بدع وهرطقات

الباب الثاني – أقانيم الله الواحد



الباب الثاني – أقانيم الله الواحد

الباب الثاني – أقانيم الله
الواحد

الفصل الأول

صيغة الجمع في بعض أسماء الله

إن الكتاب
المقدس الذي أعلن أن الله واحد أعلن في ذات الوقت أن هذا الإله الواحد هو، مع
وحدانيته، أكثر من واحد. لأن الكتاب من أوله إلى آخره يكلمنا عن ثلاثة على اعتبار
أن كلا منهم هو هذا الإله الواحد، إذ أطلق على كل منهم أسماء الله العبرانية
السالفة الذكر، ووصفه بصفات الله، وعزا إليه أعمال الله. فهو إذ يتكلم عن كل واحد
من هؤلاء الثلاثة، يتكلم عنه باعتباره أنه هو ذات الإله الواحد الذي لا إله سواه.
وهؤلاء الثلاثة سماهم
الآب والابن
والروح القدس
هذا هو سر أسرار الله وكتابه، السر الذي ليس في
وسعنا شرحه، بل، ولله الحمد، ليس مطلوباً منّا ذلك وإنما كل المطلوب منّا كخلائق
عاقلة مسئولة هو أن نصدق الله ونؤمن به فيما أعلن به ذاته لنا أي أنه تعالى واحد
بينما هو ثلاثة، وثلاثة بينما هو واحد.

ولما لم يكن
في الكتاب لهؤلاء الثلاثة غير أسماء الجلالة المختلفة العبرانية في التوراة
واليونانية في الإنجيل، وغير الاسم الآب والابن والروح القدس الدال على التسمية
الخاصة بكل منهم بمفرده والدال على نسبته الشخصية في اللاهوت الواحد للاثنين
الآخرين، لما لم يكن في الكتاب غير هذه الأسماء اسم واحد مشترك لتعريفهم، اصطلح
المسيحيون من قديم الزمان لمجرد التفاهم مع بعضهم ومع غيرهم على أن يطلقوا عليهم
اسم”أقانيم“ الذي مفرده ”أقنوم“ وهي كلمة سريانية معناها شخص مميز عن آخر ولكنه
متحد به.

ولكن ليس
لكلمة أقانيم هذه مقابل في اللغة العربية يؤدى معناها الصحيح. لأن كلمة ”أشخاص“ أو
”شخصيات“ التي تقابلها في العربية تدل على ذوات منفصلة. لأن الأشخاص البشريين وإن
كانوا واحداً في النوع إلا أنهم ليسوا واحداً في الذات أو الجوهر إذ لكل منهم ذاته
المنفصلة وليس فقط المميزة. بينما ليس الأمر كذلك بالنسبة للأقانيم الإلهية لأنهم
وإن كانوا متميزين لكنهم ليسوا منفصلين. فكل منهم، وإن تميز عن الآخرين إلا أنه
ذات الإله الواحد وليس إلهاً آخر. والثلاثة معاً هم ذات هذا الإله الواحد ولا يمكن
رفض هذا الإيمان بدون رفض التوراة والإنجيل الذين أعلنا متفقين على أن الآب هو
الله وأن الابن هو الله وأن الروح القدس هو الله، في حين أعلنا أنه لا إله إلا
واحد. وفي ذات الوقت لم يتكلما قط عن شخص آخر غير هؤلاء الثلاثة بأنه الله، إذ لم
يلقبا أحداً آخر غيرهم بألقاب الله الخاصة التي هي ”أهيه ويهوه وياه“، أو يصفاه
بأوصاف الله أو يعزوا إليه القيام بأعمال الله.

وتوجد أسماء
إلهية مشتركة بين الثلاثة مما يدل على أنهم الله الواحد كاسم الجلالة
إيلوهيم المترجم الله واسم
الجلالة
يهوه المترجم الرب ولكن مما
يدل على تميزهم عن بعضهم في الأقنومية والنسبة إلى بعضهم نجد واحداً اسمه
الآب وآخر اسمه
– بطبيعة الحال..
الابن أي ”ابن
الآب“، وثالث اسمه – بما لا يدعو إلى الغرابة –
روح
الآب
وروح
الابن
وهو بطبيعة الحال الروح
القدس
أيضاً لأنه روح
الله
.

وتوجد أيضاً
أفعال إلهية مشتركة بين الثلاثة مما يدل على أنهم الله الواحد كالخلق والعناية
والفداء والقضاء والمُلك ولكن مما يدل على تميزهم عن بعضهم في الأقنومية والنسبة
إلى بعضهم نجد أن لكل واحد منهم عمله الخاص، أو قل ناحية تخصه في العمل الواحد،
فنجد الآب مثلاً أنه الماسح والمرسل والباذل ونجد الابن أنه الممسوح أو المسيح
والمرسل والمبذول، ونجد الروح القدس أنه المسحة وقوة تنفيذ الإرسالية والبذل
وجعلهما ذا قوة نفاذة في النفوس.

وتميز كل
منهم باسم خاص وعمل خاص يدل على تميزهم في الأقنومية رغم وحدتهم في اللاهوت، لا الوحدة
النوعية بل الوحدة الذاتية الجوهرية باعتبارهم الله الواحد. وتميزهم في الأقنومية
لا يقوم فقط بتمييز كل منهم عن الآخرين باسمه الخاص وعمله الخاص بل وبأنه قد
استعمل في الكتاب لكل منهم بمفرده ضمائر الشخص العاقل فيعلنه متكلماً بضمير
أنا ومخاطباً
بضمير
أنت ومتكلماً
عنه بضمير
هو وهذا يدل
أيضاً على أنهم ليسوا ثلاثة أسماء أو ثلاثة صفات أو ثلاثة مظاهر لأقنوم واحد، لأن
الأسماء أو الصفات أو المظاهر لا تخاطب بعضها بعضاً عن نفسها أو عن بعضها أو عن
غيرها. فالآب والابن والروح القدس، إذن، ثلاثة أقانيم متميزين عن بعضهم لكنهم
متحدون ببعضهم، أو ثلاثة أقانيم للإله الواحد الذي لا ثاني له ولا شبيه ولا شريك.

ومن أول ما
يدل في التوراة على أن الله الواحد هو أكثر من أقنوم واحد أنه كما استعملت التوراة
من الأول صيغة المفرد في بعض أسماء الله للدلالة على وحدانيته تعالى في الذات استعملت
له أيضاً في البعض الآخر ومن الأول صيغة الجمع للدلالة على أقانيمه. وذلك مثل
الاسم الجمع
إيلوهيم الذي أطلق
على الله من أول آية في التوراة وهي
في
البدء خلق الله (إيلوهيم) السماوات والأرض
(تكوين 1:
1) وأيضاً مثل الاسم الجمع
أدوناي في قول
إبراهيم لله
أيها السيد. أدوناي (تكوين 2:
15) وأيضاً مثل الاسم الجمع
شداى في قوله
تعالى
أنا الله القدير(إيل شداى) (تكوين 1:
17). ومثل هذه الأسماء الجمع في التوراة يعد بالآلاف. ولكن صيغة الجمع فيها ليست
بالمرة للدلالة على وجود أكثر من إله واحد، حاشا! لأنه ليس إله إلا واحد، وإنما
للدلالة على أن الله الواحد هو أكثر من أقنوم واحد. وليس في اللغة البشرية غير
صيغة الجمع يمكن استعمالها للتدليل على أن الله الواحد هو أكثر من أقنوم واحد رغم
أنها تبدو وكأنها تنفى أنه إله واحد. ولكن ما الحيلة وليس في لغاتنا البشرية ما يفي
بالغرض الإلهي، ليس فيها كلمة جمع مفرد ومفرد جمع تدل على المعنيين المختلفين
واجتماعهما معاً في كائن واحد هو الله؟ ولكن هكذا هو فقر لغاتنا في تعريف الله.
لذلك عولج هذا الفقر باستعمال الصيغتين، صيغة المفرد للدلالة على وحدانية الله في
الذات والجوهر. وصيغة الجمع للدلالة على أقانيمه تعالى وتميزهم عن بعضهم حال كونهم
الله الواحد، حتى يثبت الأمران ولا ينفى أحدهما الآخر

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى