اللاهوت الروحي

الفصل الرابع



الفصل الرابع

الفصل
الرابع

السلوك
الروحي واستقامته

23-
السلوك الروحي واستقامته

الإنسان
الروحي يسلك حسب الروح: حسبما الروح يقوده ويرشده وليس حسب الجسد، أي ليس حسب
مشيئة الجسد ورغباته وماديته..

مقالات ذات صلة

والذي
يسلك حسب الروح، يكون مقبولاً أمام الله، بينما الذي يسلك حسب الجسد يقع تحت
الدينونة.

ولذلك
قال القديس بولس الرسول: “لا شئ من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح
يسوع، السالكين ليس حسب الجسد، بل حسب الروح” (رو8: 1).

المفروض
في الإنسان الروحي أن يهتم بروحه: في غذائها وصحتها ونموها..

يعطي
روحه ما تحتاج إليه من غذاء يحفظها في قوة وفي نمو، مثل كل وسائط النعمة من صلاة
وصوم، وقراءات روحية، وتأمل ومطانيات واجتماعات روحية، وخلوة روحية، وارشاد روحي.

 

كما
يحتاج أن ينمي روحه بحياة الفضيلة التي يسلك فيها وبالمحبة التي تربطه بالله
وبحياة التوبة التي تحفظ روحه نقيه.

 

غير
أن غالبية الناس يهتمون بأجسادهم إهتماماً كبيراً يفوق اهتمامهم بأرواحهم.

 

يضعون
كل الاهتمام في الجسد وكل ما يختص به من مأكل وملبس ومسكن وترفيه وزينة، بل يهتمون
برغبات هذا الجسد، وتحقيق شهواته وملاذه، بشكل يشمل كل الفكر وكل العاطفة، حتى لو
تعارض هذا كله مع نقاوة أرواحهم.

 

وينسي
كل هؤلاء قول الرسول: اهتمام الجسد هو موت، ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام،
اهتمام الجسد هو عداوة لله.. فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله.. (رو8:
6 8).

 

لذلك
يسمون هؤلاء جسدانيين.. ولا يستطيع الجسدانيون أن يرثوا ملكوت الله، لأنه ملكوت روحي،
يعيش فيه فقط، الروحانيون السالكون حسب الروح.

 

ولذلك
فعندما تكلم الرسول عن محبة العالم التي هي عداوة لله، قال ” لأن كل ما في
العالم شهوة الجسد وشهوة العين وتعظم المعيشة” (1يو2: 16). وهكذا وضع شهوة
الجسد في مقدمة العالميات.

هنا
نسأل سؤالاً يفرض نفسه: هل الجسد إذن خطية؟

 

24-
هل الجسد خطية؟

كلا،
إن الجسد ليس خطية ولا شراً، وإلا ما كان الله يخلقه.

يكفي
أن السيد المسيح أخذ جسداً وكذلك قال لنا الرسول: “ألستم تعلمون أن جسدكم هو
هيكل الروح القدس الذي فيكم ” ” ألستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء
المسيح” (1كو6: 19، 15). فإن كان جسدنا كذلك فهو ليس شراً اطلاقاً.

وهذا
الجسد سيقيمه الله في اليوم الأخير. جسداً روحانياً نورانياً (1كو15). ونحن نكرم
أجساد القديسين. ولو كان الجسد خطية، ما كنا نكرم هذه الأجساد.

 

إن
الجسد شئ مقدس، نزل إلى ماء المعمودية وتدشن وصار طبيعة جديدة، ومسح بزيت المسحة
المقدسة في سر الميرون. وصار هيكلاً للرب (1كو2: 16، 17).

 

هذه
هي النظرة السليمة التي نحترم بها الجسد، وننظر إليه في وقار، سواء كان جسدنا
الخاص أو جسد آخرين.. متذكرين في ذلك قول الرسول ” من يفسد هيكل الله فسيفسده
الله” (1كو2: 17). وقوله أيضاً “فمجدوا لله أجسادكم وفي أرواحكم التي هي
لله” (1كو6: 20).

 

إذن
يمكن أن نمجد الله أجسادنا ونمجده بأجسادنا..

 

أليس
الجسد يشترك مع الروح في عبادة الله. الروح تصلي. والجسد يقف أو يركع أو يسجد أو
يرفع أيادي طاهراً إلى فوق.

 

والجسد
يصوم، والجسد يبارك الله في المطانيات. والجسد يتعب في الخدمة ومعونة الآخرين..

 

إن
احترمنا الجسد هكذا، لا يمكننا أن نمتهنه أو ندنسه في أنفسنا أو في الآخرين..

 

ننظر
إلى الجسد ككنيسة صغيرة مقدسة مدشنة بالميرون، يسكنها روح الله.

 

والمفروض
أن هذه الكنيسة تخرج منها تسابيح وصلوات وتراتيل ومزامير وأغاني روحية (أف5: 19)
ترتفع إلى الله كرائحة بخور. كما قال المرتل في المزمور: “فلنستقيم صلاتي
كالبخور قدامك، وليكن رفع يدي ذبيحة مسائية” (مز141: 2).

 

هذه
هي النظرة الروحية إلى الجسد.

 

إذن
الجسد ليس خطية، إن استعملناه بطريقة روحية، وفهمناه بطريقة روحية كشيء مقدس مثل
جسد آدم وحواء قبل الخطية. ومثل أجساد الأبرار في القيامة العامة ومثل كل جسد مقدس
من أجساد الأحياء يبارك الله.

كيف
إذن نحتفظ بقداسة الجسد؟

 

25-
خضوع الجسد للروح

يكون
الجسد مقدساً إن خضع لقيادة الروح، ولم يدعها هي تخضع له.

 إن
حدث ذلك يسلك بطريقة روحية بل ينطبق عليه قول الرسول ” اطلب إليكم أيها
الأخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة.. ولا تشاكوا هذا
الدهر” (رو12: 1، 2). إذن يمكن أن يكون الجسد ذبيحة حية مقدسة.. أما إن قاوم
الروح، ولم يخضع لها، فحيئنذ ينطبق عليه قول الكتاب:

 


الجسد يشتهي ضد الروح، والروح يشتهي ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر”
(غل5: 17).

 

يقول
الرسول هذا، ليس عن كل جسد، وإنما عن الأجساد الخاطئة المقاومة لعمل الروح، والتي
تشتهي ضد الروح، والتي توقع الإنسان في صراع داخلي بين جسده وروحه، ولكن القديسين
ليسوا هكذا، وإنما أجسادهم تشترك مع أرواحهم في العمل الروحي، وتبذل ذاتها. لذلك
يكافئ الله الجسد بأن يتنعم مع الروح بإخضاع الجسد، فلا يسلك في طريق مادي بل في
طريق روحي.

 

وهكذا
قال القديس بولس الرسول ” بل أقمع جسدي واستعبده، حتى بعد ما كرزت للآخرين لا
أصير أنا نفسي مرفوضاً” (2كو9: 27).

 

وهكذا
فعل كل الأباء في البراري والقفار، حتى جسدهم تماماً للروح وشارك في عملها، باصوام
وأسهار وسجود، وعدم اعطاء الجسد ما يشتهيه.

إذن
ليس الجسد ذاته خطية، إنما شهوات الجسد هي خطية.

وقد
سقط أبوانيا الأولين في شهوة الجسد، حينما نظراً إلى شجرة معرفة الخير والشر، فإذا
الشجرة للأكل وبهجة للعيون وشهية للنظر (تك2: 6).

 

وبدأ
الانحراف إلى اشتهاء كل ما هو مادي، وما هو جسدانى. وهنا يأتي تحذير الكتاب لنا،
بقول الرسول:


لأنه إن عشتم حسب الجسد فستموتون، ولكن إن كنتم بالروح تمتون أعمال الجسد
فستحيون” (رو8: 13).

ولهذا
يدخل القديسون في أعمال الإماتة هذه شهوات الجسد وهكذا نطلب إلى الرب يسوع في صلاة
الساعة التاسعة قائلين “أمت حواسنا الجسدانية” وإن ماتت الحواس الروحية
وتتحرك بمحبة الله، ولذلك يقول الكتاب:


وأما أنتم فلستم في الجسد، بل في الروح، إن كان روح الله ساكناً فيكم” (رو8: 9).

وإن
عاش الإنسان بالروح، وفي الروح، وصار الجسد خاضعاً، فحينئذ يتمتع بحياة الانتصار
كائناً واحداً، وليس كيانين متصارعين، بل على العكس لا يوجد فيه صراع داخلي بين
الجسد والروح، لأن جسده أصبح يشتهي ما تشتهيه روحه، ويتعاون معها في كل أعمال البر.

وحينئذ
لا يخطئ الجسد..

 

26-
الجسد والخطية

فالجسد
الذي يخطئ، هو الجسد المتمرد على الروح، أو هو الجسد الذي يسيطر على الروح ويخضعها
لرغباته، فتتدنس معه وتفقد صورتها الإلهية، وتقع معه تحت الدينونة في ذلك اليوم
الرهيب.

والجسد
الذي يخطئ، إنما يدنس هيكلاً من هياكل الله.

لأن
الجسد هو هيكل الله، فإن أخطأ، فيكون كمن يحطم كنيسة مقدسة كان روح الله يحل فيها.

وهو
يتمرد ليس فقط على روحه، إنما أيضاً على روح الله الساكن فيه.

وإن
كان الإنسان الذي تنتصر فيه روحه، وتقود الجسد معها إلى حياة القداسة يصير كملائكة
الله في السماء. فإن الإنسان الذي يتمرد فيه الجسد على الروح ويقودها، يصبح في
مستوي الحيوانات.

والجسد
الذي يعيش في شهواته، إنما يعتبر ميتاً، مهما كان ينبض بالحياة.

وكما
قال الرسول ” فالجسد ميت بسبب الخطية” (رو8: 10). ولذلك قال الرب راعي
كنيسة ساردس ” إن لك إسماً أنك حي وأنت ميت” (رؤ3: 1). وقال الرسول عن
الأرملة المتنعمة فقد ماتت وهي حية” (1تى5: 6).

 

لأن
الحياة الحقيقية هي في الله ومن ينفصل عن الله بالخطية، يعتبر ميت، وهو حي. وبهذا
قال الآب عن الإبن الضال ” أبني هذا كان ميتاً” (لو15: 24). والذي يتوب،
إنما يعود إلى حياة مرة أخرى. ولذلك قيل عن الإبن الضال في توبته ” كان ميتاً
فعاش “.

لهذا
ينبغي أن يهتم الإنسان بروحه في ذلك بأبديته.

 

27-
الاهتمام بالروح

يقول
الرسول ” اهتمام الروح هو حياة وسلام” (رو8: 6).

يضع
أمامه أن له روحاً واحدة إن قادها في طريق الخلاص، ربح كل شئ. وإن خسر هذه الروح،
خسر كل شئ. وكما قال السيد المسيح ” ماذا ينتفع لو ربح العالم كله وخسر نفسه
“.

 

الذي
يسلك في الطريق الروحي، يضع كل اهتمامه في نقاوة روحه، واتصال روحه بالله والسعي
لأن ترث هذه الروح ملكوت الله في الأبدية السعيدة.

يسلك
بالروح، وينمو في الروح، ويصبح إنساناً روحانياً.

يعود
صورة الله ومثاله، ويحتفظ بنفسه باستمرار صورة لله. فالروح هي النفخة التي نفخها
الله في الإنسان، فصار نفساً حية أما الجسد فهو العنصر الترابي، لأن جبل من تراب
الأرض. وبالسلوك بالروح يصير الإنسان شبة الملائكة، ويكون له صداقة وعشرة مع الله
وملائكته ومع العالم الروحي كله، بل يصير هو ملاكاً عند الله.

 

تصبح
تصرفاته روحية، وكلماته كلمات روحية، وكل علاقاته علاقات روحية، وتسيطر الروح على
كل حياته. لذلك تأمل يا أخي نفسك كيف تسلك: هل بالروح أم بالجسد؟

 

فالكتاب
يقول ” اسلكوا بالروح، فلا تكملوا شهوة الجسد” (غل5: 16). بل يقول
بالأكثر ” امتلئوا بالروح” (أف5: 18).

وهنا
يبدو النمو في الحياة الروحية: من سلوك بالروح إلى امتلاء بالروح.

 

28-
علاقة روحك بروح الله

الإنسان
الروحي يخضع جسده لروحه، وتخضع روحه لروح الله. ويصبح هذا دليلاً على بنوته لله.
وفي هذا يقول الكتاب ” لأن كل الذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء
الله” (رو8: 14). وإن كان روح الله هو الذي يقوده فلن يخطئ، والشرير لا
يستطيع أن يمسه (1يو3: 9) (1يو5: 18). حقاً بهذا “أولاد الله ظاهرون”.

ولا
يقتصر الأمر على الناحية السلبية من جهة البعد عن الخطية، وإنما إيجابياً تظهر فيه
ثمار الروح.

وهذه
قال عنها الرسول ” وأما ثمر الروح فهو محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح إيمان
وداعة تعفف” (غل5: 22). قال القديس بولس هذا عن السالكين بالروح “الذين
هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات” (غل5: 24) وقال بعدها مباشرة
” إن كنا نعيش بالروح، فلنسلك أيضاً بحسب الروح”

 

لأنه
كيف نقول إننا أولاد الله، إن كنا لا ننقاد بروح الله؟ وكيف نقول إننا نعيش بالروح،
إن كانت لا تظهر في حياتنا ثمار الروح؟

والذي
ينقاد لروح الله، لا يطفئ الروح، ولا يحزن روح الله في داخله ولا يقاوم روح الله،
وإنما يستسلم تماماً لعمل الروح فيه. ويكون أداة طيعة للروح القدس، يصنع الله به
مشيئته المقدسة. لا يخون الله ويفتح أبواب قلبه أو فكره للخطيئة التي تقاوم عمل
الروح. بل على العكس:

 

يشترك
مع روح الله في العمل:

وبهذا
يدخل في شركة الروح القدس (2كو13: 14) ويكون شريكاً للطبيعة الإلهية (2بط1: 4) في
العمل لأجل خلاصه وخلاص الآخرين.

إذن
فالسلوك بالروح، هو سلوك بروحك وبروح الله.

وعندئذ
تتجمل روحك بالفضائل، وتستعد لمقابلة الله ” كعروس مزينة لعريسها “.
تتزين بالفضائل، بالمحبة بالاتضاع الإيمان بالتعب من أجل الله. تتزين بما قال عنه
القديس بطرس الرسول ” زينة الروح الوديع الهادئ الذي هو قدام الله كثير
الثمن” (1بط3: 4).

 

اهتم
إذن بجمال روحك، حتى عندما تخلع جسدك، تكون روحك مقبولة في السماء. لها رائحة
المسيح الذكية.

 

وتأخذ
روحك حتى في هذا العالم هيبة أمام الشياطين.


يسقط عن يسارك ألوف، وعن يمينك ربوات، وأما أنت فلا يقتربون إليك” (مز91: 7).
أتريد إذن أن تختبر روحك وسلوكك بالروح؟ إليك هذا السؤال:

هل
أنت تخاف الشياطين، أم أن الشياطين تخافك، لسكنى روح الله فيك؟

اسلك
يا أخي بالروح، وأنت تصل إلى هذا المستوى. وكل عمل تعمله تأكد من أن الله يشترك
معك فيه بروحه القدوس.

واحتفظ
بسكني الروح داخلك.

 

29-
معنى الاستقامة

الإنسان
الروحي هو إنسان مستقيم في فكره، وفي ضميره، وفي سلوكه. أمام الله والناس.

فما
معنى هذه الاستقامة
integrity؟ وما علاماتها؟ وكيف تكون؟ وما محارباتها؟ وكيف نميزها؟

إن
الإنسان المستقيم، هو إنسان حقاني، لا يسلك في الباطل، سواء إن كان يدري. ولا يجمع
بين الحق والباطل..!

 

يسير
في طريق مستقيم لا ينحرف عنه.

وكما
قال الوحي الإلهي ” لا تمل يمنه ولا يسره” (أم4: 27). أي لا تنحرف، سواء
نحو اليمين أو نحو اليسار. لا يكن لك تطرف هنا أو تطرف هناك.

 

30-
الاستقامة ضد التطرف

المبالغة
في الطريق الروحي، غير مقبولة: سواء كانت مبالغة في الكلام أو في الوصف، أو في
السلوك. فالمبالغة في الكلام نوع من الكذب المبالغة في الوصف، ولا تعطي هذه ولا
تلك صورة حقيقية عن الواقع.

 

والمبالغة
في السلوك ليست مستقيمة لأنها لون من التطرف، وقد تتحول إلى فريسة. وفي ذلك قال
القديس بولس الرسول عن حياته السابقة للإيمان “حسب مذهب عبادتنا الأضيق عشت
فريسياً” (أع26: 5).. والذين يضيقون على نفوسهم، يتعودون هذا التضييق على
الآخرين!

 

وتكون
أحكامهم ظالمة وقاسية وغير مستقيمة وقد وبخ السيد المسيح الكتبة والفريسيين على
ذلك لأنهم يحملون الناس أحمالاً ثقيلة عسره الحمل (متى23: 4). وبهذا يقعون في خطية
القسوة، وأيضاً في خطية الإدانة، بسبب التطرف غير المستقيم. وربما بهذا الأسلوب،
يصيرون ملكوت الله صعباً أمام الآخرين، ويوقعونهم في اليأس إذا لم يستطيعوا وهكذا
يغلقون ملكوت السموات أمام الناس. فما يدخلون هم، ولا يجعلون الداخلين يدخلون
(متى23: 13).

 

والتطرف
ليس له ثبات..

ربما
يتطرف إنسان في طريقة صومه ويستمر على هذا فترة. وقد يظن أنه ارتفع إلى درجة روحية
عالية ولكنه فجأة لا يستطيع أن يستمر. وقد يرجع إلى الوراء، إلى مستوي أقل بكثير
من الذين في الطريق بتؤدة وتدرج وهدوء.

 

وبالمثل
التطرف في المطانيات، وفي كل أعمال التقشف والنسك. وفي الصمت أيضاً..

 

ففي
البعد عن خطايا اللسان، قد يتطرف الإنسان فيفرض على نفسه تدريب صمت عنيف، لا
يستطيع أن يستمر فيه! كما أن هذا الصمت في تطرفه قد يوقعه في أخطاء عديدة جداً،
ويسئ معاملاته مع الناس. ولا يكون تصريفاً مستقيماً..

 

إن
الخط الذي يعلو ويهبك في غير استقرار، ليس هو خطأ مستقيماً. ولا يتفق مع نصائح
الآباء..

 

فقد
كان الآباء الروحيون ينصحون أبناءهم بعدم التطرف. لأن التطرف لا يتفق مع الحق من
جهة، كما أنه من جهة أخرى لا يتصف بالدوام. وقد يتحول فيه الشخص من الضد إلى الضد.
وهذه الذبذبة في الحياة الروحية لا يتفق مع الاستقامة في المسيرة الروحية السليمة.
لهذا كان الآباء ينصحون بالتدرج من بداية سهلة ممكنه بعيدة عن العلو والافتخار،
تنمو قليلاً قليلاً حتى تصل. وكانوا يقولون:

 

قليل
دائم، خير من كثير متقطع: أي عمل روحي بسيط يبدأ الإنسان به، راسخة.. فهذا أفضل
بكثير من قفزة روحية عالية، لا تستمر طويلاً، ثم تعقبها رجعة إلى الوراء..! إن
القفزات في الحياة الروحية خطيرة وغير ثابتة. وغالباً ما يحصدها شيطان المجد
الباطل..

 

الاستقامة
إذن هي ضد التطرف، كما أنها أيضاً ضد الباطل..

 

31-
الاستقامة ضد الباطل

إن
كان من الخطأ التطرف حتى فيما يظنه الإنسان خيراً، فماذا نقول إذن عن الباطل
والتطرف فيه؟!

قد
يسلك الإنسان في الباطل عن طريق الجهل ومع ذلك يحكم عليه بأنه غير مستقيم في سلوكه.
إن طريقة غير مستقيم، لأنه ضد الحق والبر، سواء كان يعرف ذلك أو لا يعرف.. وما
أعمق قول الكتاب ” توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة، وعاقبتها طرق الموت”
(أم16: 25، 14: 12).

 

إنها
طرق غير مستقيم، وعاقبتها الموت، مهما بدت لصاحبها غير ذلك. إن الكبرياء قد تصور
للإنسان أن كل تصرفاته مستقيمة، وربما تكون الحقيقة عكس ذلك تماماً. وفي ذلك يقول
الكتاب ” طريق الجاهل مستقيم في عينيه” (أم12: 15). الاستقامة يلزمها
قلب متضع، يدرك خطأه، ويصحح طريقه لكي يصير مستقيماً..

 

أما
المتكبر فيستمر في عدم استقامة لأنه يرفض الاعتراف بخطأ طريقه. وهكذا نرى الصلة
القوية بين الاستقامة والاتضاع. ذلك لأن المتكبر لا يعرف حقيقته جيداً، ولا يعرف
سقطته أو لا يعترف بها. لذلك وصفه الكتاب بأنه جاهل، وقال: طريق الجاهل مستقيم في
عينية!

 

وقد
يسلك الإنسان في الباطل نتيجة مرضه، فيظن أن كثيرين ضده يضطهدونه، فيكره البعض
منهم، ويقاوم البعض، ويشتم هذا وذاك، ويشكو من جميعهم، وتتعقد نفسيته، ويظن أن
هناك أخطاراً تترصده، حيث لا يوجد خطر على الإطلاق. ويفقد هذا الشخص استقامة سلوكه
نتيجة لمرضه النفسي. حتى لو كان هذا الشخص في حالة من المرض لا توقعه في مسئولية.
ولكن ذلك لا يمنع من أن السلوك غير مستقيم.

 

الباطل
هو الباطل، سواء أدين عليه صاحبة، أم لم يدن. وربما الإنسان المريض نفسياً أو
المريض عقلياً، لا نقول عنه أنه غير مستقيم. ولكن نقول عن تصرفاته إنها غير
مستقيمة. وقد يوجد إنسان يحاول أن يجمع بين الحق والباطل. وهذا أيضاً غير مستقيم.

 

فالباطل
الذي يقع فيه أحياناً، يشوه استقامة طريقة. ولا يمكن أن يتفق مع علامات الطريق
الروحي. ولكنه إذا اعترف بأنه أخطأ وقوم طريقة، فإننا نعتبرها خطية وقد تاب عنها.
ولكن الخطر هو إنساناً يعتبر الباطل الذي فيه لوناً من الاستقامة!!

 

وذلك
بأن يلبس الخطية ثوب الفضيلة ويعتبر أنه على حق في كل اخطائه، بل لا يسميها
للأمور!

 

ومثل
هذا الشخص، تصبح عدم الاستقامة الفكرية والضميرية عنده، سبباً في استمرار عدم
الاستقامة في سلوكه، كطبع من طباعة..!

 

ما
أخطر عدم الاستقامة في الضمير حيث تختل كل موازين الإنسان وقيمه ويصبح حكمة على
الأمور غير مستقيم ويفعل الخطية بضمير مستريح، ولكنه ضمير مريض، أو ضمير واسع، أو
ضمير غير مستقيم..!

 

أمثال
هؤلاء يحتاجون إلى توعية.. يحتاجون إلى تعليم روحي، لإصلاح موازينهم الروحية.
فالذين يقبلون التعليم منهم، يكون هناك رجاء في عودتهم إلى الاستقامة، فكرياً
وضميرياً وسلوكاً.

والبعض
قد يحاول الجمع بين الحق والباطل عن طريق الرياء!

 

32-
الاستقامة ضد الرياء

هؤلاء
يكون ظاهرهم من الخارج مستقيماً، بينما هم في الداخل عكس ذلك. فيظهرون للناس
أبراراً وهم خطاه. هم كالقبور المبيضة من الخارج وفي الداخل عظام نتنة..

وبالرياء
يجمعون بين نوعين من عدم الاستقامة: داخلهم الخاطئ غير مستقيم وتظاهرهم أيضاً
بالاستقامة هو أيضاً عمل غير مستقيم.

ويقعون
بهذا في خطية مزدوجة. لأنه إن كان من يفعل خيراً لكي يظهر للناس بره، يكون قد وقع
في خطيئة الرياء، فكم بالأكثر الذي يكون غير مستقيم، ويظهر أمام الناس وكأنه
مستقيم وبار، أي رياء مزدوج يكون هذا؟‍ من هذا النوع يهوذا، الذي كان يقبل السيد
المسيح كصاحب له بينما كان بالقبلة يسلمه لأعدائه. أو كان يجلس قريباً منه، يأكل
معه ويغمس لقمته في نفس صفحته، بينما هو قد قبض ثمن تآمره عليه! إن خيانة يهوذا شئ.
أما استمراره في صحبه المسيح، مع تلاميذه، يأكل معه ويأتي يقبله، فهذا لون آخر من
الطريق غير المستقيم الذي يظهر في الرياء والتظاهر بالحب..

 

ومن
هذا النوع كانت دليلة مع شمشون، نفس المزيج من الخيانة والرياء!

 

تتظاهر
بالحب والدالة فيما تسلمه لأعدائه! وبنفس الرياء وأكثر منه، يسلك الشيطان، حينما
يتظاهر أنه يقدم لآدم وحواء طريق بينما هو يعمل على هلاكهما. ومعنا أيضاً بنفس
الأسلوب..

 

الإنسان
المرائي يكون أحياناً ذا وجهين ولسانين! ويلعب على حبال كثيرة..

 

ولا
يكون مستقيماً بذلك في تصرفه ولعل من هذا كان يريد أن يجمع بين بالاق بن صفور
وبناء سبعة مذابح للرب (تك22: 23) فهو يقول “كيف ألعن من لم يلعنه الله..؟!
الذي يضعه الرب في فمي أحرص أن أتكلم به” (تك23: 8، 12) وهو في نفس الوقت
يقدم لبالاق النصيحة التي يهلك بها الشعب (رؤ2: 14).

 

وظن
بلعام أنه يكفي أن لسانه لم تخرج منه لعنة للشعب، بينما قلبه كان يسعي لهلاكهم!
أما الإنسان المستقيم، فإن قلبه ولسانه يكونان معاً في خط واحد طاهر.

 

ولقد
رفض السيد المسيح أن يكون القلب واللسان في طريقين متضادين. وورد العبارة التي
قيلت عن الشعب في العهد القديم ” هذا الشعب يكرمني بشفتيه. أما قلبه فمبتعد
عني بعيداً” (متى15: 8 ؛ 29: 13).

 

الإنسان
المستقيم: إن قال كلمة حب أو مديح بشفتيه، يكون قلبه أيضاً بنفس المشاعر..

لا
تناقض إطلاقاً بين القلب واللسان فهذا التناقض دليل على عدم الاستقامة.

وفي
هذا التناقض يقع الذين يستخدمون كلمات التملق، والمديح الكاذب، وكلمات النفاق..

ووقع
في هذا الخطأ الأنبياء الكذبة الذين كانوا يقولون لآخاب الملك أنه سينتصر”
(1مل22: 13، 22).

الإنسان
المستقيم لا تقوده سياسات وأغراض، ولا تغير ضميره ولا لسانه.

فلا
يسلك في الرياء من أجل غرض يحققه أو شهرة يحصل عليها، أو انضماماً لتيار معين.
إنما هو هو: من الداخل كما من الخارج.

 

ليس
هو شخصين، بل شخص واحد لا يخالف ضميره، ليتكلم بما يرضي الناس ولا يقول إلا ما
يؤمن في قلبه إنه حق.

الرياء
ضد الاستقامة لأنه محاولة للجمع بين طريقين متضادين، بأسلوب الخداع..

 

33-
الخداع ضد الاستقامة

لم
يكن يعقوب مستقيماً، حينما خدع أباه إسحق، وقال له أنا بكرك عيسو” (تك26: 18).
ولم يكن مستقيماً حينما ليس جلد جدي ماعز ولم تكن أمه رفقة مستقيمة حينما نصحته
بكل هذا وقالت له لعنتك على (تك26: 13).

 

ولم
يكن أخوة يوسف مستقيمين حينما خدعوا أباهم يعقوب، حينما غمسوا قميص يوسف الملون في
دم ماعز ليظن أبوه أن وحشاً قد افترسه (تك37: 31 33).

 

الإنسان
المستقيم إنسان صريح وواضح لا يكذب ولا يخادع ولا يصل إلى أغراضه عن طريق الخداع،
ولا يحل مشاكله بالخداع. ويري أن الخادع طريق غير مستقيم، يحتقر ذاته إن أوصله إلى
غرض.

 

الخداع
ضد الحق. والإنسان المستقيم هو إنسان حقاني، لا يقبل على نفسه أن يظلم أحداً.

وإن
كان له غرض يحب أن يصل إليه، فليكن ذلك عن طريق مستقيم.

لأنه
يؤمن، ليس فقط باستقامة الغرض والهدف، وإنما أيضاً باستقامة الوسيلة ولذلك فهو
يرفض التحايل.

 

34-
التحايل ضد الاستقامة

الإنسان
غير المستقيم، إذا لم توصله استقامة الوسلية، يلجأ إلى الحيلة.

فإن
لم يجد حيلة سليمة، فإنه يلجأ إلى التحايل..

ومن
ضمن ذلك: اللف والدوران:

عن
الخط المنحني خطأ مستقيماً والخط الدائري ليس كذلك خطأ مستقيماً يرفض كل طرق اللف
والدوران، التي يحاول أن يخفي بها غرضه ليصل باسلوب غير ملحوظ..

 

لذلك
فهو يرفض أيضاً سياسة السبب الثاني والثالث..

هذه
التي يستخدمها البعض، مخفين السبب الأول أو السبب الحقيقي، ومقدمين أسباباً أخري
ثانوية أقل أهمية، ربما السبب الثاني أو الثالث أو الرابع، من أمور قد يهتم بها
السامع، ولا علاقة لها بالموضوع، وذلك لكي ينالوا موافقته بأية الطرق!

 

إن
السبب الثاني، حتى لو كان حقاً، ليس هو صدق خالص وذلك باعطائة أهمية له تخدع
السامع..! واستخدمه نوع من التحايل.

 

وكذلك
أيضاً المبالغة سواء في تقييم الأشياء ونوعياتها، أو المبالغة في وصف منافعها أو
مضارها، لكي توصل السامع إلى اقتناع معين ما يلبث أن يكثف زيفه بعد حين..!

 

كلها
أساليب لا تتفق مع الاستقامة ولا تتفق مع احترام المتكلم لضميره ولا مع احترامه
لضمائر الناس..

 

35-
الاستقامة والثقة

الإنسان
المستقيم هو موضع ثقة كل من يعاشره، أو يتحدث إليه..

واستقامته
تعطي فكرة عن روحياته وتدينه. فالاستقامة ليست مجرد فضيلة اجتماعية..

إنما
هي إحدي معالم الطريق الروحي وتكون عند الروحيين بمستوي أعلى وأعمق. نقول ذلك لأنه
قد يحدث أن البعض يعيشون في جو الخدمة داخل الكنيسة ويكونون قد استبقوا معهم بعض
أساليب العالم الخاطئة يحققون بها أهدافهم الكنسية.

فيخدمون،
ويستخدمون في داخل الخدمة أساليب غير مستقيمة تكون عثرة لغيرهم!

على
أن الإنسان الروحي يحتاج باستمرار أن يعود نفسه على الاستقامة مهما كلف ذلك من ثمن،
ومهما بذل في سبيله.. بل حتى لو ظن أنه يخسر أحياناً بسبب استقامته أسلوبه في
التعامل وفي الخدمة.. إنها قد تكون خسارة مادية، ولكنها مكسب روحي.

 

وعليه
أن يرفض كل مكسب أو نفع عن طريق غير مستقيم، شاعراً أنه ليس من الله.. ولا يستاهل
مطلقاً في هذا الأمر ولا يشترك مع الذين يتساهلون.

 

إن
أبدية الإنسان أهم من أية منفعة عالمية كذلك قدوته كإبن لله، وعضو في جسد المسيح،
يجب أن تكون بلا لوم أمام الكل.

بهذا
يعيش ضميره سعيداً، ويعيش الناس مطمئنين له.

وعلينا
أن نضع أمامنا قدوات الآباء القديسين، ونسلك في خطاهم..

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى