اللاهوت الروحي

32- المجد أم الألم



32- المجد أم الألم

32- المجد أم
الألم

يحتفل المسيحيون اليوم بأحد الشعانين أو ما
يسميه الناس “أحد السعف” حيث استقبل السيد المسيح في أورشليم بسعف النخل
وبأغصان الزيتون.

مقالات ذات صلة

 

و في ذكرى اليوم نريد أن نتأمل في نقطة روحية
هامة عن أيهما نختار:

 

 في ذلك
اليوم دخل السيد المسيح إلى أورشليم، وكانت شهرته قد طبقت الآفاق كمعلم صالح بهت
الناس من سمو تعاليمه، وكصانع معجزات يشفى المرضي، ويقيم الموتى، ويخرج الشياطين،
ويعمل ما لم يعمله أحد من قبل. كما ذاعت شهرته كزعيم شعبي كبير استطاع أن يجمع
القلوب من حوله فالتفوا حوله في حب واعجاب..

 

 لذلك
عندما دخل إلى أورشليم استقبله الناس كملك، بسعف النخل وبأغصان الزيتون، وبالتهليل
والهتاف، وأرادوا تنصيبه ملكاً عليهم، لكي يخلصهم من حكم الرومان، ويقيم لهم مملكة
قوية ذات هيبة وسلطان، ويرجع لهم عظمة سليمان..

 

 ولكن
السيد المسيح رفض أن يكون ملكاً، ورفض هذه المملكه الأرضية، إذ أراد تكوين مملكة
روحية يملك فيها الله على القلوب، لا مملكة أرضية ذات عرش وصولجان، وجنود وفرسان..

 

 كان
يعرف أن اليهود يسيرون بتفكير عالمى علمانى، سعياً وراء السلطة والشهرة والنفوذ.
وهو قد جاء ليخلصهم ويخلص العالم من هذه النظرة المادية.. إنه لم يأت إلى العالم
لكي يكون ملكاً على اليهود يحقق لهم العالمية، بل على العكس يخلصهم من الشهوات..

 

 وإذ رفض
المسيح فكرة الملك، رفضه هؤلاء اليهود، وتآمروا لكي يقتلوه.. وهكذا رفض المسيح
المجد، وفضل عليه طريق الألم..

 

 فضل أن
يكون مضطهداً من اليهود، عن أن يكون ملكاً عليهم.. ولم يرد مطلقاً أن يشترك مع ذلك
الشعب في رغباته وفى شهواته.. حقاً ماذا يفيدهم الملك وهم بعيدون عن الله، يأخذون
من الدين مظاهره ويتركون روحه، حتى وبخهم الله بقوله: “هذا الشعب يعبدنى
بشفتيه، وأما قلبه فمبتعد عنى بعيد”!

 

 لقد
أراد المسيح أن يطهر الناس ويقدسهم، لا أن يملك عليهم، أرد أن يحرر قلوبهم من
الخطية، لا أن يحررهم من الرومان الذين ملكوا عليهم نتيجة لخطاياهم..

 ولكن
اليهود كانوا بعيدين عن هذا التفكير الروحى، بل لم يفكروا اطلاقاً في أرواحهم
وخلاصهم، الأمر الذي كان شغل المسيح الشاغل.

 

 كل تفكيرهم
كان منحصراً في الملك، وفى الملك وحده.. لذلك خابت آمالهم في المسيح الذي يحدثهم
عن الروحيات ويرفض الملك الأرضى.. وهكذا استقر رأيهم على أن يقتلوه.. وبدأوا في
التأمر عليه، من نفس ذلك اليوم الذي اختاروه فيه ملكاً!!! وهكذا رفضوه.. فقيل
عنه..

 

“إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله”.
“النور أضاء في الظلمة، والظلمة لم تدركه”.. جاء النور إلى العالم، وأحب
الناس الظلمة أكثر من النور.. رفضوا المسيح، وطلبوا بارباس.. كانت قلوبهم مظلمة،
ولم يدركوا أين خيرهم.. وإذ سعوا لقتل المسيح، إنما جنوا على أنفسهم لا عليه..
وسار المسيح في طريق الجلجثة وفى طريق الصلب..

 

و بهذا وضع لنا المسيح مبدأ هاماً، وهو أن الألم
أسمى من المجد العالمي، أو أن الألم هو طريق المجد الحقيقى.. ولا مجد بدون ألم..
أو أن مجد الإنسان كامن في ألمه..

 

 لهذا
يحب المسيحيون آلام المسيح، بل يحتفلون بآلامه.. وفى كل سنه لهم أسبوع اسمه
“اسبوع الآلام”.. ولا يخجل من آلام المسيح بل يفتخر. ويرى أن آلامه من
أجلنا، هي علامة حب، وعلامة بذل، وعلامة زهد فيها رفض الامجاد الزائلة العالمية.
بل أن اسم المجد هو اسم خاطئ يطلق عليها بغير وجه الحق..

 

 صدق
أمير الشعراء أحمد شوقى حينما قال:

 

 ومتعت
بالألم العبقرى و انبغ ما في الحياة الألم

 

 إن كل
من يسير في طريق الله، عليه أن يتألم من أجله، ويجد لذة في ألمه.. وكل فضيلة بغير
ألم، هي فضيلة رخيصة خالية من البذل..

 

 لذلك
فكل إنسان في اليوم الأخير، سيعطى حساباً عن أعماله، ويثاب بمقدار ألمه من أجل
الرب. وكما قال الكتاب: كل واحد سينال أجرته بحسب تعبه”.. إن كان الأمر هكذا،
فيحق لنا أن نسأل:

 

 ما هو
مقدار تعبك من أجل الرب؟ وما هو مقدار بذلك وألمك؟

 

طبق هذه القاعدة في كل عمل من أعمالك.. وان وجدت
عقبة أمامك في طريق الفضيلة، فابذل جهدك لكي تتخطاها. وإن وجدت ألماً في طريق
الخير، فاحتمله بفرح ورضى. وإن وجدت عملاً صالحاً لابد أن يقضى جهداً وتعباً، فلا
تبال بالتعب، وكن قوى القلب..

 

 واعلم
أن الله الذي تحبه، لا يمكن أن ينسى تعب المحبة.. واذكر سير الشهداء القديسين
الذين تألموا من أجل الرب، وكانوا فرحين في آلامهم، وكان الناس ينذهلون من قوة
احتمالهم.. ومهما كانت آلامك أنت، فإنها لا يمكن أن تقاس بألامهم وعذاباتهم.. كذلك
الأبطال وأصحاب الرسالات، كلهم تعبوا من أجل أهدافهم السامية، وكافأهم الله على
أتعابهم، وكانت هي طريقهم إلى المجد..

 

 إن
الراحة لا تخلق أبطالاً، والمتعة لا تخلق قديسين.. وما أصدق قول الشاعر الحكيم
الذي قال:

 

و إذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام

 

 ونحن في
هذه الحياة، علينا أن نبذل كل طاقاتنا، ونضحى بكل راحتنا، من أجل الله وملكوته،
ومن أجل المثل التي نؤمن بها، واضعين أمامنا قول الكتاب: “إذن يا اخوتى
الأحباء، كونوا راسخين غير متزعزعين، مكثرين في عمل الرب كل حين، عالمين أن تعبكم
ليس باطلاً في الرب”..

 

 والآلام
التي نحتملها من أجل الله، يجب أن نتحملها برضى وبغير تذمر لأن التذمر يضيع أجرها،
وهو دليل على أن القلب من الداخل غير متجاوب مع الألم الخارجى، وغير مقدم ذاته
كذبيحة مرضية لله. أن آباءنا القديسين كانوا يفرحون في الألم، ويفرحون بالألم.. إن
تلاميذ المسيح عندما جلدهم رؤساء اليهود، يقول الكتاب عنهم: “فخرجوا فرحين
لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه”.. ويرى لنا التاريخ أن السجون
كانت تمتلئ بالتراتيل والتسابيح والأغانى الروحية في القرن المسيحى الأول من أشخاص
ينتظرون موتهم بين حين وآخر..

 

 إن آلام
الدهر الحاضر، لا يمكن أن تقاس بالمجد العتيد الذي ينتظره المؤمن في الأبدية.. أن
الذي يتأمل في السماء وأمجادها، وفى النعيم الأبدى، وفى الملائكة والقديسين، وفيما
أعده الله لقديسيه في العالم الآخر، يهون عليه كل تعب يتعبه من أجل الله. ويهون
عليه السهر الذي يسهره للصلاة، والتعب الذي يحتمله في الصوم وفى العبادة، والجهد
الذي يبذله من أجل البعد عن خطية معينة، أو من أجل التخلص من عادة خاطئة..

 

 واعلموا
أن الألم المقدس ليس هو علامة ضعف، بل هو دليل على قوة القلب من الداخل.. لم يقل
أحد أن الشهداء مثلاً كانوا ضعفاء في موتهم وفى مقاساتهم، بل كانوا أقوياء القلب
والإيمان.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى