اللاهوت الطقسي

V الذبائح قبل ناموس موسى



V الذبائح قبل ناموس موسى

V الذبائح قبل ناموس موسى

واضح من قصة سقوط الإنسان أن الله بنفسه هو الذى
سعى إلى الإنسان بعدما أخطأ وهو الذى بادره بالسؤال: آدم أين أنت؟ وهو الذى أخذ فى
معالجة الخطية من البداية بالحكم على الحية وحواء وآدم بالتتابع، حتى أنه ضمَّن
حكمه على الحية الوعد بالفداء بقوله: “وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين
نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه” (تكوين 3: 15)
. ولم يكتف
الله بذلك بل يقول الكتاب: “وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد
والبسهما” (تكوين 3: 21).

هنا يظهر بوضوح حنان
الله ورفقه بالإنسان وسعيه ليستر عريه، كما يتضح أيضاً أن الرب الإله ذبح ذبيحة من
أجل الإنسان، وأخذ جلد الذبيحة وصنع منه أقمصة ليكسو بها عرى آدم وحواء!. وإلا فمن
أين أتى الله بالأقمصة الجلد؟!

فآدم الذى تعرى بالخطية
لم يستطع أن يكسو نفسه ويستر عريه، ولم ينفعه ورق التين – الذى حاول أن يتغطى به –
فى شىء.. لذلك ستره الله بأقمصة صنعها بيده من جلد الذبيحة التى ذبحها أمام آدم.

وأنه لأمر جدير بالانتباه أن كلمة
يكفَّر فى العبرية تعنى
يغطى” أو يستر«، حيث التكفير هو ستر الخطايا وتغطيتها من خلال الذبيحة وسفك الدم
وخلع بر الذبيحة ليكتسى به الخاطىء، تماماً كما سلخ الله جلد الذبيحة ليكسو بها
آدم وحواء.

ولا شك أن كل هذا الذى
صنعه الله من أجل آدم الذى أخطأ كان يحمل فى طياته أحشاء رأفات الله وحبه العجيب
للإنسان ورحمته الثابتة نحوه وقصده الأزلى فى فدائه والتكفير عنه بذبيحة قادرة أن
تستر عريه الروحى وتنزع خطيته وتُلبسه ثوب البر الذى لا يبلى المصنوع بيد الله.

كما لا نشك أيضاً أن آدم نفسه قد تسلم مما صنعه
الله أمامه، ضرورة الذبيحة للتكفير عن الخطايا والتماس رضا الله ورحمته.

ومما يؤكد ذلك أنه لم يكن مسموحاً للإنسان قبل
الطوفان أن يذبح الحيوان ليأكله وإنما صُرح له بذلك ولأول مرة بعد الطوفان حين قال
الله لنوح: “كل دابة تكون لكم طعاماً..غير أن لحماً بحياته دمه لا
تأكلوه” (تكوين 9: 3و4).

وهكذا لم يكن هناك مبرر للذبح قبل نوح إلا بصفته
قرباناً مقدماً إلى الله أو نتيجة تكفير عن الخطايا على حسب المثال الذى أراه الله
لآدم بعد سقوطه.

ويتضح ذلك من القربان الذى قدمه قايين وهابيل،
إذ يقول معلمنا بولس الرسول فى رسالته إلى العبرانيين عنهما: “بالإيمان
قدم هابيل لله ذبيحة أفضل من قايين. فيه شُهد له أنه بار، إذ شهد الله
لقرابينه”
(عبرانيين 11: 4)، ذلك لأن هابيل قدم ذبيحة “من
أبكار غنمه ومن سمانها” (تكوين 4: 4)
أما قايين فقدم من أثمار الأرض.
فالأول كانت ذبيحته حسب تسليم الآباء وهذا هو الإيمان، لذلك شُهد له أنه بار لأن “البار
بالإيمان يحيا” (عبرانيين 10: 38)
أما الثانى فكان قربانه من وحى
استحسانه وفكره الخاص، وهذا ليس من الإيمان “وكل ما ليس من الإيمان فهو
خطية”
(رومية14: 23).

V أول مرة يطلب الله فيها ذبيحة:

سار نوح على نفس تقليد الذبائح الذى تسلمه من
آبائه فبعد انتهاء الطوفان “بنى نوح مذبحاً للرب وأخذ من كل البهائم
الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد محرقات على المذبح.. فتنسم الرب رائحة الرضا،
وقال الرب فى قلبه، لا أعود ألعن الأرض”
(تكوين 8: 20و21) ونلاحظ
هنا أن نوح لم يلاحظ فقط تقديم ذبيحة دموية، بل راعى أيضاً أن تكون من كل البهائم
الطاهرة والطيور الطاهرة..

إذاً، لقد كان أمر الدم وما هو طاهر وغير طاهر
من البهائم والطيور معروفاً قبل إعطاء الشريعة على يد موسى.

وإبراهيم أيضاً “بنى مذبحاً للرب ودعا
باسْمِ الرب” (تكوين 12: 8).
ولكن أعظم ما نقرأه عن إبراهيم هو ذلك
الاختبار العجيب الذى دخل فيه من جهة الذبيحة فقد أمره الله أن يقدم ابنه وحيده
الذى يحبه إسحق محرقة!

هنا تأخذ الذبيحة أعلى مستوى من المفهوم الروحى
وأسمى ما يمكن أن يدركه البشر من المستوى الإيمانى!

ولعلها أول مرة يطلب فيها الله ذبيحة من إنسان،
وحينما طلبها حدد مواصفاتها على أساس أن تكون أغلى ما يمكن أن يقدمه الإنسان، بل
أحب شخص لديه الذى فيه انعقدت كل آمال الحاضر ورجاء المستقبل، والذى يمثل حب الله
وأمانته وصدق مواعيده وقدرته الفائقة..لأن إسحق هذا المطلوب للذبح هو ابن شيخوخة
إبراهيم ومُماتية مستودع سارة، الابن الموهوب للحياة من عمق الموت، الذى أعطاه
الله لإبراهيم من عدم وكأنه ليس ابنه بل ابن الله! لأن إبراهيم وسارة من
جهة الطبيعة لم يكن ممكناً أن ينجبا أولاداً بعد وإسحق بالنسبة لهما يمثل قوة
حياة جديدة دبت فيهما فأنشأت خليقة جديدة فريدة من نوعها
، لذلك سُمى ابن
الموعد. وابن الإيمان. ولما طلب الله الذبيحة من إبراهيم حدد طلبه قائلاً: “خذ
ابنك وحيدك الذى تُحبه إسحق .. وأُصعده محرقة.”
(تكوين 22: 2)،
وإسحق لم يكن وحيده بل كان له ابن آخر
إسماعيل من هاجر إلا أن الله يدعوه
وحيده”
لأنه وحيد فى نوعه، ووحيد من حيث هبة الله إياه.

هذه هى الذبيحة التى طلبها الله من الإنسان!
وهذه هى مواصفاتها!.. وهى تحمل فى طياتها مواصفات الذبيحة التى تصلح أن تكون
وسيطاً بين الله والإنسان وكانت رمزاً للذبيحة العظمى التى يعدها الله لفداء
الإنسان.

ولما نجح إبراهيم فى هذا الإمتحان ولم يمسك ابنه
وحيده عن الله، فدى الله إسحق بكبش أصعده إبراهيم عوضاً عن ابنه..ورجع إسحق حياً!
إلا أن إبراهيم حُسب فى عينى الله أنه قدم إسحق وأكمل ذبحه، واستحق أن يسمع من
الله هذه البركة العجيبة كنتيجة فعلية للذبيحة المقبولة التى قدمها: “بذاتى
أقسمت يقول الرب، أنى من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك. أباركك
مباركة وأكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء وكالرمل الذى على شاطىء البحر. ويرث نسلك
باب أعدائه. ويتبارك فى نسلك جميع أمم الأرض. من أجل أنك سمعت لقولى”
(تكوين
22: 16-18).

لقد كانت مسرة الله بذبيحة إبراهيم هذه عظيمة
بهذا المقدار لأنه رأى فيها ما هو مزمع أن يفعله للإنسان بذبيحته التى سيقدم فيها
أيضاً ابنه وحيده الذى يحبه، والذى هو قوة الحياة الجديدة الموهوبة للعالم، إذ فيه
يتبارك جميع أمم الأرض.

وكذلك إسحق ويعقوب، فقد كانا يقدِّمان ذبائحهما
للرب الإله كما تسلَّما من آبائهم (تكوين 26: 25 و28: 18 و31: 54 و33: 20 و35:
7 و46: 1).

ولكن مازالت ذبيحة الله
من أجل الإنسان أعمق جداً من أن تتحدد مواصفاتها بمثال واحد..! لذلك هيأ الله
مثالاً آخر:

V ذبيحة الفصح من العبودية إلى أرض الميعاد:

فخروف الفصح هو الذبيحة الثانية التى طلبها الله
من بنى إسرائيل وهو فى أرض مصر لكى ينجوا من الموت المزمع أن يكون على كل أبكار
المصريين، وتمهيداً لخروجهم من مصر وعبورهم البحر الأحمر. فكان دم خروف الفصح هو
العلامة التى يراها الرب على بيوت الإسرائيليين، فيعبر عنهم “فأرى الدم
وأعبر عنكم” (خروج 12: 13)
حيث كلمة
الفصح”
معناها
العبور”
أما مواصفات هذه الذبيحة فكانت:

+ خروفاً حولياً صحيحاً بلا عيب.

+ يذبحونه بين العشاءين ويجعلون من دمه
على القائمتين والعتبة العليا فى البيوت.

+ ويأكلونه مشوياً بالنار مع فطير على
أعشاب مُرَّةٍ، ولا يُبقوا منه إلى الصباح، ويأكلونه بعجلة وأحقاؤهم ممنطقة
وأحذيتهم فى أرجلهم وعصيهم فى أيديهم، “هو فصح للرب” (خروج 12:
1-15).

بذلك كان خروف الفصح
ينطوى على غرضين أساسيين للذبيحة: فداء وشركة. فدمه علامة للفداء من الموت، ولحمه
شركة جديدة ليست من هذا العالم، لذلك يأكلونه بعجلة استعداداً للرحيل.

ويلزم أن يكون خروفاً صحيحاً بلا عيب، أى كامل
النمو ناضجاً، غير ناقص الخلقة أو مريضاً أو مكسوراً حتى يشير إشارة معبرة إلى
الذبيحة الكاملة المطلوبة لخلاص الإنسان.

وخروف الفصح هو أساس الذبائح كلها فى العهد
القديم، لا من حيث أهمية الحادثة التى ارتبط بها فحسب، وهى خروج بنى إسرائيل من
مصر وعبورهم البحر الأحمر، وإنما أيضاً من حيث مفهوم الذبيحة عموماً كواسطة الخلاص
من الموت، وكشركة فى الذبيحة ذاتها من أجل حياة خالية من كل شر ورياء، ومستعدة لكل
عمل صالح.

ولكن مازالت الذبيحة المنتظرة لفداء العالم
أجمع. والقادرة بالفعل أن تعطي الإنسان حياة جديدة خالية من كل شر، وغفراناً
كاملاً لكل خطية، أعمق جداً من أن تتحدد معالمها بخروف الفصح!

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى