علم الله

الفصل الثالث



الفصل الثالث

الفصل الثالث

البروتستنتيّة
والمجمع التريدنتيني

إن
موضوع النعمة هو الموضوع الرئيس الذي قسم الكنيسة الغربية إلى كاثوليكية
وبروتستنتيّة. فمحور النقاشات كان الدور الذي يجب أن يعطى لنعمة الله من جهة
ولأعمال الإنسان من جهة أخرى في “تبرير الخاطئ أمام الله” وحصول الإنسان
على الخلاص.

ولقد
اعتبر المصلحون البروتستنتيّون أن طاعتهم للبابا وبقاءهم في الكنيسة الكاثوليكية
هما رهن بقبول البابا نظرتهم في هذا الموضوع. إلاّ أن الكنيسة الكاثوليكيّة، في
المجمع التريدنتيني، رفضت النظرة البروتستنتيّة وحرمت أتباعها.

ما
هي بالإيجاز تعاليم البروتستنتيّة وتعاليم المجمع التريدنتينيّ في موضوع النعمة؟

أولاً-
النعمة في لاهوت الإصلاح البروتستنتي

1-
الخطيئة الأصليّة أفسدت بطريقة جذريّة طبيعة الإنسان. ومن ثمّ لا وجود للحريّة
التي تتيح للإنسان تتميم أعمال برّ وصلاح. فالإنسان خاطئ في كيانه وفي جميع أعماله.
نعمة الله هي التي تبرّره وتعمل فيه كل عمل صالح يقود إلى الحياة الأبديّة. والشرط
الكافي والضروري للحصول على هذا التبرير هو الإيمان. والإيمان ليس اعتناقاً فكرياً
لحقائق عقائديّة، بل هو عمل إرادة به يثق الإنسان برحمة الله الذي ينحني على
الإنسان ويغفر له خطاياه.

2-
التبرير الذي يحصل عليه المؤمن لا ينفذ إلى صميم طبيعته الإنسانيّة. بل يبقى
عرضيًّا وخارجيًّا. يبقى الإنسان المبرَّر خاطئاً. إلا أن خطيئته لا تحسب عليه.
انه، حسب تعبير لوتر، “خاطئ وبارّ في آن معاً”.

3-
الأعمال لا تقود إذاً إلى التبرير. فالإيمان وحده يبرّر الإنسان. إلا أن الإنسان
يجب ألاّ يكتفي بالإيمان، بل أن يقرن الإيمان بالعمل.

يقول
ملنختون إن الأعمال هي ثمار الإيمان. وإن لم تكن هي التي تبرّر الإنسان إلا أن
الله قد أوصى بها، ولا بدّ للمسيحيّ من أن يظهر إيمانه بحياة جديدة في تتميم جميع
وصايا الله وجميع تعاليم المسيح.

إلاّ
أن الخلاص الأبديّ لا يحصل عليه المؤمن بما يقوم به من أعمال صالحة. فالإنسان،
مهما قام بجهد ومهما صنع من أول صالحة ومهما بلغ من كمال وقداسة، فإنه يبقى خاطئاً،
ولن يستحقّ بأعماله وبحياته الحياة الأبديّة. فالخلاص هو نعمة مجانيّة استحقها لنا
“المسيح وحده” بموته الفدائيّ وقيامته. “النعمة وحدها،
“المسيح وحده”، “الإيمان وحده”، هي العبارات الثلاث التي توجز
فكرة المصلحين في النعمة والتبرير والخلاص الأبديّ.

ثانياً:
المجمع التريدنتينيّ (الدورة السادسة، 13 كانون الثاني 1547)

أعلن
المجمع التريدنتينيّ العقيدة الكاثوليكية حول النعمة في “القرار في
التبرير”. وفيه يتكلم عن التبرير الذي يحصل عليه الإنسان البالغ. أمّا
الأطفال الذين يتبرّرون بالمعمودية دون أيّ مساهمة من قبلهم، فلا يأتي المجمع على
ذكرهم في هذا القرار.

في
16 فصلا و33 بنداً يعرض المجمع للخلاص والتبرير اللذين يمنحهما الله للإنسان
باستحقاقات يسوع المسيح، ويؤكد ضد التعاليم البروتستنتية مساهمة الانسان في الخلاص
والتبرير باستحقاقات إعماله الصالحة. سنكتفي هنا بإيجاز الفصول الستة عشر:

1-
إن الخطيئة الأصلية قد جعلت الناس “عبيداً للخطيئة”، بحيث لا يستطيعون
الحصول على التبرير بقواهم الطبيعية أو بتتميم الناموس.

2
و3- المسيح، بموته، برّرنا. ومن يولد من جديد يشترك في آلام المسيح ويصبح ابن الله
ويصل على النعمة التي تصيّره باراً.

4-
تبرير الإنسان يتمّ بالمعموديّة، كما كتب: “لا أحد يستطيع أن يدخل ملكوت الله
ما لم يولد من الماء والروح” (يو 3: 5).

5-
إن الله قد أحبّنا أولاً. فهو إذاً يعطي النعمة للإنسان دون أيّ استحقاق من قبل
الإنسان. إلا أن الإنسان لا يفقد حريّته، بل يستخدمها عندما يقبل نعمة الله
السابقة. والنعمة السابقة هي التي تسبق ارتداد الإنسان وتبريره.

6-
التمهيد للحصول على التبرير: يهيّأ الإنسان للحصول على التبرير بطرق مختلفة: نعمة
الله السابقة؛ الإيمان بالوحي وبأن الله هو الذي يبرّر الخاطئ؛ التوبة؛ التصميم
على نيل المعموديّة وعلى بدء حياة جديدة وعلى تتميم وصايا الله.

7-
التبرير ليس مجرد غفران للخطايا بل تجديد الإنسان الداخليّ بتقبل النعمة. فالإنسان
الخاطئ يصبح بارًّا في صميم كيانه ووارثاً للحياة الأبديّة.

8-
الإيمان يبرّر الإنسان بمعنى ان الإيمان هو بدء الخلاص والتبرير.

9-
لا أحد يستطيع أن يعرف معرفة أكيدة لا تحتمل الشكّ والخطأ انه نال النعمة. فمن جهة
يجب آلا نشك في رحمة الله، ومن جهة أخرى يجب أن نعي دوماً ضعفنا وإهمالنا وتقصيرنا.

10-
البرّ الذي يحصل عليه الإنسان ينمو بالأعمال الصالحة.

11-
تتميم الوصايا ممكن وضروريّ للإنسان المبرّر. فالإيمان وحده لا يكفي

12-
لا أحد يستطيع أن يقول إنه من عداد المخلّصين الذين سبق الله فحدّد أن يحصلوا على
الخلاص. لأن كل إنسان معرض للخطيئة ويمكن أن يقع في الخطيئة

13-
نعمة الثبات في الإيمان وفي النعمة: لا أحد يستطيع أن يقول إن الله سيمنحه إياها
حتى وإن كان هو غير أمين لله بتتميم الأعمال الصالحة.

14-
من نال النعمة التبرير ثم عاد فسقط في الخطيئة يفقد الخالع. لكنه يستطيع بسر
التوبة استعادة النعمة التي فقدها.

15-
بالخطيئة المميتة لا يفقد الإنسان إلاّ النعمة، أمّا الإيمان فلا يُفقَد سوى
بالجحود.

16-
ثمار التبرير: إستحقاقات الأعمال الصالحة، حسب قول بولس الرسول: “كونوا
مستزيدين على الدوام في عمل الرب، عالمين أن تعبكم ليس بباطل في الرب” (1 كو
15: 58)، “ان الله ليس بظالم حتى لينسى عملكم الصالح والمحبة التي ابديتموها
لأجل اسمه” (عب 6: 10)، “لا تفقدوا ثقتكم فإنّ لها جزاء عظيما..”
(عب 10: 35). لذلك فالحياة الأبديّة هي في آن معاً نعمة وعد بها المسيح أبناء الله
ومكافأة يمنحها الله جزاء الأعمال الصالحة. ذلك هو “إكليل البر الذي سيجزي به
الله الديّان العادل.. مع الذين أحبّوا ظهوره” (2 تي 4: 7).

ان
يسوع هو الذي يمنح دوماً قوّته للمبرّرين، “كالرأس للأعضاء” (اف 4: 15)،
و”كالكرمة للأغصان” (يو 15: 5). وهذه القوة تسبق وتصحب وتتبع دوماً
أعمالهم الصالحة، وبدونها لا يمكن أن تكون هذه الأعمال مرضيّة أمام الله ومستحقّة
الجزاء.

إن
محبة الله للبشر عظيمة إلى حدّ أنها تجعل من مواهبه استحقاقات لهم.

ثالثًا-
ماذا بقي اليوم من هذا النقاش بين الكاثوليك والبروتستنت؟

يُعتبر
اليوم النقاش الذي جرى بين الكاثوليك والبروتستنت في القرن السادس عشر أمراً عفّاه
الزمن. ويمكننا اليوم أن نرى بوضوح كيف كان كل فريق يؤكّد بشدة ناحية معيّنة من
العقيدة الواحدة. وبلغت حدّة النقاش بالبعض إلى مواقف متصلّبة منافية لتعليم
كنيستهم. نذكر على سبيل المثال قول أحد اتباع لوثر الغيورين، نيكولا فون امسدورف: “إن
الأعمال الصالحة مضرّة للخلاص وللحياة الأبديّة”. ان نقطة انطلاق لوثر هي
مجانيّة الخلاف، إلا أن قولا كهذا يناقض آراءه التي نجد فيها اعتدالا. فمع تشديده
على مجانيّة الخلاص وأوّلية الإيمان بالنسبة إلى الأعمال، يعتبر، في تقديمه
للرسالة إلى الرومانيين في طبعته الألمانيّة للكتاب المقدّس، أن “الإيمان
الحيّ والقويّ لا يسعه إلا أن ينتج عنه باستمرار عمل الخير”.

من
جهة أخرى يجب قراءة تأكيدات المجمع التريدنتينيّ للأعمال الصالحة على ضوء ما يقوله
في نهاية الفصل السادس عشر في أوّلية نعمة الله: “إن محبة الله للبشر عظيمة
إلى حد أنها تجعل من مواهبه استحقاقات لهم”.

نخلص
إلى القول إن الأعمال الصالحة التي يقوم بها المؤمن لا بدّ منها للخلاص. ذلك أنها
الدليل في آن واحد على صحّة إيمانه وعلى نعمة الله التي تعمل فيه.

رابعاً-
النعمة المقدِّسة والنعمة الحاليّة

هناك
تمييز تقليدي في اللاهوت الغربي بين النعمة المقدِّسة والنعمة الحالية. ما معنى
هاتين اللفظتين؟ إن التبني والولادة الجديدة بالمعموديّة واشتراك المؤمن المبرَّر
بالطبيعة الإلهية وسكنى لروح المقدس في نفسه، كلّ هذه الأمور التي تكلّمنا عنها في
الفصول السابقة هي طرق مختلفة للتعبير عن الحقيقة نفسها: وتلك الحقيقة هي أن
الإنسان الخاطئ يصبح مبرِّراً، ينتقل من حالة الخطيئة إلى حالة البر تلك الحالةَ
الجديدة تدعى أيضاً “حالة النعمة”. أمّا النعمة التي يحصل عليها الإنسان
بانتقاله إلى تلك الحالة الجديدة فتدعى “النعمة المقدِّسة”، لأنها هي
التي تقدّس الإنسان وتبرّره.

تلك
النعمة هي “موهبة مخلوقة”، وبهذا تتميّز عن “الموهبة غير
المخلوقة”، التي هي الروح القدس نفسه الذي يهبه الآب بالابن. تلك النعمة ليست
موهبة عابرة، بل حقيقة ثابتة، “طبيعة” جديدة: كما أن الطبيعة الإنسانيّة
هي مبدأ أعمال الإنسان الاعتياديّة لطبيعيّة، كذلك النعمة المقدِّسة هي مبدأ أعمال
الإنسان الفائقة الطبيعة.

النعمة
المقدّسة هي نتيجة لحضور الروح القدس في النفس. وقد ركّز آباء الكنيسة على هذا
الحضور، انطلاقا من العهد الجديد ولا سيما من يوحنا وبولس.

النتيجة
الأولى للنعمة المقدّسة هي “الاشتراك في الطبيعة الإلهية”. هذا الاشتراك
لا يقوم فقط على التشبّه بالله بتتميم الفضائل (اشتراك ادبيي)، ولا هو اندماج
حلوليّ مع الله، بحيث يزول كلّ فرق بين الإنسان والله. إن المفهوم الكاثوليكيّ
لهذا الاشتراك هو حلّ وسط بين هذين المفهومين المتطرّفين. إن الله يرفع الطبيعة
الإنسانيّة إلى درجة سامية يدعوها الآباء وهذا التألّه يصبح في الإنسان مبدأ أعمال
صالحة، دون أن يزيل الفرق بين الإنسان والله.

النتيجة
الثانية للنعمة المقدَسة هي “التبنّي”: فبالنعمة يصبح الإنسان ابن الله
بالتبنّي.

النعمة
الحالية هي المساعدة العابرة التي يرسلها الله للإنسان الغير المبرّر لينير عقله
ويلهم إرادته ويوصله إلى البرّ، وللإنسان المبرّر ليثبّته في طريق البرّ وفي حالة
النعمة.

إن
عبارة “النعمة الحالية” لا نجد لها أيّ أثر في كتابات الآباء ولا في
القرون الوسطى قبل القرن السادس عشر. وقد استعملت للإجابة على سؤال عمليّ: كيف
نعبّر عن النعمة التي ينالها الإنسان قبل تبريره؟ بما انه لا يحصل على النعمة
المقدِّسة إلا بالمعموديّة والتبرير، فلا بدّ من وجود نعم أخرى يمنحها الله
للإنسان ليقوده إلى الارتداد وبالتالي إلى قبول النعمة المقدِّسة. وتلك النعم
دعاها اللاهوتيون “النعم الحاليّة”.

وتلك
النعم الحاليّة هي إمّا إلهامات مباشرة من قبل الله وإمّا مساعدات يرسلها الله
بواسطة البشر، كسماع المواعظ وقراءة الكتب المقدّسة، والأمثلة الصالحة، وإرشادات
الأصدقاء.

كيف
ينظر اللاهوت المعاصر إلى هذا التمييز بين النعمة المقدّسة والنعمة الحاليّة وإلى
مفهوم النعمة بنوع عام؟

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى