اللاهوت الدفاعي

الفصل الثلاثون



الفصل الثلاثون

الفصل
الثلاثون

بولس
معلّم في عصرنا

ما
زال فكر بولس الرّسول بعد ألفَي سنة يحرّك الناس في عالمنا المعاصر. فشخصه
والتزامه وكتاباته وإرثه الرّوحيّ، كل هذا يقسم الناس بين موافق ومعارض. فرسول
الأمم ما زال واقفًا في وجه بطرس في ما يخصّ الحريّة المسيحيّة: المعمّد معمّد
سواء جاء من العالم اليهوديّ أو العالم الوثنيّ. لقد تحطّم حاجز الشّريعة وتحطّمت
أطر عديدة أمام ذاك الذي انتقل من عالم إلى عالم، من عالم كانت حياته الشّريعة إلى
عالم صار فيه المسيح حياته. ولغته القاسية. وتهديده للكورنثيّين باستعمال العصا
إذا احتاج الأمر. وما وصلت إليه الأمور حين أراد أن يرتّب الجماعة، فقاده تصرّفه
إلى فرض الصّمت على النّساء في الجماعة، فسمّي اليوم المعارض لكل حركة نسائيّة. من
أجل هذا تركه بعضهم، والآخرون هاجموه. ومع ذلك، ظلّت رسائله تُردّد في كتب ومقالات
لا يستطيع أحد مهما طال باعه أن يحيط بهذا الفكر الذي خافه الجميع بعد أن فجّر
المسيحيّة المسجونة في (شيعة) داخل أورشليم وأطلقها في طرق العالم.

سوف
نتوقّف في هذا العجالة عند فكره اللاهوتيّ وفكره الفلسفيّ وفكره الإجتماعيّ.

مقالات ذات صلة

 

1
– بولس وفكره اللاهوتيّ

نتذكّر
هنا أن أوّل ما وصل إلينا من كتابات العهد الجديد كانت رسائل بولس التي حملت إلينا
تعليمًا لاهوتيًا ما زالت تغتذي منه الكنيسة إلى اليوم ولن تزال حتى نهاية مسيرتها
على هذه الأرض(1).

أ
– قوام هذا التعليم

انطلق
كل شيء في حياة بولس من خبرته مع المسيح على طريق دمشق. لهذا، ملأ شخصُ يسوع قلبه
وتصوّره، بل قلبَ كلَّ مشاريعه. فيسوع هذا الإنسان الذي يمكن أن نقول عنه الشيء
الكثير، هو في العمق ذلك القائم من الموت. فالقيامة تعطي حياة المؤمن معناها،
وتسند رجاءه، وتفهمه معنى الصليب. هذا الصليب الذي اعتبره اليهود ضعفًا،
والوثنيّون حماقة، هو قدرة الله وحكمته. ولكن هذا لا يُفهم إلاّ على ضوء القيامة.
ونحن اليوم، حين نتحدّث عن عظماء التاريخ من قوّاد السياسة وموجّهي الفلسفة، لا
نستطيع أن نجمعهم مع يسوع: فهم ماتوا وماتوا. أما يسوع فحيّ إلى الأبد. هذا الذي
حسبه اليهود مات واعتبرته الشّريعة مخطئًا بعد أن جعل نفسه ابن الله، هو الآن حيّ
ويتدخّل في حياة المؤمنين وحياة اللامؤمنين. وبولس نفسه سمع صوته على طريق دمشق
فبدّل له ذاك الصوتُ حياته كلها. ذهب يضطهد المسيحيين، فعاد يبشّر بأنّ يسوع هو
المسيح. ذاك الذي تألّم ومات وقُبر، هو في الواقع حاضر في كنيسته حتى نهاية
الأزمنة.

هذا
المسيح الذي رآه بولس هو الرب. إياه يعلن كل لسان، وله تنحني كل ركبة في السماء
والأرض وتحت الأرض (فل 2: 10-12). لهذا هتف بولس: (إن كنتَ تعلن بفمك أن يسوع هو
ربّ، وتؤمن بقلبك أن الله أقامه من بين الأموات تخلص) (روم 10: 9). ونحن لا نقدر
أن نقول إن المسيح ربّ إلاّ في الروح القدس.

لهذا
سوف يتوسّع بولس في عمل الروح توسّعًا لم يجاره فيه سوى يوحنا. هذا الروح هو معرفة
وقدرة فاعلة، وخبرة نعيشها يومًا بعد يوم. هذا الروح يعمل في قلوبنا فيعلّمنا ما
يقوله الطفل لأبيه: أبّا، أيها الآب (غل 4: 6). هذا الروح هو واحد. وهو يحرّك فينا
المواهب المتعدّدة من أجل بناء الكنيسة. وهذه الكنيسة التي وُلدت من الروح تحيا
بالمحبّة.

منذ
البداية، وفي الرسالة الأولى إلى تسالونيكي، بدأ بولس يلقي هذا التعليم في
الجماعات التي يؤسّسها، بحيث حسبه بعض المفكّرين (مؤسّس المسيحيّة). لا شكّ في أنه
حاول أن يعبّر عما قاله يسوع في اللغّة الأراميّة، وينقله إلى العالم اليونانيّ
حيث نقرأ كل أسفار العهد الجديد. مثلاً، قال لأهل تسالونيكي: (اهتديتم إلى الله
وتركتم عبادة الأوثان لتعبدوا الله الحيّ الحقّ، منتظرين مجيء ابنه من السماوات،
وهو الذي أقامه الله من بين الأموات، يسوع الذي ينجّينا من الغضب الآتي) (1تس 1:
9-10).

 

ب
– من يسوع الناصريّ إلى بولس

كيف
نفهم أن بولس ذاك المثقّف بالفكر اليهوديّ والفلسفة اليونانيّة، قد امسكه يسوع
الناصريّ(2). قال في الرسالة إلى فيلبيّ: (أمسك بي يسوع المسيح) (3: 12). تغلّب
عليّ بعد صراع مرير. ونحن نفهم قوّة هذا الصراع من شراسة الاضطهاد الذي وجّهه بولس
على المسيحيّين. فما اكتفى بأن يمسك المسيحيّين في أورشليم ويزجّهم في السجون (أع
8: 3)، بل طلب رسائل من رئيس الكهنة كي يعتقل الرجال والنساء الذين يجدهم في دمشق
على مذهب الربّ ويجيء بهم إلى أورشليم (أع 9: 1-2).

ما
الذي ربط بولس بذاك اليهوديّ العائش في الريف الفلسطينيّ، بذاك النجّار الذي عايش
الشعب البسيط وصادق الخطأة؟ لقاء دمشق. بل سبق هذا اللقاء تساؤل حول وعظ الرسل بعد
القيامة. حكم رؤساء الكهنة على يسوع بالموت باسم الشريعة. ومات يسوع. إذن، كانت
الشريعة على حقّ. ولكن التلاميذ أعلنوا أن يسوع حيّ. هذا يعني أن الشريعة أخطأت،
وأن الأساس الذي جعل بولس حياته عليه قد انهار. فشلت الشريعة. بل فشلت ثقة بولس في
الشريعة. جاءت نهاية هذه الشريعة لأنها جعلت المسيح على الصليب.

هنا
تبرز الفكرة الأساسيّة التي يمكننا أن نسميّها فشل الديانة. فكل ديانة تنغلق على
ذاتها تصل بالإنسان إلى الصنميّة. وحين يظنّ الإنسان أنه يقدر أن يبني نفسه بنفسه
أمام الله، يعيش في الوهم والسراب. ظنّ اليهوديّ أنه بممارسة الشريعة يجعل الله في
(خدمته)، يفرض على الله أن يتبدّل. وظنّ (الوثنيّ) أنه بالبحث عن حكمة بشريّة
ومعرفة باطنيّة يستطيع أن يمسك الله ويجلبه إليه. الاثنان مخطئان بعد أن قرّر
الربّ أن يخلّص الجميع بحماقة الصليب: (اليهود يطلبون المعجزات، واليونانيّون
يبحثون عن الحكمة. أما نحن فننادي بالمسيح مصلوبًا، وهذا عقبة لليهود وحماقة في نظر
الوثنيّين) (1كور 1: 23-24).

اكتشف
بولس فشل مثل هذه الديانة التي تحاول أن تستولي على الله، واستسلم بكليّته
لمجانيّة النعمة. عندئذ تبدّلت صورة الله كما تخيّلها: ظنّه ذلك القويّ، فإذا هو
ضعيف جدّاً. ظنّه سيّدًا مستبدّاً،فإذا هو يتضامن معنا. يصبح خطيئة من أجلنا. لعنة
من أجلنا. ظنّه بعيدًا في أعلى سمائه، فإذا هو حاضر في آلامنا. تلك كانت خبرة بولس
في حضارته اليهوديّة. وفي حضارته اليونانيّة، بحث عن الفلسفة فما وجدها عند
الرواقيّين الذين اعتبروا نفوسهم أبرارًا حين يسيطرون على أهوائهم. أما موقف بولس
فبدا جذريّاً. قال: ليس الإنسان حرّاً، بل هو لا يستطيع أن يستعيد حريّته بقواه
الذاتيّة، لأن الخطيئة تغرّب الإنسان عن ذاته، وتجعله يقف في وجه الله. لهذا،
يحتاج الإنسان إلى من يأتي من الخارج. يحتاج إلى عمل الروح. نقرأ في روم 8: 2:
(شريعة الروح الذي يهبك الحياة في المسيح يسوع،حرّرتك من شريعة الخطيئة والموت..).
أجل. تجدّد المؤمن وتحوّل بروح الله الذي يعطيه يسوع، فاستطاع أن يخضع لمشيئة الله
التي لم تعد بالنسبة إليه شيئًا يُكرهه من الخارج، بل شريعة داخليّة في حياته
الجديدة.

 

ج
– لاهوت القدّيس بولس

هذه
النظرة الشخصيّة(3) دفعت عددًا من الشرّاح إلى أن يكتبوا لاهوت القدّيس بولس، وليس
فقط لاهوت رسالة من رسائله. لا شكّ في أننا نتوقّف بشكل خاص عند الرسائل التي
دوّنها بولس، وهي روم، 1كور، غل، فل، 1تس، فلم. وبدأ الشرّاح يعتبرون أن كو هي
رسالة بولسيّة. أما أف فجاءت بعد موت الرسول، شأنها شأن الرسائل الرعائيّة (1تم،
2تم، تي). أما 2تس فهي قراءة متأخّرة لما في 1تس حول أمور استجدّت بعد موت الرسول.

من
أجل هذا اللاهوت، نورد أربعة عوامل.

الأوّل،
هناك سمات في لاهوت بولس ارتبطت بديانة آبائه: ما تعلّمه في طفولته وفي صباه. وكل
هذا رافقه في خبرة دمشق وانطلاقة حياته الأوّلى مع المسيح. هذه السمات أساسيّة في
درجة كبيرة. منها الإيمان بالله الواحد كما اعلن في 1كور 8: 4. والإيمان بروح الله
الذي ليس صفة من صفات الله، بل شخص حيّ يعمل في المؤمنين وفي العالم. وعمل النعمة
الذي اختار شعبًا من الشعوب، بل يختار كل واحد منا (قبل انشاء العالم لنكون عنده
قدّيسين بلا لوم في المحبّة) (أف1: 4). تلك كانت مسيرة بولس الذي كان يهوديّاً
فصار مسيحيّاً: اعتبر أنه تعمّق في نصوص العهد القديم، والتقى بالربّ فاستضاءت هذه
النصوص وحملته إلى المسيح.

والعنصر
الثاني في اللاهوت البولسيّ، هو الإطار الإسكاتولوجيّ في وحي المسيح (غل 1:
12-16). فما أخذه الرسول من العالم اليهوديّ قد تحوّل وتبدّل. فالله الواحد هو إله
ربنا يسوع المسيح وأبوه (أف 1: 3). والروح هو روح يسوع المسيح. ونعمة الاختيار
والخلاص التي حدّدت في وقت من الأوقات شعب اسرائيل، ووجدت الآن ذروتها في المسيح،
ربطت الخلق بالخلاص فتسامت على شعب من الشعوب لتصل إلى جميع الشعوب. لهذا، قال
بولس في روم 1: 14: (عليّ دين لجميع الناس من يونانيّين وبربر). وقال: (إنجيل
المسيح هو قدرة الله لخلاص كل مؤمن. لليهوديّ أوّلاً ثمّ لليونانيّ (آ 16).

ثالثًا،
إن التفاعل الأساسيّ بين فكر بولس الأوّل، واللاهوت المسيحيّ السابق لبولس، ووحي
المسيح لبولس نفسه، كل هذا لم يسر مسيرة متواصلة تبرز في شكل واحد. فهناك أحداث
وأزمات لعبت دورًا هامًا. نشير هنا إلى أزمة الكورنثيّين المتعلّقين بالحكمة. ولكن
بولس توسّع في الكلام عن الحكمة بالنظر إلى المسيح، بالنظر إلى صليب المسيح. ونقول
الشيء عينه عن الشريعة. هناك من حدّد التبرير في ألفاظ تتحدّث عن الفرد الذي يجد
السلام مع الله، وأعلن قطيعة بولس مع الشريعة على طريق دمشق. ولكن ما قاله بولس في
غل 1: 13-16 يفهمنا أن الظهور لرسول الأمم اعتُبر أنه نداء لحمل ذات الإنجيل الذي
اضطهده (إلى الأمم)، ونداء للانفتاح على الوثنيين. لا شكّ في أن هذا اليقين بدأ مع
خبرة دمشق. وجاءت أزمة الغلاطيّين فعجّلت في فتح الطريق إلى العالم الوثنيّ.

والعنصر
الرابع في لاهوت بولس هو التفاعل مع أوضاع خاصة لدى الأشخاص الذين يكتب إليهم.
لهذا، يبدو تعليم الرسول جانبيّاً في السياق الذي يرد فيه، وضعيفًا أمام تفسير
يشدّد على الاختلافات. فهذه الاختلافات تعبير ضروريّ عن أوضاع متنوّعة يحاول أن
يردّ عليها. هذا يعني تطوّر الفكر البولسيّ مع الزمن(4). ولا سيّما على مستوى
الكلام عن النهاية ومجيء المسيح.

 

2
– بولس وفكره الفلسفيّ

حين
انطلق بولس من العالم اليهوديّ الذي تربّى فيه، اصطدم بالشريعة، التي رذلها حين
اعتبرت نفسها طريق خلاص. وهكذا لم يفهمه اليهود في عصره، فغضبوا عليه، ولاحقوه من
مدينة إلى مدينة، وفي النهاية أرسلوه موثوقًا إلى قيصر قبل أن يموت: قطع رأسه على
طريق اوستيا بجوار رومة. أترى سيكون حظّه أفضل إن هو انطلق من العالم اليونانيّ
بفلسفته، وبولس هو ابن الحضارة اليونانيّة التي عرفها في طرسوس فتحدّث عن شعرائها
وفلاسفتها (رج أع 17: 21-29)؟ هنا ننتقل إلى فكر بولس الفلسفيّ ولا ننسى أن
الأسفار الحكميّة في العهد القديم فتحت الطريق أمام تعليم يتوجّه إلى البشريّة
كلها، لا إلى شعب من الشعوب وعرق من الأعراق. ونحن نتوقّف عند نظرة إلى الإنسان
كشخص حرّ ومسؤول عن أعماله في مجتمع منفتح ومتعدّد الوجوه.

أ
– دور الفرد في المجتمع

اعتاد
الفلاسفة(5) أن يميّزوا بين الفرد الذي يبرز وجهه في إطار اجتماعيّ محدّد. والذات
التي تدلّ على الفرد حين يعبّر عن نفسه في صيغة المتكلّم المفرد (أنا) وباسمه
الشخصيّ. والأنا الذي يدلّ على الإنسان الواعي لداخليّته ولوحدته. نتحدّث عن الفرد
في سيرة نكتبها عنه. ويتحدّث الإنسان عن ذاته في السيرة الذاتيّة. ونجد الأنا في
الذكريات الحميمة(6). كل هذا نكتشفه عند بولس حين يتحدّث عن صراعه مع نفسه (روم 7:
11-25)، وعن سيرته داخل الجماعات ولا سيّما في غلاطية حيث اعتبر نفسه رسولاً مثل
سائر الرسل (غل 1: 2)، وعن اعتباراته حول العمل الرسوليّ (1كور 1-4؛ 2كور 2-7)،
وعن لاهوت البرّ كما صاغه بشكل خاص في بداية الرسالة إلى رومة والرسالة إلى
غلاطية.

إن
اكتشاف الأنا كذات شخصيّة وعنصر مكوّن لكل انسان، ينتج عن اختبار شخصيّ هو وحي
تلقّاه الرسول من عند الله. فالله كشف عن نفسه لبولس على أنه الآخر الآخر. وهذا
الكشف ولّد هويّة جديدة لديه. قال بولس في غل 2: 10: (وكل ما طلبوه منا أن نتذكّر
الفقراء، وهذا ما بذلت في سبيله كل جهد). الأنا يتعرّف إلى الأنت. غير أن هذا
الأنت ليس مثلك: الواحد يهوديّ والآخر وثنيّ. وهكذا نكون أمام مجتمع جديد جهله
العالم اليهوديّ كما جهله العالم اليونانيّ والرومانيّ. مجتمع يتميّز بالشموليّة
والتعدّديّة. نحن بعيدون كل البعد عن شموليّة تشبه ما في الفكر الرواقيّ، ولكنها
تترك جانبًا ما ليس يونانيّاً (رج كو 3: 11: لا أعجميّ أو بربريّ). إن هذه النظرة
الجديدة إلى الإنسان، وهي نتيجة وحي خاص من الله، تبقى الأساس لمجتمع جديد يعرف
الشمول والتنوّع.

هنا
جاء من يجعل بولس في فئة المحافظين أو في فئة التقدميّين. اعتبروه محافظًا بالنسبة
إلى النساء حين أمرهنّ بالسكوت في (الكنيسة). واعتبروه مستبدّاً حين فرض رأيه بحزم
في تنظيم الكنائس. والمثال على ذلك، ما يقوله في 1 كور 11: 11: (فإن أراد أحد أن
يعارض، فما هذا من عادتنا ولا من عادة كنائس الله). هذا يعني: انتهى النقاش.
واتّهموا بولس بالتشدّد تجاه بعض (زملائه) في الرسالة فاعتبروه ضيّق التفكير.

ولكن
بولس يحاول في الواقع أن يكون تقدميّاً. أن يكون منفتحًا على الآخر من أجل مجتمع
يضمّ البشريّة كلها، بحيث لا يبقى يهوديّ ويونانيّ، عبد وحرّ، رجل وامرأة: (فكلنا
واحد في المسيح) (غل 3: 28). وكلنا نشارك في وعد ناله ابراهيم، وفي ميراث (آ 29).
هاجم الرسول في غل و2 كور أشخاصًا يعلنون إنجيلاً آخر غير إنجيل الله الذي كرز به
هو (غل 1: 6-8). مثل هؤلاء يستحقّون اللعنة، لا البركة من الله. وما الذي حدا
ببولس إلى هذا القول؟ رفضُه للنظام القديم الذي يجعل حواجز بين فئة وفئة، ويدلّ
على اختلاف بين رسول دعاه المسيح خلال حياته على الأرض، وبين آخر دعاه بعد قيامته.
فما قيمة تمييز يتحدّث عن رسل من الدرجة الدنيا ورسل من الدرجة العليا. قال بولس:
(لا أظنّ أني أقلّ شأنًا من أولئك الرسل العظام) (2 كور 11: 5). ما يهاجمه الرسول،
سلطة مستبدّة تفرض نفسها وحدها تجاه مجتمع ينفتح على الآخرين ولا يتوقّف عند معرفة
يسوع بحسب الجسد (2كور 5: 16) أو صفات بشريّة كالبلاغة والفصاحة (2 كور 11: 6).
أما في ما يتعلّق بالمرأة فموضوع نعود إليه في القسم الثالث من كلامنا. ولكننا منذ
الآن نعرف أن للمرأة ذات الحقوق والواجبات التي للرجل في فكر بولس الذي يشير إلى
مسائل الحشمة من أجل سلوك يليق بالكنيسة.

 

ب
– أبعد من المحيط اليهوديّ واليونانيّ

تحدّث
الرسول عن الذات التي تتكوّن في حوار مع الآخر، وعن مجتمع لا يبقى حيّاً إلاّ إذا
انفتح على الآخرين. فجاء من يتّهمه بأنه محافظ وأصوليّ ومتعصّب. ولكن هذا الاتّهام
هو ما سيدلّ على قوّة فكر الرسول وما فيه من جديد. فهناك حدث لم يتوقّعه حصل في
حياته فقاده فجأة إلى التخلّي عما كان حتى الآن يقينه الأساسيّ، وإلى التوسّع في
نظرته إلى الله وإلى الإنسان بشكل يختلف عما في العالم اليهوديّ والعالم
اليونانيّ، وإلى ممارسة ما اكتشفه في الجماعات التي أسّسها.

ففي
نظر بولس، يقوم برّ الله بالنظر إلى الإنسان في ذاته، بمعزل عن صفاته وانتماءاته،
وبتحريك هذا الوعي لديه على أنه ذات عارفة وحرّة. أجل، ما نقوله اليوم عن (الأنا)
كفرد وكشخص مسؤول عن حياته الخاصة، أمر تحدّث عنه بولس قبل الفلاسفة الذين جاؤوا
على مرّ العصور. فنحن لا نعرف حركة إرساليّة واحدة في تاريخ الكنيسة الأولى، حرّكت
مثل هذا العدد من المعاونين الآتين من أفق مختلفة، كما فعلت المجموعة البولسيّة.
فبولس لا يعمل أبدًا وحده، بل يتعاون مع أشخاص يتمتّع كل واحد بشخصيّته الخاصة.
هنا معاونون دائمون مثل تيموتاوس، ومعاونون ظرفيّون لهم مشروعهم الخاص مثل أبلوس
(1كور 16: 12) أو برسكلة وأكيلا. وهناك آخرون يرسَلون إليه لوقت محدّد ومهمّة
معيّنة، مثل تيطس الذي كان مسؤولاً عن جمع المعونة للكنيسة (2كور 7: 5-9-15).

بولس
هو مؤسّس ما دُعي (المجتمع المنفتح). فنظرته إلى الله والإنسان دفعته إلى أن يؤسّس
(كنائس) يلتقي فيها اليهوديّ والوثنيّ، العبد والحرّ، الرجل والمرأة (غل 3: 28).
والحياة السياسيّة والفكريّة في العالم اليونانيّ، كوّنت هويّته فابتعد عن
البرابرة في عزلتهم، وعن العالم اليهوديّ الذي يشدّد على اختيار يفصله عن
الوثنيّين. حين قال: لا يونانيّ ولا يهوديّ، أعلن أن مختلف أشكال التمييز التي
تستعملها المجموعات لتدلّ على هويّتها، قد ولّت وانتهت. وحين قال: لا عبد ولا حرّ،
تنكّر لإيديولوجيّة الإمبراطوريّة الرومانيّة التي قسّمت الناس فئتين، وهي قسمة لا
نزال نجدها في عالمنا المعاصر. وحين قال: لا رجل ولا امرأة، اتّخذ موقفًا واضحًا
بالنسبة إلى المدارس الفلسفيّة والمجتمعات المحليّة التي تكتفي بالذكور ولا تحسب
حسابًا لوجود المرأة.

إن
التمييز بين الرجل والمرأة لا يعني أنه لم يعد اختلاف بينهما. وكذا نقول عن
التمييز بين اليونانيّ واليهوديّ، بين العبيد والأحرار، بين الأغنياء والفقراء،
بين الصغار والكبار. هذا التمييز يعني أن لكل واحد شخصيّته، وأن لا شخصيّة تذوب في
شخصيّة الآخر، كما يحدث مرارًا في مجتمعنا الزواجيّ الشرقيّ. كما لا نذوب في
المجتمع، على مثال ما كان في العالم العبرانيّ القديم وفي العالم الهلينيّ، بل
العالم الحديث، حيث صار الإنسان قطعة في آلة كبيرة لا نفس فيها ولا روح. التعدديّة
هامة كي يحافظ كل واحد على غناه وينمّي هذا الغنى. ولكن التعدديّة لا تعني تشديدًا
على الخلافات بحيث تزول كل نقاط التلاقي. فالتعدديّة تصبح غنى أكبر عندما يلتقي
الإنسان مع الآخر في وحدة لا يلغي فيها الواحدُ الآخر، ولا يصبح فيها الواحد
امتدادًا للآخر. والشموليّة تعارض نظرة اليونانيّ الذي يرفض اللايونانيّ ويعتبره
من عالم الهمج. كما تعارض نظرة اليهوديّ الذي يرفض اللايهوديّ ويعتبر أن الله
اختاره وحده دون الآخرين. فإن كان من اختيار إلهي لشعب من الشعوب أو لفرد من
الأفراد، فمن أجل الخدمة لا من أجل السيادة، من أجل العطاء لا من أجل الأخذ، من
أجل التواضع لا من أجل التسلّط والاستعلاء على الآخرين. في هذا قال بولس الرسول:
(من ميّزك أنت على غيرك؟ وأي شيء لك ما نلته من الله؟ فإن كنت نلته من الله
(كعطيّة مجانية)، فلماذا تفتخر كأنك ما نلته) (1كور 4: 7)، فتعتبر أنك صرت إلى ما
أنت عليه الآن بقدرتك الذاتيّة؟

 

ج
– حدث بدّل حياة الرسول

أكّد
بولس على ما يسميّه الفلاسفة اليوم: أنا. فأنا موجود كشخص بمعزل عن صفاتي وعن
انتماءاتي. أما الناس فيقولون أنا موجود إذا كنت طيّب المعشر. وإلاّ لا وجود لي.
أنا موجود لأني انتمي إلى هذه المجموعة، وأكبر حين أنال تلك الوظيفة أو أكون قريب
شخص مهمّ! كلا. فأنا أنا أمام الله وفي علاقتي مع القريب. أعيش ما أعطي لي من قبل
الربّ وأراعي الآخرين في ما يميّزهم عني. ويُطرح السؤال: من أين جاء بولس بهذه
النظرة العميقة في مجتمع اعتاد أن (يستغَلّ) الفرد ولا سيّما إذا كان ضعيفًا،
صغيرًا، فقيرًا؟ هي خبرة طريق دمشق.

في
الرسالة إلى غلاطية، شدّد بولس على الغنى الفائق الطبيعة الذي ناله من الربّ.
فالحقيقة التي وصل إليها جاءته من الربّ الذي اختاره وهو في بطن أمه ودعاه إلى
خدمته (غل 1: 15). هناك تقليد يهوديّ عريق، عاش فيه بولس وها هو يقف تجاهه ولا
يخاف أن ينتقده ولا سيّما على مستوى الشريعة. وهناك تقليد يونانيّ عرفه بولس في
الجامعة، في طرسوس بتركيا. وها هو الرسول يتجاوزه. فدعوته هي التي تؤسّس حياته
فتحمل إليه حقيقة الإنجيل. بل إن بولس بدا مستقلاً حتى عن الرسل، حتى عن بطرس
نفسه. هذا لا يعني أنه لا يرتبط بالإنجيل الذي سمعه في الجماعات المسيحيّة، في
بلاد العرب (غل 1: 17)، أي في حوران بسورية وفي شرقي الأردن. فقد تسلّم التعليم من
الكنائس التي عاش فيها وسلّمه إلى كنائس أسّسها. ولكنه أخرجه من إطاره الضيّق الذي
صعب عليه الخروج من أورشليم والانطلاق على طرقات العالم ليصل إلى أقاصي الأرض(7).

دعوة
الرسول حدث هام في حياته. بل هي الحدث الذي أعطى بعدًا جديدًا لذاك الذي كان
بالإمكان أن يبقى ذاك الفريسيّ العائش في مدينة طرسوس، العامل بيديه في مهنة
الحياكة. هذا الحدث بدّل حياته كلها. أغرم بالمسيح فصار سجينه في المعنى الماديّ
وفي المعنى الروحيّ (أف 3: 1)، بل عبدًا له مع أنه حرّ (1كور 7: 22). حين فهم
يسوعَ المسيح، نما في المعرفة واقتنى وعيًا جديدًا: استعدّ أن يخسر كل شيء تجاه
الربح الأعظم، تجاه معرفة لا تضاهيها معرفة (فل3: 8). فانقلب من مضطهد للكنيسة إلى
رسول الأمم. تحوّلٌ في فكر الرسول، تحوّل في حياته كلها. كل هذا رآه الناس فمجّدوا
الله (غل 1: 24).

كان
بولس ذاك الفريسيّ المقتنع بفريسيّته وما فيها من معرفة للكتب المقدّسة. فاعتبر أن
يسوع تجاوز الشريعة، أنه كان معلّمًا أضلّ الجموع، فحُكم عليه بالموت واعتُبر
ملعونًا من الله، لأنه كُتب: ملعون كل من علّق على خشبة (غل 3: 13؛ رج تث 21: 23).
ولكنه عرف بخبر يسوع من المسيحيّين الذين يضطهدهم: هم ينتمون إلى يسوع ويتعاملون
بحريّة مع الشريعة. ومن الفريسيّين الذين ظلّوا يحاربون يسوع بعد موته في خط يو7:
33-35. يسوع (رجل أكول وسكيّر، وصديق للعشّارين والخطأة). فماذا تريدون بعد ذلك؟
فمن كان حكيمًا يفهم. وسار اليهود في خط حكمتهم. في خط شريعتهم التي تحمل وحي
الله. ولكن خبرة طريق دمشق أفهمت بولس أن الله لا يمكن أن يكون إله شريعة تمارَس
بهذا الشكل. في هذا النزاع بين الشريعة ويسوع، فضّ الله النزاع: دلّ على أن هذا
المصلوب هو ابنه الحبيب. وأن موته كان ذبيحة من أجل الخطأة، وقد قبلها الله حين
أقام ابنه من بين الأموات وأجلسه عن يمينه. وانطلقت حياة بولس من هذا اللقاء
الأساسيّ الذي أسّس حياته الجديدة: دعاه الله ليكون رسولاً. اختاره ليعلن الإنجيل
(روم 1: 1).

فهم
في هذا اللقاء ثلاثة أمور: برّ الله هو أساس كل احترام للإنسان. أي إن الله
يعتبرنا ابناءه، يقدّسنا، يخلّصنا، لا بسبب أعمال عملناها، بل برحمته. بل لأنه
يحبّنا. هو يحبّنا لأننا نحن ولأنه هو. وذلك بمعزل من صفاتنا ومزايانا. حين كنا
بعد خطأة أحبّنا الله. وارسل ابنه فمات من أجلنا (روم5: 9). فالإنسان يُحَبّ لأنه
انسان. ففيه انطبعت صورة الله. وفهم بولس أيضًا أن صليب المسيح يحوّل الإنسان،
يجعله خليقة جديدة. لا الختان ولا عدم الختان. بل الصليب الذي هو عبور من الموت
إلى القيامة. وحين يصير الإنسان ما يصير إليه، يعرف أنه حرّ في أن يطلب معنى
وجوده، وأن يتقبّل معنى حياته، فيختار ذاته اختيارًا مسؤولاً. كنا عبيدًا، فحرّرنا
المسيح من الخطيئة واللعنة. وهكذا لم يعد إله بولس إله الشريعة، بل إله يسوع
المصلوب الذي بدا بلا صورة ولا منظر ولا بهاء (أش 53: 2). ولكن الله أقامه. وهو
يفعل كذلك معنا سواء كنا يهودًا أو يونانيّين، أبرارًا أو خطأة.. فيا لسعادتنا إن
عرفنا أن نسمع صوته ونبني حياتنا على ندائه.

والأمر
الثالث الذي فهمه بولس هو أن الإيمان ثقة بالله واتكال عليه. نقرأ في روم 1: 17:
(من إيمان إلى إيمان). آمن الله بنا. وهو يطلب منا أن نؤمن به. جعل ثقته فينا.
أقامنا مسؤولين عن ذواتنا، عن اخوتنا، عن العالم. اعتبرنا كبارًا، لا صغارًا
وقاصرين. وانتظر منا جواب الإيمان العامل بالمحبّة. الله نفسه آمن بالإنسان. فكيف
لا يؤمن الإنسان بالإنسان على أنه شخص حرّ، على أنه أنا يتفاعل مع آخرين من أجل
بناء مجتمع جديد، يلتقي فيه التعدّد مع الوحدة والفرادة مع الشموليّة.

 

3
– بولس وفكره الإجتماعيّ

خلال
مسيرتنا مع القدّيس بولس، أشرنا إلى العلاقات الاجتماعيّة(8) داخل الكنيسة
المحليّة، أو في الكنيسة ككلّ، كما نكتشفها في الرسالة إلى أفسس أو إلى كولسي. هذه
العلاقات فصّلتها غل 3: 28: العلاقة بين اليهوديّ واليونانيّ. بين العبيد
والأحرار. بين الرجال والنساء.

أ
– اليهوديّ واليونانيّ(9)

اعتادت
الفئات المختلفة أن تقسم البشريّة قسمين: هي والآخرون. هي على حقّ. والآخرون هم
على ضلال، ولن يصلوا إلى الحقّ إلاّ إذا التحقوا بنا. فإذا وقفنا في العالم
اليهوديّ، نعتبر الآخر لايهوديّاً. هذا مع العلم أن اليونانيّ كان أرفع حضارة من
اليهوديّ بدأ هذا التمييز بين ما هو يهوديّ وما ليس يهوديّ منذ اتصال الشعب
العبرانيّ بسائر الشعوب بعد أن كان منغلقًا على نفسه داخل أرض كنعان. هناك إله
العبرانيّين وآلهة الشعوب. وبالتاليّ هناك الشعب العبرانيّ وسائر الأمم. وسوف
يبيّن ابن سراخ مثلاً أن تعليم الشريعة يتفوّق على تعاليم الفلسفة اليونانيّة. كما
تحدّث سفر الحكمة عن رضى الله على شعبه فميّزه مثلاً عن الشعب المصريّ، ولا سيّما
في حقبة الخروج.

وهذا
الخلاف بين فئتين بدأ داخل الكنيسة. أوّلاً، بين يهود من فلسطين يتكلّمون اللغة
الأراميّة القريبة من العبريّة. وبين يهود جاؤوا من الشتات فتكلّموا اليونانيّة. وكادت
جماعة أورشليم تنقسم على ذاتها. لا شكّ في أن الانقسام ظهر على مستوى توزيع
المساعدات الماديّة. ولكن هذا الانقسام كان تعبيرًا عن انقسام أعمق. وهكذا تميّز
العنصر العبرانيّ عن العنصر اليونانيّ، فاهتمّ الرسل (بالعبرانيّين) والسبعة
(باليونانيّين) (أع 6: 1-6). وسوف نرى اسطفانس يموت واخوته (اليونانيّون) يلاحقون،
فيتشتّتون، ساعة كان الرسل في سلام (أع 8: 1). وتوسّع الانقسام داخل الكنيسة
الأولى، ساعة كثُر العنصر اليونانيّ الآتي من العالم الوثنيّ (أع 11: 20-21) إلى
جانب العنصر اليهوديّ. وكان (المجمع) الأوّل الذي لم ينته في وفاق تام. فالخط
الأوّل أعلن أن الخلاص يقدّم للجميع بالإيمان، لا بشيء آخر (أع 15: 11: نحن نخلص
بنعمة الربّ يسوع كما هم يخلصون). أما الخط الثاني، فعاد إلى الشريعة اليهوديّة
كما نقرأها في سفر اللاويّين، وفرض على الوثنيّين ما هو خاص بفئة ستصبح أقليّة في
الكنيسة (أع 15: 29).

غير
أن بولس رفض هذا الانقسام بين مؤمنين جاؤوا من العالم اليهوديّ وآخرين جاؤوا من
العالم الوثنيّ. سمع من يقول للوثنيّين: (لا خلاص لكم إلاّ إذا اختُتنتم على شريعة
موسى) (أع 15: 21). وكان منطقيّاً مع نفسه في اجتماع الكنيسة في انطاكية، فرفض
تراجعَ بطرس ومن معه، وتألّم من موقف برنابا رفيقه في الرسالة. ولم يكن كلامه
معسولاً وهو رجل المبادىء التي تنبع من الإنجيل. قال: إن كنت أريد أن أرضي الناس
فلا اكون خادمًا للمسيح يسوع (غل 1: 10). ماذا فعل؟

انتقل
من منطق إلى منطق. من موقف منغلق ومنعزل إلى موقف منفتح على الجميع. ترك منطقًا
يقول إن الله هو فقط إله اليهود. وقال: هو إله جميع الأمم. اعتبر اليهوديّ أنه
يتميّز عن الآخرين لأنه مختون. فاسقط بولس برهانه: لم يبرّر ابراهيم بالختان، بل
بالإيمان (روم4: 11). الختان خاص بفئة قليلة، أما الإيمان فهو علاقة الإنسان، كل
انسان، بالله. واعتبر اليهوديّ أن عنده شريعة حملتها الملائكة. فزعزع بولس هذا
اليقين: هل يمارس اليهوديّ وحده الشريعة؟ اليونانيّ يسرق واليهوديّ أيضًا.
اليونانيّ يزني واليهوديّ أيضًا. فماذا تنفع مثل هذه الشريعة التي تجعل الناس
يجدّفون على اسم الله بسبب (شعبه)؟ ويمضي بولس أبعد من ذلك: المختون الحقيقيّ، أي
المنفتح على كلمة الله، هو الذي يعمل بأحكام الشريعة، لا ذاك الذي يفتخر بالشريعة
ولا يمارسها.

وفي
النهاية، هل من امتياز بين يهوديّ ووثنيّ؟ الجواب: كلا. فكلّهم خطأة. وكلّهم بحاجة
إلى الخلاص بيسوع المسيح. لا شكّ في أن لليهوديّ شريعة ووصايا إن عمل بها المؤمن
يحيا (روم10: 5). ولكن الوثنيّ يمتلك الضمير الذي هو صوت الله فيه. فإن نال
اليهوديّ المجد والكرامة والسلام، كذلك ينالها الوثنيّ. ينالها كل من يعمل الخير،
لأن الله لا يحابي أحدًا، لا يفضّل انسانًا على آخر. وكل من يرفض الحقّ وينقاد
للباطل، سواء كان يهوديّاً أو يونانيّاً، ينال عقاب الله (روم 2: 6-15).

وهكذا
خرج بولس من الختان الذي يميّز اليهوديّ عن الوثنيّ، وجمع اليهوديّ والوثنيّ في
الإيمان بالله الذي أحبّنا وأرسل ابنه كفارة عنا. وخرج من عالم الشريعة الموسويّة
كما حدّدها المعلّمون بحيث ما عاد اليهوديّ نفسه يستطيع أن يمارسها (غل 2: 14؛ رج
3: 10: ملعون من لا يثابر على العمل بكل ما جاء في الشريعة). وأبرز الضميرَ الذي
هو صوت الله في الإنسان، في كل إنسان. وهكذا لم يعد من تمييز بين إنسان وإنسان بعد
أن صار الجميع واحدًا في المسيح (غل3: 28).

 

ب
– لا عبد ولا حرّ(10)

انقسم
العالم القديم بين يهوديّ ولا يهوديّ. وكانت قسمة ثانية بين يونانيّ ولا يونانيّ
(بربر، اسكيتيّ 2كو 3: 11). والقسمات تتوالى حتى اليوم فتفرّق الناس على مستوى
العرق واللون والدين والمركز الإجتماعيّ. والقسمة الكبرى على المستوى الإجتماعيّ،
في العالم القديم، كانت بين عبيد وأحرار. حين نعلم أن كورنتس عدّت 600000 منهم ثلث
من الأحرار وثلثان من العبيد. وحين نعرف أن رومة عرفت في القرن الأوّل ق.م. ثورة
العبيد بقيادة سبارتاكوس. وحين نتذكّر كيف كان الأسياد يعاملون عبيدهم، نفهم هذه
المسألة الكبيرة التي جابهتها المسيحيّة القائلة بأن الجميع هم على صورة الله. بأن
لا فرق بين عبد وحرّ.

ماذا
كان موقف بولس في هذا المجال؟ هو الذي أطلق هذا المبدأ: لا عبد ولا حرّ (غل 3:
28). وقال في 1كور12: 13: (فنحن كلنا، أيهودًا كنا أم وثنيّين، عبيدًا أم أحرارًا،
تعمّدنا بروح واحد لنكون جسدًا واحدًا، وارتوينا من روح واحد). صرنا كلنا مسيحيّين
بعد أن شاركنا في أسرار التنشئة، في المعموديّة والتثبيت والإفخارستيّا، فسرى في
عروقنا الدمُ الواحد، وتغذّينا بالطعام الواحد، وارتوينا بالروح الواحد. إن ما يوحّدنا
هو أكبر بكثير ممّا يبعدنا. وهنا نعود إلى المبدأ: لا يحبّ الله الإنسان لأنه حرّ.
ولا يكره ذاك الذي هو عبد. فإلهنا واحد وهو إله الجميع وأبو الجميع.

موقف
واضح على مستوى الإيمان. وماذا كان على مستوى الممارسة؟ دعا بولس، أو تلاميذه،
العبيد ليخضعوا لأسيادهم بخوف ورهبة (أف 6: 5). وقال في كو 3: 22: (أيها العبيد،
أطيعوا في كل شيء سادتكم في هذه الدنيا). وما اكتفى الرسول بتذكير العبيد
بواجباتهم، بعد أن جعل أمانتهم في إطار الإيمان، بل ذكّر الأسياد بواجباتهم، لأن
لهم سيّدًا في السماء. قال: (أيها السادة، عاملوا عبيدكم بالعدل والمساواة) (كو 4:
1). حين نعلم أن العبد هو شيء في يد سيّده، يشتريه ويبيعه كما يشتري ويبيع كل
متاع، ندرك الثورة التي نادى بها بولس والتي سوف نراها في الرسالة إلى فيلمون. صار
اونسيمس، العبد الذي ترك سيّده فيلمون، والتحق ببولس، صار ابن بولس شأنه شأن
فيلمون. قال بولس: (ولدته في الإيمان) (آ 9). فما عاد ملكًا لك. بل صار ملك
الرسول، وبالتالي ملك الربّ يسوع. أجل، في المسيحيّة يتحوّل العبد من حالة إلى
حالة. يصبح أخًا حبيبًا (آ 16). في هذا الشأن قال بولس: (فما أنت بعد الآن عبد، بل
ابن. وإن كنت ابنًا، فأنت وارث بفضل الله) (غل 4: 7).

انتظر
عصرنا، عصر الثورات التي تحمل الموت مرارًا، أن يتّهم بولس بأنه لم يدع إلى ثورة
يقوم بها العبيد على أسيادهم. فكيف يرضى بولس. وكيف يرضون بهذا الوضع بعد اليوم.
ولكن بولس رأى الوقت غير مؤات. بل إن العبوديّة ظلّت مسيطرة في العالم حتى القرن
الثامن عشر، بل هي لا تزال حاضرة في أماكن عديدة من العالم. لهذا، عاد بولس إلى
المبدأ الأساسيّ: الإنسان يجد عظمته في ذاته. يجد كرامته في المسيح. إذن، يبقى هو
هو سواء كان حرّاً أو عبدًا. فالدعوة لاتّباع المسيح في العبوديّة كاتّباعه في
الحريّة. فهو لا يفرّق بين عبد وحرّ. وفي الوقت عينه، يقول الرسول: (إن كان
بإمكانك أن تصير حرّاً، فالأولى بك أن تغتنم الفرصة) (1كور 7: 21). وفي أي حال
المؤمن هو رسول المسيح ويمكنه أن يكون حرّاً بالنظر إلى إيمانه تجاه سيّد يمكن أن
يكون عبد أهوائه وخطيئته (2بط 2: 19؛ يو 8: 34).

 

ج
– الرجل والمرأة أمام الربّ

نبدأ
فنطبّق في هذا المجال الثالث ما قلناه على مستوى العبد والحرّ. على مستوى الإيمان،
يعتبر بولس أن المرأة مساوية للرجل. لها ما له من حقوق. وعليها ما عليه من واجبات.
ولكن على المستوى الحضاريّ، راعى بولس عددًا من الظروف لئلاّ يضع البلبلة في
الجماعة، ولا سيّما في إطار العالم اليونانيّ حيث أخذت المرأة ببعض الأمور التي
شكّكت المرأة اليهوديّة في الكنيسة.

وننطلق
من الرسالة الأولى إلى كورنتوس(11)، التي طُرح فيها عدّة أسئلة على بولس في مجال
العلاقة بين الرجل وامرأته. لكل رجل امرأته. ولكل امرأة زوجها. الزوج يوفي امرأته
حقّها. والمرأة توفي زوجها حقّه. لا سلطة للزوج على جسده. إنه لامرأته. لا سلطة
للمرأة على جسدها. إنه لزوجها (7: 2-4). نلاحظ هنا تعليم المسيح الذي يرتبط بما في
البدء (1مت 19: 4): جعلهما الخالق رجلاً وانثى. يصير الاثنان جسدًا واحدًا. حين
نعلم أن محيطنا الشرقيّ يسمح لرجل بأن يكون له أكثر من امرأة نفهم أننا لم نعد
أمام اثنين، رجل وامرأة، بل ثلاث أو اربع نساء مع رجل واحد. ثمّ إن لا حقوق للمرأة
البتّة. الحقوق كلها للرجل. أما المرأة فعليها الطاعة فقط والخضوع. والرجل يستطيع
أن يزني قدر ما شاء. أما المرأة فإن زنت تُرجم. والزنى يعتبر في هذا المقام
تعدّيًا على ملكيّة الرجل، لا على احترام المرأة كمرأة. فالمرأة في عرف عدد من
الشرقيّين هي خادمة لزوجها ولأولادها. فلا يحقّ لها بأكثر من هذا الدور. وإن أعطي
لها شيء، لتعتبر أنه أعطي لها أكثر ممّا تستحقّ. أعطي لها ما لا تستحقّ.

خرج
بولس من هذا التمييز بين ذكر وانثى. بين رجل وامرأة(12). كما عرفه في العالم
اليهوديّ. فمنذ البداية، تنتظر الأم أربعين يومًا من أجل حفلة التطهير، إذا كان
الطفل ذكرًا. وتنتظر ثمانين يومًا إذا كان الطفل انثى. ثمّ إن المرأة لا تحاسب إن
هي لم تتّبع الوصايا. أما بولس فأعلن المساواة أيضًا بين الرجل والمرأة على مستوى
التقوى. قال: (الزوج غير المؤمن يتقدّس بامرأته المؤمنة. والمرأة غير المؤمنة
تتقدّس بزوجها المؤمن) (1كور7: 15). وسيعطي بولس الحقّ للفتاة بأن لا تتزوّج، إذا
شاءت، فتبقى في الحالة التي كانت فيها حين اهتدت إلى الإيمان (7: 36ي). وستكون
الأرامل عاملات في الكنيسة (1 تم 5: 3ي). بل إن الكنائس التي مرّ فيها بولس، رسمت
شمّاسات، مثل فيبة التي كانت في كنخرية، المرفأ الشرقي لكورنتوس، قبل أن تنتقل إلى
رومة (روم 16: 1)، ونمفا ابنة كنيسة لاودكيّة (كو 4: 15). والمبدأ هو هو. الإنسان،
رجلاً كان أو امرأة، هو عظيم في نظر الربّ. ويستحقّ كل احترام. لا لأنه رجل أو
امرأة، لأنه غني أو فقير، لأنه عبد أو حرّ. يستحقّ كل اكرام لأنه هو. وهذا يكفي.
أن تكون المرأة ظلاً للرجل، هذا يتنافى مع الكتاب المقدّس منذ البداية. هي عون.
والخضوع الذي يُطلب منها للرجل، يسبقه خضوع متبادل بين الرجل والمرأة (أف 5: 21)،
خضوع يستند إلى مخافة المسيح وإلى المحبّة وبذل الذات (آ25).

هذا
هو المثال المسيحيّ الذي قدّمه بولس من أجل حياة بين الرجل والمرأة، تشبه علاقة
المسيح مع الكنيسة (أف 5: 25-33). ولكن الجماعات لم تستطع أن تجاريه في هذا
المضمار. لهذا، جاء تلاميذ الرسول وصحّحوا بعض أقوال بولس التي تجاوزت جرأتُها ما
يتحمّله مؤمنون ما زالوا متأثّرين بالعالم اليهوديّ. قال بولس إلى أهل كورنتوس:
تستطيع المرأة أن تصلّي في الجماعة، والصلاة في هذا الوضع تُتلى بصوت عال. ويمكنها
أن تتنبّأ فيسمعها الجميع. أما الذين نشروا رسائل بولس فعادوا إلى ما تقول
الشريعة. وقالوا: (لتصمت نساؤكم في الكنائس. فلا يجوز لهنّ التكلّم.. فإن أردن أن
يتعلّمن شيئًا، فليسألن أزواجهنّ في البيت، لأنه ليس على المرأة أن تتكلّم في
الكنيسة) (1كور 14: 34-35).

 

خاتمة

هكذا
بدا بولس ذاك المعلّم الذي كان أوّل من دوّن كتابًا في العهد الجديد. وهو الآن ما
زال ذاك المعلّم الذي يمكن أن نستقي منه الكثير، على المستوى اللاهوتيّ والفلسفيّ
والاجتماعيّ. هو لم يعط نصائح عمليّة كثيرة، ولكنّه قدّم مبادىء استقاها من لقائه
بالربّ يسوع على طريق دمشق. كما انطلق من قراءة جديدة للعهد القديم، ومن فهم خاص
به لما سمعه في الجماعات المسيحيّة التي التقى بها في بداية مسيرته مع الربّ يسوع.
طرح عليه المؤمنون أسئلة عمليّة فوسّع الجواب، وفتح الإيمان المسيحيّ على مداه.
أخرجه من نظرة يهوديّة متأثّرة بالفريسيّة ومنغلقة على فكرة الشعب المختار الذي
يتميّز عن الشعوب الوثنيّة. كما حرّره من شريعة يهوديّة أرادت أن تسجن الإنسان.
وأخرج الإيمان من عالم الفلسفة اليونانيّة الذي يريد للإنسان أن ينحصر في هذا
العالم فلا يخرج منه، فيرفض خلاصًا يحمله إليه الربّ. فالربّ يسوع حرّر بولس وربطه
بشخصه، وهو المصلوب والقائم من الموت، وأفهمه أن الإنسان قيمة في ذاته، لا في ما
يميّزه بصفات وأعمال وانتماءات ومزايا. فهو انسان سواء كان بارًّا أو خاطئًا،
عبدًا أو حرًا، رجلاً أو امرأة، يهوديًا أم وثنيًا. من أجل هذا، لم يعد سوى إطار
واحد يجمع البشريّة كلها. هو الكنيسة جسد المسيح حيث تلتئم الأعضاء فيكون لكل واحد
موهبة يجعلها في عمل البناء. كل واحد ينال أجر عمله. وما يقيّم هذا العمل هو
النار. فكيف يكون بناؤنا لشخصنا وجماعتنا وكنيستنا وعالمنا؟ أبالخشب والقش والتبن
فيحترق؟ بل بالذهب والفضة والحجارة الكريمة (1كور 3: 12). هكذا بنى بولس. وهكذا
يجعل المؤمن موهبته في بناء الكنيسة فنصل جميعًا إلى الإيمان الكامل، إلى ملء قامة
المسيح (أف 4: 12-13).

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى