علم التاريخ

حروب داود خارج أرض إسرائيل:



حروب داود خارج أرض إسرائيل:

حروب
داود خارج أرض إسرائيل:

(أ)
عبر الأُردن وفي الشمال والجنوب:

شاء
أو أبى، كان على داود ليثبت مملكته أن يقع في حروب دامية مع كل من العمونيين
والأراميين (2صم 10)، ولكنه لم يخرج في هذه الحروب بل أوكلها لقواده الأقوياء.
وانضم الأراميون إلى العمونيين لتشديدهم ضد داود، ولكن، وبقيادة يوآب أخضعهم
وكسرهم، ثم عاد وحاصرهم. وأثناء هذا الحصار وقع داود- وهو في أُورشليم وهو آمنٌ في
قصره- وقع صريعاً تحت يد الشيطان (2صم 2: 11)،
إذ اغتصب امرأة أحد الجنود وهو غائب في
الحرب. ثم عاد وأسقطه الشيطان في
المعركة الثانية إذ أوصى باغتيال زوجها فاغتالوه.
وهكذا سجَّلت عليه السماء نقطة سوداء، وأبى الله إلاَّ أن يدفع داود ثمنها:

+
“أنت هو الرجل!! هكذا قال الرب إله إسرائيل، أنا مسحتك ملكاً على إسرائيل.. لماذا احتقرت كلام الرب لتعمل الشر في
عينيه. قد قتلت
أوريا الحثي بالسيف،
وأخذت امرأته لك امرأة، وإياه قتلت بسيف بني
عمون. والآن لا يفارق السيف
بيتك إلى الأبد..!!
” (2صم 12: 710)

وتركت
هذه الخطية الحزينة آثارها على تاريخ إسرائيل، وربما على تاريخ الكنيسة إلى الأبد،
بالسلب والإيجاب، لأن داود وقع على الأرض حزيناً نادماً وألَّف مزمور التوبة الشهير:
“ارحمني يا الله حسب رحمتك»، الذي لا يزال كل مسيحي يتلوه وتتلوه
الكنيسة في أول كل صلاة على مدى اليوم وكل الأيام والسنين!!

وانكسر
العمونيون ووقعوا تحت العبودية والولاء لإسرائيل كل أيامهم، وأخذ داود تاج
ملك العمونيين وصار يلبسه دائماً ليكون لا ملكاً على اليهودية وإسرائيل فحسب، بل
وعلى العمونيين أيضاً([1]):

+
“وكان لمَّا جاء داود إلى محنايم (بلاد عمون) أن شوبي بن ناحاش من ربة بني
عمون وماكير بن عميئيل من لودبار وبرزلاي الجلعادي من روجليم قدَّموا فرشاً
وطسوساً وآنية خزف، وحنطة وشعيراً ودقيقاً وفريكاً وفولاً وعدساً وحمصاً مشوياً،
وعسلاً وزبدة وضأناً وجبن بقر لداود للشعب.” (2صم 17: 2729)

وأضاف
داود إلى ملكه المنطقة الجنوبية من عبر الأُردن بغزو موآب وأدوم، وأنهى داود هذه
الحرب بموقعة حاسمة أنهى فيها على الأدوميين في العربة جنوب البحر الميت، ولكن في
قسوة مريعة:

+
“وضرب الموآبيين وقاسهم بالحبل، أضجعهم على الأرض فقاس بحبلين للقتل وبحبل
للاستحياء، وصار الموآبيون عبيداً لداود يقدِّمون هدايا” (2صم 2: 8)

+ “وضرب داود هدد عزر بن رحوب ملك صوبة حين ذهب ليرد
سلطته عند
نهر
الفرات. فأخذ داود منه ألفاً وسبع مئة فارس وعشرين ألف راجل.. فجاء أرام دمشق لنجدة هدد عزر ملك صوبة فضرب
داود من أرام اثنين وعشرين ألف رجل.
وجعل داود محافظين في أرام دمشق وصار الأراميون لداود عبيداً يقدِّمون هدايا” (2صم 8: 36)

+
“وحدث لمَّا كان داود في أدوم عند صعود يوآب رئيس الجيش لدفن القتلى، وضَرَب
كل ذكر في أدوم، لأن يوآب وكل إسرائيل أقاموا هناك (في أدوم) ستة أشهر حتى أفنوا
كل ذكر في أدوم.”
(1مل 11: 15و16)

وأرسل
داود جيش احتلال وحكَّاماً ليحكموا أدوم المهزوم.

 

ب-
داود يغزو سوريا:

لم
يكن حبًّا في التوسُّع ولا لمهاجمة سوريا (دمشق) بالذات، ولكن كان يتعقَّب ملك
صوبة هدد عزر الذي أعان العمونيين وهرب منه إلى دمشق (2صم 8: 38)،
وترأس هناك على جماعة من السوريين البدو([2])، فانقضَّ عليه
داود بجيشه بغتة وانتزع منه انتصاراً ساحقاً، واستولى على معظم المركبات الحديدية
التي للأراميين التي كسَّرها ولم يستخدم منها إلاَّ بعض الخيول. وامتد داود بجيشه
في سوريا وهزم كل قوات الأراميين في دمشق، كل الذين كانوا في جيش هدد عزر. وأبقى
في دمشق قوة وضمها لمملكة إسرائيل وأخضعها لحكمه. واستولى داود على كل النحاس الذي
كان بحوزة مملكة هدد عزر والذي كانت تنتجه مناجم النحاس في شمال سوريا في كل
البلاد المذكورة في (2صم 8: 8، 1أي 8: 18) وهي بيروثاي
Berothai
وبلدة طبحة
Tebath وبلدة خون Cun وهي الواقعة بين لبنان وشمال حمص([3]).

وتكوَّنت
صداقة بين ملك حماه وداود وأعطاه هدايا. كما عمل داود معاهدة مع الملك حيرام ملك
صور (1مل 1: 5)، والذي كان ملكه بين سنة 969936 ق.م حسب تحقيق الآثار،
أي أنه يتداخل في زمن حكم داود (1000961 ق.م) بمقدار ثماني سنوات.

وهذه
الغزوات والمعاهدات والصداقات كان لها أثر بارز جداً في اقتصاديات إسرائيل
وتجارتها ومواردها، من المعادن النفيسة وغير النفيسة، والأخشاب والرخام، التي أكمل
بها سليمان هيكله المشهور. كما استفاد من مدنيتها ونظمها وتدريب جيوشها وعمارتها
وفنونها وإدارتها، واستعان بتأجير ما فيها من قواد على أعلى مستوى من الأمانة
والخبرة، واتخذ منها نظام الكتبة في الدولة والمسجلين (2صم 16: 818،
23: 2026). فنظم شكل الحكومة الإسرائيلية التي تولى العمل فيها قواد
تحت رئاسته المباشرة دون رئيس آخر. أمَّا رئيس أركان الحرب فكان يوآب ضابطاً
إسرائيلياً متمرساً خاض الحروب مع داود مرَّات كثيرة، فأوكل إليه قيادة القوات
الأجنبية التي دخلت الجيش للخدمة، وأهمها الجنود الفلسطينيون. كما عيَّن داود
وزيراً للإعلام (المنادي) وبالعبري (مزكير
Mazker)، كما عيَّن
سكرتيراً عاماً للحكومة (صوفير
Sopher)، وتعيَّن اثنان من الكهنة للخدمة وافتاء الشعب هما صادوق
وأبياثار، ثم أضاف عليهم أبناءه الذين أقامهم كهنة (2صم 18: 8)، كما عيَّن مديراً
عاماً لأعمال السخرة لتشغيل الأجانب في مؤسسات الحكومة ومعه رئيس جلادين لتوقيع
العقوبات.

أمَّا
خارج البلاد فقد عيَّن محافظين على مقاطعات البلاد الخاضعة للدولة ويعمل معهم قواد وجنود. وكان يحيط بداود فرقة حراسة
مكونة من ثلاثين من القواد (كان اسمها الثلاثين وكان عددهم الفعلي سبعة وثلاثين)
هُم حرس شرف مختارون من أعلى الرتب والشخصيات، وكانوا بمثابة لجنة المشورة لأمور
الحرب، وقد وردت أسماؤهم في (2صم 23: 2429).

وهكذا
تأسست مملكة إسرائيل على يد داود كأعظم ما تكون الدولة، وعلى قياس أي دولة في
عصرنا الحاضر، حتى يجوز أن نسميها امبراطورية ذلك الزمان. وهي بهذا الامتداد شرقاً
وشمالاً وجنوباً- وإن كانت تتضاءل جداً بجوار مملكة مصر- فقد ضمت إسرائيل كل أرض
فلسطين وشرق الأُردن المعروفة الآن شرقاً وغرباً من صحراء العربة إلى البحر، وتمتد
حدودها الجنوبية لتشمل كل النقب من خليج العقبة حتى وادي العريش المعروف قديماً
بنهر مصر، وشمالاً لتشمل كل مناطق جنوب سوريا وأوسطها، ومن صور حتى قادش على نهر
أورنتس إلى حماة في الصحراء. وفرض داود سلطانه على الأراميين وجعلهم تحت إدارته
وفرض عليهم الجزية، فبلغت حدوده بواسطتهم حتى الفرات مروراً بدمشق وصوبة. فأخضع
الأدوميين والعمونيين والأراميين (السوريين) والفلسطينيين، فارضاً عليهم أثقل
الجزية، وسخَّرهم لصناعاته وتعمير دولته ومناصرته في حروبه.

وهكذا
نقل داود إسرائيل من شعب أسباط منقسم ومتخاصم إلى مملكة متحدة تحت التاج يُخضعها
لسطانه، وإنما من تحت إلهام الله المميز فيه والمستمد من احتفاظه بتابوت عهد الله
رمز الحضرة الإلهية ورمز وحدة الأسباط الرسمية المقدَّسة.

وبالنهاية،
لم يكن داود ملكاً فقط بل نبيًّا مُلهماً، أحبه الله منذ صبوته، وسكب من روحه عليه
بغزارة، فكان شاعراً ومؤلِّفاً وموسيقياً بارعاً. والله هو الذي اختاره ملكاً على
إسرائيل، وصموئيل عظيم الأنبياء هو الذي مسحه بقرن الدهن. لقد تكلَّم الله على فمه
فنطق مزاميره بالروح القدس، وتنبأ عن المسيح الذي جاء من نسله حسب الجسد.

لقد
أورث داود لإسرائيل أعظم مملكة روحية قامت في العهد القديم، قامت على عبادة الله
الواحد الحي القدوس، وأورثت إسرائيلُ بالتالي العالمَ كله هذا الإرث الغالي. كما
أورث داود اسمه بل روحه لشعب إسرائيل كنبي وشفيع أمام الله في الضيق: “يا
إله داود»
(2أي 3: 34). وكم من المرات نسمعها
من الله على فم الأنبياء: “من أجل داود عبدي (أعفو).”
(1مل 12:
11، 32: 11، مز 10: 132)

لقد
أحب داود الله حبًّا يعجز عن أن يدانيه أعظم متصوفي العالم. وبالرجوع إلى مزامير
داود نرى داود على حقيقته عملاقاً في الصلاة والتسبيح، يقوم لينشد مزاميره في نصف
الليل وقبل الفجر وسبع مرَّات في النهار مع السهر والصوم. وها هي مزامير التوبة
كلها بكاء ودموع وحسرة وتوجُّع على الخطية، مع رجاء لا ينقطع في رحمة الله ولطفه
وإحسانه، بتواضع ملك يُخجل الأطفال الصغار، وتوسُّل منسحق لا يدانيه أخطى الخطاة.

وبالنهاية، كان داود رائداً لجيله ولأجيال كثيرة قادمة في
كل شيء! لقد

سخَّر موهبته الشعرية منذ صباه لتأليف المزامير
التي صارت كنز الصلاة العالمي،
وسخَّر موهبته الموسيقية لتسبيح القدير
بالنغم مع الكلمة إلى مستوى الإلهام! وسخَّر رقة حبه للتعبير عن أسمى علاقات
الإنسان مع الله! وصالح قوة بأسه بعمق سخائه مع أعدائه، نسى رقة طباعه أمام سيف
العدالة، وباع نفسه لأصدقائه.

وكأنما
أعاد الله تشكيله لداود مرَّات ومرَّات ليلائم كل المواقف، ويتناغم ومسرَّة
مشيئته. لقد ألقى الله ظلَّه على داود ليرى فيه إسرائيل صورة المسيَّا، المخلِّص
الآتي:

+ “لأن داود بعدما خدم جيله بمشورة الله رقد وانضم إلى
آبائه” (أع
36: 13)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى