اللاهوت الروحي

الفصل السادس



الفصل السادس

الفصل
السادس

الخوف

48-
الخوف

في
موضوع الخوف لابد أن نضع أمامنا مقدمتين هامتين وهما:

مقالات ذات صلة

1-
ليس كل خوف خطيئته أو حرباً فهناك خوف مقدس..

2
لم يكن الخوف في طبيعة الإنسان عند خلقه، قبل خطيئته أبوينا الأولين..

 

فلما
خلق الله آدم، كان يعيش مع الوحوش ولا يخاف. وكانت علاقته مع الله أيضاً خالية من
الخوف.

 

ولكنه
بعد الخطيئة بدأ يخاف. ومن فرط خوفه أختبأ وراء الأشجار. وقال لله: “سمعت
صوتك في الجنة فخشيت” (تك3: 10).

 

وزاد
مرض الخوف بعد قتل قايين لأخيه: وتحول إلى رعب.

 

وهكذا
قال قايين لله: “إنك قد طردتني اليوم من وجه الأرض، ومن وجهك أختفي، وأكون
تائهاً وهارباً في الأرض فيكون كل من وجدني يقتلني” (تك4: 14). ومن ذلك الحين،
أصبح الخوف أحد الأمراض النفسية، ودخل في طبيعة الإنسان.

 

وتعددت
أسباب الخوف، وتعددت نتائجه. وصار إحدى الحروب الروحية التى يحارب بها الشيطان
الإنسان.

 

وأصبحت
هناك درجات من الخوف، الخشية والجُبن والفزع، والهلع، والرعب بل يمكن أن يموت
الإنسان من شدة الخوف، ويمكن أيضاً أن يفقد عقله، أو تنهار أعصابه ويرتعش جسمه
خوفاً..

 

49-
الخوف المقدس

وتدخل
فيه عبارة” رأس الحكمة مخافة الله” (مز111: 10، أم9: 10). وعبارة”
سيروا زمان غربتكم بخوف” (1بط1: 17).

 

وقد
قال السيد المسيح: “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد. ولكن النفس لا يقدرون
أن يقتلوها. بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في
جهنم” (مت10: 28) “نعم أقول لكم من هذا خافوا” (لو12: 5).

 

وهنا
يقدم لنا السيد المسيح نوعين من الخوف: أحدهما مطلوب، والآخر خوف خاطئ.

 

ومخافة
الله تدعو إلى مهابته وطاعته وحفظ وصاياه، وتقود إلى محبته وإلى حياة التوبة وحياة
الخشوع.

 

على
أن الخوف المقدس بكل أنواعه ليس هو موضوع حديثنا اليوم، لأننا نركز هنا على الحروب
الروحية.

 

50-
الخوف الطبيعي

قال
أحد علماء النفس إن الإنسان يخاف من ثلاثة أسباب:

الظلام
والمجهول والحركة المفاجئة..

وواضح
أن هذه الأسباب الثلاثة تتركز في سبب واحد، هو المجهول، فالظلام يطوي خلفه مجهولاً.
والحركة المفاجئة لها سبب مجهول..

 

على
أن هناك أشخاصاً لهم جسارة قلب، لا يخافون من الظلام ولا من الحركة المفاجئة، ومع
ذلك ليسوا روحيين..!

 

51-
الخوف من الموت

وغالبية
الناس أيضاً يخافون من الأذى، ومن الموت ومسبباته..

يندر
أن يوجد إنسان لا يخاف من الموت. وربما يكون هذا الخوف هو أيضاً خوف من المجهول.

فالموت
شئ مجهول، لم يجربه الخائف وكذلك ما وراء الموت شئ مجهول أيضاً.

والإنسان
يخاف هذا الموت كيف يموت؟ كيف تخرج روحه من جسمه؟ كل هذه السباب تخيف الكثيرين..

 

أما
الذي يضمن مصيره بعد الموت، فإنه لا يخافه، بل يشتهيه.

 

وهكذا
يقول القديس بولس الرسول: “لي إشتهاء أن أنطلق واكون مع المسيح ذاك أفضل
جداً” (في1: 23) ولاشك أن اللص اليمين ما كان يخاف الموت، بعد سماعه وعد الرب
له: “اليوم تكون معي في الفردوس” (لو23: 43). ولا سمعان الشيخ كان يخاف
الموت، لأنه طلبه من الرب: “الآن يارب تطلق عبدك بسلام حسب قولك، لأن عيني قد
أبصرتا خلاصك” (لو3: 29، 30).

 

إنما
يخاف الموت غير التائب، وغير المستعد له. ويخافه من يحب العالم الحاضر.

 

وكل
هذا يدل على أن في الأمر خطية. حتى إن كان خوف الموت شيئاً طبيعياً، إلا أن
الأسباب التي دعت هنا إلى هذا الخوف، تحمل معنى الخطية.

 

وبعض
القديسين المشهورين بالاتضاع كانوا يخافون الموت قائلين إنهم خطاة.

 

وخوف
الموت إما يجعل الإنسان يستعد له، أو يهرب منه.

 

الإنسان
الروحي يستعد للموت بالتوبة والسلوك في محبة الله، وحينئذ يختفي الخوف منه، يمنحه
الله اطمئنانا.

 

ولكن
الشيطان قد يستغل خوف الموت، ليلقي بضحيته في إتجاه عكسي.

 

يجعله
يهرب من الموت، ومن سيرته ومن اخباره، وينهمك في ملاذ الحياة فلا يسمع عن هذا
الموضوع المتعب!

 

وللأسف
نجد مرضي في حالة خطيرة وعلى حافة الموت، بينما أقاربهم يبعدون عنهم هذا الاسم
المخيف وكذلك أطباؤهم، بأكاذيب، وطمأنة خادعة، ويشغلونهم في أحاديث وسمر ولهو
وتسلية، لكي ينسوا.

 

وهكذا
يريحونهم من خوف الموت، إلى أن يدهمهم فجأة بدون استعداد.

 

أو
قد يغري الشيطان ضحيته قائلاً: ما دمت ستموت. تمتع إذن بالدنيا على قدر استطاعتك،
قبل أن تتركها. مثال ذلك قول الابيقوريين: “فلنأكل ونشرب لأننا غداً
نموت” (1كو15: 32).

 

وهكذا
نجد الخوف من الموت سلاحاً والبعد عن خوف الموت سلاح آخر.

 

والشيطان
يحارب بالاثنين كليهما فإذا تأكد الإنسان أنه سيموت، قد يحاربه الشيطان بطريقة
أخري تمنع عنه التوبة والاستعداد للموت، وهي:

 

يجعل
خوف الموت يشل تفكيره فيحصره في الخوف، وليس في الاستعداد لأبديته.

 

لا
يجعل أمامه سوي رعب الموت، بحيث هو الصورة الوحيدة القائمة أمامه، بكل ما تحوي من
ترك الحياة وترك الأحباء وترك الملاذ. وما في هذه الصورة من يأس وألم.. دون
التفكير في الأبدية والاستعداد لها.

 

وفي
حالات أخري، قد يتخذ الشيطان خوف الموت، ليلقي بالإنسان في خطايا مميته، كإنكار
الإيمان مثلاً.

 

وهنا
نقول إن الشهداء والمعترفين ما كانوا يخافون الموت إطلاقاً، بل كانوا يشتهونه
ليلصوا إلى الحياة الأفضل، في عشرة الله وملائكته وقديسيه.

 

إن
محبة الأبدية، تنجي القلب من خوف الموت، وتعطيه روح الاستعداد.

 

الحديث
عن الأبدية، وعن أورشليم السمائية، وعن القيامة الممجدة والحياة بالروح.. كلها من
الموضوعات الجميلة التي يلزم لأولاد الله أن يتأملوها، ويتركوا تأثيرها يتعمق في
قلوبهم وفي أفكارهم وأحاسيسهم.

 

الذي
يخاف الموت، يخاف العدوى والجراثيم، وضعف الصحة. وقد يحاول الوقاية من كل هذه
السلبيات بطريقة مرضية أيضاً قوامها الخوف الزائد عن الحد، الذي يشك في كل شئ..

 

وقد
يتخذ الشيطان خوف المرض، ليلقي بالإنسان، في ملاذ الحياة..

 

في
الأكل والشرب والمقويات، حتى تتحسن صحته.. وفي الرياضة وتغيير الجو وعدم حمل
الهموم، والتخفيف من العمل، من النشاط الزائد والكد والجهد.. بطريقة مبالغة جداً،
وخائفة جداً، حتى يهمل ضروريات روحية هامة، ويهمل الإخلاص لواجبه، ويبتعد عن زيارة
المرضي. وتصبح صحة الجسد هي هدفه، وليس نشاط الروح..!

 

على
أن المرض ليس هو السبب الوحيد للموت. فقد يموت الإنسان نتيجة لشجاعته وبسالته،
كالجندي مثلاً..

 

فإذا
زحف خوف الموت إلى قلب إنسان، قد يسلبه الشجاعة والجرأة ويحوله إلى مخلوق جبان،
مهلهل النفسية، ينتزع الخوف منه كل مقومات الشخصية. ولذلك حسناً قال القديس
أوغسطينوس:

[جلست
على قمة العالم، حينما أحسست في نفسي أني لا أخاف شيئاً ولا أشتهي شيئاً].

وهذه
النقطة تنقلنا إلى عنصر آخر من عناصر الخوف وهو: الخوف من الناس

 

52-
الخوف من الناس

إنها
حرب روحية أخري تصيب البعض ممن تضعف نفوسهم، وهي خوف الناس.

وقد
لا يخافون الله، مثلما يخافون الناس، ويخشون أذاهم!!

يتصورن
في الناس قوة قد تبطش بهم، أو تضيع مستقبلهم، أو تتعبهم وتؤذيهم، أو تخدش سمعتهم،
أو تقف في طريق آمالهم.. لذلك هم يعملون للناس ألف حساب..

 

ويستغل
الشيطان خوفهم من الناس لكي يلقبهم في المقل والرياء والنفاق.

 

يظنون
أنهم بتملق الناس يكسبون محبتهم ورضاهم عنهم، أو على الأقل بهذا الرياء يبعدون
أذيتهم عنهم. وهكذا ترخص نفوس الناس، ويهبط مستواهم. ولا مانع من أجل ارضاء الناس
أن يقولوا عن المر حلواً، وعن الحلو مراً، وأن يعادوا من يعاديه هؤلاء، ويصافوا من
يصادقوه!!

 

وتضيع
المبادئ والقيم في طريق الخوف، بل قد يضيع الإيمان نفسه!!وقد يقع الإنسان في خيانة
أحبائه خوفاً.

 

وينسى
قول الكتاب: “ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس” (أع5: 29) وينسي أيضاً
قول الوحي الإلهي: ” مبرئ المذنب، ومذنب البرئ، كلاهما مكرهة للرب”
(أم17: 15). ويصبح كل ما يشغل هذا الخائف هو كيف ينجو أياً كانت الوسيلة أو متعبة
للضمير.

 

وفي
الخوف، وفي صغر النفس، لا يذكر إلا تلك العبارات..

 

أرضهم،
مادمت في أرضهم.

 

ودارهم،
ما دمت في دراهم. وحيهم، مادمت في حيهم.

 

يفعل
ما يفعلون، يقول ما يقولون، ولا مانع من أن يتقلب مع الجو.

 

إن
الخوف يجرفه مع التيار فيسيره الخوف وليس الضمير.

 

وقد
تعاتب هذا الإنسان، وتذكره بالمبادئ الروحية، فيقول لك: [ماذا أفعل؟ حياتي في يد
هؤلاء]! فإذا قلت له: بل حياتك في يد الله وحده تكون كمن يتكلم كلاماً نظرياً
بعيداً عن الواقع والحياة العملية.

 

حقاً،
ما أكثر الذين حطمهم الشيطان بالخوف. وكان إيمانهم القلبي أقل بكثير من المخاوف
الخارجية.

 

وكثيرون
عبدوا البشر وليس الله. لا بسبب خوفهم من الأذى فحسب، إنما أيضاً لخوفهم من أن
تضيع شهوات لهم أو مكاسب عالمية، هي في أيدي هؤلاء الناس، يمنحونها أو يمنعونها..!
والذي يشتهي يخاف أن يفقد ما يشتهي، فيسير في التيار.

 

هؤلاء
لم يخافوا فقط من رؤسائهم في العمل، أو مصادر المادة بالنسبة إليهم، إنما كذلك
مصادر متعتهم!!

 

وهنا
ما أكثر أخطاء الساقطين: محبة المتعة خطأ. والخوف من فقد هذه المتعة خطأ آخر.
وتملق من يخافون أن يفقدهم متعتهم خطأ ثالث. واستمرارهم في هذا الخوف، من أجل
استمرار المتعة خطأ رابع.. وهكذا دواليك..

 

وقد
يخاف البعض من يخشون أن يكشفوهم في أخطائهم.

 

فإما
أن يعاملوهم بخوف، في مجالات للإرضاء والإسكات. وإما أن يقودهم الشيطان إلى التخلص
بجريمة من هؤلاء! كالسارق الذي يقتل من يراه وهو يسرق. وكالزاني الذي يقتل من قد
يفضح خطيئته. ولا يكون القاتل في هذه الحالة في مركز القوة، إنما على العكس: في
مركز الضعف والخوف..

 

والناس
عموماً يخافون من هم أقوي منهم.

 

سواء
من هم منهم عقلاً، أو أقوي منهم بطشاً، أو أقدر على الانتقام، أو على تدبير
المشاكل.

 

والخوف
من الناس يزيدهم إيذاء.

 

يشعرون
أن الذي أمامهم غير قادر عليهم، فيقدرون هم عليه، أو يستمرون في تخوفهم له. وفي
خوفه، يخضع بالإكثر. وفي خضوعه يزداد أيذاء من يخيفونه. والدائرة دور..

وبنفس
الطريقة يسلك الشيطان مع الناس. فلينتقل إلى هذه النقطة: الخوف من الشيطان.

 

53-
الخوف من الشيطان

الشيطان
يفرحه أن تخافه. فإذا خفت، تستسلم له. أو تيأس من حربه فلا تقاوم. أو تستشعر
الهزيمة كلها حاربك، فلا تستبتل في مصارعته. بينما الرسول يقول:

 


قاوموه راسخين في الإيمان” (1بط5: 9) حتى لو كان كأسد يزأر..

 

القديس
الأنبا أنطونيوس، حاربه الشيطان بكل الأساليب، فلم يخف منه.. حتى حينما كان يظهر
مفزعة، ما كان القديس يفزع. كان الأنبا أنطونيوس لا يخاف أن يبيت في مقبره وسط
العظام. وكذلك القديس مقاريوس الكبير، ما كان يخاف من المثل وهو متوسد جمجمة،
يكلمه الشيطان من داخلها..؟

 

آباؤنا
انتصروا على الشيطان، لأنهم ما كانوا يخافونه، ولأن الرب أعطاهم- وأعطانا- سلطاناً
على جميع الشياطين.

 

حقاً،
ما أجمل قول السيد المسيح: “رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء”
(لو10: 18). لا تخف إذن من الشيطان، إن القوة الإلهية التي معك هي أعظم بكثير من
قوتهم التى يهاجمونك بها.

 

وأيضاً
لا تخف، لأن الله لا يسمح بأن تجرب فوق ما تطيق (1كو10: 13).

 

والشيطان
لا يستطيع أن يقرب إليك، بدون سماح من الله، كما هو واضح في قصة أيوب الصديق..
والله لا يسمح له إلا في حدود استطاعتك أنت في أن تنتصر.

 

فلا
تعط الشيطان قدراً فوق قدرة، ولا تخف منه فوق ما ينبغي..

 

واعلم
أن ما يلزمك في معاملة الشياطين، هو الحرص وليس الخوف. ولا نترك هذه النقطة بدون
ملاحظة أخري، وهي: الخوف بلا سبب!

 

54-
الخوف بلا سبب!

كثيرون
يخافون بدون سبب جدي يدعو فعلاً إلى الخوف.

خوفهم
إما خوف طفولى، أو قد يكون لوناً من الخوف المرضي..

فالطفل
قد يخاف من لصوص في البيت أو أشباح، بينما لا يكون هناك لصوص ولا عفاريت.

 

والكبار
بنفس الوضع قد يخافون من أسباب لا وجود لها، أو يتصورن مخاوف وهمية، لا حقيقة لها
على الإطلاق.

 

.
إنما يخلقهما خيالهم المريض؟

 

وهناك
أمراض نفسية من هذا النوع، فيها عقدة الخوف، يتصور فيها المريض أن هناك من يعملون
على إيذائه. بينما لا يؤذيه إلا مرضه النفسي..!

 

وقد
يكون لهذا الخوف أسباب من حروب الشياطين التى تغرس فيه الخوف تضع في عقله شكوكاً
غير موجودة، أن هناك من يدبر ضده تدابير، أو يترصده، يحاول إيذاءه.

 

علاج
الخوف:

يحتاج
الإنسان أن يتذكر وعود الله الكثيرة التي تقول له لا تخف.. لا يقع بك أحد ليؤذيك
(أع18: 10). ويتذكر باستمرار حفظ الله ومعونته.

 

والإيمان
يمنع الخوف، ويذكر الخائف بالقوة الإلهية الحافظة له..

 

وما
أجمل قول داود النبي: “إن سرت في وادي ظل الموت، فلا أخاف شراً لأنك أنت
معي” (مز23).

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى