اللاهوت الروحي

الباب الثاني



الباب الثاني

الباب
الثاني

حتمية
الجهاد الروحي

الفصل الأول: ضرورة الجهاد الروحي.

الفصل الثاني: مفهوم الجهاد الروحي.

مقالات ذات صلة

الفصل الثالث: عناصر الجهاد الروحي.

الفصل الرابع: ميدان الجهاد الروحي.

 

” جاهد جهاد الإيمان الحسن وامسك بالحياة الأبدية “
(1تى12: 6)

 

مقدمة

 رأيت
أيها الأخ المبارك كيف انك معرض للسقوط، لهذا وجب أن تتمم خلاصك بخوف ورعدة.

 وما
طريق إتمام الخلاص سوى الجهاد القانوني المؤيد بالنعمة كما يوضحه لنا الكتاب
المقدس ويشهد له الجميع وفي هذا الباب نعرض لك ما يوضح ذلك.

 

الفصل الأول

ضرورة الجهاد الروحي

 1 شهادة الكتاب المقدس

 2 شهادة آباء الكنيسة

 3 شهادة مشاهير البروتستانت

 

مدخل

 ظن
البعض أنه لا ضرورة للجهاد مطلقا في حياة المؤمن، فحادوا عن جادة الصواب. فإن هذا
الظن في منتهى الخطورة على حياتهم الإيمانية لأنه يتعارض مع روح الكتاب ويناقض
الحقيقة التي لمسها رجال الله المختبرون.

 

 وحتى لا تفقد إكليلك يا
أخي أضع أمامك الأدلة التي توضح لك ضرورة الجهاد من واقع شهادة الكتاب المقدس.
وشهادة آباء الكنيسة وشهادة مشاهير البروتستانت أيضاً.

 

أولا: شهادة الكتاب:

 

 اهتم
الكتاب المقدس بإبراز ضرورة الجهاد في مواضيع كثيرة نقتصر على الآتي:

 *
فبولس الرسول يوصي تلميذه تيموثاوس قائلا جاهد جهاد الإيمان الحسن
وامسك بالحياة الأبدية التي إليها دعيت(1تى12: 6). وحتى لا يعترض أحد
بأن الجهاد المقصود هنا هو الجهاد في الخدمة أقول أن هذه الوصية جاءت تالية لوصية
خاصة بحياة تيموثاوس الروحية إذ يقول له في الآية السابقة مباشرة أما
أنت يا إنسان الله فاهرب من هذا واتبع البر والتقوى والإيمان والمحبة والصبر
والوداعة(1تى11: 6).

 

 فبولس الرسول يقول بلسان
الوحي (جاهد) وصية صريحة تماما مثل وصية (توبوا) فليس فيها مجال للاختيار وإنما هي
وصية لازمة للتنفيذ.

 *
ثم يعود بولس الرسول يؤكد لتيموثاوس ضرورة الجهاد فيقول عن نفسه قد
جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الإيمان أخيرا قد وضع لي إكليل البر(2تى7:
4).

 

 ويتضح فعلا جهاد هذا
الرسول من قوله أقمع جسدي واستعبده حتى بعد ما كرزت للآخرين لا أصير
أنا نفسي مرفوضا.”(1كو27: 9).

 

 * ولهذا فهو يوصي أهل
كورنثوس بالجهاد قائلا “هكذا اركضوا لكي تنالوا. وكل من يجاهد يضبط نفسه في
كل شئ” (1كو24: 9،25).

 *
ويوصي العبرانيين أيضا بذلك قائلا لنطرح كل ثقل والخطية المحيطة بنا
بسهولة ولنحاصر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكملة
يسوع(عب1: 12،2). وفي قوله ولنحاضر بالصبر في
الجهاد”
نص صريح بضرورة الجهاد..

 *
لذلك نراه يوبخهم على عدم الصبر في الجهاد حتى الموت قائلا: لم
تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية(عب4: 12). وفي قوله “مجاهدين
ضد الخطية”
قد وضح اتجاه الجهاد أنه ضد الخطية فلم يدع مجالا للشك بضرورة
الجهاد ضد الخطية.

 *
وبطرس الرسول أيضا يتكلم عن ضرورة الجهاد فيقول لذلك بالأكثر اجتهدوا
أيها الأخوة أن تجعلوا دعوتكم واختياركم ثابتين لأنكم إذا فعلتم ذلك لا تزلوا أبدا.”(2بط10:
1). فهو ينبههم ويحثهم على ضرورة الاجتهاد للمحافظة على الدعوة والاختيار حتى لا
يسقطون ويحرموا من الملكوت.

 *
ولعل بولس الرسول قد أدرك بروح النبوة ما سيصيب الجهاد من إهمال أو من سوء فهم
وتطبيق، لهذا يحذر المؤمنين قائلا: إن كان أحد يجاهد لا يكلل إن لم
يجاهد قانونيا.” (2تى5: 2).

 فقوله
هذا يرينا أنه يتكلم عن الجهاد كقضية مسلم بها لا تحتاج إلى جدال أو نقاش أو إثبات
وإنما الذي يحتاج إلى توضيح في موضوع الجهاد هو نوع الجهاد نفسه فلا بد أن يكون
جهادا قانونيا.

 

ثانيا: شهادة آباء الكنيسة

 

*
يقول مار إسحاق السرياني:

 “محبو
الراحة لا يحل فيهم روح الله بل الشيطان. يا بنى لا تمسك الرياح في كفك أعنى
الأمانة (أي الإيمان) بلا عمل وجهاد”.

 

*
الأب يوحنا:
“علينا أن لا نقف كسالى حتى ولو ساعة واحدة، لأن في
ساعات غفلتنا وتوانينا يأتي العدو خلسة وبغيرة حادة يرمى بذار الزوان. [وفيما
الناس نياما جاء عدوه وزرع زوانا في وسط الحنطة] (مت25: 13).

 

*
القديس أوغسطينوس:
“المعمودية تغسل كل الخطايا عامة سواء
بالفعل أو بالقول أ, بالفكر. أصلية كانت أو فعلية، بمعرفة أو بغير معرفة.

 ولكن
لا تنزع الضعف البشرى الذي يظل يقاومه المتجدد في جهاده الحسن”.
(N. &P. Frs. 1st ser. V P. 404.)

 

*
وقال أيضا:
“لكي نهرب من إطاعة الخطية يجب أن نجاهد في صراع يومي
دائم ضد الميول الدنسة غير اللائقة”. [
Ibid. P 136.]

 

*
ومن أقوله أيضاً:
“في جهادنا الحاضر، قد ارتدينا ثوب البر
الذي أخذناه بالأيمان وارتديناه كدرع.. فرداؤنا في الحاضر هو بلا شك رداء حرب لا
حلة سلام”.

 [1
bid P.168
]

 

 

ثالثا: شهادة مشاهير البروتستانت

 

 وإن كان فئات البروتستانت
ينكرون الجهاد، لكننا نرى أن مشاهيراً منهم يشهدون للجهاد:

 

(1)
شهادة د. ل. مودى
:

 قال
عندما تجددت حديثا سقطت في خطأ كبير، إذ ظننت أن الحرب قد انتهت،
وإنني قد حصلت على النصر والغلبة وأصبح الإكليل في قبضتي. وظننت أن الأشياء
العتيقة قد مضت وأن الكل قد صار جديدا. وظننت أن طبيعتي القديمة الفاسدة التي
ورثتها من آدم الأول قد ماتت وانتهى أمرها. ولكن بعد مضى عدة أشهر في خدمة المسيح،
وجدت أن التجديد ما كان إلا بمثابة تقييد أسمى ضمن قوى الجيش العاملة فحسب،
فالمعركة ما تزال قائمة على الأبواب، ولكي أحصل على الإكليل يجب على أن أجاهد
وأحارب من أجله
.”

(The Overcoming Life. By Moody P.5.)

 

 ثم
أكمل حديثه قائلا: ويوجد عدد كبير من المسيحيين يقعون في نفس الخطأ
فيظنون أن المعركة قد انتهت وأن النصر قد أحرز. واعتقدوا أن ما عليهم ألا أن
يخلعوا المجاديف ويلقوا بها في أسفل الزورق، وعلى التيار أن يحملهم إلى محيط محبة
الله الأبدية. ولكن الحقيقة هي أننا لا بد أن نخترق التيار. فنحن محتاجين أن
نتعلم من السهر ومن الحرب لنحصل على الغلبة والانتصار. فالمعركة لم تنتهي بعد
وإنما قد بدأت الآن وما الحياة المسيحية إلا حياة جهاد وصراع وحرب. وبقدر السرعة
في فهم هذه الحقيقة بقدر ما تكون الفائدة أعظم”

(The Overcoming Life P.7 Moody Press)

 

 واعتقد أن هذا الكلام لا
يحتاج إلى تعليق لشدة وضوحه. فاقرأه ثانية لترى تأكيد الرجل لضرورة الجهاد لإتمام
الخلاص.

(2)
شهادة متى هنري:

 قال
أو ليست مسيحيتنا هي ديانة الحرب والجهاد؟! بلى، فنحن في
نضال دائم مع قوات الظلمة المعادية، ومع كثير من الأعداء الذين يحاولون إبعادنا عن
الرب وعن مجد السماء. ونحن لنا أعداء يجب أن نحاربهم، ولنا قائد نخضع لقيادته،
ولنا راية نحارب من خلفها، ولنا قواعد حربية معينة بها نضبط أنفسنا.

(Metthew Henry’s Commentary Vol. v1 P. 718.)

 

 وقال
أيضا إن الحرب الروحية ضرورية.. فنحن نحارب من أجل أنفسنا
وحياتنا، لهذا يجب أن نكون صابرين وثابتين.. فكل مسيحي قد انضم تحت لواء المسيح لا
بد وأن يجاهد ضد الخطية وضد التعاليم الفاسدة والأعمال الشريرة والعادات الدنسة
سواء
في نفسه أم في الآخرين.

 (Matthew Henrys Commentary Vol. v1 P.955.)

 

ولعلك
ترى توضيحه ضرورة الجهاد ضد الخطية داخل نفسك أولا..

 

(3)
شهادة ف.ب. ماير:

 قال
قد يسألني شخص: هل أنت مخلص؟ فأجيبه: لقد خلصت عندما مات المسيح عني،
وسأخلص عندما يقوم جسدي. ولكنني في كل الوقت أتمم خلاصي. آه. هل أنت تتمم خلاصك؟
(كتاب حياة الذات ص 70).

 

 وقد
قال أيضا يمكن القول أن الخلاص قد تم. ويمكن القول أيضا إن عملية الإتمام
جارية لقد تم عندما مات المسيح. ومع ذلك فإنه جار إتمامه بالروح القدس في قلوبنا.”

 

ويكمل
قائلاً:

 “الخلاص
جعالة عظمي، لها نهايتان، النهاية الأولى على الصليب حيث خلصنا الرب يسوع المسيح
من إثم الخطية ومن قصاص الخطية. والنهاية الثانية هي في مجيئه الثاني عندما يقوم
الجسد ويتحد ثانية بالروح، وعندئذ يكمل الخلاص.

 

 ولكن بين الصليب حيث قضي
يسوع على إثم الخطية، وبين المجيء الثاني حيث يتحد الجسد بالروح. بين هاتين
النهايتين تتم عملية الخلاص من سلطة الخطية ومن محبة الخطية. (كتاب
حياة الذات ص69)

 

 فهذا الرجل يوضح أنه رغم
تمام الخلاص بموت المسيح على الصليب حيث قضى على إثم الخطية إلا أنه لا زال باق
علينا أن نتمم خلاصنا من سلطان الخطية ومحبتها. ولهذا فهو يتساءل: هل أنت تتمم
خلاصك؟

 

(4)
شهادة روبرت بويد:

 قال
قد يصلى المؤمن بشوق كامل، ويغنى بمشاعر داود، ويبكى بغيرة ارميا،
لكن إن لم يكن له جهاده ضد الخطية يخشى أن يكون مخدوعا في نفسه.

(الكلمات
الأولي للمؤمنين الأحداث ص 79).

 

(5)
شهادة بلى جرا هام:

 الآن
وقد اتخذت قرارك، الآن وقد تبررت، وأصبحت من أولاد الله، ماذا بقي عليك؟ هل ثمة
خطوة جديده ينبغي أن تخطوها أم انتهى كل شئ؟ اعلم أنك لست الآن إلا في البداية!
أنت في عالم جديد، العالم الروحي، والكل فيه جديد لك. أنت طفل، وكطفل أنت في بحاجة
إلى حنان وعناية وغذاء وحماية. ليس بوسعك أن تحيا الحياة المسيحية منفرداً، إذ لا
بد لك من “عائلة” تجد فيها المساعدة والشركة، وهذا أحد الأسباب التي من
أجلها أسس المسيح الكنيسة.

 إن
لك أعداء ويالهم من أعداء! يحاولون بشتى الوسائل أن يخنقوا الحياة المسيحية فيك.
فعندما كنت تتخذ قرارك الحاسم كانوا يزأرون ويدأبون محاولين أن يجروك إلى الخطية
أو يزجوك في الانهيار واليأس.

 

 ثلاثة أعداء عليك أن تحاربهم
ما حييت
. وعليك أن تعد العدة لكي تهزمهم وتغلبهم.
. يعلمنا
الكتاب المقدس أن أعداءنا هم: الشيطان والعالم والجسد.

(سلام
مع الله ص 171)

 

 ثم يعود فيقول ” فحربنا
إذن حرب روحية
لا نستطيع أن نخوضها ضد أعدائنا الأقوياء بأسلحتنا الجسدية
الضعيفة.

(سلام
مع الله ص 181).

 

 من كل هذه الشهادات وآيات
الكتاب المقدس ترى يا أخي أهمية وضرورة الجهاد في حياتك الروحية. وفي الواقع يا
أخي أنت محتاج أن تعرف ما هو الجهاد الروحي وكيفيته لأنني أخشى أن تقع فيما قد سقط
فيه الكثيرون إذ ظنوا أن الجهاد هو مجرد أداء تمرينات جسدية أو القيام بأعمال
تصوفية لتقوية الإرادة والعزيمة معتمدين على ذواتهم وقدراتهم ومهارتهم دون
الاعتماد على قوة الروح القدس. فهم بهذا أقرب إلى جماعة اليوجا
الهندية منهم إلى أولاد الله المؤيدين بنعمة الروح القدس.

من
أجل هذا أوضح لك يا أخي فيما يلي مفهوم الجهاد السليم في الفصل التالي.

 

الفصل الثاني

مفهوم الجهاد الروحي

من الكتاب المقدس

من أقول الآباء

من أقوال البروتستانت

 

 الجهاد
في المسيحية يختلف عنه في الأديان والفلسفات الأخرى فالجهاد في غير المسيحية هو
حركة تصوفية تعتمد على المجهود البشرى فحسب للقيام ببعض الأعمال لتعذيب الجسد ظنا
منهم أن هذه الأعمال تخلص الجسد من نجاساته وتطهره من أدناسه، وقد خفي عنهم أن
الجسد الفاسد من الداخل لا تفيده مثل هذه الأعمال. فمثلهم كمثل من يأخذ خنزير
ليغير طبعه عن طريق وضعه في مكان نظيف وتقديم فاخر الأطعمة له وتمرينه على النظافة..
ولكن طبيعته الفاسدة المائلة لقذارة البرك لا زالت فيه من الداخل. فما قيمة كل هذه
التدريبات والتمرينات؟ لا شئ بالمرة. فهو وإن كان قد منع من التمتع برائحة الطين
وقذارة الرمم.. إلا أن قلبه يحلم بها ويعيش في جوها مشتهيا نتانتها.. وإذا
أتيحت له الفرصة اندفع بلا وعى ولا تفكير إلى مراغة الحمأة!!!.

 

قصة
الوزير والخنزير:

 كان
الملك يتنزه مع وزيره فجاءا إلى بركة تتمرغ فيها الخنازير، فقال الوزير للملك هل
يمكن أن تجعل هذا الخنزير لا يتمرغ في الطين؟ فقال الملك هذا الأمر في منتهى
البساطة فالخنزير إذا تعود على النظافة لن يطيق طين البركة.

 

 أمر الملك أن يحضروا
الخنزير إلى القصر وأمر له بأفخر الطعام وأن يلبس ثيابا ملوكية. ودام الأمر لمدة
عام. فأخذ الملك الوزير والخنزير وذهبوا إلى البركة ليريه كيف أن البيئة النظيفة
قد أثرت في الخنزير وبالتالي لن يقبل النزول إلى البركة. وما أن اقتربوا من البركة
حتى نط الخنزير في الطين متهللا وكأنه وجد حياته من جديد!!

 

 فاغتاظ الملك وأمر الوزير
أن يجعل هو هذا الخنزير لا يقبل النزول إلى طين البركة. وفعلا أخذ الوزير الخنزير
وبعد شهر واحد طلب من الملك أن يذهب معه وأخذا الخنزير معهما وذهبا إلى بركة الطين،
وتعجب الملك بشدة عندما لم يجد الخنزير يندفع إلى الطين فظن أن الوزير قد ربطه
وكتفه حتى لا يستطيع النزول، فحاول عبثا أن يجعل الخنزير يقفز إلى طين البركة،
ولكن الخنزير كان يتراجع بقوة بعيدا عن الطين.

 

 سأل الملك الوزير عما
فعله مع الخنزير، فشرح له كيف أنه استدعى طبيبا مشهورا وأجرى للخنزير عملية تغيير
قلبه بقلب حمل وديع، والحمل لا يطيق الطين.

 

 وشرح الوزير للملك كيف أن
المسيح يخلق فينا قلبا نقيا فلا نطيق البقاء في طين الخطية.

 

 فالجهاد في المسيحية ليس
مجرد أعمال بشرية دون نعمة الله. فهو وإن كان عملا بشريا في ظاهره إلا أنه لا
يعتمد على الإنسان في جوهره. وإنما يعتمد على من قال بدوني لا تقدرون
أن تفعلوا شيئاً(يو5: 15).

 

 والجهاد المسيحي ليس
بدءاً للحياة الروحية بل هو محافظة على الحياة الجديدة التي أخذها المؤمن من الله..
وعملية الحفظ هذه لا تعتمد بجملتها على الإنسان وإنما على قوة الله الحافظة إذ قال
بطرس الرسول أنتم الذين بقوة الله محروسون(1بط5: 1)
وكتب عنه المرنم هو حافظ نفوس أتقيائه(مز10: 97). وقال
بولس الرسول أمين هو الرب الذي سيثبتكم ويحفظكم من الشرير(2تس3:
3).

 

 ولكن هل معنى هذا أن دور
المؤمنين في الجهاد سلبي؟ كلا، بل إنه يشترك مع الله في هذا العمل، فقد كتب يوحنا
الرسول قائلا المولود من الله يحفظ نفسه(1يو18: 5).

 وقال
بولس الرسول كل من يجاهد يضبط نفسه في كل شئ(1كو25: 9).

 فمفهوم
الجهاد الحقيقي في المسيحية هو:

جهاد
الروح بالنعمة فيك ومعك ولأجلك إذ قال بولس الرسول “بالروح تميتون اعمال
الجسد”(رو13: 8). وقوله أيضا “لأن الله هو العامل فيكم”(فى13: 2).

 

 وقد كتب الدكتور موريس
تاوضروس المدرس بالاكليريكية في مجلة الكرازة حول هذه النقطة فقال: “إن
المسيحي في جهاده يعتقد بأنه لا يمكن أن يبلغ كماله الروحي والأخلاقي إلا بمعونة
السماء وبعمل النعمة الإلهية فيه. هذه النعمة الإلهية كفيلة بأن تأخذ بيد الإنسان
وتقوده في طريق تحقيق الكمال الروحي. وكذلك فإن المسيحي في جهاده لا يتعرض للمشاعر
الكئيبة الحزينة بل يتمتع بالتهليل الروحي والفرح القلبي.

(الكرازة
السنة الأولى عدد 10 ص 17)

 

 ولكي نزيد هذا المفهوم
إيضاحا نضع أمامك هذه الاقتباسات من:

+
الكتاب المقدس

+
وأقوال الآباء

+
وأقوال مشاهير البروتستانت

 

أولاً: من الكتاب المقدس

حرب
المديانيين:

 يروى
لنا سفر القضاة أن الرب عندما أراد أن ينقذ إسرائيل من يد أعدائهم المديانيين.(قض14:
6).

 

 أخذ جدعون اثنين وثلاثين
ألفا من الرجال وذهب لمقاتلة المديانيين. ولكن الرب قال له الشعب
الذي معك كثير علىَ لأدفع المديانيين بيدهم لئلا يفتخر على إسرائيل قائلا يدي
خلصتني، والآن ناد في آذان الشعب قائلا من كان خائفا ومرتعداً فليرجع وينصرف..
فرجع من الشعب اثنان وعشرون ألفا وبقى عشرة آلاف!!

 

 وقال الرب لجدعون لم يزل
الشعب كثيرا. انزل بهم إلى الماء فأنقيهم لك هناك.. فنزل الشعب إلى الماء.
وقال الرب لجدعون كل من يلغ بلسانه من الماء كما يلغ الكلب فادفعه وحده، وكذا كل
من جثا على ركبته. وكان عدد الذين ولغوا بيدهم إلى فمهم ثلاث مائة رجل..

 

 فقال الرب لجدعون بالثلاث
مائة الرجل الذين ولغوا أخلصكم وأوقع المديانيين بيدك.. وكان المديانيون
كالجراد في الكثرة!!!.(قض2: 77).

 

 فتأمل يا أخي قول الرب
لجدعون اذهب بقوتك هذه خلص إسرائيل! فهل قوة جدعون هذه تخلص إسرائيل
من المديانيين الذين كانوا كالجراد في الكثرة.؟!

 

 واغتر جدعون في قوته وظن
أنه فعلا بهذه القوة يهزم الأعداء وينال الخلاص، فجمع أثنين وثلاثين ألفا من
الرجال المقاتلين وفاته المسكين أنه لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي
قال رب الجنود(زك6: 4).

 

 فأراد الرب أن يعلمه عدم
الاعتماد على ذاته إذ أنقص العدد إلى ثلاثمائة مقاتل!! وماذا يكون مثل هذا العدد
أمام جيش كالجراد في الكثرة؟! دخل جدعون الحرب بهذا العدد القليل وأنتصر فعلا على
الأعداء.. فهل كان النصر بقوة جدعون؟! كلا، وإنما بقوة الرب.. وهنا
يعترضنا سؤال: إن كان النصر ليس بقوة جدعون بل بقوة الله لماذا يصرُ الله على أن
يستخدم قوة جدعون؟ ألم يكن قادر على أن يهزم الأعداء بدون اشتراك جدعون؟

 

 حقيقة كان يستطيع الرب أن
يهزم الأعداء بدون اشتراك جدعون نهائيا، بل كان يستطيع أن يزجرهم قبل أن يصلوا إلى
حدود إسرائيل، وهذا فعلا ما كان يفعله في بعض الأحيان.. ولكن ماذا كانت
النتيجة؟ النتيجة هي أن الشعب كله يظل مستهترا ومستهينا بعمل الله!!!

 

 لهذا فالرب كان يثير
عليهم الأعداء ليوقظهم إذ يضايقونهم فينتبهون ويصرخون إليه.. وكان يصر على
اشتراكهم في الحرب ودفع العدو حتى لا يستهينوا بعمل الله في تواكل وكسل.. ومن
الجانب الآخر كان يطالبهم بالاتكال عليه وطلب معونته، وكان يتدخل هو بقوته معهم
لأنهم لا يقدرون على العدو فعلاً.

 

 فسياسة الله هي أن يشترك
مع الإنسان لإنقاذه من أعدائه ولهذا قال يحاربونك ولا يقدرون عليك
لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك(إر19: 1).

 

 ولاحظ يا أخي قوله أنا
معك أي ليس أنى أنقذك بدونك. لهذا قال القديس أوغسطينوس الله
الذي خلقك بدونك لا يمكن أن يخلصك بدونك“.

 

 وما أجمل ما صوره زكريا
النبي قائلا لأن رب الجنود قد تعهد قطيعه بيت يهوذا وجعلهم كفرس
جلاله في القتال. منه الزاوية، منه الوتد، منه قوس القتال.. ويكونون كالجبابرة..
ويحاربون لأن الرب معهم.(زك3: 105).

 

 لعلك من هذا قد فهمت يا
أخي ضرورة تضامن قوة الرب القادرة على الخلاص مع قوتك العاجزة لإنقاذك من أعدائك
الروحيين.

 

(2)
حرب عماليق:

 هذا
مثال آخر قد ضربه قداسة البابا الأنبا شنوده الثالث لتوضيح تضامن عمل النعمة مع
عمل المؤمن في الجهاد الروحي فقال: كان يشوع بن نون يقود جيش شعب الله ويحارب، وفي
نفس الوقت كان موسى النبي يقف على الجبل رافعا يديه بالصلاة حتى النصرة. فهل انتصر
شعب الله عن طريق جيش يشوع أم عن طريق صلاة موسى؟ يخطئ من يخص واحدة فقط من
الاثنتين. لان يشوع وحده مهما حارب بدون صلاة موسى – أي بدون معونة الله – لا يمكن
أن ينتصر.

 

 وصلاة موسى وحدها ليس
معناها تشجيع شعب الله أن يتراخى ويتكاسل ويهرب من أمام العدو، ويقول تكفي صلاة
موسى.

 

 الجهاد والصلاة كانا
سائرين سويا. هذا يجاهد في الحرب وذاك يصلى. الجهاد والنعمة متلازمان. (كتاب
“لك يابنى” ص70).

 

(3)
إقامة لعازر:

 ولنا
في معجزة إقامة لعازر من الموت شاهد آخر على تضامن عمل النعمة مع الإنسان في إتمام
مقاصد الله.

 

 فيسوع المسيح الذي له
السلطان والقدرة على إقامة لعازر من الموت أما كان يستطيع أن يزيح الحجر عن فم
القبر؟! بلا شك كان يستطيع أن يفعل ذلك بمنتهى السهولة.. ولكنه يريد أن
يشترك الإنسان معه لإتمام مقاصده، فقال للواقفين ارفعوا الحجر..
فرفعوا الحجر حيث كان الميت موضوعا ورفع يسوع عينيه إلى فوق وقال أيها الأب أشكرك
لأنك سمعت لي.. ثم صرخ بصوت عظيم لعازر هلم خارجا. فخرج الميت ويداه ورجلاه
مربوطات بأقمطة ووجهه ملفوف بمنديل. فقال لهم يسوع حلوه ودعوه يذهب.(يو38:
1144).

 وثمة
ملاحظة أخرى تلفت النظر.. أما كان يستطيع يسوع الذي أخرج لعازر من القبر أن يحله
من الأربطة؟! كما حدث معه هو في قيامته إذ عندما قام بطرس وركض إلى
القبر فانحنى ونظر الأكفان موضوعة وحدها.(لو12: 24). وبلا أدنى شك
كان يسوع يقدر أن يفعل ذلك، ولكنها سياسته الإلهية إذ أنه يريد أن يلمس الناس
بأنفسهم قوة عمله عندما يشتركون معه في العمل.

 

 بل نستطيع أن نقول أن الله
يطالب البشر بأن يشتركوا معه فيعملوا ما في مقدورهم،.أما ما يعجزون عنه فالرب
يفعله.

 

 وهذا هو الحال في الجهاد
الروحي فالمؤمن يقوم بالعمل الذي يستطيعه في حدود إمكانياته البشرية معتمدا على
قوة الله في إتمام ما يعجز هو أن يفعله.

 

ثانيا: من أقول الآباء

(‎1)
مثل الفلاح والزرع:

 ضرب
الأنبا مقاريوس الكبير هذا المثل فقال: يحرث الفلاح الأرض ثم ينتظر
الندى والأمطار من فوق. فإذا لم يأت الماء من فوق يصير الكرم بلا ثمر ويصبح الكرام
بلا مكسب من فلاحته.

 

 هكذا أيضا في الروحيات
يجب أن يعمل ويجاهد كل إنسان بإرادة وعزيمة لأن الله يطالب كل إنسان بكده واجتهاده
وعمل يديه، ولكن إذا لم تدركه نعمة الله من فوق، ويشرف عليه جوده وتحننه يبقى بلا
ثمرة من جهاده.

 

 وقال
أيضا: “يحرث الفلاح ويجتهد ويضع بذارة في الأرض ثم يقف منتظرا المطر من فوق،
فإذا لم تظهر السحب وتهب الرياح والعواصف يصير جهاد الفلاح وعمله بلا فائدة. وتبقى
البذور عارية لطيور السماء لتلتقطها”.

 

 ويكمل
قائلا: “هكذا الإنسان المتكل على عمله، الذي لا ينظر إلى فوق بل يكتفي بعمل
يديه، فمهما كان جهاده وصلاته وتقشفه وبعده عن الماديات ومحبته للأخوة الغرباء
فإنه لا يأخذ ثمار جهاده وحبه إذ لم يشرق عليه غنى الله وعمل النعمة ويهب عليه
الروح القدس ويتساقط عليه ندى رحمة الله.

 

 إن
ما كتبه القديس مقاريوس هو من أجمل التشبيهات لإظهار تضامن عمل النعمة بالروح
القدس مع عمل الإنسان الشخصي من أجل إتمام خلاصه.

 

 فعلى الفلاح أن يقوم بحرث
الأرض وبذر البذور. ولكن هل مجرد هذا العمل يأتي بالثمار؟! كلا فلا بد من توفر
العنصر الإلهي العامل في الثمار وهو حيوية البذرة نفسها داخليا، وتوفر مياه الري
الذي يعتمد على سقوط الأمطار.. فلا بد من اشتراك العاملين.

 

 هكذا حياتك الروحية فلا
بد أن تحرث الأرض (تفحص نفسك جيدا وتفتح قلبك بمشيئة راضية) ثم تبذر بذار النعمة
(أي كلمة الله) وتخبئها في قلبك.. وهناك في داخل تربة قلبك يثمر الخلاص إذ في بذار
الكلمة حيوية داخلية، وفي رذاذ النعمة سقى للتربة والكلمة فتنمو حياتك الروحية.

 

الأخ
وأخته:

 وهذا
مثل آخر من بستان الرهبان يلقى ضوءاً على مفهوم الجهاد وتضامن النعمة مع العمل
البشرى فيه.

 قال
شيخ كان إنسان في قرية له أخت جميلة.. وكان أخوها يخاف أن يرسلها
وحدها.. فقام وأمسك بيدها ومضى.. وكان يدخل ويخرج وهو ماسك يديها..
وهكذا كثيرون كانوا ينظرون إلى الصبية ويشتهونها من اجل جمالها، ولم يتمكنوا أن
ينالوا منها شيئا لأن أخاها كان ماسكا بيدها.. هكذا النفس ما دامت ذاكرة اسم ربنا
يسوع المسيح الذي صار لها أخا بالتدبير، فانه يكون في كل وقت ماسكا يدها.. وأن
أراد أعداؤها غير المنظورين خداعها، فإنهم لا يستطيعون أن يفعلوا بها شيئا لأن
أخاها ماسكا بيدها، إن هي تمسكت في كل وقت بربنا يسوع المسيح المخلص ولم ترخه.

 

 أرايت
يا حبيبي أن التمسك بهذا المخلص الصالح الذي هو ربنا يسوع المسيح هو خلاص عظيم،
وحصن منيع، وسلاح لا ينغلب، وخاتم خلاص النفس.

(بستان
الرهبان).

 

(3)
التغصب في بدء الحياة الروحية:

 *
كل
ما تغصب نفسك عليه في البداية سوف يكون سهلاً هيناً عليك في النهاية. وكلما تعبت
في الجهاد اكثر كلما تحنن الرب عليك اكثر.

(قول
لأحد الآباء القديسين).

 *
حينما يرى الرب نية الإنسان واجتهاده، وكيف يغصب ذاته لذكره وعبادته، وكيف يرغم
قلبه سواء رضى أو لم يرض إلى عمل الخير والتواضع والوداعة والصدقة، وكيف هو يبذل
كل ما في وسعه، يتحنن الرب عليه ويظهر له رحمته ويخلصه من أعدائه ومن سلطان الخطية
ويملاه من الروح القدس وحينئذ يتمم وصايا الرب دون تغصب وإجهاد لأن الرب الساكن
فيه هو يكون العامل فيه وبذلك يثمر ثمار الروح بطهارة. (القديس مقاريوس الكبير).

 *
حينما يغصب الإنسان نفسه هكذا إلى كل الفضائل، ويلح في طلب وسؤال كل ما هو صالح
لخلاص نفسه. ويثبت سؤاله بأعماله وجهاده. فإن الرب يعطيه روحه ليعمل به. ويكمل كل
صلاح. وبدون عناء وتغصب يعمل الفضائل التي كان يتممها قبلا بكل جهد وتغصب. وتحل
عليه الحكمة الروحانية ومعرفة الحق وتصير كطبيعة له لأن الله يكون ساكنا فيه.
(القديس مقاريوس الكبير).

 *
بقدر ما يشقى الإنسان ويجاهد ويغصب نفسه من أجل الله. هكذا معون إلهية

 ترسل
إليه وتحيط به وتسهل عليه جهاده وتصلح الطريق قدامه.

(القديس
مار اسحق).

 *
في بدء حياة العبادة يكون الصلاة أمراً ثقيلاً على الجسد والعقل، وإن تركا لذاتهما
لما تقدمنا للصلاة قط. لذلك وجب أن نغصب ذواتنا حتى تصير الصلاة جزءا هاماً من
حياتنا لا نستطيع أن نهمله أو نستغني عنه. (حياة الصلاة الأرثوذكسية ص389).

 لعلك
قد رأيت يا أخي كيف أن الجهاد البشرى يعمل مع النعمة من اجل حياة أفضل.. فاذكر يا
أخي يا من لك حياة متقدمة الآن تلمس فيها عمل الواضح بانسيابية لذيذة أنك في بدء
حياتك الروحية كنت تغصب نفسك على الصلاة والالتصاق بالرب.. وعندما مس الرب عينيك
فانفتحت نسيت تلك الأيام الأولى! في حين أن الرب ما أنعم عليك بما أنت فيه إلا
عندما رأى اشتياقات قلبك وقرعاتك المتوالية على باب نعمته ففتحه لك..

 

(4)
تضامن النعمة مع الإنسان:

 *لا
تعتمد على جهادك وحده كأنه يوصلك إلى ثمار الحياة الروحية. لأن نعمة الله إذا لم
تحل على الإنسان وتبارك جهاده يظل عقيماً بلا ثمرة كتقدمه قايين!

فالجهاد
يؤهلنا فقط للملكوت. والنعمة تقودنا إلى هناك. والجهاد لا يخلصنا من الخطية قط بل
يجلب علينا رحمة الله. (حياة الصلاة الأرثوذكسية).

 *
الرب يعمل مع الإنسان في ارض النفس. أما الأشواك التي يبذرها الشرير

فهي
تنمو، ولكن حينما تكثر النعمة تذوبها وتلفحها شمس البر.

(القديس
مقاريوس الكبير).

 *
لأن إرادة الله أن لا تكون النعمة وحدها هي العاملة فينا وبنا، بل نكون مشتركين
بنصيبنا في الأعمال الصالحة. لاحظ مثلا كيف كان سلوك السيد مع تلاميذه: وضع عليهم
وصايا ليتمموها ليتم بذلك عمل النعمة. فعمل العجائب كان عليه هو، أما الوصية التي
كان عليهم أن يتمموها لتتم المعجزات فهي عدم الاهتمام بشيء. وفتح بيوت الناس أمام
وجوههم كان من عمل النعمة العليا، ولكن عدم حمل شئ اكثر من الحاجة كان من عمل
إنكارهم لذواتهم. ومنحهم السلام والشفاء للناس كان من عمل النعمة، أما السؤال عن
المحتاج وعدم الدخول قبل فحص من هو المستحق كان من الأوامر التي عليهم أن يتمموها.
كان عليهم أن يحتملوا الطرد والإهانة ولا ييأسوا البتة، وخلاصهم ومعونتهم السريعة
في حينها كان على من أرسلهم. (يوحنا ذهبي الفم).

 إن
في هذه الأقوال إيضاح تام لمفهوم الجهاد في تضامن واشتراك من الإنسان مع النعمة
الإلهية.

 

(5)
الجهاد محافظة على روح النعمة:

 قولنا
سابقا أن الجهاد المسيحي من جانب المؤمن ليس شيئا في ذاته وإنما هو محافظه على
النعمة التي من الرب وهذا يوضحه الآباء بقولهم:

 *
بالأيمان ينال الإنسان نعمة، ويكون أهلاً لدخول الملكوت. إلا أنه من الناحية
الأخرى عليه أن يحافظ على روح النعمة ويكون موفقا له في كل أعماله.

 فلا
يأتي عملاً ردياً أو يهمل عملاً من أعمال الله. فإذا داوم على ذلك ولم يحزن الروح
داخله بعمل يوافقه، يمكن عمليا من الدخول إلى ملكوت السماوات. (القديس مقاريوس
الكبير).

(6)
والجهاد تسليم النفس لعمل النعمة:

 في
البدء يكون افتقاد النعمة قليلا مع أن لها القوة لتغسل وتكمل الإنسان في ساعة وذلك
لكي تختبر غرض وميل الإنسان، هل هو محتفظ بحبه نحو الله تماما؟ وهل تخلت نفسه عن
شهوة الشر؟ وهل اسلم نفسه حقيقة لعمل النعمة؟ فإذا ما استطاعت النفس أن تستجيب
لمطامع النعمة وتمتد معها في طريق القداسة والبر فإن النعمة تتأصل في النفس وتمتد
جذورها حتى الأعماق وترتقى بالنفس قليلاً، قليلاً في توافق وسهولة حتى تصير كلها
في أحضان النعمة السماوية.

(القديس
مقاريوس الكبير).

 

ثالثا: من أقوال مشاهير البروتستانت

هذه
بعض مشاهير البروتستانت موضحة مفهوم الجهاد رغم أفكار أغلبيتهم لذلك:

(1)
ف. ب. ماير:

 قال
الله يدخل قلبك لكي يجاهد معك ضد جرثومة الخطية الطفيلية. (وضرب
لذلك مثلا قائلا) روت لي سيدة فاضلة أن ابنها جاءها يوما من المدرسة مصابا بحمى
قرمزية. لقد أتاها في سيارة ملفوفا بالبطاطين. وإذ دخل البيت استقبلته قائلة: يا
ابني لقد أعدَّت أمك غرفة في الدور العلوي لك ولها. وسوف تجلس أمك بجوار سريرك،
ولا تتركك إلا بعد أن تشفى، وسوف تساعدك في الكفاح ضد الحمى..

 

 هكذا
حبست نفسها معه في حجرة نومه. هل تظن أن محبتها له نقصت لأنه قضى وقتاً طويلاً في
عملية الشفاء؟

 

 أيها
العزيز، يا من تشقى بالخطية التي قبلتها في قلبك، إن الله يكره الخطية. لكنه يحبك.
لقد عرف كل شئ عنها قبل أن يختارك. ولذلك فإنه سوف لا يدهش.. وسوف لا تقل
محبته لك. لكن كلما ازدادت خطاياك، وكلما ازددت ضعفاً..ازداد جهاد الله في
قلبك ضد الخطية“.(حياة الذات ص 70).

 

 وقال
أيضاً: عندما يعمل الله في الداخل ينبغي أن تتمم هذا بخوف ورعدة“.(حياة
الذات ص 77).

 

(2)
د. ل. مودى:

 قال:
إن الحياة المسيحية هي حياة جهاد وحرب.. وعندما يعمل الله مع
الإنسان لا بد وأن ينتصر. فنحن عاملون مع الله. (وضرب لذلك مثلا قائلا): إذا أخذت
طاحونة ووضعتها فوق مستوى النهر بأربعين قدماً فهل تستطيع قوة مهما كانت تجعل هذا
النهر يشغل تلك الطاحونة؟ ولكن عندما نخفضها أربعين قدماً ألا تشتعل في الحال؟
هكذا يجب أن نضع في أذهاننا أنه إن أردنا أن نغلب العالم فلا بد وأن نعمل مع الله
(
The Overcoming Life D.L.
Moody P.7
).

 

 ولعل
مودى قد رمز إلى الإنسان بالطاحونة وإلى الروح القدس بالنهر، فكما أن الطاحونة لا
يمكن تشغيلها إن لم توضع في النهر، هكذا الإنسان لا يمكن أن يغلب إلا بقوة الروح
القدس.

 

وقال
أيضا: “
يسوع هو رئيس الخلاص كالقائد المدرب والمرشد المختبر يقود
النفس والروح ضد أعدائها الروحيين، يقودها إلى الغلبة فيعظم انتصارها في كل حروبها
ضد العالم والجسد والشيطان.(حياة القداسة ص27).

 

 كما
قال أيضاً البعض يسيئون الفهم فيقولون ما دام الله قوتنا فليست هناك
أهمية لمقاومة الخطية وسنعتمد على هذه القوة. وبذلك يستمرون في الخطية ويلقون كل
التبعية على الله. إن أولئك لم يفهموا بعد معنى قوة المسيح، فلو أدركوها لما
استمروا تحت الخطية لأن معنى قبول قوة المسيح يتطلب كراهية الخطية ومحاولة التخلص
منها إلى أن تدركهم قوة المسيح المخلصة. (حياة القداسة ص 68).

 

(3)
روبرت بويد:

 إن
الله لا يقدر أن يعمل لنا شيئا نقدر نحن أن نتممه لأنه لم يقصد بالصلاة تشجيع
التهاون. عندما نطلب غلبة على الخطية يجب أن نراقب وأن نتحفظ وإلا كانت صلاتنا مهزلة
من المهازل، يجب أن نتعاون مع الرب في أمر نمونا في النعمة. (الكلمات الأولى
للمؤمنين الأحداث ص15).

 

(4)
بلى جراهام:

 قال
فحربنا إذن حرب روحية لا تستطيع أن نخوضها ضد أعدائنا الأقوياء
بأسلحتنا الجسدية الضعيفة. ولكن عندنا أدوات طيعة في يد الروح القدس وندعه يقاتل
عنا فسوف نحرز النصر الكامل.(سلام مع الله ص 181).

 

 وقال
أيضاً تعلم كيف تقاوم التجربة. إن التجربة ليست خطية وإنما الاستسلام
لها خطية. وإحدى طرق مقاومة التجربة أن تجابه الشيطان بآية من الكتاب المقدس كما
فعل الرب يسوع.. دع يسوع يحارب عنك بالروح القدس.

(سلام
مع الله ص 194).

 

 من
كل ما تقدم يا أخي ترى أن مفهوم الجهاد الروحي السليم هو أن يقدم الإنسان ما في
إمكانياته البشرية، ليس معتمداً عليها في الخلاص، وإنما هي إشارة الموافقة من
جانبه والاستعداد التام لعمل النعمة فيه لإتمام خلاصه وإلا باءت كل مجهوداته
بالفشل وأصبحت عديمة الفائدة وبلا قيمة.

وهذا
ما وضحه نيافة الأنبا شنوده بقوله:

 

+
“جاهد ولا تعتمد على ذراعك البشرية بل معتمداً على نعمة الله ومعونة وفعل
الروح القدس”.

+
وقال أيضا: “الحقيقة أن الجهاد يصبح ذراعا بشريا لو أعتمد الشخص على ذاته فقط.
لو كان يعتبر أنه بمجرد جهاده فقط يخلص نقف أمام الآية القائلة لأنكم
بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً.(يو5: 15).

 

+
وأضاف قائلا: “إن الحرب بدون سلاح لا تصلح. وهذا ليس معناه أن الحرب لا قيمة
لها. بل معناه أننا عندما نحارب بدون سلاح أي بدون نعمة الله ومعونته فإننا لا
ننتصر”.

 

+
وقال أيضا: “جاهد إذن واعتمد على الله في جهادك والله سوف ينصرك”.

[كتاب
لك يا بنيّ ص78،80]

 

 فليتك
يا أخي تدرك هذا وليعطيك الرب فهما حتى لا تعود تؤدى أعمالا بشرية بدون معونة
النعمة ظانا أنها توصلك للملكوت.

 

الفصل الثالث

عناصر الجهاد الروحي

أولاً: العنصر البشرى

ثانياً: العنصر الإلهي

ثالثاً: تضامن العنصرين

 عرفت
يا أخي أن الجهاد في مفهومه السليم هو تضامن العنصر البشرى مع العنصر الإلهي
لإتمام الخلاص. والآن نريد أن نوضح مدى نصيب كل من هذين العنصرين في عملية الجهاد:

 

أولاً: العنصر البشرى

 

يشترك
العنصر البشرى في عملية الجهاد المبارك بالنصيب الآتي:

 

(أ)
الإرادة:

 ففي
الإرادة مجاهدة لرغبات النفس ضد مشتهياتها الرديئة. فعندما تقدم أنت هذا العنصر من
جانبك، فالرب يقوم من جانبه بتثبيت عزيمتك في طريق النعمة، ويميت الرغبات المضادة.
من هذا نستطيع أن ندرك السر الكامن خلف سؤال السيد المسيح لكل مريض أتريد
أن تبرأ؟. ذلك لأنه يريد من المريض أن يشترك في عملية الإبراء ولو
بالإرادة. فإذا قدم المريض من جانبه هذه الرغبة أتم السيد له الشفاء.

 لهذا
يقول القديس مقاريوس: في الروحيات يجب أن يعمل ويجاهد كل إنسان بإرادته
وعزيمته.. ولكن إذا لم تدركه نعمة الله من فوق.. يبقى بلا ثمرة في
جهاده“.

 وقد
قال قداسة البابا الأنبا شنوده الثالث: أمر خلاصك يتوقف إذن على
اتفاق إرادتك مع أرادة الله وقبولك للخلاص“.

 وقال
أيضاً فإرادتك تتحد مع الروح القدس في خلاص نفسك“.

 وأيضاً
فالنعمة عبارة عن سلاح يمكنك به أن تحارب لو أردت (لك
يابنى ص90،71،72).

 فما
قيمة جهادك يا أخي إن كنت لا ترغب في قرارة نفسك أن تترك الخطية؟‍‍ يوجد أناس
يصومون ويصلون ويتناولون من الأسرار المقدسة ويزرفون الدموع أمام الله ولكن قلوبهم
لا تريد أن تفارق الخطية لأن محبتها قد ملكت عليها. أفيرتضي الرب أن يخلصهم وهم لا
يرغبون في ذلك؟

 

 أخشى يا أخي أن يكون هذا
وضعك. فإن كنت كذلك وتشعر بمحبة الخطية المتملكة على قلبك تستطيع أن تطلب من الرب
فيطفئ هذه المحبة الملتهبة إن أردت.

 

(ب)
الإيمان:

 والإيمان
الذي نقصده هنا ليس الإيمان الذي هو ثمرة من ثمار الروح الذي قال عنه الكتاب أما
ثمر الروح فهو محبة فرح سلام.. إيمان..” (غل22: 5).

وليس
الإيمان الذي هو موهبة من مواهب الروح التي كتب عنها الرسول “لكل واحد يعطي
إظهار الروح للمنفعة. فإنه لواحد يعطي بالروح كلام حكمة.. ولآخر إيمان.. ” (‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍1كو12:
7،9).

 

 ولكن الإيمان المقصود هنا
هو الإيمان الخلاصي الذي يتطلبه الرب من الإنسان لينال الخلاص من آمن
واعتمد خلص(مر16: 16).

 

 وقد أوضح الرب يسوع أن
هذا الإيمان هو عمل إرادي عندما سأل والد الفتي الذي كان به روح نجس قائلاً
“إن كنت تستطيع أن تؤمن، كل شئ مستطاع للمؤمن(مر23: 9).
والكتاب يرينا أنه ليس علي الإنسان إلا أن يبدى إشارة الإيمان والرب يثبت هذا
الإيمان، يتضح ذلك من كلمات والد هذا الفتي الذي كان به الروح النجس عندما قال
رداً علي سؤال المسيح السابق أؤمن يا سيد فأعن عدم إيماني(مر24:
9).

فهذا
الرجل يبدي إيمانه ثم يطلب من الرب إتمام ذلك فيقول له: أعن عدم
إيماني. ولقد أدهشني تعبير هذا الرجل فهو لا يقول أعن (ضعف إيماني)
بل (عدم إيماني) وكان هذا الطلب كافياً لأن يتم الرب إيمان الرجل ويجري المعجزة.

 

أخي
إن إتمام خلاصك يحتاج إلى إشارة الإيمان من جانبك والرب سيثبت هذا الإيمان ويكمله
ليتمم خلاصك.

 

 وفي الإيمان يا أخي
مجاهدة النفس ضد شكوكها وارتيابها وزعزعة ثقتها.. وعندما يرى الرب ثباتك رغم هذه
التيارات التي تقلقك يتقدم هو ليبارك عليك وينتهر رياح الشكوك وتيارات الارتياب.
وفي هذا الصدد قال القديس يوحنا (من كرونستادت):

 

 الإيمان هو فم الروح كلما انفتح بسخاء كلما انسكبت فيه الينابيع
الإلهية. آه..!! ليت هذا الفم على الدوام مفتوحاً فلا تحبسه شفتا الشك وعدم
الإيمان فتنحبس عنا كثرة أنعام الله. وقال أيضا: في شدة
إيمانك الصادق به يصير اتحادك معه. وحينئذ ما تطلبه يكون لك حسب مشيئته سواء كان
من أجل خلاصك أنت أو من أجل قريبك..

 

فهل
تستطيع يا أخي أن تؤمن أن الله قادر أن يعمل فيك لإتمام خلاصك “من ثم يقدر أن
يخلص إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله إذ هو حي في كل حين يشفع فيهم
(عب7: 25).

 

 هل تستطيع أن تؤمن أن
الرب معك في جهادك طول الطريق ضد أعداء النعمة يدعون اسمه عمانوئيل
الذي تفسيره الله معنا.(مت23: 1).

 

 إن كان لك هذا الإيمان
فسوف تغلب العالم هذه هي الغلبة التي تغلب العالم إيماننا.(1يو4:
5).

 

 وإن كان لك هذا الرسوخ في
الإيمان تغلب الشيطان قاوموه راسخين في الإيمان” (1بط8: 5).

 

 وإن كان إيمانك ضعيفا
لدرجة الانعدام اصرخ قائلا: يا سيد أعن عدم إيماني.(مر24:
9).

 

 وليس مقياس إيمانك الحس
والشعور كما قلت سابقا، ولكن هو تصديق مواعيد الله. فقد وعد الله أنه يقدر أن
يخلصك إلى التمام (عي7: 25) فهل تصدق ذلك وتثق فيه من كل قلبك.. إذن سلم ذاتك له
في اتكال تام عليه.

 

(ج)
الهروب:

 يقول
القديس أوغسطينوس: الهروب من إطاعة الشهوات هو جهاد دائم وصراع يومي
ضد الرغبات الغير لائقة.

(N.P. Frs 1st Ser. Vol. V P. 13G)

 

 ففي
الهروب مجاهدة للنفس ضد ميولها وانحرافاتها نحو مجال الخطية والإثم. فان قمت بهذا
العمل من جانبك فإن الرب من جانبه يميت ميولك الداخلية المنحرفة.

 ولهذا
حرص القديس باسيليوس أن يقول في القداس الإلهي: أنعم لنا يا سيدنا
بعقل وقوة وفهم لنهرب إلى التمام في كل أمر رديء للمضاد. ثم يطلب
قائلا: والمجرب أبطله واطرده عنا. وانتهر أيضا حركاته المغروسة فينا. واقطع عنا
الأسباب التي تسوقنا إلى الخطية.(القداس الإلهي).

 وفي
صلاة الأجبية نقول: أمت حواسنا الجسمانية أيها المسيح إلهنا ونجنا.
فلا بد لك يا أخي أن تهرب من مجالات الخطية لتتم خلاصك.. ولكن لا يكون هروبك من
هذه المجالات سلبياً فحسب.. بل بعد أن تفرغ القلب من أشواق الخطية لا بد وأن يملأه
بالأشواق المقدسة.. بعد أن يفرغ من إبليس لا بد وأن يملأه يسوع.. وإلا عاد هذا
الشيطان بعد تجوال في برية لا يجد فيها راحة فيجد قلبك مكنوساً مزيناً فيرجع ومعه
سبعة شياطين أشر منه!! (مت12: 45).

 

 لهذا حرص معلمنا بولس
الرسول أن يوضح ذلك لتلميذه تيموثاوس بقوله: أما الشهوات الشبابية
فاهرب منها. ولا يكتفي بهذا الوضع بل يحثه على استكمال هذا الأمر
بقوله: واتبع البر والإيمان والمحبة والسلام مع الذين يدعون الرب من
قلب نقي.(2تى22: 2).

 

 فما هو قيمة الهروب من
مجال اللذة الباطلة في الخطية إن لم يتلذذ القلب باللذة الحقة في الرب؟! فإن عملية
الهروب لا تكون إلا مجرد حرمان وعذاب ونسك تصوفي ممقوت إن لم تجد النفس لذتها
وسعادتها في شخص الرب يسوع المبارك.!!

 

(د)
التغصب:

يجب
ألا يغيب عن بالك يا أخي حقيقة هامة وهي أن الجسد يشتهى ضد الروح
(غل5: 17) لهذا لا بد من عدم الاستسلام لرغبات الجسد ليس في شهوته فحسب بل في طلبه
للراحة أيضاً.. فبينما الروح نشيط نجد أن الجسد ضعيف (مت26: 41) لهذا
فأحيانا تشتاق النفس لمحادثة حبيب الروح وإذ بالجسد في تكاسله يشدك إلى الفراش..
أو بسبب مرض يقعدك عن الاتصال.. فهل تستسلم إذن لسلطان الجسد؟! هنا الخطورة
البالغة على الحياة الروحية بأكملها.. من هنا لزم للمؤمن أن يغصب جسده
لإتمام مقاصد الروح.

 

وفي
هذا قال القديسون
:

 *
“يقول الناس إذا كنت لا تشعر بميل إلى الصلاة فالأحسن لا تصلى. هذا احتيال
وسفسطة جسدانية. لأنك إذا كنت تصلى فقط حينما يكون لك ميل للصلاة، فأنت لن تصلى قط.
لأن ميل الجسد الطبيعي هو ضد الصلاة. ومعروف أن الجسد يشتهي ضد الروح“،
وملكوت الله كل واحد يغتصب نفسه إليه(لو16: 16). فأنت لن
تستطيع أن تعمل لخلاص نفسك إذا لم تغتصب ذاتك”. (الأب يوحنا من كرونستادت).

*
“لا تتبع راحة الجسد ولكن صلي. وصلي بجد واهتمام حتى ولو كنت طول النهار تكد
وتتعب. لا تكن مهملاً في الصلاة المقدسة.. (لا أصعد على سرير فراش ولا أعطى
لعيني نوما أو لأجفاني نعاساً ولا راحة لصدغي إلى أن أجد موضعاً للرب). (مز131).

 (القديس
مار اسحق السرياني)

 *
“حينما نصلي يجب أن نغصب ذواتنا كل لحظة لننطق كل كلمة بصحو وشدة من شعور
القلب. وعندما نهمل الصلاة تصبح بلا شك ضرباً من الرياء والغش وتخلو من روح
العبادة والتقوى”. (الأب يوحنا من كرونستادت)

 

 * “إن من يتلو
صلواته بتسرع وهو مغلوب من كسله ونعاس جسده، دون أن يتفهم معاني الكلمات في قلبه،
ويتحسس روحها بمشاعره ووجدانه، لا يخدم الله البته بل يرضى نفسه ويسكت ضميره. هذه
ليست صلاة لكنها ضرب من الكذب ومخاتلة الله. الله روح والذين يسجدون
له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا”.(يو24: 4). فمهما كان جسدك ضعيفا متكاسلا.
ومهما كانت تيارات النعاس شديدة وقد سرت في جسدك كله وأخذت ترضى أعضاءه عضوا بعد
الآخر. هنا وقت الشهادة، قم انفض غبار الكسل وانزع نوم الغفلة، وجاهد نفسك
حتى تغلبها ولا تشفق عليها. ومن أجل حبك لله ارفض ذاتك واجحدها وتقدم للصلاة بقلب
شجاع ونفس حارة.

 (الأب
يوحنا من كرونستادت).

 *
مهما كان الجسد متعبا من عمل النهار فالصلاة لا تزيده تعبا بل على العكس فإن
الصلاة سوف تنعش روحك وجسدك أيضا. (أحد آباء البرية)

 *
ثم إن التغصب يا أخي ضروري للمؤمن المبتدئ الذي تمتع بنعمة التغيير والتجديد.. فهو
محتاج لأن يغصب نفسه على الصلاة حتى تصبح جزءا لا يتجزأ من كيانه.

 *
في بدء حياة العبادة تكون الصلاة أمرا ثقيلا على الجسد والعقل. وإن تركا لذاتيهما
لما تقدمنا للصلاة قط. لذلك وجب أن نغصب ذواتنا حتى تصير الصلاة جزءا هاما من
حياتنا لا نستطيع أن نهمله أو نستغني عنه. (أحد شيوخ البرية).

 *
كل ما تغصب نفسك عليه في البداية سوف يكون سهلا هينا في النهاية. (أحد الآباء).

 *
والجهاد في الصلاة عموما عمل مقدس يستمطر فيض النعمة الإلهية ذات البركات الغنية.
فبولس الرسول يضع لنا هذا المبدأ بقوله أطلب إليكم أيها الاخوة.. أن
تجاهدوا معي في الصلوات..(رو3: 15).

 

 ويحكى لنا الكتاب قصة
صراع في الصلاة كان بطلها يعقوب إسرائيل بقى يعقوب وحده، وصارعه
إنسان حتى طلوع الفجر، لما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه، فانخلع حق فخذ يعقوب
في مصارعته معه، وقال اطلقني لأنه قد طلع الفجر. فقال لا أطلقك إن لم تباركني..
فقال لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل. لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت.
وباركه هناك(تك24: 3229).

ويعلق
هوشع النبي على قصة صراع يعقوب هذه بقوله: بقوته جاهد مع الله..
بكى واسترحمه(هو3: 12).

 

فالصراع
يا أخي في الصلاة معناه دموع منسكبة، أنات وتنهدات، زفرات وصرخات، طلبات وتضرعات.
هذا ما صوره معلمنا بولس الرسول عن صراع رب المجد نفسه يسوع في بستان جسثيماني
قائلا: الذي في أيام جسده إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات
للقادر أن يخلصه من الموت وسمع له من أجل تقواه(عب7: 5).

 

 ألا
تريد أن تتمثل بسيدك فتجاهد في صراع مع الله ألا تريد أن تتشبه برجال الله
القديسين لكي يتمم الرب خلاصك “تمموا خلاصكم بخوف ورعدة” (فى12:).؟

 

 ولكن اعلم يا أخي أن
الصلاة في حد ذاتها كلا شئ إنما هي مجرد قنطرة العبور إلى شاطئ الروح حيث تلتقي النفس
بمن تحبه وهناك تعانقه في شوق وهيام!!!

 

 بانسياب تيار الحرارة
الروحية الحلو الدافئ في القلب. وفي شغف الفرح بل إن التغصب يا أخي هو من ألزم
الأمور في معالجة الفتور الذي يعتري المؤمن أحيانا وقد قيل في هذا الصدد:

 *
[أحيانا تفتقد النفس حركة روحانية حادة تتذوق فيها الله بحرارة وتشتعل بحب الأشياء
الإلهية. ثم تعود تفقدها فتجدها قد بردت وجفت منك لأن التشويش الحادث من خلطة
الناس قد أصابك في موضع ما. أو لأنك تكون قد فضلت بعض الأعمال الجسدية وقدمتها على
خدمتك الروحية. إلا أنه على أي حال فالدموع وقرع الرأس على الأرض أثناء الصلاة
وانسحاق النفس تسرع مرة أخرى بانسياب تيار الحرارة الروحية الحلو الدافئ في القلب،
وفي شغف الفرح الروحي الممدوح يطير القلب وراء الله هاتفا: عطشت نفسي
إلى الله الحي القوى. متي أجئ وانظر إلى وجه الله(مز 42).

 كل
من تذوق حلاوة هذه الخمر ثم فقدها وحرم منها يعرف جيدا أي عذاب وصلت إليه خسارته
التي خسرها بسبب انحلاله.] (القديس مار اسحق السرياني)

 

 إن كان التغصب ضروريا
لمناهضة رغبات الجسد، ومهماً بالنسبة للمؤمن المبتدئ في صلاته فهو ضروري أيضا
لممارسة الفضائل المسيحية التي هي ثمار الروح.

 

 فإذ يحل الروح القدس في
المؤمن يغرس فيه بذار الفضائل الروحية التي ذكرها بولس الرسول أما
ثمر الروح فهو محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح إيمان وداعة تعفف.(غل22:
5).

 

 وهذه البذار التي غرست
تحتاج إلى سقى دائم من سحائب النعمة الهاطلة مع دموع الصلاة المنسكبة.. وإلى جانب
ذلك تحتاج إلى تنقية التربة القلبية باقتلاع ما فيها من شوائب تحول دون نمو هذه
البذار.. لهذا وجب غصب النفس على أن تتيح الفرصة للبذار أن تثمر.. وهذا ما سماه
الرسول (ضبط النفس) فقال: كل من يجاهد يضبط نفسه في كل شئ.(1كو25:
9).

 

 ومتى نمت هذه البذار
وأثمرت لا يحتاج المؤمن فيما بعد إلى تغصب أو إرغام كما وضح رجال الله المختبرون
في أقوالهم:

 *
[الإنسان الذي يرغب أن يأتي إلى الرب.. كل ما يغصب نفسه لأجله ويعمله وهو
متألم بقلب نافر غير راضى سوف يأتي عليه يوم يعمله برضى وقبول.] (القديس مقاريوس
الكبير).

 *
[حينما يرى الرب نية الإنسان واجتهاده، وكيف يغصب ذاته لذكره وعبادته، وكيف يرغم
قلبه سواء رضى أو لا يرضى إلى عمل الخير والتواضع والوداعة والصدق، وكيف هو يبذل
كل ما في وسعه يتحنن الرب عليه ويظهر له رحمته، ويخلصه من أعدائه، ومن سلطان
الخطية، ويملأه من الروح القدس وحينئذ يتمم وصايا الرب دون تغصب وإجتهاد. لأن الرب
الساكن فيه هو يكون العامل فيه. وبذلك يثمر ثمار الروح بطهارة.] (القديس مقاريوس
الكبير).

 

 * [حينما يغصب الإنسان
نفسه هكذا إلى كل الفضائل، ويلح في طلب وسؤال كل ما هو صالح لخلاص نفسه، ويثبت
سؤاله بأعماله وجهاداته فإن الرب يعطيه روحه ليعمل به. ويكمل كل صلاح. وبدون عناء
وتغصب يعمل الفضائل التي كان يتممها قبلا بكل جهد وتغصب. وتحل عليه الحكمة
الروحانية ومعرفة الحق وتصير كطبيعة له لأن الله يكون ساكنا فيه.] (القديس مقاريوس
الكبير).

 

 وبالجملة يا أخي فإن
التغصب أمر لازم في جميع الاتجاهات الروحية حتى لا نرضى الجسد في رغباته ضد الروح.

 

 * [إن أمر غصب النفس على
العمل هو أمر هام جدا في الأمور الدنيوية والروحية أيضا: للصلاة، لقراءة الإنجيل
والكتب الروحية النافعة، حضور الخدمات الإلهية في الكنيسة، للتعليم، للوعظ، لخدمة
الكلمة. لا تطع الجسد الكسول الغاش لأنه مملوء خطية فإني أعلم أنه
ليس ساكن في أي في جسدي شئ صالح.(رو18: 7). والجسد يشتهى أن يرتاح
على الدوام غير مكترث بالهلاك الأبدي الذي يكون عوض راحته القليلة الزائلة. ملكوت
الله يغصب والغاصبون يختطفونه.(مت12: 11)]. (القديس مار إسحق
السرياني).

 

(ه)
الصوم:

 فالصوم
يا أخي هو جهاد ضد الذات لإماتتها، ليس ضد شهوة البطن فحسب بل ضد كل رغبات الجسد
الذي هو مسكن الذات وستارها. وفي حرمان الجسد من شهواته انطلاق للروح ليتمم
مشتهياته لأن الروح يشتهى ضد الجسد والجسد ضد الروح.(غل13:
5).

 

 فعدم سماحك للجسد أن يكمل
شهوته هو إعلان رضاك للسلوك بالروح أقول اسلكوا بالروح فلا تكملوا
شهوة الجسد(غل16: 5).

 *
كل جهاد ضد الخطية وشهواتها يجب أن يبتدئ بالصوم خصوصا إذا كان الجهاد بسبب خطية
داخلية. (القديس مار أسحق السرياني).

 *
إذا ابتدأت بالصوم في جهادك الروحي فقد أظهرت بغضتك للخطية وصرت قريبا من النصرة.
(القديس مار اسحق السرياني).

ومن
اجل هذا قال داود النبي أذللت بصوم نفسي.(مز13: 35).

 

 وقال أيضا
أبكيت بصوم نفسي.(مز10: 69). ولا يفهم من هذا أن الصوم هو مجرد إذلال
للنفس وتعذيب للجسد وإنما هو:

حرمان
من الطعام الأرضي للتمتع بمن السماء غذاء الروح.

حرمان
من خبز الأرض للشبع بخبز الحياة يسوع.

تفريغ
للنفس مما يملأ البطن استعدادا للملء بالروح.

إشارة
خضوع الجسد لقيادة الروح في انسحاق وخشوع.

ضبط
لكل غرائز الجسد لوضعها تحت سيطرة الروح.

إذلال
للجسد حتى ينتعش الروح.

 

 إذلال لذلك الوحش الرابض
في القفص الصدري بتفريغ معلفه الكائن بالتجويف المعوي. وإخضاعه لسلطان الروح. ثم
أنه بالصوم أيضا إعلان لضعفك البشرى ومسكنتك أمام الرب حتى يتحنن ويشفق عليك فيمد
يد المعونة لنجدتك. هذا ما يوضحه يوئيل النبي قائلا الآن يقول الرب
أرجعوا إليَّ بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح. مزقوا قلوبكم لا ثيابكم. قدسوا
صوماً نادوا باعتكاف.. فيغار الرب لأرضه ويرق لشعبه ويجيب الرب ويقول لشعبه:
لا أجعلكم عاراً بين الأمم والشمالي أبعده عنكم واطرده إلى أرض ناشفة ومقفرة(يؤ12:
220).

 

 فتأمل يا أخي في قوله: يرق
لشعبه.. والشمالي أبعده ما أرق قلب الله إذ ينظر إلى شعبه
الصائم النائح فيرق له ويبعد عنه الشمالي (أي العدو الآتي من الشمال)

 

 هكذا
الأمر معك يا أخي فصومك في حد ذاته بلا قيمة وإنما هو وسيلة لتسترق بها قلب الله
فيمد يده ويبعد الشمالي (أي إبليس) بعيداً عنك.

 فليتك
تكون قد فهمت الآن معني الصوم فهو العنصر البشري في الجهاد إذ تقدمه في انسحاق
وتذلل فيكمل الرب عمله إذ يبعد عنك الشمالي.

 وعلاوة
على ذلك فإن الصوم هو عملية تمهيد وتهيئة القلب لقبول نعم مباركة من لدن الرب فقد
قيل:

 

 *
موسى صام أربعين يوماً ثم صعد على الجبل وتكلم مع الرب كما يتكلم الرجل مع صاحبه.
وأخذ من الرب لوحي الوصايا المكتوبة بإصبع الله، ودانيال صار في الرؤيا بعد ما صام
واحداً وعشرين يوماً، والفتية الثلاثة لم تؤذهم نار الأتون المحمى بسبب صومهم
وصلاتهم. (القديس باسيليوس الكبير).

 فلا
يكون صومك مجرد فريضة تؤديها في مناسباتها ولا واجب ثقيل تتململ وتضايق منه ولا
عادة تتبعها دون الاستفادة منها.. بل ليتك يا مبارك عندما تصوم تضع في قلبك
كل هذه المعاني الروحية للصوم.. ثم في نهاية اليوم تحاسب نفسك عن البركات
التي نلتها في أثناء فترة صومك.

 

(و)
السهر:

 اصحوا
واسهروا لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسا من يبتلعه هو.(بط8: 5).
فالسهر يا أخي هو أحد جوانب العنصر البشرى في الجهاد الروحي. وليس معنى السهر هو
عدم النوم في الليل فقد يكون المؤمن نائما بينما قلبه مستيقظ. أنا
نائمة وقلبي مستيقظ.(نش2: 5).

 وإنما
مفهوم السهر هو اليقظة الروحية الدائمة كما يتضح مما يلي: “لسنا في
حاجة إلى شئ قدر حاجتنا إلى القلب اليقظ المجاهد.”(الأنبا ألمتنيح بيمن).

والسهر
يا أخي يشتمل على:

 

*
الانتباه والصحو
:

فبولس
الرسول يقول: لا ننم إذن كالباقين بل نسهر ونصح(1تس6: 5).
فالسهر دائما يرتبط بالصحو كما يوضح أيضا معلمنا بطرس الرسول بقوله: اصحوا
واسهروا..”(1بط8: 5).

 ولهذا
كتب الآباء في صلاة نصف الليل: نبه عقولنا وأيقظ قلوبنا من نوم
الغفلة.(تحليل الكهنة). والمقصود من الانتباه والصحو هو الحذر
والاحتراس من حيل إبليس وخداعه ولذلك يقول بطرس الرسول: اصحوا
واسهروا لان إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسا من يبتلعه هو.(بط8: 5).

 فإذ
نحن في ميدان حرب دائمة مع قوات الشر الروحية لهذا يجب أن نكون متيقظين ومنتبهين
على الدوام لئلا يغافلنا العدو ويقتحم حصوننا فيهلكنا.

 فكن
حذراً يا أخي واحترس من حيل إبليس وتجاربه لهذا يحذرنا رب المجد قائلاً: اسهروا
وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة.(مر38: 14).

 

*
التحفظ:

 يقول
يوحنا الرائي طوبى لمن يسهر ويحفظ ثيابه لئلا يمشى عريانا فيروا
عورته.(رؤ15: 16).

 

 فكما أن الحارس الساهر
يقوم بحفظ ما يحرسه من التبديد، هكذا المؤمن الساهر يحفظ ثوب النعمة الذي اكتسى به
وستر خزي عورته حتى لا يغافله إبليس ويجرده من ثيابه فيمشى عرياناً.

 

 وكما أن الحارس الساهر لا
يخشى فقط من اللصوص النهابين، بل وأيضا يتحفظ من حقد الأعداء المخربين إذ قد
يغافله أحدهم ويلقى بجمرة نار على ما يحرسه فيحترق، أو يلقى ببعض المواد الضارة
فيفسده.

 

 هكذا المؤمن الساهر يتحفظ
من أعدائه الروحيين، الذين يريدون إفساد قلبه بأفكار الشر والدنس أو حرقه بنار
الغيرة غير المقدسة والغضب الذي لا يصنع مرضاة الله.. الخ.

 

 لهذا كتب سليمان الحكيم
قائلا فوق كل تحفظ احفظ قلبك لأن منه مخارج الحياة(أم23:
4).

 

 ويحذرنا هذا القديس
المختبر في ساعات غفلتنا وتوانينا لئلا يأتي العدو خلسة وبغيرة حادة يرمى بذار
الزوان. “وفيما الناس نيام جاء عدوه وزرع زوانا في وسط الحنطة.(مت25:
13). (الأب يوحنا من كرونستادت).

 

*التسلح:

 الجندي
الساهر لا بد وأن يكون متسلحاً إذ ما قيمة سهره إن كان أعزلاً من كل سلاح؟!

 هكذا
المؤمن الساهر لا بد وأن يكون متسلحاً بالأسلحة الروحية ليكون مستعدا للدفاع عن
نفسه متى هجم عليه الأعداء.

 ولهذا
كتب بولس الرسول قائلا “لنسهر ونصح لابسين درع الإيمان والمحبة وخوذة هي رجاء
الخلاص.” (1تس6: 58).

 

 ونراه في أكثر تفصيل
يستعرض الأسلحة الروحية التي يجب أن يتسلح بها كل مؤمن ساهر مجاهد ضد قوى إبليس
المعاند فيقول: البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد
مكائد إبليس.. فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع
ولاة هذا العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات. من أجل
ذلك احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير وبعد أن
تتمموا كل شئ أن تثبتوا. فاثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق. ولابسين درع البر. وحاذين
أرجلكم باستعداد إنجيل السلام. حاملين فوق الكل ترس الإيمان الذي به تقدرون أن
تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة. وخذوا خوذة الخلاص وسيف الروح الذي هو كلمة
الله.(أف10: 616).

 

 فالسلاح
يا أخي هو سلاح الله قد أعده لك ووهبك إياه، فقط عليك أن تتسلح به فهل أنت لابس
منطقة الحق أى الأمانة والإخلاص؟ وهل أنت متدرع ببر المسيح أم ببرك الذاتي؟ وهل
تسعى في صنع السلام حقا أم أنك متكاسل متغافل؟ وهل أنت حامل ترس الإيمان والثقة في
مواعيد الرب أم أنت مزعزع الإيمان فاقد الثقة مرتاب متشكك؟ وهل كللت رأسك بخوذة
الخلاص والغلبة أم تنكسها في مذلة الهزيمة والانكسار؟ وهل أنت شاهر سيف الروح الذي
هو كلمة الله؟ أم أنك متوان في التسلح بالكلمة متكاسل في دراستها واستخدامها في
حروبك الروحية؟.

 

*
الاتصال:

 من
لوازم السهر في الجهاد والحرب ضرورة الاتصال. فالجنود في موقع المعركة لا بد وأن
يزوُدوا بالأجهزة اللاسلكية ليكونوا على اتصال دائم بالقيادة إما لأخذ التعليمات
أو طلب النجدة والمدد إذا لزم الأمر.

 

 هكذا المؤمن الساهر
المجاهد لا بد وأن يكون على اتصال دائم بالقائد الأعلى السماوي ليأخذ منه
التعليمات والتوجهات، وليطلب منه المعونة والنجدة في حينها.

 

 لهذا نرى أن بولس الرسل
بعدما وضح أنواع الأسلحة الروحية مؤكدا ضرورة التسلح بها نجده يلحق ذلك بهذا
التنبيه الجوهري مصلين بكل صلاة وطلبة كل وقت في الروح وساهرين لهذا
بعينه بكل مواظبة.(أف18: 6).

 

 وقال أيضا رب المجد يسوع
“اسهروا إذا وتضرعوا في كل حين لكي تحسبوا أهلاً للنجاة من جميع هذا المزمع
أن يكون.”(لو36: 21).

 

 فكيف تهمل هذا العنصر؟
عليك أن تتصل بقائد حياتك الظافر ليوجهك إلى طريق الغلبة؟! لا تستسلم لكسل الجسد
ونوم الغفلة لئلا تسقط!

 

*
التشدد والتقوية:

 من المعلوم
أن الشخص النائم يكون في حالة استرخاء كامل فإذا ما باغته العدو في هذه الحالة قضى
عليه بسهولة إذ لا قوة له للمقاومة، في حين أن المتيقظ الساهر يكون متشدداً فينازل
العدو بكل قوته.

 هكذا
الحال مع المؤمن فعندما يكون غافلاً ونائما يكون ضعيفاً واهن القوى فمتى باغته
أعداؤه الروحيون وهو في حالته هذه تمكنوا من القضاء عليه!.

 

 ولكن إذا ما كان ساهراً
متيقظاً ففي لحظات يستجمع قواه ويتشدد ويستطيع أن ينازل العدو ويقهره بقوة المسيح.
من أجل هذا نرى الروح ينبه ملاك كنيسة ساردس المتغافل قائلا كن ساهرا
وشدد ما بقى الذي هو عتيد أن يموت(رؤ2: 3).

 

 فليتك يا أخي تتشدد وتتقوى
ساهراً على حياتك الروحية حتى لا يغافلك العدو ويهلكك وأنت نائم لهذا اسمع قول
بولس الرسول: اسهروا.. تقووا(1كو13: 16).

 

*
الترقب

والاستعداد:

 فالعروس
لا تنام طالما عريسها بعيداً إذ أن قلبها يظل منشغلا بيوم مجيئه ترقبه بكل لهفة بل
ترسل إليه رسائل تتعجله المجيء.. وإذا كان مجيء عريسها هو لكي يأخذها حتى
تقيم معه في موطنه نراها قد جهزت كل شئ لتكون على استعداد للرحيل معه في أية لحظة.

 هكذا
المؤمن الذي هو عروس المسيح كما يوضح معلمنا بولس الرسول بقوله خطبتكم
لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح.(2كو2: 11). نراه ساهرا متيقظا
يترقب مجيء العريس الذي وعد قائلاً أنا أمضى لأعد لكم مكانا. وإن
مضيت وأعددت لكم مكانا آتي وآخذكم إلى حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً.
(يو2: 143).

 وقد
أوصى قائلاً اسهروا لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم..
لذلك كونوا أنتم أيضا مستعدين لأنه في ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان.(مت42:).

 فهل
يا أخي أنت ساهر ومترقب ذلك اليوم؟ وهل أنت مستعد للرحيل؟ أخشى أن تكون كإحدى
العذارى الجاهلات اللائى نمنَ ولم يكنَّ مستعدات للقاء العريس..! فعندما
جاء العريس دخلت المستعدات معه وأغلق الباب أما الجاهلات غير المستعدات فقد حرمن
من الدخول.. ولهذا ينبهنا المسيح قائلاً اسهروا إذن لأنكم لا
تعرفون اليوم ولا الساعة التي يأتي فيها ابن الإنسان.(مت13: 25).

 

 وأيضا ينبهنا فيقول لتكن
أحقاءكم ممنطقة وسرجكم موقدة وأنتم مثل أناس ينتظرون سيدهم متى يرجع من العرس حتى
إذا جاء وقرع يفتحون له للوقت. طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيدهم يجدهم
ساهرين.(لو35: 1237).

 

(ز)
الصبر والمثابرة:

 يقول
رب المجد من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص. (مت22: 10).
ففي الصبر جهاد ضد القلق، وفيه مثابرة ضد الملل. والصبر والمثابرة يدخلان ضمن العنصر
البشرى الذي تقدمه في جهادك وإذ يرى الرب فيك هذه المشاعر وهذا الاحتمال يكافئك
حتما بالخلاص لأن من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص. ولهذا يقول ميخا
النبي ولكنني أرقب الرب. أصبر لإله خلاصي. لا تشمتي بي يا عدوتي. إذا
سقطت أقوم.. سأنظر بره.(مي7: 79).

 

 فما أجمل الصبر لإله
خلاصك.. وما أجمل المثابرة رغم السقطات إذ ستستحق أن تنظر بر الله، إذ
يبررك من كل خطية برش دمه المطهر من كل إثم. أو ليس هذا ما دعي بولس الرسول أن
يقول إن كنا نصبر فسنملك أيضا معه.(2تى12: 2).

 وهوذا
القديس باسيليوس الكبير يوضح أهمية الصبر والمثابرة بقوله تأمل صبر
القديسين: إبراهيم أبونا دعاه الله وهو صبى ونقله من أرض الكلدانيين إلى فلسطين،
ووعده قائلاً إني أعطيك هذه الأرض ولزرعك من بعدك. ثم تأنى الله على إبراهيم جداً
حتى شاخ وكلت قوته. وما عاد له قدرة على إنجاب الأولاد، ولا سارة امرأته أيضا.
ولكن ما تزعزع إيمانه وثقته بالله. فلا ينبغي أن نمل في صلاتنا حتى ولو طالت بنا
السنون.

 وقال
أيضاً: لعلك تقول قد سألت مرارا كثيرة ولم تأخذ شيئاً. أقول لك حقا
سألت، لكن ربما سألت شيئا حقيراً! أو سألت بغير إيمان! أو بأفكار منحلة وأنت مرتاب.
أو أن الذي سألته غير نافع لك أو ربما لم تدم طويلاً في سؤالك فلم تأخذ لتهاونك
لأن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص!

 

 ثم يكمل قائلاً:
فلا يصغر قلبك (أي لا تيأس) يا ابني إذا لم تنل مسألتك (أي طلبتك) فإنه لو علم
ربنا الصالح أنك لا تتلف النعمة إذا أعطاك إياها لمنحك إياها سريعاً وبدون جهاد
لأنه ما يسر بأتعابنا وشقائنا.

 فهل
أنت كثير القلق والإضطراب سريع الملل في حياتك الروحية؟ أصبر يا أخي لتتمم خلاصك.
وأحذر من الملل الذي يفقدك كل ما نلته.. واثبت في الرب بالإيمان لترى بره..
واسمع قول القديس اغريغوريوس الكبير: اسأل الرب بمثابرة وثقة عن كل
شئ يعود لخلاصك ولتقدمك في الصلاح والعبادة وأنت لن تخيب من نواله.

 

ثانيا: العنصر الإلهي

لقد
عرفت يا أخي مدى نصيب العنصر البشرى في الجهاد الروحي. ولكن في الحقيقة أن كل هذا
العمل البشرى يصبح بلا قيمة على الإطلاق إن اعتمدت عليه مجرداً من الشق الثاني
للجهاد القانوني ألا وهو: العنصر الإلهي.

 

 فإذا اقتصر عمل المجاهد
على العنصر البشرى السابق ذكره مهملا فاعلية العنصر الإلهي فقد انحرف عن الطريق
رغم أنه سائر فيه ولذلك حذرنا سليمان الحكيم قائلا: توجد طريق تظهر
للإنسان مستقيمة وعاقبتها طريق الموت (أم12: 14).

 

 فمتى اتكل الإنسان على
تلك الوسائل وحدها، فإنه بذلك يكون قد ألغي رسالة المسيح وعمل الروح القدس، ويكون
تجسد وصلب السيد المسيح بلا سبب، ويكون انسكاب الروح القدس ومجيئه إلى العالم هو
بلا داع.

 ثم إن من
يتكل على مجرد تأدية تلك الوسائل فقط فذلك يؤدي إلى الكبرياء والسبح الباطل لأنه
آنئذ سيشعر بأن ما أحرزه من انتصارات (مؤقتة) إنما هو راجع إلى قوة إرادته وصلابة
عزيمته وعظمة قدرته.. وهو في الواقع مخدوع ومسكين لأن السيد المسيح قد سبق
فقال بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً. (يو5: 15) فكيف
إذن لهذا المسكين أن يتوهم أنه بمجهوداته الشخصية قد خلص من ذنب وسلطان الخطية.

 ولكن
اعلم يا أخي أن ما قلناه عن نصيب العنصر البشرى في الجهاد الروحي إنما هو بمثابة
إشارة الموافقة من جانبك لعمل العنصر الإلهي فيك ومعك ولأجلك. وبهذا يصبح جهادك
قانونيا.

 

 أن
العنصر الإلهي الفعال في عملية الخلاص من سلطان الخطية، والذي لابد للمؤمن أن يتيح
له فرصة التدخل في جهاده لإتمام خلاصه هو الروح القدس أي روح المسيح. ويمكن أن
نوضح فاعليته في المؤمن فيما يلي:

 

(أ) الروح القدس
يحرر:

 فالروح
القدس هو القوة المحررة من سلطان الخطية، فهو الذي يختن القلب أي يزيل ويقطع حواسه
وميوله المنحرفة. يوضح بولس الرسول هذا الموضوع بقوله: ختان القلب
بالروح(رو29: 2).

 وإذ
تتم عملية ختان القلب بالروح هذه يستطيع المجاهد أن يقول مع بولس الرسول ناموس
روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت.(رو2: 8).

 ألا
تعلم يا أخي سر هزيمتك المتوالية؟ إن السر كامن في أنك تقوم بعدة محاولات
شخصية دون أن تتقدم وتطلب انسكاب الروح في قلبك ليقوم بختانه وإماتة حواسه الجسدية!

 

 ليتك الآن
تطلب في ثقة وإيمان سكيب الروح فيك، وصل هذه الطلبة التي تعلمنا إياها الكنيسة هلم
تفضل وحل فينا وطهرنا من كل دنس أيها الصالح وخلص نفوسنا.

 

(ب) الروح القدس
يقوى:

 في
أثناء رحلة الحياة عبر وادى الغربة والآلام قد يصاب المؤمن بالضعف والتراخي من
كثرة مواجهاته مع عدو الخير الجائل كاسد زائر ملتمسا من يبتلعه.(1بط8: 5).

 والرب
نفسه يعرف الجانب البشرى إزاء قوات الشر الروحية في السماويات ويقول على لسان بولس
الرسول إن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع
ولاة هذا العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات.(أف12:
6).

 

 ولهذا
فإن الرب لم يتركنا نحارب بمفردنا بل قد أيدنا بروح القوة لكي
يعطيكم بحسب غنى مجده أن تتأيدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن(أف16:
3).

 

 وقد
وعد الرب المؤمنين بهذه القوة التي تسند ضعفاتهم بقوله ستنالون قوة
متى حل الروح القدس عليكم. (أع8: 1).

 ولهذا
يصيح الرسول صيحة النصر والغلبة قائلا لأن الله لم يعطنا روح الفشل
بل روح القوة. (2تى7: 1).

 

 ففي
جهادك يا أخي تحتاج أن تتأيد بروح القوة هذا فهو يقوى عزيمتك الخائرة، وهو يحول
فشلك إلى نصرة، وضعفك إلى قوة وكذلك الروح أيضا يعين ضعفاتنا.(رو26:
8).

ليتك
يا أخي تختبر فعلاُ وعمليا في حياتك قوة الروح القدس!

 

(ج)
الروح القدس يشفع:

 
لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا
ينطق بها.(رو26: 8).

 إن
سر النصر في الحرب الروحية هو وجود الله مع المجاهد، ولكن إذا دخل المجاهد المعركة
بمفرده كان لقمة سائغة للعدو الشرير.

 

 وحيث
أن الإنسان ليس خبيراً بهذه الحروب الروحية فلا يعرف ما يجب أن يصلى لأجله كما
ينبغي، لهذا فالروح الساكن في قلبه يشفع فيه ويعين ضعفاته “وكذلك الروح يعين
ضعفاتنا لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات
لا ينطق بها.(رو26: 8).

 

 فيا
أخي يا من لك كل هذه الامتيازات لماذا لا تستفيد بها؟ ولماذا تترك نفسك فريسة في
يد أعدائك؟ أو ليس مكتوبا ” قد هلك شعبي من عدم المعرفة.”(هو6: 4). لذلك
كتب الحكيم قائلا: “بالمعرفة ينجو الصديقون.”(أم9: 11). وقال أيضاً ذو
المعرفة متشدد القوة.” (أم5: 24).

 

 فليعطك
الرب أن تعرف هذه الامتيازات ويفتح قلبك لتدرك فاعليتها في حياتك فتطالب بها
وتختبر حياة الغلبة بالروح القدس.

 

ثالثاً: تضامن العنصرين

 مما
سبق قد تأكد لك أنه لا بد من تضامن العنصر البشرى مع العنصر الإلهي لإتمام خلاصك،
ولتوضيح اندماج هذين العنصرين نضع أمامك هذه الصورة العملية:

1-
فبالإرادة تسلم ذاتك لقيادة الروح القدس ليتمم خلاصك.

2-
وبالأيمان تثق في قوة الروح القدس لاتمام خلاصك.

3-
وبالهروب تلجأ إلى أحضان الروح القدس فيحميك ويتمم خلاصك.

4-
وبالتغصب تنهض الروح القدس الساكن فيك فيتمم خلاصك.

5-
وبالصوم تستعطف الروح القدس فيعمل لاتمام خلاصك.

6-
وبالسهر تتسلح بأسلحة الروح التي بها يتم خلاصك.

7-
وبالصبر والمثابرة تثبت في الروح القدس الذي يتمم خلاصك.

 

فليتك
يا أخي تبدأ من الآن في حياة الجهاد القانوني فلا تهمل الواحد وتترك الأخر.. أي
لا تعتمد على مجهوداتك البشرية تاركا فاعلية الروح القدس روح المسيح الذي بدونه لا
تستطيع أن تفعل شيئاً. وأيضا لا تتواكل على عمل الروح القدس مهملاً نصيبك في
الجهاد إذ لا بد أن تتمم خلاصك بخوف ورعدة.(فى12: 2).

 

الفصل الرابع

ميدان الجهاد

أولاً: الأعداء الروحيين.

ثانياً: قوات الأعداء.

ثالثاً: الأسلحة الروحية.

 

مقدمة

 إذ
نحن في ميدان حرب وجهاد دائم علينا أن نضع خطة شاملة للصمود حتى الظفر. ولكي تكون
خطتنا دقيقة متينة علينا أن نتعرف على:

+
شخصيات الأعداء

+
ثم على قواتهم

+
وأخيرا نعرف الأسلحة التي نستخدمها في الحرب ضدهم لنحرز الغلبة والانتصار.

 

أولاً: شخصيات الأعداء

 

 في
حرب بورسعيد عام 1956 كان الظن في بادئ الأمر أنها حرب بين إسرائيل ومصر ولكن
سرعان ما تكشفت الحقيقة بظهور إنجلترا وفرنسا في ميادين الحرب.. ولهذا وضعت
خطة حربية حكيمة لمواجه الأعداء الثلاثة مجتمعين.

 هكذا
الحال يا أخي في الحرب الروحية فلا تظن أنك تحارب عدوا واحدا بل ثلاثة أعداء
مجتمعين هم:

 1)
الجسد. 2) العالم. 3) الشيطان.

 

(1)
الجسد:

 يقول
الرسول إن الجسد يشتهي ضد الروح. والروح ضد الجسد.(غل17:
5) والجسد هو الإنسان العتيق الفاسد بنزعاته القديمة واتجاهاته الشريرة.

 ورب
معترض يقول: إن جسد الخطية قد صلب تماما إذ يقول بولس الرسول لكن
الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات.(غل24: 5). وهذا
يعني صلب الإنسان العتيق أيضا إذ يقول الرسول عالمين هذا أن أنسأننا
العتيق قد صلب معه.(رو6: 6).

 

 هذا صحيح ولكن بالرغم من
هذا نجد أن الإنسان العتيق لا زال حيا وله شهواته كما يقول الرسول: لا
تملكن الخطية في جسدكم المائت، لكي تطيعوها في شهواته.(رو12: 6). فمن
هذا يتضح أن جسد الخطية مائت، ولكن الرسول يقول أن لهذا الجسد المائت شهوات يحذرنا
منها.

 

 ثم يعود الرسول فيقول اسلكوا
بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد لأن الجسد يشتهى ضد الروح والروح ضد الجسد
وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلوا ما لا تريدون.(غل16: 517).

 

 فهذا الجسد (جسد الخطية)
يشتهى ضد الروح وينشب بينهما صراع عنيف يرجح المؤمن كفة أحدهما.. ولهذا
يوصينا الرسول قائلا: إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون.(رو13:
8).

 

 فكيف نوفق إذاً بين قول
الكتاب عن (جسد الخطية) أنه صلب، ثم قوله أنه لا زال حياً وله شهواته ومقاومته.

 

 التوفيق يا أخي سهل ميسور
لأنه يشمل خطة الخلاص كلها، فإذ نؤمن بشخص المصلوب ونرضى أن نصلب معه يصدر الحكم
فوراً بإعدام الإنسان العتيق، ويقبض عليه ويسجن في زنزانة داخلية ويشدد عليه
الرقابة حتى يتم حكم الإعدام الفعلي وذلك يوم أن يأتي الرب على السحاب. وفي الفترة
ما بين صدور الحكم وتنفيذه يقوم هذا الجسد بعدة محاولات للإفلات من سجنه وهذه هي
شهواته ومقاومته التي يجب أن يحترس منها المؤمن.

 فأحذر
يا أخي من هذا العدو المشاغب. فقد احترس منه سابقاً معلمنا بولس الرسول فقال أقمع
جسدي وأستعبده(1كو27: 9) ولهذا فهو يحذرنا قائلا: لا
تصنعوا تدبيرا للجسد لأجل الشهوات.(رو14: 13).

 

(2)
العالم:

 يقول
يعقوب الرسول “محبة العالم عداوة لله”(يع4: 4) ويقول يوحنا الحبيب لا
تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم.(1يو15: 2)

 والمقصود
بالعالم هو كل ما فيه من أشياء تجذبنا للخطية من المغريات، والملذات، والمال،
والمطامع، والأزياء الخليعة، والتسليات الدنسة،.. الخ.

 فالمؤمن
الذي خرج من كورة العالم واستقر قلبه في جو السماء.. لا زال جسده في العالم
وقد يخدعه العالم ببريقه المزيف محاولاً إرجاعه إلى حياته القديمة.. ولكن
احذر يا أخي من العودة ثانية إلى قيئك أو إلى طين البركة التي خرجت منها. فالعالم
يمضى وشهوته وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد.(1يو17: 2).

 

(3)
الشيطان:

 هذا
العدو الجبار دائما يقاوم الله ويغرر بشعبه، محاولاً إقصاء المؤمن عن الله بكل
وسيلة وأخرى ليحرمه من السعادة والحياة الأبدية والملكوت السماوي والمجد الأسمى.

 وقد
وضح لنا الكتاب خطورة هذا الخصم العنيد في أقوال كثيرة، فقد قال رب المجد يسوع هوذا
الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة.(لو31: 22).

 ومعلمنا
بولس الرسول يقول: إن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع
السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات.(أف12:
6).

 

 ومعلمنا بطرس الرسول يقول
إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسا من يبتلعه هو.(1بط8:
5).

 

 فيا أخي المبارك لا تسقط
هذا العدو من حسابك لئلا تغفل فيمزقك.. احترس من حيله ومن خداعه ومن مكايده
وسهامه التي سنوضحها فيما بعد.

والواقع
إن خطورة هذا العدو كامنة في أنه يستخدم العالم والجسد في تكتيكات حروبه لإتمام
مقاصده.. فهو يثير الجسد (الإنسان العتيق) في المؤمن ليقوم عليه من الداخل
وفي نفس الوقت يثير مغريات العالم عليه من الخارج فيوجد المؤمن بين (الكماشة) وهى
خطة حربية خطيرة فيصبح المؤمن محصوراً بين ضغطات من الداخل وضغطات من الخارج
والشيطان نفسه من فوق في جو السماء لأنه رئيس سلطان الهواء.(أف2: 2).

 

 فإذا كان المؤمن بمفرده
في المعركة سقط صريعا لا محالة. من هذا يتضح قيمة وجود الله ذاته في أرض المعركة
إلى جوار المؤمن ليدافع عنه، الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون.(خر14:
14).

ولكي
نحرز النصر على قوى الأعداء يجب أن نعرف أسلحتهم حتى نستخدم الأسلحة المضادة لها.

 

ثانياً: قوات الأعداء

إن
لأعدائنا الروحيين جيوشاً منظمة ذات قوات مسلحة برية وبحرية وجوية.

 

(1)
القوات البرية:

 أسلحة
إبليس التي يستخدمها ضدنا في هذه الحرب البرية هي:

(أ‎)
مغريات العالم:

 فيوجه إلى
عينيك وحواسك هذا السلاح من ملذات وشهوات ليغريك ثانية ليردك إلى أحضانه كما كنت
من قبل.. فيعيد إلى فكرك حياتك الأولى.. ويحاول أن يجذبك عن طريق
وسائل التسلية العالمية أو زينة بنات العالم.. الخ.

 ولقد
نجح العدو في إصابة ديماس بهذا السلاح إذ قال عنه بولس الرسول ديماس
قد تركني إذ أحب العالم الحاضر(2تى10: 4).

 

 فأحذر يا أخي من هذا
السهم الملتهب الذي يوجهه إلى قلبك عدو الخير. ولا تعود تنظر إلى العالم ومباهجه
فقد خرجت منه فلا تعود تنظر إلى ورائك لئلا تهلك.. لا يتعلق قلبك بأرض مصر لئلا
تهلك في برية الجهاد.

 

 ألم يصلب العالم لك وأنت
للعالم؟(غل14: 6) أي أن العالم لا يعود يؤثر فيك وأنت لا تتأثر به لأنك قد مت عنه
ومات هو بالنسبة لك.

 فأحذر
يا أخي لئلا يغريك إبليس ببريق العالم الكاذب فيحيا فيك من جديد.

 

(ب)
ملذات الجسد:

 هذا هو
السلاح البرى الثاني الذي يحارب النفس كما وضح معلمنا بطرس الرسول إذ قال
أيها الأحباء أطلب إليكم كغرباء ونزلاء أن تمتنعوا عن الشهوات الجسدية التي تحارب
النفس.(1بط11: 2).

 ألم
يوجه إبليس طعنة نجلاء بهذا السلاح إلى قلب شمشون فأرداه قتيلاً؟!

 أو
لم يرشق به قلب داود النبي ففرَّ على وجه الأرض طريداً بعد أن كان ملكا مكرماً؟!

 

 فاحذر
يا أخي من (كمين) ملذات الجسد، فغالبا ما يتخفى إبليس في هجماته بهذا السلاح حتى
إذ يطمئن إلى استسلامك فيباغتك فجأة بهذا الخطر الداهم ويتسلط عليك. لهذا يحذرنا
بولس الرسول قائلا لا تملكن الخطية في جسدكم المائت لكي تطيعوها في
شهواته ولا تقدموا أعضاءكم آلات إثم للخطية.(رو12: 613).

 

(ج)
محبة المال:

 فالمال
أصل لكل الشرور إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة.
(1تى10: 6).

 

 ألم يهزم الشيطان يهوذا
بهذا السلاح الماضي إذ باع سيده من أجل محبة المال؟ يهوذا الذي سار مع المسيح
وتمتع بجماله ورأي معجزاته وأخذ منه سلطانا على الأرواح النجسة وعمل المعجزات.
ونادى باسم المسيح.. ثم يوجه إليه إبليس هذه الضربة القاضية فتنتهي حياته
على أشر ما يكون!!

 

 أو ليس حنانيا وسفيرة قد
أصابهما هذا السهم المميت فأودى بحياتهما؟.. إذ بعد أن آمنا وانضما إلى جماعة الرب
لم تزل محبة المال متملكة على قلبيهما فأخفيا جزءاً من ثمن الأرض!!

أخي
أخشى عليك من محبة المال إذ أن إبليس يخدعك بهذا السلاح ويموه عليك بحجة أنك
تؤمِّن مستقبلك ومستقبل أولادك بما تدخره لهم من أموال.. ثم ينقلب الأمر في
قلبك إلى شهوة مال تستعبدك فتصير ضمن الأسرى الذين قبض عليهم العدو في هذه المعركة..!

 

وقد
اتخذت محبة المال لونا جديداً في حياة الخدام. فقد تكون أمينا للصندوق أو مسئولا
في الكنيسة وتجمع المال للخدمة والمشروعات.. وحقيقة أنت لا تجمعه لنفسك
فإنك أمين حقا ولكنك عبد لمحبة المال والدليل على ذلك أنك تفرح بتحصيله وتسر
بزيادة أرقام الرصيد.. وفي ذات الوقت تحزن إذا رأيت بند المصروفات بدأ يتضخم.

 

عزيزي،
إن سهم محبة المال لا يصيب من يجمعونه لأنفسهم فحسب بل أيضا الأمناء عليه متى
تعلقت قلوبهم بحب التحصيل وبغضة التوزيع!!

 

(د)
محبة الذات:

 ذاتك
التي صلبت مع المسيح في طريق الخلاص فقلت يوما مع المسيح صلبت فأحيا
لا أنا بل المسيح يحيا في. (غل20: 2). سيأتيك الشيطان ليثير الذات
فيك من جديد بعد أن تكون قد قطعت شوطاً في طريق النعمة.. فإن كنت متغافلاً
نجح في إلقاء بذار الزوان..

 

 آه يا أخي من سلاح محبة
الذات، أليس هو السلاح الذي كاد إبليس أن يطعن به يعقوب ويوحنا عندما ذهبا إلى
المسيح يطلبان منه أن يجلس واحد عن يمينه والآخر عن يساره في مجده. (مر37: 10)
إنها الأنانية الممقوتة سواء في النواحي المادية العالمية أو في النواحي الروحية..
انتبه يا أخي جيدا لئلا ينجح إبليس في القضاء عليك بهذا السلاح.

 إن
الأربعة البرص الذين كانوا جالسين على باب السامرة أيام أن كانت تحاصرها جيوش
الآراميين وصار جوع شديد في السامرة حتى أكل الناس الحمير وزبل الحمام ووصل بهم
الأمر إلى أن أكلت الأم ابنها (2مل6) لقد فكر هؤلاء البرص أن يذهبوا إلى معسكر
الأعداء فإن أطعموهم نجوا من الموت جوعا، وإن قتلوهم فقد رحموهم من مصارعة الموت
البطيء بسبب الجوع.

 

 وعندما ذهب البرص إلى
خيام الأعداء لم يجدوا أحدا من الأعداء لأن الرب قد أرهبهم فتركوا الخيام وفروا..
فأكل البرص وشبعوا ثم بدافع الأنانية أخفوا ذهبا وفضة وثيابا.. ولكنهم
انتبهوا أخيرا لخطة إبليس هذه فقال بعضهم لبعض لسنا عاملين حسنا. هذا
اليوم هو يوم بشارة ونحن ساكتون فإن انتظرنا إلى ضوء الصباح يصادفنا شر. فهلم الآن
ندخل ونخبر..” (2مل9: 7).

 

 وبهذا نجوا من الموت
بسلاح الأنانية. فاحذر يا أخي لئلا تحيي في قلبك محبة الذات القديمة!

 

(ه)
العادات القديمة:

 سيحاربك
إبليس أيضا بهذه الأسلحة فإن كنت قد تخلصت من الخمر سيحاول أن يغريك بمحبة الكأس
ثانية. وإن كنت قد انتصرت على السجائر سيجاهد ضدك ليجذبك إليها ثانية. وإن كنت
أيتها السيدة أو الفتاة قد أقلعت عن ثياب الخلاعة والتبهرج سيحاول جاهدا معك
ليثنيك عن عزمك..

 

 أخشى عليك يا أخي من أن
تخضع لهمسات العدو ظانا أنها من صديق مخلص، وحينئذ سوف يتكشف لك الأمر أخيرا عندما
ترى أن الأواخر قد صارت لك أشر من الأوائل (2بط20: 221).

 ولكن
اعلم أنه إن كانت نفسك متلذذة بالرب فلن تبحث قط عن أي لذة أخرى لأن “النفس
الشبعانة تدوس العسل” (أم27: 7).

 هذه
هي بعض أسلحة القوات البرية الشيطانية ولنستعرض الآن:

 

(2)
القوات البحرية:

 ففي
المعارك البحرية تصوب القذائف إلى البواخر لإغراقها في لجة البحار أو المحيطات
فتهوى بمن فيها إلى الأعماق.

 وهكذا
نرى أن لإبليس قوات بحرية لإغراق سفن حياة المؤمنين في لجة التهلكة مستخدما أسلحة
منها:

 

(أ)
الشكوك:

 يحاول
إبليس أن يشككك في وجود الله وفي محبته لك وفي قدرته على خلاصك وفي حقيقة تجديدك
وفي رجاء مجيئه المبارك ليأخذك معه.. الخ.

 ألم
يسقط بطرس نفسه صريعا من إحدى هذه القذائف عندما أمره سيده أن يسير على الماء، ثم
ابتدأ يغرق فقال له المسيح رب المجد يا قليل الأيمان لماذا شككت”
(مت31: 14) وفي الحال مد يسوع يده وأمسك به!

(ب)
الخوف:

 يحاول
الشيطان أن يخيفك من أخطار الطريق الروحي وبأنك لا تستطيع أن تحتمل السير فيه
قاصداً أن يثنى عزيمتك ويعوق سيرك. ويبلغ به الجرأة أن يخيفك من جبروته وأنك سوف
لا تقوى عليه!

 

 من
يقرأ كتاب (سياحة المسيحي) يستطيع أن يرى مدى اعتماد إبليس على هذا السلاح ليرهب
قلب السائر إلى أورشليم السماوية. إذ يذكر يوحنا بنيان مؤلف الكتاب أن المسيحي وهو
المؤمن الذي خرج من مدينة الهلاك (أي العالم) إلى مدينة النور (أي أورشليم
السماوية) قد صادف في الطريق محاربات عديدة ومخاوف شديدة نذكر منها قصة الأسدين:

 

 ففي
الطريق كان عليه أن يدخل في نفق كان الظلام قد خيم عليه فجعل يحدق بنظره في ذلك
النفق وهو يمشى فرأى أسدين عند نهاية النفق. فارتاع وكان ذانك الأسدان مقيدين
بسلاسل لم يكن يراها. ولذلك غلب عليه الخوف وهمَّ بالرجوع لأنه لم يتصور قدامه سوى
الموت.. فرآه ملاك فناداه قائلا: يا صاح هل قوتك ضعيفة هكذا. لا تخف من
الأسدين فإنهما مقيدان وقد وضعا هنا لأجل امتحان إيمان المؤمنين وإظهار الذين لا
إيمان لهم. فاسلك في وسط الطريق من بينهما فلن يصيبك أدنى ضرر. فواصل المسيحي
السير في الطريق مرتعدا من صوتهما إذ كانا يزمجران عليه ويزأران لكنهما لم يستطيعا
أن يمساه بسوء. ولما تجاوزهما صار يطفر فرحاً.

 

 فيا
أخي لا ترتعب من الشيطان فهو مقيد ولا يستطيع أن يمسك إذ يقول يوحنا الحبيب المولود
من الله يحفظ نفسه والشرير لا يمسه. (1يو18: 5).

 

(ج)
القلق:

 وهو
سلاح آخر من أسلحة العدو البحرية ليغرقك في لجة الهموم والارتباكات، فيجعلك تفكر
في مشاكل المستقبل ومتاعب الحاضر ومآسي الماضي..

 وإذا
استسلمت إلى هذه الأفكار غرقت سفينتك في محيط القلق والأوهام فاحذر من ذلك وسلم
أمورك لليد الأمينة المدبرة.

 قال
رجل الله المختبر: الشيطان عندما يدرك أننا متضايقون بسبب شعورنا
بأعمالنا الشريرة، يضع في نفسه أن يلقى علينا حملاً إضافياً من الرصاص وهو القلق..
فإن قبلناه يتبع ذلك حتما انجذابنا إلى تحت بسبب الثقل ساقطين في عمق البؤس الذي
أنت فيه الآن. (القديس يوحنا ذهبي الفم).

(د)
الحزن:

 وثمة سلاح
آخر يصوبه إبليس إلى قلب المؤمن فيفسد عليه حياته، وهو روح الحزن والكآبة.

 والحزن
وليد الخوف والقلق، وإذا تملك على إنسان عرض حياته لخطر الهلاك.

 وقد
قال القديس المختبر: روح الحزن المفسد يظلم النفس ويحرمها من رؤية
الله ويمنعها من كل صلاح. هذا الروح الشرير إذا ملك على النفس واستحوذ على الإرادة
لا يجعلها تصلى بفرح روحاني ولا يدعها تثابر على قراءة الكتب باجتهاد لئلا تعثر
على مفتاح النور فتخرج من فخ الظلمة المخيم عليها”.

 ويكمل
قائلا: “ويصير الإنسان متكاسلاً في كل عمل مبغضا للعبادة والصلاة مسلوب
الإرادة من رجاء الخلاص. ويهدم كل ما فيه من اشتياق نحو الحياة الأبدية حتى أنه
يقيده بقيود اليأس من رحمة الله.

 

 ويخلص إلى هذه الحقيقة
فيقول “لذلك وجب أن نسهر ونجاهد ضد روح الحزن المفسد لأنه كما تأكل العته
الثوب ويتهرأ، وتأكل الدودة العود الأخضر فييبس، هكذا هذا الروح المفسد يضعف النفس
ويجعلها جافة لا تقبل كلمة نصيحة أو مشورة من إنسان أو تجيب بكلمة هادئة وديعة. بل
يملأها مرارة وضجراً وحسداً. ويشير على النفس أن تفر من الناس لزعمها أنهم سبب
قلقها وأتعابها. ولا يترك النفس البائسة لتعرف أن سبب شقاوتها وبلوتها هو ليس من
الخارج بل من الداخل. لأنه واضح أن الإنسان لا يتوجع من آخر إلا بسب مرض النفس
المختفي في أعماقها. لذلك قال السيد نظف أولا داخل الكأس.

(يوحنا
كاسيان).

(ه)
الضجر:

 ما
أخطره سلاح على المؤمن إذا أصيب به ضاقت نفسه من كل شئ، من الكنيسة ومن البيت من
الأصدقاء ومن الأقرباء.. لا يعود يطيق شيئاً لا كلام اللين ولا كلام العنف.. بل
يصبح متململاً من كل أمر، من الصلاة ومن الكتاب المقدس، ومن قراءة الكتب الروحية..
هذه الحالة قال عنها أيضا ذلك القديس المجاهد: “أما روح الضجر فهو زميل روح
الحزن المفسد، وهو متولد منه ويأتي على الإنسان بكسل وتراخى وبغضة للمكان الجالس
فيه وحتى الأشخاص الذين يسكن معهم ولكل عمل كان وحتى لقراءة الكتاب المقدس.. وليس
من علاج لذلك إلا بتعود الكف عن كلام البطالة والمزاح والمثابرة على الصلاة والعمل..
مع طلب معونة الله.”

(القديس
يوحنا كاسيان).

(و)
اليأس:

ولعل
هذا هو أقوى أسلحة الشيطان البحرية وخاصة إذا نجح في إسقاطك في أي خطية أخرى، ففي
دوامة الحزن والشعور بالفشل يمد هذا السيف الحاد ليقطع رجاءك في الخلاص. فهو
بمثابة الطرقة الثانية على الرأس المصاب للقضاء على الحياة، أو الضربة القاضية بعد
صراع طويل على حلبة الإيمان.

 فلا
تستسلم لليأس يا أخي فالرب قادر أن يقيمك. وما أجمل ما كتبه قديس الله في هذا
الصدد: إن كان رجوعك إلى بهائك الروحي السابق يبدو أمراً مستحيلا بالنسبة للبشر
لكن كل شئ مستطاع لدى الله فهو: المقيم المسكين من التراب. الرافع
البائس من المزبلة ليجلسه مع أشراف شعبه. (مز7: 1138).

 إذاً
لا تيأس من تغييرك تغييرا كاملاً.. إن كان الشيطان لديه هذه القدرة بأن
يطرحك أرضا من العلو الشامخ والفضيلة السامية، إلى أبعد حدود الشر، فكم بالأكثر
جدا يكون الله قادر أن يرفعك إلى الثقة السابقة، ولا يجعلك فقط كما كنت، بل أسعد
من ذي قبل.” (يوحنا ذهبي الفم).

 N. & P. Frs. Vol. 1XP.

 بعد
أن تكلمنا عن الحرب البرية والحرب البحرية نتكلم عن الحرب الجوية.

(3)
القوات الجوية:

 إن
أقسى حرب يا أخي يجتازها المؤمن قبالة قوات الشر الروحية هي الحرب الجوية. إذ
يرتفع إبليس إلى العلو الشاهق فيجذب أنظارنا معه إلى التعالي وعندئذ يسدد قذيفته
الفتاكة التي تودي بحياة المؤمن في لحظة.

لهذا
قد سمى الأباء المختبرون هذه الحرب “بحرب العظمة، والقذيفة التي يفجرها العدو
هي الكبرياء. ومن هنا يتضح خطورة هذه الحرب أيضا إذ أنها تصيب المتقدمين في الحياة
الروحية. وقد قال القديس يوحنا كاسيان في هذا الصدد:

شيطان
العظمة روح خبيث لا يصيب إلا البالغين في القامة الروحية ليهدم برج فضائلهم. كل
الأوجاع تحارب في البدايات ما خلا هذا الوجع الرديء فهو يصيب في النهاية، لذلك
فضرره عظيم وكسرته شديدة.

وزاد
الأمر وضوحا بقوله:

شر
العظمة إذا ملك على النفس البائسة يكون كالقائد المنتقم عندما يحاصر مدينة شامخة
ويظفر بها، فإنه يهدمها ويدك أساساتها!

 وقد
دلل على ذلك بقصة الملاك الساقط قائلا:

يشهد
بذلك الملاك الذي سقط من السماء من علو رئاسته بسبب العظمة! الذي لم يرد أن يسند
الخير والقوة التي كانت فيه إلى خالقه بل شاء أن يجعلها لنفسه. وفي ذلك يبكته
النبي قائلا: كيف سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح؟ كيف قطعت إلى الأرض يا قاهر
الأمم؟ وأنت قلت في قلبك أصعد إلى السماوات أرفع كرسي فوق كواكب الله! أصعد فوق
مرتفعات السحاب، أصير مثل العلي! لكنك انحدرت إلى الهاوية، إلى أسفل الجب. (اش12: 1415).

 ونبي
آخر يقول: “لماذا تفتخر بالشر أيها الجبار؟.. أحببت الشر أكثر من الخير..
لسانك غاش لذلك يهدمك الله إلى الأبد. ويقلعك من مسكنك ويستأصلك من أرض الأحياء.
فيرى الصديقون ويخافون وعليه يضحكون. هذا هو الذي لم يجعل الله له عونا ولكنه وثق
بكثرة غناه واعتز بفساده”. (مز52: 17)

 

 إذا فلنحذر من شيطان
العظمة وترفعه المهلك الذي يجلب الموت علينا قائلين مع بولس الرسول “لنا هذا
الكنز في أوان خزفية ليكون فضل القوة لله لا منا.” (2كو7: 4). وأيضا بدوني
لا تقدرون أن تفعلوا شيئا (يو6: 15).

في
هذه الحرب الجوية يملك إبليس أقوى واخطر سلاح وهو الكبرياء فإذا ما سدده نحو
المؤمن أحدث فيه إصابات بالغة في القلب، والراس، واللسان، والنفس، والأعصاب.. فإذا
وجدت هذه الظواهر في حياتك كان ذلك دليلا قاطعا على أنك قد أصبت بهذه القذيفة
الفتاكة. ولنستعرض الآن إصابات تلك الضربة القاضية:

 

(أ)
إصابات القلب:

 فبداية
الكبرياء يا أخي هي في القلب من الداخل قبل أن تظهر للآخرين. ونستطيع أن نشبه
الكبرياء بمرض السرطان الخبيث إذ يظل مختفيا في مراحله الأولى في الجسم من الداخل
حتى إذا ما ظهرت أعراضه في الخارج عسر علاجه.

 ومظاهر
إصابات القلب بضربة الكبرياء تتضح في:

+
الإعجاب بالنفس:

 هذه
الضربة تلاحق المؤمن المصاب بالكبرياء في كل تصرفاته، في صمته وفي كلامه، في صومه
وفي إفطاره،.. لهذا قال القديس يوحنا الدَّرَجِي ويحي..
إذا صمت استحوذ العجب عليَّ، وإذا نقضت صومي حتى لا يُعرف تدبيري استولى العجب
عليَّ أيضا. إذا لبست ثيابا بهية استحوذ العجب عليَّ، وإذا لبست الحقيرة
غمرني العجب أيضا.

 متى
تكلمت داخلني العجب، ومتى صمت (سكت) انقهرت له أيضا. كلما طرحت عنى هذا المثلث ذا
الثلاث شعب تبقى له دائما شعبة منتصبة.!

 وقد
ذكر عن نفسه اختبارا في محاربة روح العجب فقال: حدث في جلوسي في مجمع من الناس أن
وافاني شيطان العُجْب وجلس بجانبي، فلكز جنبي قائلا: حدِّث الناس عن أعمالك في
البرية، فانتهرته مرددا قول داود النبي فليرجع المفتكرون عليَّ
بأفكار ردية.

 

 فانبرى لي عن يساري شيطان
الكبرياء قائلا: ما أحسن ما عملت وما أصوبه، لقد صرت عظيما إذ قهرت أمي الخالية من
الحياء (يقصد شيطان العُجْب). فأجبته بقول داود وليرجع بالخزي سريعا
جدا القائلين لي حسنا، حسنا.

 فلما
استخبرت كيف أن شيطان العُجْب هو أم الكبرياء! قيل أن العُجْب هو تذكية النفس
وبداية ارتفاعها. أما الكبرياء فهي التي تستلم النفس لترفعها إلى السموات لتهوي
بها إلى الأعماق. لهذا قيل: “الويل لكم إذا قال فيكم جميع الناس حسنا”.
(القديس يوحنا الدرجى).

 

+
الانتفاخ والتشامخ:

 يوضح
الوحي قائلا: قبل الكسر الكبرياء وقبل السقوط تشامخ الروح“.
فالتشامخ والانتفاخ هما ذات مرض الكبرياء في بدايته عندما يصيب القلب من الداخل
فيظن المنتفخ أنه قد صار كاملا ويبتدئ أن يتشامخ في قلبه على أقرانه فيظن أنه أفضل
منهم علما وتقوى.

 

 وقد شَخص الآباء القديسون
هذا المرض في أقوال عديدة منها “الذين تقدموا قليلا في معرفة الصلاة وقوتها،
إذا لم يتمسكوا بالاتضاع ينتفخون ويسقطون. فالحية عينها التي أسقطت آدم بعلة
الكبرياء قائلة أنك ستصير كاملا كالله، لا زالت توحي بالكبرياء في قلوب بني البشر.
وتهمس في قلب الجاهل: لقد صرت كاملا، ها قد ملكت زمام المعرفة، وصرت غنيا، وليست
لك حاجة لأحد. طوباك.(القديس مقار الكبير).

 “لا
يرفض الله إنسانا ما ويكرهه إلا إذا وجد عقله امتلأ بأفكار العظمة والافتراء. فيقع
حتما في إحدى مصيبتين إما الزنا أو التجديف. فمن يتعظم بفضيلته حتما يقع في زنى
نجس. ومن يتعظم بجودة العقل يقع في التجديف على الأمور الإلهية.” (القديس مار
اسحق).

 

+
السبح الباطل:

 هو
رغبة كامنة في القلب من الداخل تشتهى المدح من الناس. وتتكون هذه الرغبة نتيجة
العجب بالنفس والانتفاخ والتشامخ. هذا المرض الداخلي له أطوار مختلفة تبدأ
بالارتياح عند سماع المدح ثم يتطور إلى مرحلة أخرى وهي انتظار كلمات المدح عقب كل
عمل أو خدمة أو عظة. والمرحلة التالية هي أنه يحزن ويكتئب إذا لم يسمع كلمات المدح
والإعجاب. والمرحلة التي تتبع ذلك هي أنه يسعى إلى طلب المدح بوسائل متعددة كأن
يفتح مواضيعاً تقود الغير إلى امتداحه.. الخ.

 ولخطورة
هذا المرض قال عنه القديسون: السبح الباطل مصيبة مخفية يندس في كل
عمل صالح وفي كل فضيلة ليفسدها.. فهو ينتظر المجاهد حتى ينمو قليلا في
الفضيلة فيأتي ويفسده.. ويجعله شغوفا بأن يكشف كل مقتناه الروحي.
(القديس يوحنا الدرجى).

 ولهذا
فالسبح الباطل يمثل نقطة تحول كبيرة في أعراض مرض الكبرياء فبعد أن كان مستترا في
القلب طول المراحل السابقة نراه يبدأ في الظهور إذ أنه يجعل صاحبه شغوفا بأن يكشف
كل مقتناه الروحي.

 

(ب)
إصابات الرأس:

ونقصد
بإصابات الرأس عندما يغزو مرض الكبرياء رأس المؤمن. عندما تصيب هذه الضربة
الشيطانية رأسه ليرتفع على الآخرين. ومظهر هذه الضربة يتضح فيما يلي:

 

حب
الرئاسة:

 وقد
نشأت من تفكير المتكبر في نفسه أنه أفضل الناس وأقدرهم وأغزرهم علما. ولهذا فقد
امتلأت رأسه بأنه أحق الجميع بالقيادة والرئاسة عليهم. الرجل المتعظم
القلب يرتاح أن يترأس على غيره. ليت الرب يرحمنا من هذا الداء ومن سقطاته المُرَة.
(القديس يوحنا الدرجى).

 

حب
التعليم:

 لا
أقول حب الخدمة بل حب التعليم، فالمتكبر لا يخدم الناس بل يخدم نفسه. فهو يشتاق
إلى التعليم لا ليقود النفوس إلى يسوع المخلص، وإنما يشتهى التعليم من أجل الشهرة
بإظهار العلم والكفاءة، ولمثل هذا المنتفخ كتب يعقوب الرسول قائلا: لا
تكونوا معلمين كثيرين يا إخوتي عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم.(يع1: 3).

 

الكرامة:

 ومن
ضربات الرأس الاعتزاز بالكرامة، وطلب التقدير والاحترام من الناس بناء على اقتناعه
الداخلي بتفوقه عليهم وسموِّه عنهم. فصريع الكبرياء مائت بالكرامة كما وضح الآباء:
الكرامة والكبرياء كانتا في البدء علة سقوط آدم بواسطة الحية. ولا
زالت إلى الآن تستعمل الحية وسيلتها وهى مختبئة في القلوب لتطرح وتهلك جنس
المسيحيين بعلة الكرامة واحترام النفس. لذلك اتخذ المسيح صورة عبد وغلب الشيطان
بالتواضع ليعلمنا النصرة.(القديس مقاريوس الكبير).

 

(ج)
إصابات اللسان:

 إن
مرض الكبرياء المستقر في القلب يظهر طفحه على اللسان لأنه من فضلة
القلب يتكلم الفم.(مت 34: 12).

 ومظاهر
تطرق هذه الضربة إلى اللسان يتضح في الآتي:

 

الافتخار:

 وهو
السماح للسان أن يعبر عن كبرياء القلب الداخلي. ولذلك كتب القديس يعقوب الرسول
قائلا: هكذا اللسان أيضا هو عضو صغير ويفتخر متعاظما.(يع5:
3).

 والمفتخر
يكشف عن فضائله بغية ربح المجد من الناس. ولكن اسمع يا أخي قول القديس مار اسحق
السرياني: اعلم أن كل أمر يفتخر به الإنسان يسمح الله بتغييره
ليتواضع.

 

الادعاء:

 هو
مرحلة متطورة من الافتخار. فبينما الافتخار هو التكبر بالأعمال التي يقوم بها
المفتخر، فالادعاء هو أن ينسب المدعى لنفسه فضائل ليست فيه وأعمالا لم يقم بها. عن
مثل هؤلاء كتب القديس بولس الرسول قائلا: “متعاظمين مدعين”(رو30: 1)
موضحا بهذا أن علة الادعاء هي التعاظم والكبرياء.

 

الرياء:

 والمدعى
يصير بالضرورة مرائيا.. فهو لا يظهر على حقيقته بل يخفى خطاياه وعيوبه عن
الناس في حين أن قلبه لازال متعلقا بها. هذا هو ما كتب عنه بولس الرسول قائلا: لهم
صورة التقوى ولكنهم ينكرون قوتها(2تى5: 3).

 والسيد
المسيح قد صب الويلات على الكتبة والفريسيين الذين أتقنوا فن الرياء قائلا: ويل
لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تنقون خارج الكأس والصحفة وهما من داخل
مملوآن اختطافا ودعارة.. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم
تشبهون قبورا مبيضة تظهر من خارج جميلة وهى من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة.
هكذا أنتم من خارج تظهرون للناس أبرارا ولكنكم من داخل مشحونون رياء وإثما.(مت25:
2328).

 

الانتقاد
والإدانة:

 يصاب
لسان المتكبر أيضا بهذا المرض إذ يحاول بالانتقاد والإدانة أن يهدم الآخرين ليبنى
نفسه على أنقاضهم. وأن يزيح الجميع من المسرح ليظهر هو. لذلك فهو يشوه أعمال
الآخرين وينقص من قيمتها، وينسب إليهم أخطاء ويظهر ضعفاتهم ويبالغ في نقائصهم حتى
يظهر بذلك بره وقوته وكماله.

 ألم
تسمع يا أخي قول بولس الرسول من أنت الذي تدين عبد غيرك. هو لمولاه
يثبت أو يسقط.(رو4: 14).

 يحسن
يا أخي أن تحول الانتقاد إلى صلاة من أجل من تنتقده وصلاة أيضا من أجل نفسك ليحميك
الرب من خطية الإدانة.

 

(د)
إصابات نفسية:

 إن
من لحقته ضربة الكبرياء أصيب بعلل نفسية كثيرة منها:

 

الحسد
والغيرة:

 فالمتكبر
يحسد كل من أخذ نعمة أو موهبة أفضل منه.. وبالتالي تتحرك في قلبه الغيرة من
نحوه.

 ويضرب
لنا الكتاب المقدس مثلاً واضحاً عن الحسد. إذ تملك الكبرياء قلب جماعة قورح فحسدوا
موسى وهارون وقالوا لهما: كفاكما أن كل الجماعة بأسرها مقدسة وفي
وسطها الرب. فما بالكما ترتفعان علي جماعة الرب.(عدد3: 16).

 ألا
تعرف يا أخي ماذا كانت نهاية تلك الجماعة؟ يوضح الكتاب أن الأرض انشقت وابتلعتهم.(عدد31:
1632).

 فالحسد
حقيقة موجودة ولكن ضرره لا يصيب المحسود بل يصيب الحاسد نفسه.

 

الحقد
والبغضة:

 هذه هي
المرحلة التالية للحسد والغيرة، إذ انه عندما يتمكنا من قلب المتكبر يتحولا إلى
حقد وبغضة.

 ويوضح
لنا الكتاب المقدس هذه الحقيقة في أماكن متعددة، فأخوة يوسف حسدوه ثم غاروا منه
وتحول ذلك إلى حقد ثم بغضة.(تك4: 375).

 وأيضا
يذكر الكتاب عن عيسو إذ حسد أخيه يعقوب لأنه أخذ البركة من أبيه كما سبق أن اخذ
البكورية، وتحول الحسد إلى غيرة والغيرة إلى حقد والحقد إلى بغضة.(تك41: 72).

 

 واسمع يا أخي ما قاله
القديس اكليمندس تلميذ بطرس الرسول عن الحسد: [كذا ترون أيها الأخوة كيف
قاد الحسد والحقد إلى قتل الأخ لأنه مكتوب وحدث إذ كانا في الحقل أن
قايين قام علي هابيل وقتله.”(تك3: 48).

 

 ومن أجل الحسد أيضا هرب
أبينا يعقوب من وجه عيسو أخيه. وبالحسد اضطهد يوسف إلى الموت ثم أُخذ في عبودية.
ونتيجة الحسد هرب موسى من وجه فرعون ملك مصر عندما سمع هذه الكلمات من أخيه
العبراني: “من أقامك قاضيا علينا”.ونتيجة الحسد أُفرزت مريم خارج المحلة،
وهبط داثان وأبيرام أحياء إلى الهاوية عندما قاما بالثورة ضد خادم الله موسى.
وبسبب الحسد أضُطهد داود لا من الأعداء فحسب بل أيضا من شاول ملك إسرائيل.]

(القديس
اكليمندس).

(ه)
إصابات عصبية:

 والكبرياء
إذ يصيب الإنسان يربكه نفسيا وعصبيا وهاك مظاهر الإصابات العصبية التي تنتاب
المتكبر:

الغضب
وعدم الاحتمال:

إن
السر الدفين وراء الغضب وعدم الاحتمال هو الكبرياء.

فالمتكبر
معتز برأيه ويثور عندما يُعارض..

والمتكبر
معتز بكرامته ويثور متى جُرحت..

والمتكبر
مرائي ويثور إذا ما انكشفت حقيقته..

 

 وربما يتستر المتكبر وراء
منطوق هذه الآية ويتذرع بها اغضبوا ولا تخطئوا(أف4: 26).

 

 ولكن اعلم يا أخي أن هذه
الآية تتكلم عن الغضب المقدس الذي لا يعرفه المتكبر. فهذا الغضب هو من أجل حق الله
لا من أجل الكرامة. هو غضب مقدس له شروطه التي لا يفهمها إلا من قدم ذاته على مذبح
التكريس وصلبها على صليب الجلجثة وانسكب فيه روح المحبة في علية صهيون.

 

 أما المتكبر فلا يعرف سوى
الغضب البشرى الذي قال الكتاب عنه “غضب الإنسان لا يصنع بر الله.(يع20: 1).

 

القتل:

 ولعل
هذا هو نهاية المطاف بالمتكبر. فإذ قد أصيب بتلك القذيفة الفتاكة، توالت الإصابات
عليه حتى انطبق عليه تشخيص أشعياء النبي كل الرأس مريض وكل القلب
سقيم. من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جرح وإحباط وضربة طرية لم تعصر ولم
تعصب ولم تلين بالزيت(أش5: 16).

 فبداية
الكبرياء إعجاب بالنفس ونهايته قتل للأنفس وكل ما بين النهايتين انفجارات متتابعة
لتصل إلى تلك النهاية المحزنة.

 

 فقايين
كان معجبا بتقدمته وإذ رُفضت من قبل الرب بينما ذبيحة أخيه قد قبلت نراه يحسد أخاه
ويحتد عليه وانتهى به الأمر إلى قتله.(تك4: 311)

وعيسو
يصل به الأمر إلى الشروع في قتل أخيه يعقوب.(تك27: 41).

وأخوة
يوسف يتآمرون على قتله.(تك37: 1824).

وشاول
الملك إذ يحسد داود ويغير منه يطارده لكي يقتله.(1صم18: 10)

وهامان
يدبر مكائد ويرسم خططا لقتل مردخاى.(إس3: 6).

والكهنة
وروساء الكهنة بدافع من الغيرة والحسد يثيرون اليهود ويحرضون الرومان على صلب
السيد المسيح.(مت27).

 

 وأنت
أيها الأخ الحبيب هل أنت معجب بنفسك، حاسد لأخيك تدبر المكائد وتحيك المؤامرات
وترسم الخطط لقتله وإن لم يتم لك ذلك عمليا فهل أنت تتمنى موته من كل قلبك ليختفي
من مسرح الحياة لتنفرد أنت بالمجد والكرامة؟.

 

سؤال
يفرض نفسه:

 ربما
مع قراءة هذه الأمراض تسأل: وما هو العلاج؟

لك
حق يا أخي فالعلاج هو أهم ما في الموضوع. فهيا بنا لنرى أسلحة محاربتنا.

 

ثالثا: أسلحة محاربتنا

لقد
استعرضنا معا قوات إبليس المعاند والآن لنستعرض أسلحة محاربتنا المضادة حتى نتعرف
عليها فنستخدمها في حروبنا الروحية لكي نغلب وننتصر.

 

 واعلم يا أخي أن أسلحة
محاربتنا ليست ضعيفة وإنما هي في غاية القوة إذ يقول معلمنا بولس الرسول أسلحة
محاربتنا ليست جسدية بل قادرة بالله على هدم حصون(2كو4: 10).

 واليك
تلك الأسلحة عساك تتسلح بها:

 

(1)
سلاحنا البرى [سيف الروح]

 فإذ
يتعرض بولس الرسول للأسلحة الروحية نراه يقول: وسيف الروح الذي هو
كلمة الله.(اف17: 6).

 فالسيد
المسيح في حروبه على الجبل في البرية قد استخدم هذا السلاح الماضي الذي سدده إلى
قلب إبليس ففر من أمامه هاربا. ففي التجارب الثلاث نرى السيد المسيح يرد على إبليس
قائلا: مكتوب.. “

 وهكذا
الأمر معك يا أخي عندما يحاربك إبليس بشهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة من
مغريات عالمية وملذات جسدية ومحبة المال والذات امسك بسيف الروح الذي هو كلمة الله
واطعن به إبليس فلا يستطيع أن يثبت أمامك.

 وإذ
اختبر معلمنا يعقوب الرسول قوة هذا السلاح نراه يوصى المؤمنين قائلا: “اقبلوا
بوداعه الكلمة المغروسة القادرة أن تخلص نفوسكم”(يع21: 1).

 وبولس
الرسول يقول لتلميذه تيموثاوس “إنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة
أن تحكمك للخلاص.”(2تى15: 3).

 فهل
أنت متمسك بكلمة الله؟ هل تذكر يا أخي قول الرب: لتكن هذه الكلمات
التي أنا أوصيك بها اليوم عل قلبك وتكلم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشى في الطريق
وحين تنام وحين تقوم. واربطها علامة على يدك ولتكن عصائب بين عينيك.(تث6:
68).

 

 آه يا أخي لقد أصبحت
قراءتك للكتاب المقدس مجرد واجب ثقيل تؤديه بمنتهى السرعة وبكل ضيق لهذا أنت لا
تستفيد منها شيئا. ضع في قلبك أن تقرأ الكتاب المقدس لتتسلح به متخذا من آياته
ذخيرة حية تطلقها على العدو متى هاجمك. فهي قادرة أن تخلصك (يع21: 1).

 

 ولكن اعلم يا أخي أن مجرد
ترديد كلمة الله لا يقدر أن يخلصك وإنما مفعول الكلمة هو في أن تخضع فكرك وتستأسره
للمسيح. لهذا فبولس الرسول عندما قال أسلحة محاربتنا ليست جسدية بل
قادرة بالله على هدم حصون.(2كو4: 10)، أكمل قائلا: “هادمين
ظنونا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله ومستاسرين كل فكر إلى طاعة المسيح” (2كو5:
10).

 

 فليست العبرة بترديد
الآيات بينما الفكر مستعبد للشهوات وإنما يجب أن تستأسر الآيات الفكر للمسيح. ولهذا
أيضا قال بولس الرسول أما نحن فلنا فكر المسيح(1كو16: 2).

 

(2)
سلاحنا البحري [غواصة الإيمان]

 لعلك
تذكر يا مبارك أسلحة الشيطان البحرية التي بها يريد أن يقطع رجاءنا، إذ يجرنا في
دوامة الشكوك والخوف والقلق والحزن والضجر واليأس.

 ولكن
شكرا لله الذي لم يتركنا فريسة لمخاوفه، بل أعطانا سلاحا مضادا يستطيع أن يخرجنا
من تلك اللجج بسلام ذلك السلاح هو “غواصة الإيمان” فبطرس الرسول يشير
إلى ذلك السلاح قائلا: “قاوموه راسخين في الإيمان”(بط9: 5).

 وبطرس
الرسول لم يكتب ذلك عبثا، بل كتبه عن اختبار شخصي، فهو لم ينسى دوامة الشك التي
أُخذ فيها وكاد أن يغرق لولا صراخه قائلا يا رب نجني. فأسرع يسوع وأنقذه ممسكا
بيده ثم وضح له سبب سقوطه في هذه الدوامة قائلا: “يا قليل الإيمان لماذا
شككت؟”(مت301431).

 وأركان
الإيمان في حرب اليأس ترتكز حول:

 

(أ)
الثقة في صدق كلام الله ومواعيده:

 فيسوع
نفسه قال “السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول”(مت35: 24).

 وقال
أيضا “زوال السماء والأرض أيسر من أن تسقط نقطة واحدة من الناموس.”(لو71:
16).

فهل
تثق أن الله صادق في مواعيده؟ اسمع ماذا يقول نحميا النبي “وقطعت معه (مع
إبراهيم) العهد.. وقد أنجزت وعدك لأنك صادق.”(نح8: 9). ومواعيد الله
لنا عديدة بخصوص عنايته بنا ومحافظته علينا أضع منها أمامك ما يلي:

 *
قول بطرس الرسول في معالجته لموضوع الإيمان، إذ قبل أن يقول “قاوموه راسخين
في الإيمان”(1بط9: 5). سبق فقال “ملقين كل همكم عليه لأنه هو يعتني
بكم”(بط7: 5).

 *
وفي نفس الإصحاح يعالج موضوع حفظ الله لنا فيقول: “وإله كل نعمة الذي دعانا
إلى مجده الأبدي.. هو يكملكم ويثبتكم ويقويكم ويمكنكم.”(1بط10: 5).

 *
وقد سبق وأوضح في نفس الرسالة ذات المعنى فقال: “أنتم الذين بقوة الله
محروسون”(1بط5: 1).

 *
ثم ألا تعلم يا أخي أن موضوع حفظك قد كلف به المسيح أباه عندما قال له “أيها
الآب القدوس احفظهم في اسمك”(يو11: 17).

 *
ثم يقول له “حين كنت معهم في العالم كنت احفظهم في اسمك.. أما الآن
فأنى آتى إليك.. لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير.”(يو12:
1715).

 

 وحتى لا تظن يا أخي أنك
خارج عن دائرة المحفوظين بيد الله القوية أكمل السيد المسيح صلاته الشفاعية قائلا:
لست أسأل من أجل هؤلاء فقط، (أي التلاميذ) بل أيضا من أجل الذين يؤمنون بي
بكلامهم” (يو20: 17). فماذا تريد يا أخي بعد ذلك؟!!

 *
أو لم تسمع قط هذا الوعد “من يقبل إلى لا أخرجه خارجا”(يو37: 6). تمسك
إذن بمواعيد الله في ثقة وقاوم إبليس راسخا في الإيمان.

 

(ب)
الثقة في معية الله:

 فالله
معك في كل الظروف، في الظلام كما في النور، في الضيق كما في الفرج، في الحزن كما
في الفرح، في البحر كما في البر، لأن اسمه “عمانوئيل الذي تفسيره الله
معنا”(مت32: 1).

وإن
كان الله معنا فمن علينا؟! (رو31: 8).

 واسمع
المرنم إذ يقول “إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرا لأنك معي”(مز4: 23).

 فقل
إذن مع المرنم “جعلت الرب أمامي في كل حين لأنه عن يميني لكي لا
أتزعزع”(مز 8: 16).

 وأصغ
إلى صوته المطمئن “لا تخف لأني معك”(تك24: 26). فلماذا تخاف يا أخي
وتضطرب والرب معك؟! أليس خوفك ناتج من عدم ثقتك في معية الرب لك؟! إذ تظن أنك تسير
في الحياة بمفردك وتقابل الضيقات والتجارب بمفردك وقد نسيت وعده القائل “معه
أنا في الضيق أنقذه وأمجده وأريه خلاصي”(مز15: 19).

 ليتك
يا أخي تثق تماما في وجود الله معك وسكناه في داخلك لأنه مكتوب “أنكم هيكل
الله وروح الله يسكن فيكم”(1كو16: 3).

 

 وأمامك يا أخي العزيز أضع
أنشودة الإيمان والسلام التي عزفها المرنم منشدا: [لأنه ينجيك من فخ الصياد، ومن
الوبأ الخطر بخوافيه يظلك، وتحت أجنحته تحتمي لا تخشى من خوف الليل، ولا من سهم
يطير في النهار، ولا من وبأ يسلك في الدجى. ولا من هلاك يفسد في الظهيرة يسقط عن
جانبك ألف. وربوات عن يمينك. إليك لا يقرب لا يلاقيك شر. ولا تدنوا ضربة من
خيمتك عل الأسد والصل تطأ، الشبل والثعبان تدوس. لأنه تعلق بي أنجيه. أرفعه لأنه
عرف اسمى. يدعوني فاستجيب له. معه أنا في الضيق أنقذه وأمجده من طول الأيام أشبعه.
وأريه خلاصي.] (مز3: 9116).

 

(ج)
الثقة في قبول الرب لك رغم سقطاتك:

 فبطرس
الرسول يقول “لكنه يتأنى علينا وهو لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يقبل الجميع
إلى التوبة”(2بط9: 3).

 وحزقيال
النبي يقول “وأنت يا ابن آدم كلم بيت إسرائيل وقل: أنتم تتكلمون هكذا قائلين.
إن معاصينا وخطايانا علينا وبها نحن فانون فكيف نحيا؟ قل لهم حي أنا يقول السيد
الرب إني لا أسر بموت الشرير بل بأن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا”(حز10: 3311).

 فحزقيال
النبي هنا يوضح بجلاء قلب الله الرحيم الذي يتغاضى عن سقطاتنا ولا يسر بإهلاكنا بل
برجوعنا إليه لنحيا.

 ولهذا
كتب يوحنا الحبيب قائلا: “يا أولادي أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا وإن أخطأ
أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار وهو كفارة لخطايانا ليس لخطايانا فقط بل
لخطايا كل العالم أيضا”(1يو1: 22).

 

 فكثيرون يا أخي يخطئون إذ
يظنون أن الحياة مع الله هي حياة العصمة. كلا يا أخي فمهما بلغ المؤمن من درجات في
القداسة هو معرض للسقوط وربما يسقط فعلا. فو إن كان القصد من حياتنا مع الله أن لا
تخطئ ولكن طالما نحن في سجن هذا الجسد الترابي فنحن معرضون للسقطات بحكم ضعفنا
البشرى.. فإن سقطنا لنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار إذ قدم دمه كفارة
لخطايانا.

 

 لهذا لا تيأس يا أخي إن
أُخذت في سقطة ولكن اصرخ مع النبي قائلا: “لا تشمتي بي يا عدوتي إذا سقطت
أقوم”(مى8: 7).

 

 واسمع يا أخي قول القديس مار
افرام السرياني
: [ليتني التصق بالله لأنه متعطف على البشر، واقبل إلى طريق
الخلاص. وأتوكل على من خلقني فما أيأس من خلاصي لأنه جزيل التحنن فائق في صلاحه.
إن كان العدو جرحني فأنت يارب تشفي جراحاتي برأفتك، وتنتشلني من يديه لئلا يجعلني
مأكلاً للنار والدود.]

وإليك
أيضاً قول يوحنا ذهبي الفم: [إن كان الشيطان لديه هذه المقدرة أن يطرحك
أرضا من العلو الشامخ والفضيلة السامية إلى أبعد حدود الشر. فكم بالأكثر جدا يكون
الله قادرا أن يرفعك إلى الثقة السابقة ولا يجعلك فقط كما كنت بل أسعد من ذي قبل.
لا تيأس ولا تطرح الرجاء الحسن ولا تسقط فيما يسقط فيه الملحدون. فإنه ليست كثرة
الخطايا هي التي تودي إلى اليأس بل عدم تقوى النفس. الشرير يستخدم كل الحيل ليزرع
فينا فكر اليأس. فإن نجح في ذلك فلن يحتاج بعد إلى جهاد أو تعب في صراعه ضدنا،
مادمنا منطرحين وساقطين وغير راغبين في المقاومة.. فمن يقدر أن يتخلص من هذه
السلسلة، ويستعيد قوته، ولا يكف عن المقاومة ضد الشيطان حتى آخر نسمة، حتى ولو سقط
مرات كثيرة بلا عدد، مثل هذا يقوم ويضرب عدوه.

 

 أما من كان في عبودية
أفكار اليأس.. فكيف يقدر أن يغلب وهو لا يقاوم بل يهرب أمام عدوه؟!
N. &P. FRS, Series 2. Vol. 11 P

 

 وإليك
هذه القصة من بستان الرهبان ليثبت إيمانك فتطرد شيطان اليأس من أمامك: قيل
عن أخ كان ساكنا في دير أنه من شدة القتال كان يسقط في خطية الزنا مرارا كثيرة.
وكان هذا الأخ يجاهد ويثابر في إيمان وصبر لكي يسترد ثوب طهارته ولا يكف عن الطلبة
والدعاء قائلا: يارب أنت ترى شدة حالي وحزني فانشلني يارب إن شئت أنا
أم لم أشأ، لأني مثل الطين اشتاق وأحب الخطية. وأنت أيها الإله القوى امنعني عن
النجاسة، لأنك إن كنت ترحم القدسيين فقط فليس هذا بعجيب، وإن كنت إنما تخلص
الأطهار فقط فما الحاجة، لأن أولئك مستحقون.

ولكن
فيَ أنا الغير مستحق يا سيدي أرى عجب رحمتك لأني إليك أسلمت نفسي.

هذا
ما كان يردده كل يوم سواء أخطأ أو لم يخطئ.. وإذ كان يصلى ذات يوم ضجر منه
الشيطان! شيطان اليأس! وغُلب من حسن رجائه ظهر له وجها لوجه وهو واقف يصلى وقال له:
أما تخزى أن تقف بين يدي الله وتذكر اسمه بفمك النجس؟ فقال له هذا الأخ: ألست أنت
تضرب مرزبة (عصا) وأنا أيضا أضرب مرزبة؟ أنت توقعني في الخطية، وأنا أطلب من الله
الرحوم أن يتحنن على، سوف أصارعك هكذا حتى يدركني الموت ولن أقطع رجائي من الهي،
ولن أكف عن الاستعداد لك. وسننظر من يغلب أنت أم رحمة الله.

 

 فقال له الشيطان: من الآن
لا أعود إلى قتالك لئلا يكون لك إكليل من الرجاء.. وانتصر الإيمان والرجاء وتبدد
اليأس وتمتع هذا الأخ ببهجة الخلاص

 

 فلا تيأس يا أخي مهما
سقطت بل قم فتخلص، فما أعجب ما كتبه يوحنا ذهبي الفم قائلا: “السقوط
في ذاته ليس بالأمر الخطير، بل يكمن الخطر في البقاء منطرحا بعد السقوط، وعدم
القيام مرة أخرى”

 

(3)
سلاحنا الجوى: [حلة الإتضاع]

 إن
رجال الفضاء الذين يقذف بهم إلى العلو الشاهق في منطقة انعدام الوزن لابد لهم وأن
يلبسوا حلة فضاء معينة تقيهم من أخطار ذلك الجو.

 

 وهكذا في حياتنا الروحية
عندما يقذفنا إبليس فكرياً إلى طبقات الكبرياء العليا علينا أن نلبس حلة الاتضاع
هذه هي الإماتة وصلب الذات. فلقد سبق وارتداها بولس الرسول إذ قال “مع المسيح
صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في.”(غل20: 2).

 

 ويتضح لنا من قول بولس
الرسول أن الاتضاع ليس هو مجرد إماتة الذات وصلبها فحسب بل هو أسمى من ذلك. إذ أن
إماتة الذات وصلبها ليس إلا وسيلة لنصل إلى الاتضاع الحقيقي وهو حياة المسيح فينا.
فإماتة الذات بدون حياة المسيح فينا ليس باتضاع وإنما هو ضرب من الانتحار، وهيهات
أن يتم بذلك الإتضاع، والحقيقة أنها محاولات فاشلة لا تؤدى إلا إلى العلل والأمراض
النفسية وانحراف الشخصية.

 

 وإليك يا مبارك مفهوم
الاتضاع فهو:

 

(أ)
إلغاء إرادة الذات لتحل إرادة الآب فينا:

 فيسوع
الذي قال لنا ” تعلموا منى لأني وديع ومتواضع القلب.”(مت11: 29). نراه
في مشهد الاتضاع متجليا في بستان جثماني قبيل صلبه قائلا: “ليكن لا ما أريده
أنا بل ما تريد أنت.”(مز36: 14).

 

 فيسوع المتضع يلغي إرادة
ذاته ويحل إرادة الآب عوضا عنها. هكذا أيها الحبيب إذ نتعلم من يسوع الاتضاع يجب
أن يكون لنا فكر المسيح. ” أما نحن فلنا فكر المسيح.”(1كو16: 2) فنلغي
إرادتنا تماما ولنتصرف بإرادة الآب، كما كان يفعل يسوع فقد قال “لأني قد نزلت
من السماء ليس لأعمل مشيئة الذي أرسلني. وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني، إن كل ما
أعطاني لا أتلف منه شيئا بل أقيمه في اليوم الأخير.(يو38: 639).

 

 وقد علق على هذا القول
القديس أغسطينوس قائلا: “هذا هو سر الاتضاع، فبينما الكبرياء هو عمل مشيئة
الذات، فالاتضاع هو عمل مشيئة الآب.”

 N. P. FRS 1 St Series vol. 7 p. 100.

 

(ب)
إخفاء الذات ليظهر المسيح فينا:

 فالاتضاع
الحقيقي يا أخي هو إخفاء الذات وإظهار شخص يسوع في حياتنا.

 

المعمدان
كمثال
:

 تطلع
إلى يوحنا المعمدان الذي كان محترما من الجميع، عندما سئل. من أنت؟ يقول الكتاب
انه اعترف ولم ينكر وأقر: “إني لست أنا المسيح” ثم أردف قائلا: “في
وسطكم قائم هو الذي يأتي بعدى الذي صار قدامى الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه
” ثم أشار إلى المسيح قائلا: “هوذا حمل الله الذي يرفع خطية
العالم” (يو29: 21).

 لم
يكتف يوحنا المعمدان بأن يخفى ذاته وينكرها، وإنما جوهر الاتضاع في يوحنا المعمدان
هو إظهار شخص يسوع رافع خطية العالم. لهذا نراه في عبارات الاتضاع يعقد المقارنة
بين حقارة ذاته وبين رفعة شخص المسيح فيقول: “في وسطكم قائم هو الذي يأتي
بعدي الذي صار قدامي” (يو27: 1) فيوحنا يضع نفسه في المؤخرة ويقدم على ذاته
شخص المسيح.

 

 *
ثم يعود فيقول “الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه”(يو27: 1) مظهرا
كرامة المسيح ومركزه السامي حتى أنه غير مستحق أن يحل سيور حذائه.

 *
ثم فرَق بين معموديته التمهيدية ومعمودية المسيح الأصلية عندما قال “أنا
أعمدكم بماء التوبة. ولكن الذي يأتي بعدى هو أقوى منى.. هو سيعمدكم بالروح القدس
ونار” (مت11: 3).

 وما
أعجب قوله يا أخي “هو أقوى منى” مظهرا بهذا ضعفه ومشيرا إلى قوة المسيح،
وإلى قوة معموديته.

 

 *
وعندما أتى إليه تلاميذه قائلين “يا معلم هوذا الذي كان معك في عبر الأردن
الذي أنت شهدت له هو يعمد والجميع يأتون إليه” أجاب يوحنا وقال “لا يقدر
إنسان أن يأخذ شيئا إن لم يكن قد أعطى من السماء. أنتم أنفسكم تشهدون لي أنى قلت
لست أنا المسيح بل إني مرسل أمامه.

 

 من له العروس فهو
العريس. وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح فرحا من أجل صوت العريس. إذا فرحى
هذا قد كمل. ينبغي أن ذلك يزيد وأنى أنا انقص” (يو26: 330).

 

 ولعلك
تلاحظ يا أخي كيف أوضح أنه مجرد صديق العريس وأشار إلى المسيح على أنه هو العريس
ثم ختم حديثه بشعار الاتضاع الذهبي “ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا انقص”.

بولس
الرسول كمثل آخر:

 

 وتأمل أيضا يا أخي في قول
بولس الرسول موضحا مفهوم الاتضاع “مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح
يحيا في”(غل20: 2). فبين بهذا أن صلب الذات هو عنصر الاتضاع السلبي وحياة
المسيح في الإنسان هو عنصر الاتضاع الإيجابي.

 

 لهذا يقول أيضا حاملين
في الجسد في كل حين إماتة الرب يسوع لكي تظهر حياة يسوع أيضا في جسدنا.
لأننا نحن الأحياء نسلم دائما للموت من أجل يسوع لكي تظهر حياة يسوع أيضا في
جسدنا المائت
“(2كو10: 411).

 هذه
هي صورة دقيقة لمفهوم الاتضاع فإماتة الجسد وسيلة لكي تظهر حياة يسوع في هذا الجسد
المائت.

 

وتتضح
هذه السمة في خدمة بولس الرسول أيضا إذ يقول: “فإننا لسنا نكرز بأنفسنا بل
بالمسيح يسوع رباً ولكن بأنفسنا عبيدا.”(2كو5: 4) فشعار الخدمة هو إظهار شخص
يسوع المسيح لتتعلق به النفوس وتحبه وتعبده أما الخادم فيتوارى خلف الصليب ويختفي
في ظلاله ثم يقف من بعيد متهللا فرحا كصديق العريس الذي تسلم العروس.

 

فهل
يا أخي المبارك تخفى ذاتك لكي تظهر حياة يسوع فيك وفي خدمتك؟

 

 ومن هذا نستطيع أن نخرج
بنظرية واضحة للاتضاع وهى: أن الاتضاع ليس مجرد إخفاء الذات عن الناس فهذا هو
العنصر السلبي في الاتضاع، وإنما هو إظهار شخص المسيح أمام الجميع وهذا هو العنصر
الإيجابي في الاتضاع.

 

بطرس
الرسول كمثال ثالث:

 

 تأمل موقف بطرس ويوحنا
بعد معجزة شفاء الرجل الأعرج من بطن أمه عند باب الهيكل الذي يقال له الجميل.(أع12:
316) ماذا قال بطرس عندما رأى التفاف الشعب حولهما في اندهاش وتعجب؟! قال ما بالكم
تتعجبون من هذا؟ ولماذا تشخصون إلينا كأننا بقوتنا أو تقوانا قد جعلنا هذا يمشي؟

 

 إن إله إبراهيم واسحق
ويعقوب إله آبائنا مجد فتاه يسوع.. وبالإيمان باسمه شدد اسمه هذا
الذي تنظرونه. فبطرس الرسول يحول أنظار الشعب إلى شخص يسوع المسيح، وهذا هو
الاتضاع.

 

 فليس معنى الاتضاع أن
يهرب بطرس من إجراء المعجزة متمتما بعض عبارات عدم الاستحقاق! لا يعتبر هذا أتضاع
وإنما هو تخاذل وإنكار للمسيح وعدم تكامل المحبة للآخرين.

 

خلاصة:

 فليس
الاتضاع يا أخي خفض الرأس وتنكيسها في تذلل.. فربما تنجح في هذا ولكن قلبك من
الداخل لا زال منتصبا متشامخا. وليس الاتضاع عينين ذابلتين ووجها مكمدا مقطبا..
بينما عينا قلبك مفتوحتان بانتفاخ وشهوة.. وليس الاتضاع تمتمات شفاه ضامرة
في صوت خافت بينما بالقلب من الداخل صيحات العجب والسبح الباطل.

 +
الاتضاع يا مبارك هو عملية ختان للقلب بالروح، واقتناع داخلي بأنني في ذاتي لا شئ
بل أحقر من تراب الأرض، لأن التراب لم يخطئ إلى الله أما أنا فقد عوجت المستقيم
أمامه.

 

 +
الاتضاع هو تمجيد نعمة الله التي تنازلت لتسكن في آنية خزفية مدنسة، كما يقول
معلمنا بولس الرسول “أنا الذي لست أهلا أن أدعى رسولا لأني اضطهدت كنيسة الله،
ولكن بنعمة الله أنا ما أنا ونعمتة المعطاة لي لم تكن باطلة بل أنا تعبت اكثر من
جميعهم ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي” (1كو9: 1511).

 

 فبولس الرسول يكشف
عن اقتناعه القلبي أنه ليس أهلا ليدعى رسولا، ويؤيد اقتناعه هذا بالدليل إذ يقول: “لأني
اضطهدت كنيسة الله” فلم يكن كلامه إدعاء أو تظاهرا أو تصنعا، بل إتضاعا
حقيقيا نتج عن اقتناع قلبي. فهو وإن كان قد أظهر الجانب السلبي في الاتضاع يكمل
حديثه بإظهار الجانب الإيجابي فيه فيشير إلى عمل نعمة المسيح فيه قائلا “أنا
ما أنا ونعمته المعطاة لي لم تكن
باطلة” (1كو15: 10) ثم
يردف قائلا “أنا تعبت اكثر من جميعهم” وحتى لا يلتبس الأمر على أحد فيظن
أن بولس أبتدأ يفتخر في كبرياء، يكمل حديثه قائلا “لا أنا بل نعمة الله
المعطاة لي”

 

من
هذا يا أخي يتضح أن للاتضاع شقين:

الشق
الأول سلبي:  موت وإخفاء.

الشق
الثاني إيجابي: حياة وإظهار.

 

 فهو
موت للذات وإخفائها، كما أنه حياة المسيح وإظهاره في حياتنا. ختاما نضع أمامك
هاتين المعادلتين:

منطق
المتكبر هو: أنا لا المسيح

منطق
المتضع هو:  لا أنا بل المسيح

 

(ج)
تجريد الذات وإرجاع الفضل لعمل الروح فينا:

 

 فمعلمنا بولس الرسول كان
أولى الناس بأن يفتخر بعمله وخدمته وثماره المتكاثرة في بلاد أسيا وأوربا، ولكننا
نراه يجرد نفسه من كل هذه الإعمال ويقول “من يفتخر فليفتخر بالرب”(1كو31:
1).

 

 لماذا لا تفتخر أيها
الرسول بأعمالك هذه العظيمة؟ يقول لأنه “ليس أننا كفاة من أنفسنا أن نفتكر
شيئا كأنه من أنفسنا بل كفايتنا من الله الذي جعلنا كفاة لأن نكون خدام عهد
جديد”(2كو5: 36).

 

 ثم يعود فيقول في أوفر
إيضاح “لنا هذا الكنز في أوان خزفية ليكون فضل القوة لله لا منا”(2كو7: 4).

 

 ما أجمل هذا التجريد
للنفس من أعمالها، إذ ينظر إلى ذاته كآنية طينية ترابية لا فضل لها وإنما الفضل
يرجع إلى قوة الله العاملة فيه. فالاتضاع يا أخي هو تجريد الذات من الأعمال التي
تقوم بها. فما أنت في الواقع إلا آلة في يد الروح القدس لتنفيذ مقاصده. فكل ما صار
للنفس وكل ما تعمله النفس هو نتيجة عمل الروح القدس فيها وبها.

 وإليك
ما يجب أن تتجرد منه النفس لتعيد الفضل لعمل الروح القدس:

 

القداسة
والفضيلة:

 فإن
كنت تمارس حياة القداسة وتسير في طريق الفضيلة فلا تظن أن هذه القداسة وهذه
الفضيلة قد حصلت عليها بمجهوداتك البشرية. ولكن اعلم أن هذه كلها هى نتيجة عمل
الروح القدس فيك بالنعمة التي قال عنها الكتاب “لأنكم بالنعمة مخلصون
بالإيمان وذلك ليس منكم هو عطية الله ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد” (أف8: 29).

 

 وعاد فقال “لا
بأعمال في بر عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح
القدس” (تى5: 3).

 

 ويوضح أيضا الرسول أن
القداسة التي بدأتها ليست من عملك وإنما هي من عمل الله نفسه فيك فيقول “اله
السلام نفسه يقدسكم بالتمام” (تس23: 5).

 

 وحزقيال النبي يظهر لنا
أيضا أن حياة الطهارة التي تعيشها هي من عمل الله أيضا فيك فيقول “أخلصهم من
كل مساكنهم التي فيها أخطأوا وأطهرهم فيكونون لي شعبا وأنا أكون لهم إلها.”
(حز23: 37).

 ولهذا
يقول القديس باسيليوس في قداسه {وصيرنا أطهارا بروحك القدوس.

 

 وقال القديس مار اسحق
السرياني
:

[اعلم
أن قيامك في العفة والفضيلة ليس هو من حرصك ولا من فضيلتك بل أن النعمة حاملة إياك
على راحة يدها لئلا تتحرك فتزل]

فعندما
يأتيك فكر كبرياء بالقداسة والفضيلة، قل كيف أفتخر بهذا كأنني أنا الذي فعلته،
أعلمي يا نفسي أن هذا هو من عمل نعمة الله المتفاضلة. أما أنت يا نفسي فلا فضل لك
في ذلك.

 

 واحذري يا نفسي أن تظني
أنك شيء في ذاتك لئلا تتخلى عنك النعمة فتعرفي مقدار ذاتك.

فقد
قال القديس مار اسحق السرياني:

 [لا
تعتمد على قوتك لئلا تترك لضعف طبيعتك فتعرف ضعفك من سقطتك. واعلم أن كل أمر يفتخر
به الإنسان يسمح الله تعالى بتغييره ليتواضع].

 

 ويقول
يوحنا ذهبي الفم:

 [لننظر
إلى أنفسنا آخر الكل، ولو كنا قد بلغنا قمة الفضيلة عينها. فبينما الكبرياء يُسقط
غير المحترسين من السماء، فالاتضاع يرفع الحذرين من هاوية الآثام.. فإن
شيدت بناء شامخاً كالصدقات والصلوات والأصوام وجميع الفضائل، فما لم يكن الاتضاع
أساس هذا البناء فعبثا كان تشييده وعاجلا يكون سقوطه كالبيت المبني على الرمل].

 N. & P. Frs. 1 St Ser. Vol. 9 P. 148.

 

 ومن
عوامل هدم فكر الكبرياء هو أن تذكر ماضيك قبلما عملت فيك النعمة لتعرف من أنت.
ستجد نفسك على حقيقتها دنسه وحقيرة، وعندئذ تتضع نفسك.

 

 يحكي أن أحد الملوك
العظماء كان يحتفظ في حجرة صغيرة إلى جوار أريكة عرشه ببعض آلات صيد السمك وهى
شبكة وسلة وجلباب قذر. وقد اعتاد هذا الملك أنه في صباح كل يوم يلقى نظرة على هذه
الآلات ويشتم رائحتها قبل أن يصل إلى كرسي عرشه.

وعندما
سُئل عن سبب ذلك قال: إنني أواظب على هذا العمل يوميا حتى لا تنسيني أبهة الملك
حالتي الأولى فأتكبر.

 

 فهكذا يا أخي ليتك كل
صباح تتذكر حالتك وتذكر أنك كنت إنسانا خاطئا منذ ولادتك من بطن أمك، وقد قضيت
سنينك وأيامك في الشرور والآثام.

 

 فبولس الرسول ما نسي قط بعد أن اجتاز السماء الثالثة – أقول ما نسي
قط حياته الأولى، فكان دائماً يردد تلك المقولة: ” أنا الذي لست أهلاً لأن
أدعى رسولاً لأني اضطهدت كنيسة الله.” (1كو9: 15).

 

 ويعود
فيقول “أنا الذي كنت قبلاً مجدفاً ومضطهداً ومفتريا. ولكنني رحمت لأني فعلت
في جهل في عدم إيمان. وتفاضلت نعمة ربنا جداً مع الإيمان والمحبة التي في المسيح
يسوع.. (الذي) جاء إلي العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا.”(1تى13: 115).
هل رأيت إذن سر أتضاع بولس الرسول. إنه لا زال يذكر ماضيه المشين حتى لا يفتخر
فيسقط، ثم يوضح في أجلى بيان تفاضل نعمة المسيح حتى خلص الخطاة الذين هو أولهم.

 

العلم
والمعرفة:

 عندما
يحاول إبليس أن يسقطك في فخ الكبرياء والتشامخ بالعلم والمعرفة مستغلاً فهمك للكتب
واستنارتك الروحية فإن لم تفرز حيلته الخادعة وتميز مقاصده الخبيثة سقطت في قبضته
المهلكة.

 

 أخي:
إن
ضربة الكبرياء بالعلم والمعرفة قد أطاحت بالكثيرين أمثال آريوس المهرطق ومقدونيوس
المبتدع وغيرهما..

 

 أما
أنت فلكي تنجو من هذا السهم القاتل لابد أن تعرف: أن ما تعرفه وما قد وصلت إليه من
فهم لا يرجع الفضل فيه إلي ذكائك الشخصي وإنما إلي كشف الروح لك. فكم من جهال
حكَمهم الروح، وها صيادو السمك يفتنون المسكونة فقد “اختار الله جهال العالم
ليخزى بهم الحكماء.”(1كو27: 1) وتأمل قول ربنا يسوع “أتكلم بهذا كما
علمني أبي”(يو28: 8) فيسوع نفسه الذي قيل فيه “المذخر فيه جميع كنوز
الحكمة والعلم”(كو3: 2).

إذ
قد ارتدى حلة الاتضاع ينسب كل هذا العلم إلي الآب يقوله:

“أتكلم
بهذا كما علمني أبي” فما أعجب اتضاعك يا إلهي!! ثم تأمل أيضاً قول المرنم
” أنا بليد ولا أعرف. صرت كبهيم عندك”(مز22: 73) هذا ما قاله المرنم
الممتلئ بروح الحكمة والفهم. فماذا تقول أنت؟ هل صرت أحكم من هذا المرنم؟ وهب أنك
تعرف الكثير. أفلا تعلم أن هذه المعرفة وهذا العلم هو من عمل الروح وكشفه. وإليك
الدليل:

 

لأن
الروح القدس يعلمكم.(لو12: 12)

وأما
المعزى الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شئ ويذكركم بكل
ما قلته لكم.(يو26: 14)

أما
أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم ولا حاجة بكم إلي أن يعلمكم

أحد
بل كما تعلمكم هذه المسحة عينها عن كل شئ وهي حق وليست كذبا. (1يو27: 2)

وإليك
أيضاً قول الكتاب عن دانيال والثلاث فتيه بخصوص حكمتهم:

أما
هؤلاء الفتيان الأربعة فأعطاهم الله معرفة وعقلا في كل كتابة وحكمة.

(دا17:
1)

وهو
ذا يوحنا الحبيب يظهر أن هذه البصيرة قد كشفها لنا ابن الله نفسه بقوله:

نعلم
أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق (1يو20: 5)

 

 أفبعد كل هذا تظن يا أخي
أنك فهيم وحكيم من ذاتك؟ اذكر قول بولس الرسول “لا يخدعن أحد نفسه. إن كان
أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر فليصر جاهلاً لكي يصير حكيماً. لأن حكمة هذا
العالم هي جهالة عند الله”(1كو18: 319).

 ويعقوب
الرسول يحذرنا قائلاً “لا تكونوا معلمين كثيرين يا أخوتي عالمين أننا نأخذ
دينونة أعظم لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا”(يع1: 3).

 

 أفتظن
يا مبارك أنك تعرف كل المعرفة؟ ثق يا أخي أن ما تعرفه الآن ما هو إلا حياة ضحلة
علي شاطئ نهر السباحة الذي لا يعبر.(خر5: 47).

 

 وهذا
ما قاله بولس الرسول عن نفسه إذ اكتشف هذه الحقيقة “الآن أعرف بعض
المعرفة”(1كو12: 13).

 

 من الذي يقول هذا الكلام؟
بولس الرسول الذي اختطف إلي السماء الثالثة ورأى ما لم تره عين، وعرف ما لا يصوغ
للفم أن ينطق به!!

 لهذا
فهو يقرر هذه الحقيقة ويضع هذه القاعدة الخالدة:

“إن
كان أحد يظن أنه يعرف شيئاً فإنه لم يعرف شيئاً بعد كما يجب أن يعرف.”(1كو2: 8).

 

 فليعطك
الرب نعمة اتضاع الفكر لتعرف أنك لا تعرف شيئاً من أعماق حكمة الله، وأن ما عرفته
إنما هو كشف بسيط من محيط علم الله اللانهائي قد قصد الروح القدس أن يطلعك عليه
فلا تفتخر بل قف شاكراً الله الذي وهبك هذه النعم.

 

المواهب
والإعلانات:

 هذا
ميدان آخر يشتد فيه القتال وتستعر فيه نيران الحرب.

فيا
صاحب المواهب اعلم أن ما عندك هو مجرد عطية من الله إذ يقول بولس الرسول في صدد
الحديث عن المواهب “لكل واحد يعطى إظهار الروح للمنفعة. فإنه لواحد
يعطى بالروح كلام حكمة. ولآخر كلام علم..ولآخر إيمان.. ولآخر مواهب شفاء.. ولآخر
عمل قوات ولآخر نبوة ولآخر تميز أرواح. ولآخر أنواع ألسنة. ولآخر ترجمة ألسنة.
ولكن هذه كلها يعملها الروح القدس بعينه قاسما لكل واحد بمفرده كما يشاء.”(1كو7:
1211).

 

 فعلام
يفتخر من وهب إحدى هذه المواهب؟ والموهبة لا تعتمد على جدارته بل على مشيئة الروح
في استحقاقات المسيح.

 أما
من يفتخر بالموهبة يحذره القديس مار اسحق قائلا: {اعلم أن كل أمر يفتخر به
الإنسان يسمح الله بتغييره ليتواضع}.

 

 هذا
بخصوص المواهب وهكذا الأمر نفسه بخصوص الإعلانات. فلربما كشف لك الرب لترى
بعين الإيمان ما تعجز عن رؤيته بالعيان. فهذا العمل هو نعمة من الله الذي ارتضى أن
يكشف لك عن جانب من أسراره.

 

 أفيقودك هذا إلى
الافتخار؟ والأمر لم يكن يعتمد على برك أو صلاحك أو مجهوداتك وإنما على عطية الله
المجانية.

 

 لهذا
فأحيانا يسمح الله بشوكة في الجسد لتصنع توازنا مع فرط الإعلانات خشية على حياة
الإنسان، فيقول بولس الرسول رجل الإعلانات: “لئلا ارتفع من فرط الإعلانات
أعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمني لئلا ارتفع.”(2كو7: 12).

 

(د)
الاتضاع هو انحلال من الكل للارتباط بالواحد:

سبق
أن وضحنا أن الاتضاع هو:

(أ)
إلغاء إرادة الذات لتحل إرادة الآب فينا.

(ب)
إختفاء الذات ليظهر المسيح فينا.

(ج)
تجريد الذات وإرجاع الفضل لعمل الروح فينا.

والآن
نناقش هذا المفهوم وهو أن الاتضاع هو الانحلال من الكل للارتباط بالواحد.

انحلال
من الذات (فأحيا لا أنا).(غل20: 2).

 وانحلال
من الناس “مجدا من العالم لست اقبل” (يو5: 41).

وقال
بولس الرسول أيضا “لو كنت بعد أرضي الناس لم اكن عبداً للمسيح” (غل10: 1).

 

 وانحلال من المال، ومن
المراكز العالمية، ومن الرئاسات وحب المتكآت، انحلال من مجد العالم ليتحد الإنسان
مع المسيح في سرية مقدسة، وفطامة النفس من أباطيل العالم لتشبع بدسم الرب وعشرته
الطيبة.

“كالتفاح
بين شجر الوعر حبيبي بين البنين تحت ظله اشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة لحلقي.”(نش3:
2).

 

 من
هذا قد رأيت يا أخي القارئ ميدان الجهاد الروحي وتعرفت على أعدائك الروحيين،
وضرورة وقوفك في ميدان الحرب “فجاهد جهاد الإيمان الحسن وتمسك بالحياة
الأبدية التي إليها دعيت.”(1تى12: 6).

 

وليتك
تحمل جميع سلاح الله الكامل لكي تقدر أن تثبت أمام حيل إبليس.

وإن
أصابك سهم الأعداء فلا تيأس لأن الرب يضمد جراحاتك ويقف معك في المعركة “إن
كان الرب معنا فمن علينا”(رو8: 31).

ولابد
ننتصر “لأنه يعظم انتصارنا بالذي احبنا”(رو37: 8).

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى