اللاهوت الروحي

22- العودة إلى الله



22- العودة إلى الله

22-
العودة إلى الله

إن الإنسان الذي لا تأتيه اليقظة من داخله،
كثيرا ما توقظه أسباب خارجية كغالبية الأسباب التي ذكرناها. فلا يفيق مثل هذا
الإنسان إلا بسبب يأتيه من الخارج، مثل لوط الذي لم ينتبه إلى نفسه ويخرج من سادوم،
وانما خرج بسبب ملاكين دفعاه دفعا إلى الخارج ليترك المدينة الهالكة.

مقالات ذات صلة

 

أما أنت يا اخى، فلا تنتظر حتى يرسل الله ملاكين
يخرجانك من سادوم، وانما إستيقظ أنت من ذاتك. قم من الأموات، فيضئ لك المسيح..

أترك هذا الكتاب الآن واجلس إلى نفسك،

وقل لابد أن اصطلح مع الله.. الآن.

وارفع صلاة أن يعينك الرب، ويعطيك قوة ترجعك
إليه..

 

23- مشاعر تصاحب اليقظة الروحية

اليقظة الروحية، إن كانت يقظة حقيقية، هناك
علامات تدل عليها وتميزها. ولعل من أول هذه العلامات:

الشعور بالخجل والخزى | 2 | 3

دموع الحزن والندم.

حرب اليأس، وحسد الشياطين.

حرارة روحية تصحب اليقظة.

تعويض ما فات.

مشاعر أخرى..

 

24- الشعور بالخجل والخزي

عندما يصحو الخاطئ إلى نفسه، يدرك بشاعة الخطية
التي كان يعيش فيها، فيشعر بخزى من خطاياه، ويخجل من ماضيه. وكلما تمر أمامه صور
خطاياه تزعجه وتخزيه كيف أنه فقد صورته الإلهية، وفقد نقاوته..! كيف أنه دنس نفسه
أو فكره، أو حواسه أو جسده..

كيف أنه استهان بوصايا الله إلى هذا الحد..! كيف..
كيف..؟!

إنه يخجل أولا من الله ذاته..

يخجل من قدسية الله وصلاحه.. إن كانت الخطية
بشعة أمام الإنسان، فكم تكون بشاعتها أمام الله القدوس، غير المحدود في قداسته..
ويخجل من طول أناة الله عليه وكيف أن الله الحنون لم يأخذه في سقوطه، إنما صبر
عليه وهو يتعدى وصاياه، وأعطاه فرصة لكى يستيقظ ويتوب.. يخجل من محبة الله التي
قابلها بالجحود والإستهانة، وفى صلاته يقول لهذا الإله المحب (أنا يارب مكسوف منك..
خجلان لا أعرف كيف أرفع وجهى إليك.. وكيف أتجرأ وأعود فأخاطبك، كأن شيئا لم يحدث
صدقنى يارب إننى خجلان من محبتك التي تسمح الآن بأن تسمع لى، وتقبلنى مصليا محبتك
التي ترضى بأن تصطلح معى، بهذه السهولة..! هذا الخجل المقدس هو صفة لازمة لكل تائب،
يعرف تماما أنه وضع نجاساته على كتف المسيح ليحملها عنه، ويخزى من محبة الفادى وهو
يقبل هذا..

 

ولعل من أمثلة الشعور بالخجل، قصة العشار في
الهيكل..

يقول عنه السيد المسيح إنه من خجله، لما دخل
الهيكل (وقف من بعيد) وهو (لا يشاء أن يرفع عينيه إلى السماء) (لو 18: 13) وإنما
في مذلة وفى شعور بالخزى، قرع صدره قائلا: إرحمنى يارب أنا الخاطئ.

 

نفس الوضع يشبه مشاعر الإبن الضال في يقظته..

لما استيقظ هذا الإبن من غفلته، أو لما (رجع إلى
نفسه)، شعر في خزيه أنه لم يصل إلى مستوى أجراء أبيه، وانه لا يستحق أن يكون له
إبنا. وكل ما يريده من أبيه هو هذه الطلبة (إجعلنى كأحد أجرائك) (لو 15: 19).

 

لما استيقظت مريم الخاطئة، قالت لعمها الأنبا
إبراهيم:

(لا أستطيع يا أبى أن أنظر إلى وجهك من فرط خزيى
وعارى. بل كيف أرفع عينى إلى السماء نحو الله، وأنا ملوثة بكل الأوحال الدنسة؟!..
حقا إن الإنسان الذي استيقظت روحه يقول مع المزمور:

 

(اليوم كله خجلى امامى، وخزى وجهى قد غطانى) (مز
44: 15)

وإذا وقف أمام الله، لا يجد أمامه سوى عبارة
(أنت عرفت عارى وخزيى وخجلى) (مز 69: 19)إنه إنسان خجلان من الله.. لا يجرؤ أن
يرفع وجهه إليه، ولا يرى نفسه مستحقا الدخول إلى البيت الله. بل يقول له (أما أنا
فبكثرة رحمتك ادخل إلى بيتك) (مز 5: 7) إنها رحمة منك، تسمح لى بها أن ادخل إلى
بيتك، وليس استحقاقا لى أنا يارب اشعر بخجل أمامك.. كيف حدث أننى ضعفت إلى ذلك
الحد؟! كيف أننى لم أقاوم، بل استسلمت وسقطت؟! كيف لم أضعك أمامى وقتذاك.. كيف
استهنت بوصاياك..

 

25- خجل الإنسان من الخطية

إذا استيقظ الخاطئ، يشعر بخجل في الداخل أمام
نفسه. وبخجل خارجها أمام الله، وأمام ملائكته وقديسيه..

 

دائما الخطية تسبب الخجل والخزى، أو أنكشاف
الخطية أمام الإنسان يسبب هذا سواء أكانت خطيته هو، أو خطية من ينتسبون إليه
وينتسب إليهم..

 

وهكذا نجد أن الخزى من الخطية، يدخل في مشاعر
الأنبياء..

فأرميا النبى – وهو يوقظ الشعب الغافل في خطيته
– نسمعه يقول (.. نضطجع في خزينا ويغطينا خجلنا، لأننا إلى الرب إلهنا أخطأنا، نحن
وآباؤنا، من صبانا إلى هذا اليوم) (أر 3: 25) وعزرا الكاهن، لما اكتشف خطايا الشعب،
مزق ثيابه حزنا.. وعند تقدمة المساء، قام من تذلله، وبثيابه جثا على ركبتيه، وبسط
يديه إلى الرب قائلا:

 

إننى أخجل وأخزى من أن ارفع يا إلهى وجهى نحوك
(عزرا 9: 6).

وشرح عزرا سبب خجله وخزيه فقال (لأن ذنوبنا قد
كثرت فوق رؤوسنا، وآثامنا تعاظمت إلى السماء.. قد جازيتنا يا إلهنا بأقل من
آثامنا) وختم هذا الكاهن القديس صلاته بقوله (أيها الرب.. أنت بار، لأننا بقينا
ناجين إلى هذا اليوم. ها نحن أمامك في آثامنا، لأنه ليس لنا أن نقف أمامك (عز 9: 6،
13، 15).

 

وبنفس صلاة أرميا وعزرا، كانت أيضا صلاة دانيال..

قال وهو صائم في المسوح والرماد (أيها الرب
الإله العظيم المهوب.. أخطانأ وأثمنا، وعملنا الشر، وتمردنا وحدنا عن وصاياك.. يا
سيد، لنا خزى الوجوه، لملوكنا لرؤسائنا ولآبائنا، لأننا أخطانأ إليك..) (دا 9: 5،
8).

 

هكذا وقف الأنبياء القديسون فى خزى أمام الله.
فهل يليق بنا في توبتنا أن نقف بجرأة أمام الله، نطالب بحقوق؟!

 

إن الكتاب يعلمنا هذا الإنسحاق الذي نشعر فيه
بالخزى والخجل.. إن داود النبى ما أن انكشفت أمامه خطيته، حتى شعر بالخزى وقال
(لقد أخطأت جدا في ما فعلت إنحمقت جدا) (2صم 24: 1.) (وضربه قلبه)..

 

الخجل لا بد أن يكو ن، قبل الخطية أو بعدها..

مبارك هو الشخص الذي يشعر بالخجل من فعل خطيته،
قبل أن يقع فيها، ويمنعه الخجل من ارتكابها، مثل يوسف الصديق الذي قال (كيف أخطئ
وافعل هذا الشر العظيم أمام الله).. وهكذا لم يخطئ.. فإن لم يخجل الإنسان هذا
الخجل الواقى، وسقط في الخطية، فبالأحرى جدا ينبغى أن يشعر بالخجل لسقوطه. يخجل من
ضعفه ومن هزيمته، ومن دنسه، وبعده عن الله.. واستهانته بمحبة الله وطول أناته عليه..

 

ويخجل الإنسان من وعوده لله فى أن يحيا حياة بر..

تلك الوعود السابقة، الحافلة بتعهدات كثيرة،
والتى لم يكن أمينا فيها ولا صادقا.. ولسان حاله يقول:

كم وعدت الله وعدا حانثا ليتنى من خوف ضعفى لم
أعد.

ويزداد خجله من تعهداته لله، كلما كانت تلك
التعهدات محاطة بقدسية معينة، كأن يكون قد تعهد أمام الله، وهو واقف أمام المذبح،
أو وهو واضع يده على الإنجيل، أو وهو أمام رفات أحد القديسين.. كل ذلك يجعله يذوب
خجلا أمام الله وأمام نفسه. وكما يخجل الإنسان من نفسه ومن ضعفه وعدم أمانته، يخجل
كذلك من الملائكة وأرواح القديسين الذين رأوه يخطئ..

 

26- الخطيئة ومشاعر الخزي

قد لا يخجل الخاطئ من خاطئ مثله، يراه في خطيئته
أو يشترك معه فيها. ولكنه يخجل جدا إن عرف بهذه الخطية أحد الأبرار الأنقياء، أو
أن رآه أو سمعه.. فكم بالأكثر يكون خجله من الملائكة الذين حوله، وأرواح القديسين
وهى تراه! وكذلك كم يكون خجله من أرواح أصدقائه وأقربائه الذين انتقلوا.. أين يخفى
وجهه من كل هؤلاء، وبخاصة الذين كانوا يحسنون الظن به، والذين كانوا يثقون به وببره
وتقواه، ويمتدحونه، ويطلبون صلواته لأجله.. ثم يرون نفسه على حقيقتها في أخطائها..!
بل هو يخجل أيضا من أرواح أعدائه ومعارضيه

ممن كان هو ينتقد أعمالهم ويبدو أفضل منهم. ماذا
تراهم يقولون عنه الآن؟!

والخاطئ حين يستيقظ ويتوب، يقول في شعوره بالخزى:

أين أخفى وجهى، يوم تفتح الأسفار، وتكشف الأعمال
والأفكار؟!

إن كان خجلى هنا على الأرض يؤلمنى، أمام عدد
محدود، فكم وكم يكون في اليوم الأخير، أمام الخليقة كلها.. ماذا أفعل بهذا الماضى
وسقطاته؟ إن كنت لا أحتمل التعبير على الأرض، فكم يكون العار في اليوم الأخير.
ويظل هذا الخزى يتابعه ويؤلمه، إلى أن يفيض الله عليه بعزائه، ويمحو ماضيه.. وفى
اعترافه بخطئه يستريح

 

والخزى من خطاياه، ليس بسبب عقوبتها، بل بسبب
بشاعتها..

إن العقوبة تسبب خوفا لا خجلا. ويزول هذا الخوف
حينما يدرك الإنسان أن التوبة الصادقة تنجيه من العقوبة.. ولكنه يخزى بسبب احتقاره
لنفسه في سقوطها. وقد يحتمل الإنسان احتقار الناس له..

 

ولكن أقسى ما يؤلم، هو أن يحتقر الإنسان ذاته..

وهكذا يشعر بالخزى، ليس فقط أمام الله والناس،
وليس فقط أمام الملائكة وأرواح القديسين، وانما أيضا يشعر بالخزى أمام نفسه: وهو
وحده لا أحد معه. إن ذلك يعصره عصرا، ويسحقه سحقا. وكل ذلك نافع له روحيا.. نافع
له في اكتساب فضيلة الإتضاع والإنسحاق.

 

وفى عدم الإعتماد على نفسه فى المستقبل بل يعتمد
على الله وحده. ونافع له في الإحتراس من الخطية ومن أسبابها..

 

لذلك إن لم يخجل الإنسان من خطاياه، تخجله
الكنيسة..

وقد حدث هذا بالنسبة إلى خاطئ كورنثوس الذي حكم
عليه بولس الرسول (1كو 5) وعزلته الكنيسة من شركتها لكى يخجل ويحس ببشاعة خطيته.
وقد كان.. حتى كاد يبتلع من الحزن المفرط، وحينئذ عفت عنه الكنيسة (2كو 2: 7، 8)
ولعل في قول الرسول (لا تخالطوا ولا تؤاكلوا مثل هذا) (1كو 5: 11)، وقوله (اعزلوا
الخبيث من بينك) (1كو 5: 13)، ما يحمل معنى روحيا، هو أن يحس هؤلاء ببشاعة سلوكهم،
ويستيقظوا، ويشعروا بالخجل والخزى.. وكل هذا يقودهم إلى التوبة، وبالتالى إلى
المغفرة، والى المصلحة مع الله..

ولعل الإعتراف على الكاهن، وسيلة تساعد على
الخجل المقدس.

الإعتراف له أسباب عقيدية وفوائد كثيرة. ولعل من
ضمن فوائده أن يشعر المعترف بالخجل وهو يعترف. وذلك لان البعض – لقلة حساسيتهم
الروحية –

لا يخجلون أمام الله!

ولكنهم إذ يخجلون أمام الكاهن، يدركون كم الخطية
بشعة، فيتوبون عنها ويتركوها.

قلنا إن من يستيقظ يقظة روحية حقيقية، لابد أن
يشعر بالخزى والخجل بسبب خطاياه السابقة. وهذا الخزى نافع له..

غير أن البعض للأسف يهربون من الخجل والخزى..

وبالتالى نقول انهم لم يستيقظوا بعد يقظة حقيقية..

هذا الذي يخطئ، فيهرب من الإعتراف، ومن الكهنة
والمرشدين الروحيين. أو يهرب من المجال الروحى كله، حتى لا يتبكت قدامه. أو هناك
من يهرب من خجل خطيئته، بدفاع مختلق يحاول به أن يبرر نفسه، فيضيف إلى خطيته خطايا
جديدة بهذا الدفاع أو إنسان يهرب من خزيه أمام نفسه بسبب خطيئته، بأن يغرق نفسه في
المشغوليات أو في المتع، حتى لا يخجلوا إلى نفسه فتحاسبه فيخجل..!

 

يا إخوتى، إستفيدوا من الخجل، فهو صديق مخلص،
صادق وصريح، ويهدف إلى خلاص أنفسكم..

 

إن كان الشعور بالخزى هو من علامات اليقظة
الروحية، فمن علاماتها أيضا الدموع، دموع الندم والحزن.

 

27- دموع الندم والحزن

بطرس الرسول ما كان يشعر بفداحة إنكاره للمسيح،
بدليل أنه كرر هذا الإنكار ثلاث مرات وهو في دوامة الخوف. فلما أيقظه صياح الديك،
وتنبه إلى نفسه، وشعر بعمق خطيته، يقول الإنجيل إنه (خرج إلى خارج، وبكى بكاءا
مرا) (متى 26: 75)

هذا البكاء هو تعبير القلب عما يشعر به من مرارة
وندم بسبب خطيته.. وكما بكى بطرس، بكى داود..

كان داود في داومة الخطية، يتنقل فيها من مجال
إلى مجال آخر، حتى نبهه ناثان وأيقظه.

وفى يقظته تحول حزن قلبه إلى دموع متصلة فقال
(فى كل ليلة أعوِّم سريرى، وبدموعى أبل فراشى) (مز 6) لم يبك داود خوفا من فقد
أبديته، فقد قال ناثان النبى (الرب نقل عنك خطيئتك.. لا تموت) (2 صم 12: 13) ولكنه
بكى ندما وحزنا، لأنه دنس نفسه وأغضب الرب..

 

إن الدموع عنصر ثابت في كل قصص التوبة..

إنها تصاحب كل يقظة روحية.. يبكى بها الإنسان
على أيامه لضائعة، وعلى نقاوته المفقودة، ندما وحزنا، إذ يشعر إلى أية هوة قد
انحدر.. يبكى بينه وبين نفسه أمام الله، ويبكى أمام المرشد الذي أيقظ نفسه، ويبكى
أمام المذبح وصور القديسين، ويبكى كلما تذكر إن القلب الذي لم يختبر البكاء، هو
قلب قاس..

 

كلما تزداد حساسية ورقة القلب، تزداد دموع
التوبة والندم.. ولكن قد تجف الدموع، إن نسى الإنسان خطاياه أو انشغل عنها، أو لم
تعد خطيرة في تقديره.. ولهذا نسمع في بستان الرهبان نصيحة يكررها الآباء كثيرا،
وهى (إذهب إلى قلايتك، وابك على خطاياك).

القديس يعقوب المجاهد، بكى بكاء عجيبا، لما صحا
لنفسه..

قيل إنه صار يبكى، والدموع تنزل من عينيه في لون
الدم، غزيرة كالمطر، حتى أن العشب نبت عند قدميه من الدموع.. وبقى هكذا سبعة عشر
عاما.. في مقبرة أغلق على نفسه فيها بدون عزاء، حتى افتقده الرب أخيرا، وأشعره
بقبول توبته، بمعجزة أجراها على يديه..

ودموع الحزن والندم تصحبها أمور أخرى تناسبها..

من أمثلة ذلك لوم النفس وتبكيتها في شدة، كما
حدث للقديس موسى السائح، الذي ظل يقول:

 

(الويل لك يا نفسى حينما فعلت كذا وكذا.. الويل
لك يا نفسى..) وقد يصحب ذلك سجود الخشوع والتوبة، أو قرع الصدر، أو صرير الأسنان..
وما أكثر ما ورد من قصص في كتاب الدرجى عن ممارسات منسحقة في (دير التوابين)..

 

28- حرب اليأس وحسد الشياطين

قد ينتهز الشيطان حالة الندم المرير الذي يملأ
قلب التائب مع لومه الشديد لنفسه، لكى يوقعه في اليأس، كأن خطاياه بلا غفران..!
وكما قال المرتل (كثيرون يقولون لنفسى: ليس له خلاص بإلهه) (مز 3)

 

وقديما أوقع الشيطان يهوذا في اليأس فشنق نفسه..

 

والمرشد الروحى الحكيم، إذ وجد أن الكآبة قد
عصفت بالخاطئ حتى تكاد تدفعه إلى اليأس، يبدأ بإدخال الرجاء إلى قلبه، بالحديث عن
رحمة الله غير المحدودة وغفرانه الذي يشمل كل خطية ومن أمثلة ذلك قول بولس الرسول
عن خاطئ كورنثوس (تسامحونه بالحرى وتعزونه، لئلا يبتلع مثل هذا من الحزن المفرط
لذلك اطلب أن تمكنوا له المحبة) (2كو 2: 7، 8).

 

والحكمة هنا تقتضى حفظ التوازن بين أمرين:

إنسان غافل عن نفسه، يحتاج إلى من يشعره ببشاعة
الخطية حتى يستيقظ. وإنسان آخر شعر ببشاعة الخطية، وكاد ييأس من خلاصه وهذا لا
نحدثه عن الخطية، وإنما عن مراحم الله، حتى لا يقع في قطع الرجاء ويهلك.

 

على أن الشيطان كما يحاول أن يوقع التائب في
اليأس من المغفرة، يحاول أن يوقعه أيضا في اليأس من التوبة!

 

إنه لا يريد أن يفلت الخاطئ من يده. فإن وجده قد
استيقظ من غفوته وبدأ يمارس أعمال التوبة يحسده على ذلك، ويحاول أن يوقعه في
الكآبة الشديدة التي تقود إلى اليأس. فإن فشل في هذا، يثير عليه حربا شعواء عنيفة
في نفس الخطية التي تاب عنها، حتى يرجعه إليها، ويشعره أن التوبة عن هذه الخطية
أمر مستحيل عمليا، ولابد أن يسقط فيها عمليا مهما ابتعد عنها..!

 

وفى قصة القديسة مريم القبطية مثال لذلك:

فإنها بعد أن تابت، ونذرت نفسها، ودخلت في حياة
الرهبنة والسياحة، حسد الشيطان توبتها، وحاربها بعنف لكى يرجعها.. وهكذا قالت
للقديس زوسيما: (لمدة سبعة عشر عاما، حاربت الشهوات غير المرئية التي للطبيعة
الفاسدة، مثلما أحارب وحوشا حقيقية وكانت مئات الأغانى الخليعة تعبر على ذهنى، بل
وتأتى على شفتى، وحينئذ كنت أقرع صدرى مذكرة نفسى بتوبتى، وبدموع كنت أطلب معونة
الله وشفاعة العذراء.. فكان يحوطنى نور باهر وتهرب التجربة) (ومرات أخرى كثيرة،
كانت تهاجمنى آلاف الذكريات الحسية والأفكار الدنسة وكانت تجعل في قلبى آلاما
شديدة، بل كانت تجرى في عروقى كجمر مشتعل، حينئذ كنت أخر إلى الأرض متضرعة.. إلى
أن يحوطنى النور الإلهى مثل دائرة من نار، لا يستطيع المجرب أن يتعداها) (وكانت
العذراء معينة لى بالحقيقة في حياة التوبة، فكانت طوال هذه المدة تقودنى بيدها
وتصلى لأجلى).

 

29- حرارة روحية تصحب اليقظة

وإذا بكل عواطفه التي كانت متجهة إلى الخطية،
تتحول جميعها إلى الله في قوة، باندفاع يدوس في طريقه كل شئ، محاولا أن يعوض
السنين السابقة التي أكلها الجراد.. إنها حرارة روحية تدخل في الصوم والصلاة
والجهاد الروحى والنسك والخدمة.

وكثيرا ما ينذر الإنسان التائب نفسه للرب

وبهذا تحول كثير من الخطاة التائبين إلى قديسين..

وكمثال لذلك، القديس أوغسطينوس والقديس موسى
الأسود كما نذكر القديسة مريم القبطية التي تحولت إلى سائحة ناسكة والقديسة
بيلاجية التي تحولت إلى متوحدة صانعة عجائب، وغيرها..

هذه النفوس التائبة سارت في توبتها بجدية وتدقيق..

عرفت ضعفها، فعاشت في حرص شديد، وفى جهاد بلا
كلل، وهكذا عملت فيها النعمة، وصعدت بها في السلم الروحى بسرعة بلا عائق..

وكانت هذه اليقظة نقطة تحول ثابتة، وبلا رجعة..

 

30- تعويض ما فات

ومن الأمثلة البارزة في هذا المجال، زكا العشار..

كان ظالما ونهب كثيرين، فلما استيقظ بنداء
المسيح له، قال للرب:

(ها أنا يارب أعطى نصف أموالى للمساكين، وإن كنت
قد وشيت بأحد، أرد أربعة أضعاف) (لو 19: 8)

وهكذا لا يتمسك التائب بشئ من مال الظلم..

ولعل من أمثلة ذلك، ما فعلته القديسة تاييس
التائبة..

ففى وسط المدينة، وأمام جمهور كبير من الناس،
أحرقت كل المال الذي كسبته عن طريق الخطية كالملابس الفاخرة والتحف والهدايا
والأمتعة، وهى تقول:

(تعالوا يا رفاقى أنظروا إننى أحرق أمام أعينكم
كل هداياكم وتذكاراتكم وكل ما جمعته عن طريق الخطية).

 

31- مشاعر أخرى تصحب يقظة الإنسان

إلى جوار الحزن على الخطية، يشعر الإنسان في
اليقظة الروحية بفرح.. فرح بأنه وجد الله وعرفه، وفرح بأنه استطاع أن يتخلص من
الخطية، كفرح الغريق بدخوله في قارب نجاة ويشعر بأنه قد دخل حياة جديدة، بفكر جديد.

كما قال الرسول (تغيروا عن شكلكم، بتجديد
أذهانكم) (رو 12: 2) فينظر إلى الأمور نظرة أخرى وتصبح حياته الجديدة غالية عليه
يحرص عليها.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى