علم التاريخ

ثالثاً: مركز المسيَّا في مملكة إسرائيل



ثالثاً: مركز المسيَّا في مملكة إسرائيل

ثالثاً:
مركز المسيَّا في مملكة إسرائيل

مملكة
إسرائيل قامت منذ البدء على أساس تكوين لاهوتي، سواء من جهة شخصية الملك الذي
يدبِّرها ويحكمها، أو من جهة دستورها الذي تعيش وتنمو به، أو من جهة غايتها في
المستقبل القريب والبعيد.

فالله
كان يقودها في البداية بنفسه سرًّا وعلناً، من الخارج بقوة فائقة لمواجهة أعدائها،
ومن الداخل بحضوره الشخصي أحياناً وبأنبيائه يكلِّمهم عن الحياة الفضلى.

أمَّا
دستور مملكة إسرائيل فكان منذ البدء الناموس الأدبي والأخلاقي الذي سلَّمه لهم في
الوصايا العشر وكافة الشرائع الروحية الأخرى.

وأمَّا
غاية مملكة إسرائيل فكانت إعلان مجد الله لكافة الأُمم واستعلان ملكوته الآتي على
كل الشعوب في شخص المسيَّا.

والوعد
باستعلان ملكوت الله في شخص المسيَّا بدأ مبكِّراً جداً مع بداية مملكة إسرائيل،
ونقرأ عنه بغاية الوضوح في أول أسفار التوراة: “لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع
من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب
” (تك 10: 49)، حيث شيلون هنا بمعنى “حاكم السلام” وهنا أول
إشارة إلى طبيعة المسيَّا الروحانية.

ومن
هذا التبكير في الإشارة إلى المسيَّا، يتضح أن غاية الله من إقامة مملكة إسرائيل
هي أساساً ومن البدء لاستعلان المسيَّا وملكوت الله بين كافة الشعوب بالنهاية.

وبمرور
الزمن تبلغ مملكة إسرائيل منتهى النضج من جهة إمكانية حكم الملوك عليها حكماً
حكيماً عادلاً حسب مشيئة الله، كما يبلغ الشعب منتهى النضوج في قدرتهم على طاعة
الله واستجابتهم لوصاياه حسب الدستور الروحي الذي وضعه لهم. وبذلك بدأت تزداد
الحاجة إلى المسيَّا جداً في أواخر الأيام التي ازدادت فيها حالة المملكة سوءاً
بسبب رداءة حكم ملوكها وعدم طاعة شعبها لله، الأمر الذي تسبب عنه تخلي الله عن
مملكة إسرائيل ووقوعها فريسة تحت نقمة أعدائها مرَّات كثيرة.

ومن
واقع الحال الذي انحطَّت إليه مملكة إسرائيل من جهة رداءة الحكم ومن جهة إخفاق
الشعب في طاعة نواميس الله الأدبية والأخلاقية، بدأت تتركز حاجة إسرائيل في ملك
يكون له الصفات التي تمكِّنه من الحكم الكامل والصالح، كما ظهرت الحاجة الشديدة
إلى قوة روحانية تزيد الشعب قدرة على معرفة الله وطاعة وصاياه ونموهم في البر.
وهنا بدأت صورة المسيَّا تأخذ كل صفاتها المطلوبة خاصة بالنسبة للأُمم.

وتحت
هذا الإلحاح بدأ الروح يُعلن للأنبياء أوصاف المسيَّا:

+
يخرج قضيب من جذع يسَّى وينبت غصن من
أصوله، ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة،
روح المعرفة ومخافة
الرب. ولذَّته تكون في مخافة الرب، فلا يقضي حسب نظر
عينيه ولا يحكم بحسب سمع أُذنيه، بل يقضي بالعدل
للمساكين ويحكم بالإنصاف
لبائسي الأرض.. ويكون في ذلك اليوم أن
أصل يسَّى القائم راية للشعوب، إياه تطلب الأُمم ويكون محله مجداً”
(إش 11: 110)

والمُلاحَظ
جداً أن تصوير المسيَّا كملك هو في الواقع تصوير مجازي، لأن حكومته حسب
النبوَّة تشمل العالم كله، وهو لا يغزو الأُمم ولا يسعى وراءها، ولكن الشعوب تنجذب
إليه كما ينجذب الشعب إلى راية خلاصه، وتتبارى الأُمم في طلب ودّه.

ومن
هذه النبوَّة نستطيع أن نرى مقدار صحة إدراك الأنبياء لأوصاف المسيَّا الروحية
وأوصاف الملكوت القادم التي تخلو من التصويرات المادية أو العنصرية الصرف، فعمومية
الملكوت واضحة.

ولكن
لأن الأنبياء أدركوا بالروح أن مجيء المسيَّا وتأسيس الملكوت الآتي سيقع حتماً في
صميم الزمان لا في نهايته، بدأوا يصبغون نبواتهم عن الملكوت والمسيَّا بصبغة
زمانية يتخللها رنة الأعمال والأوصاف التي تشابه أعمال وتصرفات الملوك المقتدرين،
وهذا مما أوقع عامة الشعب والمتعصبين من إسرائيل في الإحساس بأن الملكوت الآتي
سيكون مُلكاً زمانياً صرف بأمجاد أرضية، ومَلِكُه سيكون إسرائيلياً متعصِّباً
لإسرائيليته.

+
“لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه
عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام، لنمو رياسته وللسلام لا
نهاية، على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدِّها بالحق والبر من
الآن
وإلى الأبد”
(إش 9: 6و7)

+ “ها أيام تأتي يقول الرب وأُقيم لداود غصن برٍّ فيملك
ملك وينجح ويُجري حقًّا وعدلاً في الأرض، في أيامه يخلص يهوذا، ويسكن إسرائيل
آمنا. وهذا هو اسمه الذي يدعونه به الرب برّنا”

(إر 23: 6و7)

وقد
تمادى الشعب وخصوصاً المتعصبون لوطنيتهم وأرضهم والمتحمسون ضد أعدائهم في تصوُّر
المسيَّا لأنفسهم كملك سينتقم لإسرائيل أشد النقمة، فيسحق أعداءهم ويوسِّع تخومهم
الأرضية ليمتلكوا أراضي كافة الأُمم حولهم، وبالأخص الذين أذلُّوا إسرائيل
وأهانوها واستعبدوها فيما مضى، ويجعل إسرائيل فوق الممالك كلها لتسود وتحكم على
شعوب الأرض.

وقد
وقع الشعب في هذا التصوُّر الخاطئ للمسيَّا بسبب الالتباس في فهم وظيفة مملكة
إسرائيل التي قامت على أساسها وبسببها، وهي أن تكون خادمة لشعوب الأرض لا سيِّدة
عليها، لأن عملها الأول والأخير هو توصيل رسالة النور والخلاص للعالم.

لقد
أدَّت مملكة إسرائيل خدمتها العظمى والأخيرة بتقديم المسيَّا للعالم، وهنا أوج
مجدها ونهاية تاريخها. فمملكة إسرائيل وشعبها بكافة تاريخها كله وملوكها وأنبيائها
لم تنل مجداً في أعين الناس وكرامة لدى العالم كله إلاَّ بسبب ظهور “المسيَّا”
ليكون مخلِّصاً للعالم ونوراً لكافة شعوب الأرض.

وفي
الحقيقة من الصعب جداً ومن غير المعقول أن نتصوَّر إمكانية قيام مملكة إسرائيل
كمملكة محصورة في ذاتها ومنتهية لذاتها بدون الوعد المستمر بمجيء المسيَّا وتسليم
ميراثها لكل أُمم العالم. فالمسيَّا ليس هو رجاء إسرائيل فحسب الذي كانت تعيش كل
تاريخها من أجله، بل هو قانونها الروحي الذي كانت تعيشه، ودستورها السياسي الذي
تبذل حياتها من أجله، وناموسها الأدبي والأخلاقي كان ينبع منه. فالمسيَّا أساس
وجودها وغاية رجائها بل ومعنى اسمها ونهاية وجودها.

ولكن
الله في الأصل وفي الأساس لم يُقم مملكة إسرائيل لتكافح من أجل شبر أرض في فلسطين
تسكنه، أو الاستيلاء على صحراء لتزرعها؛ بل لكي ينبعث من حياتها وروحها وناموسها
وأنبيائها “نورٌ للأمم
“! إن روح العبادة التي سلَّمتها إسرائيل للعالم بواسطة
التوراة، بما فيها من ناموس أدبي فائق وناموس أخلاقي روحاني لا نظير له، يعبِّر عن
أعظم ميراث ورثه العالم من شعب. ونحن لو تتبعنا مراحل النمو التي جازها هذا
الناموس الروحي الأدبي والأخلاقي على مدى تاريخ مملكة إسرائيل منذ أن سلَّم الله
لموسى الوصايا العشر وحتى آخر ملك انتهت إسرائيل على يديه، نجد أنه لم يظهر
بدقائقه الروحانية ولم تكمل دائرته الإنسانية الهائلة وعمقه الإلهي اللانهائي
إلاَّ في أيام المحن القاسية وأثناء مرارة السبي بآلامها وكأنها تستعلن آلام المسيَّا
الآتي. والذي يدرس تاريخ إسرائيل الروحي يتعجَّب لأن أعظم أنبيائها وأعظم نبواتها
وأعمق وأصدق تعاليمها لم تصدر إلاَّ في أيام السبي وما سبقه من مخاضٍ كمخاض الموت
وما لحقه من مذلة كمذلة العبيد، كان هدفها دون أن تدري، حيث بالآلام تصفَّت روح
النبوَّة من كل تعلُّق بآمال المجد الدنيوي الباطل، وكنا ننتظر أنها تنازلت
نهائياً عن القوة والبأس والنقمة والقتل، واتخذت عوضها السلام والبر والأمانة
ومخافة الله كمعيار أعلى لمُلك المسيَّا!

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى