جانب جوهر الخبز والخمر، كما يقول اللوثريون. يوضح افدوكيموف في كتابه
“الأرثوذكسية” المفهوم الأرثوذكسي لحضور المسيح ولتحوّل الخبز والخمر
إلى جسد المسيح ودمه، فيقول:

“إنّ
جسد المسيح لم يعد من هذا العالم، إنّه جسد سماوي. إنّه ليس “في أي
مكان”، لأنه خارج المكان ويسمو كل حيّز مكاني. ولكنه يستطيع متى شاء أن يوجد
في أيّ موضع مكاني ويتجلّى فيه. إنّ هذا الحصر في موضعٍ ما ضروري لنا، وبدونه لا
نستطيع أن ندخل في شركة غير المنظور. ولكنّ الجسد السماوي ليس تحت الخبز ولا معه
ولا فيه، كما يقول لوثر، ولا مكان الخبز، كما يقول الكاثوليك، بل هو هذا الخبز: “هذا
بعينه هو جسدي”. حسب القديس ايريناوس، أن الخبز الافخارستي، باستدعاء الروح
القدس، لا يحجب حضوراً آخر، بل يوحّد الطعام السماوي وطعام الأرض، إذ يجعلهما
الشيء نفسه، وتلك هي المعجزة. يغطس الكاهن الحملَ في دمه، وإذا هو الجسد الحيّ،
وليس علامة أو خداع الأعراض. وليس هو تجسّد ثانٍ للمسيح في الأشكال، بل التحوّل
الكامل، تحوّل الجوهر والأعراض إلى جسد سماوي. ليست أعراض الخبز هي التي تبقى، بل
حالة أعيننا التي لا تقوى على تأمل الجسد السماوي المحافظ على خداع الأشكال. إن
خطأ العقيدة يقوم على الاهتمام بالموضوع وليس بالشخص، بالخبز وليس بالإنسان. يجب
ألاّ نحلِّل المعجزة، على غرار التحليل الكيميائي، تبعاً لحواسّنا. بل يجب بالحريّ
أن نتّهم حواسّنا بأنها لا ترى المعجزة الحقيقية، الحقيقة السماوية. هناك شبه مع
معجزة تجلّي المخلّص على جبل ثابور. فليس المسيح هو الذي يتغيّر، بل أعين الرسل
التي تنفتح زهاء لحظة. يقول يوحنا الدمشقي: “ان استدعاء الروح القدس يحقّق ما
لا يمكن أن يقبله إلاَّ الإيمان وحده”. فمن غير المجدي أن نفلسف في هذا
الموضوع. ان الغربيين، في عقائدهم، يحاولون الولوج إلى قلب المعجزة وتفسير ما
تعنيه. أما الشرقيون فينظرون بأعين الإيمان ويرون لأوّل وهلة الجسد والدم، ولا شيء
سوى ذلك”.

4-
لاهوت الآباء

لقد
حافظ اللاهوت الأرثوذكسيّ على تعليم الآباء الذين يؤكّدون الحضور الحقيقي والتحوّل
إلى جسد المسيح ودمه، دون محاولة تفسير هذا التحوّل بلغة الفلسفة. لأن السرّ يفوق
كل ادراك بشري. وهذه بعض أقوال الآباء:

“عندما
نضع القرابين أمام الله نصلّي بإلحاح لكي تتحوَل لنا إلى “بركة روحية”،
حتى إنّنا إذا تناولنا منها نتقدّس في أجسادنا وأرواحنا. ثم يقول الكاهن مشيراً
إلى القرابين: “هذا هو جسدي.. هذا هو دمي”، لكي لا تظنّ أن ما يظهر
أمامك هو مجرّد رمز، بل لكي تعرف جيداً أنه بفعل قدرة الله الضابط الكل الفائقة كل
وصف، قد تحوّلت القرابين بالحقيقة إلى جسد المسيح ودمه” (القديس كيرلس
الاسكندري).

“لم
يقل الرب: “هذا رمز جسدي، وهذا رمز دمي”، بل: “هذا هو جسدي، هذا هو
دمي”؛ وبذلك أعلمنا أنه يجب علينا ألاّ ننظر إلى طبيعة ما يقدَّم، بل إلى أنه
بواسطة الافخارستيا يصير تحوّل إلى الجسد والدم” (تيودوروس المصيصي).

“بما
أن يسوع صرّح بذلك وقال عن الخبز: “هذا هو جسدي”، فمن يتجاسر ويشكّ بعد
ذلك؟ وعندما يؤكد هو نفسه بكلام جازم: “هذا هو دمي”، فمن الذي يعارض
ويقول إنه ليس دمه؟ لقد سبق له في قانا الجليل أن حوّل الماء إلى خمر بفعل إرادته
(يو 2: 1- 11)، أفلا يكون جديراً بالتصديق عندما يحوّل الخمر إلى دمه؟ لقد قام
بهذه الآية العجيبة عندما دُعي إلى عرس دنيوي، وعندما يهب لأصدقاء العريس (متى 9: 15)
أن يتنعّموا بجسده ودمه، أفلا نعترف به بالأكثر؟ فبكلّ ثقة إذن نتناول جسد المسيح
ودمه. فجسده يُعطى لك في صورة الخبز، ودمه يُعطى لك في صورة الخمر، حتى إنك، إذ
تشترك في جسد المسيح ودمه، تصير مع المسيح جسداً واحداً ودماً واحداً. وهكذا نصير
حاملي المسيح، بما أن جسده ودمه ينتشران في أعضائنا؛ وهكذا نصير، حسب قول الطوباوي
بطرس، “شركاء في الطبيعة الإلهية” (2 بط 1: 4).. فلا تنظر إلى الخبز
والخمر كأنّهما عنصران طبيعيان، إذ إنّهمَا جسد ودم، حسب قول المعلّم. إن كانت
الحواس توحي إليك ذلك، فليثبّتك الإيمان. لا تحكم في هذا الأمر بحسب الذوق، ولكن
امتلئ ثقة بحسب الإيمان، وقد وُجدتَ أهلاً لجسد المسيح ودمه” (القديس كيرلس
الأورشليمي).

أن
قول القديس كيرلس الأورشليمي: “جسد المسيح يعطى لنا في صورة الخبز، ودم
المسيح يعطى لنا في صورة الخمر”، يوضح لنا كيف حاول الآباء أن يتخطّوا مشكلة
الاختيار بين الحقيقة والرمز في سرّ الافخارستيا. أن المسيح حاضر حضوراً حقيقياً
بجسده ودمه، لكنّ هذا الحضور ليست حضوراً مادياً بل حضور سرّيّ في الصورة والرسم.

لفهم
تعبير الآباء، لا بدّ من وضعه في إطار الفلسفة الأفلاطونية التي تأثّروا بها.
فالحقيقة في نظر أفلاطون لا تكمن في العالم الحسّي، بل في عالم المُثُل أو العالم
الإلهي. فكأن البشر في مغارة، والأشياء الحقيقية خارج المغارة، ولا يدرك البشر من
الحقائق إلاَّ ظلّها وصورتها. إنّ تشبيه المغارة لا يعني أنّ ما ندركه هو وهم
وخيال، بل انه الحقيقة عينها، ولكن في صورتها.

هذا
التصوّر الأفلاطوني لإدراك الإنسان للحقيقة، طبّقه الآباء، ابتداء من اوريجانوس،
على علاقة العهد القديم بالعهد الجديد. فالعهد القديم، في طقوسه ونبوءاته، هو صورة
للحقيقة التي تجلّت لنا في ملء الأزمنة في شخص يسوع المسيح كلمة الله المتجسّد.
ولكنّنا الآن أيضاً، في العهد الجديد، لا نزال بحاجة إلى البلوغ إلى التجلّي
الحقيقي دون حجاب. وسبيلنا إلى ذلك هو الكنيسة والمعمودية والافخارستيا. ففيها
يتجلّى لنا المسيح بحقيقة جسده ودمه، ولكن من خلال الخبز والخمر اللذين هما صورة
ورسم للجسد والدم. في هذه النظرة، يتّضح تشبيه افدوكيموف للمعجزة الافخارستية
بتجلّي المسيح على جبل ثابور: فالمسيح حاضر هنا كما كان حاضراً على جبل ثابور، في
حقيقة جسده ودمه، ولكنّ أعيننا البشرية لا تستطيع رؤيته رؤية مباشرة، بل نراه
بأعين الإيمان.

قد
نجد في مقاطع لبعض الآباء تركيزاً على حقيقة حضور المسيح في جسده ودمه ونوعاً من
الإغفال عن الصورة والرسم. وما ذلك إلاَّ بهدف التأكيد أن لا خلاصِ للإنسان إلاَّ
باتحاده بالله. فالجسد الذي نتناوله في الافخارستيا لا يخلّصنا إلاَّ إذا كان حقاً
جسد المسيح نفسه. يقول القديس غريغوريوس النيصي:

“ما
هو إذن هذا الدواء (لسمّ الخطيئة المميت العامل في جسدنا)؟ انه بالذات هذا الجسد
الممجّد الذي ظهر أقوى من الموت وصار لنا ينبوع الحياة. كما أنّ بعض الخمير، حسب
قول الرسول، يخمّر العجين كلّه، هكذا الجسد الذي رفعه الله إلى الخلود، متى أُدخل
في جسدنا، يغيّره ويحوّله كلّه إلى جوهره الخاص”.

وكذلك
يقول القديس كيرلس الاسكندري:

“فلنبحث
بكلّ طاقتنا في سرّ الافخارستيا: لقد خلق الله كلّ شيء للخلود.. ولكنّ الموت دخل
إلى العالم بجسد إبليس.. فكيف يمكن للإنسان الذي صار تحت سلطان الموت أن يستعيد
الخلود؟ كان لا بدّ من أن يدخل جسده الميت في شركة قوة الله المحيية. أمّا قوّة
الله المحيية فهي الكلمة. لذلك صار الكلمة جسداً، واتّحد بجسد قابل للموت، وأعطاه
مناعة ضد الفساد، وجعله جسداً محيياً. لكن ينبغي أن يحلّ فينا إلهياً بواسطة الروح
القدس، وان يمتزج بطريقة ما بأجسادنا بواسطة جسده المقدس ودمه الكريم. وهذا هو ما
نناله في الافخارستيا المحيية كما بخبز وخمر”.

وهذا
ما يؤكّده أيضاً بكل شدّة القديس يوحنا الدمشقي في كتابه “المئة مقالة في
الإيمان الأرثوذكسي”.

5-
محاولات اللاهوتيين المعاصرين

يحاول
اللاهوتيون المعاصرون التعبير عن عقيدة حضور المسيح الحقيقي في سرّ الافخارستيا بشكل
جديد يتلاءم وطريقة التفكير المعاصرة. أن الفكر المعاصر لا يهتمّ بالأشياء في
تركيبها الكياني بقدر ما يهتمّ بمعناها. ومعنى الأشياء هو ما تعنيه للانسان
ولعلاقات البشر بالله وبعضهم ببعض. فمن خلال الأشياء يتجلّى الوجود الإنساني وتظهر
العلاقات البشرية.

أن
لاهوت الأسرار مبنيّ على تجلّي الله من خلال المادة والجسد. والانسان المعاصر هو
على قدر كبير من الواقعية بحيث يدرك أن العلامة التي هي خارجية ومادية تحمل في
طيّاتها عالماً داخلياً يصير حاضراً وظاهراً من خلالها. بحيث ان داخل الانسان، هذا
العالم السري والمحجوب عن الأبصار والذي يصعب التعبير عنه، يصير حاضراً ويمكن
تناقله من خلال علامة حسيّة: كحركة أو كلمة أو قبضة يد.

لذلك
يؤكّد اللاهوتيون المعاصرون أن حضور السيد المسيح في سر الافخارستيا هو حضور شخص،
وليس حضور شيء. فبقولنا إن الخبز والخمر يصيران جسد المسيِح ودمه، نؤكّد أنّ ما
نتّحد به هو حقيقة شخص المسيح الحيّ، الكلمة الذي صار جسداً، ومات على الصليب،
وقام من بين الأموات مخلّصاً العالم. في هذه النظرة، للدلالة على التحوّل
الافخارستي، يستعمل اليوم بعض اللاهوتيين في الغرب لفظة “تحوّل المعنى”
أو “تحوّل الغاية” بدل اللفظة التقليدية في اللاهوت الغربي. وما يريدون
تأكيده هو أن الخبز والخمر المكرّسان يُعطَيان معنى آخر يفوق معناهما الأول، وغاية
أخرى تسمو غايتهما الأولى. فالخبز الاعتيادي يعني ويحقّق فينا غذاء الجسد. أما
الخبز المكرّس الذي يصير جسد الرب فيعني ويحقق فينا الاتحاد بشخص السيد المسيح.
أما تحاشي لفظة “تحوّل الجوهر” فيعود إلى أن لفظة “الجوهر” لا
تعني الشيء الكثير للانسان المعاصر، وكذلك لفظة “الأعراض”. ان هاتين
اللفظتين قد استقاهما اللاهوت الغربي من فلسفة أرسطوطاليس، وعبّر بواسطتهما عن
العقيدة المسيحية. فاللاهوتيون المعاصرون يهدفون إلى التعبير عن العقيدة المسيحية
عينها، وذلك بألفاظ أخرى.

ونقطة
انطلاقهم هي أن كيان الأشياء العميق وحقيقة الأشياء الأخيرة ليسا في ما تحمل هذه
الأشياء من قيمة حسيّة في ذاتها، بل في ما تحمله من معنى بالنسبة إلينا. فالخاتم
يمكن أن يعني أموراً كثيرة: فيمكن أن يكون حلية يتزيّن بها الإنسان أو
“مَحْبَساً” يعبّر عن الزواج وعن الأمانة الزوجية. فجوهر الشيء هو،
بالنسبة إلى الفكر المعاصر، ما يعنيه بالنسبة إلى الإنسان. وهذا المعنى هو المهم
في الشيء فتحوّل الجوهر هو في الواقع تحوّل المعنى وتحوّل الغاية. ففي عقد الزواج
يبقى الخاتم على ما هو عليه، ولكن معناه يتغيّر كليًّا. وكذلك عندما تختار دولة
قطعة قماش ملوّنة لتجعل منها عَلَماً لها، لا يتغير شيء في مادة القماش، لكن
معناها يتغيّر كليًّا، بحيث أن مَن يُهين العَلَم يُهين الوطن كلّه ويجرم إليه.

كذلك
الخبز والخمر، بعد كلام التقديس واستدعاء الروح القدس، يتحوّلان كلّياً، دون أن
تتحوّل مادتهما، إذ يصيران حقيقةً جسد المسيح ودمه، بحيث إنه، كما يقول بولس
الرسول، “أيّ إنسان يأكل خبز الرب أو يشرب كأسه بلا استحقاق، يكون مجرماً إلى
جسد الرب ودمه” (1 كو 11: 27).

هنا
لا بدّ من ملاحظتين، لئلا يُساء فهم التعبير المعاصر: الملاحظة الأولى تتعلّق
بالشخص الذي يعطي المعنى الجديد للخبز والخمر. ففي موضوع العَلَم، الحكومة هي التي
تختار الألوان، والعُرْف العالمي هو الذي يعطي العَلَم قيمته ومعناه. وفي موضوع
خاتم الزواج، الشاب والفتاة والعُرْف الحضاري العام. كذلك، في موضوع الافخارستيا،
لا يحق لأيّ إنسان أن يعطي الخبز والخمر معنى جديداً، بل كلمة المسيح الخلاّقة
وقدرة الروح القدس المحيية هما اللذان يضفيان على الخبز والخمر معنى جديداً. في
هذا الموضوع، يقول القديس أمبروسيوس أسقف ميلانو:

“ربّما
تقول: إنّ هذا هو خبز اعتيادي. لا شكّ أن هذا الخبز هو خبز قبل الكلمات السرية.
ولكن ما ان يحدث التقديس، حتى يتحوّل الخبز إلى جسد المسيح. فلنُثبت إذن هذا الأمر:
كيف ما هو خبز يمكن أن يكون جسد المسيح؟ بأيّ كلمات يصير التقديس؟ وكلمات مَن هي
هذه الكلمات؟ انها كلمات الرب يسوع.. ما هي كلمة المسيح هذه؟ انها الكلمة التي بها
صُنِع كلّ شيء. أَمَرَ الرب ة فكانت السماء؛ أَمَرَ الرب، فكانت الأرض؛ أَمَرَ
الرب، فتكوّنت كلّ المخلوقات. ترى إذاً كم هي فعّالة كلمة المسيح. فإذا كانت كلمة
الرب لها تلك القدرة العظيمة، بحيث إنّ ما لم يكن يبدأ بالوجود، فكم هي أيضاً
فعّالة لتجعل ممّا كان يصير شيئاً آخر”.

في
الافخارستيا، لسنا أمام عمل إنسان وأمام إرادة إنسان، بل أمام عمل المسيح، وأمام
إرادة المسيح الخلاّقة. أن كلمة الله التي خلقت الكائنات وأعطتها كيانها وثبّتت
معناها العميق هي نفسها التي تعطي الخبز والخمر المقدّمين على مائدة الرب كيانهما
الجديد ومعناهما الجديد. فليس الانسان هو الذي يعتبر أنّ الخبز والخمر بعد التكريس
هما جسد المسيح ودمه، بل كلمة الرب نفسه. إنّ حضور المسيح في الافخارستيا ليس عمل
إيمان الانسان، بل إنّه يسبق الانسان ويسبق إيمانه. يقول الأب هوسيو:

“ان
موضوع الايمان كموضوع العقل. فالعقل البشري يعطي معنى للأشياء التي يحوّلها،
ولكنّه يكتشف أيضاً المعنى الموجود في نظام العالم. فالعالم كان عقليًّا قبل أن
نعقله. الإيمان يعطي معنى جديداً لحركات وأشياء الوجود البشري، ولكنه يكتشف أيضاً
الاشياء الحقيقية التي يخلقها الله من جديد بكلمته، أو يظهرها على نحو محجوب تحت
أشياء خليقته. الإيمان يسمع كلمة الله الذي يجدّد العالم، وبالروح الساكن فينا
يشارك الله نظرته. ان الفكر المسيحي، بقوله أن الافخارستيا هي سر الإيمان، يعتبر
الإيمان نظرة موضوعية تكتشف من خلال علامة الخبز والكأس المحجوبة الحضور الفعّال
للرب القائم من بين الأموات”.

الملاحظة
الثانية تتعلّق بأبعاد حضور المسيح في الافخارستيا. فهو حضور كلّ سرّ المسيح، أي
المسيح الذي يعطي ذاته في الموت والقيامة لأجل حياة العالم. لسنا هنا بصدد تحوّل
مادة إلى مادة أخرى، بل بصدد حضور حدث خلاصي. ان ذكرى موت المسيح وقيامته تصير في
الافخارستيا حضورّ سرّ الخلاص. يقول الأب تيّار:

“ان
الحضور الافخارستي لا يمكن فهمه خارج إطار الذكرى، وتلك الذكرى هي ذكرى الحدث
الفصحي.. الذكرى الافخارستية تهدف أولاً إلى أن تنقل إلى الجماعة الملتئمة العطية
التي بها يعطي المسيح يسوع ذاته، والتي قام بها “مرة لا غير” والتي هي
الخلاص. إنّ حدث “يسوع معطياً ذاته” هو الذي، في الذكرى الافخارستية،
يجب أن يصل الآن إلى الكنيسة. إنّ فهم المعنى العميق للحدث الفصحي هو الذي، في
رأينا، أكثر من حرف روايات رسم الافخارستيا في الأناجيل الازائية، قد حمل الكنيسة
على التأكيد انه في عشاء الرب ليس هناك فقط ادراك لنتيجة الفصح الخلاصية، بل أيضاً
حضور سرّي وحقيقي في آن معاً، هو حضور المسيح الذي يعطي ذاته على الصليب والذي
أقامه الآب. ونعود فنكرّر: إنّه في هذا يقوم الخلاص. ان كثافة الجسد والدم
السرّيين الخلاصية ليست شيئاَّ قائماً بذاته، وليس لها في ذاتها ما يبرّر وجودها.
بل هي مشدودة نحو ثمرة الحدث الفصحي في الجماعة وفي كل مؤمن. فبواسطتها يجب أن
يتمكن المؤمن من الدخول حقيقةً في فعل يسوع معطياً ذاته، هذا الفعل الذي هو الخلاص.
فنحن أمام حقيقة وسط تقع ضمن الدينامية -دينامية الروح- التي تذهب من الحدث الفصحي
“مرة لا غير” إلى “كيان النعمة”، كيان الذين، بتناولهم الخبز
وشربهم الخمر المكرّسين، يتّصلون حقيقةً بفعل يسمع معطياً ذاته”.

في
هذه النظرة نفهم دور “استدعاء الروح القدس” على القرابين ليحوّلها إلى
جسد المسيح ودمه، ويحوّل الذين يتناولون منها إلى كنيسة هي استمرار حضور المسيح في
العالم. وهكذا ننتقل إلى الفصل الثالث، وهو متعلّق بدور الروح القدس في
الافخارستيا.

 

الفصل
الثالث

الإفخارستيَّا
سِرُّ حُضُور الرُّوحِ القدُس لِتكوين جَسَدِ المَسيح

لقد
ركّز الآباء الشرقيون على المقارنة بين الافخارستيا والتجسّد. يقول القديس يوحنا
الدمشقي:

“إنّ
كلّ ما صنعه الله، إنّما صنعه بفعل الروح القدس، وهو الآن يعمل كذلك بفعل الروح
القدس ما هو فوق الطبيعة، وما لا يمكن أن يقبله إلاَّ الإيمان وحده. تقول العذراء
القديسة: كيف يكون لي هذا، وأنا لا أعرف رجلاً؟ فيجيبها جبرائيل رئيس الملائكة: الروح
القدس يحلّ عليك، وقوّة العليّ تظلّلك. وتتساءل أنت الآن: كيف يصير الخبز جسد
المسيح، ويصير الخمر والماء دم المسيح؟ وأنا أقول لك: يحلّ الروح القدس ويصنع ما
يفوق النطق والعقل”.

ان
الروح القدير الذي، في سرّ التجسّد، كوّن جسد المسيح في أحشاء مريم العذراء، هو
الذي في سرّ الافخارستيا يحلّ على القرابين ليجعل منها جسد المسيح ودمه. وهو أيضاً
الذي يحلّ على المؤمنين الذين يتناولون جسد الخلص ودمه ليجعل منهم الكنيسة جسد
المسيح.

أولاً-
عمل الروح القدس في تحويل القرابين

1-
استدعاء الروح القدس في الليتورجيا

في
معظم الليتورجيات، بعد ذكر كلمات التأسيس: “هذا هو جسدي.. هذا هو دمي..”،
يطلب الكاهن إلى الله أن يرسل روحه القدوس ليحوّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح
ودمه.

نقرأ
في ليتورجيا القديس يوحنا الذهبي الفم في الطقس البيزنطي:

“نقرّب
لك أيضاً هذه العبادة الروحية غير الدموية، ونبتهل ونطلب ونتضرّع. فأرسل روحك
القدوس علينا، وعلى هذه القرابين الحاضرة، (+) واجعل هذا الخبز جسد مسيحك الكريم،
(+) وما في هذه الكأس دم مسيحك الكريم، (+) محوّلاً إيّاهما بروحك القدوس، لكي
يكونا للمتناولين منهما لعفاف النفس، لشركة الروح القدس، لكمال ملكوت السماوات،
للدالّة لديك، لا للدينونة أو للقضاء”.

وكذلك
في ليتورجيا القديس باسيليوس في الطقس البيزنطي:

“لذلك
أيها السيد القدوس.. إذ قرّبنا رسومَ جسدِ مسيحك ودمِه المقدَّسين، نطلب إليك
وندعوك، يا قدوس القديسين، ونسألك أن يحلّ، برضى صلاحك، روحُك القدوس علينا، وعلى
هذه القرابين الموضوعة، ويباركها، ويقدّسها، ويظهر: (+) هذا الخبزَ جسدَ ربّنا
وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح الكريمَ نفسَه، (+) وهذه الكأسَ دمَ ربّنا وإلهنا
ومخلّصنا يسوع المسيح الكريم نفسه، (+) المهراقَ لأجل حياة العالم. أمّا نحن جميع
المشتركين في الخبز الواحد والكأس الواحدة، فاجعلنا متّحدين بعضنا ببعض في شركة
الروح القدس الواحد”.

وكذلك
في القداس الماروني:

“ارحمنا،
أيها الرب، ارحمنا، وأرسل من السماء روحك المحيي، وليحلّ على هذا القربان ويجعله
جسداً محيياً، وينقّينا ويطهّرنا ويقدّسنا. استجبني يا رب، استجبني يا رب، استجبني
يا رب، وليأتِ روحك الحيّ القدوس ويحلّ عليّ وعلى هذا القربان، (+) وليجعل هذا
السرّ جسد المسيح إلهنا لخلاصنا، (+) ويجعل هذه الكأس دم المسيح إلهنا لخلاصنا،
لتكون هذه الأسرار المقدسة المحيية، لمسامحة الذنوب وغفران الخطايا، ولشفاء النفس
والجسد، ولتوطيد الضمير، فلا يهلك أحد من شعبك المؤمن، بل نحيا بروحك ونسير سيرة
نقية، ونصعد لك المجد الآن وكل آنٍ إلى الأبد. آمين”.

ونشاهد
الرتبة عينها في سائر الليتورجيات الشرقية: السريانية والأرمنية والقبطية. أما في
الليتورجيا الرومانية، فاستدعاء الروح القدس يسبق كلام التقديس، إلاَّ أنه لا
يحتلّ المكانة التي يحتلّها في الليتورجيات الشرقية. “فالتقليد الرسولي”
للقديس هيبوليتوس الروماني، الذي يعود إلى أوائل القرن الثالث، يحوي استدعاءً موجزاً:

“نطلب
إليك أن ترسل روحك القدوس على تقدمة الكنيسة المقدسة، وأن تجمع في الوحدة كل الذين
يتناولون، وأن تملأ بالروح القدس النفوس لتوطيد الإيمان في الحق”.

ان
موضوع استدعاء الروح القدس في تاريخ الليتورجيا الرومانية يبقى موضوع نقاش بين
المؤرّخين. إلاَّ أنّه بعد المجمع الفاتيكاني، أُعيدت إلى الليتورجيا الرومانية
بكل وضوح صلاة استدعاء الروح القدس، وذلك قبل كلمات التأسيس:

“أنت
حقًّا قدوس، أنت ينبوع القداسة. فنطلب إليك، يا رب: قدّس هذه القرابين بحلول روحك
القدوس عليها، لتصير لنا جسد ودم يسوع المسيح ربّنا” (الصلاة الافخارستية
الثانية).

يعتبر
التقليد الغربي كلمات التأسيس صيغة الافخارستيا، أي الكلمات التي تحوّل الخبز
والخمر إلى جسد المسيح ودمه. فيما التقليد الشرقي يعتبر الصلوات الثلاث الموجّهة
إلى الآب والابن والروح القدس وحدة متكاملة، بحيث إن تحويل الخبز والخمر إلى جسد
المسيح ودمه لا يتمّ إلاّ في نهاية الصلاة الافخارستية، أي بعد استدعاء الروح
القدس.

2-
تعليم الآباء

أ)
آباء الكنيسة الشرقية

يؤكّد
الآباء أنّ التحويل يتمّ بقدرة كلمات التأسيس وفعل الروح القدس في آنٍ معاً.
فلنقرأ بعض أقوالهم. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:

“ليس
الإنسان هو الذي يجعل القرابين تصير جسد المسيح ودمه، بل المسيح نفسه الذي صُلِب
لأجلنا. فالكاهن هو هنا يمثّله وينطق بالكلمات ولكن القدرة والنعمة هما من الله.
يقول: هذا هو جسدي. وهذا القول يغيّر طبيعة القرابين. هكذا، أن كلمة المخلّص، إذ
يُنطَق بها، تكفي لتُتمّ أكمل ذبيحة على مائدة كل الكنائس، منذ الفصح الأخير الذي
أقامه يسوع المسيح حتى يومنا وحتى مجيئه الثاني”. ثم يضيف: “الخبز يصير
خبز السماء، لأن الروح القدس يأتي ليحلّ عليه. ما هو أمامنا ليس عمل القدرة
البشرية. أن الذي فعل ذلك في العشاء الأخير يفعله الآن أيضاً. نحن نقوم بدور
الخدمة، ولكنّه هو الذي يقدّس ويحوّل”.

“أنتقل
الآن إلى الاحتفال بأسرارنا المقدّسة. معجزة أخرى، وذهول آخر. هنا أيضاً الكاهن
واقف، ولكن ما سيُنزله ليس نار السماء بل الروح القدس نفسه. يصلّي بإلحاح لا لكي
تنزل نار السماء على الضحية وتحرقها، بل لكي تحلّ النعمة الإلهية على القرابين،
وبواسطتها تمتلك نفوس الحاضرين، وتضرمها وتجعلها أكثر لمعاناً من الفضة المنقَاة
بالنار”.

والقديس
كيرلس الأورشليمي:

“ان
الخبز والخمر في الافخارستيا، قبل الاستدعاء المقدس للثالوث المسجود له، هما خبز
وخمر اعتياديان. أما بعد الاستدعاء، فيصير الخبز جسد المسيح، والخمر دم
المسيح”.

“بعد
أن نتقدّس بهذه الترانيم، نبتهل إلى الله المحب البشر أن يرسل الروح القدس على
القرابين الموضوعة، لكي يجعل من الخبز جسد المسيح، ومن الخمر دم المسيح. فكل ما
يلمسه الروح القدس، يتقدّس ويتحوّل”.

وتيودوروس
المصيصي يرى في الروح القدس ينبوعاً لعدم الفساد:

“ان
جسد المسيح ربّنا الذي هو من طبيعتنا كان أولاً مائتاً بالطبيعة، ولكن بواسطة
القيامة انتقل إلى طبيعة خالدة وغير منحوّلة. فعندما يقول الكاهن أن هذا الخبز
وهذا الخمر هما جسد المسيح ودمه، يكشف بوضوح أنهما صارا كذلك بحلول الروح القدس،
وبه قد صارا خالدين، لأنه هكذا أيضاً ظهر جسد ربنا عندما مُسِح ونال الروح. والآن
أيضاً، وعلى النحو عينه، عندما يأتي الروح القدس، نعتقد أن الخبز والخمر المقدّمان
ينالان نوعاً من المسحة بالنعمة النبيّ تحلّ فيهما. لذلك نؤمن أنهما جسد المسيح
ودمه، الخالدان، غير الفاسدين، غير المتألمين وغير المتحولين بالطبيعة، كما حدث
لجسد ربنا بالقيامة”.

والقديس
يوحنا الدمشقي، في تفسيره للفظة “رسوم” التي يستعملها القديس باسيليوس
في الليتورجيا، بعد كلمات التأسيس، إذ يقول: “قرّبنا رسوم جسد مسيحك ودمه
المقدّسين”، يؤكّد أن هذه اللفظة تُستعمل قبل التقديس، ويعني بالتقديس
استدعاء الروح القدس:

“القربان
إنّما هو جسد بالحقيقة متّحد باللاهوت، وهو الجسد المأخوذ من العذراء القديسة، ليس
على أنّه الجسد الذي كان قد ارتفع إلى السماء ينحدر منها، بل إنّ الخبز نفسه
والخمر يتحوّلان إلى جسد الرب ودمه. وإذا تساءلتَ عن الطريقة كيف حدث ذلك، فيكفيك
أن تسمع بأنّ ذلك يتمّ بالروح القدس. فكما أنّ الربّ قد شخّص لذاته وبذاته جسداً
بواسطة الروح القدس من والدة الإله القديسة، ولسنا نعرف أكثر من ذلك سوى أنّ كلام
الله صادق ونافذ وقدير ولا يمكن تفسير كيفيّته، غير أنّه ليس مستهجناً أيضاً هذا
القول بأنه، كما يتحوّل تحوّلاً طبيعياً الخبز بالأكل والخمر والماء بالشرب إلى
جسد ودم الآكل والشارب، ولا يتحوّلان إلى جسم آخر غير جسمه الأوّل، كذلك قُلْ عن
خبز التقدمة والخمر والماء باستدعاء الروح القدس وحلوله. فإنّهما يتحوّلان تحويلاً
يفوق الطبيعة إلى جسد المسيح ودمه. ولا يكونان اثنين، بل هما واحد وهو هو نفسه..

وإذا
كان بعضهم يسمّي أبضاً الخبز والخمر رسماً أو بديلاً لجسد الرب ودمه- كما يفعل ذلك
باسيليوس اللابس الله-، فلا يكون ذلك بعد التقديس، بل هم يسمّون التقدمة نفسها
هكذا قبل تقديسها”

ب)
آباء الكنيسة الغربية

نجد
أيضاً لدى آباء الكنيسة الغربية بعض النصوص التي تؤكّد دور الروح القدس في تحويل
القرابين. يقول القديس اوغسطينوس:

“إنّ
ما ندعوه جسد المسيح ودمه ليس كلامه، ولا الرقّ، ولا الحبر، ولا نغمات الكلمات
المعبِّرة، ولا العلامات المكتوبة على الأوراق. ما نفكّر به فقط هو ما تقدّمه لنا
ثمار الأرض، والذي بعد أن يتقدّس بالصلاة السرية نتناوله حسب الطقوس في سبيل
خلاصنا الروحي وتذكاراً لآلام الرب لأجلنا. إن يد البشر هي التي تصنع هذه الأشكال
المنظورة، أمّا التقديس الذي يجعل متنها هذا السرّ العظيم، فلا يأتيها إلاَّ من
العمل غير المنظور، عمل روح الله”.

وكذلك
يقول باسكاز رادبير وهو رئيس دير كوربيا في فرنسة (790- 865) اشتهر في تأكيد حقيقة
حضور جسد المسيح ودمه في سرّ الافخارستيا، وعلاقة الافخارستيا بالتجسّد:

“ليس
من العجب أن الروح القدس الذي، دون زرع بشري، صنع بشرية المسيح في أحشاء مريم،
يصنع كل يوم، بتقديس السرّ بقدرته غير المنظورة، من جوهر الخبز والخمر جسد المسيح
ودمه”.

“لقد
أراد المسيح أن يصير هذا الخبز وهذا الخمر حقاً جسده ودمه، في السرّ، بتقديس الروح
القدس، في عمل قدرة خلاَّقة، لكي يضحّي بذاته كل يوم سرّياً لأجل حياة العالم،
وكما ان الروح القدس خلق جسده من العذراء دون علاقة جسدية، هذا الروح عينه هو الذي
يقدّس سرّيًّا جسدَ المسيح عينَه ودمَ المسيح عينَه من جوهر الخبز والخمر”.

والقديس
توما الأكويني الذي يركّز في لاهوته على فعّالية “كلمات الرب” في تقديس
القرابين، لا يغفل ذكر عمل الروح القدس، إذ يقول:

“ان
جسد المسيح هو في هذا السرّ على نحو روحي، أي بشكل غير منظور، وبقدرة الروح
القدس”.

وصيغة
الإيمان التي فرضها البابا اينوشنسيوس الثالث سنة 1208 على القوديين توضح ان الافخارستيا
تتمّ “بكلمة الخالق وقدرة الروح القدس”.

نستنتج
من كل هذه النصوص أن التقاليد اللاهوتية في الشرق والغرب تُجمع على القول إن تحويل
الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه لا يمكن أن يتمّ إلاَّ بحلول قدرة الروح القدس.
أمّا مسألة تحديد اللحظة التي تمّ فيها هذا التحويل- ذكر “كلمات الرب”
في التقليد الغربي، أو “استدعاء الروح القدس” في التقليد الشرقي- فهي
مسألة ثانوية. المهمّ هو الاعتقاد العميق أنّ الروح القدس هو الذي يعمل في هذا
التقديس.

3-
وثيقة ميونيخ

وهذا
ما توصّلت إليه لجنة الحوار اللاهوتي الدولية المختلطة بين الكنيسة الكاثوليكية
والكنيسة الارثوذكسية في وثيقة ميونيخ (30 حزيران- 6 تموز 1982). ففي الكلام على
عمل الروح القدس، تؤكّد الوثيقة الاتحاد الوثيق بين رسالة الروح القدس ورسالة
الابن:

“ان
رسالة الروح القدس تبقى متّصلة برسالة الابن. والاحتفال بالافخارستيا يكشف عن
القوى الالهيّة النبيّ يظهرها الروح القدس العامل في جسد المسيح:

“فالروح
القدس يهيّئ مجيء المسيح بإعلانه بالأنبياء، وتوجيه تاريخ الشعب المختار نحوه،
وجعل العذراء مريم تحبل به، وفتح القلوب لكلمته.

“والروح
القدس يظهر المسيح في عمله كمخلّص، في الانجيل الذي هو المسيح بعينه. أن الاحتفال
الافخارستي هو الذكرى: فما حدث مرة يحدث الآن حدوثاً حقيقياً، ولكن سرّيًّا.
الاحتفال بالافخارستيا هو الزمن المقدّس بالذات لحدوث السرّ.

“والروح
القدس يحوّل القرابين المقدّسة إلى جسد المسيح ودمه، ليتمّ نموّ الجسد الذي هو
الكنيسة. وبهذا المعنى، الاحتفال كله هو استدعاء للروح القدس يزداد بياناً في بعض
الأوقات. فالكنيسة هي في حالة استدعاء دائمة.

“والروح
القدس يُشرك بجسد المسيح الذين يشتركون في الخبز الواحد والكأس الواحدة. وانطلاقاً
من هذا الواقع، تظهر الكنيسة ما هي عليه، سرّ الشركة الثالوثية، “مسكن الله
مع البشر” (رؤ 21: 3).

“ان
الروح القدس، بجعله حالياً ما فعله المسيح مرة لا غير -أي حدث السرّ- يتمّمه فينا
جميعاً. إنّ هذه العلاقة بالسرّ، التي تظهر بوضوح أكثر في الافخارستيا، موجودة
أيضاً في سائر الأسرار، التي هي كلّها أعمال الروح القدس. لذا فإن الافخارستيا هي
محور الحياة الأسرارية”.

ان
هذا النص يضع استدعاء الروح القدس في الافخارستيا ضمن التدبير الخلاصي بمجمله.
وهذا ما يتفق عليه الشرق والغرب. فكل ما له علاقة بالعمل الإلهي الذي يسمو قدرة
الاسنان يُعزَى إلى الروح القدس: من الخلق إلى تجسّد الكلمة في أحشاء مريم العذراء
إلى قيامة المسيح (رو 8: 11؛ 1 بط 3: 18). كذلك يُعزى أيضاً إلى الروح القدس تحويل
الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه.

نضيف
أن الهدف الأخير لهذا التحوّل الافخارستي هو اتحاد البشر بالمسيح لتقديس نفوسهم
وأجسادهم. وهذا الاتحاد لا يمكن أن يتمّ إلاَّ “بالروح”. يقول المسيح عن
الروح القدس: “إنّه سيمجّدني، لأنّه يأخذ ممّا لي ويخبركم” (يو 16: 14).
ينطبق أيضاً هذا القول على الافخارستيّا. فالروح القدس هو الذي يجعل المؤمن يضطلع
بسرّ المسيح الخلاصي، ويجعل الذي يتناول جسد المسيح ودمه يتّحد بكيان المسيح
اتحاداً عضوياً. إن عمل المسيح وعمل الروح القدس ليسا عملين متوازيين. بل هما عمل
واحد: عمل الله الذي يقدّس الإنسان بكلمته وروحه.

ثانياً-
الافخارستيا سرّ حضور الكنيسة

لا
بدّ أن القارئ قد لاحظ، لدى مطالعته صلوات الليتورجيا وتفسيرات الآباء، أن عمل
الروح القدس لا يقتصر على تحويل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه، بل يهدف إلى
تقديس المؤمنين الذين يتناولون منهما، وإلى تحقيق كمال وحدة الكنيسة جسد المسيح.
فالكنيسة جسد المسيح ومسكن الروح القدس هي التي تقيم الافخارستيا، ولكن
الافخارستيا بدورها تحقق كمال الكنيسة.

1-
الكنيسة تقيم الافخارستيا

الافخارستيا
ليست عمل فرد، أكاهناً كان أم أسقفاً، بل عمل الكنيسة بمجملها. والكنيسة، عندما
تقيم الافخارستيا، تعلم أنها إنّما تقيمها باسم المسيح الحاضر فيها وبقدرة الروح
القدس الذي يملأها.

“حيثما
اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فأنا أكون هناك في وسطهم” (متى 18: 20). يقول
المجمع الفاتيكاني الثاني: “ان كل احتفال ليترجي هو عمل المسيح الكاهن وعمل
جسده الذي هو الكنيسة” (دستور في الليتورجيا، 7). وفي ليتورجيا القديس يوحنا
الذهبي الفم، يقول الكاهن في صلاة الشيروبيكون مخاطباً السيد المسيح: “ارتضِ
بأن أقدّم لك هذه القرابين أنا عبدك الخاطئ غير المستحق، فإنّك أنت المقرِّب
والمقرَّب، والقابِل والموزَّع، أيها المسيح إلهنا”. إنّ المسيح حاضر في
كنيسته بالإيمان والمحبة، وحاضر في الذين اعتمدوا باسمه واشتركوا في كهنوته
الملوكي، وحاضر في شخص الأساقفة والكهنة الذين بالرسالة اشتركوا في كهنوت الخدمة
وصاروا قادرين على جعل المسيح حاضراً في سرّ الافخارستيا لتقديس المؤمنين. فالمسيح
هو الكاهن الأوحد، والمسيحيون يشتركون في كهنوته كلٌّ حسب وظيفته العضوية في جسد
المسيح، حسب ما يؤتيه الروح في الكنيسة (راجع 1 كو 12: 4- 11، 27- 30).

لذلك
لا يحقّ لأيّ مسيحي أن يقيم الافخارستيا، بل الذي حصل بالرسامة الكهنوتية على تلك
السلطة. لأن الافخارستيا ليست عمل فرد بل عمل الكنيسة كلّها. يقول أوليقييه كليمان:

“الكنيسة
الواحدة المقدّسة الجامعة الرسولية تظهر في ملئها في الجماعة الافخارستيّة التي
يرئسها الأسقف الذي يفوّض كهنته مهمّة تمثيله في مختلف الرعايا، والذي، لكونه صورة
المسيح، يجعل شعب كنيسته المحلية يأتلف في جسد إفخارستي. فالكنيسة إذاً هي في
الأسقف، ولكن الأسقف من جهته هو في الكنيسة، كخادم لشركتها. ومجلس الكهنة هو مجموع
الكهنة الملتئمين حول أسقفهم”.

وهذا
هو تقليد الكنيسة منذ الآباء الرسوليين. يقول القديس اغناطيوس الانطاكي، الذي هو
ثاني أسقف لأنطاكية، وقد عاش في أواخر القرن الأوّل وبداية القرن الثاني:

“اتبعوا
جميعكم الأسقف كاتباع يسوع للآب، والكهنة كاتباعكم للرسل، أمّا الشمامسة فاحترموهم
كناموس الرب. لا يفعلنّ أحد منكم شيئاً يتعلّق بالكنيسة بدون إرادة الأسقف. وسرّ
الافخارستيّا هو السرّ الذي يتمّمه الأسقف أو من أوكل إليه ذلك. حيث يكون الأسقف،
هناك يجب أن تكون الرعية، كما أنّه حيث يكون المسيح، هناك تكون الكنيسة الجامعة.
بدون الأسقف لا يجوز العماد ولا ولائم المحبة. ما يوافق عليه الأسقف هو المقبول
عند الله. وكلّ ما يفعله يكون شرعيًّا”.

والأسقف
والكهنة يعلمون أن الافخارستيا التي يقيمونها وفقاً لإيمان الكنيسة وإرادتها، تكون
صحيحة، مهما كانوا هم خاطئين وغير مستحقين. وكل أسقف أو كاهن لا يقيم الافخارستيّا
وفقاً لإيمان الكنيسة وإرادتها، لا يمكنه أن يُتمّ السرّ ويحقّق حضور المسيح.
فالكاهن الذي ينطق بكلمات التقديس على الخبز والخمر خارج إطار الليتورجيا الالهية،
للهزء والسخرية، لا يكرّس شيئاً، لأنّه لا يصنع ما تريد الكنيسة صنعه.

فالكنيسة
هي سرّ حضور المسيح، والافخارستيا هي سرّ حضور الكنيسة.

2-
الافخارستيّا تكوِّن الكنيسة

“بما
أنّ الخبز واحد، فنحن الكثيرين جسد واحد، لأنّا جميعاً نشترك في الخبز
الواحد” (1 كو 10: 17).

لقد
توسّع آباء الكنيسة في هذا القول، وأظهروا كيف أن الافخارستيا تكوّن الكنيسة جسد
المسيح الواحد من عناصر متنوّعة، وكيف تصير الكنيسة، بتناولها جسد المسيح ودمه
المقرَّبين لأجل حياة العالم، قرباناً على مثال المسيح رأسها.

أ)
الافخارستيّا تتمّ وحدة الكنيسة

يقول
القديس يوحنا الذهبي الفم:

“كما
أنّ الرأس والجسد يكونان إنساناً واحداً، كذلك المسيح والكنيسة هما كائن واحد.
وتلك الوحدة تتحقّق بالطعام الذي أعطانا إيّاه، وهو بريد أن يظهر محبته لنا. لذلك
اتّحد فينا اتّحاداً وثيقاً، وكالخميرة دمج جسده بجسدنا، لكي نصير كائناً واحداً
كما أنّ الجسد مرتبط بالرأس.. وهكذا نصير جسداً واحداً، أعضاء من جسده، وعظاماً من
عظامه، كما يقول الكتاب”.

الافخارستيّا
تجدّد وحدة البشر الكيانية وتثبّتها وتعمّقها. بالتناول من جسد المسيح الواحد،
يصير الجميع كائناً واحداً ومسيحاً واحداً، وحياة واحدة عبر الزمان والمكان. وهكذا
فإنّ الافخارستيا هي في أساس “جامعية” الكنيسة. فإذ يشترك الجميع في
الحقيقة الواحدة التي هي حياة محبة، يصيرون واحداً، رغم وجودهم كأشخاص متميّزين
الواحد عن الآخر:

“نحن
منقسمون إلى أشخاص متميّزين، فلكلّ من بطرس ويوحنا وتوما ومتى كيانه الشخصي الخاص؛
ولكنّنا جميعاً نُسبَك في جسد واحد في المسيح عندما نتغذّى من جسده الموحِّد”
(القديس كيرلس الاسكندري).

وهذا
ما تطلبه الصلاة الافخارستية في ليتورجيا “الديداكيه” التي تعود إلى
النصف الأول من القرن الثاني:

“كما
أن هذا الخبز الذي كان مبعثراً على الجبال قد جُمع ليصير خبزاً واحداً، هكذا إجمع
كنيستك من أقاصي الأرض في ملكوتك”.

وكذلك
ليتورجيا القديس باسيليوس:

“أما
نحن جميعَ المشتركين في الخبز الواحد والكأس الواحدة، فاجعلنا متّحدين بعضنا ببعض
في شركة الروح القدس الواحد”.

والقديس
اوغسطينوس يوضح العلاقة بين الكنيسة جسد المسيح وجسد المسيح الافخارستي:

“إن
كنتم جسد المسيح، فهوذا سِرُّكم موضوع على مائدة الرب، انكم تنالون سرَّكم. تجيبون
“آمين” (انه كذلك) على ما تنالونه، وتصدّقون عليه. تسمع هذه الكلمة: “جسد
المسيح”، وتجيب: آمين. كن إذاً عضواً في جسد المسيح، لكي تكون
“الآمين” التي تقولها صادقة.. كونوا ما ترون، ونالوا ما أنتم عليه”.

الافخارستيّا
تكوّن الكنيسة جسد المسيح. وبما أن هذا الجسد هو، في بشرية المخلّص الشخصية،
مصالحة والتئام، فإنه يحقّق المصالحة والشركة بين أعضاء الكنيسة، كما يحقّق
المصالحة والشركة مع الآب. الافخارستيا هي سر العهد الجديد بين البشر والله، وبين
البشر أنفسهم، وذلك بواسطة الروح القدس الذي يجعل من الخبز جسد المخلص الحامل
البشرية المصالحة مع الله، ومن الكأس دم العهد الجديد الذي يغفر الخطايا ويختم
الشركة.

من
هنا يبدو لنا واضحاً الرباط بين المعمودية والميرون والافخارستيا، تلك الأسرار
الثلاثة التي تُعطَى معاً في الشرق، حتى للأطفال. فهذه الأسرار الثلاثة تندرج ضمن
دينامية واحدة تهدف إلى لقاء حقيقي بين المؤمن والرب في الشركة الافخارستية.
بالمعمودية يصير الإنسان ابن الله بالتبنّي. ولكن هذا التبنّي لا يصل إلى كماله
إلاَّ متى تناول المؤمن في جسده جسد ودم الابن القائم من بين الأموات. إذّاك يدخل
حقًّا في عالم القيامة، ويجلس مع الكنيسة كلها على مائدة الوليمة السماوية التي
يشترك فيها منذ الآن. المعمودية هي سر الدخول في الكنيسة، والافخارستيا هي سرّ
الكنيسة في كمال حقيقتها.

ب)
الافخارستيا تحوّل الكنيسة إلى قربان محبة مع المسيح

“هذا
هو جسدي الذي يُبذَل لأجلكم.. هذا هو دمي الذي يُهَراق عنكم..” الافخارستيا
هي سرّ المسيح الذي يعطي ذاته حتى الموت في سبيل أحبّائه. ولكن هذا السرّ الذي
يعيد حضور حقيقة المسيح الذي أعطى ذاته، لن يصل إلى مثل حقيقته اليوم إلاَّ من
خلال المسيحيين الذين يتناولون جسد ودم المسيح في سرّ عطائه ليصيروا به وعلى مثاله
جسداً مبذولاً ودماً مهراقاً لأجل حياة العالم.

الافخارستيا
هي سرّ، أي علامة حسّية تشير إلى حقيقة المسيح. ولكنّ الافخارستيا بحاجة إلى أن
تتخطّى عالم العلامات لتُظهر في عالم البشر حقيقة المسيح، وقصد الله الخلاصي،
الافخارستيا تُذكّر الكنيسة برسالتها: الكنيسة تتغذّى بجسد ودم المسيح المخلّص،
لتعمل مع المخلّص على خلاص العالم. انها تتحوّل إلى جسد المحبة لتنشر المحبة في
عالم الكراهية والبغض والحقد والأنانية، وتنشر العدل في عالم الظلم والذلّ والقهر
والدموع.

لقد
عبّرت الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الارثوذكسية بكلمات رائعة في “وثيقة
ميونيخ” عن العلاقة بين الافخارستيا والكنيسة:

“ان
الاحتفال الافخارستي بمجمله يحقّق حضور سر الكنيسة الثالوثي. ففيه ننتقل من سماع
الكلمة، الذي يصل إلى قمته في إعلان الإنجيل- ذاك الإعلان الرسولي للكلمة الذي صار
جسداً- إلى الشكر للآب، ثم إلى ذكر ذبيحة المسيح، فإلى الشركة فيه بفضل صلاة
الاستدعاء إلى الروح القدس التي تقام في الإيمان. فاستدعاء الروح القدس في
الافخارستيا ليس ابتهالاً لأجل تحويل الخبز والكأس تحوّلاً سرّيًّا وحسب. بل هو
صلاة لأجل تحقيق شركة الجميع الكاملة في السرّ الذي أوحى به الابن.

“بهذه
الطريقة يمتدّ حضور الروح القدس نفسه إلى جسد الكنيسة كلّه بواسطة مشاركة سرّ
الكلمة المتجسّد.. أن الروح القدس الذي ينبثق من الآب (يو 15: 26) كمن مصدر واحد
في الثالوث، والذي صار روح تبنّينا (رو 8: 15)، لأنّه أيضاً روح الابن (غلا 4: 6)،
يعطيه لنا بصورة خاصة في الافخارستيا ذاك الابن الذي علبه يستقرّ في الزمن وفي
الأبد (يو 1: 32).

“لذلك
يتمّ السرّ الافخارستي في الصلاة التي تجمع بين الكلمات التي بها أسسّ الكلمة
المتجسّد السرّ، واستدعاء الروح القدس الذي به تبتهل الكنيسة، يحرّكها الإيمان،
وتطلب إلى الآب بالابن أن يرسل الروح القدس، ليكتمل كلّ شيء في الوحدة، في تقدمة
الابن المتجسّد الواحدة. بالافخارستيا، يتّحد المؤمنون بالمسيح، الذي يقدّم ذاته
معهم إلى الآب، وينالون القدرة على أن يقدّموا ذواتهم بروح التضحية بعضهم لأجل بعض،
كما أنّ المسيح قدّم ذاته للآب لأجل الكثيرين، معطياً هكذا ذاته للبشر.

“إنّ
هذا الاكتمال في الوحدة، الذي يتمّمه معاً الابن والروح، وهما يعملان بالعودة إلى
الآب وإلى قصده، هو الكنيسة في ملئها”.

لذلك
بعد استدعاء الروح القدس على القرابين وعلى الذين سيتناولون منها، تتوسع الذكرى
لتشمل الكنيسة كلّها في جميع أعضاء جسد المسيح: القديسين منهم، والراقدين،
والأحياء:

القديسين:
“نقرّب لك أيضاً هذه العبادة الروحية لأجل الذين توفّوا على الإيمان: الأجداد،
والآباء، ورؤساء الآباء، والأنبياء، والرسل، والكارزين، والمبشّرين، والشهداء، والمعترفين،
والنسّاك، وروح كل صدّيق توفي على الإيمان، خصوصاً سيدتنا الكاملة القداسة،
الطاهرة، الفائقة البركات، المجيدة، والدة الإله الدائمة البتولية مريم. ولأجل
القديس النبي السابق يوحنا المعمدان، والقديسين المجيدين الرسل الجديرين بكل مديح.
والقديس (فلان) الذي نقيم تذكاره، وجميع قديسيك. فافتقدنا اللهم بتضرّعاتهم

الراقدين:
“واذكر جميع الذين سبقوا فرقدوا على رجاء القيامة للحياة الأبدية. وأرحهم حيث
يشرف نور وجهك

الأحياء:
“اذكر يا رب جميع الأساقفة.. والكهنة والشمامسة وجميع الاكليروس. “نقرّب
لك أيضاً هذه العبادة الروحية لأجل المسكونة، ولأجل الكنيسة المقدسة الجامعة
الرسولية، ولأجل العائشين في النقاوة والسيرة الحميدة، ولأجل حكامنا.. وجميع
مساعديهم وجنودهم..

“اذكر
يا رب البلدة التي نحن قاطنون فيها.. وكل مدينة وقرية والمؤمنين القاطنين فيها.
اذكر يا رب المسافرين.. والمرضى والتعبين والمسبيين وهَب لهم الخلاص. اذكر يا رب
مقدِّمي الثمار، والمحسنين إلى كنائسك المقدسة، وذاكري البائسين، واسبغ مراحمك
علينا أجمعين”.

وينتهي
ذكر الكنيسة بالطلب إلى الله أن يتوحّد الجميع لمجّدوا بفم واحد وقلب واحد اسم
الثالوث القدوس:

“وأعطنا
أن نمجّد ونسبّح بفم واحد وقلب واحد اسمك الجدير بكل كرامة والعظيم الجلال، أيها
الآب والابن والروح القدس، الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين. آمين”.

هذا
ما يهدف إليه سر الافخارستيا: جمع أبناء الله المشتّتين في أنحاء المسكونة كلها،
ليصيروا جسداً واحداً، فتتكوّن “كنيسة معترفة”، تعترف وتمجّد وتسبّح بفم
واحد وقلب واحد اسم الاله الواحد، الآب والابن والروح القدس.

من
هنا تتّضح لنا أهمية المناولة في القداس الإلهي. فالمناولة هي جزء أساسيّ في سرّ
الافخارستيّا الذي لا يكتمل بدونها. لذلك تطلب الكنيسة من الكاهن أن يتناول في كل
قداس يحتفل به، حتى ولو أقام عدّة قداديس في اليوم الواحد. كذلك تدعو المؤمنين إلى
التناول في القداس الذي يشتركون فيه. فاشتراكهم في القداس الإلهي لا يكون كاملاً
إلاَّ بالمناولة التي بها يصيرون واحداً مع المسيح وبالمسيح.

قد
نتساءل: لماذا أنشأ المسيح سرّ الافخارستيا، ولماذا طلب من رسله أن يصنعوا ما صنع
هو في العشاء السري: “اصنعوا هذا لذكري”؟ الجواب هو أنه على مائدة
الهيكل، كما في العشاء السرّي، كما على الصليب، وكما في عماوص، المسيح يسوع كلمة
الله وابن الله يقدّم لنا ذاته قرباناً ومثالاً. في جسده الذي يُبذَل وفي دمه الذي
يُهَراق نكتشف أن الله محبة. الله المحبة يقدِّم لنا أمثولة واقعية في هذا الخبز
الذي يُكسَر، ويقرَّب بصمت. ونحن المؤمنين، إذ نتناول قربان المحبة هذا، نلتزم أن
نصير على مثاله قربان محبة على هيكل العالم.

ثالثاً-
الافخارستيا والملكوت الاسختولوجي

في
نشيد الليالي الأربع الذي يفسّر فيه “الترجوم” معنى عيد الفصح، تذكّر
الليلة الرابعة من الليالي المحفوظة في تذكارات الله “بيوم الفداء الأخير،
الذي فيه يتحطّم نير العبودية وتضمحلّ الأجيال الفاسدة.. ويأتي المسيح من العلاء
ويتحقق الفداء الشامل لجميع الأجيال”.

كل
فصح هو نبوءة عن اليوم الاسختولوجي والماسيوي. وفيه كان اليهود يقولون: “في
هذه الليلة خُلّصوا، وفي هذه الليلة سيُخلَّصون”. وفي منتصف الليل، كانت
تُفتَح أبواب الهيكل لاستقبال الله، أو موفَده، الذي سوف يدخل منتصراً. ألم يقل
ملاخي: “ها أناذا مرسل ملاكي، فيهيّئ الطريق أمامي، وفجأة يأتي إلى هيكله
السيد الذي تلتمسونه، وملاك العهد الذي ترتضون به، ها إنّه آتٍ” (ملا 3: 1).

وفي
العشاء الفصحي كانت تُقرأ المزامير 113- 118 التي تدعى “مزامير
التسبيح”؛ والآية 24 من المزمور 118 “هذا هو اليوم الذي صنعه الرب،
فلنفرح ولنتهلّل به”، كانت تُطبَّق على هذا اليوم الاسختولوجي الذي سيملأ فيه
الله العالم بالفرح في آخر الأزمنة. ولما دخل يسوع إلى اورشليم للاحتفال بالفصح
الحقيقي، استقبله الشعب، وهم يهتفون بما جاء في الآية 26 من المزمور عينه: “مبارك
الآتي باسم الرب” (متى 21: 9). فبالمسيح تحقّق انتظار العهد القديم لليوم
الاسختولوجي.

1-
الاسختولوجيا في العشاء السري

لقد
صرّح المسيح أنّه لن يأكل بعد من هذا الفصح “حتى يتمّ بكماله في ملكوت الله..
ولن يشرب بعد من ثمرة الكرمة إلى أن يأتي ملكوت الله”، كما جاء في إنجيل لوقا.
ويقول في إنجيل متى: “اني لن أشرب من ثمرة الكرمة من الآن إلى اليوم الذي فيه
أشربه جديداً في ملكوت أبي” (26: 29).

يتضمّن
هذا القول إنباء المسيح عن موته: فهو لن يحتفل بفصح آخر مع الرسل، ولكنّه يتضمّن
أيضاً إنباء آخر، مفعماً رجاء، بأنّ الفصح سيتمّ يوماً بكماله في ملكوت الآب. وهذا
هو الخمر الجديد، أي يوم الفرح والابتهاج، ويوم الفداء للخليقة كلّها.

2-
انتظار الفصح الأبدي في الكنيسة الأولى

استناداً
إلى قول السيد هذا، عاشت الجماعة المسيحية الأولى تشدّها رغبة الاشتراك معه في
الوليمة السماوية في ملكوت الآب. لقد شربت معه خمر فصحه الأخير. والآن بعد أن
غادرها، وجدت نفسها وحيدة في معترك الحياة، بعيدة عن وجه سيّدها. فكانت كل مرّة
تجتمع لتناول “عشاء الرب”، تذكر عشاءه الأخير، وتذكر قيامته، وتنتظر
مجيئه الثاني، كما تقول معظم الليتورجيات بعد كلام التأسيس:

“اصنعوا
هذا لذكري. فإنّكم كلّمَا اشتركتم في هذا الجسد، وفي مزيج هذه الكأس، تذكرون موتي،
وتعترفون بقيامتي حتى مجيئي.

“اننا
نتذكر موتك، يا رب، ونعترف بقيامتك، وننتظر مجيئك. فلتشمل مراحمك كلّنا”
(القداس الماروني).

وانتظار
مجيء الرب يذكره أيضاً بولس الرسول في حديثه عن عشاء الرب:

“فإنّكم
كلّمَا أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس، تخبرون بموت الربّ، إلى أن يجيء”
(1 كو 11: 26).

كما
حفظ أيضاً بولس باللغة الآرامية هتاف الكنيسة الأولى لمجيء الرب: “ماراناتا”،
ويعني: “أيّها الرب، تعالَ” (1 كو 16: 22).

إنّ
ملكوت الله قد أتى في شخص يسوع المسيح: في حياته، وفي موته وقيامته. ولكنه سوف
يأتي في آخر الأزمنة، “وسيصنع الرب لكل الشعوب مأدبة.. ويبيد الموت على
الدوام، ويمسح السيد الربّ الدموع عن جميع الوجوه” (أش 25: 6- 7). وهذا ما
نطلبه في كل احتفال إفخارستي نصلي فيه مع المسيح ابن الله: “أبانا الذي في
السماوات.. ليأتِ ملكوتك”.

3-
الملكوت وعربون الروح

إنّ
ملكوت الله الذي ننتظر تحقيق كماله في آخر الأزمنة، قد حصلنا عليه منذ الآن: “ان
ملكوت الله في داخلكم” (لو 17: 30). وفي سرّ الافخارستيا يستجيب الله الدعاء
الذي نرفعه إليه في الصلاة الربيّة قائلين: “ليأتِ ملكوتك”، فيرسل إلينا
المسيح الافخارستي الذي حلّ عليه الروح القدس، الذي هو، حسب قول بولس الرسول،
“عربون ميراثنا” (اف 1: 14). وهذا الميراث هو “المسكن السماوي الذي
من الله، البيت الأبدي الذي لم تصنعه الأيدي”، كما يقول أيضاً بولس الرسول،
الذي يضيف: “والذي أعدّنا لذلك، هو الله، الذي أعطانا عربون الروح” (2
كو 5: 1، 5).

إن
ما نتناوله في سرّ الافخارستيا هو المسيح الحي والذي يُحيي بالروح القدس. يقول
القديس امبروسيوس:

“إنّه
خبز الحياة. من يأكل الحياة لا يمكنه أن يموت. تعالوا إليه واشبعوا، فإنه خبز
الحياة، تعالوا إليه واشربوا، فانه الينبوع. تعالوا إليه واستنيروا، فإنه النور.
تعالوا إليه وصيروا أحراراً، لأنه حيث يكون روح الرب فهناك الحرية”.

4-
بالافخارستيا تدخل الكنيسة في الاسختولوجيا

“كما
أن الآب الحيّ قد أرسلني وأنا أحيا بالآب، فمن يأكلني يحيَ هو أيضاً بي” (يو
6: 57).

ان
الحياة الإلهية التي أتتنا بالمسيح هي عينها تنسكب في الذي يتناول المسيح.
الافخارستيا هي دخول عالم السماء في عالم الأرض لكي تدخل الكنيسة التي على الأرض
في عالم السماء. وهكذا بالافخارستيا تدخل الكنيسة في الاسختولوجيا. فالاسختولوجيا
ليست فقط ما ننتظر تحقيقه في نهاية الأزمنة. بل هي البعد الآخر، البعد السماوي
والالهي الذي بالمسيح دخل عالمنا. عندما أخذ كلمة الله جسداً بشر اتحدت الأرض
بالسماء. والكنيسة جسد المسيح تكمّل في أسراراها هذا التجسّد. ان الصلة بين الله
والإنسان بعد التجسّد هي، حسب قول افدوكيموف، على شكل صليب. والكنيسة هي نقطة
التلاقي بين الخط العمودي الذي هو البعد الالهي، والخط الأفقي الذي هو البعد
الانساني. لذلك هي حقيقة إلهية وإنسانية معاً. وهذا ما يفسّره بوضوح اللاهوتي
المعاصر دورويل في نص رائع، إذ يقول:

“الافخارستيا
هي العالم الآخر الذي يدخل في الكنيسة حتى تدخل الكنيسة فيه. ذلك ان الافخارستيا
هي سر المسيح، والمسيح هو في شخصه الاسختولوجيا كلّها. إنّ قيامته لها سمة المجيء
الثاني. وليس من مجيء آخر خارجاً عن تلك القيامة التي فيها يُنهض الله مسيحه
لملاقاة الناس، والتي ستشّع يوماً بملء ضيائها على أنظار الجميع. المسيح هو نفسه
ملكوت السماوات. لذلك كل من هو في المسيح ومعه هو في السماوات (راجع أف 2: 6). ان
قيامة البشر أجمعين قد تمّت فيه، هو “المُقام بحسب روح القداسة في قدرة ابن
الله، بقيامته من بين الأموات” (رو 1: 4). ليس من قيامة للأموات خارجاً عن
تلك القيامة، التي فيها يلد الله ابنه، والتي ستؤتي يوماً مل ثمارها في أعضاء جسد
المسيح..

الاسختولوجيا
ندخل في العالم عن طريق الأسرار كلها. ولكن الافخارستيا هي السر الذي يجعل الكنيسة
متّصلة مع نهاية الزمن، بحيث أن يوم الاحتفال بها يحمل الاسم عينه الذي يُطلق على
المجيء الثاني: “يوم الرب”..

يدعو
المسيحيون الافخارستيا “مائدة الرب”، مائدة مَن هو ربّ اليوم الأخير،
انها سرّ مجيئه الموعود به: “لن أدعكم يتامى، إني آتي إليكم.. أنا ذاهب، ثم
أرجع إليكم” (يو 14: 18، 28). ما هو هذا المجيء المقصود به؟ انه المجيء
الوحيد، المجيء الأخير. الافخارستيا هي سرّ الرؤية الموعود بها: “عمّا قليل
ترونني” (يو 16: 16). ما هي تلك الرؤية التي يتكلّم عليها؟ انها الرؤية
الوحيدة، الرؤية الفصحية والأخيرة التي ستجعلنا “أمثاله” (1 يو 3: 2)،
عندما ستتمزّق كل الحجب؛ لكن هذه الرؤية حاضرة منذ الآن في الافخارستيا التي
تحوّلنا منذ الآن إلى جسد المسيح.

بقيامة
المسيح تمّت الدينونة الأخيرة: “الآن دينونة هذا العالم، الآن رئيس هذا
العالم يُلقى خارجاً، وأنا متى رُفعت عن الأرض اجتذبت إليّ الجميع” (يو 12: 31).
بالافخارستيا يترجّع صدى تلك الدينونة في الجماعة المسيحية:


فالافخارستيا تغفر الخطايا (متى 26: 28)، وتبرّر الإنسان الذي يفتح قلبه ليقبل
المسيح وهو يؤمن أن المسيح “أُقيم لأجل تبريرنا” (رو 4: 25)، وتدين الذي،
وهو يشترك في هذا الطعام، يرفض عطية المسيح الافخارستية، “ويأكل هكذا دينونة
لنفسه” (1 كو 11: 29- 34).


الافخارستيا تجمع المؤمنين أبناء الله وتُدخلهم فصح المسيح في لحظة قيامته،
لتجعلهم أبناء القيامة، وتغذّيهم بخبز الحياة: “من يأكل من هذا الخبز لا
يموت” (يو 6: 50). في اليوم الفصحي يقول الله للمسيح: “أنت ابني، وأنا
اليوم ولدتك” (أع 13: 33)، وتلك الولادة هي دخول المسيح إلى مجد الله الأبدي.
في الافخارستيا يتحقق هذا السر الفصحي في الذين يتناولون جسد المسيح ابن الله
الحيّ.

“ان
المؤمنين، باتحادهم بجسد المسيح في لحظة بنوّته، يجسرون بدالة على أن يقولوا: أبانا
الذي في السماوات. انهم يفهمون قول المسيح: من يأكل من هذا الخبز لا يموت (يو 6: 50).
انهم يؤمنون بالحياة الأبدية، لأنهم من الآن يعبرون دائرة الموت، ويحيون في ملاقاة
المستقبل الذي دعاهم إليه الله في شركة الابن (1 كو 1: 7- 9)”.


الافخارستيا هي الليتورجيا السماوية التي تدخل عالمنا، فتملأ الزمن دون أن تفجّره
بعد. إنّها تملأه بذكرى قيامة المسيح: “اذكر يسوع المسيح الذي أُقيم من بين
الأموات” (2 تي 2: 8). وهذه الذكرى هي ذكرى أحداث ماضية ولكنها أيضاً ذكرى
المستقبل. فكما قام المسيح، هكذا سنقوم نحن أيضاً. أن مستقبلنا هو المسيح الذي
نحمل صورته والذي في الافخارستيا يأتي لملاقاتنا لكي نتّصل به.

“في
الافخارستيا، تسم الاسختولوجيا بطابعها الخاص كلاًّ من الخبز والخمر والكلمات التي
يُنطَق بها، والمائدة والجماعة كلها. كلمات بشرية: هذا هو جسدي..، قد تكون في
ذاتها مجرّد ألفاظ، تصير حاملة قدرة يوم الرب. فبواسطتها نأكل على طريقة السماء،
حيث الطعام هو تبادل شركة بين الأشخاص. الجماعة كلها تحمل سمة الاسختولوجيا، إذ
تصير جسد الرب. في الافخارستيا، أُناس عاديون يرتفعون برأسهم نحو المستقبل، برأسهم
الذي هو المسيح”.


لكن الافخارستيا لا تُفرغ الزمن من ذاته، ولا الناس ولا الأشياء من واقع الحياة
اليومية. غير أنّها تفتح حقائق هذا العالم على عالم آخر، بحيث إنّ عالم الموت لا
يعود يدور على ذاته يائساً خاضعاً لحتمية العدم. ان “ارتفاع المسيح إلى
السماء” لم يبعده عن عالم البشر، بل على العكس من ذلك جعله أكثر قرباً من
العالم ومن البشر.

“ان
ارتفاع المسيح على السماء قد صيّره داخل العالم وداخل الزمن، وجعل منه عمق العالم،
إذ أدخل الأبدية في السنين التي تمضي، وأحيا إلى الأبد الناس المعرّضين للموت. ان
الافخارستيا، حيث الاسختولوجيا تسكن في جماعة، في أعمال وأشياء من هذه الأرض، وحيث
اليوم الأخير والوحيد هو داخل أسبوع البشر، تعلن أن يسوع قد قام وأوصل تجسده إلى ملئه،
وأنه يحيا كليّ القدرة في الموت الذي فيه يصل الوجود البشري ذروته.. الافخارستيا
هي الاحتفال برجاء كوني”.


لذلك يمكن القول ان الافخارستيا هي “سر تجلّي الكون في المسيح”. مّن
يأتي إلى الافخارستيا لا يأتي هرباً من العالم ليعيش بضع لحظات مع سيّده وحبيبه، بل
يأتي حاملاً معه في الخبز والخمر العالم كلّه ليحوّله إلى عالم ممتلئ من المسيح.
في ترنيمة الشيروبيكون في الطقس البيزنطي، نقول: “لنطرح عنّا كلّ اهتمام
دنيوي، لنستقبل ملك الكلّ”. في هذا إشارة إلى قول السيد المسيح: “لا
تهتّوا لأنفسكم بما تأكلون، ولا لأجسادكم بما تلبسون.. بل اطلبوا أولاً ملكوت الله
وبرّه، وهذا كلّه يُزاد لكم” (متى 6: 25، 33). ان الاهتمام الدنيوي الذي يجب
أن نطرحه عنا في الليتورجيا الافخارستية هو الاهتمام الذي يجعلنا نتوقف عند خارج
الأشياء، بحيث تنحجب عنّا رؤية داخلها وعمقها. وعمق الأشياء هو المسيح، هو الملكوت
الذي نحتفل بسرّه في الافخارستيا، حتى نمتلئ من حضوره. إذّاك من عمق كياننا
المتجلّي في المسيح نعمل على تجلّي المسيح في الكون، “وهذا كلّه يزاد
لنا” عندما يصير العالم كله جسد المسيح.

خلاصة

“اصنعوا
هذا لذكري!”

يتكلم
الكتاب المقدّس مراراً “على تذكّر الله للإنسان وتذكّر الإنسان لله. فكل
تذكّر متبادَل يفترض بعض الأحداث الماضية التي كنّا خلالها على علاقة الواحد منّا
بالآخر. وهو يرمي، باسترجاع تلك الأحداث، إلى تجديد تلك العلاقة. تلك هي بالضبط
الحال القائمة فعلاً بين الله وشعبه. إنّ الذاكرة في الكتاب المقدّس ترجع إلى
لقاءات قد حدثت في الماضي، أقيم خلالها العهد. إنّها باسترجاعها لتلك الأحداث
الأوّلية، تقوّي العهد، وتقودنا إلى أن نحيا “اليوم الحاضر” بكثافة
الحضور النابع من العهد. فالتذكار هنا مناسب للغاية، بحيث إنّه يتعلّق بأحداث ذات
طابع ممتاز، كانت تقرّر للمستقبل وكانت تتضمّنه مسبقاً. والتذكار الأمين للماضي هو
وحده يستطيع أن يكفل توجيه المستقبل توجيهاً صحيحاً”.

هذا
هو المعنى الكتابي للذِّكر. فذاكرة الله هي التفاتته نحو العالم ليحفظه ويحييه،
وذاكرة الانسان المؤمن هي نظره إلى الله ليشيد بعظائمه ويحيا من محبته. ان خطيئة
الانسان الكبرى هي “أن ينسى الله” ويتخلّى عنه مكتفياً بذاته.

ولكن،
إذا كان بإمكان الإنسان أن ينسى الله، فالله لا يمكنه أن ينسى الإنسان:

“قالت
صهيون: قد خذلني الرب ونسيني السيد. أتنسى المرأة مُرضَعها، فلا ترحم ابن بطنها؟
لكن، ولو أنّ هؤلاء نسين، لا أنساكِ أنا. ها أناذا على كفَّيَّ رَسَمتُكِ”
(أش 49: 15- 16).

سرّ
الافخارستيا هو سرّ الذّكر لكل ما صنعه الله تجاه الإنسان منذ الخلق حتى الخلاص في
يسوع المسيح: في حياته وموته وقيامته ومجيئه الثاني المجيد. إن أعمال محبة الرب
كلّها من الألف حتى الياء تتجمّع في هذا الذّكر، فيتحوّل الزمن المتقلّب المعرّض
للموت والانحلال إلى زمن ممتلئ من كثافة حضور الله. فالذّكر ليس مجرّد عودة إلى
الماضي، بل هو تجاوز لانقسام الزمن إلى ماضٍ وحاضر ومستقبل، ودخول في الحياة التي
تحيي، في ذاكرة الله المحيية حيث كل شيء هو لنا “العالم، والحياة، والموت،
الحاضر والمستقبل”، لأننا “نحن للمسيح، والمسيح لله” (1 كو 3: 22-
23).

في
سرّ الافخارستيا يتذكّر المسيحيون “عمل المسيح الخلاصي، أو بالأحرى يستعيدونه
ليتذكّره الرب (راجع أح 24: 7؛ عد 10: 9- 10؛ سير 50: 10؛ أع 10: 4، 31)، كتقدمة
متجدّدة باستمرار تستدعي نعمته”

“الليتورجيا
هي دخول الكنيسة في الزمن الجديد، زمن الخليقة الجديدة، التي أعادت ذاكرة المسيح
خلقها، إذ حوّلها إلى حياة وينبوع حياة، وأنقذها من تفكك “الماضي”
و”الحاضر” و”المستقبل”. في ليتورجيا الكنيسة، جسد المسيح،
الذي يحيا من حياته ومن ذاكرته، علينا “أيضاً وتكراراً” أن نتذكّر، وهذا
يعني أن ندرك ونعترف بما “تمَّ” لأجلنا، وفينا ومعنا، أن نتذكّر
معطياتنا: خلق العالم، وخلاصه بالمسيح، وملكوت الله الآتي في المجد، الذي أوحي لنا
وأعطي لنا في المسيح، وبتعبير آخر، فالمقصود هو أن نذكر الماضي والمستقبل كأمور
حيّة فينا، كأمور أُعطيت لنا وتحوّلت إلى حياتنا لتصيّرها حياة في الله”.

هذا
ما يعنيه سرّ الافخارستيا في اللاهوت المسيحي، وهذا ما تعنيه المناولة الافخارستية
التي لا بدّ منها ليكتمل اشتراك المؤمن في هذا السرّ. فبالمناولة يتمّ اتحاد
المؤمن اتحاداً كيانياً عميقاً بشخص السيد المسيح الذي هو الملكوت في ذاته. ويتاح
له أن يقول مع بولس الرسول: “لست أنا حيًّا بعد، بل هو المسيح يحيا فيّ”
(غلا 2: 20). العهد القديم، بدم الذبائح، كان يقود الانسان إلى المصالحة مع الله.
أما العهد الجديد بدم يسوع المسيح فيقودنا إلى أن نحيا حياة الله: “من يأكل
جسدي ويشرب دمي فله الحياة” (يو 6: 54). والحياة الإلهية هي أسمى ما يتوق
إليه الإنسان. ففي سرّ الافخارستيا نحصل على تلك الحياة وندخل في الملكوت السماوي
دخولاً سريًّا على رجاء الدخول الكامل في مجد الله في الدهر الآتي، حيث نشاهد الله
وجهاً لوجه، ونكون مع الرب إلى الأبد.

ونختم
بالصلاة التالية التي تُتلى في نهاية ليتورجيا القديس باسيليوس في الطقس البيزنطي،
وتوجز معاني سرّ الافخارستيا:

“لقد
تمّ وانتهى، على قدر طاقتنا، سرّ تدبيرك، أيها المسيح إلهنا،

فقد
حصلنا على تذكار موتك، ونظرنا رسم قيامتك،

وامتلأنا
من حياتك التي لا نهاية لها، وتمتّعنا بنعيمك الذي لا ينفد.

فارتضِ
أن نكون كلّنا أهلاً له في الدهر الآتي أيضاً،

بنعمة
أبيك الأزلي وروحك القدوس الصالح والمحيي،

الآن
وكل أوان وإلى دهر الداهرين. آمين”

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى