اللاهوت العقيدي

البَابُ الثالِث



البَابُ الثالِث

البَابُ
الثالِث

سِرُّ
الميرُون أو التثبيت

توطئة

“أنتم
الذين بالمسيح اعتمدتم، المسيح قد لبستم” (غلا 3: 27).

مقالات ذات صلة

إنّ
الذين يعتمدون بالمسيح يصيرون على مثاله مسحاء. ولكنّ المسيح كان ممتلئاً من الروح
القدس منذ الحبل به. إنّ بشريّته قد مُسحت بروح الألوهة منذ تكوينها في أحشاء مريم
العذراء. وما حلول الروح القدس عليه بعد معموديته إلاَّ اعتلان لما هو في عمق
كيانه. أمّا الذين يعتمدون بالمسيح فهم بحاجة إلى سرّ آخر يكمّل المعمودية، أي
يوصلها إلى كمال معناها، ويمنح المعتمدين “ختم موهبة الروح القدس”. وهذا
السرّ يدعوه التقليد الشرقي سرّ “مسحة الميرون” والتقليد الغربي سرّ
“التثبيت”.

لا
شك أنّ المعمودية تتمّ بقدرة الروح القدس، وفقاً لما جاء في كلام المسيح عن
الولادة “من الماء والروح” (يو 3: 5). والأسرار كلّها تتمّ بقدرة الروح
القدس، لأنّها أعمال إنسانية وإلهية في آنٍ واحد. والعنصر الإلهي فيها هو روح الله
الذي يعمل فيها. ولكنّ سرّ “مسحة الميرون” هو السرّ الذي يمنح الروح
القدس بنوع خاص للمعتمدين، لتكتمل فيهم صورة المسيح الممتلئ من الروح القدس
والشاهد للحق في حياته وقوته.

أوّلاً-
سرّ الميرون في الكتاب المقدّس

لقد
رأى آباء الكنيسة رموز هذا السرّ في العهد القديم، وكمال تحقيق تلك الرموز في
السيّد المسيح الذي مسحه الروح القدس بعد معموديته، وفي الرسل الذين مسحهم الروح
القدس يوم العنصرة، والذين كانوا يضعون أيديهم على مَن ينالون المعمودية ليمنحوهم
الروح القدس.

1-
رموز الميرون في العهد القديم

يقول
القدّيس كيرلّس الأورشليمي:

“يجب
أن تعلموا أنّ هذه المسحة لها مثالها في العهد القديم. إذ عندما أبلغ موسى أخاه
أمْرَ الله، ونصَّبه رئيس كهنة، غسله بالماء أوّلاً ثمّ مسحه (أح 8: 1- 12). ودُعي
هرون “مسيحاً” بسبب هذه المسحة التي كانت رمزاً. وكذلك عندما نادى رئيس
الكهنة بسليمان ملكاً، مسحه في جيحون بعد أن جعله يستحمّ (3 مل 1: 33- 39). وكلّ
هذه الأمور أُجريت لهم على سبيل الرمز. أمّا لكم فلم تكن رمزاً بل حقيقة واقعية.
إذ إنّ مبدأ خلاصكم يرجع إلى ذاك الذي مسحه الروح القدس. هو الباكورة حقًّا، وأنتم
العجين. “وإن كانت الباكورة مقدّسة، فالعجين كلّه مقدّس” (رو 11: 16).

2-
مثال السيّد المسيح

كذلك
يرى القدّيس كيرلّس الأورشليمي مثال مسحة الميرون في شخص السيّد المسيح:

“إنّكم
أصبحتم مُسَحاء بنيلكم ختم الروح القدس. كلّ شيء تمّ فيكم بالامتثال، بما أنّكم
صورة المسيح. فعندما تعمّد المسيح في نهر الأردنّ، ومنح المياهَ ملامسة ألوهيّته،
صعد منها، فحلَّ الروح القدس بذاته عليه، واستقرّ المشابه على المشابه له. وأنتم
كذلك، عندما خرجتم من بِرْكة المياه المقدّسة، قبلتم مسحة الميرون، وهي الصورة
الحقيقية لمسحة المسيح، وأعني بها الروح القدس الذي تحدّث عنه الطوباوي أشعيا إذ
تنبّأ عنه وتكلّم على لسان الرب قائلاً: “إنّ روح الربّ عليّ، لأنّه مسحني
وأرسلني لأُبشّر المساكين” (أش 61: 1؛ لو 4: 18).

3-
مثال الرسل

إنّ
الرسل اعتمدوا بموت المسيح وقيامته باشتراكهم الحيّ في آلام المسيح وموته وبمشاهدتهم
وجهاً لوجه المسيح القائم من بين الأموات، الذي تراءى لهم وثبّت إيمانهم به،
وبواسطة هذا الإيمان نقلهم من الموت إلى الحياة. تلك كانت معموديتهم. وفي هذه
المعمودية مُنحوا أيضاً الروح القدس، على ما جاء في إنجيل يوحنا: “خذوا الروح
القدس. فمَن غفرتم خطاياهم غُفِرَت لهم، ومَن أمسكتم خطاياهم أُمسِكَت ” (يو
20: 22).

إنّ
الروح الذي ناله الرسل في معموديتهم يوم قيامة المسيح هو روح الإيمان والولادة
الجديدة: فقد وُلدوا من جديد عندما تراءى لهم المسيح حيًّا، وكان هذا الترائي
فصحهم، أي عبورهم من الشكّ إلى الإيمان، ومن اليأس إلى الرجاء، ومن الموت إلى
الحياة. وتوما الرسول الذي لم يكن مع التلاميذ في الترائي الأوّل، تعمّد بدوره،
عندما تراءى المسيح للتلاميذ من جديد بعد ثمانية أيام، وثبّت إيمان توما (يو 20: 26-
29).

إنّ
معمودية الرسل هذه التي ملأتهم بروح الإيمان ومنحتهم حياة جديدة قد اكتملت يوم
العنصرة عندما حلّ عليهم روح الشهادة، ليكرزوا بالحياة الجديدة التي اختبروها في
قيامة المسيح وفي إيمانهم بهذه القيامة. وهذا معنى قول السيّد المسيح لتلاميذه قبل
صعوده إلى السماء:

“لا
تبرحوا أورشليم، بل انتظروا موعد الآب الذي سمعتموه منّي. فإنّ يوحنّا قد عمّد
بالماء، أمّا أنتم فستعمَّدون بالروح القدس بعد أيام قليلة.. إنّكم ستنالون قوّة
بحلول الروح القدس عليكم، فتكونون لي شهوداً في أورشليم وفي جميع اليهودية
والسامرة وإلى أقاصي الأرض” (أع 1: 4- 8).

ولمّا
حلّ عليهم الروح القدس يوم العنصرة “امتلأوا كلّهم من الروح القدس، وطفقوا
يتكلّمون بلغات أخرى كما آتاهم الروح أن ينطقوا” (أع 2: 1- 4)، وراحوا
يبشّرون بقيامة المسيح، ويكرزون بأنّ الله، إذ أقام يسوع، أعلن أنّه هو المسيح
والرب والمخلّص (أع 2: 36، 38).

ويروي
سفر أعمال الرسل حدثين يظهر من خلالهما وجود سرّ آخر يكمّل المعمودية ويمنح الروح
القدس للشهادة بالمسيح.

أ)
منح الروح القدس للّذين اعتمدوا في السامرة

الحدث
الأوّل هو ذهاب الرسل إلى السامرة لوضع الأيدي على الذين عمّدهم فيلبّس الشمّاس:

لمّا
آمنوا بما كان يبشّر به فيلبّس عن ملكوت الله واسم يسوع المسيح، أخذوا يعتمدون
رجالاً ونساء.. ولمّا سمع الرسل الذين في أورشليم أنّ السامرة قد قبلت كلمة الله،
أرسلوا إليهم بطرس ويوحنّا، فانحدرا وصلَّيا لأجلهم لكي ينالوا الروح القدس، إذ لم
يكن بعد قد حلَّ على أحد منهم، بل كانوا قد اعتمدوا فقط باسم الرب يسوع، عندئذٍ
وضعا أيديهما عليهم فنالوا الروح القدس” (أع 8: 12- 17).

إنّ
منح الروح القدس بواسطة وضع أيدي الرسل بعد معمودية قام بها شمّاس يبيّن الأهمية
الكبرى التي كانت الكنيسة الأولى تعلّقها من جهة على دور الروح القدس لإكمال
المعمودية، ومن جهة أخرى على دور الرسل في المحافظة على وحدة الكنيسة بمنحهم هم
أنفسهم الروح القدس الواحد لجميع المعتمدين.

ب)
بولس الرسول وتلاميذ أفسس

الحدث
الثاني هو لقاء بولس مع بعض التلاميذ في أفسس:

“فقال
لهم: هل نلغ الروح القدس لمّا آمنتم؟ فقالوا له: بل ما سمعنا بأنّه يوجد روح قدس.
فقال: بأيّ معمودية إذن اعتمدتم؟ قالوا: بمعمودية يوحنا. حينئذٍ قال بولس: إنّ
يوحنا قد عمّد بمعمودية توبة، وكان يقول للشعب ليؤمنوا بالذي يأتي بعده، أي بيسوع.
فلمّا سمعوا اعتمدوا باسم الرب يسوع. وإذ وضع بولس يديه عليهم حلَّ الروح القدس
عليهم فطفقوا ينطقون بلغات ويتنبّأون” (أع 19: 2- 6).

هنا
أيضاً يبدو بوضوح أنّ “المعمودية باسم الرب يسوع” يعقبها “وضع
اليد” و”حلول الروح القدس” على المعتمدين. وهذا الروح القدس يمنح
المعتمدين نعمة خاصّة هي “النطق بلغات التنبّؤ”، أي الشهادة للمسيح.

ثانياً-
سرّ الميرون في تاريخ الكنيسة وتعليم الآباء

نرى
منذ القرون الأولى وفي مختلف الكنائس في الشرق والغرب وجود رتبة خاصة تلي العماد
بالماء وتقوم تارة على وضع اليد وتارة على المسح بزيت خاص ممزوج بعطور (يدعى
باليونانيّة ميروناً)، وفي معظم الأحيان على الاثنين معاً.

1-
في الشرق

فالقدّيس
كيرلّس الأورشليمي يكرّس إحدى عظاته التي تعود إلى حوالى سنة 348 لتفسير سرّ مسحة
الميرون، ولكنّه لا يذكر وضع اليد.

والقوانين
الرسولية التي كتبت في سورية حوالى سنة 380 تتكلّم عن “مسحة بالميرون وقوم
بها الأسقف على الذين اعتمدوا” (الكتاب الثالث، 16). وفي الكتاب السابع، نقرأ:

“تَمسح
أوّلاً بالزيت المقدّس، تمّ تُعمِّد بالماء، وتُنهي بختم الميرون، لتكون المسحة
اشتراكاً في الروح القدس، والماء رمز الموت، والميرون ختم الالتزام”.

وينقل
إلينا كتاب عهد الرب تقليد كنيسة أنطاكية في القرن الخامس. فيتكلّم عن مسحتين بعد
العماد: مسحة أولى يقوم بها الكاهن، ومسحة ثانية يقوم بها الأسقف بعد صلاة يتلوها
على المعتمدين وهو واضع يده عليهم:

“بعد
ذلك، عندما يصعد (المعتمد) من المياه، يمسحه الكاهن بالزيت الذي تلي عليه الشكران،
قائلاً عليه: أمسحك بالزيت، باسم يسوع المسيح. أمّا النساء، فتمسحهنّ الأرامل
اللواتي لهنّ حق الصدارة، بينما يتلو الكاهن عليهنّ الصلاة..

حينئذٍ
يجتمعون معاً في الكنيسة، ويضع الأسقف اليد عليهم، بعد العماد، قائلاً داعياً
عليهم هكذا: أيها الرب الإله، يا مَن ملأ رسله القدّيسين من الروح القدس، بواسطة
ابنه الحبيب يسوع المسيح، وأمر أنبياءه المغبوطين أن ينطقوا بواسطة الروح؛ يا من،
بواسطة مسيحه، أهَّل عبيده هؤلاء لغفران الخطايا بغسل الميلاد الثاني، ونقّاهم من
كل ضباب وظلمة الكفر، أهِّلهم، بمحبتك للبشر، أن يمتلئوا من روحك القدّوس، فتمنحهم
نعمتك ليخدموك حقاً حسب مشيئتك، يا ألله، ويعملوا بوصاياك بنقاوة..

كذلك
عندما يسكب الأسقف الزيت وهو واضع اليد على رأس المعمَّد، يقول: أمسحك مسحاً في
الله الضابط الكلّ وفي المسيح يسوع وفي الروح القدس، لتكون له جنديًّا ذا إيمان
كامل، وإناء يَحسُن له. وعندما يختمه بين عينيه، يعطيه السلام قائلاً: الرب إله
المتواضعين يكون معك. والمختوم يجيب قائلاً: ومع روحك. وهكذا يفعل كلّ
بمفرده”.

إنّ
العبارة التي تستعمل اليوم في الطقس البيزنطي “ختم موهبة الروح القدس”،
والتي ترافق مسحة الميرون نجد ذكرها في أواسط القرن الخامس في رسالة من
القسطنطينيّة إلى مرتيريوس بطريرك أنطاكية.

في
مصر، يميّز أيضاً خولاجي القديس سيرابيون، أسقف تاميس (+ 350)، بين المسحة بالزيت
التي تسبق المعموديّة، ومسحة الميرون التي تلي المعموديّة. وتطلب صلاة الميرون الى
الله أن يُتمّ عمله الالهيّ في الميرون “حتّى يصبح المعمّدون الذين يُمسَحون
به مطبوعين بعلامة الصليب الخلاصيّ.. ويشتركون في موهبة الروح القدس، ويظلّوا، بعد
تثبيتهم بهذا الختم، ثابتين غير متزعزعين، بلا خطيئة ولا لوم”.

قد
أكّد الشرق على الدوام وحدة سرّي المعموديّة والميرون ومنحه في رتبة واحدة، وإن
كان هناك تردّد في القرون الأولى لتحديد طريقة منح سرّ الميرون. ففي بعض المخطوطات
السريانيّة التي تعود إلى ما قبل القرن الرابع لا نجد ذكرًا لمسحة بالميرون تلي
المعموديّة، بل يُكتفى بذكر وضع اليد وختم الصليب على جبهة المعمَّد. ويبدو أنّ
الكنيسة السريانيّة الشرقيّة (أي الأشورية) لم تُدخل المسح بالميرون إلاّ في القرن
السابع.

وتظهر
هذه المسحة في المخطوطات المارونيّة والسريانيّة، وهي مرفقة بالصيغة التالية: “بالميرون
المقدّس، رائحة المسيح الإله الذكيّة، وختم ورسم الإيمان الحق وكمال مواهب الروح
القدس، يوسم (فلان) باسم الآب والابن والروح القدس للحياة الأبدية”.

2-
في الغرب

يتكلّم
ترتليانوس عن مسحة تلي العماد وتشير إلى التماثل بين المعتمد والمسيح الذي مسحه
الآب. ثمّ تنتهي الرتبة بصلاة يتلوها الأسقف وهو واضع يده على رأس المعتمد ثمّ
ببركة المعتمد مع رسم الصليب على بهته. وهذه الرتبة التي تلي المسحة تهدف، حسب
ترتليانوس، إلى منح الروح القدس للمعتمد ليستقرّ فيه. فكأنّ المسحة مرتبطة بالعماد،
وصلاة استدعاء الروح القدس مع وضع اليد والوسم بالصليب هي رتبة سرّ التثبيت.

نجد
أيضاً ذكراً واضحاً لسرّ التثبيت في كتاب التقليد الرسولي الذي وضعه الكاهن
الروماني هيبوليتوس حوالي سنة 215 باليونانيّة. يعكس هذا الكتاب تقليد كنيسة رومة
وربما أيضاً تقليد كنيسة الاسكندرية.

فبعد
العماد يذكر الكتاب مسحة يقوم بها الكاهن، ومسحة أخرى يقوم بها الأسقف بعد صلاة
وضع اليد:

“عندما
يصعد (المعتمد) من الماء، فليمسحه الكاهن بزيت الشكر قائلاً: إنّي أمسحك بالزيت
المقدّس باسم يسوع المسيح. وبعد ذلك يلبسون ثيابهم، ثمّ يدخلون الكنيسة. ويجعل
الأسقف يده عليهم ويصلّي قائلاً: أيّها الربّ الإله، الذي جعل هؤلاء مستحقين غفران
الخطايا بغسل الولادة الثانية، إجعلهم مستحقين أن يمتلئوا من الروح القدس. وأرسل
عليهم نعمتك ليخدموك حسب إرادتك. لأنّ لك المجد أيها الآب والابن والروح القدس في
الكنيسة المقدّسة، الآن وإلى دهر الداهرين. آمين.

وبعد
ذلك، فليسكب في يده من زيت الشكر، ويسكب على رأس كل واحد منهم قائلاً: إنّني أمسحك
بالزيت المقدّس باسم الله الآب الضابط الكلّ، والمسيح يسوع (الابن الوحيد)، والروح
القدس”.

لقد
كان سرّ التثبيت في الكنيسة الغربيّة مندمجاً في رتبة واحدة مع المعمودية، كما في
الكنيسة الشرقيّة. ولم يتمّ فصله إلاَّ تدريجياً ابتداء من القرن الرابع. أمّا سبب
هذا الفصل فهو امتداد الكنيسة وكثرة الارتدادات والعمادات، ولا سيّما عمادات
الأطفال، وتكوّن الرعايا المتعدّدة في الأبرشيّة الواحدة. ففي الشرق حافظت الكنيسة
على وحدة السرَّين، إلاَّ أنّها أعطت الكهنة سلطة منح الميرون حالاً بعد المعمودية،
على أن يستعملوا الميرون الذي يكرّسه البطريرك أو الأسقف. ولا تزال اليوم كنائس
الشرق تسير على هذا التقليد. ففي خطر الموت، يمكن منح المعمودية منفصلة عن الميرون،
وحتى عن يد علماني، إذا تعذّر وجود كاهن. ولكن، إذا عاد هذا الشخص المعمّد إلى
الحياة، لا يُمنَح سرَّ الميرون منفصلاً، بل بمناسبة معمودية شخص آخر.

أمّا
في الغرب ففصلت الكنيسة بين السرَّين: فسرّ المعمودية يمنحه الكاهن، وسرّ التثبيت
يمنحه الأسقف، على قدر ما يتيسّر له زيارة رعاياه، في رتبة خاصة منفصلة عن
المعمودية؛ سرّ المعمودية يُمنَح للأطفال، فيما سرّ التثبيت يُمنَح للأولاد متى
بلغوا سنّ الرشد.

في
المجمع الفاتيكاني الثاني، يقول الدستور العقائدي في الكنيسة “إنّ الأساقفة
هم خَدَمَة سرّ التثبيت الأصيلون” (رقم 26).

وفي
المرسوم “في الكنائس الشرقيّة” يقول:

“إن
المجمع المسكوني يثبّت ويقرّر نظام الأسرار القديم الساري في الكنائس الشرقيّة،
والطريقة المتّبعة في القيام بها ومَنْحها. ويتمنّى الرجوع إلى هذه الطريقة حيث
تقضي الحال بذلك.

ثمّ
ينبغي الرجوع كليًّا إلى النظام الذي سار عليه الشرقيّون، منذ الأزمنة القديمة
جدًّا، في ما يتعلّق بخادم سرّ الميرون المقدّس. فيحق إذاً للكهنة أن يمنحوا هذا
السرّ مستعملين فيه الميرون الذي يباركه البطريرك أو الأسقف” (رقم 12- 13).

ثالثاً-
رتبة سرّ الميرون

1-
في الطقس البيزنطي

تشمل
رتبة هذا السرّ في الطقس البيزنطي قسمين: صلاة يتلوها الكاهن وهو واضع يده على رأس
المعتمد، ثمّ مسح المعتمد بالميرون المقدّس.

أ)
صلاة استدعاء الروح القدس

“مبارك
أنت أيّها الرب القدير، ينبوع الخيرات وشمس العدل؛ يا من أظهر للذين في الظلمة نور
الخلاص بظهور ابنه الوحيد إلهنا، ومنحنا نحن غير المستحقّين التنقية السعيدة
بالماء المقدّس، والتقدير الإلهي بالمسحة المحيية؛ يا مَن سُرَّ الآن أيضاً بأن
يُجدَّد ميلادُ عبده المستنير حديثاً بالماء والروح، ومنحه غفران الخطايا
الاختياريّة وغير الاختياريّة.

أنت
أيّها السيّد ملك الكل الجزيل التحنّن، هب له أيضاً ختم موهبة روحك القدّوس القدير
والمسجود له، وتناول جسد مسيحك المقدّس ودمه الكريم. واحفظه في قداستك، ثبِّته في
الإيمان القويم، ونجِّه من الشرير ومن جميع أخلاقه. أحرس نفسه بمخافتك الخلاصية في
الطهارة والبرّ، حتى يرضيك في كل عمل وقول، فيصير ابناً ووارثاً لملكوتك السماوي.

لأنّك
أنت يا إلهنا إله الرحمة والخلاص، وإليك نرفع المجد، أيّها الآب والابن والروح
القدس، الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين. آمين”

ب)
المسح بالميرون المقدّس

ثمّ
يمسح الكاهن المعتمد بالميرون المقدّس بشكل صليب على جبهته، وعينيه، ومنخريه، وفمه،
وأُذُنيه، وصدره، ويديه، ورجليه، قائلاً على كل مسحة: ختم موهبة الروح القدس. آمين.

2-
في الطقس الماروني

أمّا
في الطقس الماروني، فيتلو أوّلاً الكاهن الصلاة التالية وهو واضع يده على رأس
المعتمدين:

“أللهمّ،
يا من أعطى الأرضيين الكهنوت ليتنقّوا به، وأقام البشر على الأرض بدرجة أرفع من
درجة الملائكة، أنت أيها الإله الرحيم، المملوء كنزك كلّ خير ولذّة لمن يدعوك،
أبسط يمين تحنّنك مع يميني أنا الخاطئ، وبارك هؤلاء الساجدين لك، الذين يُمسَحون
بهذا الميرون المقدّس. ضع فيه ينابيع المعونة لأجسادهم، وليكن غافراً وحافظاً
ومقدّساً ومقوّياً لنفوسهم، لأجل اسمك الحيّ الذي دُعي عليهم، أيّها الآب والابن
والروح القدس، لك المجد إلى الأبد. آمين”.

ثمّ
يسم الكاهن المعتمد على جبهته بالميرون المقدّس بشكل صليب ثلاث مرّات وهو يقول:

“بميرون
المسيح الإله، رائحة الإيمان الحق العذبة، طابع دمك نعمة الروح القدس، يُطبَع عبد
الله.. باسم الآب والابن والروح القدس. آمين”.

ثمّ
يقول لجميع المتثبّتين:

“ها
قد لبستم الآب الحيّ، وأخذتم الابن المسيح، واتّشحتم بالروح القدس، وقبلتم حلّة
المجد التي خلعها آدم”.

ثمّ
يَسِم المثبّتين بالصليب قائلاً:

“ثبِّت
يا رب عبيدك هؤلاء في قداسة النفس والجسد. كمّلهم بموهبة الروح القدس. وطِّد
نفوسهم في سبُل وصاياك المحيية، لكي يؤَهَّلوا للتنعّم بلذّة التبنّي ولميراث
الملكوت السماوي، أيّها الآب والابن والروح القدس، لك المجد إلى الأبد. آمين”.

3-
مادة سرّ مسحة الميرون

إنّ
مادّة هذا السرّ هي الميرون، أي زيت الزيتون الممزوج بعطورات متنوّعة (يصل عددها
حسب التقليد البيزنطي إلى 57). وهذا الميرون يباركه البطريرك يوم خميس الأسرار في
رتبة خاصة، ثمَّ يوزّعه على جميع أساقفة بطريركيّته وكهنتها، وفي ذلك إشارة إلى
وحدة الكنيسة ووحدة الإيمان ووحدة الشهادة.

أمّا
“وضع اليد” الذي هو العلامة التقليديّة لمنح الروح القدس، فيرافق الصلاة،
وهو أيضاً متضمّن في المسحة نفسها على شكل صليب.

رابعاً-
أبعاد سرّ الميرون ومعانيه

يدعى
هذا السرّ في التقليد الشرقي “مسحة الميرون”، وفي التقليد الغربي
“التثبيت”. وفي كل من هذين الاسمين نجد بُعداً أساسياً من أبعاد هذا
السرّ ومعانيه. فالميرون يمنح “ختم موهبة الروح القدس”، ويهدف إلى
“التثبيت في الإيمان”، ويجعل من المسيحي “مسيحاً” آخر،
ويُشركه في كيان السيّد المسيح ووظائفه.

1-
ختم موهبة الروح القدس

إنّ
المعنى الأوّل لسرّ الميرون هو أنّه يمنح الروح القدس للمعتمد، على مثال السيّد
المسيح الذي حلَّ عليه الروح القدس فور صعوده من مياه الأردن.

ومنح
الروح القدس يتمّ بواسطة الميرون الذي يصير بعد تقديسه حاملاً الروح.

وهذا
ما تشير إليه صلاة تقديس الميرون التي تشبه استدعاء الروح القدس على الخبز والخمر
ليصيرا جسد المسيح ودمه:

“يا
ربّ الرحمة وأبا الأنوار.. أرسل روحك الكليّ قدسه على هذا الميرون، واجعله مسحة
ملوكية، مسحة روحية، حفظاً للحياة، تقديساً للنفوس والأجساد، زيت الابتهاج.. اجعله
بحلول روح قدسك المسجود له رداء عدم الفساد، وختماً كاملاً راسماً في المتقبّلين
حميمك الإلهي تسميتك المكرّمة واسم ابنك الوحيد وروح قدسك المحيي،.. لكي يصيروا
بختم هذا الميرون الطاهر شعباً خاصاً، كهنوتاً ملوكياً، أمَّة مقدّسة، ويكونوا
حاملين مسيحك في قلوبهم لسكناك أيّها الآب بالروح القدس إلى الدهور”.

يقول
إفدوكيموف:

“إنّ
ما يحلّ على المعتمد في هذه المسحة ليس فقط قدرة صادرة عن الروح القدس، كما في
الصلاة اللاتينيّة، بل هو المسيح في الروح، إنّه مجيئه ليمنح لنا ذاته”.

هذا
ما يقوله القدّيس كيرلّس الأورشليمي:

“حذارِ
أن تظنّ أنّ الزيت المقدّس ليس إلاَّ زيتاً. لأنّه كما أنّ خبز الإفخارستيّا بعد
استدعاء الروح القدس أ يعد خبزاً عادياً، إنّمَا صار جسد المسيِح، كذلك هذا الزيت
المقدّس لم يعد، بعد الاستدعاء، زيتاً بسيطاً عادياً، ولا زيتاً مشتركاً، بل هو
عطاء المسيح وقد صار بحضور الروح القدس، مانحاً لاهوته. بهذا أريت مُسحت سرّيًّا
علما جبينك وسائر حواسّك. وفي الوقت الذي يُمسَح فيه جسدك بالزيت المنظور، تُقدَّس
نفسك بالروح القدس المحيي”.

إنّ
ما يحلّ في قلب المسيحي من خلال مسحة الميرون هو، حسب الآباء الشرقيين، الروح
القدس نفسه، أي الحياة الإلهيّة غير المخلوقة. فعبارة “موهبة الروح
القدس” لا تعني الموهبة التي تأتي من الروح القدس، بل “الوهبة التي هي
الروح القدس”. إنّ هبة الله المبشّر، أو نعمة الله، حسب الآباء الشرقيين، هي
الروح القدس نفسه. فالواهب هو نفسه الموهبة، والمعطي هو نفسه العطيّة. وهذه النظرة
إلى الإنسان هي في أساس عقيدة “التألّه” التي بنى عليها الآباء الشرقيون
كل نظرتهم اللاهوتيّة والروحيّة.

2-
التثبيت في الإيمان والقداسة

“إحفظه
في قداستك، ثبِّته في الإيمان القويم، نجِّه من الشرير ومن جميع أخلاقه، أحرس نفسه
بمخافتك الخلاصيّة في الطهارة والبرّ، حتى يرضيك في كل عمل وقول”.

هذا
ما تقوله صلاة وضع اليد قبل المسحة بالميرون. بالميرون ينتقل الإنسان من حالة
الخطيئة إلى حالة القداسة وحالة الإيمان. وبالميرون يُحفَظ في القداسة ويثبَّت في
الإيمان. نعمة المعمودية تشمل كيان الإنسان، ونعمة الميرون تشمل عمله. إنّ صورة
المسيح التي ينالها المعتمد بالمعمودية تصير فاعلة بقدرة الروح القدس الذي يناله
في مسحة الميرون.

يقول
كاباسيلاس عن التكامل بين المعمودية والميرون:

“هذه
الولادة الروحية وهذا التجديد بالمعمودية يستدعيان أفعالاً ونشاطات تتناسب معها.
فالمسحة هي التي تعطي هذه الأفعال، وتجعل القوى الروحيّة كلّ القول، في حركة وفقاً
لقابليّة الفاعل، وتعطي المعتمدين النتيجة التي كانت تُعطى بواسطة وضع الأيدي على
المستنيرين حديثاً من قِبَل الرسل: “بوضع أيدي الرسل يُعطى الروح القدس”
(أع 8: 18). وهكذا ينزل المعزّي في أيامنا على المثبَّتين”

لذلك
يمكننا القول إنّ مسحة الميرون هي “عنصرة” المعتمدين. فكما أنّ الرسل
بعد أن آمنوا بقيامة المسيح حلَّ عليهم الروح القدس يوم العنصرة وثبَّتهم في
الإيمان، وراحوا يبشّرون بالمسيح القائم من بين الأموات وبكلّ تعاليمه، هكذا
المسيحي، بالمعمودية يشترك في قيامة المسيح، وبمسحة الميرون يُختَم بموهبة الروح
القدس، فتصير أعماله كلّها شهادة لإيمانه.

لذلك
لا تُمنَح مسحة الميرون فقط على جبين المعتمد بل على كل أعضاء جسده، ليصير الإنسان
مختوماً بختم الروح القدس في كلّ كيانه وكلّ أعماله. في هذا يقول القدّيس كيرلّس
الأورشليمي:

“لقد
مُسحتم أوّلاً على الجبين، لكي تتحرّروا من وصمة العار التي كان يحملها في كل مكان
الإنسان الأوّل العاصي، ولكي تعكسوا بوجهكم المكشوف كما في مرآة مجدَ الرب”
(2 كو 2: 15).

ثمّ
على الأُذُنين، لكي تحصلوا على آذان تسمع الأسرار الإلهيّة، وهي التي قال عنها
أشعيا: “أعطاني الرب أُذُناً للسمع” (أش 50: 4)، والرب يسوع في الإنجيل:
“مَن كان له أُذُنان للسماع فليسمع” (متى 11: 15).

ثمّ
على المنخرين، حتى إذا تنشّقتم العطر الإلهي، تستطيعون أن تقولوا مع بولس الرسول: “إنّا،
لله، نفحة المسيح الطيّب” (2 كو 2: 15).

ثمّ
على الصدر، لكي تتمكّنوا، وقد لبستم درع البرّ، من محاربة حِيَل إبليس. فكما أنّ
المخلّص، بعد عماده وحلول الروح القدس عليه، حارب رئيس الظلام وانتصر عليه، كذلك
أنتم، بعد العماد المقدّس والمسحة السرّية، وبعد أن تسلّحتم بسلاح الروح القدس،
قاوموا قوّة الشرّ وحاربوها قائلين: “إنّي أستطيع كلّ شيء في الذي
يقوّيني” (في 4: 13).

3-
الاشتراك في كهنوت المسيح الملوكي

في
العهد القديم كانت مسحة الروح القدس محصورة في الملوك والكهنة والأنبياء. أمّا في
العهد الجديد، فالمسحة تشمل جميع المسيحيين، لأنّهم باعتمادهم يصيرون واحداً مع
المسيح الذي جمع في ذاته رسالة الملوك والكهنة والأنبياء. فالمسيحي الذي يعتمد
ويُمسَح بالميرون المقدّس يشترك في رسالة المسيح الثلاثيّة هذه ويصير معه ملكاً
وكاهناً ونبيًّا، على ما تشير إليه صلاة تقديس الميرون:

“أيّها
المخلّص الذي أعطى نعمته للأنبياء والملوك والكهنة، امنحها أيضاً بواسطة هذا
الميرون للذين سيُمسَحون به”.

أ)
الاشتراك في الخدمة الملوكية

لمَ
يقول القدّيس غريغوريوس النيصي: “النفس تظهر كرامتها الملوكية في السيطرة
الحرّة على رغائبها. إنّ السيادة على كل شيء هي أن خصائص الطبيعة الملكية”.

بنعمة
مسحة الميرون، يستطيع الإنسان أن يتحرّر من استعباد الشهوة والخطيئة، ويصير
إنساناً روحيًّا، أي خاضعاً لإلهامات الروح القدس، ويعمل على أن يتشرّب العالمُ
روح المسيح، على ما علّم المجمع الفاتيكاني الثاني:

“إنّ
المسيح.. قد آتى تلاميذه هذا السلطان لكي يكونوا هم أيضاً مُقامين في الحرية
الملكية، فينتزعوا، بإنكار أنفسهم وقداسة حياتهم، سلطان الخطيئة فيهم.. وعلى
المؤمنين، من خلال أعمالهم الزمنيّة أيضاً، أن يتعاونوا في سبيل حياة أقدس، لكي
يتشرّب العالم روح المسيح، ويدرك، بفعالية أوفر، غايته في البرّ والمحبة
والسلام”

ب)
الاشتراك في الخدمة الكهنوتية

يقول
بولس الرسول في رسالته إلى الرومانيين:

“أُحرّضكم
أيّها الإخوة، بمراحم الله، أن تقرّبوا أجسادكم ذبيحة حيّة، مقدّسة، مرضية لله.
تلك هي العبادة النبيّ يقتضيها العقل منكم. ولا تتشبّهوا بهذا العالم، بل تحوّلوا
إلى صورة أخرى بتجديد عقلكم، لكي يتهيّأ لكم أن تميِّزوا ما مشيئة الله، وما هو
صالح، وما يرضيه، وما هو كامل” (12: 2).

المسيحي
يمارس كهنوته بتقديم ذاته ذبيحة حيّة. وأوريجانوس يربط نعمة مسحة الميرون بهذه
التقدمة الكهنوتيّة، فيقول:

“كلّ
الذين تشرّبوا مسحة الميرون المقدّس صاروا كهنة.. كلّ منهم يحمل في ذاته ذبيحته.
وهو نفسه يضع النار على الهيكل.. لكي يذوب على الدوام. عندما أتخلّى عن كلّ ما
أملك، وأحمل صليبي وأتبع المسيح، فإنّي بذلك أُقدّم ذبيحة لهيكل الله؛ عندما أبذل
جسدي.. وأحبّ إخوتي حتى إني أعطي ذاتي لأجلهم، عندما أحارب حتى الموت في سبيل
العدالة والحقّ، عندما أُميت ذاتي.. عندما يُصلَب العالم لي وأنا أُصلَب للعالم،
فإني بذلك أُقدّم ذبيحة هيكل الله، وأصير أنا كاهن ذبيحتي الخاصة”.

والقدّيس
غريغوريوس النزينزي يصف الموقف الليتورجي الصحيح بقوله: “لا أحد يستطيع أن
يشترك في الذبيحة ما لم يقدّم أوّلاً ذاته ذبيحة”.

ثمّ
إنّ حياة المسيحي تصير كلّها تقدمة كهنوتية عندما يعمل على “أن يرضي الله في
كل عمل وقول”، كما تقول صلاة وضع اليد قبل مسحة الميرون.

هذا
ما يبيّنه المجمع الفاتيكاني الثاني في النصّ التالي: “إنّ المسيح الرب،
الحبر المأخوذ من بين الناس (عب 5: 1- 5)، قد جعل من الشعب الجديد “ملكوتاً
وكهنة لأبيه” (رؤ 1: 6؛ 5: 9- 10). ذلك بأنّ المعمَّدين قد تكرّسوا بالميلاد
الثاني وسمحة الروح القدس لكي يكونوا مسكناً روحياً وكهنوتاً مقدّساً، ويقرّبوا
بعملهم المسيحي كلّه قرابين روحية، ويعلنوا قدرة ذاك الذي دعاهم من الظلمة إلى
نوره العجيب (1 بط 2: 4- 10). فليقرّب إذن جميع تلاميذ المسيح أنفسهم، مواظبين على
الصلاة وحمد الله، قرابين حيّة، مقدّسة، مرضيّة لله، ويشهدوا للمسيح في كل مكان،
ويقيموا الدليل، في كل مطلب، على الرجاء الذي فيهم للحياة الأبدية..

إنّ
المؤمنين.. بسرّ التثبيت يتوثّق ارتباطهم بالكنيسة على وجه أكمل، ويؤتيهم الروح
القدس قوّة خاصة، فيلتزمون من ثمّ التزاماً أشدّ بنشر الإيمان، والذود عنه بالقول
والعمل، فِعْلَ شهود للمسيح حقيقيين. وباشتراكهم في ذبيحة الإفخارستيّا، منبع
الحياة المسيحيّة كلّها وقمّتها، يقرّبون لله الذبيحة الإلهيّة، ويقرّبون معها
أنفسهم أيضاً. وهكذا بالتقدمة والتناول يقومون جميعهم، لا في غير تمييز بل كلٌّ
حسب طريقته، بقسطهم الخاص في العمل الليتورجي. وإذ يتغذّون بجسد المسيح في الجماعة
المقدّسة يظهرون، بوجه حسّيّ، وحدة شعب الله التي يعبِّر عنها هذا السرّ العظيم
أكمل تعبير. ويحقِّقها أروع تحقيق”.

ج)
الاشتراك في الخدمة النبويّة

النبيّ
ليس من يتنبّأ عن أحداث المستقبل، بل من يدرك تصميم الله في العالم، ويعرف أن يقرأ
إرادته من خلال الأحداث

في
مملكة قيصر يرى النبيّ ما يجب فعله لإحلال ملكوت الله. إنّ وجه هذا العالم يجب أن
يتجدّد ويتغيّر ليمتلئ من روح المسيح. وعلى كلّ مسيحي أن يسهم في هذا التجديد، ليس
فقط بكرازته بل أوّلاً بعمله، على مثال السيّد المسيح، كما جاء في المجمع
الفاتيكاني الثاني:

“إن
المسيح، النبيّ الأعظم، الذي أعلن ملكوت الآب بشهادة حياته وقوّة كلمته، يتابع
عمله النبوي إلى أن يتمّ ملء تجلّي المجد، وذلك ليس فقط بواسطة السلطة الكنسيّة
التي تعلّم باسمه وبسلطانه، بل أيضاً بواسطة العمانيّين الذين يجعلهم من أجل ذلك
عينه شهوداً بما يوليهم من حاسّة الإيمان ونعمة الكلمة (أع 2: 17- 18؛ رؤ 19: 10)،
لكي تشّع قوّة الإنجيل في الحياة اليومية، العيليّة والمجتمعيّة. ويظهرون أنفسهم
أبناءً للموعد عندما يستثمرون، وهم راسخون في الإيمان والرجاء، الوقت الحاضر (أف 5:
16؛ كو 4: 5)، وينتظرون في ثباتٍ المجدَ الآتي. وهذا الرجاء لا يجوز لهم أن يواروه
في سرّ قلوبهم بل أن يظهروه أيضاً من خلال بُنَى الحياة العالميّة بارتداد مستمرّ،
و”بمصارعتهم سلطات هذا العالم، عالم الظلمة، وأرواح الشرّ” (أف 6: 12)..

إن
بعض العلمانيّين، بما لهم من وسائل، يسدّون، في بعض الخِدَم المقدّسة، مسدّ الخدّام
المكرَّسين إذا فُقد هؤلاء أو ضُربوا بالعجز من جرّاء نظام مضطهد، وغيرُهم، أكثر
عدداً، يبذلون أنفسهم بكل قواهم في العمل الرسولي، وإنّما على الجميع واجب الإسهام
في امتداد ملكوت المسيح ونموّه في العالم”.

خلاصة

المعمودية
تلد الإنسان لحياة جديدة، والميرون يمنحه قوّة الروح القدس لتنمو فيه هذه الحياة
وتصل إلى ملئها في واقع وجوده الشخصي والجماعي. المعموديّة تصيِّر الإنسان كائناً
جديداً والميرون يتيح لهذا الكائن الجديد أن يحقّق ذاته في كل أبعاده.

إنّ
الروح القدس الذي ينسكب بالميرون في قلب المسيحي المعتمد، ويملأ ثنايا جسده وروحه،
يضع فيه بذور الحريّة وبذور النضج الروحي. فالمسيحي مدعو إلى أن يتمّم أعماله
كلّها في الانقياد الحرّ لروح الله، حتى يبلغ بقدرة هذا الروح عينه “إلى
حمالة الإنسان البالغ إلى ملء اكتمال المسيح” (أف 4: 13).

إنّ
الأسرار المقدّسة هي سلسلة متّصلة تشمل مختلف مراحل حياة المسيحي. وتبدأ بسرَّين
متكاملين: بالمعمودية التي تجعل الإنسان ابناً لله، وبالميرون الذي به “يرسل
الله إلى قلوبنا روح ابنه ليصرخ فيها: أبّا! أيّها الآب”، مؤكّداً لنا
“أنّنا لسنا بعد عبيداً بل أبناء، وورثة لله” (غلا 4: 6- 7).

إنّ
الروح القدس الذي بالميرون يملأ كيان المسيحي لا يني يهمس له في أعماق قلبه ما
أنعم به عليه الله ويقوده إلى سائر الأسرار. لذلك انطلاقاً من سرّ الميرون يتاح
للمسيحي التقرّب إلى سائر الأسرار بحرية ومسؤولية ووعي للالتزامات الناتجة عن هذا
التقرّب: فيقدّم ذاته مع السيّد المسيح في سرّ الإفخارستيّا، ويتحمّل مسؤولية
ذنوبه ويتوب عن خطاياه في سرّ التوبة، ويقوى على العذاب في سرّ مسحة المرضى،
ويلتزم الحب في سرّ الزواج على مثال محبة المسيح للكنيسة، ويتكرّس لخدمة شعب الله
في سرّ الخدمة الكهنوتيّة.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى