اللاهوت الروحي

الباب الرابع



الباب الرابع

الباب
الرابع

نعمة
الخلاص

“قد ظهرت نعمة الله المخلصة لجميع الناس.
“(تى11: 2).

الفصل الأول: مفهوم النعمة

الفصل الثاني: عمل النعمة

الفصل الثالث: مجال النعمة

الفصل الرابع: وسائط النعمة

 

تقديم

ما
أطيب قلب الله المحب. فإذ قد وجدني مسكيناً تعيساً، لا حول لي ولا قوة، رازحاً تحت
قصاص الموت بسبب خطاياي الكثيرة، وساقطاً تحت عبودية إبليس بسبب ضعفي الشديد وعجزي
الكامل وعدم مقدرتي على الإفلات من بين أنياب خصمي، حالتي المحزنة هذه قد حركت قلب
الله الممتلئ حناناً، “إذ أحبني وأسلم نفسه لأجلي.” (غل20: 2). وهكذا جاء
الابن ومات عوضاً عنى، وحول لي العقوبة خلاصاً، ورفع عن عنقي قصاص الموت.

 

وإذ
وجدني ضعيفاً أمام قوة الخطية، وسلطان إبليس، وسيطرة العالم، أرسل لي روح القوة من
الأعالي، ليعين ضعفي قائلا لي “تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل”
(2كو9: 12).

 

وعلاوة
على كل هذا فعندما صعد إلى السماء قال لي “أنا أمضى لأعد لك مكانا.. وآتى
أيضاً وآخذك إلى حتى حيث أكون أنا تكون أنت أيضاً.”(يو2: 14).

فما
أعجبك إله رؤوف متحنن، سبيت قلبي بحبك، وأخجلتني بعطفك إذ حبوتني بنعمتك المخلصة.

أخي
القارئ ما أحوجنا أن نعرف مفهوم النعمة وعملها، ومجالها، ووسائلها المتعددة.

 

الفصل الأول: مفهوم
النعمة

“العطية بالنعمة” (رو15:
5).

أولاً: عطية مجانية

ثانياً: عطية عمومية

ثالثاً: ليست من أعمال بشرية

 

أولاً: عطية مجانية

كلمة
النعمة في الأصل اليوناني (
x a p i
s
) تعنى (عطية مجانية)
كإسداء معروف أو إحسان إلى معوز أو محتاج.

(The International Bible Encyc Vol. 2. P. 1290)..

وهكذا
من إحسانات الله علينا نحن الخطاة أنه أنعم لنا بالخلاص لهذا يقول بولس الرسول
“لأنكم بالنعمة مخلصون بالإيمان وذلك ليس منكم هو عطية الله” (أف8: 2)
وعن نعمة تبريرنا مجانا قال “متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع
المسيح” (رو24: 3) وقد علق على ذلك القديس أغسطينوس قائلا “بدون نعمة
المسيح لا يمكن لصغير أو كبير أن يخلص، وهذه النعمة لا تعطى مقابل أي شئ وإنما هي
عطية مجانية”

(N. P. Frs 1st. Ser Vol. 5. P. 122).

 

حقيقة
يا أخي ما كنت أنا أو أنت نستحق نعمة الخلاص ولكن هنا تظهر هبة الله المجانية، فإذ
قد وجدنا معوزين ومحتاجين أحسن إلينا، ومال ليخلصنا، رغم عداوتنا له بسبب خطايانا
ولكنه يضمد جراحنا ويخلصنا من الموت، وينقذنا من يدي الاعداء، ويعتنى بنا (لو30:
1027). ماذا فعلنا حتى يخلصنا، وماذا قدمنا له حتى ينقذنا؟ لا شئ بالمرة.

 

وما
أجمل ما قاله الآباء القديسون “إن كل ما يقدمه بنو البشر هو لا شئ أمامك، حتى
أنك حسبت كل ما يعمله الإنسان كخرقة نجسة، فلا تبطئ أنت يا سيد بمعونتك لأن نعمتك
تخلصنا مجاناً، وماء الحياة أنت تقدمه للعطاش إليك بلا ثمن”. (كتاب السبع
طلبات لمشاهير قديس الكنيسة ص198 طبع دير السريان).

وقال
القديس مار أفرام السرياني: ” آثرت أن تخلصنا مجاناً نحن الخطاة، والذين لم
يعرفوك أعطيتهم نور المعرفة”.

(المرجع
السابق ص 102).

 

أخي
إن كنت تريد أن تخلص من عقوبة خطاياك، وتتبرر من آثامك، وتحصل على بر المسيح، أقبل
إلى يسوع وهو يعطيك مجاناً.

 

قصة:

مر
غني على بائع أسماك ودفع له ثمن كل ما معه من سمك، وقال له “إني قد دفعت لك
ثمن السمك حتى توزعه على فقراء هذا الحي” ولم يعترض الرجل على ذلك لأنه تسلم
ثمن السمك كاملاً. فسار في الحي منادياً (ببلاش السمك. سمك ببلاش) بدلاً من قوله
(العال السمك) وللأسف لم يصدقه أحد، إلى أن وصل إلى بيت امرأة عجوز فدعته وأخذت
منه أكبر سمكه، ثم سألته عن ثمنها لكي تدفعه. فقال لها الرجل كلا يا سيدتي فقد
أخذت الثمن فسألته عن الذي دفعه. فأشار لها إلى الغنى الذي كان لا يزال واقفاً،
فذهبت إليه وشكرته. ولما رأى سكان الحي ذلك أسرعوا هم أيضاً وأخذوا سمكاً مجاناً
وقدموا الشكر لمن دفع الثمن.

 

أخي
أن ربنا يسوع المسيح قد دفع لله الآب ثمن تبريرنا، في حياته وفي مماته. ولأجل ذلك
فالله يبررنا مجاناً لأجل خاطر المسيح. “فتعال وتبرر مجاناً بنعمته”.

 

لا
تفكر يا أخي فيما تقدمه للمسيح مقابل تبريره لك، فانك بهذا تنقص من قيمة النعمة
الإلهية، وبهذا تكسر قلب الله. وكيف تحصل إذن على السلام الذي قال عنه بولس الرسول
“إذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح” (رو1: 5).

 

ومتى
حاولت أن تقدم شيئاً للمسيح لكي يبررك، يكون اعتمادك على هذا الشيء لا على نعمة
الله المجانية، وبهذا لا تشعر بفضل المسيح عليك ويكون المسيح قد مات بلا سبب. لهذا
يقول بولس الرسول “لست أبطل نعمة الله. لأنه إن كان بالناموس بر فالمسيح إذا
قام بلا سبب” (غل21: 2).

 

يسوع
إذن مات من أجل الخطاة الذين لا حول لهم ولا قوة ولم ينتظر منهم شيئاً بالمرة. ثم
ماذا تستطيع أن تقدمه للمسيح في مقابل هذا العمل العجيب الذي صنعه. إن أموال
العالم كله لا تساوى شيئاً في مقابل هذا الخلاص العجيب.

 

قصة:

تقدم
خادم من خدام الله إلى أحد صيادي اللآلئ ليخبره عن نعمة الله المخلصة. فتساءل
الصياد عن ثمن هذه البركة، وحاول الخادم عبثا أن يقنعه بأنها عطية مجانية يهبها
الرب لمن يطلبها.

 

وذهب
الخادم إلى بيت الصياد وهناك وقع نظره لؤلؤة صغيرة موضوعة في مكان ظاهر. فأعجب بها
الخادم وطلب أن يشتريها. فقال له الصياد إن هذه اللؤلؤة وإن كانت صغيرة الحجم ولا
تمتاز عن بقية اللآلئ إلا أنه لا يقدر ثمنها بمال، فان أردت أن تأخذها فاقبلها منى
هدية. فاندهش الخادم للغاية وتساءل عن السر في ذلك.

فأجاب
الصياد قائلا: إن ثمن هذه اللؤلؤة يساوي حياة ابني وحيدي الذي بمجرد صعوده من
أعماق المحيط قابضاً عليها بيده أسلم الروح.

 

وهنا
لمع وجه الخادم وتساقطت الدموع من عينيه وقال للصياد إن قصة اللؤلؤة هي قصة الخلاص
الذي كلف الله دم ابنه الوحيد، إذ نزل إلى أقسام الأرض السفلي وصنع خلاصاً في وسط
الأرض كلها عندما صعد على الصليب وأسلم الروح.. هذه هي النعمة المخلصة التي لا
تقدر بمال. فان شئت أن تأخذها اقبلها من يد الله كهدية.

 

وبهذا
استطاع الصياد أن يقدر قيمة هذه العطية المجانية، وقبل نعمة الله المخلصة، وفرح
قلبه بهذه الهدية الفائقة الثمن.

ليتك
يا أخي تقبل من اليد المثقوبة هذه العطية المخلصة.

 

ثانياً: عطية عمومية

يوضح
معلمنا بولس الرسول عمومية هذه العطية، أي النعمة بقوله: “إن كان بخطية واحد
(وهو آدم) مات كثيرون فبالأولى كثيراً نعمة الله والعطية بالنعمة التي بالإنسان
الواحد يسوع المسيح قد ازدادت للكثيرين.. فإذن كما بخطية واحدة (أي خطية آدم)، صار
الحكم إلى جميع الناس للدينونة. هكذا يبر واحد (وهو المسيح) صارت الهبة إلى جميع
الناس لتبرير الحياة.” (رو15: 5-21).

فبولس
الرسول يوضح أنه بخطية آدم حكم عليه بالموت وورث الجنس البشرى كله هذا الحكم..
فبالقياس نرى أن بر المسيح قد برر الجنس البشرى كله “لأنه قد ظهرت نعمة الله
المخلصة لجميع الناس.” (تى11: 2).

فلا
تقل في نفسك أن الله لم يعطني هذه النعمة، فنعمة الخلاص معروضة على جميع الناس،
الأغنياء والفقراء، العلماء والجهلاء، الشرفاء والأدنياء.

ويذكر
لنا الكتاب عينات كثيرة من هؤلاء وأولئك الذين تمتعوا بالنعمة.

 

1-
فمن الأغنياء:

يذكر
يوسف الرامي إذ يقول “جاء رجل غني من الرامه اسمه يوسف وكان هو أيضاً تلميذاً
ليسوع.” (مر57: 27). وبرنابا الذي باع حقله (أع37: 4) وآخرين قال عنهم الكتاب
المقدس: “كل الذين كانوا أصحاب حقول أو بيوت كانوا يبيعونها ويأتون بأثمان
المبيعات ويضعونها عند أرجل الرسل.” (أع34: 4).

 

وتاريخ
الكنيسة يذكر الكثيرين من الأغنياء الذين تركوا مقتنياتهم بعد أن تمتعوا بنعمة
الله مثل القديس الأنباء أنطونيوس الذي ورث 3000 فدان وحسبها نفاية ليربح المسيح.

ولم
يكن الأغنياء فحسب هم الطبقة التي حظيت بالنعمة ولكننا نجد:

 

2-
فقراء:

كثيرون
من الفقراء تمتعوا بهذه النعمة أيضا فالله لا يفرق بين غنى وفقير، فما كان
التلاميذ سوى جماعة من صيادي السمك الفقراء، وتاريخ الكنيسة حافل بالقديسين
الفقراء كالأنبا إنيانوس أول بطاركة الإسكندرية بعد مار مرقس الكاروز، فقد كان
إسكافياً بسيطا.

 

3-
أما عن العلماء:

الذين
خضعوا لنعمة الله المخلصة فيذكر لنا الكتاب الكثيرين، منهم القديس بولس الرسول
فيلسوف المسيحية، والقديس لوقا الطبيب البشير. كما يذكر تاريخ الكنيسة شخصيات
كثيرة من العلماء مثل القديس أغسطينوس فيلسوف أوروبا في العصر الوسط، والقديس
جيروم والقديس يوحنا ذهبي الفم والأنبا أرسانيوس معلم أولاد الملوك، والعالم
الفلكي ديوناسيوس الأريوباغي.

 

4-
أما الجهلاء:

الذين
قبلوا فيض النعمة فالكتاب يرينا بكل وضوح أن “الله اختار جهال العالم ليخزى
الحكماء” (1كو27: 1). فما كان تلاميذ مخلصنا الذين فاضت فيهم النعمة سوى
جماعة من صيادي الجليل البسطاء. ويعوزنا الوقت لو تحدثنا عن قديسين بسطاء في تاريخ
الكنيسة كان لهم نصيب في نعمة المخلص أمثال القديس بولس البسيط تلميذ القديس
أنطونيوس، الذي كانت له دالة قوية على الله حتى كان بنعمته يجرى المعجزات ويخرج
الأرواح الشريرة. والأنبا ديمتريوس بابا الإسكندرية، ما كان إلا فلاحاً في الكروم،
ولذلك فقد عرف في التاريخ بالأنبا ديمتريوس الكرام. هذا الكرام وهبته النعمة حكمة
حتى وضع التقويم القبطي المعروف بتقويم الكرمة.

 

5-
ومن الشرفاء:

الذين
قبلوا نعمة الله يذكر الكتاب كرنيليوس قائد المئة (أع1: 1048) وسجان فيلبى (أع25:
1634) وتاريخ الكنيسة ملئ بمثل هذه الشخصيات كالملكة هيلانه والملك قسطنطين،
ومكسيموس ودوماديوس، والقديسة دميانه ابنة والى البرلس، والقائد الروماني مار
جرجس..

 

6-
أما عن الأدنياء:

الذين
تفاضلت نعمة الله عليهم حتى انطبق عليهم قول بولس الرسول “اختار الله أدنياء
العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود” (1كو28: 1). فقد ذكر الكتاب
أمثلة كثيرة منها اللص اليمين الذي قضى كل أيامه في الإجرام وفي الجرام ولكنه عزما
قبل النعمة المخلصة دخل فردوس النعيم (لو40: 23-43). وأنسميس الذي كان عبداً
للقديس فليمون وسرق أمواله فعندما قبل النعمة تغير إلى شخص آخر حتى قال عنه بولس
الرسول:

 

“أطلب
إليك لأجل أبني أنسيمس الذي ولدته في قيودي. الذي كان قبلا غير نافع لك. ولكنه
الآن نافع لك ولى” (رسالة فليمون11: 10). ويذكر الكتاب أيضاً مريم المجدلية
والمرأة الخاطئة والتي أمسكت في زنا. ويذكر تاريخ الكنيسة الكثيرين والكثيرات
أمثال القديس موسى الأسود الذي كان قاطعاً للطريق، ومريم المصرية التي باعت نفسها
للاثم وعندما تلامست معها النعمة تغيرت إلى قديسة فاضلة.

 

من
هذا يتضح لك يا أخي أن نعمة الله معروضة على الجميع كما يقول الرسول “قد صارت
الهبة إلى جميع الناس” (رو18: 5). فليتك يا عزيزي تقبل نعمة الله المجانية
لتختبر محبة الله الفائقة.

 

حذار
من أن ترفض هذه النعمة! فان قصد الله من وراء ذلك هو مصلحتك ومصلحتك الشخصية. إن
الله لا يريد أن يأخذ منك شيئاً بالمرة وإنما يريد أن يعطيك ومجاناً هذه العطية
المباركة. وكم أخشى أن ترفض الآن أخذ هذه النعمة فتندم أخيراً حيث لا ينفع الندم.

 

قصة:

قرأت
قصة عن أحد خدام الله.. أنه ذهب يوماً ما لزيارة امرأة فقيرة كان يعرف احتياجاتها.
وحثه الرب أن يقدم لها مساعدة تكفي لسد هذه الاحتياجات. وعندما قرع الباب لمدة
طويلة ولم يفتح أحد، انصرف ظانا أنها غير موجودة. وفي اليوم التالي تقابل معها في
الكنيسة وأخبرها عن زيارته لها وغرضه من ذلك. فتأسفت المرأة جداً وقالت له
“آه يا سيدي لقد كنت في المنزل وسمعت قرعاتك ولم افتح الباب. لقد ظننت أنك
صاحب المنزل قد أتيت لتطالبني بالأجرة

أخي
الحبيب.. يسوع يقرع على باب قلبك ليعطيك النعمة فهل تفتح؟.

ثالثاً:
ليست من أعمال بشرية

 

إذ
قد وضحنا أن النعمة هي عطية مجانية، فمعنى ذلك أنها ليست من أعمال بشرية. ويؤيد
هذه الحقيقة كثير من الآيات الكتابية وأقوال الآباء القديسين.

فبولس
الرسول يقول “فإن كان بالنعمة فليس بعد بالأعمال وإلا فليست النعمة بعد
نعمة” (رو6: 11). ويعود أيضاً ليزيد الأمر إيضاحاً فيقول: “لا بأعمال في
بر عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا.. حتى إذا تبررنا بنعمته نصير ورثة حسب رجاء
الحياة الأبدية.” (تى5: 3-7).

 

ويوضح
الرسول السر في هذا، وهو منع الافتخار. لأن الإنسان إن كان يخلص بأعماله فيحق له
أن يفتخر لأن ذراعه قد خلصته ولكن الرسول يقول في صراحة لا تحتمل التأويل
“لأنكم بالنعمة مخلصون بالإيمان. وذلك ليس منكم. هو عطية الله. ليس من أعمال
كيلا يفتخر أحد”(أف8: 2،9).

 

ويقول
بولس الرسول أيضاً: “ليس لي برى الذي من الناموس بل الذي بإيمان المسيح البر
الذي من الله بالإيمان.” (فى9: 3).

 

ويعود
فيقول: “إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس بل بإيمان يسوع المسيح
آمنا نحن أيضاً بيسوع المسيح لنتبرر بإيمان يسوع لا بأعمال الناموس. لأنه بأعمال
الناموس لا يتبرر جسد ما.” (غل16: 2).

 

أخشى
يا أخي أن تكون وأنت مسيحي تعيش كما كان اليهود يعيشون. فتعتمد على مجرد تأديتك
لبعض فرائض العبادة دون أن تكون لك العلاقة الشخصية المبنية على بر المسيح ودون أن
يكون لك الاتكال الفعلي على عمل النعمة المجاني فالرسول يقول “القوا رجاءكم
بالتمام على النعمة التي يؤتى بها إليكم”. (1بط13: 1).

اسمع
ما قاله الآباء في هذا الصدد وليت الرب يعطيك نعمة لتفهم وتختبر ما اعتبروه:

 

..
كانوا أشراراً ومستعبدين لكنهم تحرروا ليس بمجهوداتهم الشخصية ولكن بالنعمة.. لم
تكن توجد أي قوة بشرية تستطيع أن تحررنا من شرورنا لكن شكراً لله الذي أراد
واستطاع أن ينجز هذا العمل الجليل.

(يوحنا
ذهبي الفم)

(N. & P. Fathers 1st Ser, Vol. X1 P. 412).

 

“إن لم تشرق علىَّ
رأفتك يا الله سريعاً فليس لي من أعمالي ولا رجاء واحد للخلاص” (مار افرام
السرياني).

[كتاب
السبع طلبات لمشاهير قدسي الكنيسة ص46 طبع دير السرياني]

“وبأعمالي
ليس لي خلاص.. فلهذا أسأل بعين رحيمة يأرب أنظر إلى ضعفي وزلي ومسكنتي. [الأجبية
صلاة نصف الليل]

“ويصبح
الإنسان لابساً لله.. وحينئذ تنفتح عينا قلبه وينظر النور الحقاني ويفهم أن يقول
“إني بالنعمة تخلصت بالرب يسوع المسيح”

(القديس
برصنوفيوس بستان الرهبان ص 181.)

 

إن
الإنسان لا يتبرر بمظاهر حياة القداسة وإنما بالإيمان بالرب يسوع، أي ليس بالأعمال
بل بالإيمان، وليس بالأعمال الصالحة بل بالنعمة المجانية.” (القديس أغسطينوس)

(N. P. Frs 1st. ser. Vol.5 P. 92)

“لا
تشك إذن فالخلاص بالإيمان وليس بالأعمال”.

(القديس
يوحنا ذهبي الفم)

(NP. Frs 1st. ser. Vol. X1 P. 378)

 

 ولكن
ليس معنى هذا أن الذي يخلص بالنعمة لا يهتم بالأعمال الصالحة. فبولس الرسول إذ
قال: “لا بأعمال في بر عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا” (تي5: 3).
أكمل حديثه قائلاً: “وأريد أن تقرر هذه الأمور لكي يهتم الذين آمنوا بالله أن
يمارسوا أعمالا حسنة” (تي8: 3). بل علي العكس فإن من يخلص بالنعمة يخلق خليقة
جديدة فيترك أعماله الشريرة ويسلك في أعمال صالحة.

 

لهذا
فقد حرص بولس الرسول أيضاً بعد قوله: “بالنعمة أنتم مخلصون بالإيمان وذلك ليس
منكم هو عطية الله. ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد”. (أف8: 2،7)..

أكمل
قائلا “لأننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله
فأعدها لكي نسلك فيها.” (أف10: 2).

 

ومن
أجمل ما قاله بولس الرسول: “لأنه قد ظهرت نعمة الله المخلصة لجميع الناس
معلمة إيانا أن نكرر الفجور والشهوات العالمية ونعيش بالتعقل والبر والتقوى في
العالم الحاضر.” (تى11: 2،12).

 

فغاية
ما نريد أن نوضحه أن الخلاص لا يكون بواسطة أعمالك فأعمالنا لا تستطيع أن توفي عذل
الله وذلك لأنه:

إذ
أخطأنا إلى الله غير المحدود صارت خطيتنا غير محدودة

والخطية
غير المحدودة تستلزم عقوبة غير محدودة

والعقوبة
غير المحدودةتحتاج لكفارة غير محدودة

 

وأعمالنا
الصالحة مهما كانت فهي محدودة. لهذا فهي لا تستطيع أن تكفر عن خطيتنا غير
المحدودة.

 

فمن
ذلك نستخلص أنه لا توجد كفارة لخطايانا سوى المسيح غير المحدود الذي يخلصنا من
عقوبة خطايانا الغير محدودة “ليس بأحد غيره الخلاص لأن ليس اسم آخر تحت
السماء قد أعطى بين الناس به ينبغي أن نخلص.” (أع12: 4).

هذا
ولا يمكن أن تكون هناك مغفرة للخطايا بدون سفك دم كما يقول الكتاب “بدون سفك
دم لا تحصل مغفرة” (عب22: 9). والأعمال البشرية ليس فيها سفك دم! حتى وإن سفك
الإنسان دماً،كأن يقدم ذبيحة حيوانية، فهذا أيضا لا يصلح لمغفرة الخطايا إذ يقول
بولس الرسول “لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا” (عب4: 10). أما
الذبائح الحيوانية قديماً فكانت رمزاً لذبيحة المسيح علي الصليب، فماعدا الذبائح
الحيوانية في العهد القديم قيمة في غفران الخطايا.

 

فمن
هذا يتضح لنا أن الأعمال البشرية مهما عظمت لا تستطيع أن تكفر عن أية خطية مهما
صغرت. فلا يوجد سوى “وسيط واحد بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح الذي
بذل نفسه فدية لأجل الجميع” (1تى5: 2،6).

فشكراً
لله الذي إذ وجد أن أمر خلاصنا يتطلب سفك دمه، بذل ابنه الوحيد ليتمم لنا هذا
العمل الجليل.

 

كان
هذا عن استحالة الخلاص من قصاص الخطية بواسطة أية أعمال بشرية. أما بخصوص الخلاص
من سلطان الخطية وقوتها، التي كثيراً ما يشكو منها الجميع فنقول أيضاً أن الأعمال
البشرية لا تستطيع أن تخلص منها.

 

كثيرون
يقولون إننا نؤمن أن المسيح غفر خطايانا، وأنه مستعد أن يغفر كل زلاتنا، ولكن ما
يحزننا هو عدم استطاعتنا السلوك بالقداسة. فكلما حاولنا أن ننتصر نجد أنفسنا
ساقطين تحت سلطان الخطية تماماً كما قال بولس الرسول “الإرادة حاضرة عندي
وإما أن أفعل الحسنى فلست أجد” (رو18: 7). وهذا هو ما يفشلنا من الحياة مع
المسيح.

 

أقول
لك يا أخي إن محاولة تهذيب نفسك بالوسائل المختلفة، لا يجدي نفعاً مع طبيعتنا
الفاسدة الساقطة، إذ سرعان ما تعود النفس إلى قيئها. يتضح ذلك من القصة الآتية
التي قرأتها في بستان الروح.

 

القصة تقول:

ذكر
عن أب راهب كان ساكناً في دير، مداوماً على الصمت، لكنه كان يغضب في بعض الأحيان
أثناء اتصالاته ببعض الاخوة. فقال في نفسه “أمضى واسكن وحدي في مغارة وحيث لا
يكون هناك أحد ساكناً معي فسوف أهدأ ويخف عني وجع الغضب”. فخرج وسكن وحده في
مغارة. وفي إحد الأيام ملأ (القلة) ماء ووضعها على الأرض، ولوقتها تدحرجت وانسكب
ما فيها. فأخذها وملأها ثانية ووضعها. فانسكبت كذلك، وهكذا مرة ثالثة. فغضب
وأمسكها وضربها على الأرض فتحطمت.

فلما
هدأ ورجع إلى ذاته.. وقال لنفسه “هوذا قد انغلبت وأنا في الوحدة كذلك. فلأذهب
إلى الدير لأنه في كل موضع يحتاج الإنسان إلى معونة من الله.”

[بستان
الروح الجزء الأول ص 368- تأليف الراهب القمص شنوده السرياني.]

 

من
هذه القصة يتضح لنا حقيقة النفس البشرية فلقد حاول الراهب أن يهذب نفسه بالصمت
والابتعاد عن الناس وعاش في وحدة، ورغم ذلك فلا زالت طبيعته في الداخل كما هي، لم
تتغير. فتحقق أخيراً أنه محتاج إلى معونة الله أي إلى النعمة المخلصة.

 

فالنعمة
تقوم بتغيير القلب من الداخل حتى تصدر منه الصالحات، كما قال رب المجد
“الإنسان الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصالحات”(لو45: 6). ولهذا فقد
وضح أيضاً الرب حقيقة في غاية الأهمية بخصوص هذا الموضوع إذ قال “لا تقدر
شجرة ردية أن تصنع أثمار جيدة” (مت18: 7). لهذا فمن العبث أن نطلب من القلب
الردئ أن يصنع أثماراً جيدة، إذ يلزم تغييره أولا ومن أجل ذلك قال رب المجد
“اجعلوا الشجرة جيدة (لتكون) ثمرها جيداً” (مت22: 12).

 

وهنا
يعترضنا سؤال جوهري: فكيف يمكن تغيير هذا القلب؟ حقاً إنها مشكلة عويصة! فلا يمكن
أن يتغير القلب إلا بمعجزة إلهية! نعم الأمر يحتاج إلى معجزة ينزع بها الرب القلب
القديم ويضع عوضاً عنه قلباً جديداً. هذا العمل هو الذي وضحه بقوله “أعطيكم
قلباً جديداً وأجعل روحاً جديدة في داخلكم. وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب
لحم. وأجعل روحي في داخلكم” (حز26: 36).

هذا
العمل لازم لكل نفس تريد أن تسلك في وصايا الله وتحيا بالقداسة. وإذ قد عرف هذا
الأمر داود النبي نراه يصرخ للرب طالباً إجراء هذه العملية المعجزية فيقول
“قلباً نقياً اخلق في يا الله وروحاً مستقيما جدد في داخلي” (مز10: 51).
ولا ولابد أن داود قد سمع بما حدث مع شاول الملك عندما دعاه الرب إذ قال له على
لسان صموئيل النبي “يحل عليك روح الرب.. وتتحول إلى رجل آخر” (1صم6: 10).

 

ويسجل
الكتاب إجراء هذه العملية له فيقول “وكان عندما أدار كتفه لكي يذهب من عند
صموئيل أن الله أعطاه قلباً آخر” (صم9: 10)

ولكن
كيف تجرى هذه العملية؟ يوضح الكتاب الطريقة التي بها تتم في معرض حديثه عن الجماعة
التي تبعت شاول الملك بعد التغيير فيقول “وذهب معه الجماعة التي مس الله
قلبها” (1صم26: 10).

آه
يا أخي ليت الله يمس قلبك الآن فتتحول إلى رجل آخر!!

 

قصة:

هناك
أسطورة تقول إن أحد الملوك اصطحب وزيره في نزهة خلوية فمرا على بركة بها خنازير
تتمرغ في الوحل وتأكل الرمم. فقال الوزير للملك هل تستطيع يا جلالة الملك أن تغير
طبع الخنزيرة حتى تبغض الوحل وتكره الرمم. فأجاب الملك بأن ذلك أمر هين، فإذا
تعودت الخنزيرة على النظافة تهذب طبعها وأبغضت القاذورات. فطلب الوزير من الملك أن
يجرى هذه التجربة. فأرسل الملك واستحضر خنزيره، وأمر بأن تطعم من أطايب الملك ومن
طيب مشروبه، وأن تغسل بالماء والصابون يومياً، وتكسى بأفخر الثياب. وبعد مدة من
الزمن ظن الملك أن الخنزيرة قد تغيرت طبيعتها، وتعودت النظافة، فصحب الوزير وأخذا
الخنزيرة إلى البركة، وما أن اقتربت الخنزيرة من البركة حتى اندفعت بكل قوتها
لتتمرغ في الطين والوحل الذي حرمت منه هذه المدة الطويلة. فاندهش الملك وطلب من
الوزير أن يجرى تجربة على الخنزيرة نفسها.. وفي اليوم المعين توجه الملك مع الوزير
وأخذا الخنزيرة بعد أن قضت في بيت الوزير أياماً قليلة. اقتربوا من البركة وأبت
الخنزيرة النزول. أمر الملك بدفعها إلى الوحل فقاومت الخنزيرة وأسرعت إلى الشاطئ
لتنفض عن جسمها ما لحق بها من الطين. فتعجب الملك وسأل من الوزير عن سر ذلك. فأجاب
الوزير بأنه قد أجرى عملية جراحية للخنزيرة واستأصل قلبها الفاسد ووضع محله قلب
حمل وديع. وبهذا تغيرت الخنزيرة وأبغضت القذارة.

 

أخي..
لعلك تدرك أنه لا فائدة من تهذيب القلب القديم الفاسد بل الحاجة ماسة إلى إجراء
عملية لاستئصاله وزرع قلب جديد. لهذا حرص آباء الكنيسة على وضع هذه الطلبة في
بداية كل صلاة من صلوات النهار السبعة عندما يصلى المؤمن المزمور الخمسين (51 في
طبعة بيروت) فيطلب قائلا “قلباً نقياً اخلق في يا الله وروحاً مستقيماً جدد
في داخلي”. فليتك تطلب من الرب إجراء هذه العملية لقلبك وهو مستعد أن يعطيك
كل ما تطلب.

 

ومتى
حصلت على هذا القلب الجديد ستتغير ميولك وأهدافك، وتصرفاتك ستحب المسيح بكل قلبك.
وستبغض الخطية وتتجنبها وتبتعد عنها. ستقاوم إبليس وتغلبه بقوة المسيح وإن تعثرت
تقوم في الحال ولا تستسلم للسقوط بل يكون شعارك “لا تشمتي بي يا عدوتي
(الخطية) إذا سقط أقوم” (مى8: 7).

 

هذا
القلب الجديد سيحب الله والمسيح ويتعلق به، ولن يشبع من الحديث معه وسماع صوته
ومجالسته. هذا القلب الجديد سيحب الناس ويشتاق إلى خلاص نفوسهم، لن توجد بين هذا القلب
وبين الناس خصومات، بل يسعى إلى خلاصهم والتفاني في خدمتهم.

آه
يا أخي ليتك تختبر هذا الأمر العجيب.

ونصيحتي
لك أن تصارع مع الرب كما صارع يعقوب لأخذ البركة ولا بد أن يعطيك الرب.

 

الفصل الثاني: عمل
النعمة

“بالنعمة أنتم مخلصون” (أف5:
2).

أولاً: التبرير

ثانياً: التقديس

ثالثاً: التمجيد

في
بداية القرن الخامس الميلادي ظهرت في بريطانيا الهرطقة البيلاجية
Pelagianism نسبة إلى مبتدعها الراهب الإنجليزي Pelagius
الذي نادى بعدم احتياج البشر للنعمة المخلصة، وبأن للإنسان قدرة ذاتية طبيعية
تمكنه من الخلاص والوصول للكمال بمجهوداته الشخصية دون تدخل من جانب النعمة.

وقد
عقدت عدة مجامع كنسية شجبت هذه البدعة، وأكدت أن الإنسان في مسيس الحاجة لنعمة
المسيح التي بدونها لا يستطيع أحد أن يخلص.

وقد
انبرى القديس أوغسطينوس مفنداً هذه الهرطقة ومثبتاً أنه لا خلاص إلا بالنعمة
الموهوبة من الله. وقد جمعت كتاباته ضد هذه الهرطقة في مجلد بلغ حجمه 750 صفحة.

 (N.P.Fars Ser. Vol. 5).

 

وعلى
منوال هذه البدعة نسج كثيرون من المدعين على مر العصور، محاولين إنكار عمل النعمة
كلية أو التقليل من شأنها. وحتى لا نحيد عن جادة الصواب دعنا نرجع إلى الكتاب المقدس
وأقول آباء الكنيسة القديسين لنعرف عمل النعمة المخلصة ويشمل:

التبرير:

التقديس:

التمجيد:

 

أولاً: التبرير

للتبرير
اتجاهان: تبرير أمام الله، وتبرير أمام الناس.

 

التبرير
أمام الله

وهو
من عمل النعمة البحت ولا دخل لعمل الإنسان في تبريره أمام الله، فما عليه إلا أن
يتوب ويثق في بر المسيح حتى ينال هذه النعمة. والتبرير أمام الله نعمة فائقة تشمل:

 

(أ)
ستر خطايانا: أي مغفرتها. فكلمة ستر هي نفس كلمة (غفر).{كتاب صلاة الشكر لقداسة
الأنبا شنوده الثالث ص19}

ففي
صلاة الشكر نرفع قلوبنا لله شاكرة نعمته (لأنه سترنا) أي غفر خطايانا. وغطاها فلم
تظهر أمام العدل الإلهي.

 

وعن
هذه النعمة قال الكتاب “طوبى للذين غفرت آثامهم وسترت خطاياهم” (رو7:
4). فالغفران إذن هو ستر خطايانا بحجاب الفادي، فيغض الله الطرف عنها لأن المسيح
“كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم” (1يو2: 2).

 

(ب)
محو خطايانا: فالتبرير لا يشمل فقط الغفران بمعنى ستر الخطية فحسب، وإنما يشمل
أيضاً محوها وهذا من عمل النعمة أيضاً إذ يقول داود النبي “استر وجهك عن
خطاياي وامح كل آثامي” (مز9: 51). وقال الرب عن لسان أشعياء النبي “قد
محوت كغيم ذنوبك وكسحابة خطاياك” (أش22: 44). وأيضاً “أنا أنا هو الماحي
ذنوبك لأجل نفسي، وخطاياك لا أذكرها” (أش25: 43). وهذا أيضاً هو عين ما وضحه
بطرس الرسول إذ قال “توبوا وارجعوا لتمحى خطاياكم” (أع19: 3). وبولس
الرسول يصف عمل المسيح الفدائي بقوله “محا الصك الذي علينا” (كو14: 2).

ونعمة
محو خطايانا تتم في دم المسيح إذ يطهرنا من كل خطية “إن اعترفنا بخطايانا فهو
أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم”(1يو9: 1).

فشكراً
لله على هذه النعمة العظيمة.

 

قصة:

تعاملت
النعمة مع أحد الخطاة حتى سقط تحت التبكيت، واعتراه الحزن واليأس. وفي الليل كشف
الرب عن عينيه ليرى هذه الرؤيا.. نظر فوجد أمامه لوحة كبيرة سوداء. ولما اقترب
منها عرف أن ما كتب عليها بالأسود هي خطاياه الكثيرة. فصار يبكى وينتحب. وبينما هو
على هذا الحال، إذ به يرى يداً مثقوبة تسيل بالدماء وتسير على اللوحة من فوق إلى
أسفل، فلاشت كل ما كان مكتوباً عليها، وصارت بيضاء كالصوف النقي. وقد كتبت عليها
“محوت كغيم ذنوبك وكسحابة خطاياك” وقام من نومه وإذا بشمس الأحد تمزق
ستائر الظلام، فأسرع إلى الكنيسة وتقدم إلى أبيه الروحي الذي قدمه إلى سر الشركة
المقدسة بعد أن استمع إلى اعترافه وأعطاه الحل من خطاياه. وصار له سلام في الداخل
“وفرح لا ينطق به ومجيد” (1بط8:).

 

(ج)
عدم حسبان خطايانا علينا:

تأمل
يا أخي هذا الامتياز المدهش فالله لا يستر خطايانا فقط، ولا يمحوها فحسب، بل ما هو
أعظم من ذلك، إذ أنه لا يحسبها علينا مطلقاً. فمعلمنا بولس الرسول يقول “إن
الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم” (2كو19:).

 

كيف
يكون هذا؟ ولماذا لا يحسبها الرب علينا مع أننا نحن قد ارتكبناها؟ إن السبب في ذلك
هو أن خطايانا قد حسبت على المسيح شخصياً. كما يقول أشعياء النبي “كلنا كغنم
ضللنا. ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا”(أش6: 53). وبولس
الرسول يقول “لأنه جعل الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا، لنصير نحن بر الله
فيه”(2كو21: 5).

 

أنسيمس العبد:

أنسيمس
هذا كان عبداً عند أحد تلاميذ بولس الرسول ويدعى فليمون. سرق هذا العبد بعض
الأموال من سيده وهرب. ثم تقابل مع بولس الرسول وتجدد على يديه معترفا بخطاياه
تائباً عنها. فكتب بولس الرسول رسالة إلى فليمون وسلمها لأنسيمس لتوصيلها. وقد كتب
فيها “إن كان (أنسيمس) قد ظلمك بشيء، أو لك عليه دين. فاحسب ذلك على. أنا
بولس كتبت بيدي أنا أوفي” (فليمون18). فهل بعد هذا يعود فليمون ويطالب أنسيمس
بالدين؟ كلا. فقد دفعه بولس، ونحن نعلم أن الدين لا يدفع مرتين.

 

هذا
ما صنعه يسوع معنا، فإذ كنا مديونين للعدل الإلهي وفًّي يسوع الدين كله على خشبة
الصليب. فلا يحسب الرب علينا خطية.

 

(د)
حسبان بر المسيح:

إن
للتبرير معنى أعظم بكثير من مجرد الغفران والمحو، وعدم حسبان الخطية علينا، فهذه
كلها أمور سلبية لتطهير المؤمن من نتائج الخطية. فإن أسمى ما في التبرير هو
الناحية الإيجابية أي حسبان بر المسيح لنا. يوضح ذلك معلمنا بولس الرسول في قوله
“جعل الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا. لنصير نحن بر الله فيه” (2كو20:
5).

 

وقد
علق على ذلك القديس يوحنا ذهبي الفم بقوله: (إن الرسول لم يقل “جعل البار
خاطئاً. ليصير الخطاة أبراراً ولكنه قال ما هو أسمى من ذلك بكثير. ولم يقل جعل
الذي لم يخطئ بل الذي لم يعرف خطية. جعله لم يقل خاطئاً بل جعله خطية لنصير نحن
ليس أبراراً بل براً وبر الله. فهذا هو بر الله أننا لم نتبرر بالأعمال بل بالنعمة
حتى أن جميع خطايانا قد محيت. وهذا الأمر لا يدفعنا إلى الكبرياء، إذ أن الكل عطية
مجانية من الله، وفي نفس الوقت ترينا عظمة ما حصلنا عليه)

(N.P.Frs 1st. Ser. Vol. X11 P. 33)

 

ويعود
معلمنا بولس الرسول فيقول: “متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح
الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السابقة
بإمهال الله وإظهار بره في الزمان الحاضر ليكون باراً ويبرر من هو من الإيمان
بيسوع” (روو24: 3-26).

 

ويعلق
على ذلك القديس يوحنا ذهبي الفم قائلا ما هو إظهار البر؟ إن إظهار البر يشبه إظهار
الغنى، فالغنى هو ليس أنه غنى فحسب بل أنه يغنى الآخرين. ومثل إظهار الحياة، ليس
أنه حي فحسب بل إنه يعطى الأموات حياة. ومثل إظهار قوته، ليس أنه قوى فحسب بل إنه
يعطى الضعفاء قوة.

 

فهكذا
أيضاً في إظهار بره، ليس أنه بار فحسب، بل إنه جعل المملوئين فساداً ونتانة أن
يصيروا أبراراً..

 

ولكي
يوضح ذلك أي (إظهار بره) أضاف قائلا: (ليكون باراً ويبرر من هو من الإيمان بيسوع)
فلا تشك إذن لأن التبرير ليس بالإعمال بل بالإيمان فلا يفوتك بر الله، إذ أنه
امتياز له صفتاه:

سهولة
الحصول عليه.

وعموميته
للجميع.

فلا
تتوان ولا تخجل، فإذ قد أظهر أنه هو نفسه الذي يقوم بهذا العمل، وهو بالتأكيد يجد
فيه مسرة وفخراً، فلماذا تغتم أنت وتخزى من الأمر الذي يتمجد به سيدك؟!

(N.P.Frs 1st. Ser. Vol.X1 P.377, 378)

 

 هذه
هي عظمة التبرير. ولقد قامت ضد هذا التعليم السامي هرطقات عديدة تقلل من شأن هذه
النعمة وتجعل للتبرير ركيزة أخرى غير دم المسيح، الأمر الذي يهين الله، ويطعن في
كفاية كفارة المسيح. لهذا قام آباء الكنيسة بردع المدعين المبتدعين وإليك بعض
أقوالهم في هذا الصدد.

 

يتساءل
القديس أوغسطينوس قائلا: (ما معنى قول الرسول “متبررين مجاناً بنعمة”
وماذا يقصد بقول “لأنكم بالنعمة مخلصون” وحتى لا يظن أحد أن الخلاص
بالأعمال يضيف الرسول قائلاً “بالنعمة أنتم مخلصون بالإيمان” وخشية أن
يفكر أحد أن الإيمان عمل بشرى مستقل عن النعمة، يوضح الرسول أن الإيمان هو أيضاً
من عمل النعمة بقوله “وذلك ليس منكم هو عطية الله”(أف8: 2).

(N. P. Frs 1st. Ser. Vol.V P. 229,230)

 

وقال
أيضاً القديس أغسطينوس:

بدون
نعمة المسيح لا يمكن لصغير أو كبير أن يخلص، وهذه النعمة لا تعطى مقابل أي شئ صالح
وإنما هي مجانية

لهذا
فهي تسمى نعمة “متبررين مجاناً بنعمته” (رو24: 3).

(P. 122 1 bid)

 

وقال
أيضاً القديس أغسطينوس:

“إن
في هذا ثناء عظيما على النعمة أيها الأخوة، حتى تتعلم النفس الاتضاع، ويستد فم
الكبرياء. فليجب الآن إن استطاع أولئك الذين إذ يجهلون بر الله ويطلبون أن يثبتوا
بر أنفسهم لم يخضعوا لبر الله (رو3: 10).

إن
إجابتكم تتضمن الكفر عندما تقولون أن الله قد خلقنا ونحن نستطيع أن نصير أبراراً
بأنفسنا”

(N.P.F. Vol.7 P. 345)

 

وقال
أيضاً القديس أوغسطينوس:

دفاعاً
عن نعمة المسيح أرفع صوتي قائلا: بدون النعمة لا يتبرر أحد.

 (N.P.F.
Vol.5 P.142)

 

ومن
أجمل أقواله في هذا الصدد ما ختم به حديثه إذ قال “وختام القول أن الإنسان لا
يتبرر بمظاهر حياة القداسة وإنما بواسطة الإيمان بالرب يسوع. أي ليس بالأعمال بل
بالإيمان، ليس بالأعمال الصالحة بل بالنعمة المجانية”.

(1 bil P. 92).

 

والقديس
يوحنا ذهبي الفم يقول:

 “إننا
لم نتبرر بالأعمال بل بالنعمة، حتى أن جميع خطايانا قد محيت. وهذا الأمر لا يدفعنا
إلى الكبرياء، لأن الكل عطية مجانية من الله.”

(N.P.F.1st. Ser. Vol.12 P. 334)

 

ومن
روائع أقوال ذهبي الفم ما قاله تعليقاً على قول بولس الرسول “لأن فيه معلن بر
الله بإيمان لا يمان كما هو مكتوب أما البار فبالأيمان يحيا” (رو17: 1).
فيقول:

وحتى
لا يشك أحد في إمكانية الخلاص والسلام يتكلم عن البر، ليس بر الإنسان بل بر الله،
ليظهر فيض هذا البر وسهولة الحصول عليه، إذ لا يحصل عليه الإنسان بالجهد والعمل بل
يقبله عطية من فوق. متطلباً شيئاً واحداً من جانبك وهو الإيمان.. وحتى لا يشك أحد
في صدق كلامه بأن الزاني والشرير والسارق لا يتحرروا فقط من العقوبة بل يصيروا
أبراراً، ولهم أسمى أنواع البر (أي بر الله ذاته) يدعم كلامه باستشهاد من العهد
القديم من سفر حبقوق الذي قال “أما البار فبالإيمان يحيا.” (حب4: 2).

(N.P.F 1st. Ser Vol. 12 P.349)

 

ملحوظة:

إن
اختبار التبرير هذا لا يمكن أن يفهم منه أن الإنسان طالما قد تبرر بالإيمان، وحسب
له بر المسيح، فيستبيح لنفسه الخطية ويتمادى فيها.. أو على الأقل يشجعه على الكسل
والتراخي وعدم الاكتراث هذا فكر خاطئ ولا يمكن أن يحدث للإنسان قبل المسيح
حقاً.وبولس الرسول قد ناقش هذا الموضوع فقال: “حيث كثرة الخطية ازدادت النعمة
جداً.. فماذا نقول. أنبقى في الخطية لكي تكثر النعمة. حاشا. نحن الذين متنا عن
الخطية كيف نعيش بعد فيها” (رو20: 5).

وكقاعدة
عامة: تبرير بلا تقديس يجعل الإنسان أشر من إبليس. وما أجمل ما قاله القديس يوحنا
ذهبي الفم في هذا الصدد. (لا تستسلم للكسل بحجة أن الكل بالنعمة، فالرسول يسمى
الأعمال الصالحة أيضاً نعمة لأنها تحتاج إلى قدرة علوية للقيام بها)

(N. P.F 1st. Ser Vol X1 P.345).

 

2-
التبرير أمام الناس

فالخاطئ
الذي حصل على التبرير لا بد وأن تظهر نعمة الله في حياته الجديدة، وأعماله
الجديدة، وبهذا يتبرر أمام الناس فزكا العشار بعد أن تقابل مع المسيح وقبله فرحاً،
قال للرب “هاأنا يارب أعطى نصف أموالي للمساكين وإن كنت وشيت بأحد أرد له
أربعة أضعاف” (لو1: 19-8). فكان هذا دليلا على خلاصه، لذلك قال له رب المجد
“اليوم حصل خلاص لهذا البيت” (لو9: 19).

فتبرير
المؤمن أمام الناس هو انطباعات تبريره أمام الله. فكما غفر له الله خطاياه عليه أن
يغفر للآخرين أيضاً “اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين
إلينا” (مت12: 6). وكما نال من الرب نعمة وإحسانا، لا بد وأن يعطى هو للآخرين
أيضاً بحسب مقدوره. وهذا ما وضحه معلمنا يعقوب في رسالته إذ قال “إن كان أخ
وأخت عريانين ومعتازين للقوت اليومي فقال لهما أحدكم امضيا بسلام استدفئا واشبعا،
ولكن لم تعطوهما حاجات الجسد فما المنفعة” (يع15: 2،16). وبهذا يكمل حديثه
قائلا “ترون إذن أنه بالأعمال يتبرر الإنسان لا بالإيمان وحده.” (يع24:
2).

وقد
وضح معلمنا بولس الرسول اتجاهي التبرير هذين (أمام الله وأمام الناس) في معرض
حديثه عن تبرير أبينا إبراهيم فوضح قائلاً:

 

التبرير
أمام الله بالإيمان في قوله:

“لأنه
ماذا يقول الكتاب. فآمن إبراهيم بالله فحسب له براً.. أما الذي يعمل فلا تحسب له
الأجرة على سبيل نعمة بل على سبيل دين. وأما الذي لا يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرر
الفاجر فإيمانه يحسب له براً. كما يقول داود أيضاً في تطويب الإنسان الذي يحسب له
الله براً بدون أعمال. “طوبى للذين غفرت آثامهم وسترت خطاياهم. طوبى للرجل
الذي لا يحسب له الرب خطية” (رو3: 48).

 

تبرير
أمام الناس بالأعمال في قوله:

“إن
كان إبراهيم قد تبرر بالأعمال فله فخر. ولكن ليس لدى الله”(رو2: 4). علماً
بأن القيام بأعمال البر هذه لا يقوم بها المؤمن من ذاته وإنما بعمل النعمة فيه إذ
يقول رب المجد “بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً”(يو5: 15). وبولس
الرسول يؤكد هذه الحقيقة بقوله “لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن
تعملوا من أجل المسرة” (فى13: 2).

وقد
أيد الآباء القديسون هذا المفهوم بكل جلاء كما نرى.

 

يقول
القديس أغسطينوس (فليجب أصحاب الأخلاق الرفيعة الذين يظنون أنهم ليسوا في حاجة لله
للقيام بالأعمال الصالحة! ألا يقاوم الحق أولئك الناس الفاسدة أذهانهم، والمرفوضون
من جهة الإيمان. (2تى8: 3). ما هذا الذي تقولونه يا من تخدعون أنفسكم؟). لماذا
تقولون أن الإنسان يستطيع أن يعمل البر بنفسه؟. فإن هذا هو قمة غروركم.. ولكن الحق
يناقض قولكم ويعلن “أن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته إن لم يثبت في
الكرمة”.

 

ومن
يتوهم أنه يستطيع أن يأتي بثمر من ذاته فهو ليس في الكرمة، ومن ليس في الكرمة فهو
ليس في المسيح، ومن ليس في المسيح فهو ليس مسيحياً.

(N. P. F. 1st. Ser. Vol. 7P. 345)

 

وقال
أيضاً تفتخرون بأعمالكم الحسنة كما لو كانت من صنعك، لأن الله هو العامل فيك هذه
الأعمال الصالحة “الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل
المسرة” (فى13: 2)..

(N. P. F. 1st. Ser. Vol 5P. 452)

 

وقال
أيضاً: “هذه الأعمال الصالحة التي تقوم بها ونكافأ عليها ترجع أيضاً إلى عمل
نعمة الله فيينا إذ قال الرب يسوع “بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً”

(1 bad P. 451)

 

ولقد
قرر مجمع آرليس
Arles الذي انعقد حوالي سنة 473م. ما يلي: (لابد من أن يقترن عمل
الإنسان وسعيه بنعمة الله).

 

{مذكرات
الكلية الإكليريكية هرطقة بيلاجبوس ص29 للقمص باخوم المحرقي (نيافة الأنبا
إغريغوريوس).

 

وما
أجمل ما قاله القديس يوحنا ذهبي الفم (إن الحديث عن النعمة لا يقلل من شان العزيمة
البشرية وإنما يهدم روح الكبرياء. إذن لا تستسلم للكسل بحجة أن الكل هو بالنعمة،
فان الرسول يسمى الأعمال الصالحة أيضاً نعمة لأنها تحتاج إلى قوة علوية للقيام
بها).

(N.P.Frs 1st. Ser Vol.X1 P. 345)

 

ثانياً: التقديس

التقديس
هو عملية مستمرة في حياة المؤمن تبدأ من وقت تبريره، وتستمر طيلة أيام حياته على
الأرض.وفي الوقت الذي نرى فيه التقديس نعمة إلهية موهوبة، ترى في نموه يحتاج إلى
مشاركة الإمكانيات البشرية التي يستطيع الإنسان أن يقدمها من جانبه. فعندما نناقش
هذين الجانبين.

 

1-
النعمة الإلهية

فالتقديس
نعمة موهوبة من الله لكل المؤمنين فان مقامهم أمام الله قديسون يتضح من قول بولس
الرسول لأهل روميه “إلى جميع الموجودين في روميه أحباء الله مدعوين
قديسين” (رو7: 1). وقد علق على ذلك القديس يوحنا ذهبي الفم بقوله (هذا هو
أعظم امتياز، ويظهر منه كيف تم التقديس. فيوضح أنه تم بالمحبة، إذ بعد أن قال الرسول
(أحباء) قال (مدعوين قديسين) ليظهر أن المحبة هي مصدر التقديس. لهذا فهو يدعو جميع
المؤمنين قديسين)

(N.P.F. 1st.
Ser. Vol X1 P. 341)
.

 

ويكمل
حديثه في هذا الموضوع عندما علق على قول الرسول (الله أبينا) في نفس الآية (رو7:
1). فيقول (عجباً ما أعظم حب الله، نحن الذين كنا أعداء، وكنا في خزي، أصبحنا فجأة
at once قديسين وأبناء.. وبما أن القداسة والتبني هما هبة من الله فلا
يمكن أن تزول حتى بالموت، وإنما تميز الإنسان على الأرض، وتصحبه في رحلته إلى
الأبدية)

(1 bid P. 342)

 

وحيث
أن المؤمن قد حسب له بر المسيح، فقد حسب له أيضاً قداسة المسيح. أي أن المسيح قد
أصبح له (براً وقداسة) كما يقول بولس الرسول “ومنه أنتم بالمسيح يسوع الذي
صار لنا حكمة من الله وبراً وقداسة وفداء” (1كو30: 1). وقد علق على هذه الآية
القديس يوحنا ذهبي الفم بقوله: “هذا الشرف لم يكن مصدره الإنسان بل المسيح
الذي صيرنا أبراراً وقديسين فهذا هو ما يعنيه بقول (صار لنا بر وقداسة).. فقد
صيرنا أبراراً وقديسين بإعطائه لنا الروح القدس. فمن المسيح تصدر كل
الأشياء”.

(N. P.F. Vol, X11 P.24)..

 

من
هذا نرى أن المؤمن يعتبر قديس لا لأنه قديس في ذاته بل على أساس تبريره وحسبان
قداسة المسيح له إذ يقول الرسول “فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع
مرة واحدة” (عب10: 10).

 

والمؤمن
قديس لأنه عضو في جسد المسيح، فقد تقدس بهذه العلاقة إذ يقول الرسول “لأننا
أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه” (أفسس30: 5). ولهذا نقول في القداس الإلهي
(القدسات للقديسين). {القداس الباسيلي}.

وهناك
عديد من الآيات تؤيد ذلك:

 

“إلى
كنيسة الله التي في كورنثوس المقدسين في المسيح يسوع المدعوين قديسين. مع جميع
الذين يدعون باسم ربنا يسوع المسيح في كل مكان لهم ولنا”(1كو2: 1).

وقد
علق على هذا القديس يوحنا ذهبي الفم بقوله:

“يذكر
الرسول الكورونثيين بنجاستهم التي خلصهم المسيح منها، ويقودهم إلى الاتضاع إذ يظهر
لهم بأنهم لم يتقدسوا بأعمالهم الصالحة بل بمحبة الله المترفقة”.

(N.P.F. 1st. Ser, Vol X11 P. 3)..

 

“بولس
رسول يسوع المسيح بمشيئة الله إلى القديسين الذين في أفسس والمؤمنين في المسيح
يسوع” (أف1: 1).

 

وقد
علق أيضاً على هذه الآية القديس يوحنا ذهبي الفم بقوله: (لاحظ أنه يدعو الرجال
والسيدات والأطفال والعبيد قديسين، فهذه الفئات التي يدعوها قديسين قد وضحها في
نهاية الرسالة إذ يقول “أيها النساء اخضعن لرجالكن” (أف22: 5). وأيضاً
“أيها الأولاد أطيعوا والديكم” (أف9: 6). وأيضاً “أيها العبيد
أطيعوا سادتكم” (أف5: 6). فالعلمانيون أيضاً يدعون قديسون)

(N.P.F. 1st. Ser. Vol.X111 P. 50)..

 

هذا
هو مقام المؤمن أمام الله، معتبر قديس في المسيح، لأنه أخذ مقام المسيح الذي قد
أخذ كل موقف الإنسان المدان (إذ صار خطية لأجلنا) وأعطاه موقفه الكامل من بر
وقداسة (لنصير نحن بر الله فيه) (وصار لنا بر وقداسة).

 

إن
مقامنا السامي هذا لا يقودنا إلى الكبرياء،بل إلى التواضع إذ أن هذه الامتيازات لم
يحصل عليها المؤمن بأعماله، وليست هي من ذاته، وإنما هي نعمة موهوبة مجاناً. لهذا
قال القديس يوحنا ذهبي الفم (يقود بولس الرسول أهل كورنثوس إلى الاتضاع إذ يظهر
لهم أن اعتبارهم قديسين ليس هو نتيجة أعمالهم الصالحة، بل نتيجة محبة الله
المترفقة).

(N.P.F.1st.
Ser. Vol 12. P. 3)
..

 

ويقول
بولس الرسول أيضاً في هذا الصدد”أين الافتخار. قد انتفى. بآي ناموس (تبررنا)
أبناموس الأعمال؟. كلا. بل بناموس الإيمان”(رو24: 3-28).

 

 

ومقامنا
السامي هذا هو مصدر تعزية وقوة مشجعة في نضالنا المقدس وحربنا الروحية. فان من
أكبر المفشلات، أن يشغلنا الشيطان بحالتنا الردية وحياتنا الضعيفة، ويحاول أن
ينسينا مقامنا السامي في المسيح، فهذا كفيل بأن يؤدى إلى الخيبة والفشل.

 

كما
أن هذا المقام السامي يقودنا إلى الحرص والحذر في كل ما نفتكر أو نتصرف أمام الله
والناس، بما يتناسب مع مقامنا ويطابق مركزنا. وهذا هو المبدأ الذي يجب أن نسير
عليه دوما.

 

قصة:

بينما
كان إحدى الأمراء ممتطياً جواداً له في حديقة القصر، عثر الجواد، فرقع الأمير من
عليه، إلا أن الضابط الذي كان سائراً بجانبه تلقاه على زراعة، فلم يلحق الأمير
أذى. نظر الأمير إلى الضابط الذي كان برتبة (صول) وقال له “أشكرك يا بك”
فسمع الملك وأسرع في الحال لرؤية نجله وهنأه بنجاته، ثم سأله “ماذا قلت لمن
أنقذك؟” أجاب الأمير “قلت له أشكرك يا بك” قال الملك “لقد
منحته لقب البكوية لأجل خاطرك. ولكن لا تنطق فيما بعد بعبارة مثل هذه، لأنك أمير
وولى عهد، وكل ما تقوله محسوب عليك. اذكر مقامك يا ابني” هذه نصيحة الملك
لابنه “اذكر مقامك ومركزك” أي تكلم وتصرف بما يليق ومركزك السامي ومقامك
الكبير.

هذا
ما يجب أن يتذكره كل مؤمن، فهو ابن الله بار وقديس في المسيح يسوع. فيجب أن يسلك
بالقداسة في حياته العملية.

 

أما
عن القداسة العملية في حياة المؤمن فهي أساساً من عمل المسيح في داخلنا بالروح
القدس، كما يقول يوحنا ذهبي الفم “صيرنا المسيح أبراراً وقديسين بإعطائه لنا
الروح القدس. فالمسيح هو مصدر كل شئ”.

(N.P.F.1st. Ser. Vol.12 P. 24).

 

 وقد أوضح الرب هذه
الحقيقة قديماً بقوله “أنا الرب مقدسكم” (لا8: 20).

 

وعمل
النعمة في التقديس يشمل:

 

(أ) التجديد:

التجديد
هو أول خطوة في التقديس، فلا يمكن أن توجد قداسة بدون تجديد القلب. فان محاولات
تهذيب النفس العتيقة عملية فاشلة. لهذا لزم تجديد الطبيعة كلية. وهذا التجديد هو
عمل النعمة البحت، إذ يقول الكتاب “لا بأعمال في بر عملناها نحن بل بمقتضى
رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس” (تى5: 3). وهذا التجديد
يحدث كما هو واضح في المعمودية. ولكن بعد أن يخرج الإنسان من المعمودية يكون عرضة
للسقوط وبهذا يعود قلبه إلى حالة الفساد بسب الخطية الجديدة. ومن أجل ذلك يحذرنا
بولس الرسول قائلا: “من يفسد هيكل الله فسيفسده الله”(1كو17: 3). وبطرس
الرسول أيضاً يقول: “هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة.”(2بط4:
1).

 

وبناء
على ذلك فقد قرر الآباء في مجمع قرطاجنة أن “دموع التوبة معمودية ثانية”
أي أنها تجدد القلب من الفساد الذي لحق به بعد المعمودية. ومن أجل ذلك أيضاً رتبت
الكنيسة أن نصلى في كل صلاة من السبع صلوات اليومية قائلين في المزمور “قلباً
نقياً اخلق في يا الله”(مز10: 51).

 

فان
كان قلبك قد أفسدته الخطية اطلب من الروح القدس أن يجدده مرة أخري.

 

(ب)
التطهير:

وهو
تنقية النفس من شوائب الشرور وآثار الخطية، وهي عملية تستمر مع المؤمن مدى حياته
على الأرض ويقوم بها الروح القدس نفسه لهذا فنحن نصلى في القداس الإلهي قائلين
“وصيرنا أطهاراً بروحك القدوس”.

[القداس
الباسيلي – صلاة التقديس]

 

 فان السر في عدم نقاوتنا
أننا لم نسلم أنفسنا للروح القدس لكي ينقينا بالإيمان كما قال معلمنا بطرس الرسول “معطياً
لهم الروح القدس إذ طهر بالإيمان قلوبهم” (أع9: 15). ولكن إذ نسلم ذواتنا
للروح القدس يقوم هو بتطهيرها وتنقيتها حتى أن الخطية تصبح مكروهة جداً ومبغوضة
ولا تطيقها نفسك.

 

ولقد
صور هذه الحالة نيافة الأنبا إغريغوريوس بقوله “في حالة القداسة، التي أصبح
إليها المولود من الله، تمسى الخطية غير مقبولة إليه، وتمسى مكروهة جداً لديه،
وتمسى شنيعة في عينيه، وتصير عفنة وقذرة لا يقدر أن يتطلع إليها بعينيه، خذ مثلا
لذلك قطعة من اللحم المتعفن. فحينما تكون هذه القطعة من اللحم يتحرك فيها الدود،
ولها هذه العفونة، هل تقدر أنت أن تقبل إليها. بالطبع لا. لو أن واحداً قربها إلى
فمك لأشحت عنها وجهك، وتريد أن تسد أنفك لأنك لا تقدر أن تقبلها، وقد تكون جائعاً
ومع ذلك لا يمكن أن تقبلها ولا تستسيغها، ولا تقدر أنت أن تأكلها، وتمسى أنت غير
قادر على أن تأكلها. فبهذه الشناعة تمسى الخطية شنيعة، تمسى الخطية مكروهة للإنسان
المولود من الله، والذي يحتفظ بحالة الولادة من الله ويحتفظ ويصون وسائط الخلاص
المعدة في الكنيسة. لو أن واحداً من الناس رأى شيئاً من المأكولات العفنة في
المذبلة، فهل يليق به أن ينحني ليأخذ من المزبلة شيئاً ليأكله؟..

 

هذه
هي مشاعر القديسين عندما يكونون في حالة الروحانية العادية إذ تصبح لهم الخطية
مكروهة جداً.

 

[مفهوم الخلاص في الكنيسة
الأرثوذكسية ص19 للقمص باخوم المحرق الأنبا إغريغوريوس].

 

(ج)
الملء:

إن
حياة القداسة حياة دائمة النمو، فهي وإن كانت تبدأ عند التجديد، لكنها تنمو بالتدريج
في اختبارات العمق. والملء هو المرحلة التي فيها يمتلك الروح القدس كلية زمام
المؤمن، ويقتاده عبر نهر الأعماق، نهر السباحة الذي لا يعبر، الذي خاض فيه حزقيال
النبي ودون اختباره قائلا: “وقاس ألف ذراع وعبرنى في المياه والمياه إلى
الكعبين. ثم قاس ألفاً وعبرنى في المياه والمياه إلى الركبتين. ثم قاس ألفاً
وعبرنى والمياه إلى الحقوين. ثم قاس ألفاً وإذا بنهر لم أتستطيع عبوره. لأن المياه
طمت. مياه سباحة نهر لا يعبر” (حز3: 47-5).

 

آه
يا أخي ليتك تختبر عمل النعمة هذا المبارك. إنك في الميرون قد أصبحت مسكنا للروح القدس
الذي حل فيك بالسر. ولكنك قاومت الروح مراراً (اع51: 7) وأحزنت الروح أيضاً(أف30:
4) وربما يا أخي تكون قد أطفأت الروح من داخلك. (1تس19: 5). إن هذه الموهبة التي
أخذتها عندما تضرمها(2تى6: 1) في الداخل تنعشك وتمتلك حياتك ملكية تامة.

 

 

هل
أنت مشتاق إلى عمق هذا الاختبار، إذن ارفع صوتك مرنماً..

لقد
تشوقت لقد تعطشت

لهذا
ربي رجوتأدخل إلى العمق

خذني
إلى العمق خذني إلى العمق

نهر
سباحة لا يعبر هذا هو العمق

 

هذا
هو الروح الناري الذي أشتاق الأنبا أنطونيوس أن يحصل تلاميذه عليه فقال لهم:

 

“ذلك الروح الناري
العظيم الذي قبلته أنا اقبلوه أنتم أيضاً.. اطلبوا باستقامة قلب هذا الروح الناري
وحينئذ يعطي لكم بالصلاة.. وهو يكشف لكم الأسرار العلوية، وأشياء أخر أمسك عن
قولها، ويكون لكم فرح سماوي ليلا ونهاراً.” {حياة الصلاة الأرثوذكسية ص24 نشر
دير السريان}

 

هذا
هو عمل النعمة في حياة المؤمن. فبدون النعمة لا يستطيع أن يسير مع الله أو أن ينفذ
وصاياه ولقد حرمت المجامع الكنسية كل من يقلل من شان النعمة. وقبل أن أعرض قرارات
هذه المجامع، أناجيك من كل قلبي أن تخضع ذاتك تحت إرشاد الروح القدس وتطلب من الله
أن يسكب نعمته فيك حتى تنجو من الهلاك.

واليك
قرارات بعض تلك المجامع:

 

1-
مجمع قرطاجنة:

المنعقد
سنة 417م وحضره (200) أسقفاً.

(من
قال أن نعمة الله التي بها يتبرر الإنسان بواسطة يسوع المسيح ربنا لا تفيد إلا في
غفران الخطايا التي ارتكبت بالفعل، وأنها لا تعين في منع ارتكاب الخطايا، فليكن
محروماً. فمن هذا يتضح أن المجمع يقرر بأن النعمة تعمل على غفران الخطايا وتعين في
منع ارتكابها ومن يقول غير ذلك فهو محروم.

 

من
قال بأن هذه النعمة.. تعيننا فقط لكي نتجنب الخطية.. وأن بها قد أعطينا.. فهما
لوصايا الله.. ولكنها لا تمنحنا أيضاً اللذة في فعل ما عرفنا.. ولا القوة لفعله،
فليكن محروماً.

 

وبهذا
يقرر المجمع أن النعمة تعين في تجنب الخطية، وتعطي فهما للوصية، وتمتع لذة في
السلوك بالروح، وتهب قوة لذلك. ومن يقول غير ذلك فيكن محروماً.

ومن
قال أن نعمة التبرير أعطيت لنا حتى يمكن أن نفعل بالنعمة ما أمرنا بفعله.. وأنه
كان يمكننا أن نتمم تلك الوصايا بدون هبة النعمة.. فليكن محروماً.

 

وبهذا
يقرر المجمع أيضاً أن النعمة تبرر، وتعين في تنفيذ وتتميم الوصايا ومن يقول غير
ذلك فهو محروم. وبهذا فقد نصوا على وهنية (ضعف) الإرادة الإنسانية إذا كانت بغير
عون من نعمة الله وأننا في حاجة أساسية وحيوية إلى النعمة لنتمكن بها من إتمام
وصايا الله).

 

{مذكرات الكلية
الإكليريكية الأرثوذكسية – لاهوت مقارن – هرطقة بيلاجبوس “للقمص باخوم
المحرقي” ص27 إلى 29}.

 

2- مجمع آرليس Arles

الذي
انعقد حوالي 473م أصدر التصريح التالي: “لابد من أن يقترن عمل الإنسان وسعيه
بنعمة الله” {المرجع السابق ص37}.

 

3- مجمع أورانج Orange

 الذي
عقد حوالي 529م من بين ما قرره هذا المجمع ما يلي: “أنه عن طريق خطية الإنسان
الأول إلتوت حرية الاختيار وضعفت حتى لم يعد أي إنسان بعد ذلك قادراً على أن يحب
الله كما ينبغي أو يؤمن بالله أو يصنع شيئاً صالحاً من أجل الله إلا إذا سبقته
نعمة (رحمة) الله”.

{المرجع
السابق ص41}

 

هذه
هي أقوال الآباء القديسين صريحة واضحة لا تحتاج إلى تعليق. يستد أمامها فم
الهراطقة من ينكرون عمل النعمة لكي تنال رحمة وتجد نعمة عوناً في حينه”
(عب16: 4).

 

 لهذا فليس بعجيب أن نرى
القديس أوغسطينوس ذلك الرجل الذي اختبر عمل النعمة يكتب كلاماً اختبارياً فيقول:

دعنا
نعترف أن النعمة ضرورية لنا، ولنصرخ مع بولس الذي قال: “ويحي أنا الإنسان
الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت؟” هذا سؤال حائر، وإجابته: نعمة الله
بالمسيح ربنا هي التي تنقذنا”

(N.P.F.1st. Ser. Vol.5 P. 142)

 

وقال
أيضاً: عندما يصلي المؤمنون يقولون “لا تدخلنا في تجربة لكن تجنا من
الشرير” (مت13: 6). فان كان لهم القدرة فعلا على خلاص، فلماذا يطلبون هذه
الطلبة.. إن نعمة الله وحدها هي التي تخلصهم بربنا يسوع المسيح.. فلا يمكن للإنسان
أن يتحرر من شهواته الجسدية إلا بنعمة المخلص.

(1 bid P. 142).

 

كان
هذا عن جانب النعمة الإلهية في تقديس المؤمن ولننتقل إلى الجانب البشري لنري ما
يستطيع أن يقدمه المؤمن من:

 

2-
الإمكانيات البشرية

لكي
نعيش في القداسة العملية يجب أن نقدم كل إمكانياتنا البشرية وإرادتنا الشخصية تحت
تصرف الروح. فلكي يقوم الروح بعمليات: التجديد والتطهير والملء، على الإنسان من
جانبه واجب مثلث أيضاً هو: الأمانة، والاعتزال، والتكريس.

 

(أ)
الإماتة:

أي
صلب الذات. فان عملية التجديد التي يقوم بها الروح القدس داخلك إنما هي في حقيقتها
عملية إماتة لذاتك القديمة ليضع عوضاً عنها ذات جديدة. هي صلب الذات ليحيا المسيح
كما يعبر معلمنا بولس الرسول قائلا: “مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح
يحيا في” (غل20: 2).

 

وعملية
التجديد هذه التي يقوم بها الروح القدس لابد وأن يقابلها من جانبك عملية أخرى وهي
إماتة أعضائك “أميتوا أعضاءكم التي على الأرض الزنا النجاسة الهوى الشهوة
الردية الطمع..” (كو5: 3). ولهذا يقول بولس الرسول أيضاً “الذين هم
للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات” (غل24: 5). ويشير إلى ذلك أيضاً
في موضع أخر فيقول “احسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية” (رو11: 6).

 

حقيقة
نحن في المعمودية قد متنا مع المسيح، إذ يقول بولس الرسول “أم تجهلون أننا كل
من اعتمد ليسوع اعتمدنا لموته فدفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أقيم المسيح من
الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة. لأنه إن كنا قد صرنا متحدين
معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته. عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل
جسد الخطية كي لا نعود نستعبد أيضاً للخطية” (رو3: 6-6). هذا ما يحدث في
المعمودية. إماتة وقيامة في جدة الحياة.. ولكن إذ يعود الإنسان للخطية يسقط
الإنسان مرة أخرى تحت عبوديتها.. ويعود الإنسان العتيق لسابق حياته، من أجل ذلك
يحذرنا بولس الرسول قائلا: “إذاً لا تملكن الخطية في جسدكم المائت لكي
تطيعوها في شهواته ولا تقدموا أعضاءكم آلات للخطية” (رو12: 6،1).

 

لهذا
لزم أن تكون عملية الصلب والإماتة مستمرة بالتوبة الدائمة والسهر حتى لا تسمح
للذات أن تعود ثانية للظهور بل يكون المسيح هو الكل في الكل.

ورب
سائل يقول: كيف أصلب ذاتي؟! لكي نوضح هذا الأمر أسوق لك الصورة التي تخيلها أحد
رجال الله.

 

 أنى سمرت ذاتي على الصليب
كأني أخذت حياة الذات بكل رغباتها، وأميالها، ومطامعها للشهوة والكمال، وتقلباتها،
وحكمها على الآخرين، وبغضها، أخذتها كمجرم وقلت أنت ملعونة. يجب أن تموتي. إلهي قد
سمرك على الصليب. وإني أضعك هناك باختياري وبمحض إرادتي بالإيمان وسأتركك معلقة
هناك”.

 

فعلى
الإنسان أن يسلم الذات باختياره للمسيح حتى يصلبها، وهو الذي يقوم بدور إماتتها..
ثم اسلك في الحياة حاسباً نفسي ميتاً “احسبوا أنفسكم أمواتاً عن
الخطية”(رو11: 6). فان حاولت الخطية أن تتجاذب أطراف الحديث معك لكي تسقطك في
حبائلها، لا تجاوبها لأنك ميت. لا تتفاوض مع الشيطان بل اعتبر نفسك ميتا.. لا
يغرنك العالم لأنك قد حسبت نفسك مائتا.. ولا يقتصر عملك على هذه النواحي السلبية
بل تتجه بقلبك في الحال إلى شخص الرب يسوع الساكن فيك وقل له:

 

حام
عنى يوم تأتى الريح بالموج العنيف

في
ظلام الليل ربي واحمني

 وأمر
الريح وموج البحر طراً بالوقوف

بل
تعال يا حبيبي عزيني

 

إن
المسيح لا يمكن أن أن يملك على عرش القلب إن لم تمت الذات، فسلمها له حتى يصلبها
ويميتها “لكي تظهر حياة يسوع في جسدنا المائت.”(2كو11: 4).

 

(ب)
الاعتزال:

إن
عملية التنقية الداخلية التي يقوم بها الروح القدس يقابلها عمل آخر من جانب المؤمن
وهو الاعتزال عن مجال الخطية ومسبباتها. فهذا هو أمر الرب لشعبه “اخرجوا من
وسطهم واعتزلوا يقول الرب ولا تمسوا نجساً فأقبلكم وأكون لكم أبا وأنتم تكونون لي
بنين وبنات يقول الرب القادر على كل شئ” (2كو17: 6،18).

لكن
وا أسفاه لقد اختلط أبناء الله بأهل العالم وما عدنا نميز بينهم، حتى أن الله
اشتكى من هذه الحالة فقال: يا أبن آدم قد صار لي بيت إسرائيل زغلا. كلهم نحاس
وقصدير وحديد ورصاص في وسط كور. صاروا زغل فضة.” (حز18: 22).

 

وقديما
وقف ايليا وقفته التاريخية وكلم الشعب وقال “حتى متى تعرجون بين الفرقتين. إذ
كان الرب هو الله فاتبعوه وان كان البعل فاتبعوه”(1مل21: 18). فكن مثل ايليا
لنفسك لتحديد موقفها واعتزل عن العالم ومحبة المال والشهوات، وأصدقاء السوء،
والأماكن المعثرة لتتيح للروح فرصة تنقية قلبك من الداخل.

 

هذا
هو الجانب السلبي أي تعتزل عن مجال الخطية. ولكن هناك جانب إيجابي وهو الوجود في
حضرة الله ومجال النعمة.

لهذا
فقد أوصى بولس الرسول تلميذه تيموثاوس قائلا: “أما الشهوات الشبابية فاهرب
منها واتبع البر والإيمان والمحبة والسلام مع الذين يدعون الرب من قلب نقي”
(2تى22: 2).

فعندما
تتشبع نفسك بالنعمة تدوس على الخطية التي كانت كالشهد في حلقك وهكذا يقول الحكيم
“النفس الشبعانة تدوس العسل” (أم7: 27).

 

(ج)
التكريس:

هو
التسليم الكامل ومعناه أن تكون إرادتنا كما يريد الرب. ويأتي هذا عندما نعتبر أننا
لسنا ملكا لأنفسنا بل للمسيح كما يقول الرسول “أنتم لستم لأنفسكم لأنكم قد
اشتريتم بثمن. فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله.” (1كو20: 6).

إن
التكريس للقداسة لازم كلزوم التوبة للتبرير. فمن جانب الله تعمل النعمة فينا بسكب
الروح القدس ليملأنا، ومن جانبنا علينا أن نسلم القلب بالكامل لله لنحصل على
الملء. إن كنت تريد تكريساً كاملا اركع وقل “ضع يارب شوكة في كل متعة، ودودة
في كل يقطينة تمتعني أو تعوق تكريس قلبي لك.”

 

المفتاح
الصغير:

تقابل
خادم مع رجل مختبر وممتلئ من الروح القدس فقال لاحظت شيئاً غريباً فيه، لم أكن
حاصلا عليه، الأمر الذي كان له منبعاً للراحة والقوة والفرح الدائم. ولم أنس
منظراً رأيته في الساعة 7 صباحاً. بينما كان نور النهار يتسرب إلى غرفة نومه. رأيت
الكتاب المقدس مفتوحاً أمامه وهو يقرأه على ضوء شمعة. وبعدما تناول الفطور، مشينا
معا وتحدثنا على هذا النحو. قلت له “لقد لاحظت أنك استيقظت مبكراً
اليوم” قال “نعم إني قد استيقظت في الساعة الرابعة. لأن سيدي المسيح
يعرف عندما أنام كفاية أن يوقظني ليكون لي شرف الشركة معه” سألت “وماذا
كنت تعمل؟” أجاب “تعرف أن المسيح قال إن أحبني أحد يحفظ كلامي”
وأنا أطالع الكتاب كل صباح حتى أرى كم أنا أحفظ من وصاياه وكم مقدار محبتي
له” سألته “وهل صرفت كل هذا الوقت من الرابعة إلى ما بعد السابعة صباحاً
في مطالعة الكتاب؟” قال “نعم صرفتها في مطالعة الكتاب والصلاة”
سألته “وكيف أكون نظيرك؟” أجاب “هل فتحت قلبك للمسيح لكي يملأك من
شخصه؟” قلت “نعم إني فتحت قلبي له بطريقة عامة. ولست أظن أنى فعلت هذا
بطريقة خاصة” قال “عليك أن تفعل هذا بكيفية خاصة”.

 

وفي
مخدعي ركعت على ركبتي في تلك الليلة. وافتكرت أنى أقدر أن أسلم نفسي للمسيح
بسهولة. أعطيته حلقة حديدية مملوءة مفاتيح، حلقة مفاتيح إرادتي مع كل مفاتيح
حياتي، بعد أن انتزعت منها مفتاحاً واحداً صغيراً وضعته في جيبي، فسألني الرب
“هل هذه كل المفاتيح؟” أجبت “نعم يارب قد أعطيتك الكل إلا مفتاحاً
واحداً صغيراً، وهو مفتاح غرفة صغيرة في قلبي يجب أن أكون أنا المسيطر عليها”
قال الرب “إذا كنت لا تأتمني على الكل فأنت لا تأتمني بالمرة.” وحاولت
أن أنتحل لنفسي أعذاراً وأقدم شروطاً للرب. قلت “يا سيدي الرب إني نستعد أن
أكرس لك كل شئ آخر. فقط أنا لا أقدر أن أعيش بدون محتويات هذه الغرفة” في ذلك
الوقت كنت كمن يعرج بين الفرقتين. فلو أنني امتنعت عن تسليم مفتاح تلك الغرفة ما
كان باركني الرب أو بارك خدماتي. أراد أن يتركني، إلا أني بادرت ودعوته وقلت
“يارب أنا لست راضياً لكني أريد أن تجعلني راضياً” تقدم إليَّ واقترب
منى ثم تناول المفتاح الصغير من يدي، وذهب توا إلى الغرفة المحبوبة وفتحها. عرفت
ما سيحدث هناك كما عرف هو أيضاً. وفي الحال نظف تلك الغرفة نظافة تامة، ولم يتركها
فارغة، بل ملأها بشيء آخر أفضل. عندئذ أدركت مقدار غباوتي وجهلي. إنه أراد أن يزيل
الجواهر المزيفة، ليعطيني بدلاً عنها جواهر حقيقية وثمينة. لقد نقاها مما أتلف
حياتي، وعوض ذلك أعطاني نفسه. من ذلك الوقت صار الرب متكلي وسندي وكان تكريسي
الكامل شرطاً ضرورياً وأساسياً لنوالي كل بركاته واختبار قوته الحافظة”.

 

اختبار
راهب:

سجل
راهب من الكنيسة الشرقية اختباراً جميلا فقال:

كثيرا
ما يبدو يسوع سجيناً في نفسي، وكأنه بلا حراك تماماً كما كان في القبر قبل
القيامة. وحجر خطاياي الكبير يجعله هكذا، كم من مرة اشتاقت نفسي أن تري يسوع
قائماً في نوره وقوته! كم من مرة حاولت أن أدحرج الحجر ولكن بلا جدوى! إن ثقل
الخطية مع ثقل العادات المرتبطة بها كان أقوى جداً.. وكثيراً ما قلت لنفسي في يأس:
من يدحرج الحجر؟”.

 

والآن..
لقد وجدت النسوة أن الحجر قد دحرج بطريقة لم يتوقعنها، “حدثت زلزلة لأن ملاك
الرب نزل من السماء ودحرج الحجر”.(مت2: 28).

 

فلكي
يتدحرج الحجر لابد من معجزة مروعة زلزلة! لأن مجرد رفعه أو إزاحة بسيطة لن تكون
كافية. هكذا أيضاً ذلك الحجر الذي يبدو أنه يشل حركة يسوع فيَّ يحتاج إلى زلزلة أي
إلى انقلاب باطني عنيف، وتغيير جذري كامل. فالأمر يحتاج إلى قذيفة من النور
لتهزني، وهكذا يقوم المسيح فيَّ إذ يختفي إنساني العتيق ليعطي مكاناً للإنسان
الجديد. وهذا الأمر يتعدى التعديل والتنظيم إذ يستلزم موتاً ثم ولادة.

{كتاب
حوار مع مخلص ص145}

 

القلعة
الأخيرة:

إن
من يقدم على عمل التكريس الحقيقي يساعده الله بأن يعمل فيه شيئاً فشيئاً إلى أن
يلاشى حياة الذات منهم. وفي الغالب تتركز كل قوي الذات في نقطة وتتأصل وتصير
كقلعة. وعندما تقهر تلك النقطة وتسلم تلك القلعة حينئذ تأتى النصرة. كان يمكن أن
يكون إبراهيم راغباً في تسليم كل شئ، ولكن إذ لم يكن قد سلمه، فكل الأشياء التي
سلمها تعد كلا شيء. فالله يريد اسحق حياتنا.

 

وعزيا
الملك كان القلعة الأخيرة في حياة أشعياء النبي لتعلق أشعياء به، وفي السنة التي
مات فيها عزيا رأى أشعياء مجد الرب. فلا بد أن يموت عزيا العزيز في قلبك.

 

كثيرون
من المسيحيين يظلون متمسكين بشيء عزيز في حياتهم بينما الروح القدس يطلب منهم تركه
حتى يحصلوا على البركة، ربما يكون الشيء الذي تمسكه عن المسيح زهيداً جداً، وتقول
أن الله لا يطلب هذا الأمر الزهيد، ولكن هذا الأمر الزهيد هو القلعة التي تحصنت
فيها الخطية، وسيظل هذا الأمر الزهيد علة النزاع والصراع في حياتك. ربما يكون هذا
الشيء الزهيد هو اهتمامك بنوع من أنواع الزينة يا أختي، أو التمسك بعادة معينة يا
أخي تصر على الاستمرار فيها، أو صلة مع آخرين لا تريد قطعها. ولسان حالك يقول
استلم يارب كل شيء، ولكنك تحتفظ بهذا الأمر البسيط لأنك تحبه وتتعلق به، ولكن اسمع
ماذا يقول المرنم: “إن راعيت إثماً في قلبي لا يستمع لي الرب” (مز18:
66).

 

ولكن
أعلم يا أخي أنه قبل مجيء البركة يجب أن يكون هناك تسليم تام كامل بدون قيد أو
شرط. قال أحد القديسين “اترك الكل تأخذ الكل”. عندما تسلم الإرادة
القلعة الأخيرة حينئذ يحل المسيح بملء حياته بدل حياة الذات القديمة، فيتأكد
المؤمن حينئذ أنه ميت عن الخطية وحي في الله بالمسيح يسوع.

 

خلاصة:

رأيت
يا أخي شقيّ التقديس فالإنسان يقبل باختياره إماتة ذاته، ويعتزل عن مجالات الخطية،
ويقبل تكريس نفسه للمسيح، فهو بهذا العمل الثلاثي الاختياري يسلم نفسه لله. والله
من جانبه يعمل فينا مقدساً ذواتنا، فيعطينا القلوب الجديدة التي تبغض الخطية
وتحتقرها، وتحب المسيح وتتعلق به، ثم ينقي ذواتنا من شوائب الشرور، ويسكب فينا
روحه القدوس ليتسلم قيادة حياتنا في موكب النصرة. “فشكراً لله الذي يقودنا في
موكب نصرته في المسيح كل حين ويظهر بنا رائحة معروفة في كل مكان”(2كو14: 2).

 

إيضاحات
هامة:

بعد
أن عرفت هذا بخصوص القداسة يجب أن نستوضح بعض النقاط حتى لا تفشل في حياتك. وهذه
النقاط هي القداسة والعصمة، ثم القداسة والتجربة.

 

1-
القداسة والعصمة:

لا
تظن يا أخي أن القداسة هي العصمة من الخطية، فلا يوجد سوى الله وحده المعصوم منها.
أما القداسة فهي الحالة التي يكون فيها المؤمن محصناً بقوة الله ضد الوقوع في
الخطية كما يقول بطرس الرسول “أنتم الذين بقوة الله محروسون” (1بط5: 1).
ولكنه بلا شك هو معرض للسقوط في أية لحظة إن تهاون في حياته، أو نظر إلى وراثة..
فان أسمي درجات النعمة لا تجعل الإنسان غير قابل للسقوط.. فمهما وصلنا من درجات
الاختبار في النعمة، فان إمكانية الوقوع في الخطأ ملازمة لطبيعتنا، إلى أن نخلص من
هذا الجسد الفاسد بمجيء الرب يسوع في مجده ويغير أجسادنا.

 

وتعرضنا
للسقوط ناتج من أن الله عندما قدسنا وجدد قلوبنا لم يسلبنا حرية الإرادة وإلا أصبحنا
كالحيوان. فحيث أن إرادتنا موجودة فينا إذن فالإرادة معرضة لقبول عروض الشيطان
بالخطية وما لم يحذر المؤمن ويظل مخضعاً إرادته لإرادة الله، ومشيئته لمشية سيده،
يعرض نفسه لخطر السقوط في الخطية، ويحتاج الأمر إلى إعادة خطوات التقديس معه.
وجميل جداً أن تعرف أنه من صفات القداسة أنك إن سقطت تقوم في الحال وتنتفض، وتعود
إلى حضن أبيك، ولسان حالك يقول للخطية “لا تشمتي بي يا عدوتي إذا سقط أقوم.
إذا جلست في الظلمة فالرب نور لي.. سيخرجني إلى النور سأنظر بره. وترى عدوتي
فيغطيها الخزي” (ميخا8: 710). تقوم وتأتى إلى الله عالماً أن لك في دم الصليب
كفارة، وفي قلب يسوع مكانة.

 

2-
القداسة والتجربة:

إذ
أن القداسة ليست هي العصمة من الخطية، لهذا فالمؤمن معرض للتجربة مهما حصل على
اختبارات النعمة، ومهما نما في معرفة مخلصه ومهما تقدم إلى الأمام في حياته
الروحية.

 

والتجربة
هي عرض الخطية على المؤمن لمحاولة إسقاطه فيها. وليس في ذلك خطية إن كان المؤمن لا
يستجيب لهذا العرض بل يرفضه. وهناك تجارب أخري يشنها إبليس ضد أولاد الله. ومن هنا
نجد أن حياة المؤمن هي حرب دائمة مع قوي الشر. وهذه الحرب على مرحلتين.

 

 (أ)
مرحلة أولية:

(وهي
الحرب الداخلية) في بداية حياة المؤمن الروحية. وتكون الحرب عنيفة والصراع مرير.
صورها نيافة الأنبا إغريغوريوس أسقف الدراسات العليا والبحث العلمي يقول: (لاحظوا
أن الكلام الذي قاله الرسول بولس “الروح يشتهى ضد الجسد والجسد ضد
الروح”. فانه يصف فيه مرحلة أولية من حياة التوبة ليعبر فيها الرسول عن مرحلة
(التماس) بين حالة الخطية وحالة التوبة. هذه هي المرحلة التي يكون فيها الإنسان قد
خرج من حالة الخطيئة ودخل في حالة النعمة. هنا في هذه المرحلة يكون الإنسان في
حالة حرب شديدة، قوة تشده من هنا وأخرى تشده من هناك. إنما هذه الحالة لا تستمر
طويلا، هذا النزاع بين الروح والجسد لا يستمر طويلا. بل شيئاً فشيئاً يبدأ الإنسان
في حالة النعمة ودخوله في دائرة الفضيلة يعلوا شيئاً فشيئاً عن مرحلة التماس،
ويعلوا على مرحلة الصراع. ولا تكون الخطية بعد جذابة ولا يكون لها إغراء. وقد
تحاول الخطيئة أن تدخل إلى حياة التقي أو القديس ولكن عن بطريقة غير واضحة
تدخل إليه مستورة. تدخل إليه لابسة لباساً غير لباسها، لأن يوم
تدخل الخطية بلباسها الحقيقي تكون شنيعة جداً في نظر القديسين). (مفهوم الخلاص في
الكنيسة الأرثوذكسية ص19،20 نيافة الأنبا إغريغوريوس).

 

(ب)
مرحلة متقدمة:

(وهي
الحرب الخارجية) وهي وإن كانت في مظهرها أعنف من الأولى، إلا أنها في حقيقتها أهون
منها، لأن ميدانها خارج حدود النفس إذ انتقل العدو إلى خارج وأصبحت هجماته كصرخات
اليأس. وتتخذ الحرب صورة أخرى، فبعد أن كانت في المرحلة الأولي محاربات شهوة
وخطية، تكون في هذه المرحلة (أي الحرب الخارجية) عبارة عن اضطهادات، ومضايقات
وشدائد.. وربما تصل إلى الضرب والسجن وقتل الجسد.. وهي في صورتها صعبة ولكن في
حقيقتها هينة ولذيذة جداً لنفس المؤمن لأنها من جهة فهي لا تمس الروح، ومن جهة
أخري هي شركة آلام رب المجد. فبولس الرسول يقول “لأعرفه وقوة قيامته وشركة
آلامه متشبهاً بموته لعلي أبلغ إلى قيامة الأموات”(فى10: 3). ولهذا نراه يقول
“لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضروريات والاضطهادات لأجل
المسيح”.(2كو10: 12).

 

وقد
تكلم أيضاً نيافة الأنبا إغريغوريوس أسقف الداسات والبحث العلمي فقال: (وربما يصل
الإنسان في حالة الفضيلة إلى مرحلة معها تسقط عنها الحرب الداخلية لكن ليس معنى
ذلك أن الإنسان يصل إلى مرحلة تسقط عنه كل الحروب، فالروحانيون حربهم في الغالب
أصبحت حرباً خارجية. بعد أن يكونوا بالمجاهدات الروحية قد طردوا الشهوات من حياتهم
ووصلوا إلى مرحلة الاتحاد بالله، وبعد أن يكونوا قد وصلوا إلى الإماتة بأن يموت
الإنسان عن نفسه ويصل إلى المرحلة التي عبر عنها الرسول “فأحيا لا أنا بل
المسيح يحيا في ” يكون قد مات بمعنى الإماتة الجسمانية، هذه الإماتة، فعل
الإماتة معناه أن يموت الإنسان نهائياً عن رغباته فتسقط عنه كل شهوة وتصبح إرادة
الله هي إرادته ومشيئة الله هي مشيئته وتصبح شهواته كلها صالحة. إن كبار
الروحانيين يصلون إلى هذه المرحلة فمعها تسقط الحرب الداخلية ولكن مع هذا تكون
هناك حرب من الخارج. والشيطان يحاربهم عن طريق مشورات خارجية لكنها قد لا تكون لها
أثر عليهم، وأيضاً عن طريق الاضطهادات، أو عن طريق الحروب، أو عن طريق المعاكسات
من الناس، أو معاكسات من أي قوة خارجية، أو أنواع من الضيق والشدائد التي يقعون
فيها، أو أنواع من الظلم الذي يصيبهم من الناس. ممكن أن يصل كبار الروحانيين إلى
مرحلة معها تسقط عنهم الحروب الداخلية أو على الأقل تقل جداً إلى الدرجة التي تصبح
معها تكاد أن تكون معدومة.. ولكن مرة أخرى لا يفهم هذا أن الإنسان يصل إلى حالة
العصمة.) {المرجع السابق صفحة 20،21.}

هذا
عن عمل النعمة في المرحلة الثانية من حياة المؤمن وهي التقديس. بقي أن نعرف المرحلة
الثالثة عن عمل النعمة وهي:

 

ثالثاً: التمجيد

يقول
معلمنا بولس الرسول “متى أظهر المسيح حياتنا فحينئذ تظهرون أنتم أيضاً معه في
المجد” (كو4: 3). هذا هو التمجيد الذي سيحصل عليه المؤمن بالنعمة يوم ظهور
الرب، حيث يتم قول الرسول “الذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضاً” (رو29:
8،30).

هذا
هو الرجاء الذي ينتظره المؤمن على أحر من الجمر “منتظرين الرجاء المبارك
وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح”(تى13: 2). يوم يأتي ليخطف
المؤمنين “لأن الرب نفسه بهتاف بصوت رئيس ملائكة وبوق الله سوف ينزل من
السماء والأموات في المسيح سيقومون أولا. ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعاً
معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء. وهكذا نكون كل حين مع الرب” (اتس16:
418).

في
ذلك اليوم تكون عطية النعمة لنا:

 

أجساد
غير فاسدة:

فهذا
الجسد الفاسد الذي كان سبب متاعبنا في نضالنا المرير ضد الخطية سيتغير إلى جسد غير
فاسد. هذا ما وضحه بولس الرسول بقوله “هو ذا سر أقوله لكم. لا نرقد كلنا
ولكننا كلنا نتغير في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير. فانه سيبوق فيقام
الأموات عديمي فساد ونحن نتغير. لأن هذا الفاسد لا بد أن يلبس عدم فساد. وهذا
المائت يلبس عدم موت. ومتى لبس هذا الفاسد عدم فساد ولبس هذا المائت عدم موت
فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة ابتلع الموت إلى غلبة.. ولكن شكراً لله الذي يعطينا
الغلبة بربنا يسوع المسيح” (1كو51: 1557).

 

أجساد
ممجدة:

فأجسامنا
هذه الترابية الفاسدة التي ألبستنا الهوان ستتغير إلى أجساد ممجدة، إذ يقول الرسول
“إن سيرتنا نحن هي في السموات التي منها ننتظر مخلصنا هو الرب يسوع المسيح
الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده”(فى5: 3،21). ويقول
أيضاً “يزرع في فساد ويقام في عدم فساد. يزرع في هوان ويقام في
مجد”(1كو42: 15،43).

 

أجساد
روحانية:

نحن
الآن في أجساد مادية حيوانية، ولكن في ذلك اليوم ستكون أجسادنا روحانية كما قال
الرسول بولس “يزرع جسما حيوانياً ويقام جسما روحانياً. يوجد جسم حيواني ويوجد
جسم روحاني.. لكن ليس الروحاني أول بل الحيواني وبعد ذلك الروحاني.”(1كو44:
15،46).

 

4-أجساد
كجسد المسيح السماوي:

يقول
يوحنا الحبيب “أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله ولم يظهر بعد ماذا سيكون.
ولكن نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو” (1يو2: 3). ويضيف بولس
الرسول قائلا “كما لبسنا صورة الترابي (آدم) سنلبس أيضاً صورة السماوي
(المسيح)” (1كو49: 15).

 

هذا
هو عمل النعمة البحت ولا دخل للإنسان في ذلك، فالرب نفسه هو الذي سيغير أجسادنا
يوم مجيئه بعمل نعمته ولهذا يقول معلمنا بطرس الرسول “فالقوا رجاءكم بالتمام
على النعمة التي يؤتى بها إليكم عند استعلان يسوع المسيح” (1بط13: 1).

 

 وعندما نلبس الأجساد غير
الفاسدة الممجدة الروحانية التي هي كجسد المسيح السماوي نستطيع أن نتمتع بشخصه
المبارك وبالحياة معه في المجد.

 

هذا
هو عمل النعمة الفائقة.(2كو14: 9). من تبرير وتقديس وتمجيد “فشكراً لله على
عطيته التي لا يعبر عنها”(2كو15: 9).

 

الفصل الثالث: مجال
النعمة

“لأن المسيح إذ كنا بعد ضعفاء مات.. لأجل الفجار”
(رو6: 5)

أولاً: دائرة الأشرار.

ثانياً: دائرة الضعفاء.

 

مجال
النعمة

قد
تقول في نفسك أنى غير مستحق لنعمة الله لأني خاطئ وشرير. وربما يقودك هذا الفكر
إلى الابتعاد عن عمل النعمة وعدم الانتفاع ببركات الفادي.

ولكن
اعلم يا أخي أنك بهذا الشعور أنت في مجال عمل النعمة. وإليك توضيحاً لهذه
المجالات:

 

أولاً: دائرة الأشرار

من
الخطأ أن تظن بأن عمل النعمة قاصر على الأبرار والقديسين. ولكن اعلم أن النعمة لا
تعمل إلا في وسط الأشرار والفجار. أما أولئك الأبرار في أعين أنفسهم، فالنعمة
بعيدة كل البعد عنهم ما لم يقروا أنهم خطاة محتاجين إلى نعمة الله. وفي مثل
الفريسي والعشار نري هذه الحقيقة واضحة بكل جلاء. فالفريسي كان باراً في عيني نفسه
وأخذا يعدد أعمال بره من أصوام وصدقات وتقوى..ولكنه مسكين لم ينتفع بنعمة الله.
أما العشار الخاطئ فوقف شاعراً بخطيته واحتياجه إلى النعمة قائلا “اللهم
ارحمني أنا الخاطئ”. فذهب إلى بيته مبرراً. (لو13: 18).

 

فمجال
النعمة المخلصة هو دائرة الأشرار، فقد قال السيد “لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب
بل المرضي.. لأني لم آت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة” (مت12: 9،13). فلا
تظن أنك لا تستحق النعمة لأنك شرير، فالواقع أنه لا أحد يستحق النعمة إلا الشرير
الذي يشعر بأنه فاجر”ويؤمن بالذي يبرر الفاجر” (رو5: 4). وما أعجب ما
قاله أليهو أحد أصدقاء أيوب موضحاً هذه الحقيقة فقال “أخطأت وعوجت المستقيم
ولم أجاز عليه. فدي نفسي من العبور إلى الحفرة فتري حياتي النور” (اى27:
33،28).

 

قصة
تجديد فيلسوف:

سيظل
تجديد أوغسطينوس من الحوادث البارزة في التاريخ، فقد كان شاباً خليعاً مستهتراً.
ومع أن والدته كانت مسيحية بقى هو وثنياً، وكان يجتهد في العثور على المبادئ التي
باعتناقها يتشجع على أعمال الإثم والفجور. على أنه كان يتمتع بالرغم من هذا على
امتيازين عظيمين: الأول.. أم تقية مصلية طالما سكبت دموعاً غزيرة أمام الرب لأجله.
وكان يتمتع بامتياز آخر هو أصدقاء أفاضل انتهزوا كل فرصة ليشجعوه على التفكير
الصالح وإلى إرجاعه عن غوايته. وبينما كان في صراعه مع قوات الشر وهو تارة يقوم
وتارة يسقط، جاء إلى مدينة ميلان حيث كان يقود الكنيسة رجل صالح من أعلامها هو
الأسقف أمبروز، وقد بلغت أزمة أوغسطينوس النفسية إلى أقصى مداها. ويقص هو قصته
فيقول أنه كان جالساً مع صديق له ونفسه تضطرم بنيران المعركة الداخلية، معركة
محاولة الإفلات من العادات القديمة ومن تكثير قيودها مع ترك كل الرفاق الأردياء
وإقامة الحياة المسيحية التي يجب أن يحياها بفقرها ومتاعبها. قال: وبينما أنا أجلس
مع صديقي وإذا التفكير يقودني إلى تكويم كل بؤس أمام نفسي، فثارت في داخلي عاصفة
من الألم سببت أمطاراً غزيرة من الدموع. وترك صديقه حتى يمكنه أن يطلق لنفسه
العنان في البكاء وهو في الوحدة. فجلس تحت شجرة التين في الحديقة، وهو يصرخ في
مرارة روحه: “إلى متى؟ غداً؟ لماذا ليس الآن؟_ لماذا لا توضع في هذه الساعة
النهاية لنجاستي؟” قال: “كنت أتكلم هكذا وأبكي وأنا منكسر القلب، عندما
سمعت من بيت مجاور صوت طفل يغني ويكرر كثيراً هذه العبارة: “خذ واقرأ! خذ
واقرأ!” وحالاً تغير حالي وبدأت أفكر عما إذا كان الأطفال متعودين أن يلعبوا
بإنشاء مثل هذه الكلمات. كما أنني لم أستطيع أن أذكر أنى سمعت شيئاً كهذا قط.
فكفكفت دموعي وقمت متخذاً هذا الأمر من الله أن أفتح الكتاب وأقرأ أول إصحاح أجد.
فرجعت بشوق إلى المكان الذي كنت جالساً فيه مع صديقي حيث كانت رسالة بولس الرسول
إلى رومية، وكان قد بدأ يدرسها، فأمسكتها وفتحتها. وبسكوت قرأت الفصل الذي وقعت
عليه عيناي: “لا بالمضاجع والعهر، لا بالخصام والحسد، بل البسوا الرب يسوع
المسيح ولا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات” (رو13: 13،14). فلم أستطع أن
أقرأ أكثر من ذلك ولم تكن لي حاجة إلى أكثر مما قرأت، لأنه في الحال عندما وصلت
إلى هذه الجملة شع نور وضاح إلى داخل نفسي وإذ بكل ظلمات الشدة تنقشع!” وهكذا
تجدد أوغسطينوس فترك كل مسلك سيئ، وعمده الأسقف أمبروز وخرج من المعمودية وهما
يرنمان معاً، وفرح قلب أمه وصار أوغسطينوس من أبر آباء الكنيسة وقد ترك بحياته
وكتبه آثاراً طيبة بركة لكل الأجيال أكثر من أي رجل بعد عصر الرسل.

 

أرأيت
إذن أن الله قد جاء لكي يبرر الفاجر، فهو لم يخلصنا لأننا أبرار بل ليجعلنا نحن
الفجار أبراراً. هذا ما وضحه معلمنا بولس الرسول بقوله “متبررين مجاناً
بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره
من اجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله. لإظهار بره في الزمان الحاضر ليكون
باراً ويبرر من هو من الإيمان بيسوع” (رو24: 326).

إن
حقيقة موت المسيح نيابة عن البشرية حقيقة قديمة، ولكنها تصبح اكتشافاً جديداً له
وقعه عندما يخصص الإنسان هذا العمل له شخصياً. وما أفدح الخسارة التي تلحق بمن لا
يخصص لنفسه هذا الخلاص. ومبدأ تخصيص الفداء للنفس قد وضحه معلمنا بولس الرسول إذ
خصصه لنفسه شخصياً بقوله “أحبني وأسلم نفسه لأجلي” (غل20: 2).

 

آه
يا أخي ليتك تقبل يسوع مخلصاً شخصياً لك.

 

ثانياً: دائرة الضعفاء

ربما
تتباعد عن الله وتضطرب عظامك بسبب ضعفاتك ظنا منك أن الله يبغض الضعفاء الذين أنت
منهم،لأنك لا تستطيع أن تعيش بالقداسة، وكما تريد أن تتقدم في التقوى تجد نفسك
هابطاً في لجة الخطية.. ولهذا تحسب نفسك أنك غير مستحق لنعمة الله!.

 

ولكن
اعلم يا أخي أن المسيح قد جاء من أجل الضعفاء أمثالي وأمثالك، إذ يقول الكتاب
“لأن المسيح إذ كنا بعد ضعفاء مات في الوقت المعين لأجل الفجار” (رو6:
5). فمن هذا نرى أن المسيح يرثي لضعفاتنا كما قال بولس الرسول “لأن ليس لنا
رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا بل مجرب في كل شئ مثلنا بلا خطية. فلنتقدم
بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة، ونجد نعمة،عوناً في حينه” (عب15: 14،16).

 

هذا
عن سر مجيء المسيح،وهو سر مجيء الروح القدس أيضاً لكي يعيين ضعفاتنا، إذ يقول بولس
الرسول “فأننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معاً إلى الآن وليس هذا فقط بل
نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضاً نئن في أنفسنا.. وكذلك الروح أيضاً
يعيين ضعفاتنا” (رو22: 826).

 

ويعلن
لنا لوقا الرسول هذا السر في قول السيد المسيح لتلاميذه “لكنكم ستنالون قوة
متى حل الروح القدس عليكم” (أع8: 1).

 

وقد
وضح لنا بولس الرسول حكمة الله من اختياره للضعفاء، فمن جهة لكي تظهر نعمة الله
وتكمل قوته فيهم. لأنه إن اختار قوما أقوياء فكيف تظهر قوة الله فيهم. لهذا قال
الرب لبولس “تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل”(كو9: 12). ومن جهة
أخري اختار الله الضعفاء ليخزى الأقوياء إذ قال الرسول “اختار الله ضعفاء
العالم ليخزى الأقوياء” (1كو27: 1). فلماذا تتباعد والرب لا يختار إلا
الضعفاء لكيي يتمجد فيهم؟!.

 

علاوة
على ذلك فان كان الرب يوصي الناس أن يسندوا الضعفاء بقوله على لسان بولس الرسول
“اسندوا الضعفاء” (1تس14: 5). أفلا يسندهم هو بالأولي!! لهذا نراه يشجع
الضعفاء قائلا “ليقل الضعيف بطل أنا” (يو10: 30).

 

لقد
أدرك بولس الرسول سر معاملة الله للضعفاء ولهذا نراه يفتخر بضعفاته إذ يقول
“سأفتخر بأمور ضعفي” (2كو30: 11). وأيضاً “لا أفتخر إلا
بضعفاتي” (2كو5: 12). ثم يكشف لنا الستار عن سر هذا الافتخار فيقول “بكل
سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحل على قوة المسيح.. لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ
أنا قوي” (2كو10: 9).؟

 

فلماذا
تتباعد يا أخي الضعيف عن الله؟ أقول لك إنك تتباعد لأنك تريد أن تأتى إلى الله
كاملا ظنا منك أنه لا يقبل الضعفاء والمساكين، وعندما تكتشف ضعفك ونقصك تظن أنه
يبغضك ولن يقبلك!! اعلم يا عزيزي أنك تفهم الموضوع عكسياً!! فقد جاء المسيح من أجل
الضعفاء والفجار “لأن المسيح إذ كنا بعد ضعفاء مات في الوقت المعين من لأجل
الفجار” (رو6: 5). تأمل في ذلك جيداً لتري أن الله مستعد أن يرحب بك رغم
ضعفك. بل أن الله يريد الضعفاء ليعطيهم القوة فيتمجد فيهم.

 

اذكر
يا أخي بطرس الرسول الذي كان ضعيفاً وأمام الجارية ينكر المسيح. (مت70: 36). فهل
رفضه المسيح أم أعطاه قوة حتى يقف أمام الرؤساء والمجامع ويتكلم بكلام المسيح بكل
مجاهرة. (أع14: 236). واذكر بولس الرسول الذي عانى كثيراً من ضعفاته أمام الخطية
حتى صرخ صرخته الشهيرة “الإرادة حاضرة عندي وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد..
ويحي أنا الإنسان الشقي

من
ينقذني مكن جسد هذا الموت” (رو18: 7،24). هل رفضه الله ولم يقبله أم وشحه
بالقوة حتى قال “أستطيع كل شئ في المسيح الذي يقويني” (فى13: 4). واذكر
داود النبي الذي بسبب ضعفه سقط في أشنع الخطايا، فهل رفضه الله أم رفع عنه خطيته
وعندما طلب منه القوة بقوله “بروح منتدبة (الروح القدس) أعضدني” (مز12:
51). يستجيب له الرب حتى أننا نسمعه يقول “أحبك يارب يا قوتي” (مز17:
59). ولهذا نجد أشعياء النبي يقرر هذه الحقيقة بقوله “هو ذا الله خلاصي
فاطمئن ولا أرتعب لأنه ياه يهوه قوتي وترنيمتي وقد صار لي خلاصاً” (أش2: 1).

 

وهنا
يعترضنا سؤال: كيف نحصل على هذه القوة؟

ويرينا
بولس الرسول الوسيلة التي بها نحصل على القوة بقوله “بسبب هذا أحنى ركبتي لدى
أبي ربنا يسوع المسيح لكيي يعطيكم بحسب غني مجده أن تتأيدوا بالقوة بروحه في
الإنسان الباطن. ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم” (أف14: 317).

 

فليتك
يا أخي تحني ركبتيك لكي تتأيد بقوة الروح في الداخل، ويحل المسيح بالإيمان في
قلبك. اصرخ مع داود النبي قائلا: “ارحمني يارب لأني ضعيف” (مز2: 6). ولا
بد أن يستجيب الرب لأنه جاء من أجل الضعفاء ليعطيهم القوة.

 

الفصل الرابع: وسائط
النعمة

أولاً: الإيمان

ثانياً: الأسرار

ثالثاً: الممارسات الروحية

 

وسائط
النعمة

عرفنا
مما سبق أن النعمة هي عطية مجانية معروضة على جميع الناس. ولكن ما يهمنا توضيحه هو
كيف يحصل الإنسان على هذه النعمة. ومن قلوبنا نشكر الله الطيب لأنه إذ أعد لنا
النعمة، وضح لنا وسائل الحصول عليها وهي:

الإيمان.

الأسرار.

الممارسات
الروحية.

 

أولاً: الإيمان

معلمنا
بولس الرسول يقول “لأنكم بالنعمة مخلصون بالإيمان وذلك ليس منكم هو عطية
الله. ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد” (أف8: 2). فيوضح أن الإيمان هو وسيلة نيل
النعمة، لذلك نراه يقول “إذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله” (رو1:
5). فالتبرير الذي هو أول أعمال النعمة يحصل عليه الإنسان بالإيمان.

 

تشبيه:

لقد
شبه أحدهم النعمة والإيمان بتشبيه جميل إذ قال (يمكننا أن نشبه الإيمان بالماسورة،
ونشبه النعمة بالنبع الفائض الذي تتدفق منه المياه داخل الماسورة وتروى بنى البشر
العطاش. إنها مأساة كبرى حين تنكسر الماسورة. ينبغي أن تكون الماسورة سليمة حتى
تتمكن من توصيل المياه. وهكذا الإيمان، ينبغي أن يكون صحيحاً ومتينا، يتجه إلى
الله مباشرة، ثم يرجع إلينا محملا بمراحم الله من جهتنا. دعني أذكرك مرة أخري أن
الإيمان ليس إلا القناة أو الماسورة، ولا ينبغي أن تنظر إليه طويلا لدرجة أنك ترفع
من شأنه أكثر من النعمة التي هي مصدر كل بركة إلهية. أحذر من أن تصنع من إيمانك
مسيحاً، أو تنظر لأيمانك وكأنه مصدر الخلاص. نحن نحصل على الحياة حينما ننظر إلى
يسوع وليس بالنظر إلى إيماننا).

فانظر
يا أخي إلى يسوع بعين الأيمان والثقة في أنه المخلص الوحيد الذي يستطيع أن يخلصك
من كل خطاياك وهو يسكب نعمته المخلصة في قلبك خلال هذه النظرة الواثقة في قوة
شخصه.

 

تشبيه
آخر:

لقد
قصدت أن أضع أمامك هذه التشبيهات حتى تستطيع أن تدرك ما هو المقصود من الإيمان.
تأمل إذن هذا التشبيه.

 

إذا
ذهبت إلى شاطئ البحر فانك ستجد كثيراً من الحيوانات الرخوة مختبئة داخل الصخر. هذه
الحيوانات الضعيفة إذا ديست بالقدم فأنها تتحطم، لكنها متى احتمت في الصخرة فلا
توجد قوة تستطيع أن تصل إليها. ومع أنها لا تعرف شيئاً عن جغرافية الصخور، إلا
أنها تعرف كيف تلتصق بالصخر وتحتمي فيه لأمنها وسلامها. إن حياتها هي في الاحتماء
في الصخر والالتصاق به، وكذلك حياة الخاطئ هي في الالتصاق بيسوع المخلص. آلاف
مؤلفة من شعب الله لا يزيد إيمانهم عن ذلك، عن كونهم يلتصقون بالمسيح بكل قلوبهم
وأنفسهم، وفي ذلك الكفاية للسلام في الحاضر، وللأمان في الأبدية. فالمسيح لهم مخلص
قوى مقتدر، صخر ثابت لا يتزعزع، وهم يلتصقون به لأن فيه حياتهم، وهذا الاحتماء
يخلصهم. فليتك يا عزيزي تلتصق به وتحتمي فيه.

 

ثقة
المريض في الطبيب:

عندما
يثق المريض في أحد الأطباء وفي مهارته يذهب إليه ويلقى بنفسه بين يديه، ويكشف عن
موطن المرض، فيجري الطبيب له العملية الجراحية ويستأصل المرض من جسمه. ويقوم
المريض ليشكر الطبيب بعد أن يستفيق من البنج وقبل أن تظهر نتائج العملية. لأنه
واثق أن العملية ناجحة لثقته في مهارة الطبيب.

هذا
هو الإيمان المطلوب. فتأتى بهذه الثقة إلى يسوع طبيب الروح وتمثل بين يديه وتكشف
له سر تعبك وخطيتك التي تشعبت في قلبك. وثق أن يسوع يستطيع أن يستأصل سرطان الخطية
من قلبك. وتقوم في الحال وتشكره لأن العملية قد نجحت فعلا لأنه الطبيب القادر على
كل شئ والمحب الذي يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون. فبعد أن ترفع
قلبك له ليخلصك من ضعفاتك تقوم وتشكره لاستجابته الطلبة مستنداً على وعده الصادق
“وكل ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه (وفي الأصل اليوناني: قد
نلتموه)”. (مت22: 21).

 

الإيمان
والإيحاء السيكولوجي:

ربما
تقول يا أخي أن هذا ضرب من الإيحاء السيكولوجي. كيف أؤمن أنني شفيت وأنا لازلت
مريضاً؟ وكيف أؤمن أنني قوى وأنا لا زلت ضعيفاً، اللهم إلا إذا كانت مجرد إيحاءات
سيكولوجية!!.

 

أخي
لقد نجح الشيطان في اكتشاف هذا التعبير وتلقينه لعلماء النفس لكي يحطم مفهوم
الإيمان. فحقيقة أن الإيحاء السيكولوجي يشبه الإيمان إلى حد كبير في أنه يريد أن
يعطي الإنسان ما ليس فيه، فان كان مريضاً يريد كل منهما أن يعطيه الشفاء، وإن كان
ضعيفاً يريد كل منهما أن يعطيه قوة، وإن كان حزيناً يريد كل منهما أن يعطيه
فرحاً.. الخ. ولكن الفرق بين الاثنين هو فرق جوهري.. فالإيحاء السيكولوجي يستند
على لا شئ فهو مجرد تمنيات ورجاء ليس له ركيزة ولا سند. أما الإيمان فهو ثقة
بالحصول على ما يرجوه الإنسان “الإيمان هو الثقة بما يرجى” (عب1: 11).
وهو متأكد أنه قد نال ما يرجوه. فالإيمان له ركيزة قوية وسند قادر ألا وهو الله
الأمين الطيب. فلا تخلط يا مبارك بين الإيحاء السيكولوجي والإيمان اليقيني. فهل
كان إيمان صاحب اليد اليابسة إيحاء سيكولوجياً عندما قال له رب المجد “مد
يدك” (مر1: 36). وآمن بأنها قد شفيت وعلى هذا اليقين “مدها فعادت سليمة
كالأخرى” (مر6: 30). ولاحظ يا أخي أن عودتها سليمة تم بعد مدها. لأنه وثق في
الشفاء قبل أن يراه لأنه كان ينظر إلى يسوع الطبيب الشافي. وهذا الكلام ينطبق
أيضاً على العشرة البرص.(لو11: 1719). فالمسيح أمرهم أن يذهبوا إلى الكهنة قبل أن
يشفوا، فانطلقوا على هذه الثقة أنهم قد نالوا الشفاء ويقول الكتاب “وفيما هم
منطلقون طهروا” فهل كان انطلاقهم إيحاء سيكولوجياً. أم إيماناً يقينياً.
الفرق بين الإيمان والإيحاء السيكولوجي أن الإيمان يرتكز على يسوع أما الإيحاء
فيرتكز على لا شئ!!.

 

 

هل
تؤمن إذن أن يسوع مستعد أن يقبلك ويغفر كل خطاياك ويبررك، ويقدسك، ويمجدك؟!.

 

الرب
يعطيك هذا الإيمان. لأن الإيمان هبة كما يضح لنا بولس الرسول في قوله “لأنكم
بالنعمة مخلصون بالإيمان، وذلك ليس منكم هو عطية الله.(أف8: 2). وقد أكد هذه
الحقيقة القديس أوغسطينوس بقوله “وخشية أن يفتخر أحد أن الإيمان عمل بشري
مستقل عن النعمة، يوضح الرسول أن الإيمان هو أيضاً من عمل النعمة بقوله:
“وذلك ليس منكم هو عطية الله” (أف8: 2).

(N.P.F.1st. Ser. Vol.V P.229)

 

اطلب
يا أخي عطية الإيمان وسيُعطى لك.

 

الإيمان
والأعمال:

إن
الإيمان الخلاصي الذي به ينال المؤمن التبرير أمام الله، إذ يتخذ المسيح مخلصاً
شخصياً له وبديلا عنه في تحمل عقوبة الخطية، هذا الإيمان الحي الحيوي لابد وأن
تظهر ثماره في حياة المؤمن حتى يتبرر أمام الناس ليتمجد الله فيه. فالأعمال ثمر
الإيمان الحي (العامل بالمحبة). ويجدر بنا أن نوضح أن الأعمال لا تسبق الإيمان
وإنما هي علامة الإيمان الحقيقي. ولهذا قال بولس الرسول لتيطس “أريد أن تقرر
هذه الأمور لكي يهتم الذين آمنوا بالله أن يمارسوا أعمالا حسنة” (تى8: 3).

فالإنسان
الذي حل فيه المسيح بالإيمان “ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم” (أف17:).
أصبح خليقة جديدة ويسلك في الأعمال الصالحة التي أعدها الله له ليسلك فيها، كما
قرر بولس الرسول قائلا “لأننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة
قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها” (أف10: 2).

 

فالله
الذي أعد هذه الأعمال الصالحة، هو نفسه الذي يقوم بتنفيذها في المؤمن كما وضح
معلمنا بولس الرسول أيضاً “لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من
أجل المسرة” (فى13: 2).

 

هذا
عن وسيلة الإيمان بإيجاز فالإيمان ليس ثمناً للخلاص ولكنه وسيلة للخلاص وثمر
للخلاص.

 

ثانياً: الأسرار

لقد
وضح رب المجد أن الأسرار هي وسيلة من وسائل النعمة بقوله: “من آمن واعتمد
خلص”مر16: 16). وبطرس الرسول أيضاً يظهر هذه الحقيقة بقوله “توبوا
وليعتمد كل واحد منكم على اسم المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح
القدس”(أع38: 2).

 

وهكذا
نرى أهمية الأسرار كوسائط نعمة للخلاص. فان تعريف الأسرار هو أنها “وسيلة بها
ننال نعمة غير منظورة بواسطة مادة منظورة. {كتاب علم اللاهوت – للقمص ميخائيل مينا
جزء 2 ص306}

ونستطيع
أن نوضح النعمة التي ننالها في هذه الأسرار.

 

1-
سر المعمودية والتوبة:

في
هذين السرين ننال نعمة التبرير والتجديد. يتضح هذا من قول بطرس الرسول “توبوا
وليعتمد كل واحد منكم على اسم المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح
القدس” (أع38: 2).

 

(أ)
المعمودية:

يقول
عنها السيد المسيح “من آمن واعتمد خلص” (مر16: 16).

 

(ب)
التوبة:

يقول
يوحنا الحبيب “إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا
ويطهرنا من كل إثم” (1يو9: 1).

 

2-
سر الميرون والتناول:

في
هذين السرين ننال نعمة التقديس بثباتنا في المسيح يسوع بالروح القدس الذي يقدسنا.

 

(أ)
الميرون:

في
هذا السر ننال سكنى الروح القدس فينا وهو يثبتنا في المسيح كما يقول بولس الرسول
“الذي يثبتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو الله الذي ختمنا ومنحنا عربون
الروح في قلوبنا” (2كو21: 1،22). ويقول يوحنا الحبيب “وبهذا نعرف أنه
يثبت فينا من الروح الذي أعطانا” (1يو24: 3).

وبالرغم
من أنك مسحت بالميرون إلا أنك أحزنت الروح وأطفأته بعدم إضرامك لهذه الموهبة،
ولهذا يوصينا الكتاب على لسان بولس الرسول قائلاً: “أذكرك أن تضرم موهبة الله
التي فيك” (2تى6: 1).

 

(ب)
التناول:

لقد
وضح رب المجد فاعلية هذا السر بقوله “من يأكل جسدي ويشرب دمى يثبت في وأنا
فيه” (يو56: 6).

 

ويوحنا
الحبيب يوضح لنا القصد من هذا الثبات بقوله “من قال أنه ثابت فيه ينبغي أنه
كما سلك ذاك هكذا يسلك هو أيضاً” (1يو6: 2).

فهل
يا أخي أنت سالك في المسيح يسوع ومتتبعاً خطواته. أم أنك تفصل بين التناول وبين
السلوك.

 

كم
أخشى يا أخي أن تكون ممارستنا للأسرار مجرد ممارسات طقسية دون الحياة بفاعليتها.
فالأسرار تعطيني المسيح. فهل أخذت يسوع وتقابلت معه وتسلك فيه؟! أم أنك تمارس هذه
الأسرار شكلياً؟.

 

لقد
حذر قداسة البابا الأنبا شنوده من هذه الحال فقال: (وأنت يا أخي الحبيب حاذر أن
تكون كالقبور المبيضة من الخارج تهتم بالعبادة والطقس والذبيحة والبخور تاركا أثقل
الناموس الحق والرحمة. (مت23: 23). هذا ما كتبه في مجلة الكرازة تحت عنوان
“شكلية العبادة” {مجلة الكرازة السنة الثانية العدد الخامس – الغلاف}.

هذه
هي الوسيلة الثانية وهي الأسرار في إيجاز ولنا إليها عود فيما بعد.

 

ثالثاً: الممارسات الروحية

ونقصد
بها الصلاة والصوم والكلمة أي دراسة الكتاب المقدس. فهذه كلها ليست فرائض أو
واجبات وإنما هي وسائط نحصل بها على نعمة الله المخلصة كما سنرى.

 

الصلاة:

بالصلاة
ندخل إلى حضرة الله ونتقابل معه لنطلب منه كل ما نحتاج إليه فيعطيه لنا بنعمته.
فقد وعدنا رب المجد قائلا “كل ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه”
(مت22: 21).

 

ففي
الصلاة نطلب الغفران كما علمنا المسيح في الصلاة الربانية “اغفر لنا ذنوبنا..
” (مت12: 6).

 

وبها
نطلب الملء بالروح القدس ليقدسنا فقد سجل الروح القدس حالات ملء بالصلاة فقال
“ولما صلوا تزعزع المكان وامتلأوا من الروح القدس” (أع31: 4). وهذا
طبعاً غير حادثة عماد التلاميذ بالروح القدس يوم الخمسين المذكورة في الإصحاح
الثاني من سفر الأعمال.

 

ولهذا
فقد وضعت الكنيسة للمؤمنين أن يصلوا يومياً في الأجبية (كتاب الصلوات السبع)
قائلين “أيها الملك السماوي المعزى روح الحق.. هلم تفضل وحل فينا وطهرنا من
كل دنس..”.

 

الصوم:

هو
أيضاً وسيلة أوجد بها في حضرة الله وأنحني أمامه في خضوع وتذلل ساكباً نفسي أمامه
ليتحنن على ضعفى ويلبسني قوة من الأعالي، أهزم بها إبليس وجنوده فقد قال الرب
“إن هذا الجنس لا يخرج بشيء إلا بالصلاة والصوم” (مت21: 17). وفي الصوم
ينسكب الروح القدس ليوجهنا ويهبنا القوة في الخدمة كما حدث مع التلاميذ في البداءة
إذ يسجل كاتب سفر الأعمال ما يلي: وبينما هم يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس
“افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه. فصاموا حينئذ وصلوا ووضعوا
عليهما الأيادي ثم أطلقوهما”(أع2: 13،3).

 

الكلمة:

دراسة
كلمة الله تدخلني تواً في حضرة الله لأني في هذه الحالة اسمع لصوته مكتوباً فأكون
على صلة مباشرة معه.. وفي هذه الصلة ينسكب الروح القدس. هذا ما حدث فعلا إذ وقف
بطرس الرسول ليتكلم بكلمة الله في بيت كرنيليوس فحل الروح القدس على الجميع كما
يسجل سفر الأعمال قائلا “فبينما بطرس يتكلم بهذه الأمور حل الروح القدس على
جميع الذين كانوا يسمعون الكلمة” (أع44: 10). وهذا هو عين ما قرره بطرس
الرسول نفسه إذ قال: “فلما ابتدأت أتكلم حل الروح القدس عليهم” (أع15:
11).

 

لهذا
فنحن نقرأ كلمة الله لندخل في حضرته ونوجد على اتصال مباشر به لتسري نعمته فينا
خلال كلمته المخلصة إذ قال عنها بولس الرسول “إنها قوة الله
للخلاص”(رو11: 1). وعندما ودع أهل أفسس قال لهم: “والآن استودعكم يا
اخوتي لله ولكلمة نعمته القادرة أن تبنيكم وتعطيكم ميراثاً مع جميع
المقدسين”(أع32: 20).

هذا
عن الممارسات الروحية كوسائط نعمة.

 

هذه
يا أخي مجرد وسائط نعمة من خلالها أتقابل مع المخلص وأتعلق به وأثبت فيه وأتحد به.
من خلالها أحصل عليه فيصير لي بره وقداسته. ومن خلالها يحل في بروح قدسه يقودني في
موكب نصرته.

 

هذه
هي رسالة وسائط النعمة، هي وسيلة لا غاية. أعبر بها لأصل لحبيبي ولكن ما أكثر
الذين يقلبون الأوضاع فيتخذون من الوسيلة غاية، ويتعلقون بالطريق أكثر من تعلقهم
بشخص الرب يسوع، الذي من أجل التقابل معه قد سلكت هذا الطريق، والذي يسير معي
كصديق في هذا الطريق “عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا” (مت23: 1).

 

لمثل
هؤلاء الأخوة الذين تعلقوا بالطريق وتركوا الصديق أسوق كلمات قداسة الحبر الجليل
البابا الأنبا شنوده الثالث في هذا الصدد، إذ كتب في مجلة الكرازة تحت عنوان (محبة
الطريق) {مجلة الكرازة.السنة الأولي
العدد العاشر ص 6}. أنقلها لك بالنص لأهمية ما فيها وجمال ما
تحتويه. قال: (لماذا أصلي؟ ولماذا أصوم؟ ولماذا أختلي؟ ولماذا أقرأ؟.. هل لكي أصبح
رجل صلاة؟ أو رجل صوم أو خلوة أو معرفة؟ هل أحب أن أكون عابداً؟ هل العبادة شهوة
مستقلة في نفسي لها غرض خاص؟.

 

هل
أريد أن تكبر نفسي، عن طريق النجاح والنبوغ في هذا الطريق؟. هل أنا مهتم بذاتي:
ماذا أكون؟ وكيف أكون؟ ومتى أكون؟ وكيف أتطور إلي أفضل؟.

هل
أنا أحب الله ذاته، أم أحب الطريق الذي يوصل إليه؟. هل أنا مثلا أحب الصلاة، أم
أحب الله الذي أصلي إليه؟ إنني ألاحظ في نفسي أحياناً أخطاء كثيرة: عندما أكمل
مزاميري أفرح: لا لأني تحدثت مع الله وإنما لأنني راهب ناجح في القيام بقانونه
وواجبه في العبادة!!، وعندما لا أستطيع أن أصلي مزاميري جميعها، أحزن: لا لأني
فقدت متعة التحدث مع الله، وإنما لأني راهب فاشل!!. وهكذا أيضاً في صومي، وفي
سهري، وفي قراءاتي..!.

المسألة
إذن شخصية بحتة. هي أنانية واضحة: أريد فيها أن أكبر في عيني نفسي على حساب صلتي
بالله.!.

 

متى
يأتي الوقت الذي لا أصلي فيه مزموراً واحداً، ومع ذلك أكون سعيداً لأني على الرغم
من ذلك كنت ثابتاً في الله عن طريق آخر من العبادة أو غير العبادة.

هل
أنا أصلي من أجل لذة ومتعة الحديث معك، وحلاوة الوجود في حضرتك، أم من أجل أن
أكتسب فضيلة أصل بها إلى الحياة الأخرى؟ أم أنني أصلي لكي أتحدث معك حديثاً أطلب
فيه تلك الحياة.؟. هل الصلاة في نظري هدف في ذاتها أم مجرد وسيلة؟.

 

إن
كنت أثور على إنسان عطل خلوتي وصلاتي، ومن أجل الصلاة والخلوة أفقد سلامي الداخلي،
وأفقد سلامي مع الناس، وبالتالي يتعكر قلبي وأفقد سلامي مع الله أيضاً، إذن فقد
أصبحت الصلاة هدفاً لا وسيلة، وفي سبيل هذا الهدف قد أنحرف وأخطئ!!.

 

إن
العبادة هي مجرد طريق يوصل إلى الله، ولكن الهدف هو الله ذاته. والمحبة طريق،
والخدمة طريق، ولكن واحد هو الهدف، أعني الله.. لماذا إذن نفقد الله من أجل
المحافظة على الطريق الذي يوصل إليه؟!. ومن أجل أن يكون هذا الطريق في الوضع الذي
تشتهيه؟!.

 

فلنحب
الطريق لا لأنه شهي في ذاته _ وحقاً هو شهي_، وإنما لأنه يقودنا إلى الله. ولنسرع
في الطريق ونعبره بسرعة لنصل إليه. والكمال هو أن يكون طريقنا إلى الله ذاته.. هو
الطريق). {مجلة الكرازة السنة الأولى العدد 10 ص 6}.

هذا
هو ما كتبه قداسة البابا الأنبا شنوده الثالث موضحاً الخطأ الكبير الذي نسقط فيه
إن نحن حولنا أنظارنا عن يسوع إلى أي شئ آخر. يسوع يا أخي هو الطريق. (يو6: 14).
وهو الصديق في الطريق. (أم24: 18). وهو الباب. (يو9: 10). وهو راعي الخراف. (يو11:
10). وهو الكل في الكل. (1كو28: 15).

 

 ليت
الرب يسكب من نعمته علينا لنزداد في كل عمل صالح. اسلك يا أخي مع المسيح بالإيمان
خلال الأسرار والممارسات الروحية، فستجد في يسوع شبع نفسك وراحتها فهو الذي قيل
عنه “طوبى لأناس عزهم بك. طريق بيتك في قلوبهم. عابرين وادي البكاء يصيرونه
ينبوعاً. أيضاً ببركات يغطون مورة. يذهبون من قوة إلى قوة. يرون قدام الله في
صهيون” (مز5: 84-7).

 

ختاماً

إلى هنا
أعاننا الرب” وقدم لنا هذه الصفحات التي أرجو بنعمته أن تكون مباركة من يده
الكريمة لتروي النفس العطشانة وتُشبع القلب الجائع فإن وعده الأمين يدوم إلى الأبد
“طوبى للجياع والعِطاش إلى البر لأنهم يشبعون” (مت7: 5).

ولنا
أيها القارئ العزيز لقاء قريب في الكتاب الثاني إن أحب الرب وعشنا، وهو بعنوان
“تمموا خلاصكم”.

الرب
معك. صل لأجل ضعفي،

المؤلف

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى