اللاهوت الروحي

الفصل التاسع



الفصل التاسع

الفصل
التاسع

الجدية
والتدقيق

88-
أهمية الجدية

·
الشيطان يحارب الجدية بأسباب كثيرة..

مقالات ذات صلة

الجدية
هي من أهم معالم الطريق الروحي.. وبدونها لا يمكن للإنسان أن يصل إلى هدفه. ولو
أننا سألنا:

كيف
وصل القديسون إلى تلك القامات العالية في حياة الروح؟

لكانت
الإجابة: ذلك لأنهم سلكوا في الطريق الروحي بجدية كاملة.

كان
لهم خط واضح رسموه لحياتهم وساروا فيه بلقب ثابت لا يتزعزع. ولم ينحرفوا عنه يمنه
ولا يسره. وكانت لهم مبادئ ثابتة لا يحيدون عنها. ولم يسمحوا مطلقاً للظروف أن
تعوقهم.

 

وهكذا
وصل القديسون بسرعة. القديس الأنبا ميصائيل السائح: سلك في الرهبنة بجدية من أول
يوم. وأمكن أن يصير من السواح وهو في حوالي السابعة عشرة من عمره. وكان أبوه
الروحي الأنبا اسحق يلاحظ الصرامة الشديدة التي يعامل بها نفسه. والقديسان مكسيموس
ودوماديوس وصلا إلى درجة عالية في الروحانية، بينما كانت لحية أحدهما لم تنبت بعد.
ولكن صلاتهما كانت كشعاع من نور واصل إلى السماء، ذلك لأنهما سلكا في الطريق
الروحي بجدية.

 

والقديس
تادرس تلميذ الأنبا باخوميوس وكذلك القديس يؤانس القصير، صار كل منهما مرشداً
روحياً لجيله في الرهبنة، وهو بعد شاب صغير.

 

بل
ما الذي تقول ” إن أردت أن تكون كاملاً، اذهب بع كل مالك، أعطه للفقراء وتعال
اتبعني ” وسمع هذه الآية معه كل الشعب في الكنيسة.. ولكنه كان الوحيد الذي
قام في جدية كاملة ونفذها عملياً.

 

كذلك
سمع عبارة لو كانت راهباً لدخلت إلى الجبل في البرية، لأن هذا المكان لا يصلح
لسكني الرهبان فقال هذا صوت الله إلى وقام في جدية ودخل إلى أعماق الرهبنة. وهكذا
أسس حياة الرهبنة بجدية.

 

من
منا له مثل هذه الجدية في تنفيذ الوصية، بدقة وسرعة؟

هذه
بعض أمثلة في حياة الرهبان. أما في مجال الخدمة، فيمكن أن نذكر كمثال: القديس
يوحنا المعمدان، الذي كانت كل مدة خدمته حوالي السنة وفي هذه السنة كرز بالتوبة
وأعد للرب شعباً مستعداً. وكان جاداً في خدمته حتى قال عنه الرب لم يقم من بين
المولودين من النساء من هو أعظم من يوحنا المعمدان” (متى11: 11).

 

كذلك
نذكر الجدية التي سلك بها القديس بولس الرسول في خدمته، حتى أنه تعب أكثر من جميع
الرسل الذين كانوا قبله (1كو15: 10).

إن
الجدية في الحياة دليل على الرجولة وقوة الشخصية.

الإنسان
الجاد في روحيا ته، هو إنسان يحترم نفسه، ويحترم مبادئه، ويحترم الكلمة التي تخرج
من فمه، ويحترم الطريق الروحي الذي يسلكه.. لذلك يتميز بالثبات وعدم الزعزعة هو
كسفينة ضخمة تشق طريقها في بحر الحياة بقوة متجهة نحو غايتها، وليس كقارب تعصف به
الأمواج في أي اتجاه.

 

عجيب
أن كثيرين يسلكون في أعمالهم المادية والعالمية بجدية، وأما في روحياتهم فلا جدية
على الإطلاق..

 

هم
جادون في أعمالهم من أجل المكسب أو الترقية، أو من أجل ثباتهم في عملهم، أو خوف
الجزاء أو العقوبة أما في رو حياتهم فلا حافز داخلي يدفعهم إلى الجدية، ربما لأن
مخافة الله ليست في قلوبهم، أو لأن الأبدية ليست أمام أعينهم.. لذلك لا يلتزمون
بخط روحي واضح يسيرون فيه.

 

89-
صفات الإنسان الجاد

الإنسان
غير الجاد في روحياته، يتأرجح بين الصعود والهبوط. ومسيرته غير ثابته: يسقط ويقوم..
وفي حين يكون حاراً في الروح.. وفي أحيان أخري يكون فاتراً، أو بعيداً بالكلية عن
الحياة الروحية. أحياناً يصلي، وأحياناً ينسي صلواته.. قد يقرأ الكتاب أولاً يقرأ..
إن وجد وقتاً، يجلس مع الله، وإن لم يجد، فإنه لا يهتم كثيراً ويقابل الأمر بلا
مبالاة.

 

حياته
وعبادته تتصف بالتراخي.. بينما يقول الكتاب: “ملعون من يعمل عمل الرب
برخاوة” (أر48: 10). الجدية في الحياة الروحية لا تقبل الإهمال والتراخي
والتردد، والرجوع أحياناً إلى الوراء. ولا تقبل التأرجح بين الفرقتين: محبة العالم
ومحبة الله.

 

الإنسان
الجاد لا يتساهل في حقوق الله مطلقاً.

إنه
يأخذ حق الله من نفسه أولاً قبل أن يأخذه من الآخرين.. هو يسلك في وصية الله بكل
حزم وبكل دقة وبكل عمق.. وطاعته لله تكون بغير مناقشة وبغير مساومة.

 

أبونا
إبراهيم يسلك في الطاعة بكل جدية، حينما أخذ أبنه الوحيد لكي يقدمه محرقة حسب أمر
الرب.

 

إنه
لم يجادل الله ولم يعترض على أمره، إنما أطاع دون أن يتغير قلبه من جهة الرب.. هذه
هي الجدية في الطاعة.

 

وبالمثل
كان يوسف الصديق جاداً في طاعته للوصية وفي حفظه لعفته، ولو أدي به الأمر إلى
السجن.

وكان
دانيال جاداً في عبادته للرب، ولو ألقوه في جب الأسود.

الإنسان
الجاد له قلب قوى، لا يضعف أمام الظروف الخارجية.

يوحنا
المعمدان كان جاداً في حفظ وصية الرب.. حينما قال لهيرودس الملك ” لا يحل لك
أن تكون لك إمرأة أخيك” (مر6: 18).. ولقد فعل يوحنا هذا، ولم يبال أن يلقي في
السجن أو تقطع رأسه..

 

أين
هذا من الذين يضغطون على الكنيسة في أن يتزوجوا خلال الصوم، دون أن يأخذوا وصية
الله بجدية.

 

الإنسان
الجاد لا يعذر نفسه، ولا يقدم تبريرات لخطيئته.

الرجل
هو رجل، مهما كانت الظروف الخارجية، يوسف العفيف كانت تضغط عليه الظروف.. لكنه لم
يخضع لها ولم يستأهل مع الخطية بحجة أنه عبد، وتحت سلطان غيره، وبإمكان سيدته أن
تؤذيه. ودانيال لم يسمح لنفسه أن يأكل من أطياب الملك مع أنه كان أسير حرب وخاضعاً
لنظام، لقد كان جاداً في المبادئ التي يؤمن بها مهما كانت الظروف المحيطة.

 

الإنسان
الروحي يكون جاداً أيضاً في توبته.

فإن
ترك الخطية، يتركها بجدية ولا يعود إليها مرة أخري. يكون جاداً في مقاومة الخطية.
ولا يكون كالعبرانيين الذين وبخهم الرسول قائلاً “لم تقاوموا بعد حتى الدم،
مجاهدين ضد الخطية” (عب12: 4) ما أعمق جدية هذه العبارة.. حتى الدم..

 

والجاد
في التوبة، لا يؤجلها مثلما فعل فليكس الوالي (أع24: 25) وأغريباس الملك (أع26: 28)
بل يكون كالابن الضال الذي قام لوقته وذهب إلى أبيه، وقدم توبة في انسحاق قلب..

 

وجدية
التوبة تظهر في قول ذلك الأب الروحي: “لا أتذكر أن الشياطين قد اطعنوني مرتين
في خطية واحدة..”

 

لأنه
مادام قد عرفها، فلا يمكن أن يعود إليها مرة أخري.

أما
الذي يعترف ويتناول، ويكرر نفس الخطايا، ويكرر نفس الاعتراف فلا شك أنه غير جاد في
توبته.. في قصص التوبة المشهورة في سير القديسين، مثل توبة مريم القبطية وبيلاجية
πελαγία وأغسطينوس وموسى الأسود نلاحظ ملاحظة هامة. إن التوبة كانت نقطة
تحول في الحياة بلا عودة إلى الخطية. كانت توبة جادة، انتقلت من الخطية إلى
النقاوة، وارتقت منها إلى القداسة ثم سمت إلى الكمال.. وتحول. أولئك الخطاة إلى
قديسين. وصاروا أمثلة في حياة البر، وبركة لغيرهم، وصاروا أيضاً مرشدين روحيين.

 

كانوا
جادين في جحد الشيطان.. وكل أعماله الرديئة.. وكانوا جادين في علاقة الصلح مع الله،
وفي شهوتهم للحياة الفاضلة.

 

أما
الذين يخطئون كل يوم، ويعتمدون على قول المزمور ” لم يصنع معنا حسب خطايانا،
ولم يجازنا بحسب آثامنا” (مز103: 10) فهؤلاء ليسوا تائبين بالحقيقة.. ورحمة
الله إنما تكون للجادين في توبتهم.

 

الإنسان
الجاد في طريقه الروحي، من صفاته أنه ينمو باستمرار. الجدية تمنحه حرارة روحية.
والحرارة تدفعه كل حين إلى قدام.

 

إنه
يجاهد من أجل النقاوة والكمال إلى أبعد الحدود.. بكل مثابرة واجتهاد يعطي الله كل
قوته وكل إمكانياته.. وكل أرادته وكل قلبه.. ويعمل بكل النعمة المعطاة له. ولا
يقصر في شئ إنما يبذل كل طاقاته. وفي كل يوم إلتصاقاً بالله وقرباً منه. ويزداد
عمقاً في المحبة الإلهية، ويزداد فهماً للفضيلة.. وممارسة لها.

 

إنه
لا يدلل نفسه ولا يحابيها، ولا يعذرها في أي تقصير. وإن توانت يغصبها على عمل الله..
حتى تتعوده وتؤديه في حب.

والجاد
لا يهتم بهواه الخاص، بل يضحي بأية متعه من أجل الرب.

وهكذا
الذين تدربوا على الجدية، كانوا يتعبون باستمرار لأجل الرب.

يضحون
دائماً براحتهم من أجل روحياتهم مثل القديس بولا الطموهى الذي كان يجاهد بتعب شديد
في نسكياته، وفي اخضاع جسده لروحه، حتى قال له الرب ” كفاك تعباً يا حبيبي
بولا “.. ومثل داود النبى الذي قال ” لا أدخل إلى مسكن بيتي، ولا أصعد
على سرير فراشي، ولا أعطي نوماً، ولا لأجفاني نعاساً.. إلى أن أجد موضعاً للرب
ومسكناً لإله يعقوب” (مز131).. هذه هي الجدية في الحياة الروحية.

 

والإنسان
الجاد، إذا وجد صعاباً لا يعتذر بها، بل ينتصر عليها.

إنه
لا يستسلم لعقبة، بل يكافح ويصلي، ساعياً إلى المثاليات واضعاً أمامه قول الرسول
” اركضوا لكي تنالوا” (1كو9: 24). ” وبهذا يكون باستمرار حاراً في
الروح” (رو12: 11)..

 

ومادامت
المثاليات أمامه، لا يرضى بأنصاف الحلول ولا باجتياز مرحلة من الطريق، بل يكمل بكل
نشاط، متجهاً نحو الكمال. لذلك فهو في صعود مستمر نحو الله. وطبيعة أن الذي يتقدم
باستمرار، فهذا لا خوف عليه من النكسات والرجوع إلى الوراء.

 

إنه
يأخذ كل شئ بجدية. إنه جاد في حياة التوبة وعدم التساهل مع الأفكار وهو جاد في خط
سيره الروحي وفي كل ممارسات الفضيلة. وهو جاد في تداريبه الروحية، لا يكسرها مهما
كانت الأسباب، وهو جاد في كل كلمة تخرج من فمه. وهو جاد أيضاً في كل نذوره
وتعهداته أمام الله.

 

لا
ينذر نذراً ثم يعاود التفكير فيه. أو المساومة. ولا يؤجل الوفاء بنذره ولا يحاول
استبداله بغيره، ولا يماطل ولا يرجع في كلمته. إنما بكل جدية وبكل سرعة ودقة ينفذ.
جاعلاً أمامه قول الكتاب ” خير لك أن لا تنذر، من أن تنذر ولا تفي” (جا5:
5) ومثال يفتاح الجلعادي واضح في جدية النذر (قض11: 30 25).

 

والجاد
جاد أيضاً في عبادته. لا يكتفي فيها بالشكليات.

إنما
هو يهتم بجوهر الروحيات وعمقها لذلك فهو عميق في عبادته، بكل إيمان، وكل تواضع
وخشوع قلب، يصلي بفهم وحرارة وتركيز، بمحبة قلبية لله، لا يسمح لفكره أن يسرح هنا
أو هناك، ولا يسمح لحواسه بالتجول، إنما يسكب نفسه سكيباً في صلواته وتأملاته
وميطانياته وصومه. ولا يكون جسده داخل الكنيسة وعقله خارجها وكل ما يرشده الرب
إليه، يسعى جاهداً لتنفيذه.. ويكون جاداً أيضاً في خدمته.

 

والجدية
تقود دائماً إلى النجاح وإلى الإتقان.

كل
مسئولية تعهد إليه يؤديها بنجاح وعلى أكمل صورة، سواء في حياته الكنسية، أو في
وظيفة العلمانية أو أي مشروع يقوم به.

 

90-
محاربات الشيطان

ولكن
الشيطان يحارب الجدية بكل وسيلة، وربما باقناعات كتابية.

قد
يسميها أحياناً حرفية، أو خضوعاً للناموس بدلاً من النعمة. ولكننا نقول إن النعمة
لا تشجع على الكسل أو التراخي أو التسيب. أو قد يقول الشيطان إن الجدية ضد المرونة.
فنقول: إن المرونة ليست مجالاً للتراخي أو للتحلل من الدقة، والالتزام. أو قد يقول
الشيطان إن هذه ضد حرية مجد أولاد الله” رو8: 21) فنقول إنه لا توجد حرية
تتعارض مع الوصية. والحرية الحقيقية هي التحرر من الخطية.

 

أخيراً
نقول: إن الجدية ترتبط أيضاً بالأمانة والدقة والالتزام. وهذا ما أود أن أحدثكم
عنه إن شاء الله.

 

91-
حياة التدقيق

لكي
نفهم التدقيق في عمقة، نفترض الآتي:

تصور
أن ملاكاً أعلن لإنسان أن حياته على الأرض ستنتهي بعد أسبوع، فلا شك إن هذا
الإنسان سيسلك في خلال هذا الأسبوع بكل تدقيق ممكن استعداداً لأبديته.. وعلى هذا
المقياس نود أن نحكم على حياة التدقيق.

 

92-
أهمية التدقيق

إن
التدقيق هو من أهم معالم الطريق الروحي. والإنسان الروحاني يدقق في كل شئ. يدقق في
كل علاقاته مع الله ومع الناس، ومع نفسه. يكون مدققاً في كل تصرف، وفي كل كلمة وكل
فكر. ويكون مدققاً من جهة حواسه ومشاعره واتجاهاته. ومن جهة مواعيده ووقته والنظام
الذي يسير عليه

 

والإنسان
المدقق، لا يكون مدققاً فقط وهو مع الناس. وإنما حتى حينما يكون وحده في حجرته
الخاصة.

 

إن
التدقيق في التصرف قد يكون سهلاً نوعاً في حضرة الناس. لأننا بطبيعتنا لا نحب أن
ينتقدنا الناس، أو نخشى أن نكتشف أمام الناس، وتظهر أمامهم عيوبنا وأخطاؤنا. ولذلك
فإن المقياس الحقيقي لتدقيقنا، يظهر حينما نكون وجدنا لا يبصرنا أحد. فإن كنا
مدققين فيما بينا وبين أنفسنا، يكون هذا تدقيقاً حقيقياً وليس ريائياً.

 

الإنسان
الروحي يصبح التدقيق جزاءاً تلقائياً من طبعه وليس مجرد محاولة أو تدريب.

 

إنه
إنسان تعود أن يكون مدققاً في كل شئ بدوافع داخلية فيه تمثل بعضاً من مبادئه وقيمه..

 

وحتى
إن كان الناس لا يرونه، فإنه يحب أن يكون بلا لوم أمام الله الذي يراه، وأمام
الملائكة الذين يرونه، وكذلك من أرواح القديسين..

 

فهل
أنت في داخلك نفسك تكون مدققاً بغض النظر عن أحكام الناس؟

 

هنا
ونسأل، ما هو التدقيق؟

التدقيق
هو حرص من أقل خطأ هو تصرف سليم متزن في احتراس، وفي سعي نحو أكمل وضع ممكن، بغير
تسيب ولا تراخ ولا إهمال، وفي بعد عن الضمير الواسع الذي يبرر كثيراً من الأخطاء.

 

والتدقيق
خطوة نحو الكمال فالذي يدقق محترساً من الوقوع في الصغائر من الصعب أن يقع في الكبائر.
الذي يحترس بكل قوته لكي لا يقع في الخطية بالفكر، ليس من السهل أن يقع في الخطية
بالعمل.

 

93-
التدقيق والوسوسة

ولكن
فليحرص كل إنسان أن يفرق بين التدقيق والوسوسة. الوسوسة هي الضمير الذي يظن الخطأ
حيث لا يوجد خطأ، أو الذي يكبر من قمة الأخطاء فوق حقيقتها، أو الذي تحاربه عقدة
الإثم بدون سبب معقول أو الذي يخرجه حب التدقيق إلى التطرف البعيد عن الحق، فيؤثم
تصرفات سليمة..

 

والوسوسة
لون من الحرفية والفريسة وهي سطحية بلا فهم. ومثالها ما كان يراه الكتبة
والفريسيون دقة في تقديس يوم السبت وهي لم تكن دقة، وإنما حرفية بلا روح، وبلا عمق،
وبلا فهم سليم للوصية.

 

ونحن
نرفض أن نسمي هذا الوضع تدقيقاً. إنما التدقيق هو التصرف الروحي السليم، الذي هو
في وضع وسط بين التسيب والوسوسة.

 

إنه
يذكرنا بميزان الصيدلي كل مادة في تركيب الدواء، يكون وزنها دقيقاً جداً. إن زاد
قد يضر، وإن نقص قد يضر.

 

وهكذا
تكون حياة التدقيق روحياً.. الإنسان المدقق يراقب نفسه ويحاسبها، ولا يتساهل معها
في شئ. له مبادئ وقيم يدقق في حفظها ولا يسمح لنفسه أن يهبط مطلقاً عن مستوي هذه
القيم والمبادئ التي تمثل علامات واضحة في طريقة الروحي.

 

94-
مجالات التدقيق

الإنسان
المدقق حريص على وقته يري أن الوقت هو جزء من حياته فهو يحرص على هذا الوقت
واستخدامه له. ولا يضيع دقيقة واحدة منه فيما يندم عليه، أو فيما لا يستفيد منه.
وهو يوزع هذا الوقت توزيعاً عادلاً على كافة مسئولياته.

 

وفيما
هو يحرص على وقته، يحرص بالتالي على دقة مواعيده، وعلى نظام حياته فلا تضيع أوقاته
عبثاً.

 

وكما
يكون مدققاً من جهة وقته، يكون أيضاً مدققاً من جهة وقت غيره.

 

نقول
هذا لأنه قد يوجد إنسان وقته رخيص عنده، فيظن أن وقت الآخرين رخيص أيضاً عندهم.
فيزور غيره أو يكلمه أو يشغله مضيعاً وقته، بينما هذا الغير لا يعرف في خجل كيف
يهرب منه؟!

 

أما
الإنسان المدقق فهو يحترم حياته ووقته، ويحترم حياة الآخرين ووقتهم. ولا يسمح أن
يضيع وقته في التوافه أو أن يعطى حديثاً أو مشغولية أو زيارة فوق ما تستحق من وقت.

 

ويحرص
أن يعطي روحياته وقتها يكون دقيقاً في الوقت الذي تسمح به حياته للصلاة والتأمل
والقراءات الروحية، والوقت الخاص بالكنيسة والخدمة والاجتماعات. ويكون دقيقاً
أيضاً في حفظ يوم الرب، وكل ما يتعلق بحياته الروحية، فلا تضيع في زحمة المشغوليات.

 

وهو
دقيق من جهة صلواته يحرص أن تكون صلاة بكل ما تحمل كلمة صلاة من معني، بكل ما يجب
لها من فهم، ومن حرارة وخشوع، ومن عمق وإيمان وحب واتضاع.. لا يسرع فيها السرعة
التي تفقدها عمقها، ولا يترك عقله في طياشة وعدم تركيز.

 

ولا
يهمل قانونه ومزاميره وساعاته إنه إنسان يعبد الله في تدقيق كذلك إذا رشم علامة
الصليب إنما يفعل ذلك بكل دقة، بكل ما تحمل علامة الصليب. من معان عقائدية وروحية،
وبكل ما فيها من احترام ومن تأثر روحي، ومن ثقة في فاعليتها.

 

ولا
تكون عنده علامة الصليب مجرد حركة سريعة بلا خشوع ولا فهم كما يفعل البعض..

 

وفي
دخوله إلى الكنيسة دقيقاً وفي حركاته فلا يتلفت هنا وهناك، ولا يتحدث داخل الكنيسة
مع هذا أو ذاك، ولا ينشغل بغير العبادة، ولا يسرع في مشيته اسراعاً يتنافي مع
الخشوع وهيبة المكان. إنما يدخل إلى الكنيسة في هدوء وهو يرتل يتنافي مع الخشوع
وهيبة المكان. إنما يدخل إلى الكنيسة في هدوء وهو يرتل قول المزمور ” أما أنا
فبكثرة رحمتك أدخل إلى بيتك، واسجد قدام هيكل قدسك بمخافتك “.

 

ويسجد،
ويقف في مكانه بكل مهابة، مدققاً في كل ما يفعله بسلوك روحي، وبحفظ دقيق لعقله
وحواسه وقلبه، بحيث حينما يقول الكاهن “أين هي عقولكم؟” فيجيب (هي عند
الرب) فيكون صادقاً تماماً.. والإنسان الروحي يكون مدققاً أيضاً في أفكاره لا
يتباطأ مطلقاً في طرد أي فكر خاطئ بل يحرص أيضاً أن يبعد عن الأفكار الزائلة
الباطلة التي لا منفعة فيها، ويحاول بقدر إمكانه أن يجعل فكره نقياً بالله، بعيداً
عن الطياشة.

 

ويجعل
أمامه قول الرسول “مستأسرين كل فكر لطاعة المسيح” (2كو10: 5). أما الذي
يتساهل مع الأفكار، فهو ليس دقيقاً في ضبطه لفكره.

 

الإنسان
الروحي ينبغي أن يكون أيضاً في كلامه إنه يزن كل كلمة قبل أن يقولها، سواء من جهة
معنى الكلمة أو قصدها، أو مناسبتها للمجال أو للسامعين.

 

إن
الذي يتكلم ثم يندم على ما يقول، هو غير مدقق في كلامه. والذي يتكلم ثم يعاتبونه
على معني كلامه، فيقول: ما كنت أقصد.. هو أيضاً غير مدقق في كلامه. كذلك الذي
يتكلم فيجرح شعور غيره بغير حكمة..

 

إن
السرعة في الكلام من الأسباب التي تؤدي إلى عدم التدقيق فيه. إن السرعة في ابدأ
الرأي.. والسرعة في الحكم على الآخرين.. والسرعة في الاستسلام للغضب.. كل ذلك يعرض
الإنسان للخطأ، فلا يكون مدققاً في كلامه، ولا يكون موفقاً في كلامه..

 

أما
الذي يتباطأ، ويزن الكلمة قبل أن يقولها، فهذا يكون أكثر تدقيقاً. لذلك يقول
الرسول ” ليكن كل إنسان مسرعاً إلى الإستماع، مبطئاً في التكلم، مبطئاً في
الغضب” (يع1: 19).

 

وفي
الإبطاء، أو التفكير المتزن، يقدر الإنسان أن يتحكم في ما يريد أن يقوله ويتخير
الألفاظ المناسبة، ويكون مدققاً أكثر في كلامه. لأن الكلمة بعد أن يلفظها لا
يستطيع أن يغيرها أو يسحبها لقد حسبت عليه..!

 

وكما
يدقق الإنسان في كلامه، ينبغي أن يدقق في مزاحه وضحكه. فلا يتحول ضحكه إلى نوع من
التهكم على غيره والاستهزاء به، وجعله مادة لفكاهاته ولسخريته وتسلية الناس!!

 

وبهذا
يكون الضحك وسلية لجرح شعور غيره. من حق الإنسان أن يضحك مع الناس. ولكن ليس من
حقة أن يضحك على الناس!

 

لهذا
فإن الإنسان الروحي ينبغي أن يكون مدققاً في ضحكة ومرحه، حتى لا يجرح أحداً أو
يهين أحداً، ولو في مجال مزاح، ولو عن غير قصد..

 

ولا
يجوز أن يقول أية فكاهة تعجبه، غير مبال بتأثيرها على السامع، إن كان فيها ما يسمه..

 

والإنسان
الروحي يكون مدققاً أيضاً في نقده، وفي عتابه، وفي توبيخه ولا يجرح فيما يحاول أن
ينصح. ولا يوبخ فيحطم.

 

ولقد
حذرنا سيدنا يسوع المسيح قائلاً ” من قال لأخيه رقاً يكون مستوجب المجمع ومن
قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم” (متى5: 22). وكلمة رقاً هي أقل كلمة تخلو
من الاحترام..

 

كم
مرة يستخدم المتكلمون كلمة حق “أحمق” ومترادفاتها العديدة، في شتى
الألفاظ التي يعبرون بها في غير تدقيق، عن استصغارهم لعقول غيرهم ومستوي تفكيرهم.
أما المدقق فلا يفعل هكذا.

 

لاحظوا
كيف تخير السيد المسيح أرق الألفاظ في الحديث مع السامرية بحيث قادها إلى التوبة،
دون أن يجرح شعورها على الإطلاق. ولو أراد أن يستخدم ما يسميه الناس بالصراحة، أو
بمواجهة المخطئين، لنفرت منه هذه المرأة وما كسب روحها..

 

الإنسان
المدقق تظهر دقته في أداء أية مسولئة تعهد إليه أياً كانت هذه المسئولية روحية أو
مادية أو اجتماعية. ودقته هذه تقوده إلى النجاح وإلى الإتقان، وإلى احترام الناس
له وثقتهم به. وهو لا يحاول أن يتعذر بأية أعذار لتبرير موقفه إن لم يكن مدققاً.
لأن المدقق لا يبرر تصرفاته مهما حدث ويرى أن محاولة التبرير ضد التدقيق للأسف.
هناك كثيرون يدققون في محاسبة غيرهم. ولا يدققون في محاسبة أنفسهم بنفس القياس.

 

هم
مع غيرهم في منتهى الشدة أما مع أنفسهم فما أكثر الأعذار بينما العكس هو ما ينبغي
أن يكون.

 

حاسب
نفسك بتدقيق شديد، ولا تعذر ذاتك. أما بالنسبة إلى الآخرين فحاول أن تلتمس لهم
عذراً.

 

نلاحظ
أن السيد المسيح أعطانا مثالاً لهذا في قوله عن خطيئتك “الخشبة التي في عينك”
وقوله عن خطيئة الآخرين ” القذى الذي في عين أخيك” (متى7: 3). هكذا
ينبغي أن تحكم على أخطائك بالخشبة، وعلى أخطاء غيرك بالقذى.

 

مشكلة
الإنسان في حياة التدقيق، أنه يقسم الخطايا إلى صغيرة وكبيرة، ويستأهل في الأمور
الصغيرة!

 

ومن
الجائز أن هذه الأمور الصغيرة في نظره، ليست هي صغيرة في الحقيقة. وحتى إن بدت
صغيرة ستتحول إلى كبائر فيما بعد. والإنسان الروحي لا يستهين بأي خطأ ولا يحسبه
صغيراً. لأن الخطية خاطئة جداً. وكل خطية تؤدي إلى الهلاك، لأن ” أجرة الخطية
موت” (رو6: 23). وهي تفصله عن الله، لأنه ” لا شركة بين النور
والظلمة” (2كو6: 14).

 

إن
أي عيب في شئ، ينقصه كماله. وأية بقعة في ثوب تشوه نظافته مهما كانت صغيرة.

 

الإنسان
الروحي يدقق في مقاومة الخطية، ويحترس لئلا يقع فيها.

 

حتى
تأتيه الخطية فيقاومها، بل يكون حريصاً في البعد عن الخطية، وفي سد جميع مسالكها
بحيث لا تجد منفذاً إليه. وإن حاربته خطية يكون دقيقاً جداً في طردها عنه. إنه
دقيق في كل تصرفاته.

 

يستمع
داماً إلى قول الرسول ” انظروا كيف تسلكون بالتدقيق، لا كجهلاء بل
كحكماء” (أف 5: 15). لذا فهو يدقق في كل ما يعمله، في العمل ذاته، وفي وسيلته
وفي نتائجه سواء بالنسبة إليه أو إلى غيره. حتى الأشياء التي هي سليمة في ذاتها،
ولكن قد تكون غير مناسبة حسب قول الرسول ” كل الأشياء تحل لي ولكن ليس كل
الأشياء تبني” (1كو10: 23).

 

أنه
يدقق في كل حركاته. في دخوله وفي خروجه. في صورته وفي مشيته..

 

لا
ينسي نفسه، فيعلو صوته على من هو أكبر منه، أو يقاطعه ليتكلم هو! وفي انتقاله، كما
قال الشيخ الروحاني ” بالرفق يفتح بابه ويغلقه ” وفي كلامه يحترس من أن
يتطور مزاحه إلى العبث أو التهكم. ويحترس أن يتطور من سرد قصة إلى الإدانة. ويحترس
أن ينتقل من الأمور إلى التسلط، أو ينتقل من القدوة إلى محبة المديح وأعلان الذات.
كذلك يكون مدققاً في عدم التحول من الموضوعية إلى النواحي الشخصية.

 

إن
كل خطوة عنده لها حسابها لا تجرفه التيارات السائدة، ولا يجاري الأخطاء الشائعة.
ولا ينحدر من وضع إلى آخر بدون تفكير.

 

إنه
مدقق في علاقته في الله مدقق في حفظ الوصية، ومدقق في عودة لله، وفي كل نذوره، وفي
عشوره وبكوره، لا يساوم الله، ولا يرجع في عهد قطعه أمامه.

 

95-
محاربات الشيطان للتدقيق

لذلك
فالشيطان يحارب التدقيق ويسميه تزمتاً أو عدم مرونة..

ويريد
بهذا أن الإنسان الروحي كلمة ” تزمت ” فيتحلل من تدقيقه! كلا. فما ينتقده
الشيطان هو الحرفية والفريسية وليس التدقيق، كما أن المرونة ليس معناها التحلل من
القيم. إنما هي مرونة داخل تنفيذ الوصية، وليست مرونة في كسرها فلا تستقر كم هذه
الألفاظ لتغيروا مبادئكم.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى