علم التاريخ

ثانياً: حكم هيرودس الكبير (37-4 ق



ثانياً: حكم هيرودس الكبير (37-4 ق

ثانياً:
حكم هيرودس الكبير
(374
ق.م)

الفترة من بدء حكم هيرودس (37 ق.م) حتى تولية
أغسطس
قيصر (29 ق.م):

(هنا
يعتمد يوسيفوس المؤرِّخ على تسجيلات سترابو ونيقولاوس الدمشقي المؤرِّخَين).

ورث
هيرودس عداوة اليهود له من أبيه كونه أدومياً فوق كل شيء، وبالرغم من كل معونة
وإصلاح قدَّمها لليهود. وكان أول عمل احتياطي يقوم به هو قتل الرؤوس المعادين له،
فذبح خمسة وأربعين من أشياع أنتيجونيس المتزعمين حركة المقاومة ضده([1])،
وكان هذا العمل الوحشي سبباً في ازدياد العداوة ضده. ولكي يقوِّي مركزه لدى
الرومان سلب المملكة كثيراً من غناها الموفور من ذهب وفضة، وسلب الأغنياء، وثقَّل
المطالب المالية على الشعب، وقدَّم كل شيء إلى أنطونيوس ومَنْ معه([2]).

ولكن
بقدر ما كان يزداد قوة واعتماداً على الرومان، بقدر ما كان يزداد الحقد عليه من
اليهود. كذلك كان حكم هيرودس يُذكِّرهم باستمرار بضياع عصر المكابيين على أيدي
أنتيباتر وابنه هيرودس مما كان يزيد الضغينة جداً خصوصاً في صدور الصدوقيين
والفريسيين، لأن حكم المكابيين كان يمثل الحرية الدينية الكاملة واتحادها بالحرية
المدنية والسياسية في شخص واحد، الأمر الذي انكسر وتصدَّع على أيدي هيرودس.

ولكن
لم يفتأ هيرودس من أن يقرِّب نفسه إلى اليهود ويقرِّب اليهود إلى نفسه بشتى الطرق
حتى يزيل حدة هذا الجفاء، فقرَّب إليه كبار الفريسيين العلماء مثل بوليو
(أبتاليون) وتليمذه شماي([3])،
وهذان كانا من أعظم متقدمي الفريسيين وأكثرهم نفوذاً وتأثيراً في الشعب في هذه
الفترة. ثم قام بعمل آخر ليجتذب إليه أنظار وقلوب اليهود، إذ استحضر هركانوس الملك
المخلوع والمقطوع الأُذُن من منفاه لدى الفرثيين من بابل وقرَّبه إليه وأشركه في
الحكم بعد مدة سبع سنوات، وقد نال هيرودس بسبب
هذا الصنيع الحسن في هذا
الشيخ العجوز-
الذي يمثل أكبر وآخر رأس في عائلة المكابيين-رضا اليهود فعلاً.

وهنا
تبرز حركة نسائية تزيد في تعقيد الموقف وتفضح أخلاق هيرودس الوحشية وسرعة نقمته
وبطشه. فقد قامت ألكسندرا أم أرسطوبولس (الثالث) مع مريمن أخت أرسطوبولس وزوجة
هيرودس بالاتصال سراً بكليوباترا ملكة مصر([4]) وعشيقة مارك
أنطوني للتدخُّل في إقامة أرسطوبولس رئيس كهنة، على الأقل لأن هيرودس كان قد أقام
حنانائيل رئيساً للكهنة وهو من أسرة يهودية بابلية سليلة لأسرة صدُّوقية عريقة تنم
بصلة إلى آخر رئيس كهنة قبل المكابيين. وكان عمل هيرودس هذا بقصد التخلُّص من نفوذ
أسرة المكابيين نهائياً. أمَّا عمل ألكسندرا ومريمن في تنصيب أرسطوبولس رئيس كهنة
فكان على أساس إرجاع رئاسة الكهنوت إلى أسرتهم.

وقد
نجحت هذه المساعي السرية وضغطت كليوباترا على أنطوني لكي يأمر هيرودس بإقامة
أرسطوبولس الصغير رئيس كهنة بعد أن عُزل حنانائيل، وكان عمر أرسطوبولس 16 سنة
فقط!!

كان
هذا الإجراء كسراً للناموس بسبب صغر سن أرسطوبولس، كما كان سابقة خطيرة تعطي الملك
حق سلطة عزل رئيس كهنة بدون أسباب. هذا زاد من اتساع النفور اليهودي ضد أعمال
هيرودس.

ومع
أن هيرودس بريء من هذا الإجراء لأنه لم يكن عن أي رغبة شخصية بل بتدخُّل بيت المكابيين
نفسه ممثلاً في ألكسندرا ومريمن، إلاَّ أن لعنة هذا الإجراء حملها هيرودس.

ولكن
سرعان ما كشف هيرودس العلاقة السرية التي قامت بين ألكسندرا ومريمن بكليوباترا
عدوة هيرودس الطامحة في اغتصاب الأجزاء القديمة التي كانت تابعة لمملكة البطالسة
في اليهودية، وخصوصاً مدن الساحل([5])،
كما أحسَّ هيرودس أن هناك أطماعاً لألكسندرا لاستعادة الملك لأرسطوبولس([6])،
فأسرع هيرودس بأخذ الحيطة ضد ألكسندرا وحدَّد إقامتها في القصر. ولكن اتصلت
ألكسندرا بكليوباترا ووضعتا خطة معاً لهربها مع أرسطوبولس إلى مصر، غير أن هيرودس
اكتشف الخطة في آخر لحظة، فتخلَّص من أرسطوبولس
سنة 35 ق.م
وأبقى على ألكسندرا خوفاً من انتقام كليوباترا([7]).

وكان تخلُّصه من أرسطوبولس بطريقة إغراقه في بركة للسباحة
ادَّعى

بعدها أمام الشعب أن أرسطوبولس مات في حادثة
غرق مؤسفة وبكاه
أمام الناس([8]).

ولم
يصدِّق أحد هذه القصة وبالأخص ألكسندرا التي اتصلت بكليوباترا تطلب القصاص من
هيرودس، وفعلاً أقنعت كليوباترا مارك أنطوني بضرورة محاكمة هيرودس. فطلب مارك
أنطوني من هيرودس أن يقابله أثناء مروره شمالاً بإقليم لاودكية في طريقه لأرمينيا.

هنا يأخذ هيرودس الحذر ويعيِّن يوسف عمه حاكماً أثناء غيابه
ويأمره سرًّا بأنه في حالة وصول خبر إدانته بالموت، أي موت هيرودس، عليه أن يقتل
زوجته مريمن، لأنه اكتشف أن ألكسندرا تود تقديمها هدية لأنطوني ثمناً لرأسه([9]).

وقد
شاع كذباً إشاعة موت هيرودس، فبدأت المرأتان في التحرُّك بسرعة، وتواطأ معهما يوسف
عم هيرودس وأخبرهما بالوصية السرية التي سلَّمها له هيرودس، مما أعطى فرصة لأم
هيرودس وأخته([10])
أن يتهما مريمن باتهامات خلقية مع يوسف عم هيرودس، ويصدقها هيرودس عند عودته بدون
تردد([11])،
فما كان من هيرودس إلاَّ أن قتل عمه يوسف بدون استجواب واعتقل ألكسندرا في السجن،
وبالرغم من أنه كان ينوي قتل زوجته مريمن، إلاَّ أنه لإخلاصه لها عدل عن قراره.

ولكن
لم تكُف مناوأة كليوباترا ضد هيرودس، فأثارت العرب (دولة النباطيين جنوب وجنوب شرق
اليهودية) لمحاربة هيرودس، وقد استطاع هيرودس بصعوبة وحرب مريرة أن ينتصر على
العرب. وعند عودته ووصوله أُورشليم منتصراً جاءه خبر هزيمة مارك أنطوني أمام
أوكتافيوس (الذي تسمَّى فيما بعد باسم أغسطس قيصر) في موقعة أكتيوم سنة 31 ق.م،
ودَعا أوكتافيوس بصفته إمبراطور العالم كله هيرودس لكي يمثل أمامه. ومرَّة أخرى
يضطر هيرودس أن يأخذ الحذر من ألكسندرا ومريمن فحبسهما في قلعة تحت حراسة مشدَّدة([12])
وذهب لمقابلة أوكتافيوس في رودس. وفي هذه الأثناء لم تكف ألكسندرا عن المقامرة
بحياتها فاتصلت بأبيها هركانوس وتعاهدت مع ملك العرب مالخوس للقيام بدور ضد
هيرودس، ولكن هيرودس اكتشف المؤامرة قبل ذهابه لمقابلة أوكتافيوس فتخلَّص من
هركانوس وقتله([13]).

استطاع
هيرودس بشجاعته وصراحته ومهارته السياسية أن يجتذب أنظار أوكتافيوس ويكسب ودَّه
وتأييده، فثبَّته على مملكة يهوذا ورجع منتصراً([14]).

ونزل
أوكتافيوس خلف أنطوني وكليوباترا، واقتحم الإسكندرية سنة 30 ق.م، وحينئذ انتحر
مارك أنطوني حالما سمع بخبر انتحار كليوباترا، وكان هذا خداعاً منها لكي تتخلَّص
من مارك أنطوني وتلتفت لأوكتافيوس لتضمَّه إليها. ولكن لم يقابلها أوكتافيوس إلاَّ
كعدو مهزوم، وجعلها تسير خلف موكبه مما دعاها إلى الانتحار هي الأخرى([15]).

وعاد
موت كليوباترا بالخير على هيرودس، فقد ضمَّ إليه كل أملاكها في فلسطين، فاستولى
على كل مدن الساحل: غزة ويافا والقلاع المحيطة ومنطقة جدارا والسامرة([16]).
وقد ضمها أوكتافيوس لهيرودس عند مقابلته له في مصر بمناسبة تهنئته له بالنصرة على
مصر.

وبلغت
حدود مملكة يهوذا في عصر هيرودس في تلك الآونة نفس الاتساع الذي بلغته أيام اسكندر
حنَّاؤس، وهو أقصى اتساعها.

وبرجوع
هيرودس إلى أُورشليم وجد المؤامرات محاكة ضدَّه بواسطة مريمن وألكسندرا، فاضطر
لمحاكمتهما بتهمة الخيانة وقتلهما([17]) سنة 25 ق.م.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى