اللاهوت الروحي

14- المحبة هي قمة الفضائل



14- المحبة هي قمة الفضائل

14- المحبة هي قمة الفضائل

المحبة هي الفضيلة
الأولى بل هي جماع الفضائل كلها. وعندما سئل السيد المسيح عن الوصية العظمى في
الناموس، قال إنها المحبة” تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل فكرك، ومن كل
قدرتك.. وتحب قريبك كنفسك” ” وبهذا يتعلق الناموس كله والأنبياء”.

مقالات ذات صلة

 

 وقد جاء السيد المسيح إلى العالم لكي ينشر
المحبة، المحبة الباذلة المعطية، محبة الله للناس، ومحبة الناس لله، ومحبة الناس
بعضهم لبعض. وهكذا قال لرسله القديسين: “بهذا يعلم الجميع أنكم تلاميذى، إن
كان فيكم حب بعضكم نحو بعض”.. وبهذا علمنا أن نحب الله، ونحب الخير.. ونطيع
الله من أجل محبتنا له، ومحبتنا لوصاياه..

 

 تربطنا بالله علاقة الحب، لا علاقة الخوف. إن
الخوف يربى عبيداً، أما الحب فيربى الأبناء، وقد نبدأ علاقتنا مع الله بالمخافة
ولكنها يجب أن تسمو وتتطور حتى تصل إلى درجة الحب، وعندئذ يزول الخوف.

 

 وفى إحدى المرات قال القديس العظيم الأنبا
انطونيوس لتلاميذه: (يا أولادى، أنا لا أخاف الله). فلما تعجبوا قائلين: (هذا
الكلام صعب يا أبانا)، حينئذ أجابهم القديس بقوله: (ذلك لأننى أحبه، والحب يطرح
الخوف إلى خارج).

 

والإنسان الذي يصل إلى
محبة الله، لا تقوى عليه الخطية. يحاربه الشياطين من الخارج، وتتحطم كل سهامهم على
صخرة محبته. وقد قال الكتاب: “المحبة لا تسقط أبداً”. وقال سليمان
الحكيم في سفر النشيد: “المحبة قوية كالموت.. مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ
المحبة”. ولذلك قال القديس أوغسطينوس: (أحبب، وأفعل بعد ذلك ما تشاء)..

 

 وقد بلغ من أهمية المحبة أنها سارت اسماً لله.
فقد قيل في الكتاب المقدس: “الله محبه، من يثبت في الله، والله فيه”..

 

 إن المحبة هي قمة الفضائل جميعاً. هي أفضل من
العلم، وأفضل جميع المواهب الروحية، وأفضل من الإيمان ومن الرجاء.. ولهذا قال بولس
الرسول:

 

 إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة، ولكن ليس
لى محبة، فقد صرت نحاساً يطن أو صنجاً يرن، وإن كانت لى نبوءة، وأعلم جميع الأسرار
وكل علم، وإن كان لى كل الإيمان حتى أنقل الجبال، وليست لى محبة، فلست
شيئاً”.

 

 ” العلم ينفخ، والمحبة تبنى”.

 

إن الدين ليس ممارسات
ولا شكليات ولا فروضاً، ولكنه حب.. وعلى قدر ما في قلب الإنسان من حب لله وحب
للناس وحب للخير، هكذا يكون جزاؤه في اليوم الأخير..

 

 إن الله لا تهمه أعمال الخير التي يفعلها الناس،
إنما يهمه ما يوجد في تلك الأعمال من حب للخير ومن حب لله..

 

فهناك أشخاص يفعلون
الخير ظاهراً وليس من قلوبهم، وهناك أشخاص يفعلون الخير مجبرين من آخرين، أو بحكم
القانون، أو خوفاً من الانتقام، أو خوفاً من العار، أو خجلاً من الناس.. وهناك
أشخاص يفعلون الخير من أجل مجد ينالونه من الناس في صورة مديح أو إعجاب.. كل هؤلاء
لا ينالون أجراً إلا إن كان الحب هو دافعهم إلى الخير..

 

 لذلك ينبغى أن نخطط كل فضيلة بالحب، ونعالج كل
أمر بالحب، يكون الحب دافعنا، ويكون الحب وسيلتنا، ويكون الحب غايتنا. ونضع أمامنا
قول الكتاب: “لتصر كل أموركم في محبة”.

 

+ تدخل الحب في كل
الفضائل:

 

 كما ينبغى أن يدخل الاتضاع في كل فضيلة لكي
يحفظها من الزهو والخيلاء والمجد الباطل، كذلك ينبغى أن يدخل الحب في كل فضيلة لكي
يعطيها عمقاً ومعنى وحرارة روحية.. ولنضرب لذلك بضعة أمثلة..

 

 الصلاة مثلاً، هل هي مجرد حديث مع الله؟ إنها
أكبر من ذلك، إنها اشتياق القلب لله، وهى تعبير عن الحب الداخلى..

لذلك قال داود النبى في
مزاميره: “يا الله أنت إلهى، عطشت نفسي إليك التحقت نفسي وراءك.. كما يشتاق
الإيل إلى جداول المياه، كذلك إشتاقت نفسي إليك يا الله.. محبوب هو إسمك يا رب،
فهو طول النهار تلاوتى”. “وجدت كلامك كالشهد فأكلته”..

 

 والذهاب إلى بيت الله، أهو نوع من العبادة، أم
هو أيضاً حب؟ نسأل في هذا داود النبى، فيقول في مزاميره: “مساكنك محبوبة،
أيها الرب إله القوات. تشتاق وتذوب نفسي للدخول إلى ديار الرب”. “فرحت
بالقائلين لى: إلى بيت الرب نذهب”.. “واحدة طلبت من الرب، وإياها التمس،
أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتى.. “.

 

 ليست الصلاة فقط هي علاقة حب، ولا الذهاب إلى
بيت الله فحسب، وإنما العبادة كلها.. إن العبادة ليست هي حركة الشفتين بل القلب،
إنها حركة القلب نحو الله. إنها استبدال شهوة بشهوة: ترك لشهوة العالم، من أجل
التعلق بشهوة الله..

 

 كذلك خدمة الله، والسعى لخلاص أنفس الناس.. كلها
أعمال حب.. الخادم هو الإنسان الذي يحب الناس، ويهتم بمصيرهم الأبدى، ويسعى إلى
خلاص نفوسهم. إنه كالشمعة التي تذوب لكي تضئ للآخرين، يقول مع بولس الرسول:
“وددت لو أكون أنا نفسي مرفوضاً، من أجل اخوتى وانسبائى حسب الجسد”.. “من
يفتر وأنا لا ألتهب؟!”.

 

 لذلك كل إنسان يخدم الله، عليه أن يتعلم الحب
أولاً، قبل أن يخدم الناس.. فالناس يحتاجون إلى قلب واسع، يحس إحساسهم، ويشعر بهم
ويتألم لآلامهم، ويفرح لأفراحهم، ويحتمل ضعفاتهم، ولا يحتقر سقطاتهم، بل أيضاً
يحتاجون إلى قلب يحتمل جحودهم وصدودهم وعدم اكتراثهم. وبالحب نستطيع أن نربح
الناس..

 

 والإنسان الذي يعيش بالحب، عليه أن يحب الكل. إن
القلب الضيق هو الذي يحب محبته فقط، أما القلب الواسع فيحب الجميع حتى أعداءه.

 

و لهذا قال السيد
المسيح له المجد: “أحبو أعداءكم، باركوا لاعنيكم، إحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل
الذين يسيئون إليكم ويطردونكم”.. واعطانا مثلاً وقدوة من الله نفسه الذى:
“يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين”.

 

 لذلك علينا أن نحب الكل، ولا نضيق بأحد ونأخذ
درساً حتى من الطبيعة.. نتعلم من النهر الذي يعطى ماءه للكل، يشرب منه القديس، كما
يشرب منه الخاطئ.. انظروا إلى الوردة كيف تعطى عبيرها لكل من يعبر بها، يتمتع
برائحتها البار والفاسق، حتى الذي يقطفها، ويفركها بين يديه، تظل تمنحه عطرها حتى
آخر لحظة من حياتها..

 

 ليتنا نعيش معاً بالحب، وأقصد به الحب العملى،
كما قال الكتاب: “لا نحب باللسان ولا بالكلام، بل بالعمل والحق”..لأن
كثيرين قد يتحدثون عن الحب، وأعمالهم تكذبهم، هؤلاء الذين وبخهم الله بقوله:
“هذا الشعب يعبدنى بشفتيه، أما قلبه فمبتعد عنى بعيداً”..

 

 وأهم ما في الحب هو البذل، وأعظم ما في البذل هو
بذل الذات.. لذلك قال السيد المسيح: “ليس حب أعظم من هذا، أن يبذل أحد نفسه
عن أحبائه”. فلنحب الناس جميعاً، لأن القلب الخالى من الحب، هو خال من عمل
الله فيه، هو قلب لا يسكنه الله.

 

 وإن لم نستطع أن نحب إيجابياً فعلى الأقل لا
نكره أحداً. فالقلب الذي توجد فيه الكراهية والحقد هو مسكن للشيطان..

 

إن لم نستطع أن نحب
الناس، فعلى الأقل لا نكرهم، وإن لم نستطع أن ننفع الناس، فعلى الأقل لا نؤذيهم..

 

 فليعطنا الله محب البشر، الذي أحب الكل في عمق،
أن نحب بعضنا بعضاً، بالمحبة التي يسكبها الله في قلوبنا، له المجد الدائم إلى
الأبد. آمين.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى