اللاهوت الروحي

الفصل الثاني عشر



الفصل الثاني عشر

الفصل
الثاني عشر

الباب
الضيق

113-
الباب الضيق

من
علامات الطريق الروحي أن تدخله من الباب الضيق. وهذا هو تعليم الرب نفسه:

مقالات ذات صلة


ادخلوا من الباب الضيق.. ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة وقليلون
هم الذين يجدونه” (متى7: 13، 14).

 

إذن
من علامات الطريق أن تتعب من أجل الرب. وأن تبذل. وأن تحتمل، ولا تبحث عن راحتك
هنا.. وأن تسلك في طقس لعازر المسكين. وليس زميله الغني..

 

والضيقات
التي تحتملها هي علامة على أنك جاد في محبة الله. وأنك مستعد لبذل كل شئ لأجله

 

حياتك
كلها على الأرض هي مجرد اختبار لك: هل أنت تفضل روحياتك وأبديتك وعلاقتك بالله على
كل شئ آخر؟ وهل أنت مستعد أن تدفع الثمن؟ هنا تبدو الضيقة كاختبار لك في مدي تمسكك
بالرب.

 

وهنا
تبدو الضيقة كضرورة اختباريه وكعلامة أساسية في الطريق الروحي. لأنه بأي حق تكأفأ
في السماء وتنال الأكاليل؟.. إن كنت قد عشت في نعيم على الأرض. وتريد أن تنال
الحياتين معاً على الأرض ومتعة السماء!! أليست تتعرض بذلك لقول أبينا إبراهيم
” أنك استوفيت خيراتك في حياتك” (لو16: 25).

 

لذلك
إن سلكت في طريق الله، ووجدت كل شئ سهلاً أمامك، وأنت في راحة دائمة، بلا ضيقات
ولا تعب، اسأل نفسك: هل أنا قد ضللت الطريق؟!

 

قطعاً
أكون قد ضللت لأن طريق الرب ليس هكذا سهلاً وبلا تعب. ألا يوجد شيطان يحارب؟ ألا
توجد عوائق من العالم ومن المادة والجسد؟ ألا توجد مقاومة من أعداء الخير؟!

 

من
غير شك لو كانت تصرفاتي لا تعجب الشيطان، ما كان يتركني مطلقاً في راحة! إذن لماذا
هو ساكت عنى؟!

 

إنها
مسألة تدعو إلى شك..! ثم من من القديسين عاش حياته كلها في راحة وبلا تعب؟ لا أحد
على الإطلاق. كل القديسين قد دخلوا من الباب الضيق من أجل محبتهم لله “ووهب
لهم لا أن يؤمنوا به فقط، بل أن يتألموا أيضاً من أجله” (في1: 29).

 

لذلك
فإن هذه الضيقات والآلام إنما تهمس في أذنك قائلة: اطمئن.. أنت سائر في الطريق
السليم

وهكذا
تفرح وتسر وتطمئن كلما رأيت ضيقة في طريق الرب. لأنه هكذا هي علاماته.. ولكن:

 

114-
ما هي هذه الضيقات؟

هي
أولاً مقاومة هذا الجسد المادي لرغبات الروح ” لأن الجسد يشتهي ضد الروح،
والروح ضد الجسد” (غل5: 17).

وهكذا
يدخل الإنسان الروحي في صراع لإخضاع الجسد. وكما قال القديس بولس الرسول: “أقمع
جسدي واستعبده” (1كو9: 27).. وهذا القمع قد يطول عند البعض وقد يقصر. حسبما
تكون حربة قوية أو ضعيفة..

 

إخضاع
الجسد باب ضيق تدخل منه، ولا تداريب روحية كثيرة..

 

ولعلنا
نذكر أن أبوينا الأولين آدم وحواء لم يدخلا من هذا الباب حينما أكلا من الشجرة.
وعيسو أخو يعقوب لم يدخل من هذا الباب حينما باع بكوريته (تك25: 34).. وكذلك رفض
بنو إسرائيل الدخول من هذا الباب حينما تذمروا على الطعام السمائى واشتهوا أن يأكلوا
لحماً. (عد11: 4).

 

وعكس
كل هؤلاء أفلح دانيال النبي حينما وضع في نفسه أن لا تنجس بأطياب الملك وفضل أن
يأكل القطاني هو والثلاثة فتية (دا1: 8، 12).

 

لهذا
دخل الروحيون في تداريب الصوم أيضاً في تدريب السهر، بالصوم قاوموا شهوة الجسد في
الأكل، وبالسهر قاوموا شهوته في الراحة والنوم. وحفظوا أنفسهم ساهرين في عمل
الصلاة والتأمل.

 

ولم
يقتصروا في الصوم على مظهرياته. وإنما اهتموا قبل كل شئ بإخضاع الجسد., لكي يشترك
مع الروح في عملها.

 

واشركوا
الجسد في عمل الروح القدس أيضاً بالمطانيات ” السجود المتتابع ” لكي
يخشع الجسد كما تخشع الروح ويشترك معها في الخضوع لله وتمجيده وهكذا يقدم العبادة
لله. الإنسان كله روحاً وجسداً

 

ومن
أهم النقاط في إخضاع الجسد الحفاظ على طهارته وعفته.

 

إن
الذين يسلكون في شهوات الجسد إنما يدخلون من الباب الواسع باب المتعة الجسدية التي
قال فيها سليمان “ومهما اشتهيته عيناي لم أمنعه عنهما” (جا2: 10).. هذه
المتعة التي يرفضها الروحيون، وهم يقاومون حتى الدم مجاهدين ضد الخطية (عب12: 4).

 

وفي
إخضاع الجسد، مما يقاومه الروحيون أيضاً: متعة الحواس..

 

الحواس
التي تريد أن تشبع رغباتها في النظر والسمع والمذاق.. فيكبح الروحي جماحها. ويسيطر
عليها. ويتحكم فيها. وهكذا يجاهد. ولا يعطي الجسد راحته. بل كما قال الرسول: “كل
من يجاهد، يضبط نفسه في كل شئ” (1كو9: 25). وضبط النفس هو دخول من الباب
الضيق. فالشخص العادي يحاول أن يمتع نفسه. أما الإنسان الروحي فإنه يراقب هذه النفس.
ويضبطها حسناً. ويقمع جسده ويستعبده. وكذلك نفسه. ولا يستسلم لرغباتهم ولا لشهوات
الجسد.

 

فالرسول
قد اعتبر شهوة الجسد جزءاً من محبة العالم (1يو2: 16) ومحبة العالم عداوة لله (يع4:
4). إذن فمن علامات الدخول من الباب الضيق. كبح شهوات الإنسان حتى لا تنحرف والدخول
إيجابياً في محبة الله وشهوة ملكوته. وإعداد الجسد بما يليق كهيكل للروح القدس
(1كو6: 19).

وماذا
أيضاً من علامات الباب الضيق؟..

 

115-
إنكار الذات

قال
السيد المسيح في ذلك.. إن أراد أحد أن يأتي ورائي. فلينكر نفسه ويحمل صليبه
ويتبعني.. (متي16: 24).

 

يضع
الله أولاً، في قمة اهتمامه. والناس ثانياً. ونفسه آخر الكل.

 

لاشك
أنه باب ضيق أن ينكر الإنسان نفسه ويتجاهلها في كل شئ. يحتمل اللطمة على خده.
فيحول الآخر.. وإن سخره أحد ميلاً. يمشى معه ميلين. وإن أراد أحد أن يخاصمه ويأخذ
ثوبه. يترك له الرداء أيضاً (متى5: 39 41).

 

إن
احتمال الإساءة والمغفرة للمسيء ربما لا تكون أمراً سهلاً على كثيرين فكم بالأولي
تكون محبة الأعداء والإحسان إلى المبغضين (متى5: 44).

 

 الإنسان
الروحي يحتاج أن يحتمل كل شئ. ويتنازل عن أشياء كثيرة ويرتقع فوق المستوي العادي
ويبغض نفسه من أجل الرب الذي قال.. من يهلك نفسه من أجلي يجدها.. (متى16: 25).

 

إن
الأمر ليس سهلاً على المبتدئ في الطريق الروحي. وقد يتضايق أولاً إلى أن يدرب نفسه
على الحب الكامل. وما أصدق قول الكتاب:

 


بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله..” (أع14: 22).

 

يحتاج
من يسير في طريق الله أن يصعد على الصليب باستمرار، حسبما قال الرب ” يحمل
صليبه ويتبعني “. وفي هذا قال القديس بولس الرسول ” مع المسيح صلبت، لكي
أحيا لا أنا بل المسيح يحيا في” (غل2: 20).

 

ما
أعمق عبارة ” لا أنا “.. لا يستطيع أن يقولها إلا الذي دخل من الباب
الضيق..

 

على
الذي تدرب أن يختفي دائماً لكي يظهر الرب، ولكي يظهر باقي الناس.

 

ويقول
” لا أنا ” أيضاً الإنسان المتواضع الذي في كل موقف يصر أن يكون آخر
الكل وخادم الكل، ويجلس دائماً في المتكأ الأخير، كما قال الرسول ” مقدمين
بعضكم بعضاً في الكرامة” (رو12: 10).

 

يقول
” لا أنا ” الإنسان الوديع المتواضع، الذي يكون مقتنعاً تماماً داخل
نفسه أنه لا شئ..!

 

ومن
يقدر على هذا إلا الذي يدخل باستمرار من الباب الضيق.. لا يقيم رأيه في أمر من
الأمور، وعلى فهمه لا يعتمد” (أم3: 5).

 

يفضل
غيره على نفسه في كل شئ ويضع تحت الكل.. لا يقاوم ولا يكون حكيماً عند نفسه..
(رو12: 16). ويدين نفسه لكي يبرئ غيره. يحمل خطايا الآخرين. ليكونوا هم أبرياء وهو
المذنب. وفي عمق محبته يفدي الكل كما فعل المسيح.

وماذا
عن الباب الضيق أيضاً؟ إنه يشمل بلا شك..

 

116-
التعب من أجل الرب

يتعب
في تنفيذ الوصايا التي قد تبدو صعبه في تنفيذها..

ويتعب
من أجل راحة الآخرين: ولنأخذ مثلاً لذلك موسى النبي: كان من السهل عليه جداً أن
يبقي في بيت فرعون كأمير يتمتع بالجاه والغني والمركز. ولكنه حسب عار المسيح غني
أفضل من جميع خزائن فرعون.. وماذا أيضاً؟ إنه.. ” فضل أن يذل مع شعب الله، عن
أن يكون له تمتع وقتي بالخطية” (عب11: 25).

 

وكنبي
وراع. تعب كثيراً في قيادة شعب صلب الرقبة. واحتمل من هذا الشعب التذمر والعصيان.
وحمل هذا العبء زماناً طويلاً بصدر رحب يحتمل أخطاء الآخرين.

 

كل
الأنبياء، وكل الرعاة والخدام تعبوا من أجل الرب.

 

إننا
نمجدهم الآن. ولكنهم في عصرهم عاشوا في ضيقات مريرة، خذوا مثالاً لذلك القديس
أثناسيوس الرسولي الذي دافع عن الإيمان بقوة وبفهم عميق.. قيل له في بعض الأوقات
” العالم كله ضدك يا أثناسيوس “.

 

وخذوا
مثالاً آخر هو القديس بولس الرسول بالنسبة إلى باقي الرسل ” في الأتعاب أكثر
في الضربات أوفر.. في السجون أكثر. في الميتات مراراً كثيرة.. في تعب وكد، في
أسهار.. في جوع وعطش. في أصوام مراراً كثيرة، في برد وعري.. (2كو11: 23 27).

 

وقال
هذا القديس عن نفسه وعن زملائه في الخدمة وفي الضيق:


في كل شئ نظهر أنفسنا كخدام الله، في صبر كثير، في شدائد في ضرورات في ضيقات في
ضربات، في سجون في اضطرابات، في أتعاب في أسهار في أصوام بمجد وهوان، بصيت رديء
وصيت حسن” (2كو6: 4 8).. ” مكتئبين في كل شئ لكن غير متضايقين.. متحيرين
لكن غير متروكين.. حاملين في الجسد كل حين أماته الرب يسوع” (2كو4: 8 10).

وهنا
ملاحظة نريد أن نسجلها وهي أن قاعدة “الباب الضيق” هي للكل، لكل مؤمن
مهما علا مركزه..

 

117-
الباب الضيق للكل

حتى
القديسة العظيمة مريم اطهر أهل الأرض كلها. دخلت هي الأخرى من الباب الضيق. فعاشت
في يتم وفي فقر: وولدت إبنها في مزود بقر. وتغربت عن بلادها.. وتحملت الآلام
الكثيرة وهي تري إبنها وحيدها مظلوماً من الناس. ومصلوباً وهو القدوس الكامل.
وتحقق فيها قول سمعان الشيخ ” وأنت أيضاً يجوز في نفسك سيف” (لو2: 25)
وكما جازت العذاراء في الضيقة، اجتازها أيضاً القديس يوحنا الرسول أحب تلاميذ الرب
إليه. سجن وجلد مع باقي الرسل ونفي.

 

وكل
الشهداء والمعترفين دخلوا هم أيضاً من الباب الضيق، لذلك رفعتهم الكنيسة فوق كل
القديسين. وفي كل عذباتهم والآمهم برهنوا على عمق محبتهم للرب فكافأهم في كوره
الأحياء بمكانه أعلي منن أن توصف.

 

118-
تقييم الضيق

إن
الله لا ينسى مطلقاً أي تعب أو ضيق يحتلمه مؤمن من أجله.

إنه
يقول حتى لملاك كنيسة أفسس الذي ترك محبته الأولي: “أنا عارف أعمالك وتعبك
وصبرك.. وقد احتملت ولك صبر، وتعبت من أجل أسمي ولم تكل” (رؤ2) وبقدر ما يتعب
الإنسان هنا على الأرض، تكون مكافأته في الأبدية السعيدة كما قال الرسول: “إن
خفة ضيقتها الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر مجد أبدياً” (2كو4: 17). وقال أيضاً
” إن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا” (رو8: 18).

 

لهذا
كان الذين لا صادفهم ضيق من أجل الرب، يضيقون هم على أنفسهم، في جهادهم من أجله
ومن عملهم الروحي.

 

نقطة
هامة أخرى أقولها عن الباب الضيق وهي: أن الباب الضيق قد يكون ضيقاً في أوله فقط،
ثم ما يلبث الإنسان الروحي أن يتعوده ويجد فيه لذة روحية.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى