اللاهوت الروحي

الفصل الحادي عشر



الفصل الحادي عشر

الفصل
الحادي عشر

الفتور
الروحي

88-
الحرارة والفتور

الفتور
هو نقص في الحرارة الروحية، والكتاب يطلب منا أن نكون” حارين في الروح”
(رو12: 11).

مقالات ذات صلة

والروح
القدس حل في يوم الخمسين، كألسنة من نار (أع2: 3) ألهبت الرسل القديسين. والله ظهر
لموسي النبي كنار ملتهبة في العليقة (خر3: 2) وقد قيل أيضاً: “إلهنا نار
آكلة” (عب12: 29).

 

فالذي
يحل فيه روح الله، لابد أن يكون حاراً في الروح.

 

تكون
الحرارة في قلبه، وفي حبه وفي صلاته وعبادته وخدمته. حرارة تشمل حياته كلها. وكل
مكان يحل فيه يلتهب بحرارته، يلتهب بالنشاط، وبالغيرة المقدسة التي فيه.

 

الإنسان
الروحي يحب الله والناس. والمحبة شبهت في الكتاب المقدس بالنار وقيل في ذلك: “مياة
كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة” (نش8: 7).

 

لذلك
فالخادم المحب يلتهب ناراً، كما قال بولس الرسول عن خدمته:

 


من يعثر، وأنا لا ألتهب؟” (2كو11: 29). وهذه الحرارة التي في الإنسان الروحي
تسري إلى غيره.

 

والملائكة
القديسون الذين يعملون عمل الرب بكل حرارة ونشاط، وقيل عنهم: “الذي خلق
ملائكته أرواحاً، وخدامة ناراً تلتهب” (مز104: 4).

 

غير
أن كثيرين من أولاد الله الروحيين لا تستمر معهم الحرارة الروحية، فيصيبهم الفتور..
ولا يبقون على محبتهم الأولي، وتكون هناك أسباب بلا شك قد أدت إلى هذا الفتور.

 

إنهم
يؤدون صلواتهم، ولكن ليس بنفس الحب- ولا بنفس العمق، ولا بنفس الروح. وهم يقرأون
الكتاب ولكن بلا تأثر، وكذلك الاجتماعات الروحية والقداسات لم يعد لها نفس التأثير
في قلوبهم كما كانت قبلاً.

 

أصبحت
عبادتهم كأنها جسد بلا روح، لها صورة التقوى، وليس لها قوتها (2تي3: 5). يكلمون
الله دون أن يشعروا بوجوده أمامهم، ولا بوجوده في حياتهم.

 

وما
أشد كراهية الله لهذا الفتور، كما عبر عن ذلك في سفر الرؤيا.

 

إذ
قال لملاك كنيسة لاودكية:

 

“هكذا
لأنك فاتر، ولست بارداً ولا حاراً، أنا مزمع أن أتقياك من فمي” “ليتك
كنت بارداً أو حاراً” (رؤ3: 16، 15).

 

على
أن حالة الفتور هي حالة نسبية بالنسبة إلى مستواها.

 

فما
يعتبر فتوراً بالنسبة إلى القديسين الكبار، قد يعتبر حرارة بالنسبة إلى الأشخاص
العاديين؟

 

إنهم
نزلوا درجة عن مستواهم العالي ولكنهم لا يزالون أعلى بكثير من غيرهم على الرغم من
نزولهم هذا.

 

89-
أنواع من الفتور الروحي

هناك
فتور عادي يحدث لجميع الناس حتي للقديسين، وهناك فتور خطر، يهدد الحياة الروحية
بالسقوط. وهناك فتور نسبي، إذا قورنت حياة روحية لشخص بحياته في فترة أخري، وكل
منهما قوية..

 

الفتور
العادي هو مظهر لطبيعتنا القابلة للميل، التي لا تستقر على الدوام في خط قوي دائم
الارتفاع.

 

أما
الفتور الخطر فهو الذي يستمر مدة طويلة، ويكون بعمق، وبدون توبيخ داخلي. وقد
يعتاده الإنسان فلا يبذل جهداً للقيام منه. وقد يلبس أحياناً ثياب الحملان. كإنسان
تعود على جو الكنيسة، فأصبح باعتياد يدخلها بلا هيبة لها ولا وقار، وبلا خشوع منه
ولا تأثر. وقد ينهي فيها ويأمر، ويرفع صوته ويصيح. وربما يتخذ حجة حفظ النظام لكى
ينتهر ويقسو، أو يقاطع الكاهن أو الشماس في صلاته مصححاً خطأ نحوياً ويبحث في ذلك
عن روحياته فلا يجدها، أو قد لا يبحث ظاناً أنه يفعل شيئاً حسناً.

 

وهنا
يكون قد تحول من الفتور إلى الخطية.. دون أن يشعر. أو قد يشعر ويحاول تبرير ذاته.

 

يكون
في حالة الفتور قد فقد وداعته، أو فقد اتضاعه، أو فقد احترامه للمكان، واحترامه
للآخرين..

 

90-
مظاهر خطيرة للفتور الروحي

الفتور
هو عملية هبوط. كيف؟

الفتور
هو هبوط من الحب إلى الروتين. أو هبوط من الروح إلى العقلانية. أو هبوط من فضائل
الروح إلى فضائل الجسد. أو هو هبوط من الانشغال بالله إلى الانشغال بالناس.

 

أو
الفتور هو توقف في الحركة.. أو هو تعامل مع الله من الخارج، وليس من الداخل. أو هو
الاهتمام بالفضائل من حيث مقياس الطول، وليس مقياس العمق..

 

وكل
بند من هذه الأمور له حديث طويل سنحاول هنا أن نوجزه ونشرح ليس فقط مظاهر الفتور،
وإنما أيضاً أسبابه.. الانتقال من الحب إلى الروتين.

 

91-
من الحب إلى الروتين

المفروض
في الحياة الروحية أن تكون حباً لله، يتخلل كل فضيلة من الفضائل.

فأنت
تصلي لأنك تحب الله، وتقول: “اشتاقت نفسي إليك يا الله كما تشتاق الأرض
العطشانة إلى الماء” (مز63)،” محبوب هو اسمك يارب فهو طول النهار
تلاوتي” (مز119).

 

أما
في حالة الفتور، فقد تتحول الصلاة إلى واجب، إلى فرض، تؤديه لكي لا يتعبك ضميرك،
ويتهمك بالتقصير.

 

وقد
تصلي بغير رغبة، وبغير عاطفة وبغير حرارة، وربما أيضاً بغير فهم. وتفقد عناصر
الصلاة الروحية، فلا تكون صلاة بانسحاق وبخشوع، ولا تكون الصلاة بإيمان ولا بتأمل،
ولا بحب، وإنما أنت تصلي وكفي. وقد تحولت الصلاة إلى روتين.

 

وما
يقال عن الصلاة في حالة الفتور قد يقال أيضاً عن باقي الوسائط الروحية.

 

فتصبح
قراءتك للكتاب روتينية أيضاً تقرأ بغير فهم، ولا تأمل، وبغير تطبيق على حياتك
وبغير تداريب، وبغير لذة في كلام الله، كما قال داود النبي:

 


فحت بكلامك كمن وجد غنائم كثيرة” (مز119) وإنما تقرأ كروتين وواجب..

 

لعلك
بدأت حياتك الروحية بالحب الإلهي، ولكنك لم تستمر. فلماذا؟

 

ربما
أوصلك إلى هذا الفتور، اهتمامك بالكمية، وليس بالنوعية، فتحولت إلى شكلية العبادة.

 

تريد
أن تصلي عدداً من المزامير، وعدداً من الصلوات، وتريد أن تقرأ عدداً معيناً من
الإصحاحات، وتضرب عدداً محدداً من المطانيات.

 

وفي
ذلك لا يهمك: كيف؟

 

لم
تعد تهمك الروح، وإنما العدد. فإن وصلت إلى هذا العدد، تصبح للأسف راضياً عن نفسك،
ولا يهمك مدي رضي الله عن أسلوبك هذا.

 

وعلى
رأي مارإسحق، حينما تعرض لموضوع كهذا، تصبح بأنك ينبغي أن تقول لنفسك، أنا ما وقفت
أمام الله لكي أعد ألفاظاً..

 

ومعلمنا
بولس الرسول فضل خمس كلمات بفهم على عشرة آلاف بلسان (1كو14: 19). وربما، لكي تكمل
واجبك هذا في صلاتك عنصر السرعة، ومع السرعة عدم الفهم وعدم التأمل.

 

وهكذا
يكون هدفك أن تنتهي من أداء هذه الفريضة!! التي يسميها الرهبان قانوناً- ولا يكون
هدفك هو المتعة بالحديث مع الله في حب.

 

وانحراف
الهدف عن مساره الروحي يوصلك حتماً إلى الفتور لأنه يبعدك عن روحانية الصلاة التي
تسبب حرارتها.

 

كثيرون
في بدء استلامهم للألحان، كانوا لا يحفظونها، وكذلك الابصلمودية فكانوا يصلونهم
ببطء، وبالتالي، بتأمل وبروح وبالمران لما وصلوا إلى مرحلة الحفظ، ازدادت سرعتهم
تباعاً، حتى أصبحوا يرتلون التسبحة في سرعة ربما لا تنضج فيها الألفاظ تماماً.

 

ومع
السرعة والحفظ، قل الفهم، وقلت المشاعر، وقل التأمل، وأصبحت الألحان مجرد موسيقي
تخلو من روح الصلاة.

 

إذا
حوربت بشئ من كل هذا، أو بكل هذا معاً، قل لنفسك: أنا أريد أن أصلي. أريد أن أكلم
الله من قلبي، ولو بكلمات قليلة، مثلما كلمة العشار بجملة واحدة، ومثلما خاطبة
اللص على الصليب بعبارة واحدة.

 

لذلك
ربما يكون من أسباب فتورك اكتفاؤك بالصلوات المحفوظة، تتلوها ولا تصليها.. دون أن
تضيف إليها صلوات خاصة تقولها من قلبك، ومن عاطفتك.

 

ما
أعمق صلوات المزامير وباقي الصلوات المحفوظة. ليتك تصليها بفهم ومن قلبك.. إنها
كنوز روحية، ولكن بالإضافة إليها، تحتاج أن تصلي صلواتك الخاصة بألفاظ من عندك
تعبر عمل في قلبك، تخاطب بها الله في صراحة كاملة وفي حب، كأنك واقف أمامه تراه.

 

ادخل
في تداريب هذه الصلوات الخاصة، كلما حوربت بالفتور، وايضاً في فترات حرارتك
الروحية، وتأمل نتيجتها في حياتك.

 

اخرج
إذن من عبودية الكمية والسرعة والروتين والقانون، وحاول أن تصلي بروح، وبفهم،
وعاطفة. وكذلك أفعل في كل وسائطك الروحية. ولكن احذر من أن تهبك إلى أسفل.

 

إن
كنت في فتور، صل عدداً أقل ولكن بعمق أكثر، ثم حاول أن تصل إلى نفس الكمية بنفس
العمق..

 

وإلا
فأثبت عند العدد القليل، فالعمق أهم، أنه يعالج فتورك..

 

والفتور
لا يقتصر مطلقاً على موضوع الصلاة والقراءة والتأمل، وباقي الوسائط الروحية، إنما
قد يوجد فتور أيضاً في مشاعر القلب الداخلية، وفي ثمار الروح المتنوعة، وفي الحياة
الروحية بوجه عام.. فربما الغيرة المقدسة في الخدمة ليست كما كانت في حرارتها
السابقة. وربما الاشتياق إلى التكريس قد قل وفتر. أو الحرارة في محاسبة النفس وفي
حياة التوبة قد فقدت قوتها.. إلخ.

 

وفي
موضوع الفتور، ربما نجد مظاهره وأسبابه قد تشابهت..

 

فالانشغال
عن الله مثلاً: قد يكون مظهراً الفتور، وقد يكون أيضاً سبباً للفتور.. وسياسة
الاكتفاء وعدم النمو: قد تكون أيضاً من أسباب الفتور، كما أنها مظهر من مظاهره.
وقد تحدثنا في هذا الفصل عن الانتقال من الحب إلى الروتين كمظهر من مظاهر الفتور.
ويمكن أن نعتبر هذا الانتقال إلى الحياة الروتينية من أسباب الفتور أيضاً. لذلك
سنتابع باقي الحديث عن الفتور تحت عنوان أسبابه ونتائجه.

ننتقل
إلى سبب آخر من أسباب الفتور وهو المشغولية.

 

92-
الانشغال عن الله

من
أخطر أسباب الفتور أن ينشغل الإنسان إنشغالاً لا يجد فيه وقتاً لله أو وقتاً
لروحياته..

ولا
يصبح العمق لله، بل للمشغوليات ولا تكون لله الأولوية، بل يوضع في آخر القائمة..
وهذا تضيع الوسائط الروحية التي تبعث الحرارة في القلب فيفتر.

 

والمشغوليات
على أنواع: بعضها عالمية، وبعضها في نطاق الخدمة الدينية..

 

قد
ينشغل الإنسان بمسائل عائلية، أو بدراسة، أو بأي نشاط من الأنشطة أو ينشغل بتسلية
أو بهواية، أو بعمل.. بحيث لا يجد وقتاً لروحياته الخاصة..

 

ولمثل
هذا نقدم نصيحتين:

 

1-
تحتاج إلى تنظيم وقتك..

 

2-
ماذا ينفع الإنسان، لو ربح العالم كله وخسر نفسه (مت16: 26).

 

ولكي
تنظم وقتك، بحيث تترك فيه جزءاً لروحياتك، لابد أن تشعر بقيمة الوسائط الروحية في حياتك،
وبقيمة أبديتك، فإن وصلت إلى هذا التقييم ستصل وبالتالي إلى الاهتمام، ثم تخصص
وقتاً لروحياتك مهما كانت مشاغلك.

 

واحترس
من المشغوليات الخاصة بالخدمة والكنيسة، لأنها احياناً تعطلك عن روحياتك بأسلوب
يرضى عنه ضميرك..

 

اعرف
تماماً أنه إن ضعفت روحياتك ضعفت بالتالي خدمتك، ولا يكون لها ثمر لأن الخدمة ليست
مجرد نشاط إنما هي روح تنتقل من شخص لآخر.. وهي حياة يمتصها المخدوم من الخادم.

 

واعرف
أن الخدمة ليست عذراً يبرر منعك عن التمتع بالله وعشرته.. كما أن الله لا يطالبك
بخدمة تبعدك عن الصلاة والتأمل، والحياة السرية معه..

 

أنت
تحتاج إذن إلى أن تنظم خدمتك..

 

وتذكر
قصة الابن الكبير الذي قال لأبيه: “ها أنا أخدمك سنين هذه عددها.. وجدياً لم
تعطني قط، لأفرح مع أصدقائي” (لو15: 29). ومع خدمته هذه الطويلة، كانت مشيئته
ضد مشيئة الآب، وكانت روحياته ضعيفة، في حديثه مع أبيه، وفي حديثه عن أخيه، وفي
عدم مشاركته لأبيه في فرحة بعودة هذا الأخ.

 

فلا
تكن مثل هذا الابن الكبير، الذي خدم خدمة عطلته عن التمتع بأبيه، وعن الاهتمام
بنفسه وروحياته..

 

وحاول
أن تقبل من المشغوليات ما هو في حدود طاقتك.

 

ومن
أجل روحياتك، تنزل عن بعض المشغوليات، وما أكثر المشغوليات التى يسهل التنازل عنها،
مثل بعض المسليات، وبعض المقابلات، وكثير من الأحاديث..

 

وعلى
الأقل تستطيع أن ترفع قلبك إلى الله، بين الحين والحين أثناء مشغولياتك حتى إن
أخذت كل وقتك، لا تأخذ كل قلبك.. ولا تجعلها تأخذ كل وقتك، لأنك لا تملك هذا الوقت
كله لتبعثره.. أين ملكية الله؟

 

ولا
أريد أن أحدثك عن ملكية الله لكل حياتك.. وإنما على الأقل في وسط مشغولياتك
العديدة، ليتك تتذكر أمرين هامين من جهة نصيب الله في وقتك.

 

1-
اذكر يوم الرب لتقدسه..

 

2-
اذكر وصية البكور في وقتك.

 

اعرف
انك إن كنت أميناً في تنفيذ وصيه يوم الرب، فلابد ستأخذ منها رصيداً روحياً يمنع
عنك الفتور الأسبوع التالي..

 

ولو
كنت أميناً في وصيه البكور، واعطيت الله بكور يومك، فإن الحرارة الروحية التي
تأخذها من هذا، ستبقي معك طول يومك، وستدفعك إلى تخصيص أوقات أخري لروحياتك..

 

3-
ملاحظة أخري أقولها لك:

 

إنك
إن انشغلت طول يومك في عمق بأمور العالم، فإن هذه الأمور ستملك داخلك، وتسيطر على
قلبك وفكرك بحيث إذا وقفت بعدها للصلاة، تجد عقلك يسرح فيها، وتكون صلاتك فاترة.

 

وهكذا
حينما نتكلم عن المشغولية، كسب من أسباب الفتور، لا نقصد فقط مشغولية الوقت، وإنما
مشغولية القلب والفكر أيضاً.. وهي مشغولية أكثر خطراً، لأنها تدخل إلى داخل
الإنسان..

 

4-
لذلك وضعت لنا الكنيسة المقدسة نظام الصلوات السبع، حتى تقطع مشغوليات اليوم بصلة
مع الله..

 

ووضعت
هذه الصلوات، بحيث لا تمر ثلاث ساعات، دون أن يرفع الإنسان قلبه إلى الله، ويتحدث
معه بعيداً عن مشغوليات العالم واهتماماته وهكذا يحتفظ بحرارته الروحية.

 

لهذا
إن كنت أميناً في صلوات النهار، لن تفتر، لأن ذكر الله لم ينقطع من ذهنك طول اليوم.

 

لاشك
أنه من اسباب الفتور، الغربة عن الله فترة طويلة، كما يحدث للبعض الذين يصلون صلاة
باكر وصلاة النوم، ولا صلاة يصلونها فيما بينهما فيما بينهما، في أدق ساعات النهار
وأكثرها مشغولية، وأكثرها محاربات وعثرات.

 

أتريد
أن تبعد عن الفتور، ارفع بين الحين والحين إلى اله، ولو بجملة واحدة، أو صلاة
قصيرة لا تستغرق دقيقة واحدة، أو عدة ثوان.

 

93-
البُعد عن التوبة

إثنان
لهما حرارة في الروح.

أحدهما
قريب العهد بالتوبة، متضع ومنسحق القلب، ودموعه قريبه من عينيه ويريد أن يعوض
السنوات السابقة التي أكلها الجراد.. لذلك فهو يجاهد بكل حرارة لكي يصل.

 

والثاني
هو إنسان وصل إلى الحب الإلهي:

 

والحب
في قلبه نار تلتهب، تملأ قلبه بالحرارة الروحية، سواء في صلوات أو في خدمته، أو أي
عمل روحي يعمله.

 

أما
الذي هو في وضع متوسط، فإنه يكون في فتور.

 

إنه
يشبه الشعب الإسرائيلي في البرية، لا هو خارج من أرض العبودية يطلب من الله الخلاص
ويري عجائب الله معه.. ولا هو وصل إلى كنعان في أرض تفيض لبناً وعسلاً، ولا هو
يتغذى بالمن والسلوى هكذا الذي في المرحلة المتوسطة:

 

لا
هو في حرارة التوبة. ولا هو في حرارة الحب.

 

ليست
له حرارة العشار الواقف من بعيد، ولا يجرؤ أن يرفع نظره إلى السماء وليست له حرارة
يوحنا الرسول الذي يتكئ على صدر المسيح في دالة وفي حب.

 

إنما
في مرحلة متوسطة، فاترة.

 

يشتاق
إلى الأيام التي كان فيها يبكي على خطاياه، فلا يجدها.. لقد غطت عليه شكلية من
عبادة لا روح فيه ولا عمق..

 

إنه
الآن يصلي ويصوم، ويقرأ الكتاب، ويحضر الاجتماعات الروحية ويعترف ويتناول، وربما
يخدم أيضاً. وفي كل هذا لا يجد سبباً لانسحاق القلب..

 

وقد
مرت فترة بعيداً عن السقوط فقد معها تبكيت الضمير من الداخل، وفقد الشعور بعدم
الاستحقاق، وفقد دموع التوبة وحرارتها، وفي نفس الوقت يمارس كل الوسائط الروحية
بلا عمق وبلا حب. فلا هو في سماء ولا هو في أرض.. إنه في فتور..

 

على
مثل هذا الإنسان أن بأمثلة عالية في الروح، سواء بالخلطة أو القراءة، تشعره بأنه
لا شئ، فتعود إليه مشاعر التوبة والانسحاق وبالتالي حرارة التوبة.

 

أو
يمكنه أن يدخل في تداريب روحية: إما أن تقويه وترجع إليه حرارة الروح، أو أنها
تشعره بضعفه وعجزه عن الوصول إلى عمق التدريب، فيدخل مرة أخري في حياة التوبة،
ولكن بمستوي آخر.

 

أو
يحاول أن يتدرب على روحانية الصلاة وروحانية الصوم، وروحانية كل الوسائط الروحية
الأخري.

 

يخرج
من نطاق شكلياته، ويدخل في عمق الصلة مع الله، ويصارح نفسه أن صلاته ليست صلاة،
وصومه ليس صوماً، وراءته ليست قراءة وعليه أن يتعلم من جديد كيف يصلي ويصوم ويقرأ..

 

وهكذا
يبدأ من جديد توبه حقيقية، شاعراً أن عبادته الحالية تحتاج إلى توبة.. وهذا البدء
من جديد بطريقة سليمة يوصله إلى الحرارة.

 

وربما
تكون توبته على أساس غير سليم، أو غير قوي، تسبب في فتوره، فعليه أن يصلح أساس
توبته لكي يحيا في حرارة روحية حقيقية..

 

زوال
التأثر الوقتي المسبب للتوبة، صار سبباً للفتور.. فيجيب أن يبني علاقته بالله على
أساس مستقيم من حب الخير وحب الله.. والاقتناع بالحياة الروحية، وبهذا يبعد عن
الفتور.

 

الدافع
الأول كان مجرد مرحلة وانتهت ولكن لا يصح أن يحيا التائب في مستواه، بل يصحح
دوافعه الروحية لكي تستمر حرارته.

 

هناك
سبب آخر للفتور هو: الاكتفاء وعدم النمو.

 

94-
الاكتفاء وعدم النمو

طالما
الإنسان الروحي يمتد إلى قدام فإنه يحتفظ بحرارته الروحية، لأن الحركة فيها حرارة،
أما إذا وصل إلى مستوي معين ووقف عنده، فإنه يصاب بالتحجر أو بالفتور. وكثير من
الناس يقعون في هذه المشكلة، كانو قبل التوبة بعيدين عن الصلاة، فبدأوا يذوقون
حلاوة الصلاة، ووجدوا في ذلك لذة ملأت قلوبهم بالحرارة الروحية.

 

ثم
وصلوا إلى ضوع معين في الصلاة، ووقفوا عنده.. وبالوقت أصبحوا يكررونه في غير وعي،
وبهذا الجمود فتروا.

 

ونفس
الأسلوب اتبعوه في باقي الوسائط الروحية، من صوم وقراءة وخدمة..

 

إنهم
يذكروننا بالسيارة، التي كلما تتحرك، تحتفظ بحرارتها، فإن وقفت بردت. وإن طال
وقوفها، تضعف بطاريتها، وتحتاج إلى شحن من جديد.

 

وخذ
مثالاً من القديس بولس الرسول الذي على الرغم من أنه صعد إلى السماء الثالثة
(2كو12: 2). كان يقول:

 


أنسي ما هو وراء، وأمتد إلى ما هو قدام.. أسعي نحو الغرض.. أسعي لعلي أدرك..”
(في3: 12- 14).

 

فإن
كان الرسول العظيم يسعي، ويمتد إلى قدام، فماذا تقول أنت عن نفسك؟

 

إن
امتدادك إلى قدام، يجعلك باستمرار غير راض على الوقوف عند أي مستوي تصل إليه،
وبالتالي تتحرك.. وبهذا لا تفتر.

 

إن
الوقوف له أخطاره. إذ ليس فقط يقود إلى الفتور، بل قد يتدرج من الفتور إلى السقوط.

 

لأن
الذي يقف، ليس هو فقط لا يمتد إلى قدام، بل هو أيضاً عرضه للرجوع إلى الوراء..!

 

إن
الحياة الروحية، هي حياة دائمة الحركة، دائمة الحرارة، دائمة النمو تسعي حتى تصل
إلى ملء القامة.

 

لا
يكتفي المؤمن بأن يحيا بالروح وحسب الروح، إنما يسعي ليتمم قول الرسول: “امتلئوا
بالروح” (أف5: 18).

 

وفي
هذا الامتلاء لا يفتر.

 

ولكن
في هذا النمو، وفي هذا الامتلاء، احترس من سبب آخر من اسباب الفتور وهو: خطورة
المتكآت الأولي.

 

95-
خطورة المتكآت الأولى

الإنسان
في بدء حياته الروحية يعيش في حياة الاتضاع والانسحاق. ويعيش النعمة قريبة منه،
لأنه” قريب هو الرب من المنسحقين بقلوبهم”.

 

وهكذا
بالاتضاع وبالانسحاق والنعمة يعيش في حرارة روحية.

 

ولكن
يحدث كلما ينمو أن تعهد إليه بمسئوليات، ويبدأ أن يجلس في المتكآت الأولي.

 

وليست
الخطورة في المتكآت الأولي ذاتها، وإنما في ارتفاع القلب بها، والبعد عن حياة
الحرص والتدقيق والاتضاع، وبهذا تفتر الحياة الروحية.

 

في
بادئ توبته، كان يدخل إلى الكنيسة، وهو يقول: نشاز أنا يارب في هذا اللحن الجميل.
وغريب أنا في وسط جماعة القديسين. وغير مستحق أن أكون في هذا الموضع المقدس.. بل
أنا” بكثرة رحمتك أدخل إلى بيتك”..

 

أما
الآن، فإنه يدخل إلى الكنيسة لكي يعلم، أو لكي ينظم، أو لكي يدبر!

 

يدخل
كأحد القادة، وقد نسي الشعور بعدم الاستحقاق.. ربما في غير خشوع وفي غير ركوع، وفي
غير دموع.. كما كان قبلاً!

 

ربما
يدخل إلى الكنيسة لكي يأمر هذا أو ذاك، أو لكي ينتهر هذا أو ذاك أو ليناقش نظاماً
معيناً، أو ليدبر عملاً ما. أو ليقوم بخدمة أو بنشاط من أنشطة العديدة. ومن الجائز
في هذا كله، أن ينسي أن هذا هو بيت الله.

 

وطبعاً
قد اختفيت تماماً عبارته السابقة.. أنا نشاز في لحن جميل..

 

ومن
الجائز هنا أن تكون- الكلفة- قد رفعت بين هذا (التائب) وبين بيت الله! وتكون
الكنيسة قد فقدت هيبتها في نظره، ويصبح وهو داخل الكنيسة يتحدث مع هذا وذاك، ويحك
مع أصدقائه، ويرتفع صوته وهو ينادي على من يريده في غير خشية.

 

وقد
يتطور الأمر، فيفقد الخشية بالنسبة إلى الصلوات والأسرار.

 

فالصلوات
بالنسبة إليه تصبح ألحاناً يتقن موسيقاها، وألفاظاً يعرفها، ويعرف أعماق معناها،
وليست حديثاً موجهاً إلى الله.

 

أيوجد
فتور أكثر من هذا؟

 

والعجيب
أنه قد يغطي على كل هذا الفتور، بأنه ارتفع إلى مستوي المحبة التي تطرح الخوف إلى
خارج (1يو4: 18)!!

 

وإذ
يفقد الخشوع والاتضاع، وإذ ينسي حياة الانسحاق، يحيا في فتور.

 

احترس
يا أخي من أن تعتبر نفسك عموداً من أعمدة الكنيسة، شاعراً بأهميتك، وشاعراً بأنك
إذا غبت ستترك فراغاً لا يمكن ملؤه..

 

واحترس
من أنك إذا اختلفت يوماً مع المسئولين عن الخدمة، تهددهم بأنك ستترك الخدمة، ظاناً
أن تركك للخدمة لابد سيزعزع أساسات الكنيسة.. اعلم أن وراء كل هذا شعوراً بأهمية
الذات، تكمن وراءه كبرياء خفية هي سبب فتورك..

 

من
أجل هذا لا مانع لدي الرب أن يبعدك بعض الوقت عن الخدمة، ليريك أن الكنيسة مازالت
هي الكنيسة من غيرك، ولكي يتضع قلبك، ويعود إليك انسحاقك، فتعود إليك أيضاً حرارتك
الروحية..

 

إن
إيليا النبي العظيم، بعد انتصاره في جبل الكرمل، وبعد تخليصه الجو الروحي من كل
أنبياء البعل وأنبياء السواري، وبعد ان انفتحت السماء بصلواته مرة أخري، قال له
الرب تلك العبارة المؤثرة:

 


واذهب راجعاً.. وامسح اليشع بن شافاط نبياً عوضاً عنك” (1مل19: 15، 16).

 

وأخذ
اليشع اثنين من روح إيليا، وعمل معجزات أكثر منه، وبقيت الأرض بعد ارتفاع إيليا
إلى السماء، ولم يكن هذا انتقاصاً من قدر هذا النبي العظيم، الذي مجده الله يرفعه
إلى السماء وبوقوفه على جبل التجلي..

 

إنما
في جبعه الله سهام كثيرة.. وهو” قادر أن يقيم من الحجارة أولاداً
لإبراهيم” (مت3: 9)..

 

لذلك
إن أستأمنك الله على خدمة، قل له: من أنا يارب حتى تجعلني من عداد خدامك، وأنا
ثقيل الفم واللسان (خر4: 10). وقد أكون عثرة للخدمة، أو مقصراً في كل مسئولياتها
وعندك ولا شك خدام كثيرون أفضل مني.. إنه تشجيع منك لي أن تستخدمني في كرامك، على
غير استحقاق منى.

بهذه
الروح المتضعة ينبغي أن تسلك في المتكآت الأولي، حتى لا تفتر، وإن أتاك مديح من
الناس، تذكر خطاياك وضعفاتك..

 

واحذر
من أن تقبل المديح، أو أن تجعله يدخل إلى نفسك، لئلا تفارقك النعمة وتبرد حرارتك.
بل ارجع المجد كله الله.. وقل كما قال القديس بولس المتواضع:

 


ولكن لا أنا، بل نعمة الله التي معي” (1كو15: 10).

 

وإذا
دخلت إلى المتكآت الأولي كمعلم ضع أمامك قاعدة هامة وهي:

 

احترس
من أن تتحول من عابد إلى عالم..

 

احترس
من أن يجرفك الفكر، وتجرفك الكتب، وتصبح باحثاً عن مجرد المعرفة أو أن تتحول إلى
مصدر من مصادر المعلومات.

 

وفي
ميدان الفكر تنسي الروح..!!

 

تستهويك
الكتب والقراءة، وتلهيك عن نفسك وعن أبديتك..

 

واحترس
من أن يستهويك الجدل، فتنشغل به، وفي سبيله تقع في خصومات لا تحصي، وتفقد محبتك
للآخرين، وتحب أن تنتصر في النقاش وتهزم غيرك..

 

أو
أنك في جدلك تتعالي على الآخرين، أو تجرحهم وتهينهم وتنقص من قدرهم أو أن تثق
بنفسك في كل ما تقول، وتعتد برأيك، ولا تريد أن تتنازل عن شئ..

 

واحترس
من أنك في جدالك لا تقبل أن يعارضك أحد، ولا تقبل أن يناقشك أحد، ولا تكلم أحداً
من فوق.

 

كل
هذه الأساليب في الجدل، حتى إن كانت من أجل العقيدة، تصيبك بالفتور الروحي، وقد
تكسب الجدل عقلياً، وتخسر نفسك روحياً.. وربما تخسر الاثنين..

 

كثيرون
أصبحوا خزانة معلومات، بينما أرواحهم بقيت فارغة..

 

قليل
من العلم، مع اهتمام بالتطبيق أهم بكثير، من علم أوسع بلا تطبيق. قد تهتم بقراءة
عدد من الإصحاحات كل يوم، بدون عمق في الفهم، وبدون تأمل وبدون تطبيق، وبدون
تداريب، وبدون صلاة، فلا تستفيد روحياً.

 

وتظل
حياتك فاترة على الرغم من القراءات الكثيرة.

 

ليس
المهم هو مقدار ما نقرأ، وإنما روحانية القراءة وعمقها..

 

لا
تضع نفسك في المتكآت الأولي، ولا تسع إلى ذلك، سواء كان ذلك في المستوي الإداري أو
العلمي أو القيادي. وكن صغيراً في عيني نفسك ولا تدع المعرفة بكل شئ، ولا مانع في
بعض الأمور أن تقول لا أعرف..

 

96-
دخول الآخرين إلى حياتك قد يسبب الفتور الروحي

من
الأسباب الأخري للفتور: دخول الآخرين إلى حياتك

من
الخطورة أن يتحول هدفك في حياتك الروحية من الله إلى الناس.

كنت
في الأول تحيا روحياً من أجل أبديتك، ومن أجل محبتك لله، ولكن يحدث بعد أن تتقدم
في الروحيات، أن يدخل الآخرون في حياتك، ويسلكوا جزءاً من أهدافك..

 

ربما
يصبح أهم أهدافك من السلوك الروحي هو القدوة أو البعد عن العثرة.

 

فليس
من أجل حب الخير، أو حب الله، تفعل الخير.. وإنما تفعله حتى تكون قدوة لناس.. حتى
تقدم لهم مثالاً عملياً في الحياة الروحية، كنور للسالكين في الظلمة.. وبنفس الوضع
تبعد عن الخطأ حتى لا تعثرهم، وليس كراهية للخطية، التي ربما تتساهل معها في
الخفاء، مادامت لا تعثر أحداً.

 

وهكذا
يكون دافعك الروحي من الخارج وليس من الداخل، فتفتر. وقد تتحول إلى إنسانين..
أحدهما محترس لأجل الناس.. والأخر متهاون خارج نطاق رؤيتهم.

 

وفي
كل ما تقول وما تفعل، قد يهمك جداً تعليق الناس، وأحكامهم.. وتتطور إلى أن تفعل ما
يرضي للناس، وشيئاً فشيئاً قد يصبح الناس هم هدفك ويضيع هدفك الروحي، فتفتر حياتك.

 

قد
تصلي في اجتماع، ويهمك رأي الناس في صلاتك، وتصبح صلاتك لأجل الناس وليس لأجل الله.

 

وقد
تعجبك الصلاة بدموع، وليس من أجل الله، ولكن لكي يمدح الناس روحانية صلاتك، أو لكي
ترضي أنت عن نفسك. وفي كل هذا يكون الله قد اختفي من حياتك..

 

والناس
لهم آراء متنوعة.. وقد صدقت الأم سارة الراهبة حينما قالت:

 

[لو
اني أرضيت الكل، لوجدت نفسي تائهة على باب كل أحد].

 

ما
اسهل أن يحسب الناس التدقيق تطرفاً، فهل نترك التدقيق لكي نرضي الناس؟

 

وقد
تفتر حياتك أيضاً بسبب مجاملاتك الكثيرة للناس.

 

من
أجلهم تضيع الكثير من وقتك في ما لا يفيد.. ومن أجلهم قد تدخل في أحاديث ومناقشات
تتعب نفسك، ومن أجلهم قد تتعطل صلواتك وتأملاتك. ما أعمق قول بولس الرسول: “أم
أطلب أن أرضي الناس؟ فلو كنت بعد أرضي الناس، لم أكن عبداً للمسيح” (غل1: 10)..

 

لذلك
اجعل علاقة الناس بك في حدود روحية حتى لا تفتر روحياتك.

 

97-
البُعد عن الوسائط الروحية وعن صلوات الساعات

يندر
أن يفتر إنسان في روحياته، إلا ويكون من أسباب فتوره تقصيره في ممارسة الوسائط
الروحية، وإهماله صلوات الساعات..

 

ذلك
لأن الوسائط تذكر الإنسان بالله، وتشوقه إلى العمل الروحي، وتقوي قلبه في الداخل.
فإن أهملها يضعف روحياً ويفتر..

 

ونعني
بالوسائط الروحية: الصلاة والقراءة والتأمل، والصوم، والاعتراف والتناول،
والاجتماعات الروحية، والمواظبة على الكنيسة، والخدمة.

 

والمفروض
أن تكون ممارستها بطريقة روحية.

 

ولعل
سائلاً يسأل: ولكنني أمارس كل هذه الوسائط، ومع ذلك أحيا في فتور. فما السبب، وما
العلاج؟

 

والإجابة
على هذا السؤال هي:

 

1-
إما أن تكون الممارسة بطريقة روتينية خاطئة. وفي هذه الحالة تحتاج إلى أن تؤدي
بفهم وعاطفة وتركيز وبروح.

 

2-
وإما أن تكون هناك حرب خارجية، وينفع هنا الصبر، إلى أن يرفع الله هذه الحرب، أو
يساعد في الانتصار عليها. مع الثبات في العمل الروحي.

 

3-
والفتور في الوسائط الروحية لا يعني التوقف عنها أو إلغاءها. وإلا يكون الإنسان قد
هبط بالأكثر إلى أسفل، بدلاً من إصلاح حالته..

 

ونذكر
من أهم هذه الوسائط: صلوات الساعات (صلوات الأجبية) فلا شك أن المصلي بها، لابد
ستنخس ضميره بعض عبارات لكي توقظه.. فإن لم يتأثر بها الآن، لابد سيتأثر بها بعد
حين.

 

فصلاة
النوم مثلاً تذكره بالموت والدينونة والأبدية، وكذلك صلاة نصف الليل، تدعوه إلى
اليقظة والتوبة.

 

وصلاة
الغروب تذكره بخطاياه وتكاسله، وتدعوه إلى التوبة وطلب المغفرة.

 

وصلاة
باكر تذكره بأن يسلك روحياً طوال النهار، وأن يبدأ بدءاً حسناً..

 

وهكذا
باقي الصلوات، كل منها لها تأثيرها الروحي. وإن التفت المصلي إلى معانيها لابد أن
يستيقظ ضميره.

 

وإن
لم يحدث هذا التأثير، فلابد بمداومة الصلاة بها يحدث التأثير بعد وقت، يقول خلاله
المصلي: “انتظرت نفسي الرب.. من محرس الصبح إلى الليل” (مز13).

 

98-
الظن بأن الروحيات هي مجرد ممارسات

وهناك
من الناحية المقابلة سبب آخر للفتور ينبغي الالتفات إليه، وهو: الظن بأن الروحيات
هي مجرد ممارسات!

 

البعض
يظنون أن الحياة الروحية هي مجرد صلاة وصوم، واعتراف وتناول، واجتماعات وخدمة،
وجدول روحي لهذا الوسائط يحاولون أن يملأوه لكي تستريح ضمائرهم. وفي كل هذا يقعون
في الفتور. فلماذا؟

 

ذلك
لأنهم اقتصروا على هذه الممارسات، ونسوا نقاوة القلب من الداخل، التي هي الأساس
الذي يعتمد عليه العمل الروحي. وبدون هذا الأساس يفتر الإنسان.

 

إن
مجرد الممارسات الروحية، بدون ثمار الروح في الداخل، قد تحول المكتفي بها إلى
فريسية واضحة..

 

تحوله
إلى قبور مبيضة من الخارج، كما كان يفعل الفريسيون يدققون في الممارسات الخارجية،
وقلوبهم خالية، وقلوبهم خالية من المشاعر الروحية الحقيقية.

 

اهتم
إذن بالعمل الداخلي، بالفضائل الرئيسية كالمحبة والإيمان والتواضع والوداعة
والنقاوة والطهارة.. وحينئذ ستجد صلاتك لهيب نار، لأنها نابعة من قلب نقي مملوء من
محبة الله ومحبة الفضيلة..

 

ذلك
لأنه- للأسف الشديد- قد يوجد من يصلي، وبينه وبين غيره خصام شديد أو يصلي ويقرأ
ويعظ ويعلم، وفي داخله غضب ونرفزة وكبرياء.. وما إلى ذلك.. فكيف تكون له حرارة في
الصلاة، بينما قلبه بعيد عن الروحيات، بل كيف تكون له صلة بالله في صلاته، وقلبه
بعيد عن الله بالغيظ والحقد والخصام؟!

 

إذا
أردت إذن أن تتخلص من الفتور احرص على أن يكون عملك الروحي مرتكزاً على ثمار الروح
من الداخل (غل5: 22).

 

وتذكر
في كل ممارساتك الروحية، قول الرب الصريح: “يا ابني اعطني قلبك” (أم23: 26)
وتوبيخه لليهود في سفر إشعياء النبي “حين تبسطون أيديكم، استر وجهي عنكم. وإن
أكثرتم الصلاة، لا اسمع. أيديكم ملآنة دماً” (إش1: 15)..

 

وهذا
ينقلنا إلى نقطة أخري من أسباب الفتور، وهي: وجود خطية أو شهوة.

 

99-
وجود خطية أو شهوة يسبب الفتور

ربما
يسير الشخص في طريق روحي سليم، ويستمر على هذا وقتاً، ثم تأتي محبة معينة أو شهوة
ما، لكي تشغل قلبه ومشاعره، وتأخذ جزءاً من مكان الله ومكانته في داخله، فتفتر
حياته.

 

ولأنه
ترك محبته الأولي، تتركه الحرارة الروحية، فيقع في الفتور.

 

ابحث
إذن، ما هو الدخيل الذي يحتل مكان الله في قلبك؟ وابحث ما هي الخطية التي زحفت
إليك، سواء كانت واضحة أو غير واضحة، أو كانت خطية تلبس ثياب الحملان، وتأتيك في
زي فضيلة لتخدعك!

 

ولعله
من أنواع هذه الفضائل: الغيرة والدفاع عن الحق، ومحبة الاصلاح إن كان ذلك بغير
إفراز وفهم!

 

وباسم
الدفاع عن الحق، يخاصم الناس ويعاديهم، وينتهر ويوبخ في غير رفق، وفي غير حب،
وربما في غير فهم. وباسم الاصلاح ينتقد ويدين وربما يشتم، ويقسو في أسلوبه، ويتحول
إلى نار تلتهم كل ما أمامها. بل يتحول أيضاً إلى عين نقادة، لا تري سوي السوء، ولا
تري في الناس خيراً، وتشك في الآخرين وتتهمهم اتهامات باطلة..

 

وفيما
هو يدعي أنه ينزع أنه ينزع الزوان من الأرض، يتحول هو أيضاً إلى زوان، ويبحث عن
روحياته فلا يجدها، وتصبح حياته فاترة، يقول له الرب فيها: “أنا مزمع أن
اتقياك من فمي” (رؤ3: 16).

 

ليس
معني هذا، أن يبعد الإنسان عن الاصلاح والغيرة والدفاع عن الحق، وإنما ينبغي أن
يكون ذلك بفهم وبحكمة، وبأسلوب روحي كما قال الكتاب: “لتصر كل أموركم في
محبة” (1 كو16: 14) وأيضاً يقول الرسول: “من هو حكيم وعالم بينكم، فلير
أعماله بالتصرف الحسن بالتصرف في وداعة الحكمة. ولكن إن كان لكم غيره مرة وتحزب في
قلوبكم، فلا تفتخروا وتكذبوا على الحق. ليست هذه الحكمة نازلة من فوق..” (يع3:
13- 15).

 

هذه
هي روح الإصلاح: في محبة، في وداعة الحكمة، وهنا لا يخطئ الإنسان في غيرته ولا
تفتر روحياته.

 

وما
أجمل قول الرسول في طريقة إصلاح الآخرين: “اصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا
بروح الوداعة، ناظراً إلى نفسك لئلا تجرب أنت أيضاً. احملوا بعضكم أثقال بعض”
(غل6: 1، 2). نقول هذا لأن كثيرين يبدأون توبتهم بحرارة روحية، يعجب بها الناس،
فيرشحونهم للخدمة. وفي الخدمة تتملكهم غيرة بغير معرفة (رو10: 2) فتفقدهم حرارتهم
فيفترون!

 

حقاً
إن التركيز على اصلاح الآخرين أضاع أناساً كثيرين!!

 

يريد
الشخص أن يصلح غيره. ومن أجل هذا يفكر طول الوقت في خطايا الآخرين. وفي ذلك ينسى
خطاياه فيفتر. وفيما كان في بدء توبته يركز على روحياته، ويهتم بخلاص نفسه، نراه
في الخدمة قد نسي نفسه تماماً، وأصبح مشغولاً بخلاص الآخرين أو بأخطاء الآخرين، أو
باصلاح المجتمع! وليته بفعل ذلك بطريقة سليمة إنما يسلك بأسلوب خال من الحب، وربما
يحوي أيضاً كبرياء داخلية!

 

أيسأل
مثل هذا عن أسباب الفتور؟ هي هذا السلوك الذي يحياه! ليته عاش في اتضاع، يبحث في
إنسحاق عن خلاص نفسه..

 

يا
أخي، فكر في نفسك، أنك أنت أيضاً خاطئ تحتاج إلى اصلاح، بدلاً من انشغالك بالناس
وأخطائهم مما تفتر معه روحياتك.

 

وكلمة
أخري اهمس بها في أذنك، ربما تكون هي السبب في فتورك، وهي السبب كذلك في أخطائك
حينما تعمل في مجال الغيرة والاصلاح.

 

ربما
تكون في طباعك قسوة أنت غير متنبه إليها. فلما دخلت في الحياة مع الله، انسلت هذه
القسوة داخلة معك دون أن تشعر. وظهرت في معاملاتك حينما تشتغل بالغيرة والاصلاح
باسم الله!

 

انظر
إلى بولس الرسول، الذي قال لتلميذه تيموثاوس الأسقف: “وبخ. انتهر عظ”
(2تي4: 2). كيف كان القديس بولس هذا يعظ؟ أنه يقول لكهنة أفسس حينما استدعاهم من
ميليتس. يقول لهم عن أسلوبه: “متذكرين أنني ثلاث سنين ليلاً ونهاراً لم أفتر
عن أن أنذر بدموع كل أحد” (أع20: 31).

 

لهذا
لم يفتر القديس بولس وهو يتنهر الناس. لأنه كان ينذرهم بدموع. وفي دموعه كانت توجد
رقة وحب..

 

إذن
القسوة سبب من اسباب الفتور وإدانة الآخرين سبب آخر، لأن في كليهما تبعد النعمة عن
الإنسان، لتشعره بأنه” تحت الآلام” (يع5: 17) مثل كل هؤلاء وإذ تبعد عنه
النعمة يفتر.

 

لأن
الحرارة الروحية ليست من مجهوده البشري، إنما من عمل الروح فيه. فإن بعد بالقسوة والإدانة
عن عمل الروح، حينئذ يفتر..

 

هناك
سبب مشابه، يقود إلى الفتور وهو الكبرياء:

 

100-
الكبرياء والفتور الروحي

والكبرياء
على أنواع كثيرة..

نذكر
كمقدمة لها قول الكتاب: ” قبل الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح”
(أم16: 18). فإن كانت الكبرياء تقود إلى الكسر والسقوط، فعلي الأقل توصل إلى
الفتور.. ومن أمثلة الكبرياء شعور الإنسان أنه قد وصل. وحينئذ يفتر!

 

كإنسان
يستقل قطاراً، وهو في حرارة الاشتياق لأن يصل، فإن وصل أو شعر بذلك، تفارقه حارة
الاشتياق.

 

أما
الذين مهما فعلوا كل ما أمروا به، يقولون أنهم عبيد بطالون (لو17: 10)، فهؤلاء لا
يدركهم الفتور. لأنهم مازالوا في حرارة الاشتياق إلى الوصول، يقول كل منهم- مهما
بلغ من كمال-” لست أحسب أني قد أدركت.. ولكنى أسعى لعلي أدرك. انسي ما هو
وراء وامتد إلى ما هو قدام” (فى3: 12، 13).

 

وهذا
السعي يمنح حرارة تمنع الفتور. بل فيه يري الإنسان- كلما ينمو- أن حياته السابقة-
في كل علوها- كانت فتوراً. فيسعي بالأكثر، بحرارة أكثر..

 

نوع
آخر من الكبرياء يجلب الفتور، وهو شعور الإنسان أنه قد صار كبيراً وإن غيره أصغر
منه. وأنه ينبغي أن يعامل ككبير، له الاحترام، وله الخضوع، وله التسليم في كل ما
يشاء.

 

لم
يكن هكذا في بدء توبته، حينما كان يشعر بالانسحاق وعدم الاستحقاق، أما الآن- وقد
كبر في عيني نفسه- تفارقه النعمة، فيفتر، ليشعر بضعفه فيتضع.

 

إن
الحرارة الروحية لا يمكن أن تجتمع مع الكبرياء في مكان واحد.. فإن حدث أن دخلت
واحدة على الأخرى تقول هذه لتلك: “اعتزلي عني. إن ذهبت شمالاً، فأنا يميناً.
وإن ذهبت يميناً، فأنا شمالاً” (تك13: 9).

 

ومع
ذلك فأصحاب المواهب- فكرية كانت أو روحية، قد يبدأون بدءاً حسناً. ثم تحاربهم
مواهبهم فيفترون.

 

لذلك
فإن الله- من محبته للبشر- لا يمنح مواهبه لكل أحد. لأنه ليس الجميع يحتملون
المواهب!! فقد تكبر قلوبهم، ويكون ذلك سبباً في فتورهم!

 

صدق
أحد الآباء حينما قال: إن منحك الله موهبة، فاسأله أن يمنحك اتضاعاً لتحتملها، أو
اسأله أن ينزع هذه الموهبة منك..

 

لذلك
ما أجمل قول داود النبي: “خير لي يارب أنك أذللتني، حتى أتعلم حقوقك”
(مز119: 71).

 


قريب هو الرب من المنسحقين بقلوبهم” (مز34: 18). لذلك اتضع، ولينسحق قلبك،
ليقترب منك الله، ويمنحك حرارة الروح، فيفارقك الفتور.

 

تنقلنا
هذه النقطة إلى سبب آخر من أسباب الفتور، وهو: تقليل فترة الإنسحاق والإسراع إلي
الفرح.

 

101-
تقليل فترة الانسحاق والإسراع إلى الفرح

في
بدء حياة التوبة، كثيراً ما يكون الإنسان منسحقاً متضعاً يبكي على خطاياه، وفيما
هو هكذا.. يأتيه من ينصحه بترك الحزن، على اعتبار أن المسيح قد غفر له خطاياه،
وبالتالي يدعوه إلى حياة الفرح!فيترك انسحاقه الذي هو سبب حرارته. ويمضي الوقت
يفتر.

 

إن
كل خطية لم تستوف ما يلزمها من الانسحاق، يمكن أن تعود. أو على الأقل يعتاد
الإنسان اللامبالاة، فيفتر.

 

القديس
بولس الرسول في كل مجده الروحي، لم يفارقه إنسحاقه، ولم ينس خطاياه، بل كان يقول: “أنا
الذي لست مستحقاً أن أدعي رسولاً، لأني اضطهدت كنيسة الله” (1كو15: 9).

 

وداود
النبي كذلك، بعد أن نال الموعد بمغفرة خطيته، وضعها أمامه في كل حين (مز50). وكان
في كل ليلة بدموعه يبل فراشة (مز6). وإذ حافظ القديس بولس، وداود النبي القديس على
إنسحاق قلبيهما، استمرا في حرارتهما الروحية ولم يفترا. لا تسرع إذن إلى حياة
الفرح. بل إن أتاك، قل: [أنا لا أستحقه]. أو على الأقل: ليكن لك انسحاقاً الداخلي،
مهما عشت في فرح الروح..

 

102-
الكسل والتهاون وفتور الحياة الروحية

سبب
آخر للفتور هو الكسل: الكسل والتهاون

إنهما
سببان واضحان من أسباب الفتور لا يحتاجان إلى شرح.

فهما
ضد الجهاد الروحي وضد السعي إلى الكمال. وبهما يقصر الإنسان في الصلاة والسهر، وفي
التغصب اللازم لكبح جماح النفس..

 

إن
ملكوت الله لا يعطي للكسالى، وإنما للذين يجاهدون. وقد قال الكتاب: “ملعون من
يعمل عمل الرب برخاوة” (إر48: 10).

 

خاتمة:

وبعد،
إن موضوع الفتور موضوع طويل، أكتفي بهذا الذي قلناه فيه، على أن أعود إليه في كتاب
خاص إن شاء الله.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى