بدع وهرطقات

التكلم بألسنة فى المفهوم الأرثوذكسى



التكلم بألسنة فى المفهوم الأرثوذكسى

التكلم
بألسنة فى المفهوم الأرثوذكسى

القمص
زكريا بطرس

 

مقدمة

 إن
موضوع التكلم بألسنة قد شغل أذهان الكثيرين في هذه الأيام، ويدور بخصوصه حوار
متشعب. وهناك كثير من التساؤلات بصدده.

 ويهمنا
هنا أن نلقي ضوءاً على هذا الموضوع يعطى وضوحاً للرؤية. وهذا الإيضاح يخدم الكنيسة
من زاوية أن البعض أحياناً يستغل آراء قيلت بحسن نية لتحويل المسار في اتجاهات غير
سليمة من ناحية العقيدة.

 وسوف
يتناول الحديث: إيضاح حقيقة ألسنة الناس والملائكة، واستخدام الألسنة للكرازة،
وظهورها في الصلاة، وأهمية موهبة الترجمة، وضوابط موهبتي الألسنة والنبوة، ومركز
موهبة التكلم بألسنة بين المواهب، ومقارنة بين مواهب الروح وثمار الروح، ومقابلة
بين التكلم بألسنة وبلبلة الألسنة، وغزارة موهبة الألسنة في التكلم في العصر
الرسولي ثم تناقص غزارتها بعد ذلك.

 

نُطق بلغات البشر

 إن
التكلم بألسنة هو موهبة من مواهب الروح القدس التي أعطيت للرسل بانسكاب الروح
القدس عليهم يوم الخمسين في العلية، وتكلموا بلغات البشر، كما سجل سفر أعمال الرسل
في قوله:

 “ولما
حضر يوم الخمسين كان الجميع معاً بنفس واحدة … وإمتلأ الجميع من الروح القدس،
وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا.

 

 وكان
يهود رجال أتقياء من كل أمة تحت السماء ساكنين في أورشليم. فلما صار هذا الصوت
اجتمع الجمهور وتحيروا لأن كل واحد كان يسمعهم يتكلمون بلغته. فبهت الجميع وتعجبوا
قائلين بعضهم لبعض أتُرى ليس جميع هؤلاء المتكلمين جليليين، فكيف نسمع نحن كل واحد
لغته التي ولد فيها: فرتيون ومادييون وعيلاميون والساكنون ما بين النهرين واليهود
وكبدوكية وبتس وآسيا وفيريجية وبمقيلية ومصر ونواحي ليبية التي نحو القيروان
والرومانيون المستوطنون يهود ودخلاء كريتيون وعرب نسمعهم يتكلمون بألسنتنا بعظائم
الله” (أع1: 211)

 

 فمن
ذلك يتضح أن الرسل نطقوا بلغات بشرية متعددة، كما شهد الذين سمعوا الفرتيون
والماديون والعلاميون والمصريون والرومانيون والعرب وغيرهم.

 

 والملاحظ
أن موهبة التكلم بألسنة أعطيت لأشخاص لم يكن لهم علم سابق باللغات التي نطقوا بها،
وهذا هو ما حير السامعين إذ قالوا بعضهم لبعض: “أتُرى ليس جميع هؤلاء
المتكلمين جليليين! فكيف نسمع نحن كل واحد لغته التي ولد فيها؟” (أع7: 28).

 

 ورب
معترض يقول إن ما حدث يوم الخمسين لا جدال عليه، إذ هو نطق بلغات الناس، ولكن هناك
نوع آخر من التكلم بألسنة، وقد ذكره بولس الرسول جنباً إلى جنب مع ألسنة الناس في
قوله: “إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة …” (1كو1: 13)، فالألسنة
التي للناس تستخدم في الكرازة، والتي للملائكة تستخدم في الصلاة.

إن
هذا ما سوف نوضحه بالتفاصيل فيما يلي:

 

حقيقة ألسنة الناس والملائكة

 هل
يوجد نوعان من التكلم بألسنة؟

 أم
أنها موهبة واحدة لها استخدامان:

 الواقع
إن معلمنا بولس الرسول في تعبيره “إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة …”
(1كو1: 13) ما كان يشير إلى نوعين من التكلم بألسنة، ونوع خاص بالملائكة، يُعطيان
للبشر كموهبة من الروح القدس، وكأن ألسنة الناس تستخدم للكرازة، والتي للملائكة
تستخدم للصلاة، إنما الحقيقة هي أن موهبة التكلم بالألسنة التي تعطى للناس هي نوع
واحد ذات استخدامين، فهي إمكانية التكلم بلغات البشر المتنوعة سواءً أستخدمت
للكرازة، أو في الصلاة. ونورد الأدلة العديدة التي تؤكد ذلك:

 

أولاً:

إن ما حدث يوم الخمسين للرسل في العلية انتظاراً لتحقيق موعد الآب بحلول الروح
القدس عليهم كقول الرب إذ: “أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد
الآب” (أع4: 1) هو أنهم إمتلأوا بالروح القدس وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى
كما أعطاهم الروح أن ينطقوا (أع1: 24).

 

 والملاحظ
هنا هو أن الرسل عندما كانوا مجتمعين في العلية بنفس واحدة (أع1: 2) وتكلموا
بالألسنة لم يكن معهم أحد من الجمهور، أي أن هذه الألسنة في بداية التكلم بها لم
تستخدم لكرازة أحد، إلى أن اجتمع الشعب الذي كان خارج العلية، وبعد ذلك “لما
صار هذا الصوت اجتمع الجمهور وتحيروا لأن كل واحد كان يسمعهم يتكلمون بلغته”
(أع6: 2).

 

 نفهم
من ذلك أن الألسنة التي نطقوا بها وهم بمفردهم كجماعة مؤمنين، هي نفسها التي سمعها
الجمهور كل بلغته. أي أن الألسنة التي نطقوا بها في عبادتهم المنفردة، هي نفسها
التي كُرز بها للشعوب التي كانت مجتمعة.

 

 من
ذلك يتضح أن الكلام بألسنة هي موهبة من نوع واحد، وهي النطق بلغات البشر، ولكن لها
استخدامين، فقد استخدمت في الصلاة، واستخدمت كذلك في الكرازة بحسب قصد الروح القدس.

 

 ولا
شك أن استخدام هذه الموهبة لغرض الكرازة يلزمه أن يكون لصاحبها موهبة وعظ أو
إرسالية من قِبل الله “كيف يكرزون إن لم يرسلوا” (رو15: 10).

ثانياً:

إن الكتاب المقدس لم يقل: “إن كنت أتكلم بألسنة الناس، وألسنة الملائكة”
فهذه العبارة خطأ، ولكنه قال: “بألسنة الناس والملائكة” (1كو1: 13)
فكلمة “ألسنة” هنا التي ذكرت بصيغة الجمع، إنما هي اللغات العديدة التي
يتكلم بها الناس، مضافاً إليها “لسان الملائكة” وليس “ألسنة
الملائكة”. لأنه لو كان للملائكة ألسنة متعددة لاحتاجوا أن يترجم بعضهم لبعض،
ولما كانت بينهم وحدة في الفكر، وحاشا أن يكون الملائكة كذلك.

 

 كما
أن تعدد الألسنة وانقسامها إلى لغات متعددة لم يحدث إلاَ للبشر فقط عندما أخطأوا
ببناء برج بابل، فبلبل الله هناك ألسنتهم إذ يقول الكتاب “وكانت الأرض كلها
لساناً واحداً ولغة واحدة … وقال الرب هوذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم … هلم
ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض … لذلك دعي إسمها بابل، لأن
الرب بلبل لسان كل الأرض” (تك1: 119). أما بالنسبة للملائكة فالأمر ليس كذلك،
ولم يحدث أن بلبل الله لسانهم، إذن فلغتهم واحدة ولسانهم واحد.

 ولو
كانت موهبة الألسنة التي تعطى في الصلاة يقصد بها لسان الملائكة، ما كان بولس
الرسول يشير إليها بصيغة الجمع “التكلم بألسنة” كما يتضح من الأمثلة
التالية:

“لأن
من يتنبأ أعظم ممن يتكلم بألسنة (وليس بلسان)” (1كو5: 14).

“أشكر
إلهي أني أتكلم بألسنة (وليس بلسان) أكثر من جميعكم”(1كو18: 14).

“وقوله: “إذا
الألسنة وليس اللسان آية لا للمؤمنين بل لغير المؤمنين” (1كو22: 14).

وأيضاً:
“فإن اجتمعت الكنيسة كلها في مكان واحد وكان الجميع يتكلمون بألسنة وليس
بلسان فدخل عاميون أو غير مؤمنين أفلا يقولون أنكم تهذون” (1كو23: 14).

 

 فمن
هذا يتضح أن موهبة التكلم بألسنة في الصلاة لا يقصد بها لسان الملائكة.

 

 وعلاوة
على ذلك فإن لغة الملائكة أي أسلوب التفاهم بينهم، هي بلا شك لغة مفهومة لها
قواعدها ومعانيها، وليست مجرد أصوات مرتبكة ورطانة بلا معنى، الأمر الذي أشار إليه
بولس الرسول بقوله: “هكذا أنتم أيضاً إن لم تعطوا باللسان كلاماً يفهم فكيف
يعرف ما تكلم به، فإنكم تكونون تتكلمون في الهواء. ربما تكون أنواع لغات هذا عددها
في العالم وليس شي منها بلا معنى” (1كو9: 1410).

 

 كما
أن الملائكة أرواح، والتفاهم بين هذه الأرواح يعلو على مرتبة الحس والصوت المسموع
بالأذن الحسية، فلغتهم لغة خاصة بهم كأرواح غير مادية، فكيف للبشر إذن أن يتكلموا
بهذه اللغة الملائكية. (على أن الملائكة إذا كلموا البشر، كمرسلين من الله برسالة
إلى أحد من الناس، فإنهم يتكلمون بلغة البشر).

 

ثالثاً:

وثمة دليل آخر على أن التكلم بألسنة هي نوع واحد، أن معلمنا بولس الرسول لم يفرق
بين الألسنة، بل نراه يتكلم عن ألسنة الصلاة على أنها هي نفسها للكرازة والتعليم
كما يتضح مما يلي:

“فالآن
أيها الأخوة إن جئت إليكم متكلماً بألسنة فماذا أنفعكم إن لم أكلمكم إما بإعلان أو
بعلم أو بنبوة أو بتعليم هكذا .. أنتم أيضاً إن لم تعطوا باللسان كلاماً يُفهم
فكيف يعرف ما تُكلم به، فإنكم تكونون تتكلمون في الهواء” (1كو6: 149).

 

 فمن
هنا يتضح أن موهبة الألسنة يعطى بها كلام يُفهم.

 

 وقوله:
“ربما تكون أنواع لغات هذا عددها في العالم وليس شئ منها بلا معنى فإن كنت لا
أعرف قوة اللغة أكون عند المتكلم أعجمياً والمتكلم أعجمياً عندي … لذلك من يتكلم
بلسان فليصلِ لكي يترجم” (1كو10: 1413).

 من
هذا يتضح بكل جلاء أنه يربط بين التكلم باللغات وبين ألسنة الصلاة على أنها موهبة
واحدة لها استخدامان حسب احتياج الكنيسة.

 

 رابعاً:
إن استخدام معلمنا بولس الرسول للتغير “ألسنة الناس والملائكة” في
قوله إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة” (1كو1: 13) إنما هو للتعبير عن شئ
مستحيل، أو أقصى ما يمكن أن يصل إليه، مثال قوله:

 

 “إن
سلمت جسدي حتى احترق ولكن ليس لي محبة فلست شيئاً” (1كو3: 13) ومن الثابت أن
معلمنا بولس الرسول لم يحترق جسده، وإنما استخدم هذا التعبير ليوضح أنه مهما كان
له من مواهب، أو مهما بذل من عطاء، ولم تكن له محبة فلا فائدة. ومثال آخر هو قوله:
“فإني كنت أود لو أكون أنا نفسي محروماً من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب
الجسد” (رو9: 3)، وقد استخدم هنا أداة “لو” في قوله “لو أكون …”
ومعروف أن هذه الأداة تفيد امتناع حدوث جواب الشرط لامتناع حدوث فعل الشرط.
والواقع أن قول بولس الرسول بصدد التكلم بألسنة: “إن كنت أتكلم بألسنة الناس
والملائكة” (1كو1: 13) هو في الأصل اليوناني يستخدم أداة “لو” أي
“لو كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة”

[.Pulpit Commentavg, Vol. 19, P. 422.]

 وهذا
يوضح أن الكلام هو من قبيل الافتراض والإمتناع لا الواقع الممكن حدوثه [
lbid ].

 

خامساً:

ومما يؤكد أنه لا يوجد نوعان من التكلم بألسنة، وأنه لا يوجد في موهبة التكلم
بألسنة ما يسمونه بألسنة الملائكة، أنه لم ترد أية إشارة أخرى في الكتاب المقدس
تؤيد هذا القول. ولا يمكن أن تؤسس عقيدة إيمانية على مجرد تلميح في معرض حديث
إفتراضي غرضه بيان الحد الأقصى، ولا تسنده أدلة أخري، بل على العكس تقوم ضده أدلة
دامغة صريحة.

 

 مما
تقدم يتأكد لنا أن موهبة التكلم بألسنة هي النطق بلغات البشر سواء كانت للكرازة أو
الصلاة ونورد في الختام قولاً للقديس يوحنا ذهبي الفم يحسم هذا الموضوع مؤكداً أن
ألسنة الصلاة هي لغات من لغات البشر المعروفة إذ قال: أرأبت كيف يصل الرسول
بالتدريج إلي نقطة حاسمة في حديث عن التكلم بألسنة؟! فيوضح أنها بلا فائدة ليس
للسامعين فقط بل أيضاً للمتكلم بها في قوله: “أما ذهني فهو بلا ثمر”
(1كو14: 14).

 

 لأنه
إن نطق إنسان بالفارسية أو بأي لغة أجنبية ولم يُفهم ما يقوله فهو بالتأكيد سوف
يكون بربرياً عند نفسه، وليس عند الآخرين فقط إذ أنه لا يعرف ما تكلم به.

 

 فكثيرون
في القديم ممن كانت لهم موهبة الصلاة مع موهبة التكلم بألسنة، بينما كانوا يصلون
كانوا يتكلمون بألسنة. فكانوا يصلون بالفارسية أو باللاتينية، ولكنهم ما كانوا
يفهمون ما يصلون به: فلهذا قال الرسول: “إن كنت أصلي بلسان فروحي تصلي وأما
ذهني فهو بلا ثمر.

 [
N. P. F. S end Ser.
Vol. X11. P. 211
.]

 

 ويلاحظ
أن الرسول إنتقد هذا الموضوع الأخير، ولم يره مقبولاً روحياً.

 

 ومما
يجدر ملاحظته هو أن هذا الرأي قد ورد أثناء تفسر القديس يوحنا ذهبي الفم لرسالة
بولس الرسول الأولي إلى أهل كورنثوس، لا بهدف الرد على بدع أو هرطقات بل في سياق
حديث عادى يكشف عن أنه رأي مستقر في الكنيسة وليس من يعارضه.

 

 كما
أنه من المؤكد تاريخياً أن هذا هو رأي جميع قديسي الكنيسة.

 ويعلق
ناشرو مجموعة أقوال الآباء على قول القديس يوحنا ذهبي الفم السالف الذكر بقولهم:

 [
من هذه الفقرة ومثيلتها في العظة التالية يتضح أن ذهبي الفم قد فسر التكلم بألسنة،
بأنه التكلم بلغات لم يسبق أن تعلمها]

(I bid, Foot Note.).

 

 بناء
على كل ما سبق إيضاحه، فإنه من المتيقن أن التكلم بألسنة ليس نوعين بل نوع واحد له
استخدامان، وهو يتكلم بلغات البشر، سواء كان ذلك للكرازة أو في الصلاة، وأن التكلم
بألسنة في الصلاة في الزمن الرسولي ليس هو رطانة وبلبلة بكلام غير مفهوم وأصوات
بلا معنى، بل بلغات حقيقية من لغات البشر.

 

ملاحظات بخصوص التكلم بألسنة

 يجدر
بنا أن نشير إلى عدة ملاحظات بخصوص موهبة التكلم بألسنة:

 

أولاً:

أن الألسنة ليست علامة مميزة للإمتلاء بالروح القدس، فربما يمتلئ إنسان بالروح ولا
يتكلم بألسنة، مثال ما حدث مع أهل السامرة، فقد ذكر الكتاب أنهم إمتلأوا بالروح
ولم يذكر أنهم تكلموا بألسنة إذ قال: “حينئذ وضعا الأيادي عليهم فقبلوا الروح
القدس” (أع17: 8). ولم يذكر أنهم تكلموا بألسنة كعلامة على ذلك.

 

 بل
إن معلمنا بولس الرسول نفسه، بالرغم من أنه كانت لديه الموهبة كما قال: “أشكر
إلهي أنى أتكلم بألسنة أكثر من جميعكم” (اكو18: 14) إلا أنه يوم أن اعتمد
وامتلأ بالروح القدس على يدي حنانيا لم يذكر الكتاب أنه ظهرت عليه علامة الملء هذه
كما يدعى البعض. إذ سجل الكتاب قائلاً: “فمضى حنانيا ودخل البيت ووضع عليه
يديه وقال أيها الأخ شاول قد أرسلني الرب يسوع الذي ظهر لك في الطريق الذي جئت فيه
لكي تبصر وتمتلئ بالروح القدس فللوقت وقع من عينيه شئ كأنه قشور فأبصر في الحال
وقام واعتمد، وتناول طعاماً فتقوى” (أع7: 919) وعوض أن يذكر أنه تناول طعاماً
كان من باب أولى أن يذكر علامة الملء التي يتكلمون عنها كأنها شئ أساسي!!

 

ثانياً:

إن الألسنة لم تكن تُعطى لكل أحد في الكنيسة، ولم تكن أساسية، أو دليلاً ثابتاً
على أيمان الإنسان، فقد قال بولس الرسول: “فإنه لواحد يُعطى بالروح كلام حكمة،
ولآخر ترجمة ألسنة، ولكن هذه كلها يعلمها الروح الواحد بعينه قاسماً لكل واحد
بمفرده كما يشاء” (1كو8: 1211).

 

ثالثاً:

إن الألسنة يمكن التحكم فيها أثناء التكلم بها فقد، وضح ذلك معلمنا بولس الرسول
بعدة أدلة:

قوله:
“إن كان أحد يتكلم بلسان فإثنين اثنين أو على الأكثر ثلاثة ثلاثة”
(1كو27: 14) فهذا يدل على التحكم في عدد المتكلمين، فليس الأمر متروكاً لمن يشاء.

قوله:
“وبترتيب” (1كو27: 14) يدل على التحكم أيضاً فليس الأمر فوضى.

وقوله:
“ولكن إن لم يكن مترجم فليصمت في الكنيسة” (1كو28: 14) يدل أيضاً على
التحكم في النفس بعد الكلام.

وقوله:
“يكلم نفسه والله” (1كو28: 14) توضح التحكم في ضبط الشفاه واللسان.

وقوله:
“وأرواح الأنبياء خاضعة للأنبياء” (1كو32: 14) دليل على إمكانية التحكم
بالخضوع.

وقوله:
“لأن الله ليس إله تشويش بل إله سلام” (1كو33: 14) دليل أيضاً على
التحكم والانضباط والنظام حتى لا يكون هناك تشويش.

 

 هذا
التحكم يعني أن الإنسان الذي يتكلم بألسنة يكون في كامل وعيه، وضبطه لنفسه. وأيضاً
يكون خاضعاً لترتيب الكنيسة في أن تسمح له بالكلام أو لا تسمح بحسب ما تحتاجه
الكنيسة من بنيان.

 

 معنى
هذا أنه غير مسموح لأي إنسان أن يصرخ في أي إجتماع بحجة أنه يتكلم بألسنة، أو أن
يدعي أي إنسان أنه يتكلم بألسنة وهو في حالة غيبوبة أو عصبية أو حالة إنفعالية.

 

 فإذن
ما دام التكلم بألسنة موهبة من الروح القدس، فلا يكون النطق بها في حالة اضطراب أو
ارتعاش أو أي وضع لا يتفق مع هيبة الروح القدس وكرامته.

 

ترجمة الألسنة

 في
الكنيسة الأولى كان لابد لمن يتكلم بألسنة أن يوجد له مترجم، إذ كان يتكلم بلسان
وسط أُناس آخرين لا يفهمونه. وقد أشار معلمنا بولس الرسول إلى ذلك بقوله: “لأن
من يتنبأ أعظم ممن يتكلم بألسنة إلا إذا تُرجم حتى تنال الكنيسة بنياناً”
(1كو5: 14) وقوله: “لذلك من يتكلم بلسان فليصل لكي يُترجَم” (1كو13: 14)
وأيضاً قوله: “إن كان أحد يتكلم بلسان فاثنين اثنين أو علي الأكثر ثلاثة
ثلاثة وبترتيب وليترجم واحد، ولكن إن لم يكن مترجم فليصمت في الكنيسة وليكلم نفسه
والله” (1كو28،27: 14).

 

 فترجمة
الألسنة موهبة من مواهب الروح القدس التي ذكرها معلمنا بولس الرسول في رسالته
الأولى إلى أهل كورنثوس إذ قال “فإنه لواحد يُعطى بالروح كلام حكمة ولآخر
كلام علم بحسب الروح الواحد ولآخر إيمان بالروح الواحد، ولآخر مواهب شفاء بالروح
الواحد، ولآخر عمل قوات ولآخر نبوة، ولآخر تمييز الأرواح، ولآخر أنواع ألسنة،
ولآخر ترجمة ألسنة” (1كو8: 12-10).

 

 وقد
لاحظنا في الآيات التي ذكرناها سابقاً إرتباط الترجمة بموهبة التكلم بألسنة فهي
متابعة لها دائماً. لم توجد موهبة ترجمة، تتوقف موهبة التكلم بألسنة، كقول الرسول
ولكن إن لم يكن مترجم فليصمت في الكنيسة …” (1كو28: 14).

 

 ورب
معترض يقول: “إن كانت موهبة التكلم بألسنة هي النطق بلغات أجنبية فلماذا
تحتاج إلي موهبة الترجمة؟ وما هي أهمية موهبة الترجمة؟

 

 والاجابة
علي هذا الاعتراض هينة، بل وتؤكد ما قلناه عن موهبة الألسنة أنها فعلاً النطق
بلغات أجنبية.

 

 فمن
الثابت أن التلكم بألسنة “آية لا للمؤمنين بل لغير المؤمنين” (1كو22: 14)،
ومعنى كلمة(آية) هو (علامة) كما هو ثابت من اللفظة نفسها في اليونانية وفي القبطية
وفي الإنجليزية وقد تُرجمت هذه الآية في الإنجليزية هكذا:

{So you see that being
able to speak in tongues is not a sign to God’s Children concerning his power
but is a sign to the unsaved} (Living bible)

 

 فالألسنة
علامة لغير المؤمنين لتبرهن لهم علي قوة الله وعلي حضوره في هؤلاء المؤمنين.

 

 وفي
حالة ما إذا كان غير المؤمنين أجانب وينطقون بلغات أجنبية، فإن موهبة التكلم
بألسنة تُعطى لتخاطبهم بلغاتهم. وتحتم أن يترجم ما قيل باللغات الأجنبية في حالة
التكلم بألسنة أثناء الصلاة أو الكرازة إلى لغة المؤمنين المحلية حتى ينالوا هم
أيضاً بنياناً، وهذا ما دعا معلمنا بولس الرسول أن يقول “لذلك من يتكلم بلسان
فليصل لكي يترجم” (1كو13: 14).

 

 وقال
أيضاً “لأن من يتنبأ أعظم ممن يتكلم بألسنة إلا إذا ترجم حتى تنال الكنيسة
بنياناً” (1كو5: 14).

 

 والواقع
أن ما حدث من البعض في كورنثوس كان خروجاً بالموهبة عن مسارها الطبيعي واستخدمها
السليم إلى التباهي والتظاهر الأمر الذي دعا معلمنا بولس الرسول إلى أن يصحح
أفكارهم من جهة هذه الموهبة.

 

 من
هذا نرى أن موهبة التكلم بألسنة هي النطق بلغات أجنبية كعلامة لغير المؤمنين علي
قوة الله، وأن موهبة الترجمة هي نقل ما يقال باللغات الأجنبية إلى اللغة المحلية
التي يعرفها مؤمنو الكنيسة المحلية حتى ينالوا هم أيضاً بنياناً.

 

 ولقد
وضح معلمنا بولس الرسول أهمية الترجمة لبنيان الآخرين في قوله أيضاً:

·              
“فما هو إذن أيها الأخوة متى اجتمعتم فكل
واحد له مزمور له تعليم له لسان له إعلان له ترجمة فليكن كل شىء للبنيان”

·     
“إن كان أحد يتكلم بلسان فاثنين اثنين أو
علي الأكثر ثلاثة ثلاثة وبترتيب وليترجم واحد. ولكن إن لم يكن مترجم فليصمت في
الكنيسة وليكلم نفسة والله”

 

 وقد
علق القديس يوحنا ذهبي الفم علي هذه الآيات موضحاً أن بنيان الآخرين أمر ذو أهيمة
قصوى في التعليم المسيحي فقال:

 أرأيت
أساس المسيحية وقاعدتها؟ فكما يعمل الفنان في تشييد البناء، هكذا يعمل المسيحى لبناء
الآخرين ولفائدتهم في كل شىء.

 

 [ماذا
تقول (يا معلمنا بولس الرسول) إخبرني. فبعد أن تكلمت كثيراً عن الألسنة، وقلت إن
الموهبة بلا فائدة وغير ضرورية إذا لم يكن هناك مترجم، فهل تعود تأمرنا بالتكلم
بألسنة؟].

 

 يقول
الرسول: أنا لم آمر ولم أمنع فما قاله هنا هو مثل ما قاله في موضع آخر:

 

 “إن
كان أحد من غير المؤمنيين يدعوكم وتريدون أن تذهبوا … (1كو27: 20). فهو لا يضع
لهم قانوناً يفرض عليهم أن يذهبوا وأيضاً لم يمنعهم من ذلك، فهكذا أيضاً الأمر في
قوله: “فليكلم نفسه والله” فإذا لم يتحمل الصمت وكان تواقا للمجد الباطل
(ممكن أن يُعطى إنسان موهبة التكلم بألسنه ويهلك نفسه بسبب الكبرياء أو الافتخار
الباطل أو محبة الظهور ومديح الناس. وما ينطبق علي هذه الموهبة ينطبق علي كل
المواهب الأخرى). “فليكلم نفسه”.

 

 وهكذا
نرى أنه بعد أن صرح بذلك فإنه يضع ضوابط شديدة ويخجلهم، كما فعل في مواضع أخرى
“فإنني أقول ذلك لتخجيلكم” (1كو34: 15) … فمن كان له الموهبتان
(الألسنة وترجمتها) فليتكلم بمساعدة مترجم آخر. ولكن إن لم يوجد مترجم فليصمت لأنه
لا يصح أن يكون هناك شئ غير ضروري، أو من أجل الطموح الشخصى.

 

 “فليكلم
نفسه والله” أي بذهنه أو بهدوء وبدون ضوضاء إن كان سيتكلم. فهذا الأسلوب ليس
أسلوب فرض قانون بل هو أسلوب تخجيل، كما سبق فقال: “إن جاع أحد فليأكل في
بيته” فبينما يبدو أنه يعطيهم تصريحاً فهو يحدثهم هنا بأكثر حدة إذ يقول: “فحين
تجمتمعون معاً ليس هو {لهذا الغرض}” (1كو20: 11) ليس لكي تظهروا أن لكم موهبة،
بل لكي تبنوا السامعين، كما قال “ليكن كل شئ للبنيان” (1كو26: 14)
1bid
.

 

 من
كل هذا تتضح أهمية موهبة ترجمة الألسنة لأجل بنيان المؤمنيين. كما أن موهبة
الألسنة آية لغير المؤمنيين. لذلك فإن الذين يتكلمون بألسنة ولا يوجد في حياتهم
بنيان روحي، يكون تصرفهم ضد تعليم الكتاب وبالتالي فلا يكون ذلك أمراً روحياً ولا
مقبولاً.

 

معايير وضوابط المواهب

 لقد
وضع معلمنا بولس الرسول عدة معايير وضوابط للمواهب حتى يحفظ استخدامها السليم،
وحتى ينحرف أحد بالمواهب إلى ضرر نفسه ودينونتها كما قال القديس يوحنا ذهبي الفم:

 […
بدون هذا تتحول الموهبة إلى دينونة لمن أخذها]

(N.P. Ser. vol. XII P.218)

 

فمن
هذه المعايير والضوابط ما يلي:

1
إظهار الروح للمنفعة:

 فقد
أعطيت المواهب لاظهار الروح للمنفعة كما قال معلمنا بولس الرسول: “ولكنه لكل
واحد يُعطى اظهار الروح للمنفعة” (1كو7: 12). أما أن يرطن إنسان بكلام غير
مفهوم فما هي المنفعة من ذلك؟

 

2
لبنيان الكنيسة:

 إذ
قال الرسول: “هكذا أنتم أيضاً إذ أنكم غيورون للمواهب الروحية اطلبوا لأجل
بنيان الكنيسة لكي تزدادوا” (1كو12: 14). وأيضاً “حتى تنال الكنيسة
بنياناً” (1كو5: 14). وأيضاً “متى اجتمعتم فكل واحد منكم له مزمور له
تعليم له لسان له إعلان له ترجمة فليكن كل شئ للبنيان” (1كو26: 14).

 ولقد
علق على ذلك القديس ذهبي الفم بقوله: [أرأيت هدفه في كل موضع، كيف أنه يتطلع إلى
شئ واحد باستمرار وفي كل الحالات ألآ وهو المنفعة وبنيان الكنيسة، وقد وضع هذا
الأمر كقاعدة للمواهب]

(Ibid P.211)

 

3
اللياقة والترتيب:

 من
الأمور الهامة التى أشار إليها معلمنا بولس الرسول بخصوص المواهب اللياقة والترتيب
إذ قال: “إن كان احد يتكلم بلسان فإثنين أو علي الأكثر ثلاثة ثلاثة وبترتيب
ليترجم واحد” (1كو27: 14).

وفي
الختام حديثه عن المواهب قال: “إذا أيها الاخوة جدوا ولا تمنعوا التكلم
بألسنة. وليكن كل شئ بلياقة وبحسب ترتيب” (1كو40،39: 14). وقد علق القديس
ذهبي الفم على ذلك بقوله: [وفي الختام يلخص الرسول كلامه في هذه العبارة المختصرة
مصححاً كل شئ … لا يمكن أن يبني سوى الترتيب] (
Ibid P.224).

 

 لذلك
فلا يمكن أن يكون التشويش والأصوات المتداخلة صلاة بالمرة. بل إن حكم من يسمع ذلك
هو أن يقول: “إنكم تهذون” (1كو23: 14).

4
مراعاة هدف الموهبة:

 فقد
حدد معلمنا بولس الرسول هدف كل موهبة، وخاصة موهبة التكلم بألسنة وموهبة النبوة
حتى لا تخرج أية موهبة عن هدفها فقال: “الألسنة آيه لا للمؤمنين بل لغير
المؤمنين أما النبوة {النبوة أحياناً تعني التعليم} فليست لغير المؤمنين بل
للمؤمنين” (1كو22: 14).

 

 فإذا
أستُخدمت الموهبة في غير هدفها باعتبارها آيه لغير المؤمنين وذلك طلباً للمجد
الباطل حُكم على هذا التصرف بالخطأ ووجب تصحيحه.

 

5
الحكم علي صحة المواهب:

 يوضح
معلمنا بولس الرسول أن موهبة النبوة يحُكم على صحتها بواسطة موهبة تمييز الأرواح
إذ قال: “ولآخر نبوة ولآخر تمييز الأرواح” (1كو10: 12).

 

 ويقول
أيضاً معلمنا يوحنا الرسول: “أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح بل امتحنوا
الأرواح هل هي من الله لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم” (1يو1: 4).
ولهذا قال معلمنا بولس الرسول: “أما الأنبياء فليتكلم اثنان أو ثلاثة وليحكم
الآخرون” (1كو29: 14).

 

 وقد
علق القديس يوحنا ذهبي الفم علي ذلك بقوله: [قال الرسول ذلك من أجل تأمين السامعين
حتى لا يتسرب إليهم عدَّان … لذلك فهو يحثهم علي تمييز الأمور حتى لا يدخل في
وسطهم معلم شيطاني] (
Ibid
P.219
) .

 

 هذا
بخصوص الحكم على موهبة النبوة، اما بخصوص موهبة التكلم بألسنة فأن الحكم عليها إلى
جانب موهبة تمييز الأرواح، يكون بواسطة موهبة الترجمة “ولآخر أنواع ألسنة
ولآخر ترجمة ألسنة” (1كو10: 12). ولذلك قال معلمنا بولس الرسول “ولكن إن
لم يكن مترجم فليصمت” (1كو28: 14).

 

 فعلاوة
علي أن موهبة الترجمة هي لبنيان الكنيسة فهي من جانب آخر للحكم علي موهبة الألسنة.
فقد كتب أحد الذين بحثوا في موضوع التكلم بألسنة ويدعى (هوكنج) ما يلي:

 

 [كان
الرسول يحتم على أنه في حالة استعمال الألسنة، يجب أن تكون هناك الترجمة حتى
يستطيع الكل أن يحكموا فيما إذا كان الكلام من الله أم من روح آخر. فلا تخدع]

 (Hoking, Speaking in tongues, P.75)

 ثم
يتساءل قائلاً [كيف يتسنى لنا نحن الآن أن ننفذ هذه الوصية “امتحنوا الأرواح
هل هي من الله” (1يو1: 4) إذا كان ما يقال (في التكلم بألسنة) لا معنى له لدى
السامعين؟

 

 وإن
كان أحد يترجم اليوم، كيف نعلم أن الترجمة ليست كاذبة أيضاً؟ فإذا كانت موهبة
الترجمة قد انقطعت مع موهبة الألسنة من الكنيسة فبالضرورة تكون الترجمة كاذبة.

 

 وقد
أورد شهادة أحد المنشغلين بهذا الموضوع ويدعى (س. بولوفينا) حيث يقول:

 [عرض
لي أن دخلت اجتماع أصحاب الألسنة وإن كنت أنا نفسي أجنبياً لي إلمام بخمس أو ست
لغات، أردت أن استوثق من صحة دعواهم فجلست في احد المقاعد الأمامية لأسمع ما
ينطقون به وقد دُهشت لأنني وجدتهم لم يفوهوا بأيه لغة من اللغات التي طرقت سمعي
أثناء طوافي في أوربا وآسيا.

 

 ولشدة
رغبة الاستيثاق فيَّ أخذت معي في المرة التالية سبعة من العلماء بلغات كثيرة
وأخبرتهم برغبتي فدخلنا سويا وأخذنا مجلسنا بين المقاعد الأمامية كالأمس ولما كان
بينهم رجل ادعى بحصوله علي موهبة الترجمة، وبدأوا في حركتهم المعتادة ولم أقدر أنا
وزملائى أن نفهم لفظة واحدة مما رطنوا به وأخيراً قام المترجم وقال إن المتكلم
الأول استعمل اللغة الروسية. وقد دهشت لهذا الادعاء المكشوف لأنني كنت أجيد اللغة
الروسية.

 

 ومرة
أخرى حضرت إجتماعهم وبعد أن أتموا ما أعتادوا عليه وقفت أنا الآخر واقتبست (يو3: 3)
ونطقته بلغة أهل هنغاريا. وكم كانت دهشتى عظيمة حينما وقف المترجم وقال تكلم الأخ
باللغة الفرنسية وكان كلامه عن (أع19)
(Ibid P.108)

 

 إذن
هذه الأمور تحتاج إلى حذر شديد وتحفظ حتى لا يقع أحد في أحبولة إبليس وخدعة
الشيطان.

 

 فمن
خلال هذه المعايير والضوابط نستطيع أن نحكم على ما يحدث إن كان هو من الله أو من
الشيطان أو من إندفاعات جسدية وعاطفية تنحرف بمفهوم المواهب مما يتيح المجال لظهور
التقليد الزائف للمواهب الفائقة.

 

التكلم بألسنة وبلبلة الألسنة

 إن
واقعة التكلم بألسنة التي حدثت في مدينة أورشليم في يوم الخمسين، تقابل حادثة
بلبلة الألسنة التى حدثت في مدينة بابل يوم أن فكروا في بناء برج رأسه في السماء،
وهذا ما سجله الكتاب عن هذه الحادثة:

 

 “وكانت
الأرض كلها لساناً واحداً ولغة واحدة وحدث في ارتحالهم شرقاً أنهم وجدوا بقعة في
أرض شنعار وسكنوا هناك. وقال بعضهم لبعض: هلم نصنع لبنا ونشوية شيا. فكان لهم
اللبن مكان الحجر وكان لهم الحمر مكان الطين وقالوا هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجاً
رأسه في السماء. ونصنع لأنفسناً أسماً لئلا نتبدد وبرجاً علي وجه كل الأرض.

 

 فنزل
الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما. قال الرب هوذا شعب واحد
ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن
يعملوه. هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض. فبددهم الرب من
هناك على وجه كل الأرض. فكفوا عن بنيان المدينة.

 لذلك
دعي اسمها بابل. لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض. ومن هناك بددهم الرب علي وجه
كل الأرض” (تك1: 11-9).

 

 وهكذا
نرى المفارقة بين يوم الخمسين يوم البلبة:

 

1
فقد حدثت البلبلة نتيجة لمفارقة الله لأولئك الناس بسبب عصيانهم وتمردهم وكبريائهم
وعملهم ضد الله، فبلبل الله لسانهم إلى ألسنة مختلفة.

 

 أما
في يوم الخمسين فحدث التكلم بألسنة نتيجة حضور الله في وسط الناس، بعد أن قدم ذاته
علي الصليب كفارة لخطايا العالم كله، فأعطى إمكانية النطق بألسنة مختلفة.

 

2
نتج عن بلبلة الألسنة في بابل تشتت الناس وتفريقهم بسبب عدم فهمهم لغة بعضهم البعض.
أما النطق بالألسنة في أورشليم فنتج عنها تجميع للناس وربط شملهم بسبب فهمهم اللغة
التي ولد كل واحد فيها التي نطق بها من أخذ الموهبة.

 

 وقد
كتب القديس يوحنا ذهبي الفم في هذا الصدد قائلاً:

[وكما
كان في أيام بناء برج بابل إذ قد انقسم اللسان الواحد إلى كثرة، فهكذا الآن
الألسنة الكثيرة قد إجتمعت في شخص واحد، وقد استطاع الشخص الواحد أن يتحدث إلى
الفرس والرومان، والهنود، وإلى كل الألسنة الأخرى.

 

 فالروح
ينطق في داخله. قد دعيت الموهبة بالتكلم بألسنة لأن الشخص الواحد يقدر أن يتكلم
بلغات مختلفة.

(Nicane & P.F. est sar. vol.
XII P.209)

 

 من
هذا يتضح لنا أن حلول الروح القدس قد عالج ما حدث في بابل من بلبلة للألسنة بسب
الخطية، إذ بموهبة الألسنة استطاع أن يتفاهم الناس من أجل بناء حياتهم الروحية.

 ويبدو
من تعليق القديس يوحنا ذهبي الفم أن التكلم بألسنة كان نطقاً بلغات البشر المتعددة.

 

مركز الألسنة بين المواهب

 لقد
حدد معلمنا بولس الرسول مركز موهبة التكلم بألسنة بين المواهب كما يتضح مما يلي إذ
صرح بأنها:

 

1
الأخيرة:

 ففي
ترتيبه للمواهب وضعها في آخرها إذ قال: “فإنه لواحد يُعطى بالروح كلام حكمة.
ولآخر كلام علم … ولآخر إيمان. ولآخر مواهب شفاء … ولآخر أنواع ألسنة ولآخر
ترجمة ألسنة” (1كو8: 12-10).

2
الأقل:

 فقد
ذكر الرسول أنها أقل من التنبؤ في قوله:

 “لأن
من يتنبأ أعظم ممن يتكلم بألسنة …” (1كو5: 14).

ويعلق
علي ذلك القديس يوحنا ذهبي الفم بقوله:

[صنع
هنا مقارنة بين المواهب. فحط بموهبة اللغات… لأنهم كانوا يترفعون بها جداً، إذ
كانوا يعتقدون أنها موهبة عظيمة جداً]

(مخطوط
بدير البرموس وجه 221
N.P.F.
vol XII.P.208
)

من
هذا يتضح مركز التكلم بألسنة أنها آخر المواهب وأقلها. ومع أنها أقل المواهب وقد
ذكرت في آخرها، إلاَأن البعض يتمسك بها، لأنه يمكن أن يستغلها وليس هذا هو الوضع
الروحى.

 

مواهب الروح وثمار الروح

يوضح
معلمنا بولس الرسول أن المحبة وهي من ثمر الروح أفضل من الألسنة وهي من مواهب
الروح بقوله: “إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة فقد صرت
نحاساً يطن أو صنجاً يرن” (1كو1: 13) وقد قال في الآية التي قبل هذه الآية: “جدوا
للمواهب الحسنى وأيضاً أريكم طريقاً أفضل” (1كو31: 12) ففي هذه الآية وضح
بصراحة أن طريق الفضائل أفضل من المواهب.

 

وقد
علق علي ذلك القديس يوحنا ذهبي الفم قائلاً:

 

“أريكم
طريقاً أفضل” وذلك ليرفع من المحبة ويعظمها. وإنه لم يقل: أريكم موهبة واحدة
أوعدة مواهب، بل قال: أريكم طريقاً مؤدياً إلى هذه كلها … وهو للجميع، وليس
كالمواهب التي تًعطى للبعض فقط وليس للجميع ولذلك فالرسول يدعو الكل إلى هذا
الطريق، لأنه يقول أريكم طريقاً أفضل أي المحبة نحو الآخرين.

 

 وإذ
بدأ يتحدث عن معناها ومدحها قارنها بموهبة التكلم بألسنة، فوضع أن هذه الموهبة
بدون المحبة لا شئ]

(مخطوط
بدير البراموس وجه 199)

 

 من
هذا يتضح أن ثمار الروح أفضل من مواهب الروح بالنسبة لحياته الشخصية ونموه
الروحى، كما أن ثمار الروح تلزم للخلاص الشخصى لكل إنسان أما المواهب فهى
نافعة للخدمة …

 

غزارة الموهبة في العصر الرسولي

كانت
موهبة الألسنة تصاحب حلول الروحالقدس أحياناً على جماعة المؤمنين في المراحل
الأولى للكنيسة، كما حدث يوم الخمسين (لليهود)، وفي بيت كرنيليوس (للرومان)، وفي
أفسس (لليونانيين) وكان لها أهداف هامة منها:

 

1
أن تتكلم الكنيسة بكل اللغات مخاطبة ضمائر وأسماع الشعوب في كل الأرض حتى تنتشر
الكرازة في كل أرجاء المسكونة.

 

2
أن تصلي الكنيسة بهذه اللغات عينها متكلمة مع الله باسم جميع الشعوب جاذبة
إياهم نحو الله، ومعلنة قبول الله لهم جميعاً.

 

3
كما أن الكنيسة في العصر الرسولي كانت في حاجة ماسة إلى هذه الموهبة مقترنة بموهبة
الترجمة، مع موهبة النبوة أيضاً، حيث أن الكتاب المقدس العهد الجديد لم يكن قد
دُونَ بعد، فكان الروح القدس عن طريق هذه المواهب يعزى المؤمنين في الكنائس
ويعطيهم بنياناً. وفي هذا قال هوكنج (هو أحد الدارسين المتبحرين في هذا الموضوع عن
التكلم بألسنة).

[كانت
الخدمة (في الكنيسة الأولى) شفوية لأن العهد الجديد لم يكن قد كتب، فكان هناك
احتياج إلى مواهب النطق الإلهي: النبوة والألسنة وترجمتها] (
Hoking, Speaking in Tongues. P.54)

 

4
لتكون آية وعلامة لغير المؤمنين لتثبت لهم أن الله حاضر في هذا المكان وأنه مع
هؤلاء الناس.

 

 ولهذه
السباب وغيرها أعطى الله هذه الموهبة بغزارة للكنيسة الأولى في عصر الرسل.

 

تناقص غزارة الموهبة حتى اختفائها

لقد
تناقصت غزارة الموهبة (موهبة التكلم بألسنة) حتى اختفت كما هو ثابت تاريخياً،
ونورد هنا بعض الإرشادات التي تدل علي ذلك:

 

1
ترتليانوس:

 لقد
تحدي ترتليان (القرن الثاني) الهرطوقي ماركيون أن يأتي بمواهب الروح إن كان صادقاً.
ويظهر من كلام العلامة ترتليان أن موهبة التكلم بألسنة لم تكن موجودة في زمانه.

(Encyclopaedia of Religion and Ethks
vol. III P.372)

 

2
ميلتيادس:

 كتب
ميلتياد، طبقاً لما ذكره يوسابيوس (القرن الرابع) ضد بدعة المونتانية أن يكفوا عن
الكلام غير المفهوم، الغامض، حيث أن موهبة التكلم بألسنة قد أدمجت في موهبة النبوة.
(
Ibid).

 

3
القديس يوحنا ذهبي الفم:

 كتب
القديس يوحنا ذهبي الفم (القرن الخامس) بخصوص موهبة التكلم بألسنة في شرح الرسالة
الأولى إلى أهل كورنثوس اصحاح (1: 12-10) فقال: {إن هذا الجزء من الكتاب المقدس
غير واضح تماماً، وذلك بسبب جهلنا، وبسبب نقص هذه الأمور التي كانت تحدث في القديم
ولكنها الآن لا تحدث. فلأي سبب لا تحدث الآن} (مخطوط بدير البراموس 24/2
وجه 178 مع مراجعتها على النص الإنجليزي بمجموعة كتابات نقيقة).

 

 من
هذا يتضح أن الموهبة قد تناقص غزارتها حتى اختفت من الكنيسة – شهادات من آباء-
القرن الثاني الرابع والخامس ولعل ذلك لانتهاء القصد من وجودها، ومنعاً للتشويش
الذي قد يصاحبها كالتطبيق غير السليم، ولا يعني هذا قصور من الروح القدس في منح
المواهب بل إنها تُعطي بحسب تدبير الله لبنيان الكنيسة.

 

لمحة تاريخية

 يحدثنا
التاريخ عن ظهور جماعات على ممر الأجيال تنطق بكلمات غير مفهومة بلا معنى أثناء
الصلاة، ويعللون ذلك بأنه تكلم بألسنة الملائكة، والواقع أن هذه الظاهرة لها
خلفيات في الخرافات اليهودية والهلينية، وسوف نتتبع هذه الظاهرة عبر التاريخ على
قدر الإمكان.

 

1
الخلفية اليهودية: (
Kittle,
Theological dictionary of the New Testament
.)

 من
المعتقدات الخرافية التي كانت سائدة عند اليهود بخصوص ذلك ما يلي:

أ‌-            
أن رؤساء الملائكة الأربعة كان لكل واحد منهم
لغته يمجد بها الله.

ب‌-    أن
أيوب قبيل موته أعطى بناته الثلاثة ثلاث مناطق (أحزمة). فإذا لبست بنته الأولى
منطقتها تكلمت بألسنة الملائكة، وإذا لبست الثانية منطقتها تكلمت بألسنة الشياطين،
وإذا لبست الثالثة منطقتها تكلمت بألسنة الشاروبيم.

 

2 الخلفية الهلينية:
(Ibid)

 كان
لليونانيين أفكار قريبة الشبه من ذلك.

أ
فقد ساد في الديانات اليونانية ظاهرة النطق بألفاظ ليس لها معنى ابتداء من عرافة
تراكيان ديونيسيوس (
Tracian
Diohy Sus
.) حتى تنبؤات وعرافة
دلفيك فريجيا (
Delphic Phrggia).

ب
كتب فوجيل الشاعر الروماني (70-21 ق.م) في قصيدة الأنيادا (
Aeneid) عن نبية يونانية كانت تتكلم بألسنة غير مفهومة، وكانت تنتابها
انغعالات هستيرية.

(Hoking, Speaking in Tongues)

ج
كان اليونانيين يعتقدون أن لكل طبقة من طبقات السماء لغة خاصة بالأرواح التي
تسكنها.

(Kittle, Theological dictionary. Vol.
IP. 719: 727
.)

د
كان اليونانيين يستخدمون ألفاظاً سحرية غير مفهومة وليس لها معنى لاستحضار أرواح
الآلهة. (
Ibid)

ه
ربط إيريناوس بين العرافة الهلينية وبين الظاهرة الغريبة التي ظهرت على المرأة
التي إدعت النبوة وتبعها ماركيسون الغنوسي.

(Ibid)

و
ربط كلسوس بين هذه العرافة الهلينية وبين ما كان يحدث في إجتماعات المسيحيين
المسبيين بحسب تصوره من حيث المنطوقات غير المفهومة، وإن كان أوريجين قد فند
أقواله وأثبت كذب ادعائه، لكن الموضوع نفسه الذي كان سائداً في دياناتها وعرافتها.

(N.P.F. 1est sed. Vol IV P. 611: 615)

 

 هذا
عن خلفيات هذه الظاهرة الغريبة أما عن ظهورها عبر التاريخ المسيحي فنورد ما ذكره
التاريخ فيما يلي:

1
الماركيونية: ظهرت هذه الظاهرة الغريبة في مجال البدعة الماركيونية الغنوسية
وقاومها إيريناوس وترتليانوس.

(Encyclopaedia of religion and
Ethic vol. III P.372)

2 المونتانية: (في القرن
الثاني الميلادي) حيث ادعى مونتانوس أنه نبي وكان هو وجماعته يتكلمون بألسنة أخرى
عير مفهومة.

(Hoking, Speaking in Tongues P.114-117)

3 في ألمانيا: (1517م –
1648م) ظهرت الألسنة ثانية مه بعض الطوائف البروتستانتية في ألمانيا.
(Ibid)

4 في فرنسا: (1650م) قام
من ادعو النبوة في فرنسان ومارسوا التكلم بألسنة.
(Ibid)

5 غرب اسكتلندا: (في النصف
الأول من القرن التاسع عشر) ظهرت جماعة في غرب اسكتلندا يمارسون التكلم بألسنة غير
مفهومة، وانضم إليها إدوارد إرفنج الذي نقل الظاهرة إلى لندن وأصبح من أقطاب
الحركة وقد تأثر به روبرت باكستر من الكنيسة الكاثوليكية ثم عدل عن طريقهم وكتب
كتاباً ينقض هذه الممارسة.
(Ibid)

6 الخمسينيون: كان بدء
ظهورهم عام 1900م، وفي 31مايو 1912م انعقد المؤتمر الخمسيني الدولي الخامس وكان
أهم قراراته هو اعتبار التكلم بالألسنة العلامة الوحيدة لما يسمونه معمودية الروح
وقد ردينا على هذا الموضوع في هذا الكتاب.

7
في مصر: دخل الخمسينيون ومعهم هذه الظاهرة إلى مصر عام 1940م.
(Hoking,
Speaking in Tougues P.114-117)

8
الكارزماتيك: أعتنق بعض الكاثوليك هذه المبادئ ويمارسون هذه الظاهرة، وقد عقدوا
مؤتمرهم الكاريزماتي الدولي بروما في مايو 1975م (
Ibid).

هذه
مجرد لمحة تاريخية عابرة عن هذه الظاهرة.

 

الخاتمة

لعلنا
بعد هذا العرض السريع لموضوع التكلم بألسنة قد وقفنا على جلية الأمر، وعرفنا أن
التكلم بألسنة هو:

1
موهبة من مواهب الروح القدس ولكنها ليست لكل أحد، وليست علامة لازمة ومميزة
للأمتلاء بالروح القدس.

2
وهو النطق بلغات البشر التي كانت موجودة في العالم، وليست تكلماً بلغة الملائكة.

3
وأنها تقابل بلبلة الألسنة في بابل.

4
وأنها كانت تظهر في الصلاة وفي الكرازة علي السواء بلغات البشر.

5
وأنها تحتاج إلى موهبة الترجمة لتصبح ذات فائدة لبنيان الآخرين في الكنيسة، وإلا
صمت صاحبها لئلا يكون سبباً في التشويش.

6
وأنه لابد من وجود معايير وضوابط للحكم على صحتها.

7
وأنها الأقل في المواهب والأخيرة في ترتيبها.

8
وأن ثمار الروح أفضل من كل المواهب ومنها (أي من التكلم بألسنة).

9
كما رأينا سر غزارتها وتدفقها في العصر الرسولي ثم سر تناقصها حتى اختفائها.

10
وأخيراً عرضنا في لمحة سريعة لظهورات ظاهرة الكلام غير المفهوم في الصلاة عبر
التاريخ.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى