علم التاريخ

وصول الإسلام إلى أبرشيات أنطاكية



وصول الإسلام إلى أبرشيات أنطاكية

وصول
الإسلام إلى أبرشيات أنطاكية

توجيه
الجيوش إلى بلاد الشام: لما فرغ أبو بكر من أمر أهل (الردة) رأى توجيه الجيوش إلى
الشام. فكتب إلى أهل مكة والطائف واليمن وجميع العرب بنجد والحجاز يدعوهم للجهاد
ويرغبهم فيه “فسارع الناس إليه بين محتسب وطامع” وأتوا المدينة من أكل
أوب. فعقد ثلاثة ألوية لثلاثة رجال خالد ابن العاص ابن سعيد ابن أمية وشرحبيل أبن
حسنة وعمرو ابن العاص ابن وائل السهمي. واعترض عمر ابن الخطاب على تعيين خالد ابن
سعيد لأنه كان رجلاً فخوراً متعصباً فعزله أبو بكر ودفع لواءه إلى يزيد ابن أبي
سفيان فسار به ومعاوية أخوه يحمله بين يديه. وكان العقد لكل من هؤلاء في بادئ
الأمر على ثلاثة ألاف مقاتل. فما زال أبو بكر يمدهم بالرجال حتى صار مع كل أمير
سبعة آلاف وخمس مئة. وأمر الأمراء أن يعقدوا لكل قبيلة لواء وأن يسلك عمرو ابن
العاص طريق أيلة (العقبة) عامداً لفلسطين وأمر يزيد وشرحبيل أن يسلكا طريق تبوك.

 

وادي
عربة: وفي أوائل السنة 634 وصلت جموع المسلمين العرب إلى شرق بحر الميت وغربه فظن
سرجيوس بطريق قيصرية فلسطين أنه أمام غزوة عادية من غزوات البدو فقام بنفسه على
رأس ما تيسر لديه من الرجال واتجه نحو الجنوب فاشتد القتال في وادي عربة وتكاثر
المسلمون فمني سرجيوس بالفشل. ثم كان قتال في قرية دائن بالقرب من غزة وكان انتصار
المسلمين. ولقي سرجيوس حتفه. فانفتحت أبواب فلسطين على مصراعيها أمام المسلمين.

 

خالد
ابن الوليد: ولما صار عمرو ابن العاص إلى أول فلسطين كتب إلى أبي بكر يعلمه بكثرة
العدو وسعة أرضه. فكتب أبو بكر إلى خالد ابن الوليد وهو بالعراق يأمره بالمسير إلى
الشام فأتى خالد عين التمر ففتحها عنوة ثم صندوداء فقاتله أهله فظفر بهم. ثم قاتل
جمعاً لبني تغلب ابن وائل في المُضيح والحصيد فهزمهم وسبى. ثم أغار على قراقر وهو
ماء لكلب. ثم فوّز منه إلى سوى وهو ماء لكلب ومعهم فيه قوم من بهرا فقاتلوه. ثم
أتى أركة فدخلها صلحاً (خوفاً من بطشه) ثم دومة الجندل فدخلها أيضاً. ثم أتى تدمر
فامتنع أهلها وتحصنوا ثم طلبوا الأمان فأمنهم على أن يرضخوا للمسلمين ويكون ذمة.
ثم صمد أهل القريتين في وجهه وأهل حوارين فظفر وغنم وسبى. ثم وصل إلى مرج راهط
فأغار على غسان في يوم فصحهم فسبى وقتل. وقدم خالد على المسلمين في حوران فحاصروا
بصرى عاصمتها وحاربوا بطريقها فصالحهم أهلها أما على طعام وزربيب وخل أو على جزية
يؤدونها. ثم دخل خالد موآب صلحاً.

 

أجنادين
وفحل: ونشط هرقل وجيّش “فسرّب بعضاً من جماعته وتجمع الباقي في النواحي”
وعقد اللواء لأخيه ثيودوروس القبقلار. وصعب على ثيودوروس أن يستجلي خطة خصمه في
الحرب. ولهل سبب ذلك أن هذه القبائل المغيرة لم تكن لها خطة عسكرية واضحة. وتقدم
ثيودوروس ببطء فرابط في جلّق أولاً ليحمي دمشق ويهدد القبائل الغازية. ثم اتجه
جنوباً للدفاع عن المدينة المقدسة فصمد في أجنادين بين القدس وغزة.فترفع خالد ولم
يحفل بإمكانات السلب والنهب بل أسرع إلى الجنوب عبر شرق الأردن وجمع الجموع في
وادي عربة. ثم دفع بها إلى أجنادين. فنشبت معركة حامية في الثلاثين من تموز سنة
634 كتب النصر فيها للعرب فجلا الروم عن الأرياف في جنوب فلسطين وهمدوا وراء
مستنقعات بيسان فغلبوا فيها فقاموا إلى فحل
Pella
فقوتلوا أشد قتال وأبرحه. وقتل بطريقهم وتفرق الباقون في مدن الشام وذلك في الخامس
والعشرين من كانون الثاني سنة 635. وتحّن أهل فحل فحصرهم المسلمون حتى سألوا
الأمان على أداء الجزية عن رؤوسهم والخراج عن أرضهم. فأمنوا على أنفسهم وأموالهم
ولم تهدم أسوارهم. ولم يبقَ للروم في فلسطين سوى مدنها المحصنة المنيعة.

 

تطور
في الهدف والخطة: وحدّث أبو حفص الدمشقي عن سعيد ابن عبد العزيز التنوخي عن
“عدة” منهم أبو بشر مؤذن مسجد دمشق أن المسلمين لما قدموا الشام كان كل
أمير منهم يقصد إلى ناحية ليغزوها ويبث غاراته فيها. فكان عمرو ابن العاص يقصد
لفلسطين وكان شرحبيل يقصد للأردن وكان يزيد ابن أبي سفيان يقصد “لأرض”
دمشق. وتوفي أبو بكر في الثالث والعشرين من آب سنة 634 وتولى الخلافة بعده عمر ابن
الخطاب. وبان عيب الروم وضعفهم وعيب الفرس وانتهاء أمرهم، نتيجة للحرب التي خاضوها
ضد بعضهما والتي سبقت هذه الغزوات. فتحول الغزو والسلب والسبي إلى فتح (الفتح
مصطلح إسلامي والمصطلح العام الذي يطلق على هذه الأمور هو “احتلال”) وأصبح
رائد المسلمين السيطرة على الشام والبقاء فيها. واتخذوا من السامريين واليهود
“عيوناً وأدلاء لهم”. وكان أمير الغزاة في عهد أبي بكر عمرو بن العاص
يقودهم عند الاقتضاء. ثم تزعم غاراتهم خالد ابن الوليد. فلما تطور الهدف وجاء عمر
“ولّى أبا عبيدة ابن الجرّاح أمر الشام كله وأمّره الأمراء في الحرب والسلم.
ففتح شرحبيل ابن حسنة طبرية صلحاً على أن يؤمن أهلها على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم
ومنازلهم إلا ما جلوا عنه وخلوه. وفتح جميع مدن الأردن على هذا الصلح فتحاً يسيراً
ففتح بيسان وسوسية وأفيق وجرش وبيت راسن وقدس والجولان وعكة وصور وصفورية”.

 

دمشق:
(635) وتوجه المسلمون إلى دمشق فالتقوا بالروم في مرج الصفّر فاقتتل الطرفان
قتالاً شديداً “جرت في أثنائه الدماء وطحنت بها الطاحونة” وجرح من
المسلمين أربعة آلاف. ثم ولّى الكفرة (والمقصود هنا بالكفرة الرومان والذين هم
بطبيعة الحال مسيحيين) منهزمين مغلولين لا يلوون على شيء حتى أتوا دمشق وبيت
المقدس. وأقام المسلمون خمس عشرة ليلة ثم زحفوا على دمشق فأخذوا الغوطة وكنائسها
عنوة وتحصن أهل المدينة وأغلقوا أبوابها في أوائل سنة 635. وحاصر المسلمون دمشق
ستة أشهر وأهمل أمرها هرقل ولم يرسل النجدات. فوقف أسقفها على السور في أيلول.
فدعي له خالد. فإذا أتى سلم عليه وحادثه فقال له. يا با سليمان إن أمركم مقبل ولي
عليك عدة فصالحني عن هذه المدينة. فدعا خالد بدواة وقرطاس فكتب: “بسم الله
الرحمن الرحيم هذا ما أعطى خالد ابن الوليد أهل دمشق إذا دخلها أعطاهم أماناً على
أنفسهم وأموالهم وكنائسهم. وسور مدينتهم لا يهدم. ولا يسكن شيء من دورهم. لهم بذلك
عهد الله وذمة رسوله صلعم والخلفاء والمؤمنين. لا يعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا
الجزية”. ولما رأى الأسقف أن أبا عبيدة قد قارب دخول المدينة من باب الجابية
بدر إلى خالد فصالحه وفتح له الباب الشرقي فدخل والأسقف معه ناشراً كتابه الذي
كتبه له. فقال بعض المسلمين والله ما خالد بأمير فكيف يجوز صلحه فقال أبو عبيدة
إنه يجيز على المسلمين أدناهم وأجاز صلحه وأمضاه ولم يلتفت إلى ما فتح عنوة. فصارت
دمشق صلحاً كلها.

“وزعم
الهيثم بن عدي أن أهل دمشق صولحوا على أنصاف منازلهم وكنائسهم. وقال محمد ابن سعد:
قال عبدالله الواقدي قرأت كتاب خالد ابن الوليد لأهل دمشق فلم أرَ فيه أنصاف
المنازل والكنائس. ولا أدري من أين جاء به من رواه. ولكن دمشق فتحت لحق بشر كثير
من أهلها بهرقل وهو في أنطاكية فكثرت فضول منازلها فنزلها المسلمون”.

وروي
عن الأوزعي أنه قال: كانت الجزية في الشام في بدء الأمر جريباً وديناراً على كل
جمجمة. ثم وضعها عمر ابن الخطاب على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أبعين
درهماً وجعلهم طبقاً. وروي أن اليهود كانوا كالذمة للنصارى يؤدون إليهم الخراج
فدخلوا معهم في الصلح.

 

بعبلبك
وحمص: ولما فرغ أبو عبيدة من أمر مدينة دمشق سار إلى حمص فمر ببعلبك. فطلب أهلها
الأمان والصلح فصالحهم وأمنهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وكتب لهم: “بسم
الله الرحمن الرحيم هذا كتاب أمان لأهل بعبلبك رومها وفرسها “وعربها” على
أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ودورهم داخل المدينة وخارجها وعلى أرحائهم. وللروم أن
يرعوا سرحهم ما بينهم وبين خمسة عشر ميلاً. ولا ينزلوا قرية عامرة. فإذا مضى شهر
ربيع وجمادى الأولى ساروا إلى حيث شاؤوا. ومن أسلم منهم فله ما لنا وعليه ما
علينا. ولتجارهم أن يسافروا إلى حيث أرادوا من البلاد التي صالحنا عليها. وعلى من
أقام منهم الجزية والخراج. شهد الله وكفى بالله شهيداً”.

ثم
نهض أبو عبيدة إلى حمص فنزل باب الرستن فصالحه أهل حمص على تأمين أنفسهم وأموالهم
وسور مدينتهم وكنائسهم. واستثنى من هذه ربع كنيسة يوحنا ليحولها إلى مسجد. واشترط
الخراج على من أقام منهم.

 

بيروت:
(636) وأتى يزيد ابن أبي سفيان بعد فتح مدينة دمشق صيدا وعرقة وجبيل وبيروت
“وعلى مقدمته أخوه معاوية” ففتحها فتحاً يسيراً وجلا كثيراً من أهلها.
وتولّى فتح عرقة معاوية نفسه. أما طرابلس فإنها ظلّت صامدة حتى أوائل عهد معاوية.

 

حماه
والمعرّة واللاذقية: (636) ومضى أبو عبيدة بعد حمص إلى حماه فتلقاه أهلها مذعنين
فصالحهم على “الجزية في رؤوسهم والخراج في أرضهم”. فمضى نحو شيزر
“فخرجوا يكفرون ومعهم المقلسون” وروضوا بمثل ما رضي به أهل حماه. وبلغت
خيل أبي عبيدة الزراعة والقسطل. مر بمعرة حمص فخرجوا يقلّسون بين يديه. ثم أتى
فامية ففعل أهلها مثل ذلك وأذعنوا بالجزية والخراج. ووصل إلى اللاذقية فقاتله
أهلها ودخل عبادة الحصن وعلا حائطه “فكبّر عليه”. وهرب قوم من نصارى
اللاذقية إلى اليسيد ثم طلبوا الأمان. فقوطعوا على خراج يؤدونه قلوا أو كثروا تركت
لهم كنيستهم. وبنى المسلمون المسلمون مسجداً جامعاً. ثم فتحوا بلدة على فرسخين من
جبلة. ثم فتح عبادة انطرطوس ومرقية وبُلنياس.

 

يوم
اليرموك: (636) وكان هرقل في أثناء هذا كله يسعى بنشاط بين أنطاكية والرها لتجييش
قوة كبيرة يتمكن بها من صد المسلمين وإنقاذ سورية الجنوبية وفلسطين والساحل. وبرغم
خسارته الكبيرة في الرجال إبان الحرب الفارسية وبرغم قلة المال في الخزينة فإنه
حشد في خريف سنة 635 من الروم والأرمن والعرب وأنفذهم في ربيع سنة 636 إلى الجنوب.
وكان خالد آنئذ في حمص. فلما علم بقدوم هذا الجيش الكبير جلا عن حمص ودمشق وسائر
المدن المجاورة وجمع ما لديه من الرجال خمسة وعشرين ألفاً وانتقى الجابية فصمد
فيها فأدركه الروم وضربوه فدافع وانسحب إلى اليرموك أحد روافد الأردن الشرقية.

ووصل
الروم إلى اليرموك في تموز سنة 636 وتناوش الفريقان وتناول بعضهم بعضاً في معارك
صغيرة روحاً من الزمن. وفيما خالد ينتظر وصول المدد كان الروم يتخاصمون فيما بينهم
بدافع الحسد وقلة الانضباط. فانهزم ثيودوروس في عدد من تلك المناوشات فنادى الجند
ببانس فسيلفساً فأدى هذا الفساد إلى انسحاب القبائل العربية المسيحية من معسكر
الروم وامتناعهم عن القتال. فجاءت هذه الفوضى وجاء هذا الانسحاب في صالح المسلمين.
واغتنم خالد هذه الفرصة السانحة فقام بحركة التفاف حول الروم من الشرق. ثم احتل
الجسر فوق وادي الرقاد فحرم خصمه إمكان التراجع غرباً. وفي الثاني والعشرين من آب
سنة 636 انقضَّ عليهم بفرسانه المجربين فقتل من قتل وشرّد من شرّد.

 

أنطاكية
وحلب: (638) وسار أبو عبيدة إلى حمص. ثم أتى قنّسرين وعلى مقدمته خالد ابن الوليد
فقاتله أهلها ثم لجأوا إلى حصنهم وطلبوا الصلح فصالحهم أبو عبيدة على مثل صلح حمص.
وكان حاضر قنسرين لتنوخ (منذ أول ما تنخوا بالشام) فدعاهم أبو عبيدة إلى الإسلام
فأسلم بعضهم وصالح كثيرين منهم على الجزية وبقي بنو سليح على المسيحية. وكان
بالقرب من حلب حاضر يجمع أصنافاً من العرب من تنوخ وغيرهم فصالحهم أبو عبيدة على
الجزية. ورحل إلى حلب وعلى مقدمته عياض الفهري. فوجد أهلها قد تحصنوا. فنزل عليها
فلم يلبثوا أن طلبوا الصلح والأمان على أنفسهم وأموالهم وسور مدينتهم وكنائسهم
ومنازلهم والحصن الذي بها. ثم سار إلى أنطاكية وقد تحصن بها خلق من جند قنسرين.
فلما وصل إلى مهروبة لقيه جمع للعدو ففضهم والجأهم إلى المدينة وحاصر أهلها من
جميع أبوابها. وكان معظم الجيش على باب فارس وباب البحر. ثم صالحوه على الجزية
والجلاء. فجلا بعضهم وأقام بعضهم. وكانت أنطاكية عظيمة الذكر والأمر عند عمر
وعثمان. فلما فتحت كتب عمر إلى أبي عبيدة أن رتّب بأنطاكية جماعة من المسلمين
“أهل نيات وحسبة” واجعلهم بها مرابطة “ولا تحبس عنهم العطاء”.

وبلغ
أبا عبيدة أن جمعاً للروم بين معرة مصرين وحلب فلقيهم وقتل عدة بطارقة وفتح مصرين
على مثل صلح حلب. وجالت خيوله فبلغت بوقا وفتحت قرى الجومة. وفتح أبو عبيدة أرض
قنسرين وأنطاكية. ثم سار يريد قروش فتلقاه راهب من رهبانها فصالحه فعقد لأهلها
عهداً مثل الذي أعطى أهل أنطاكية. وأتى أبو عبيدة حلب المأجور ودولك ومنبج فصالحهم
مثل صلح أنطاكية. وبعث جيشاً عليه حبيب ابن مسلمة إلى بالس وقاصرين فصالحهم على
الجزية والجلاء فجلا أكثرهم إلى ارض الروم وأرض الجزيرة. وبلغ أبو عبيدة الفرات ثم
رجع إلى فلسطين.

 

الجراجمة:
وغزا حبيب ابن مسلمو الجرجومة في جبل اللكام بين حلب والاسكندرونة “عند معدن
الزاج” فلم يقاتله أهلها ولكنهم بدروا بطلب الأمان والصلح. فصالحوه “على
أن لا يؤخذوا بالجزية وأن ينفلوا أسلاب من يقتلون من أعداء المسلمين”. ودخل
من كان في مدينتهم من تاجر وأجير وتابع من الأنباط وغيرهم في هذا الصلح.

 

المدينة
المقدسة: (638) وكان لا يزال يعلو السدة البطريركية في أورشليم الشيخ الورع التقي
الأمين صفرونيوس. فلما شعر بالخطر المداهم أبعد الصليب المقدس وأثمن ما لديه من
الأواني الكنسية إلى ساحل البحر فالقسطنطينية.

وعاد
أبو عبيدة إلى فلسطين بعد فتح الشمال بأمر بتشديد الحصار على المدينة المقدسة فطلب
أهلها الأمان “على أن يكون المتولي للعقد لهم عمر نفسه”. فكتب أبو عبيدة
إلى عمر فقدم فنزل الجابية ثم سار إلى “ايلياء”. فاستقبله صفرونيوس على
جبل الزيتون وفاوضه في صلح “على مثل ما صولح عليه أهل مدن الشام” فقبل
عمر وكتب بذلك. ثم نزل الكبيران إلى المدينة لزيارتها فصلّى الخليفة عند أطلال
هيكل سليمان عند الصخرة التي قام فوقها فيما بعد مسجد عبد الملك ابن مروان. وجاء
في رواية عربية ثانية أن الخليفة أعطى سكان بيت المقدس على ما أحاط به حصنهم
“شيئاً” يؤدونه ويكون للمسلمين ما كان خارجاً.

 

قيصرية
وطرابلس: (640-644). وتوفي أبو عبيدة فولّى الخليفة عمر ابن الخطاب يزيد ابن أبي
سفيان الأردن وفلسطين وأمره أن يغزو قيصرية فلسطين. فنهض غليها في سبعة عشر ألفاً.
فقاتله أهلها فحاصرهم. “وكان سبب فتحها أن يهودياً يُقال له يوسف أتى
المسلمين ليلاً فدلهم على طريق في سرب لقاء تأمينه على أهله. فدخلها المسلمون في
الليل وكبّروا فيها. فأراد الروم أن يهربوا من السرب فوجدوا المسلمين عليه. وفتح
المسلمون الباب فدخل معاوية. وكان قد تسلم القيادة بعد وفاة أخيه، فسبى أربعة آلاف
وأرسلهم إلى عمر. وحوصرت قيصرية سبع سنين وكان بها خلق من العرب”.

ولما
استخلف عثمان وولى معاوية الشام وجّه معاوية ابن مجيب الأزدي إلى
“أطراُبلس” وهي ثلاث مدن مجتمعة فبنى في مرج على أميال منها حصن سفيان
وقطع المادة عن أهلها من البحر وغيره وحاصرهم. فلما اشتد عليهم الحصار اجتمعوا في
أحد الحصون الثلاثة وكتبوا إلى ملك الروم يسألونه أن يمدهم أو يبعث إليهم بمراكب
يهربون فيها. فوجه إليهم مراكب كثيرة فركبوها ليلاً وهربوا. فأسكنها معاوية جماعة
كبيرة من اليهود.

 

يوم
الجابية: وغزا المسلمون وغنموا. ثم غلبوا الروم في الميادين الطلقة فحاصروا المدن
المحصنة فصالحت. واتسعت رقة الدولة ودخل فيها ألوف مؤلفة من المسيحيين والمشركين
واليهود. وتدفقت الأموال على بيت المال وكثر طلابها واختلفوا في ما أصابهم منها.
وكان لا بد من الدفاع عن هذه الدولة والنظر في أمور أهلها وسكانها. فقام عمر إلى الجابية
عاصمة الغساسنة في الجولان يصحبه عدد من الصحابة. فاستدعى كبار القادة والوجهاء
وشاور فقرر اتخاذ بعض الإجراءات الحربية والمالية والإدارية. وكان ذلك في أثناء
سنة 638.

 

قضية
الجزية: وذكر المسلمون الآية: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ
هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ
شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ” (سورة التوبة،
الآية 28-29). ففرضوا جزية على رؤوس المسيحيين وخراجاً على أملاكهم.

وقُدر
للمسلمين النصر على الروم في اليرموك. فأتى جبلة ابن الأيهم ملك غسان عمر ابن
الخطاب وهو على نصرانيته. فعرض عمر عليه الإسلام وأداء الصدقة فأبى ذلك وقال أقيم
على ديني وأودي الصدقة. فقال عمر إن أقمت على دينك فأدِ الجزية. فأنف منها. فقال
عمر ما عندنا لك إلا واحدة من ثلاث: إما الإسلام وإما أداء الجزية وإما الذهاب حيث
شئت. فدخل جبلة بلاد الروم في ثلاثين ألفاً. فلم بلغ ذلك عمر ندم. وعاتبه عبادة
ابن الصامت فقال لو قبلت منه الصدقة ثم تألفته لأسلم. فوجّه عمر عمير ابن سعد
الأنصاري إلى بلاد الروم وأمره أن يتلطف لجبلة ويدعوه إلى الرجوع إلى بلاد الإسلام
على أن يؤدي ما كان بذل من الصدقة ويقيم على دينه. فسار عمير حتى بلاد الروم وعرض
على جبلة ما أمره عمر بعرضه فأبى إلا المقام في بلاد الروم.

 

{هنا
نرى أنه من الضروري شرح المعنى من “تآلفته لأسلم” ففي تفسير ابن كثير
الدمشقي والصفحة 167 جاء التالي: لمؤلفة قلوبهم: منهم من يعطى ليُسلم، كما أعطى
النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية من غنائم حنين، وقد كان شهدها مشركا. قال:
فلم يزل يعطيني حتى صار أحبَّ الناس إليَّ بعد أن كان أبغض الناس إلي، كما قال
الإمام أحمد:

حدثنا
زكريا بن عدي، أنا ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن صفوان
بن أمية قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وإنه لأبغض الناس
إلي، فما زال يعطيني حتى صار وإنه لأحب الناس إلي.

ورواه
مسلم والترمذي، من حديث يونس، عن الزهري، به ومنهم من يُعْطَى ليحسُن إسلامه،
ويثبت قلبه، كما أعطى يوم حنين أيضا جماعة من صناديد الطلقاء وأشرافهم: مائة من
الإبل، مائة من الإبل وقال: “إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه، مخافة أن
يَكُبَّه الله على وجهه في نار جهنم”.

وفي
الصحيحين عن أبي سعيد: أن عليا بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذُهَيبة في
تربتها من اليمن فقسمها بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس، وعُيَينة بن بدر، وعلقمة
بن عُلاثة، وزيد الخير، وقال: “أتألفهم”

ومنهم
من يُعطَى لما يرجى من إسلام نظرائه. ومنهم من يُعطَى ليجبي الصدقات ممن يليه، أو
ليدفع عن حَوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد}.

 

وكتب
عمر ابن سعيد إلى عمر أنه أتى شق الفرات الشامي وأراد من هناك من بني تغلب على
الإسلام فأبوا وهموا باللحاق بأرض الروم. فكتب إليه عمر يأمره أن يضعف عليهم
“الصدقة” التي تؤخذ من المسلمين في كل سائمة وأرض. وتقدم أبو عبيدة في
شمال سورية ووصل إلى جبال اللكام. وغزا حبيب ابن مسلمة الجرجومة فبدر أهلها في طلب
الأمان “على أن لا يؤخذوا بالجزية وأن ينفلّوا أسلاب من يقتلون من عدو
المسلمين”. فوافق حبيب ودخل الجراجمة في دولة الإسلام ولم يدفعوا الجزية.

وصالحت
حلب على جزية تؤديها كسائر مدن الشام ولكنها احتفظت بحصنها. وقد مرَّ بنا كيف تنص
رواية من الروايات أن المسلمين صالحوا سكان بيت المقدس على “شيء” يؤدونه
وأعطوهم ما أحاط به حصنهم على أن يكون للمسلمين ما كان خارجاً. وقوطع أهل اللاذقية
على “خراج” يؤدونه قلوا أو كثروا!.

ولما
فتح عياض ابن غنم الرها أعطاهم أماناً لأنفسهم أموالهم وكنائسهم “على أن لا
يحدثوا كنيسة ولا بيعة ولا يظهروا ناقوساً ولا باعوثاً ولا صليباً”.

 

عهدة
عمر: نظر عمر ابن الخطاب نظرة فاتح ومؤسس فأمّن وعدل وأنصف واعتبر الدولة الفتية
دولة إسلامية تحمي الإسلام والمسلمين أولاً كما كانت دولة الروم دولة مسيحية تحمي
المسيحية والمسيحيين أولاً. ومن هنا قوله إلى عمرو ابن العاص عندما حل القحط في
المدينة: “أخرب الله مصر في عمران المدينة وصلاحها”.

 

وهذا
نص العهدة العمرية كما وردت في كتاب: تفسير القرآن العظيم لابن كثير الدمشقي. دار
طيبة للنشر والتوزيع، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، الطبعة: الثانية 1420ه – 1999 م،
في الجزء الرابع والصفحة 133، في تفسيره لسورة التوبة إذ يقول:

 

وقوله:
{ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } أي: إن لم يسلموا، { عَنْ يَدٍ } أي: عن قهر لهم
وغلبة، { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي: ذليلون حقيرون مهانون. فلهذا لا يجوز إعزاز أهل
الذمة ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلاء صَغَرة أشقياء، كما جاء في صحيح مسلم،
عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تبدءوا
اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه”

ولهذا
اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، تلك الشروط المعروفة في
إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم، وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ، من رواية عبد الرحمن بن
غَنْم الأشعري قال: كتبت لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين صالح نصارى من أهل
الشام:

بسم
الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا
وكذا، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا
وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة، ولا
قِلاية ولا صَوْمَعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها، ولا نحيي منها ما كان خطط
المسلمين، وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار، وأن نوسع
أبوابها للمارة وابن السبيل، وأن ينزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم،
ولا نأوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوساً، ولا نكتم غشاً للمسلمين، ولا نعلم
أولادنا القرآن، ولا نظهر شركا، ولا ندعو إليه أحداً؛ ولا نمنع أحداً من ذوي
قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه، وأن نوقر المسلمين، وأن نقوم لهم من مجالسنا
إن أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم، في قلنسوة، ولا عمامة، ولا
نعلين، ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكُنَاهم، ولا نركب السروج، ولا
نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئا من السلاح، ولا نحمله معنا، ولا ننقش خواتيمنا
بالعربية، ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقاديم رءوسنا، وأن نلزم زِينا حيثما كنا، وأن
نشد الزنانير على أوساطنا، وألا نظهر الصليب على كنائسنا، وألا نظهر صلبنا ولا
كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا
خفيا، وألا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين، ولا نخرج
شعانين ولا باعوثاً، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في شيء من
طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نجاورهم بموتانا، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه
سهام المسلمين، وأن نرشد المسلمين، ولا نطلع عليهم في منازلهم.

قال:
فلما أتيت عمر بالكتاب، زاد فيه: ولا نضرب أحداً من المسلمين، شرطنا لكم ذلك على
أنفسنا وأهل ملتنا، وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم
وَوَظَفْنا على أنفسنا، فلا ذمة لنا، وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة
والشقاق.}.

 

الكنائس
والأديار: واحترم المسلمون حق النصارى في استعمال الكنائس القائمة في أكثر المدن
والقرى. وأخذوا بعضها عنوة ككنائس الغوطة وطبرية. أما كتدرائية دمشق (المعرفة
اليوم بالمسجد الأموي) فإن نصفها أصبح مسجداً منذ اللحظة الأولى. وأراد معاوية أن
يزيد النصف الآخر في المسجد “فأبى النصارى ذلك فأمسك”. وما فتئ بيدهم
حتى عهد الوليد ابن عبد الملك. وأمن أبو عبيدة نصارى حمص على كنائسهم ولكنه استثنى
ربع كنيسة يوحنا للمسجد.

 

خروج
المسيحيين: وجاء في المراجع العربية في كتاب فتوح البلدان للبلاذري أنه لما فُتحت
دمشق “لحق بشر كثير من أهلها بهرقل وهو في أنطاكية فكثرت فضول منازلها”.
وجاء أيضاً أن يزيد ابن ابي سفيان وأخاه معاوية “أجليا كثيراً من أهالي صيدا
وبيروت وجبيل وعرقة” لدى فتحها وأن أهالي طرابلس “هربوا” بمراكب
قبيل سقوط بلدتهم. وجاء أيضاً أن جبلة ابن الأيهم الغساني دخلا بلاد الروم بعد
اليرموك “في ثلاثين ألفاً” وأن أهل أنطاكية صالحوا على الجزية والجلاء “فجلا
بعضهم وأقام بعضهم” وأن أكثر أهالي بالس وقاصرين جلوا إلى بلاد الروم وكذلك
سكان الثغور الشامية بين الاسكندرونة وطرطوس فإنهم “هربوا إلى بلاد الروم
خوفاً” وقيل أن هرقل أدخلهم معه عند انتقاله من أنطاكية. ووجّه أبو عبيدة
ميسرة ابن مسروق إلى درب بفراس ليقطعها “فلقي جمعاً للروم معهم مستعربة من
غسان وتنوخ وإياد يريدون اللحاق بهرقل”.

ولم
يرضَ هرقل عن هذا النزوح الكبير فإنه أعلم المخلصين من المسيحيين في جميع أنحاء
سورية وفلسطين أنه عائد لا محالة وأوجب عليهم البقاء في أماكنهم استعداداً لجولة
ثانية في ميدان القتال واسترداد الأراضي.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى