اللاهوت الدفاعي

الفصل الحادي والثلاثون



الفصل الحادي والثلاثون

الفصل
الحادي والثلاثون

من
لاهوت المسيح إلى الحياة في المسيح عند بولس الرسول

المسيحيّة
إيمان وحياة. والحياة ترتكز على الإيمان. هذا ما رآه بولس الرسول في نظرته إلى
الحياة المسيحيّة في بعديها الشخصيّ والجماعيّ. هناك رؤيةٌ إجماليّة للكيان
المسيحيّ، نجدها واضحة عند بولس الرسول، وهذه الرؤية توجّه حياةَ المسيحيّ
الشخصيّة والجماعيّة، في ساعات الفرح والسلام، وفي ساعات الألم والاضطراب. وبدون
رؤية، تبقى حياةُ المسيحيّ مجزّأة وعرضةً للتغيير والتبديل ولكلّ هوى، كما كتب
بولس للغلاطيّين: (إنّي متعجّب من أنّكم تتحوّلون بمثل هذه السرعة عن الذي دعاكم
بنعمة المسيح، وتنتقلون الى إنجيل آخر؛ لا أنّه يوجد إنجيل آخر، إنّما هناك أناس
يُبلبلونكم، ويريدون أن يقلبوا إنجيلَ المسيح. ولكن إن بشّركم أحد – وإن يكن نحن
أنفسَنا، أو ملاكًا من السماء – بإنجيل آخر غير الذي بشّرناكم به، فليكن مُبسَلاً)
(غل 6: 1-8). فما هي هذه الرؤية البولسيّة للحياة المسيحيّة.

 

أوّلاً
– حياة المسيحيّ الشخصيّة

قال
يسوع: (أنا الطريق والحقّ والحياة؛ فلا أحد يأتي إلى الآب إلاّ بي) (يو 6: 14).
الحقيقة يمكن أن تكون نظريّة، فتكون في هذه الحالة عرضةً للجدل. مثلاً، يمكن النقاش
في حقيقة وجود الله، وتقديم البراهين لدعم هذا الوجود، كما يمكن تقديم براهين
معاكسة لإنكار هذا الوجود. أماّ الحقيقة المسيحيّة فليست حقيقة نظريّة يمكن
المناقشة فيها والبرهان عنها ببراهين عقليّة. بل هي واقع حياتيّ اختبره الرسل
الذين عاشوا مع المسيح، واختبره، من بعد الرسل، القدّيسون الذين عاشوا من قوة
المسيح، وبحسب تعاليم المسيح. وبولس الرسل اختبر هذه الحقيقة-الواقع في ترائي
المسيح له على طريق دمشق، وعاش بموجبها في حياته الشخصيّة وحياته الرسوليّة.
فلاهوته هو قبل أيّ امر آخر لاهوت كريستولوجيّ، أي إنّه لاهوت يرتكز على يسوع
المسيح: على شخصه في قصد الله وعلى ما فعله لأجلنا، وعلى كيفيّة اتّحادنا به
لنحقّق من خلاله قصد الله.

 

1-
واقع المسيح في قصد الله

من
أين نقتبس رؤيَتَنا ونظرتَنا الى العالم والحياة؟ يقول بولس في رسالته الى
الكولسّيين إنّ كلّ تعليم لا يستند الى المسيح هو باطل. فالجهاد الذي يعانيه لأجل
الجميع يهدف الى أن (تتشدّدَ قلوبُهم، حتى إذا ما التأموا في المحبّة، يبلغون الى
الفهم الكامل بكلّ غناه، وبه الى معرفة سرّ الله، أي المسيح، المكنونةِ فيه جميعُ
كنوز الحكمة والعلم). ثم يضيف: (أقول هذا لئلاّ يغرَّكم أحد بكلام مموّه.. احذروا
أن يقتنصَكم أحد بغرور الفلسفة الباطل، مستقى من تقليد الناس، أو أركان العالم.
فذلك ليس بحسب المسيح. إذ في المسيح يحلّ كلّ ملء اللاهوت جسديًّا، وفيه أنتم
تمتلئون، لأنّه هو رأسُ كلّ رئاسة وسلطان) (كو2: 2-10). والشرائع القديمة لم تكن
إلاّ (ظلّ المستقبلات. والحقيقةُ هي المسيح) (كو 2: 17). وهو الذي يجب أن نتمسّكَ
به، لأنّه هو (الرأس الذي به يتغذّى الجسمُ كلّه، ويتلاءم بالمفاصل والمواصل،
ويبلغ الى تمام نموّه في الله) (كو 2: 17).

وتتّسع
الرؤية لدى بولس، فيعود الى قصد الله من قبل إنشاء العالم، ليرى أن الله قد
(غمرنا، من علياء سمائه، بكلّ بركة روحيّة في المسيح) (أف 1: 3). ثمّ يعدّد
البركات التي نلناها من الله بالمسيح:


(إذ فيه قد اختارنا عن محبّة، من قبل إنشاء العالم، لنكون قدّيسين، وبغير عيب
أمامه (هذه هي البركة الإولى، والدافع هو المحبة)؛


وسبق فحدّد، على حسب مرضاته، أن نكون له أبناء بيسوع المسيح، لتمجيد نعمته السنيّة
التي أنعمَ بها علينا في الحبيب (هذه هي البركة الثانية: نعمة التبنّي الإلهي،
والدافع هو مرضاة الله)؛


وفيه لنا الفداء بدمه، ومغفرةُ الزلاّت، على حسب غنى نعمته، التي أفاضها علينا
بملء الحكمة والفطنة (هذه هي البركة الثالثة: الفداء، والدافع هو غنى نعمة الله)،


بإعلانه لنا، على حسب مرضاته، سرّ مشيئته، الذي سبق فقصده في نفسه، ليحقّقه عند
تمام الأزمنة، أي أن يجمعَ تحت رأس واحد في المسيح، كلّ شيء، ما في السماوات ما
على الأرض (هذه هي البركة الرابعة: أن يجتمع الكلّ تحت رأس واحد هو المسيح)؛


وفيه ايضًا دُعينا، وقد اصطُفينا من قبل، بمقتضى قصد من يعملُ كلّ شيء على حسب
مرضاته، لنكونَ تسبحةً لمجده، نحن الذين سبقوا فأناطوا رجاءَهم بالمسيح (هذه هي
البركة الخامسة: دعوتنا لنكون تسبحةً لمجده، أي تجسيدًا لحضوره على الأرض)؛


وفيه أنتم أيضًا، بعد إذ سمعتم كلمةَ الحقّ، إنجيلَ خلاصكم، وبعد إذ آمنتم به (هذه
هي البركة السادسة: سماع الإنجيل والإيمان به)،


خُتِمتُم بروح الموعد القدّوس، الذي هو عربونُ ميراثنا، لفداء الشعب الذي اقتناه
الله لتسبيح مجده) (هذه هي البركة السابعة: الختمُ بالروح القدس، الذي هو عربون
ميراثنا وفدائنا) (أف 1: 4-14).

هذه
البركات السبع يتوسّع فيها بولس الرسول في مختلف رسائله، ويضعها كلّها تحت راية
المسيح الذي يحيط شخصُه ومحبتُه بحياة المسيحيّ منذ بدايتها حتى نهايتها:


فتبدأ حياة المسيحيّ بالمعموديّة، التي بها يلبس المسيحيّ المسيح: (أنتم، جميع
الذين اعتمدوا بالمسيح، قد لبستم المسيح) (غل 3: 27).


بالمسيح ابن الله ننال روح التبنّي، وإذ نصير أبناء لله نصير ورثة له: (لمّا بلغ
ملء الزمان أرسل الله ابنَه، مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس، ليفتديَ
الذين تحت الناموس، ونال التبنّي. والدليل على أنّكم أبناء، كونُ الله أرسل الى
قلوبنا روح ابنه، ليصرخَ فيها: أبّا! أيّها الآب! فأنت لستَ بعد عبدًا، بل ابنٌ؛
وإذا كنتَ ابنًا، فأنت وارث لله) (غل 4: 4-7). لقد (أخذتم روحَ التبنّي الذي به
ندعو: أبّا! أيّها الآب! فهذا الروح عينُه يشهد مع روحنا بأنّا أولادُ الله.
أولاد، فإذن ورثةٌ أيضًا، ووارثون مع المسيح، إن كنّا نتألّم معه لكي نتمجّدَ معه)
(رو 8: 15-17).


التبنّي الإلهي هو دليل محبّة الله لنا، تلك المحبّة التي تجلّت لنا في المسيح،
وبنوع خاصّ في موته وقيامته: (إذا كان الله معنا فمن علينا؟ هو الذي لم يُشفقْ على
ابنه الخاصّ، بل أسلمه عنّا جميعًا، كيف لا يهبُنا أيضًا معه كلّ شيء. من يشكو
مختاري الله؟ الله الذي يبرّرهم! من يقضي عليهم؟ المسيح الذي مات، بل بالحريّ قام،
وهو عن يمين الله، وهو يشفع فينا! فمن يفصلُنا عن محبّة المسيح؟ الشدّة؟ أم الضيق؟
أم الاضطهاد؟ أم الجوع؟ أم العري؟ أم الخطر؟ أم السيف؟ على ما هو مكتوب: إنّا من
أجلك نُماتُ النهارَ كلّه؛ وقد حُسبنا مثل غنم للذبح. غير أنّا في هذه كلّها نغلبُ
بالذي أحبّنا. فإنّي لواثق بأنّه لا موتَ ولا حياةَ، لا ملائكةَ ولا رئاسات، لا
حاضرَ ولا مستقبل ولا قوّات، لا علوّ ولا عمق، ولا خليقةَ أخرى أيّةً كانت، تقدرُ
أن تفصلَنا عن محبّة الله التي في المسيح يسوع ربّنا) (رو 8: 31-39).


ومحبة الله هذه، التي هي الله نفسه، قد أُفيضَت فينا بالتبنّي الإلهيّ، مع الروح
القدس، كما يبيّن بولس أيضًا في الرسالة الى الرومانيّين: (الرجاء لا يُخزي، لأنّ
محبةَ الله قد أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي أُعطيناه) (رو 5: 5). ثمّ يوضح
كيف برهن الله عن محبته لنا بموت المسيح لأجلنا: (أجل، إنّ المسيح، ونحن بعض
ضعفاء، قد مات، في الأوان المعين، عن الكافرين. ولا يكاد أحد يموت عن بار؛ وقد
يُقدمُ أحدٌ على الموت عن صالح. وأمّا الله فقد برهنَ على محبّته لنا بأنّ المسيح
قد مات عنّا ونحن خطأة؛ فكم بالأحرى، وقد بُرّرنا الآن بدمه، نخلصُ به من الغضب)
(رو 5: 6-9).

 

2-
اتّحادُنا بالمسيح

إذا
كان دور المسيح على هذا القدر من الأهمّية، فلا عجب أن نسمع بولس الرسول يكتب
للفيلبيّين: (أعدّ كلّ شيء خسرانا إزاء هذا الرّبح الفائق، معرفة المسيح يسوع،
ربّي، الذي لأجله خسرتُ كلّ شيء؛ وفي كلّ شيء لا أرى سوى أقذار حتى أربحَ المسيح،
وأجدَني فيه لا على برّي الذي من الناموس، بل على البرّ الذي بالإيمان بالمسيح،
البرّ الذي من الله، القائم على الإيمان. فمنيتي إذن أن أعرفَه هو، وأعرفَ قدرةَ
قيامته، والشركةَ في آلامه، فأصيرَ على صورته في الموت، على أمل البلوغ الى
القيامة من بين الأموات) (في3: 8-11). (الحياة لي هي المسيح، والموت لي ربح) (في
1: 21). وكذلك يكتب للغلاطيّين، في المقارنة بين الناموس والمسيح: (إنّي بالناموس
متّ للناموس، لكي أحيا لله. إنّي قد صُلبت مع المسيح؛ فلستُ أنا حيًّا بعد، بل هو،
المسيح، يحيا فيّ. وإن كنتُ الآن أحيا في الجسد، فإنّي أحيا في الإيمان بابن الله،
الذي أحبّني وبذل نفسه عنّي) (غل 2: 19-20). ويكتب في نهاية الرسالة: (أمّا أنا،
فمعاذ الله أن أفتخرَ إلاّ بصليب ربّنا يسوع المسيح، الذي به صُلبَ العالم لي،
وأنا صُلبتُ للعالم.. فلا يُعنني أحد في ما بعد، لأنّي حامل في جسدي سماتِ الربّ
يسوع) (غل 14: 6).

 

3-
حياة القداسة بالمسيح

هذا
الاتّحاد بالمسيح جعلنا نموت عن الخطيئة. والموت عن الخطيئة يجب أن يظهر في كلّ
أعمالنا. وهذا هو موضوع الفصل السادس من الرسالة الى الرومانيّين:

(نحن
الذين متنا عن الخطيئة، كيف نعيش بعد فيها؟ أم تجهلون أنّا، جميع من اعتمدوا
للمسيح، قد اعتمدنا لموته؟ فلقد دُفنّا معه بالمعموديّة للموت، حتى إنّا، كما أقيم
المسيح من بين الأموات بمجد الآب، كذلك نسلك نحن أيضًا في جدّة الحياة.. عالمين
أنّ إنساننا العتيق قد صلب معه، لكي يتلاشى جسد الخطيئة.. فكذلك أنتم أيضًا،
احسبوا أنفسَكم أمواتًا للخطيئة، أحياءً لله في المسيح يسوع) (رو 6: 3-11).

وفي
مواضع أخرى من رسائله يعود الى الفكرة عينها: خلع الإنسان العتيق، ولبس المسيح:

(لقد
حانت ساعة استيقاظكم من النوم.. لقد تناهى الليل واقترب النهار؛ فلنخلعْ إذن أعمال
الظلمة، ونلبسْ أسلحة النور.. البسوا الربّ يسوع المسيح، ولا تهتمّوا بالجسد لقضاء
شهواته) (رو 13: 11-14).

(ينبغي
لكم أن تخلعوا عنكم، في ما هو من أمر حياتكم السالفة، الإنسانَ العتيق، الفاسد
بشهوات الغرور، وأن تتجدّدوا في صميم أذهانكم، وأن تلبسوا الإنسان الجديد، الذي
خُلق على مثال الله في البرّ وقداسة الحقّ) (أف 4: 22-24). ثمّ يعدد مزايا هذا
الإنسان الجديد الذي خُلق على مثال الله في البرّ وقداسة الحقّ: (فانبذوا إذن
الكذب، وكلّموا كلّ واحد قريبه بالحقّ، إذ إنّا أعضاء بعضنا لبعض. اسخطوا ولا
تغضبوا، لا تغرب الشمس على حنقكم.. لا تخرجنّ من أفواهكم ولا كلمة فاسدة، بل ما يصلح
منها ويفيد البنيان – إذا دعت الحاجة – ويؤتي السامعين نعمة. لا تحزُنوا روحَ الله
القدّوس الذي خُتمتم به لأجل يوم الفداء. ليُستأصل منكم كلّ مرارة وسُخط وغضب
وصَخَب وسِباب، مع كلّ شرّ. كونوا بالحريّ ذوي رفق بعضكم ببعض، شفقاء، متسامحين
كما سامحكم الله في المسيح. أجل كونوا مقتدين بالله كأولاد أحبّاء، واسلكوا في
المحبّة، على مثال المسيح الذي أحبّكم، وبذل نفسَه لأجلنا ذبيحة، رائحة طيّبة) (أف
4: 25- 2: 5).

نلاحظ
أنّ بولس يعود عدة مرّات الى مثال الله الآب ومثال المسيح: لنلبس الإنسان الجديد
الذي خُلق على مثال الله في البرّ وقداسة الحق، لنكنْ متسامحين كما سامحنا المسيح،
لنسلكْ في المحبة على مثال المسيح الذي أحبّنا. ويشير أيضًا، في نظرة ثالوثيّة،
الى الروح القدس، فيقول: (لا تحزنوا روحَ الله القدّوس الذي خُتمتم به لأجل يوم
الفداء). الفضائل المسيحيّة ليست مجرّد فضائل إنسانيّة، بل هي مشاركة في حياة
الثالوث، الآب والابن والروح القدس. وإن كانت، في مادّتها، تشبه فضائل سائر الناس،
إلاّ أنّها، في صورتها، تتميّز من فضائل سائر النّاس. وهذا التمييز يعطيها بعدًا
إلهيًّا على مقدار الكيان الإلهي، منذ الأزل والى الأبد، وعلى مدى الزمن كلّه، كما
يُعطيها عمقًا إلهيًّا وشموليّة لتكون على مثال محبّة الله لجميع أبنائه.

ويعود
بولس الى هذا البعد الإلهي، فيتكلّم على السلوك بالروح في الرسالة الى الغلاطيّين:
(اسلكوا بالروح، فلا تقضوا شهوةَ الجسد.. وأعمال الجسد بيّنة: الفجور والنجاسة
والعهَر؛ وعبادةُ الأوثان والسّحر؛ والعداوات والخصومات والأطماع؛ والمغاضباتُ
والمنازعاتُ والمشاقّات والبدع؛ والمحاسدات والسّكر والقصوف وما أشبه ذلك.. أمّا
ثمر الروح فهو المحبة والفرح والسلام؛ وطول الأناة واللطف والصلاح والأمانة؛
والوداعة والعفاف.. لأنّ الذين هم للمسيح يسوع صلبوا الجسدَ مع الأهواء والشهوات.
فإن كنّا نحيا بالروح، فلنسلكنّ أيضًا بحسب الروح..) (غل 5: 16-25). أي إذا كان
الروح هو مبدأ حياتنا، فيجب أن يظهر ذلك في سلوكنا.

هذا
القول يوضح تحديد هويّة المسيحيّ وجوهر المسيحيّة. فالمسيحيّ ليس من يؤمن فقط
بيسوع المسيح وتعاليمه، بل هو أوّلاً من يسكن فيه روح المسيح الذي هو نفسه روح
الله. ولأنّ روح الله يسكن فيه، يستطيع أن يحيا حياة قداسة الله. وهذه الفكرة
يبيّنها بولس بتشبيه الهيكل، فيقول: (أوَما تعلمون أنّكم هيكل الله، وأنّ روح الله
ساكن فيكم؟ من يُفسدْ هيكلَ الله يُفسدْه الله. وهذا الهيكل هو أنتم) (1 كو 3:
16-17). وفي موضع آخر، يقارن بين أعضاء المسيح وهيكل الروح القدس، لأنّ المسيح هو
أيضًا هيكل الروح القدس، إذ فيه ملء الروح القدس وملء اللاهوت. فيقول بشأن الزنى:
(أما تعلمون أنّ أجسادكم هي أعضاء المسيح؟ أفآخذ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاء
فاجرة! حاشا وكلاّ!..) (1 كو 6: 15). ثمّ يضيف: (أوَلا تعلمون أنّ أجسادَكم هي
هيكل الروح القدس، الذي فيكم، الذي نلتموه من الله؟ وأنّكم لستم بعد لأنفسكم،
لأنّكم قد اشتُريتم بثمن كريم؟ فمجّدوا الله إذن في أجسادكم) (1 كو 6: 19-20).
ويُعيد تشبيه الهيكل عينه في حديثه عن عدم مخالطة الكفرة: (لا تشتركوا مع الكفرة
تحت نير واحد، إذ أيّ شركة بين البرّ والإثم؟ وأيّ مخالطة للنور مع الظلمة؟ وأيّ
ائتلاف للمسيح مع بليعال؟.. وأيّ وفاق لهيكل الله مع الأوثان؟ فإنّا نحن هيكل الله
الحيّ، على حسب ما قال الله: إني سأسكن فيهم، وأسير في ما بينهم، وأكون لهم إلهًا،
ويكونون لي شعبًا..) (2 كو 6: 14-16). هذه النبوءة من العهد القديم قد تطبّقت في
كمالها باتّحاد المسيحيّ مع الله، بواسطة اتّحاد المسيحيّ الشخصيّ مع المسيح،
وسكنى روح الله القدوس في كيان المسيحيّ. ومن هذا الاتّحاد بالمسيح ومن سكنى الروح
القدس هذه تنبع كلّ أعمال المسيحيّ.

 

ثانيًا
– حياة المسيحيّ الجماعيّة

روح
المحبة التي نلناها في الكيان المسيحيّ يجب أن تظهر في حياتنا الجماعيّة التي
تتمحور، حسب بولس الرسول، حول المحبة. فما هو المبدأ الذي ترتكز عليه الحياة
الجماعيّة، وما هي ميزاتها وأعمالها؟

 

1-
مبدأ الحياة الجماعيّة: الجميع أعضاء في جسد المسيح الواحد

المبدأ
الأساسيّ الذي ترتكز عليه حياة كلّ جماعة مسيحيّة، هو أنّ جميع أعضاء الجماعة،
باتّحادهم بشخص المسيح، وبامتلائهم من روح الله، يصيرون أعضاء في جسد واحد. يكتب
بولس الرسول الى الكورنثيّين في تشبيه له بين الكنيسة والجسد، يركّز فيه على وحدة
الجسد ضمن تنوّع الوظائف، فيقول: (فكما أنّ الجسد واحد، وله أعضاء كثيرة، وأنّ
جميع أعضاء الجسد، مع كونها كثيرة، هي جسد واحد، كذلك المسيح أيضًا. فإنّا جميعًا
قد اعتمدنا بروح واحد لجسد واحد، يهودًا كنّا أم يونانيّين، عبيدًا أم أحرارًا،
وسُقينا كلّنا من روح واحد) (1 كو 12: 12-13). وينتج من هذا أنّه يجب “ألاّ
يكون شقاقٌ في الجسد، بل يكون للأعضاء اهتمام واحد بعضُها ببعض. فإن تألّم عضو
تألّم معه سائر الأعضاء، وإن أُكرم عضو فرح معه سائر الأعضاء) (1 كو 12: 25-26).

ويطبّق
بولس المبدأ عينه في رسالته الى الرومانيّين، فيقول: (إنّي أوصي كلّ واحد منكم،
بالنعمة المعطاة لي، أن لا يعتبرَ نفسَه فوق ما يليق، بل أن يقدُرَها حقّ قدرها،
على حسب ما قسم الله لكلّ واحد، من الإيمان. فإنّه، كما أنّ لنا في جسد واحد
أعضاءً كثيرة، وليس لكلّ الأعضاء عملٌ واحد، كذلك، نحن الكثيرين جسدٌ واحد في
المسيح، وكلُّ واحدٍ منّا عضوٌ للآخرين. وإذ لنا مواهبُ مختلفة بحسب النعمة
المعطاة لنا، فمن أوتيَ النبوّة فليتكلّم بحسب قاعدة الإيمان؛ ومن أوتيَ الخدمة
فليلازم الخدمة، والمعلّمُ التعليم، والواعظُ الوعظ، والمتصدّقُ سلامةَ النيّة،
والمدبّر الاجتهاد، والراحم البشاشة) (رو 3: 12-8).

هنا
أيضًا محور الحياة المسيحيّة هو المسيح في جسده. فالجميع هم أعضاء في جسد المسيح
الواحد. وبما أنّهم، باندماجهم في جسد المسيح، لم يعودوا لأنفسهم، بل للمسيح، هكذا
في عملهم، عليهم ألاّ ينظروا لمصلحتهم الشخصيّة ولمجدهم الخاصّ، بل يضعوا أمام
أعينهم خدمةَ الجسد الواحد في مختلف احتياجاته، بحسب النعمة أو الموهبة المعطاة
لكلّ واحد.

 

2
– المحبة وأعمالها

ثم
إنّ بولس، في سياق حديثه في الفصل الثاني عشر من رسالته الأولى الى الكورنثيّين عن
المواهب التي يجب أن توضعَ في خدمة الجسد، يتابع في الفصل الثالث عشر، فيتكلّم على
الطريق المثلى التي هي المحبّة. فالمواهب المختلفة، كالنطق بالألسنة، والنبوّة،
وعلم الأسرار والعلم كلّه، والإيمان الذي يقدر أن ينقلَ الجبال، وبذل الأموال
إحسانًا، وتسليم الجسد ليُحرَق، كلّ هذه ليست بشيء، إن لم ترافقها المحبّة. يقول:

(لو
كنت أنطق بألسنة الناس والملائكة، ولم تكن فيّ المحبّة، فإنّما أنا نحاسٌ يطنّ، أو
صنجٌ يرنّ. ولو كانت لي النبوّة، وكنت أعلم جميعَ الأسرار والعلمَ كلّه، ولو كان
لي الإيمان كلّه حتى لأنقلُ الجبال، ولم تكن فيّ المحبة، فلست بشيء. ولو بذلت جميع
أموالي إحسانًا، ولو أسلمتُ جسدي لأحرق، ولم تكن فيّ المحبّة، فلا أنتفع شيئًا) (1
كو 13: 1-4). فالمحبة هي وحدها تعطي كلّ عملٍ قيمته. والمحبّة هي الموهبة التي
أعطيت لجميع المسيحيّين، حسب ما رأينا سابقًا في قول بولس: (إنّ محبةَ الله قد
أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطيناه) (رو 5: 5).

بعد
نشيد التسبيح هذا لمحبّة الله، يمتدح بولس المحبّة في ظهورها وامتدادها في
العلاقات بين الناس: (المحبّة تتأنّى وترفُق؛ المحبّة لا تحسد؛ المحبّة لا تتباهى،
ولا تنتفخ؛ لا تأتي قباحةً، ولا تطلب ما لنفسها؛ لا تحتدّ، ولا تظنّ السوء. لا
تفرح بالظلم بل تفرح بالحقّ؛ تتغاضى عن كلّ شيء، وتصدّق كلّ شيء، وترجو كلّ شيء،
وتصبر على كلّ شيء. المحبّة لا تسقط أبدًا. أمّا النبوءات فستُبطَل، والألسنة
تزول، والعلم يضمحلّ.. الآن يثبت الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة. لكنّ
أعظمهنّ المحبّة) (آ 4-13). في هذا الوصف، الذي تصوّر فيه المحبّة نفسَها على نحوٍ
ما، تُنبَذ تصرّفات خاطئة: التباهي، الانتفاخ من التكبّر، عمل ما هو قبيح، السعي
وراء المصلحة الشخصيّة، الغضب، الحقد على السوء. المحبّة تتجاوز الميول النفعيّة
والهدّامة، وفي الوقت عينه تعملُ على تغيير الإنسان بامتصاص الشرّ القابعِ فيه.
وهي تمنحُ الصبرَ والصلاح، وتهبُ الفرحَ بالحقيقة، وتحتملُ المحنَ وتثبتُ في
الخيبات. هنا يتكلّم بولس بلغة شعريّة، يظهرُ فيها تأثّرُه وحماسُه. وقد اختبر هو
نفسه ما هي المحبّة وما تستطيع أن تحقّقَه.

وترد
أوصاف لأعمال المحبة في أكثر من موضع في رسائل بولس. وفي كلّ لائحة من تلك الأعمال
تركيز على ناحية من نواحي المحبّة.


فتارة يركّز بولس على الوحدة، كما في المقطع التالي من الرسالة الى الأفسسيّين:

(فأحرّضكم
إذن، أنا الأسير في الربّ، أن تسلكوا مسلكًا يليق بالدعوة التي نُدبتم اليها، بكلّ
تواضع ووداعة وصبر. احتملوا بعضكم بعضًا بمحبة. اجتهدوا في حفظ وحدة الروح برباط
السلام. فإنّ الجسد واحد، والروح واحد، كما أنّكم، بدعوتكم، قد دُعيتم الى الرجاء
الواحد؛ وإنّ الربّ واحد، والإيمان واحد، والمعموديّة واحدة، والإله واحد، والآب
واحد للجميع، وهو فوق الجميع وخلال الجميع وفي الجميع) (أف 4: 1-6).


وتارة يركّز على التواضع كأساس للوحدة، كما في رسالته الى الفيلبيّين:

(ومن
ثمّ فأناشدكم، بما في المسيح من دعوة ملحّة، وفي المحبّة من قوّة مقنعة، وفي الروح
من شركة، وبالحنان والرحمة، أن أتمّوا فرحي بأن تكونوا على رأي واحد، فتكون لكم
محبّة واحدة ونفس واحدة، وفكر واحد. لا تعملوا شيئًا عن منازعة أو عجب، بل فليحسب،
بتواضع، كلّ واحد منكم أنّ الآخرين خير منه. ولا ينظر كلّ واحد الى ما هو لنفسه،
بل الى ما هو لغيره. ليكن فيكم من الاستعدادات ما هو في المسيح يسوع. فإنّه، هو
القائم في صورة الله، لم يعتد مساواته لله حالة مختلسة، بل لاشى ذاتَه، آخذا صورةَ
عبد، صائرًا شبيهًا بالبشر، فوُجد كبشر في الهيئة، ووضع نفسَه وصار طائعًا حتى
الموت، بل موت الصليب..) (في 2: 1-8).

هنا
أيضًا يعود بولس الى طلب التشبّه بالمسيح الذي هو مثالنا الأسمى في ممارسة
المحبّة.


وفي موضع آخر يركّز بولس على احتمال الآخرين. فبعد تعداد ثمار الروح (رَ: غل 5:
22-25)، يقول للغلاطيّين:

(فلا
نكن ذوي عجب، ولا نتحدَّ بعضُنا بعضًا، ولا نحسدْ بعضُنا بعضًا. أيّها الإخوة، إنْ
أُخذ أحدٌ في زلّة، فأصلحوه، أنتم الروحيّين، بروح الوداعة؛ واحتطْ أنت لنفسك،
لئلاّ تُجرَّبَ أنت أيضاً. احملوا بعضُكم أثقال بعض، وهكذا تُتمّون ناموس المسيح.
فإنْ ظنّ أحدٌ أنّه بشيء، وهو ليس بشيء، فقد غرّ نفسَه. فليختبرْ كلّ واحد عملَه
الخاصّ، وحينئذ يكون افتخارُه من قبل نفسه، لا من قبل غيره. لأنّ كلّ واحد سيحملُ
حملَه الخاصّ) (غل 5: 26- 6: 6).

وهناك
وجه آخر من وجوه المحبة، يركّز عليه بولس، وهو الرحمة واحتمال الآخر والتسامح، كما
في الرسالة الى الكولسّيين. فيضع أوّلاً أساس العلاقات بين الناس، وهذا الأساس هو
كيانيّ. فالفروقات التي يرتكز عليها الناس لينفصلَ بعضُهم عن بعض قد زالت كلّها في
كيان المسيح الذي (هو كلّ شيء وفي كلّ شيء). فيقول: (لقد لبستم الإنسان الجديد،
الذي يتجدّد بالمعرفة على صورة خالقه. فثمّة ليس بعد يهوديّ، لا ختان ولا قلف، لا
أعجميّ ولا إسكوتيّ، لا عبد ولا حرّ، بل المسيح، الذي هو كلّ شيء وفي كلّ شيء) (3:
10-11). ثم يستخلص ما ينتج من هذا الكيان الجديد بالنسبة الى علاقات الناس بعضهم
ببعض: (فالبسوا إذن، أنتم مختاري الله وقدّيسيه وأحبّائه (نلاحظ هنا أيضًا تسمية
المسيحيّين الذين يتوجّه اليهم، انطلاقًا من عمل الله فيهم. فهم مختارو الله، لأنّ
الله اختارهم، وهم قدّيسو الله، لأنّ الله قدّسهم، وهم أحباء الله، لأنّ الله
أحبّهم. واستنادًا الى عمل الله فيهم، عليهم أن يتصرّفوا)، أحشاء الرحمة، واللطف،
والتواضع، والوداعة، والصبر. احتملوا بعضكم بعضًا، وتسامحوا، إن كان لأحد شكوى على
آخر؛ وكما أنّ الربّ سامحكم، سامحوا أنتم أيضًا)؛ ثمّ يختم واضعًا كلّ هذه
التعابير تحت قاسم مشترَك: (وفوق كلّ شيء البسوا المحبّة، التي هي رباط الكمال)؛
وواصفًا الجوّ الشامل الذي يجب أن يعيش فيه المسيحيّون، وهو (سلام المسيح):
(وليَسُدْ في قلوبكم سلامُ المسيح، الذي فيه دُعيتم لتكونوا فيه جسدًا واحدًا).
وتنتهي النصائح المسلكيّة بالدعوة الى الشكر والتسبيح والتمجيد: (وأخيرًا كونوا
شاكرين. لتحلّ فيكم كلمة المسيح بوفرة؛ علّموا وانصحوا بعضُكم بعضًا بكلّ حكمة؛
رنّموا بالنعمة لله في قلوبكم بمزامير وتسابيح وأناشيد روحيّة. ومهما أخذتم فيه من
قول وفعل، فليكن الكلّ باسم الربّ يسوع، شاكرين به لله الآب) (كو3: 12-17).


ومن أعمال المحبّة أيضًا عدم مجازاة أحد على شرّ بشرّ، ومحبّة الأعداء كما علّمنا
إيّاها السيد المسيح. فيقول في الرسالة الى الرومانيّين:

(ولتكن
المحبّة بلا رئاء؛ امقتوا الشرّ، واعتصموا بالخير. أحبّوا بعضُكم بعضًا حبًّا
أخويًّا، وليحسب كلّ واحد الآخرين خيرًا منه. كونوا على غير توانٍ في الغيرة، وعلى
اضطرامٍ بالروح، فأنتم تخدمون الربّ؛ وليكن فيكم فرح الرجاء؛ كونوا صابرين في
الضيق، مواظبين على الصلاة؛ ابذلوا للقدّيسين في حاجاتهم، واعكفوا على ضيافة
الغرباء. باركوا الذين يضهدونكم، باركوا، ولا تلعنوا. افرحوا مع الفرحين؛ وابكوا
مع الباكين. كونوا في ما بينكم على اتّفاق؛ لا تتوقوا الى الأمور الرفيعة، بل
ميلوا الى الوضيعة؛ لا تكونوا حكماء في عيني أنفسكم؛ لا تكافئوا على شرّ بشرّ؛
اعتنوا بفعل الخير أمام جميع الناس. سالموا جميعَ الناس إن أمكن، وما استطعتم الى
ذلك سبيلاً. لا تنتقموا لأنفسكم، أيّها الأحباء، بل اتركوا موضعًا للغضب، لأنّه قد
كُتب: لي الانتقام؛ أنا أجازي، يقول الربّ. بل بالحريّ، إن جاع عدوّك فأطعمه، وإن
عطش فاسقه؛ فإنّك، بفعلك هذا، تركمُ على رأسه جمرَ نار. لا تنغلب للشرّ، بل اغلب
الشرّ بالخير) (رو 12: 9-21).

وفي
ختام الرسالة الأولى الى التسالونيكيّين، يعود بولس الى موقف المسيحيّ من الشرّ:

(ثمّ
نسألكم أيها الإخوة أن تؤنّبوا المتكاسلين، وتشجّعوا صغيري النفوس، وتسندوا
الضعفاء، وتتأنّوا على الجميع. احذروا أن يُجازيَ أحدٌ آخرَ على شرّ بشرّ، بل
اقتفوا الخيرَ على الدوام بعضُكم لبعض وللجميع.. لا تُطفئوا الروح، ولا تزدروا
النبوّات. امتحنوا كلّ شيء وتمسّكوا بما هو حسن. احترسوا حتى من كلّ شبه شرّ.
وليقدّسكم إله السلام نفسه تقديسًا كاملاً) (1 تس 5: 14-23).

 

3-
المحبة تمام الناموس

يرى
بولس في المحبّة ملخّص كلّ الوصايا وتمامَ الناموس. فيكتب في رسالته الى
الرومانيّين:

(لا
يكن لأحدٍ عليكم حقّ ما خلا المحبّةَ المتبادلة؛ لأنّ من أحبّ القريبَ قد أتمّ
الناموس. فإنّ هذه الوصايا: لا تزنِ، لا تقتلْ، لا تسرقْ، لا تشهدْ بالزور، لا
تشتهِ، وكلَّ وصيّةٍ أخرى، تُلخّصُ في هذه الكلمة: أحببْ قريبَكَ كنفسكَ. إنّ
المحبّة لا تصنع بالقريب شرًّا؛ فالمحبّة هي تمامُ الناموس) (رو 13: 8 ي).

وكذلك
يقول في رسالته الى الغلاطيّين:

(فأنتم،
أيّها الإخوة، إنّما دُعيتم الى الحرّية. ولكن، لا تجعلوا هذه الحرّية فرصة للجسد؛
بل كونوا بالمحبّة خدّامًا بعضُكم لبعض. لأنّ الناموسَ كلّه يُتمّمُ في هذه
الوصيّة الواحدة: (أحبب قريبكَ كنفسكَ). فإذا كنتم تنهشون بعضُكم بعضًا، فاحذروا
أن تُفنوا بعضُكم بعضًا) (غل 5: 13-15).

في
هذه الكلمات تُجمَع وصايا اللوح الثاني من وصايا الله العشر الى قاسم واحد. وهنا
يتوجّه النّظرُ كلّه نحو عيش الناس معًا. وتحتلّ المهامّ في الجماعة مكانة مرموقة.
وفي الوقت عينه يفكّر بولس انطلاقًا من الله، الذي ينبغي على جميع المسيحيّين أن
يؤدّوا له العبادة الواجبة: (فأحرّضكم إذن، أيّها الإخوة، بمراحم الله، أن
تٌقرّبوا أجسادَكم ذبيحةً حيّة، مقدّسة، مرضيّةً لله؛ تلك هي العبادة التي يقتضيها
العقلُ منكم) (رو 12: 1). العبادةُ الحقيقيّةُ يجب أن تؤدّى في حياة العالم اليوميّة.

يقول
القديس أوغسطينس في عظته في رسالة القديس يوحنا الأولى: (ألزمْ نفسَكَ نهائيًّا
بالوصيّة القصيرة التالية: أحببْ، وافعلْ ما تشاء! إن صمتّ، فاصمتْ عن محبة؛ وإن
تكلّمتَ، فتكلّم عن محبة؛ وإن عاتبتَ، فعاتب عن محبّة؛ وإن داريتَ، فدارِ عن
محبّة. لتكن المحبّة متأصّلةً في قلبكَ. ومن هذه الأصول لن يزهرَ سوى الخير)
(مقالة،7 8). هذا القول “أحببْ، وافعل ما تشاء!” لا ينبغي أن يُفهَم
كأنّه يجوز للإنسان أن يتصرّف على هواه؛ فالمقصودُ بالحريّ هو أنّ كلّ الأعمال
الصالحة التي نفعلها تحصل على قيمتها الحقيقيّة من المحبّة.

وبما
أنّ المحبّةَ تحمل الحياة البشريّة من بدايتها حتى نهايتها، وتعبرُ بها الى عند
الله، يوجّه بولس النظر، في القسم الأخير من (نشيد المحبّة)، الى مسيرة الإنسان
على مدى حياته كلّها، والى اكتمالها الأخير لدى الله. ينضج الإنسان بانتقاله من
سنّ الطفولة الى سنّ البلوغ، ولكنّه لا يني (ينظر كما في مرآة، في إبهام) (1 كو
13: 12). ولا يمكن الوصول الى أقصى المعرفة والوضوح إلاّ لدى الله، الذي هو أوّلاً
قد عرفَ الإنسان. عن محبّة الله التي اختارتنا، لا يمكننا أن نجيب بغير المحبّة.
لذلك، فالإيمان والرجاء، اللذان هما الموقفان الأساسيّان للمسيحيّ في هذا العالم،
تتقدّم عليهما المحبّة: (الآن يثبت الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة؛ لكنّ
أعظمهنّ المحبّة) (آ 13).

الحياة
المسيحيّة هي مسيرة طويلة. كلّ مسيحيّ يمكنه أن يقول مع بولس الرسول: (ولا أعني
أنّي قد أصبتُ الهدف، أو بلغتُ الى الكمال. إنّما أواصل السعي لعلّي أدركُ المسيحَ
يسوع، لأنّه هو قد أدركني. لا، أيّها الإخوة، لست أحسب أنّي قد أدركت الغاية،
إنّما أمر واحد أجتهد فيه: أن أنسى ما ورائي وأمتدّ الى ما أمامي، ساعيًا نحو
الأمد، لأجل الجعالة العلويّة التي دعانا اليها الله في المسيح يسوع) (في 3:
12-14).

 

خلاصة

بدأنا
بالقول إنّ الحقيقة المسيحيّة ليست حقيقة نظريّة، بل هي واقع يعيشه كلٌّ منّا ليس
في فكره فحسب، بل أيضًا في حياته، استنادًا الى الواقع الذي اختبرناه في شخص يسوع
المسيح، وعاشه الرسل واختبروه. وأخذنا مثالاً بولس الرسول الذي يلخّص لنا، في
رسائله، اختبارَه للمسيح، ويدعونا الى أن نعيش نحن بدورنا هذا الاختبار. قال أحد
الكتّاب الروحيّين: (الله ليس اختراعًا، بل هو اكتشاف). والاكتشاف هو اكتشاف خبرة
حياة. ولدى كلّ اكتشاف، يملأ القلبَ شعورُ التعجّب والدهش. فكلّ مرة يكتشف العلماء
شيئًا في الكون أو في الطبيعة أو في جسم الإنسان، يملأهم التعجّب. وإذا كان الأمر
يعنينا شخصيًّا، كاكتشاف بولس الرسول لمحبّة الله التي تجلّت في المسيح يسوع،
ومحبّة الله له شخصيَّا، كما يردّد: (لقد أحبّني وبذل نفسَه عنّي) (غل 2: 20)،
يتحوّل التعجّب الى تأثّر يدخل الى صميم القلب، ويحمل على جواب يأخذ بشخص الإنسان
كلّه. وهذا التأثّر نقرأه في كلّ رسالة من رسائل بولس الرسول. فمن يقرأها بقلب
منفتح، تحرّك قلبه نحو الارتداد ليصير كلّ يوم أكثر فأكثر على مثال المسيح. قال
القدّيس يوحنا الذهبيّ الفم: (قلب بولس هو على مثال قلب المسيح). وقيل عن القديس
يوحنا الذهبيّ الفم: (قلب يوحنا هو على مثال قلب بولس). كلّ تلميذ للمسيح مدعوّ
إلى أن يكون قلبه على مثال قلب بولس وعلى مثال قلب المسيح. وهذا المثال لن يستطيعَ
المسيحيّ التوصّل اليه بقواه الذاتيّة، بل بالاتّحاد الدائم بالمسيح في الصلاة والعمل،
كما قال السيّد المسيح نفسه: (بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئا) (يو 15: 5)، وكما
قال بولس الرسول: (إنّي أستطيعُ كلّ شيء في الذي يقوّيني)(في 4: 13).

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى