علم التاريخ

حصار أُورشليم وسقوطها:



حصار أُورشليم وسقوطها:

حصار
أُورشليم وسقوطها:

وفي مستهل سنة 69م أرسل فسبسيان ابنه تيطس إلى روما لتهنئة
الإمبراطور جلبا، أمَّا هو فتقَّدم نحو أُورشليم للحصار الأخير([1])،
ولكن كان فكره مشغولاً بالحوادث الجارية في روما، والأمل الذي يلح عليه بأنه
سيعتلي عرش الإمبراطورية حتماً.

فبالكاد استطاع أن يثبِّت عساكره حول المدينة لبداية الحصار
حتى استدعى إلى القيصرة على عجل بسبب أن كافة القوات الموالية له انتخبته
امبراطوراً([2]).

وعلى
هذا المنوال تكون قد بقيت أُورشليم محاصرة من بعيد بقوات رومانية، وفي نفس الوقت
بدون قائد وبدون حرب، مدة لا تقل عن ثلاث سنوات، وفي كل مرَّة يقترب منها فسبسيان
للحصار وإذ بالظروف الجارية تضطره للتوقف والعودة. كل هذا أدخل في روح اليهود أن
أُورشليم أعظم من أن يقترب إليها هؤلاء الأُمم الغلف الأنجاس. وأن يد الله هي فوق
أُورشليم تحميها وتدافع عنها وتكسر أعداءها([3]). وبهذا استطاع
الغيورون أن يقنعوا كافة اليهود بمبادئهم
التعصبية الضيقة، وأن يستغلوا الظروف للسيطرة على
عقول الشعب لقيادته لحتفه في معارك ضارية لا يمكن أن توصف إلاَّ بالجنون
الخارق.

ولم
يتخذ تيطس موقفه الحاسم ويقترب من أسوار أُورشليم إلاَّ في ربيع سنة 70م، وقد عانى
مخاطر هدَّدته هو وجيشه بالسقوط في أيدي اليهود لولا شجاعته النادرة([4]).

ولم
تكفّ المنازعات بين أحزاب اليهود، والرومان يتقدَّمون صوب أبواب المدينة، ولكن
باتحاد جيش جسشالا مع جيش بارجيورا شكلوا قوة شديدة بدأت الهجوم على الرومان([5])،
واستمرت الموقعة خمسة عشر يوماً، انتهت بأن اقتحم الرومان أول الأسوار الثلاثة([6])
واندفع الجيش الروماني بأكمله داخل المدينة، وابتدأ الغزو من الداخل. ودخلت
المجاعة في صورتها الرهيبة.

وابتدأت
معركة هائلة استمرت تسعة أيام تبادلت فيها قوات الرومان مع قوات اليهود السور
الثاني ما بين باب يافا وقلعة أنطونيا ثلاث مرَّات. وأخيرا اقتحمه الرومان وهدموه([7])،
ووصلت المجاعة حالتها القصوى.

وقد
حاول يوسيفوس المرافق لتيطس كأسير ومترجم أن يتوسط لدى شعبه وأمته أن يكفُّوا عن المقاومة ويستحيوا أنفسهم، ولكن
عبثاً ضاعت كل
جهوده واتهموه بالخيانة،
وكادوا يقتلونه بحجر ألقوه عليه من فوق سور
الهيكل([8]).

وبقي
السور الثالث والأخير. فأمر تيطس بإقامة أربعة متاريس (وهي التي تنبأ عنها المسيح
في لو 43: 19) لاقتحامه، وأخيراً استطاع الرومان أن يصعدوا فوق السور الثالث وأن
يقتحموا المدينة.

وتقدموا
جنوب الهيكل الذي ظلت الذبائح اليومية تقدَّم فيه وكافة الصلوات بتضرعات وصراخ إلى
أن كفَّت بسبب المجاعة المريعة وعدم وجود ما يُقدَّم ذبيحة فضلاً عن عدم وجود مَنْ
يقدِّمها([9])!!!

واستمرَّت
المعركة على أشدها حتى أشعل الرومان النار في الهيكل([10]).
فانهارت كل مبانيه وأبوابه وغرفه وأساسه حتى مذبحه. ولكن هذا لم يقنع بارجيورا
وجسشالا بالتسليم إذ اعتصما في الجزء الغربي المسمَّى بالمدينة العليا مع جماعة من
الغيورين لمتابعة القتال حتى سقطوا قتلى وبعضهم هربوا. ولأن الرومان كانوا قد
عانوا الأمرّين خمسة أشهر كاملة من اليهود، فإنهم صبوا نقمتهم على الهيكل وعلى
المدينة فأشعلوا النيران في كل شيء فيها، وقتلوا كل مَنْ صادفهم، وخرج تيطس يجر
وراءه جيشاً ضخماً من الأسرى والزعماء الغيورين متجهاً شمالاً وقد ألقى نظرته
الأخيرة على ما كان يسمَّى أُورشليم!.. إذ لم يبقَ منها سوى ثلاث قلاع مطلّة وسط
خراب شامل، وجزء صغير من السور الغربي جعله اليهود مبكى لهم([11]).
ويُسجِّل يوسيفوس منظر المدينة كما رآها بنفسه قائلاً إن مَنْ ينظر إليها لا يمكن
أن يصدِّق أنها كانت آهلة بالسكان([12]).

وحمل
تيطس معه إلى روما المائدة الذهب- مائدة الوجوه- التي كان يُقدَّم عليها خبز
الوجوه، مع المنارة الذهبية ذات السبع شُعب، وقد استودعها فسبسيان هيكل السلام.
أمَّا دَرْج الأسفار المقدَّسة وستر الهيكل القرمزي فاحتفظ بهما فسبسيان في قصره([13]).

 

وسقوط
أُورشليم وخراب الهيكل سنة 70م على يد تيطس هو من جهة التاريخ الشعبي والأثر
الديني والاجتماعي لليهود يساوي تماماً سقوط أُورشليم وخراب الهيكل على يد
نبوخذنصر سنة 586 ق.م. أمَّا عدد مَنْ ذُبح من اليهود ومَنْ سُبي ومَنْ مات جوعاً
خلال هذه السنوات الأربع والتي سبق وأنبأ عنها المسيح بقوله: “ويقعون بفم
السيف ويُسبون إلى جميع الأُمم وتكون أُورشليم مدوسة من الأُمم

” (لو 24: 21)، فهو
فوق أن يصدِّقه العقل.



اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى